نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

وتبحر في المعارف بسببها ، مع حظ من الأدب كثير ، واختصاص بنظيم منه ونثير ، حج وبرع ، في الزهادة والورع ، فتعلق بأستار الكعبة يسأل الله الشهادة ثم فكر في القتل ومرارته ، والسيف وحرارته ، فأراد أن يرجع ويستقيل الله تعالى فاستحيا ، وآثر نعيم الآخرة على شقاء الدنيا ، فأصيب في تلك الفتن مكلوما ، وقتل مظلوما ، ثم ذكر مثل ما مر.

ومما قال في طريقه إلى قرطبة يتشوق (١) إلى فريقه : [الطويل]

مضت لي شهور منذ غبتم ثلاثة

وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا

وما لي حياة بعدكم أستلذّها

ولو كان هذا لم أكن في الهوى حرّا

ولم يسلني طول التّنائي عليكم

بلى زادني وجدا وجدّد لي ذكرا(٢)

يمثّلكم لي طول شوقي إليكم

ويدنيكم حتّى أناجيكم سرّا

سأستعتب الدّهر المفرّق بيننا

وهل نافعي أن صرت أستعتب الدّهرا

أعلّل نفسي بالمنى في لقائكم

وأستسهل البرّ الّذي جبت والبحرا

ويؤنسني طيّ المراحل عنكم

أروح على أرض وأغدو على أخرى

وتالله ما فارقتكم عن قلى لكم

ولكنّها الأقدار تجري كما تجرى (٣)

رعتكم من الرّحمن عين بصيرة

ولا كشفت أيدي النّوى عنكم سترا

وقد عرف به ابن حيان في المقتبس ، وذكر قصة شهادته ، رحمه الله تعالى!.

٧٣ ـ ومنهم الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله ، البكري ، الشريشي ، المالكي(٤).

ولد بشريش سنة ٦٠١ ، ورحل إلى العراق ، فسمع به المشايخ كالقطيعيّ وابن روزبة (٥) وابن الكثير وغيرهم ، واشتغل وساد أهل زمانه ، واشتهر بين أقرانه ، ثم عاد إلى مصر فدرس بالفاضلية ، ثم انتقل إلى القدس الشريف ، فأقام به شيخ الحرم ، ثم جاء إلى دمشق المحروسة بالله ، وتولى مشيخة الحديث بتربة أم صالح ومشيخة الرباط الناصري ومشيخة المالكية ،

__________________

(١) في ب : وما قاله في طريقه يتشوق إلى فريقه.

(٢) التنائي : التباعد.

(٣) القلى : البغض.

(٤) انظر ترجمته في شذرات الذهب ج ٥ ص ٢٩٢.

(٥) في ه : ابن زوربة.

٢٨١

وعرض عليه القضاء فلم يقبل ، وكانت وفاته يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب ، بالرباط الناصري ، ودفن بسفح قاسيون ، رحمه الله تعالى! وذلك سنة خمس وثمانين وستمائة ، رحمه الله تعالى! (١).

وليس هو بشارح المقامات ، بل هو غيره ، وقد اشتركا في البلد ، فبسبب ذلك ربما يقع في الأذهان الوهم في أمرهما ، وشارح المقامات أحمد وهذا محمد (٢) ، وقد ترجمنا صاحب شرح المقامات فيما تقدم من هذا الباب ، فليراجع ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٧٤ ـ ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن المغلّس ، القيسي ، الأندلسي ، البلنسي.

كان من أهل العلم باللغة والعربية ، مشارا إليه فيهما ، رحل من الأندلس ، وسكن بمصر واستوطنها ، وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد اللغوي صاحب كتاب الفصوص ، وعلى أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرّزاذ النّجيرمي (٣) ، ودخل بغداد ، واستفاد وأفاد ، وله شعر حسن ، فمن ذلك قوله : [المتقارب]

مريض الجفون بلا علّة

ولكنّ قلبي به ممرض

أعان السّهاد على مقلتي

بفيض الدّموع فما تغمض

وما زار شوقا ولكن أتى

يعرّض لي أنّه معرض

وله أشعار كثيرة ، وتوفي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة ٤٢٧ ، وقيل : سنة ٤٢٩ ، بمصر ، وكان استوطنها ، وصلى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي صاحب التفسير في مصلى الصّدفي ، ودفن عند أبي إسحاق رحمه الله تعالى.

ومغلّس : بضم الميم ، وفتح الغين ، وتشديد اللام المكسورة ، وبعدها سين مهملة.

وكانت بينه وبين أبي الطاهر إسماعيل بن خلف صاحب كتاب «العنوان» (٤) معارضات في قصائد.

__________________

(١) رحمه الله تعالى : غير موجودة في ب.

(٢) جاء في الشذرات أنه هو شارح المقامات وهو وهم من ابن العماد.

(٣) وقع في الاسم تصحيف وتحريف ، والتصويب من ابن خلكان : وهو أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن خرزاذ النجيرمي اللغوي البصري المتوفى سنة ٤٢٣ ه‍.

(٤) هو إسماعيل بن خلف بن سعيد بن عمران المالكي المقرئ الأندلسي أبو طاهر ، استوطن مصر ، وحدث بها (الصلة ١٠٥ ـ ١٠٦).

٢٨٢

ومن شعر ابن المغلّس أيضا قوله في حمّام : [الطويل]

ومنزل أقوام إذا ما اغتدوا به

تشابه فيه وغده ورئيسه

يخالط فيه المرء غير خليطه

ويضحى عدوّ المرء وهو جليسه

يفرّج كربي إن تزايد كربه

ويؤنس قلبي أن يعدّ أنيسه

إذا ما أعرت الحوض ماء تكاثرت

على مائه أقماره وشموسه(١)

٧٥ ـ ومنهم أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله ، الحكيم ، الأديب ، المعروف بالمغربي(٢).

وهو من أهل المرية ، وانتقل إلى المشرق ، وكان كامل الفضيلة ، وجمع بين الأدب والحكمة ، وله ديوان شعر جيد ، والخلاعة والمجون غالبة عليه ، وذكر العماد في «الخريدة» أنه كان طبيب المارستان المستصحب في معسكر السلطان السلجوقي حيث حلّ (٣) وخيّم ، وكان السديد (٤) يحيى بن سعيد المعروف بابن المرخّم الذي صار أقضى القضاة ببغداد في أيام المقتفي فاصدا وطبيبا في المارستان ، وأثنى العماد على أبي الحكم المذكور ، وذكر فضله وما كان عليه ، وأن له كتابا سماه «نهج الوضاعة ، لأولي الخلاعة» ثم إن أبا الحكم انتقل إلى الشام ، وسكن دمشق ، وله فيها أخبار وماجريات (٥) ظريفة تدل على خفة روحه.

قال ابن خلكان (٦) : رأيت في ديوانه أن أبا الحسين أحمد بن منير الطرابلسي كان عند الأمراء بني منقذ بقلعة شيزر ، وكانوا مقبلين عليه ، وكان بدمشق شاعر يقال له أبو الوحش (٧) ، وكانت فيه دعابة ، وبينه وبين أبي الحكم المذكور مداعبات ، فسأل منه كتابا إلى ابن منير بالوصية عليه ، فكتب أبو الحكم : [المنسرح]

أبا الحسين استمع مقال فتى

عوجل فيما يقول فارتجلا

__________________

(١) في ج : إذا ما أعرت الجوّ طرفا.

(٢) انظر في ترجمته وفيات الأعيان ط صادر بيروت ج ٣ ص ١٢٣.

(٣) حل و : غير موجودة في ب.

(٤) في وفيات الأعيان : وكأن السديد أبو الوفاء يحيى بن المظفر ... إلخ.

(٥) في ب : ومجاريات.

(٦) انظر ابن خلكان ج ٣ ص ١٢٤.

(٧) أبو الوحش : هو سبع بن خلف بن محمد بن هبة الله الفقعسي ، وكانوا يصغرون كنيته فيقولون : وحيش.

وكانت فيه دعابة (وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٢٤).

٢٨٣

هذا أبو الوحش جاء ممتدحا

للقوم فاهنأ به إذا وصلا

واتل عليهم بحسن شرحك ما

أنقله من حديثه جملا

وخبّر القوم أنّه رجل

ما أبصر النّاس مثله رجلا

تنوب عن وصفه شمائله

لا يبتغي عاقل به بدلا

ومنها :

وهو على خفّة به أبدا

معترف أنّه من الثّقلا

يمتّ بالثلب والرّقاعة والسّ

خف ، وأمّا بغير ذاك فلا(١)

إن أنت فاتحته لتخبر ما

يصدر عنه فتحت منه خلا

فهبه إن حلّ خطّة الخسف وال

هون ورحّب به إذا رحلا (٢)

وأسقه السّمّ إن ظفرت به

وامزج له من لسانك العسلا

وله أشياء مستملحة ، منها مقصورة هزلية ، ضاهى بها مقصورة ابن دريد ، من جملتها : [الرجز]

وكلّ ملموم فلا بدّ له

من فرقة لو ألزقوه بالغرا

وله مرثية في عماد الدين زنكي بن آق سنقر الأتابكي ، شاب فيها الجد بالهزل ، والغالب على شعره الانطباع.

وتوفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة سنة ٥٤٩ ، وقيل : في السنة التي قبلها ، بدمشق ، رحمه الله تعالى!.

والقاضي ابن المرخّم المذكور هو الذي يقول فيه أبو القاسم هبة الله بن الفضل (٣) الشاعر المعروف بابن القطان : [الكامل]

يا ابن المرخّم صرت فينا قاضيا

خرف الزّمان تراه أم جنّ الفلك

إن كنت تحكم بالنّجوم فربما

أمّا بشرع محمّد من أين لك(٤)

__________________

(١) الثلب : مصدر ثلب ومعناه : العيب والتنقّص. والرقاعة : الحمق.

(٢) في ب : فنبه إن حل.

(٣) هو أبو القاسم بن الفضل بن القطان عبد العزيز المعروف بابن القطان الشاعر المشهور البغدادي سمع الحديث من جماعة من المشايخ ، وكان غاية من الخلاعة والمجون ، كثير المزاح والمداعبات ، توفي سنة ٤٩٨ ه‍ (وفيات الأعيان ج ٦ ص ٥٣).

(٤) المقصود بالنجوم : التنجيم وما أشبه ذلك.

٢٨٤

وكان أبو الحكم المذكور فاضلا في العلوم الحكمية ، متقنا للصناعة الطبية ، حسن النادرة ، كثير المداعبة ، محبا للهو والخلاعة والشراب ، وكان يعرف صنعة الموسيقى ويلعب بالعود ، ويجلس في دكان بجيرون للطب ، وسكناه باللبادين (١) ، وأتى في ديوانه «نهج الوضاعة» بكل غريب ، يدل على أنه أريب ، سامحه الله تعالى وغفر له!.

٧٦ ـ ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق : من هو الأحق بالتقديم والسبق ، الشهير عند أهل الغرب والشرق ، الحافظ المقرئ الإمام الرباني ، أبو عمرو الدّاني ، عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر ، الأموي ، مولاهم ، القرطبي ، صاحب التصانيف التي منها المقنع والتيسير.

وعرف بالداني لسكناه دانية ، وولد سنة ٣٧١ ، وابتدأ بطلب العلم سنة ٣٨٧ ورحل إلى المشرق سنة ٣٩٧ ، فمكث بالقيروان أربعة أشهر ، ودخل مصر في شوّالها ، فمكث بها سنة ، وحج ، ورجع إلى الأندلس في ذي القعدة سنة ٣٩٩ ، وقرأ بالروايات على عبد العزيز بن جعفر الفارسي وغيره بقرطبة ، وعلى أبي الحسن بن غلبون وخلف بن خاقان المصري وأبي الفتح فارس بن أحمد ، وسمع من أبي مسلم الكاتب ، وهو أكبر شيخ له ، ومن عبد الرحمن بن عثمان القشيري ، وحاتم بن عبد الله البزار ، وغير واحد من أهل مصر وسواها ، وسمع من الإمام أبي الحسن القابسي ، وخلف كتبه بالحجاز ومصر والمغرب والأندلس ، وتلا عليه خلق منهم مفرج الأقفالي وأبو داود بن نجاح صاحب التنزيل في الرسم ، وهو من أشهر تلامذته ، وحدث عنه خلق كثير ، منهم خلف بن إبراهيم الطّليطلي.

قال أبو محمد عبيد الله الحجري : ذكر بعض الشيوخ أنه لم يكن في عصر الحافظ أبي عمرو الداني ولا بعد عصره أحد يدانيه ولا (٢) يضاهيه في حفظه وتحقيقه ، وكان يقول : ما رأيت شيئا قط إلا كتبته ، ولا كتبته إلا حفظته ، ولا حفظته فنسيته.

قال ابن بشكوال : كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن ورواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه ، وجمع في ذلك كله تواليف حسانا ، وله معرفة بالحديث وطرقه وإعرابه وأسماء رجاله ، وكان حسن الخط والضبط ، من أهل الحفظ والذكاء واليقين ، وكان دينا فاضلا ورعا سنيا.

__________________

(١) جيرون : اسم باب من أبواب دمشق. واللبادين : اسم شارع من شوارع دمشق أيضا.

(٢) في ب : يدانيه ويضاهيه.

٢٨٥

وقال بعضهم ، وأظنه المغامي (١) : كان أبو عمرو مجاب الدعوة ، مالكي المذهب.

وقال بعض أهل مكة : إن أبا عمرو الداني مقرئ متقدّم ، وإليه المنتهى في علم القراءات وإتقان القرآن ، والقراء خاضعون لتصانيفه ، واثقون بنقله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء وغير ذلك ، وله مائة وعشرون مصنفا ، وروى عنه بالإجازة رجلان : أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني ، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمزة ، وكانت وفاته رحمه الله تعالى بدانية في نصف شوّال سنة أربع وأربعين وأربعمائة.

٧٧ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن أبي حبيب ، الأندلسي.

من بيت علم ووزارة ، صرف عمره في طلب العلم ، وكان غزير العلم في الفقه والحديث والأدب وولي القضاء بالأندلس مرة (٢) ، ثم دخل الإسكندرية ومصر ، وجاور بمكة المشرفة ، ثم قدم العراق ، وأقام ببغداد مدّة ، ثم وافى خراسان فأقام بنيسابور وبلخ ، وكانت ولادته ببلاد الأندلس ، وتوفي بهراة في شعبان سنة ٥٤٨ ، رحمه الله تعالى ، ورضي عنه!.

٧٨ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن علي بن محمد بن علي بن شكر ، الأندلسي ، المقرئ.

رحل وأخذ القراءات عن أبي الفضل جعفر الهمداني ، وسمع من أبي القاسم بن عيسى ، وسكن الفيوم ، واختصر «التيسير» وصنف شرحا للشاطبية ، وتوفي سنة ٦٤٠ ، رحمه الله تعالى!

٧٩ ـ ومنهم العلامة ذو الفنون علم الدين القاسم بن أحمد المريني ، اللورقي ، المقرئ ، النحوي.

ولد سنة ٥٧٥ ، وقرأ القراءات ، وأحكم العربية ، وبرع فيها ، واجتمع بالجزولي ، وسأله عن مسألة في مقدمته ، وقرأ علم الكلام والأصولين (٣) والفلسفة ، وكان خبيرا بهذه العلوم ، مقصودا بإقرائها وولي مشيخة قراءة العادلية ، ودرس بالعزيزية نيابة ، وصنف شرحا للشاطبية ، وشرحا للمفصل في عدة مجلدات ، وشرح الجزولية ، وغير ذلك ، وكان مليح الشكل ، حسن البزة ، وتوفي سنة ٦٦١ رحمه الله تعالى ورضي عنه.

٨٠ ـ ومنهم أبو عبد الله بن أبي الربيع ، القيسي ، الأندلسي ، الغرناطي.

__________________

(١) المغامي : نسبة إلى مغام ويقال مغامة : بلد بالأندلس ، وينسب إليها أبو عمران بن يوسف المغامي ، ومحمد بن عتيق التجيبي المغامي ، لقي أبا عمرو الداني وعليه اعتمد. وفي مغام معدن الطين الذي تغسل به الرءوس (معجم البلدان ج ٥ ص ١٦١).

(٢) في ب : مدة. وقد تولى القضاء تسعة أعوام ثم ابتلي بالأمراء لإقامته الحق وإظهاره العدل.

(٣) الأصولين : أي أصول الفقه ، وأصول الدين.

٢٨٦

قدم مصر سنة ٥١٥ أو بعدها ، فسمع على السّلفي ، وبقراءته على جماعة من شيوخ مصر ، وكان لديه فقه وأدب ، ثم سافر إلى باب الأبواب ، وكان حيّا سنة ٥٥٦.

ومن نظمه يمدح كتاب الشهاب : [البسيط]

إنّ الشّهاب له فضل على الكتب

بما حوى من كلام المصطفى العربي

كم ضمّ من حكمة غرّا وموعظة

ومن وعيد ومن وعد ومن أدب

أمّا القضاعيّ فالرّحمن يرحمه

كما حباه من التّأليف بالعجب

٨١ ـ ومنهم الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون بن مرجى ، القرشي ، العبدري (١).

من أهل ميورقة من بلاد الأندلس ، سكن بغداد ، وسمع بها من أبي الفضل بن خيرون وطرّاد الزينبي وأبي عبد الله الحميدي وجماعة ، ولم يزل يسمع إلى حين وفاته ، وكتب بخطه كثيرا من الكتب والأجزاء ، وجمع وخرّج ، وكان صحيح العقل ، معتمد الضبط ، مرجوعا إليه في الإتقان ، وكفاه فخرا وشرفا أن روى عنه الحافظان أبو طاهر السّلفي وأبو الفضل محمد بن ناصر ، وكان فهامة علامة ذا معرفة بالحديث ، متعففا مع فقره ، وكان يذهب إلى أن المناولة والعرض كالسماع.

وقال السلفي فيه : إنه من أعيان علماء الإسلام ، بمدينة السلام ، متصرف في فنون من العلم أدبا ونحوا ومعرفة بأنساب العرب والمحدثين ، وكان داودي المذهب ، قرشي النسب ، وقد كتب عني وكتبت عنه ، وسمعنا معا كثيرا على شيوخ بغداد ، ومولده بقرطبة من مدن الأندلس ، وقبل اجتماعي به كنت أسمع إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يثني عليه ، فلما اجتمعنا وجدته فوق ما وصفه ، انتهى.

وقال ابن عساكر : كان أحفظ شيخ لقيته ، وربما حكى عنه بعضهم كابن عساكر أمورا منكرة ، فالله أعلم.

وتوفي في ربيع الآخر سنة ٥٢٤ ببغداد ، رحمه الله تعالى!.

٨٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعدون ، الباجي (٢).

سمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وابن رشيق ، وبمكة من الآجري ، وكان صالحا

__________________

(١) انظر في ترجمته معجم البلدان : مادة ميورقة ج ٥ ص ٢٤٦.

(٢) كان يسكن حصن مورة من أعمال باجة ، ويعرف بابن الزينوني (ابن الفرضي ج ٢ ص ١٠٧).

٢٨٧

فاضلا زاهدا ورعا ، حدث ، ومات ببطليوس فجأة سنة ٣٩٢ ، ومولده سنة ٣٢٢.

٨٣ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن سعدون ، التميمي ، الجزيري ، المتعبد.

كانت آدابه كثيرة ، وحج غير مرة ، ورابط ببلاد المغرب ، وكان حسن الصوت بالقرآن ، سمع بمصر من جماعة ، وبمكة ، وصحب الفقراء ، وطاف بالشام ، وغزا غزوات ، وتعرض للجهاد ، وحرض عليه ، وساح بجبل المقطم ، وذكر أنه صلى بمصر الضحى اثنتي عشرة ركعة ، ثم نام فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن مالكا والليث اختلفا في الضحى ، فمالك يقول : ثنتا عشرة ركعة والليث يقول : ثمانيا (١) ، فضرب عليه الصلاة والسلام بين وركي ابن سعدون وقال : رأي مالك هو الصواب ، ثلاث مرات ، قال : وكان في وركي وجع ، فمن تلك الليلة زال عني ، وكان له براهين من نور يضيء عليه إذا صلى ونحوه ، وأنشد : [الكامل]

سجن اللّسان هو السّلامة للفتى

من كلّ نازلة لها استئصال

إنّ اللّسان إذا حللت عقاله

ألقاك في شنعاء ليس تقال(٢)

توفي سنة ٣٤٤.

٨٤ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعد الأعرج ، الطّليطلي الخطيب.

وقال فيه ابن سعيد : سمع بمصر ابن الورد وابن السكن ، وحدث ، مولده سنة ٣٠٩ ، وتوفي في ربيع الآخر سنة ٣٨٤.

٨٥ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن إسحاق بن يوسف ، الأموي ، القرطبي.

وأصله من لبلة ، ولكن سكن قرطبة ، وقدم مصر ، وحج ، وسمع في طريقه من الشيخ أبي محمد بن أبي زيد صاحب الرسالة ، وأخذ عن القابسي وعن جماعة من علماء مصر والحجاز ، ومولده سنة ٣٥٢ ، ورحلته سنة ٤١٨.

٨٦ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حسان بن الحكم بن هشام ، القرطبي.

سمع من أبيه ويحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب ، ورحل ، فسمع من أشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن نافع وعبد الله بن عبد الحكم ، وعاد إلى الأندلس وبها توفي سنة ٢٦٠ ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) في ب : ثمان. وفي ج : ثمانية.

(٢) شنعاء : بشعة ، مكروهة.

٢٨٨

٨٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سليمان ، المعافري ، الشاطبي (١) ، نزيل الإسكندرية ، ويعرف بابن أبي الربيع.

أحد أولياء الله تعالى ، شيخ الصالحين ، صاحب الكرامات المشهورة ، جمع بين العلم والعمل والورع والزهد والانقطاع إلى الله تعالى والتخلي عن الناس والتمسك بطريقة السلف ، قرأ القرآن ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله محمد بن سعادة الشاطبي وغيره ، وقرأ بدمشق على الواسطي ، وسمع عليه الحديث ، ورحل ، فسمع من الزاهد أبي يوسف يعقوب خادم أضياف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قبره ومنبره سنة ٦١٧ ، وسمع بدمشق على أبي القاسم بن صصرى (٢) وأبي المعالي بن خضر وأبي الوفاء بن عبد الحق وغيرهم ، وانقطع لعبادة الله تعالى في رباط سوار من الإسكندرية بتربة أبي العباس الراسي ، وتلمذ للشاطبي تلميذ الراسي (٣) ، وصنف كتبا حسنة : منها كتاب «المسلك القريب ، في ترتيب الغريب» وكتاب «اللمعة الجامعة ، في العلوم النافعة» في تفسير القرآن العزيز ، وكتاب «شرف المراتب والمنازل ، في معرفة العالي من القراءات والمنازل» وكتاب «المباحث السنية ، في شرح الحصرية» وكتاب «الحرقة ، في إلباس الخرقة (٤)» وكتاب «المنهج المفيد ، فيما يلزم الشيخ والمريد» وكتاب «النبذ الجلية ، في ألفاظ اصطلح عليها الصوفية» وكتاب «زهر العريش ، في تحريم الحشيش» وكتاب «الزهر المضي ، في مناقب الشاطبي» وكتاب «الأربعين المضية ، في الأحاديث النبوية» ومولده بشاطبة سنة ٥٨٥ ، ووفاته بالإسكندرية في رمضان سنة ٦٧٢ ، ودفن بتربة شيخه المجاورة لزاويته ، رحمهما الله تعالى ، ونفع بهما!.

٨٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن شريح ، الرّعيني ، الإشبيلي.

قدم مصر ، وسمع بها من ابن نفيس وأبي علي الحسن البغدادي وأبي جعفر النحوي وأبي القاسم بن الطيب البغدادي الكاتب ، وبمكة من أبي ذر الهروي.

قال ابن بشكوال : كان من جملة المقرئين وخيارهم ، ثقة في روايته ، وكانت رحلته إلى المشرق سنة ٤٢٣ (٥) ، وولد سنة ٣٩٢ ، وتوفي سنة ٤٧٦ ، وعمره أربع وثمانون سنة إلا خمسة وخمسين يوما ، وروى بإشبيلية عن جماعة ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) هو محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن عبد الملك المعافري الحميري الملقب بعلم الدين.

(٢) في بعض النسخ : مصري.

(٣) الراسي : هو أبو العباس أحمد بن محمد اللخمي المعروف بالراسي.

(٤) في ب : في لباس الفرقة.

(٥) في ب ، ه : سنة ٤٣٣.

٢٨٩

٨٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح الأنصاري ، المالقي.

قال السلفي : هو شاب من أهل الأدب ، له خاطر ، سمح كان يحضر عندي بالإسكندرية ، كثير السماع للحديث ، وذكر أنه قرأ الأدب على أبي الحسين بن الطّراوة النحوي بالأندلس (١) ، وعلى نظرائه ، وأنشدني لنفسه : [الكامل]

كم ذا تقلقلني النّوى وتسوقني

وإلى متى أشجّى بها وأسام

ألفت ركائبي الفلا فكأنّما

للبين عهد بيننا وذمام

يا ويح قلبي من فراق أحبّة

أبدا تصدّعه به الأيّام

٩٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح ، القحطاني ، المعافري ، الأندلسي ، المالكي.

رحل إلى المشرق فسمع بالشام من خيثمة (٢) بن سليمان ، وبمكة أبا سعيد بن الأعرابي ، وببغداد إسماعيل بن محمد الصفار ، وسمع بالمغرب بكر بن حماد التّاهرتي ومحمد بن وضاح وقاسم بن أصبغ وغيرهم (٣) وبمصر جماعة من أصحاب يونس والمزني ، روى عنه أبو عبد الله الحاكم وقال : اجتمعنا به بهمذان ، مات ببخارى سنة ٣٨٣ ، وقيل : سنة ثمان ، وقيل : سنة تسع وسبعين ، وقال فيه أبو سعيد الأندلسي (٤) : إنه كان من أفاضل الناس ، ومن ثقاتهم ، وقال غنجار : إنه كان فقيها حافظا ، جمع تاريخا لأهل الأندلس ، وقال السمعاني فيه : كان فقيها حافظا ، رحل في طلب العلم إلى المشرق والمغرب ، رحمه الله تعالى!.

٩١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى ، الخزرجي ، الداني ، النحوي ، أخو أبي العباس بن عيسى.

سمع بدانية من أبي داود المقري وغيره ، وقدم دمشق سنة ٥٥٤ حين خرج حاجا ، وأقرأ بدمشق النحو مدّة ، ثم خرج إلى بغداد ، وأقام بها إلى أن مات سنة ٦١٩ ، وولد سنة ٥١٢ ، وقدم مصر سنة ٥٧٢ ، وله من المصنفات كتاب «تحصيل عين الذهب ، من معدن جوهر الأدب ، في علم مجازات العرب» ومن كلامه : ليست هيبة الشيخ لشيبه ولا لسنه ولا لشخصه ، ولكن لكمال عقله ، والعقل هو المهاب ، ولو رأيت شخصا جمع جميع الخصال وعدم العقل لما هبته ، وقال : من جهل شيئا عابه ، ومن قصر عن شيء هابه.

__________________

(١) ابن الطراوة : هو سليمان بن محمد بن عبد الله السبائي المالقي أبو الحسين. كان نحويا ماهرا أديبا بارعا.

توفي في سنة ٥٢٨. (بغية الوعاة ج ١ ص ٦٠٢).

(٢) في ب : بالشام خيثمة.

(٣) وغيرهم : غير موجودة في ب ، ه.

(٤) في ب ، ج : أبو سعيد الإدريسي.

٢٩٠

٩٢ ـ ومنهم القاضي الشهير محمد بن بشير ، وهو محمد بن سعيد بن بشير بن شراحيل ، المعافري (١) ، وقيل في آبائه غير ذلك كما يأتي.

ولما أشير على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بتقديم ابن بشير إلى خطة القضاء بقرطبة وجّه إليه بباجة ، فأقبل ولا يعلم ما دعي إليه ، ونزل على صديق له من العبّاد ، فتحدث في شأن استدعائه ، وقدّم أنه يعرف فن (٢) الكتابة ، فقال له العابد : ما أراه بعث فيك إلا للقضاء ، فإن القاضي بقرطبة مات وهي الآن دون قاض ، فقال ابن بشير : فأنا أستشيرك في ذلك إن وقع ، فقال : أسألك عن أشياء ثلاثة ، وأعزم عليك أن تصدقني فيها ، ثم أشير بعد ذلك عليك ، فقال : ما هي؟ فقال : كيف حبّك للأكل الطيب واللباس اللين وركوب الفاره؟ (٣) فقال : والله لا أبالي ما رددت به جوعي وسترت به عورتي وحملت به رحلي ، فقال : هذه واحدة ، فكيف حبك للتمتع بالوجوه الحسان والتبطن للكواعب الغيد وما شاكل ذلك من الشهوات؟ فقال : هذه حال والله ما استشرفت قط إليها ، ولا خطرت ببالي ، ولا اكترثت لفقدها ، فقال : وهذه ثانية ، فكيف حبّك لمدح الناس لك وثنائهم عليك؟ وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل؟ فقال : والله ما أبالي في الحق من مدحني وذمّني ، وما أسر للولاية ولا أستوحش للعزل ، فقال : وهذه الثالثة ، أقبل الولاية فلا بأس عليك ، فقدم قرطبة ، فولاه الأمير الحكم القضاء والصلاة.

قال ابن وضاح : أخبرني من كان يرى محمد بن بشير القاضي داخلا على باب المسجد الجامع (٤) يوم الجمعة ، وعليه رداء معصفر ، وفي رجله نعل صرّارة (٥) ، وله جمّة مفرقة (٦) ، ثم يقوم فيخطب ويصلي وهو في هذا الزي ، وبه كان يجلس للقضاء بين الناس ، فإن رام أحد من دينه شيئا وجده أبعد من الثريا.

وأتاه رجل لا يعرفه ، فلما رأى ما هو فيه من زي الحداثة من الجمة المفرقة والرداء المعصفر وظهور الكحل والسواك وأثر الحناء في يديه ، توقف وقال : دلّوني على القاضي ،

__________________

(١) انظر ترجمته في تاريخ قضاة الأندلس ص ٤٧ ـ ٥٣. وقد جاء عنه أنه لقي مالك بن أنس عند توجهه إلى حج بيت الله الحرام.

(٢) في ب ، ه : وقدم أنه يصرف في الكتابة.

(٣) الفارة من الدواب : القوي النشيط.

(٤) الجامع : غير موجودة في ب.

(٥) نعل صرارة : أراد أنه يسمع لها صوت إذا سار.

(٦) الجمة ، بضم الجيم : الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن.

٢٩١

فقيل له : ها هو ، وأشير إليه ، فقال : إني رجل غريب ، وأراكم تستهزئون بي ، أنا أسألكم عن القاضي وأنتم تدلونني على زامر ، فصححوا له أنه القاضي ، فتقدم إليه واعتذر ، فأدناه وتحدث معه ، فوجد عنده من العدل والإنصاف فوق ما ظنه ، فكان يحدث بقصته معه.

وعوتب في إرسال لمّته (١) ولبسه الخز والمعصفر ، فقال : حدثني مالك بن أنس أن محمد بن المنكدر ـ وكان سيد القراء ـ كانت له لمّة ، وأن هشام بن عروة فقيه هذا البلد ـ يعني المدينة ـ كان يلبس المعصفر ، وأن القاسم بن محمد كان يلبس الخز ، ولقد سئل يحيى بن يحيى عن لباس العمائم فقال : هي لباس الناس في المشرق ، وعليه كان أمرهم في القديم ، فقيل له : لو لبستها لاتّبعك الناس في لباسها ، فقال : قد لبس محمد بن بشير الخز فما تبعه الناس فيه ، وكان ابن بشير أهلا أن يقتدى به ، فلعلي لو لبست العمامة لتركني الناس ولم يتبعوني كما تركوا ابن بشير.

وكان أول ما نظر فيه محمد بن بشير ـ حين ولي القضاء ـ التسجيل على الخليفة الحكم في أرحي القنطرة (٢) إذ قيم عليه فيها وثبت عنده حق المدّعي ، وأعذر إلى الحكم فلم يكن عنده مدفع ، فسجل فيها ، وأشهد على نفسه ، فما مضت مديدة (٣) حتى ابتاعها الحكم ابتياعا صحيحا ، فسر بذلك ، وقال : رحم الله محمد بن بشير! فلقد أحسن فيما فعل بنا على كره منا ، كان في أيدينا شيء مشتبه فصححه لنا ، وصار حلالا طيب الملك في أعقابنا ، وحكم على ابن فطيس الوزير ، ولم يعرّفه بالشهود ، فرفع الوزير ذلك إلى الحكم ، وتظلم من ابن بشير ، فأومأ الحكم إليه أن الوزير كره (٤) حكمك عليه بشهادة قوم لم تعرّفه بهم ، ولا أعذرت إليه فيهم ، وإن أهل العلم يقولون : إن ذلك له ، فكتب إليه ابن بشير : ليس ابن فطيس ممن يعرّف بمن شهد عليه ، لأنه إن لم يجد سبيلا إلى تجريحهم لم يتحرج عن طلب أذاهم في أنفسهم وأموالهم ، فيدعون الشهادة هم ومن ائتسى بهم ، وتضيع أموال الناس.

وأكثر موسى بن سماعة أحد خواصّ الأمير الحكم في ابن بشير الشكاية ، وأنه يجور عليه ، فقال له الحكم : أنا أمتحن قولك الساعة ، فاخرج إليه فورا ، واستأذن عليه ، فإن أذن لك عزلته ، وصدّقت قولك فيه ، وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه ، فليس هو عندي

__________________

(١) اللمّة الشعر الذي لا يتجاوز شحمة الأذن.

(٢) الأرحي : جمع رحى.

(٣) مديدة : تصغير مدة ، أي مدة قصيرة.

(٤) في ب ، ه : أن الوزير ذكر حكمك.

٢٩٢

بجائر (١) على حال ، وإنما مقصده الحق في كل ما يتصرف فيه ، فخرج يؤم دار ابن بشير : وقد أمر الحكم من يثق به من الفتيان الصّقالبة أن يقفوا أثره ويعلموا ما يكون منه ، فلم يكن إلا ريثما بلغ ، ثم انصرف فحكى للحكم أنه لما خرج الآذن إلى موسى وعلم القاضي بمكانه عاد إليه فقال له : إن كانت لك حاجة فاقصد فيها إذا جلس القاضي مجلس القضاء ، فتبسم الحكم ، وقال : قد أعلمته أن ابن بشير صاحب حق لا هوادة فيه عنده لأحد.

وولي القضاء مرتين ، فلما عزل المرة الأولى انصرف إلى بلده ، وكان بعض إخوانه يعاتبه في صلابته ، ويقول له : أخشى عليك العزل ، فيقول له : ليته قدر أن الشقراء ـ يعني بغلته ـ تقطع الطريق بي جادة نحو (٢) باجة ، فما مضى إلا يسير حتى عتب عليه الأمير في قصة (٣) اشتد فيها على بعض خاصته ، فكانت سببا لعزله ، وانصرف كما تمنى ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى أتى فيه رقّاص من قبل الأمير الحكم ، والرقاص عند المغاربة : هو الساعي عند المشارقة ، فعاد إلى قرطبة ، وجبره على القعود للقضاء الأمير الحكم ، فلاذ منه باليمين بطلاق زوجته وبصدقة ما يملك في سبيل الله تعالى إن حكم بين اثنين ، فلم يعذره ، وأخرجه من ماله ، وعوّضه من طيب ما عنده ، ووهب له جارية من جواريه ، فعاد إلى القضاء ثانية.

ومما يحكى عنه في العدل أن سعيد الخير ابن السلطان عبد الرحمن الداخل وكّل عند ابن بشير وكيلا يخاصم عنه لشيء اضطر إليه ، وكانت بيده فيه وثيقة فيها شهادات شهود قد ماتوا ، ولم يكن فيها من الأحياء إلا الأمير الحكم وشاهد آخر مبرز ، فشهد لسعيد الخير ذلك الشاهد ، وضربت على وكيله الآجال في شاهد ثان ، وجدّ به الخصام ، فدخل سعيد الخير بالكتاب إلى الحكم وأراه شهادته (٤) في الوثيقة ، وقد كان كتبها قبل الخلافة في حياة أبيه ، وعرفه مكان حاجته إلى أدائها عند قاضيه خوفا من بطلان حقه ، وكان الحكم يعظم سعيد الخير عمّه ، ويلتزم مبرته ، فقال له : يا عمّ ، إنا لسنا من أهل الشهادات ، وقد التبسنا من هذه الدنيا بما لا تجهله ، ونخشى أن توقفنا مع القاضي موقف مخزاة كنا نفديه بملكنا ، فصر في خصامك حيث صيرك الحق إليه ، وعلينا خلف ما انتقصك ، فأبى عليه ، وقال : سبحان الله! وما عسى أن يقول قاضيك في شهادتك؟ وأنت ولّيته ، وهو حسنة من حسناتك ، وقد لزمتك في الديانة أن تشهد لي بما علمته ، ولا تكتمني ما أخذ الله عليك! فقال : بلى ، إن ذلك لمن حقك كما

__________________

(١) في ه : بجائز.

(٢) في ب ، ه : حاثه نحو باجة.

(٣) في بعض النسخ : في قضية.

(٤) في ه : «وأراد شهادته في الوثيقة» وهو خطأ ، والأصحّ ما أثبتناه.

٢٩٣

تقول ، ولكنك تدخل علينا به داخلة ، فإن أعفيتنا منه فهو أحبّ إلينا ، وإن اضطررتنا لم يمكنا عقوقك ، فعزم عليه عزم من لم يشكّ أن قد ظفر بحاجته ، وضايقته الآجال ، فألح عليه ، فأرسل الحكم عند ذلك إلى فقيهين من فقهاء زمانه ، وخط شهادته بيده في قرطاس ، وختم عليها (١) بخاتمه ، ودفعها إلى الفقيهين وقال لهما : هذه شهادتي بخطي تحت ختمي ، فأدياها إلى القاضي ، فأتياه بها إلى مجلسه وقت قعوده للسماع من الشهود ، فأدياها إليه ، فقال لهما : قد سمعت منكما فقوما راشدين في حفظ الله تعالى ، وجاء وكيل سعيد الخير ، وتقدم إليه مدلّا واثقا ، وقال له : أيها القاضي ، قد شهد عندك الأمير ـ أصلحه الله تعالى! ـ فما تقول؟ فأخذ كتاب الشهادة ونظر فيه ، ثم قال للوكيل : هذه شهادة لا تعمل عندي ، فجئني بشاهد عدل ، فدهش الوكيل ، ومضى إلى سعيد الخير فأعلمه ، فركب من فوره إلى الحكم ، وقال : ذهب سلطاننا ، وأزيل بهاؤنا ، يجترئ هذا القاضي على رد شهادتك ، والله سبحانه قد استخلفك على عباده ، وجعل الأمر في دمائهم وأموالهم إليك؟ هذا ما يجب أن تحمله (٢) عليه ، وجعل يغريه بالقاضي ويحرضه على الإيقاع به ، فقال له الحكم : وهل شككت أنا في هذا يا عم؟ القاضي رجل صالح والله ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، فعل ما يجب عليه ويلزمه ، وسدّ دونه بابا كان يصعب عليه الدخول منه ، فأحسن الله تعالى جزاءه! فغضب سعيد الخير ، وقال : هذا حسبي منك ، فقال له : نعم قد قضيت الذي كان لك علي ، ولست والله أعارض القاضي فيما احتاط به لنفسه ، ولا أخون المسلمين في قبض يد مثله.

ولما عوتب ابن بشير فيما أتاه من ذلك قال لمن عاتبه : يا عاجز ، أما تعلم أنه لا بد من الإعذار في الشهادات ، فمن كان يجترئ على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها؟ ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه.

وتوفي القاضي محمد بن بشير سنة ١٩٨ قبل الشافعي بست سنين كما يأتي قريبا ومحاسنه ـ رحمه الله تعالى! ـ كثيرة ، وقد استوفى ترجمته بقدر الإمكان القاضي عياض في المدارك ، فليراجها من أرادها ، فإن عهدي بها في المغرب (٣).

وقال بعض من عرف به ، ما نصه : القاضي محمد بن بشير بن محمد المعافري ، أصله من جند باجة من عرب مصر ، ولاه الحكم بن هشام قضاء القضاة الذي يعبرون عنه بالمغرب

__________________

(١) عليها : غير موجودة في ب ، ه.

(٢) في ب : هذا ما لا يجب أن تحمل عليه.

(٣) في أصل ه : فإن عهدي به لمغرب. وما أثبتناه هو الصحيح ، وهكذا جاء في ب ، ج.

٢٩٤

بقضاء الجماعة ، بقرطبة ، بعد المصعب بن عمران ، ثم صرفه وولى مكانه الفرج بن كنانة ، وعن ابن حارث ، قال أحمد بن خالد : طلب محمد بن بشير العلم بقرطبة عند شيوخ أهلها حتى أخذ منه بحظ وافر ، ثم كتب لأحد أولاد عبد الملك بن مروان (١) لمظلمة نالته على وجه الاعتصام به وتصرف معه تصرفا لطيفا ، ثم انقبض عنه ، وخرج حاجا ، قال ابن حارث : وكتب محمد بن بشير في حداثته للقاضي مصعب بن عمران ، ثم خرج حاجا فلقي مالك بن أنس وجالسه وسمع منه ، وطلب العلم أيضا بمصر ، ثم انصرف فلزم ضيعته في باجة.

وقال ابن حيان : إنه استقدم من باجة للقضاء برأي العباس بن عبد الملك.

وقال ابن شعبان في الرواة (٢) عن مالك من أهل الأندلس : محمد بن بشير بن سرافيل ، ويقال شراحيل ، ولي القضاء ، وكان رجلا صالحا ، وبعدله تضرب الأمثال ، واستوطن قرطبة ، وتوفي بها سنة ثمان وتسعين ومائة ، انتهى ، وبعضه عن غيره.

ومن شعره قوله : [الرمل]

إنّما أزرى بقدري أنّني

لست من بابة أهل البلد

ليس منهم غير ذي مقلية

لذوي الألباب أو ذي حسد(٤)

يتحامون لقائي مثل ما

يتحامون لقاء الأسد

مطلعي أثقل في أعينهم

وعلى أنفسهم من أحد

لو رأوني وسط بحر لم يكن

أحد يأخذ منهم بيدي

٩٣ ـ ومنهم محمد بن عيسى بن دينار ، الغافقي.

من أهل قرطبة ، كان فقيها زاهدا ، وحج وحضر افتتاح إقريطش (٥) ، واستوطنها ، قاله الرازي.

٩٤ ـ ومنهم محمد بن يحيى بن يحيى الليثي.

__________________

(١) في أصل ه : عبد الملك بن مروان المرواني.

(٢) في ه : في الرواية.

(٣) لست من بابة أهل البلد : أي لست من طريقتهم ومسلكهم.

(٤) مقلية : قلى : بغض.

(٥) إقريطش : جزيرة في بحر المغرب ، يقابلها من بر إفريقيا لوبيا ، وهي جزيرة كبيرة فيها مدن وقرى ، وينسب إليها جماعة من العلماء. (انظر معجم البلدان ج ١ ص ٢٣٦).

٢٩٥

خرج حاجا ، ولقي سحنون بن سعيد بإفريقية ، ولقي بمصر رجالا من أصحاب مالك ، فسمع منهم ، وعرف بالفقه والزهد ، وجاور بمكة ، وتوفي هنالك.

٩٥ ـ ومنهم محمد بن مروان بن خطاب ، المعروف بابن أبي جمرة.

رحل حاجا هو وابناه خطاب وعميرة في سنة اثنتين وعشرين ومائتين ، وسمعوا ثلاثتهم من سحنون بن سعيد المدونة بالقيروان ، وأدركوا أصبغ بن الفرج ، وأخذوا عنه.

٩٦ ـ ومنهم محمد بن أبي علاقة ، البواب ، من أهل قرطبة.

كانت له رحلة إلى المشرق ، ولقي فيها جماعة من أهل العلم ، وأخذ عن أبي إسحاق الزجاجي ، وعن أبي بكر بن الأنباري ، وعن أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش ، وأبي عبد الله نفطويه ، وغيرهم ، وسمع من الأخفش «الكامل» للمبرد وقال الحكم المستنصر : لم يصح كتاب «الكامل» عندنا من رواية إلا من قبل ابن أبي علاقة ، وكان ابن جابر الإشبيلي قد رواه قبل بمصر بمدة ، وما علمت أحدا رواه غيرهما ، وكان ابن الأحمر القرشي يذكر أنه رواه ، وكان صدوقا ، ولكن كتابه ضاع ، ولو حضر ضاهى الرجلين المتقدمين.

٩٧ ـ ومنهم محمد بن حزم بن بكر ، التّنوخي.

من أهل طليطلة ، وسكن قرطبة ، يعرف بابن المديني ، سمع من أحمد بن خالد وغيره ، وصحب محمد بن مسرة الجبلي (١) قديما ، واختص بمرافقته في طريق الحج ، ولازمه بعد انصرافه ، وكان من أهل الورع والانقباض ، وحكي عن ابن مسرة أنه كان في سكناه المدينة يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ودله بعض أهل المدينة على دار مارية أم إبراهيم سرّيّة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقصد إليها فإذا هي دويرة لطيفة بين البساتين بشرقي المدينة عرضها وطولها واحد قد شق في وسطها بحائط ، وفرش على حائطها خشب غليظ يرتقى إلى ذلك الفرش على خارج لطيف ، وفي أعلى ذلك بيتان وسقيفة كانت مقعد النبي صلى الله عليه وسلم في الصيف ، قال : فرأيت أبا عبد الله بعد ما صلى في البيتين والسقيفة وفي كل ناحية من نواحي تلك الدار ضرب أحد البيتين بشبره ، فكشفته بعد انصرافي وهو ساكن في الجبل عن ذلك ، فقال : هذا البيت الذي تراني فيه بنيته على تلك الحالة (٢) في العرض والطول بلا زيادة ولا نقصان ، انتهى.

__________________

(١) كذا في ب ، ه : وفي ب : محمد بن مرة.

(٢) في ب : الحكاية.

٢٩٦

٩٨ ـ ومنهم محمد بن يحيى بن مالك بن يحيى بن عائذ (١) ، ولد (٢) أبي زكريا الراوية.

من أهل طرطوشة ، يكنى أبا بكر ، تأدب بقرطبة ، وسمع بها من قاسم بن أصبغ ، ومحمد بن معاوية القرشي ، وأحمد بن سعيد ، ومنذر بن سعيد ، وأبي علي القالي ، وغيرهم ، وكان حافظا للنحو واللغة والشعر ، يفوت من جاراه على حداثة سنة ، شاعرا مجيدا مرسلا بليغا ، ورحل مع أبيه إلى المشرق سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ، فسمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وحمزة الكناني وغيرهم ، وسمع أيضا بالبصرة وبغداد كثيرا ، وخرج إلى أرض فارس فسمع هنالك ، وجمع كتبا عظيمة ، وأقام بها إلى أن توفي بأصبهان معتبطا (٣) مع الستين وثلاثمائة ، ومولده بطرطوشة صدر ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ، ذكره ابن حيان ، رحمه الله تعالى!.

٩٩ ـ ومنهم محمد بن عبدون الجبلي ، العدوي (٤) ، من أهل قرطبة.

أدب بالحساب والهندسة ، ورحل في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة ، فدخل مصر والبصرة ، وعني بعلم الطب فمهر فيه ، ودبر في مارستان الفسطاط ، ثم رجع إلى الأندلس في سنة ستين وثلاثمائة ، فاتصل بالمستنصر بالله وابنه المؤيد بالله ، وله في التكسير تأليف حسن ، رحمه الله تعالى!.

١٠٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن ، الأزدي ، الفراء ، القرطبي.

صحب أبا بكر بن يحيى بن مجاهد ، واختص به ، ولطف محله منه ، وقرأ عليه القرآن ، ورحل صحبته لأداء فريضة الحج ، وكان رجلا صالحا كثير التلاوة للقرآن والخشوع ، إذا قرأ بكى ورتّل وبيّن في مهل ، ويقول : أبو بكر علمني هذه القراءة ، وحكى أنه سرد الصوم (٥) اثنتي عشرة سنة قبل موت ابن مجاهد مفطرا كلّ ليلة وقت الإفطار ، ثم تمادى على ذلك بعد موته مفطرا عقب العشاء الآخرة لالتزامه الصلاة من المغرب إليها ، تزيّدا من الخير ، واجتهادا في العمل.

__________________

(١) في ب : عائن. وانظر ترجمته في التكملة ص ٣٦٧.

(٢) في ب : والد أبي زكريا.

(٣) معتبطا ، بالعين المهملة : من قولهم «مات فلان عبطة» إذا توفي شابا صحيحا لم تصبه علة ولم ينزل به مرض. وقال أمية بن أبي الصلت :

من لم يمت عبطة يمت هرما

الموت كأس والمرء ذائقها

(٤) في ب ، ه : العددي.

(٥) سرد الصوم : تابعه.

٢٩٧

١٠١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح ، المعافري ، الأندلسي.

رحل إلى المشرق فسمع خيثمة بن سليمان وأبا سعيد بن الأعرابي وإسماعيل بن محمد الصفار وبكر بن حماد التاهرتي وغيرهم ، روى عنه أبو عبد الله الحاكم ، وقال : اجتمعنا بهمذان سنة إحدى وأربعين ، يعني وثلاثمائة ، فتوجه منها إلى أصبهان ، وكان قد سمع في بلاده وبمصر من أصحاب يونس ، وبالحجاز وبالشام وبالجزيرة من أصحاب علي بن حرب ، وببغداد ، وورد نيسابور في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين فسمع الكثير ، ثم خرج إلى مرو ومنها إلى بخارى فتوفي بها في رجب من سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ، وروى عنه أيضا أبو القاسم بن حبيب النيسابوري وغيرهما ، ذكره ابن عساكر ، وأسند إليه قوله : [الكامل]

ودّعت قلبي ساعة التّوديع

وأطعت قلبي وهو غير مطيعي

إن لم أشيّعهم فقد شيّعتهم

بمشيّعين تنفّسي ودموعي(١)

وذكره ابن الفرضي وقال : إنه استوطن بخارى ، وجعل وفاته بها سنة ثمان وسبعين ، والأول قول الحاكم ، وهو أصح.

١٠٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ، السّرقسطي.

روى عن الباجي وابن عبد البر ، ورحل حاجا فقدم دمشق وحدث بها عن شيوخه الأندلسيين ، وعن أبي حفص عمر بن أبي القاسم بن أبي زيد القفصيّ ، وذكره ابن عساكر ، وقال : سمع عنه أبو محمد الأكفاني ، وحكى عنه تدليسا ضعفه به ، وتوفي سنة ٤٧٧.

١٠٣ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن بقاء ، الأنصاري.

من بلاد الثغر الشرقي ، أخذ القراءات عن أبي داود سليمان بن نجاح ، ورحل حاجا ، فقدم دمشق ، وأقرأ بها القرآن بالسبع (٢) ، وأخذ عنه جماعة من أهلها ، وكان شيخا فاضلا حافظا للحكايات قليل التكلف في اللباس ، ذكره ابن عساكر وقال : رأيته وسمعته ينشد قصيدة يوم خرج الناس للمصلى للاستسقاء على المنبر ، أولها : [البسيط]

أستغفر الله من ذنبي وإن كبرا

وأستقلّ له شكري وإن كثرا(٣)

وكان يسكن في دار الحجارة ، ويقرئ بالمسجد الجامع.

__________________

(١) شيّع : ودّع.

(٢) أي بالقراءات السبع.

(٣) واستقل : من القلّة ، أي ضد الكثرة.

٢٩٨

ولد في الثاني والعشرين من شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة ، وتوفي يوم الأربعاء عند صلاة العصر ، ودفن يوم الخميس لصلاة الظهر الثاني من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ، ودفن في مقابر الصحابة بالقرب من قبر أبي الدّرداء ، رضي الله تعالى عنه! قال : وشهدت أنا غسله والصلاة عليه ودفنه ، وذكره السلفي.

١٠٤ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى ، الأنصاري ، الخزرجي.

من أهل دانية ، سمع كتاب التقصي (١) لابن عبد البر ، ولقي أبا الحسن الحصري ثم خرج حاجا فقدم دمشق سنة أربع وخمسمائة ، وأقام بها مدة يقرئ العربية ، وكان شديد الوسوسة في الوضوء.

وذكر ابن عساكر وقال : أنشدني أخي أبو الحسين هبة الله بن الحسن الفقيه قال : أنشدنا ابن طاهر الأندلسي بدمشق قال : أنشدني الحصري لنفسه : [مخلع البسيط]

يموت من في الأنام طرّا

من طيّب كان أو خبيث(٢)

فمستريح ومستراح

منه ، كما جاء في الحديث

قال : وأنشدني الحصري لنفسه : [الكامل]

لو كان تحت الأرض أو فوق الذّرى

حرّ أتيح له العدوّ ليوذى(٣)

فاحذر عدوّك وهو أهون هيّن

إنّ البعوضة أردت النّمروذا

١٠٥ ـ ومنهم محمد بن أبي سعيد الفرج بن عبد الله ، البزار.

من أهل سرقسطة ، لقي بدانية الحصري ، وسمع منه بعض منظومه ، ورحل حاجا فأدى الفريضة ، ودخل العراق فسمع من جماعة وأجازوا له : منهم ابن خيرون ، والحميدي ، وأبو زكريا التبريزي ، والمبارك بن عبد الجبار ، وثابت بن بندار ، وهبة الله بن الأكفاني ، وغيرهم ، ونزل الإسكندرية ، وحدث بها ، وأخذ الناس عنه ، وتوفي هنالك ، وأنشد للحصري : [المتقارب]

النّاس كالأرض ، ومنها هم

من خشن اللّمس ومن ليّن

صلد تشكّى الرّجل منه الوجى

وإثمد يجعل في الأعين(٤)

__________________

(١) انظر ترجمته في التكملة ٤١٩. والذيل والتكملة ج ٦ ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٢) في ج : «من طيب كان ومن خبيث» وهو خطأ لا يستقيم معه الوزن.

(٣) ليوذى : أصلها ليؤذي ، خففت الهمزة وهذا جائز.

(٤) تشكّى : تتشكى. والوجى : الحفى. والإثمد : حجر يكتحل به.

٢٩٩

وروى عنه ابن الحضرمي وابن جارة ، وغيرهما.

١٠٦ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن الحسين ، الشهير بالميورقي ، لأن أصله منها (١) ، وسكن غرناطة.

وروى عن أبي علي الصّدفي ، ورحل حاجا فسمع بمكة من أبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي (٢) ، وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم النهاوندي ، في شوّال وذي القعدة من سنة ٥١٧ ، وبالإسكندرية من أبي عبد الله الرازي وأبي الحسن بن مشرّف وأبي بكر الطّرطوشي وغيرهم ، وعاد إلى الأندلس بعد مدة طويلة فحدث في غير ما بلد لتجوّله ، وكان فقيها ظاهريا ، عارفا بالحديث وأسماء الرجال ، متقنا لما رواه ، يغلب عليه الزهد والصلاح ، روى عنه أبو عبد الله النميري الحافظ ويقول فيه «الأزدي» تدليسا ، لأن الأنصار من الأزد ، وأبو بكر بن رزق ، وأبو عبد الله بن عبد الرحيم ، وابنه عبد المنعم ، وسواهم ، وصار أخيرا إلى بجاية هاربا من صاحب المغرب حينئذ (٣) بعد أن حمل إليه هو وأبوه العباس بن العريف وأبو الحكم بن برّجان ، وحدث هنالك ، وسمع منه في سنة ٥٣٧ ، رحمه الله تعالى!.

١٠٧ ـ ومنهم أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن بن الطّفيل (٤) ، العبدي الإشبيلي.

ويعرف بابن عظيمة ، أخذ القراءات عن أبي عبد الله السرقسطي ، وروى عن أبي عبد الله الخولاني ، وأبي عبد الله بن فرج ، وأبي علي الغساني ، وأبي داود المقري ، وأبي جعفر بن عبد الحق ، وأبي الوليد بن طريف ، ورحل حاجا فروى بمكة عن رزين بن معاوية ، ثم بالإسكندرية عن ابن الحضرمي أبي عبد الله محمد بن منصور ، وأبي الحسن بن مشرّف الأنماطي ، وبالمهدية عن المازريّ ، وكانت رحلته مع أبي علي منصور بن الخير الأحدب للقاء أبي معشر الطبري ، فبلغهما نعيه بمصر ، فلما قفلا من حجهما قعد منصور يقول : قرأت على أبي معشر ، واقتصر أبو الحسن في تصدره للإقراء على التحديث عمن لقي ، فعرف مكانه من الصدق والعدالة ، وولي الصلاة ببلده ، وتقدّم في صناعته ، واشتهر بها ، وتلاه أهل بيته فيها ، فأخذ عنهم الناس ، وله أرجوزة في القراءات السبع ، وأخرى في مخارج الحروف ، وشرح قصيدة الشّقراطسي ، وله أيضا كتاب «الفريدة الحمصية ، في شرح القصيدة الحصرية» وإليه وإلى

__________________

(١) انظر في ترجمته التكملة ص ٤٤٠ والذيل والتكملة : ج ٦ ص ٦٣.

(٢) في ج : البياضي ، وهو خطأ.

(٣) صاحب المغرب حينئذ هو علي بن يوسف بن تاشفين. وقيل : إن عليا ضربه بالسوط وسجنه وقتا ثم سرحه فعاد إلى الأندلس.

(٤) في ه : الطفيلي.

٣٠٠