الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨
يقال : إن عمره ستون سنة ، منها عشرون في بلده إشبيلية ، وعشرون في إفريقية عند ملوكها الصّنهاجيين ، وعشرون في مصر محبوسا في خزانة الكتب ، وكان وجّهه صاحب المهدية إلى ملك مصر فسجن بها طول تلك المدة في خزانة الكتب ، فخرج في فنون العلم إماما ، وأمتن علومه الفلسفة والطب والتلحين ، وله في ذلك تواليف تشهد بفضله ومعرفته ، وكان يكنى بالأديب الحكيم ، وهو الذي لحن الأغاني الإفريقية.
قال ابن سعيد : وإليه تنسب إلى الآن ، وذكره العماد في «الخريدة» وله كتاب «الحديقة» على أسلوب «يتيمة الثعالبي» (١) وتوفي سنة ٥٢٠ ، وقيل : سنة ٥٢٨ ، بالمهدية ، وقيل : مستهل السنة بعدها ، ودفن بها.
وله فيمن اسمه واصل : [الكامل]
يا هاجرا سمّوه عمدا واصلا |
|
وبضدّها تتبيّن الأشياء |
ألغيتني حتّى كأنّك واصل |
|
وكأنّني من طول هجري الرّاء |
وقوله ، وهو من بدائعه : [الكامل]
لا غرو أن سبقت لهاك مدائحي |
|
وتدفّقت جدواك ملء إنائها |
يكسى القضيب ولم يحن إثماره |
|
وتطقطق الورقاء قبل غنائها (٢) |
وقال في الأفضل : [الكامل]
تردي بكلّ فتى إذا شهد الوغى |
|
نثر الرّماح على الدّروب كعوبا(٣) |
قد لوّحته يد الهواجر فاغتدى |
|
مثل القناة قضافة وشحوبا(٤) |
تخذوا القنا أشطانهم واستنبطوا |
|
في كلّ قلب بالطّعان قليبا(٥) |
ومنها : [الكامل]
تعطي الّذي أعطتكه سمر القنا |
|
أبدا فتغدو سالبا مسلوبا |
__________________
(١) في ب ، ه : يتيمة الدهر للثعالبي.
(٢) في ب ، ه : وتطوق الورقاء قبل غنائها. والورقاء : الحمامة التي يميل لونها إلى الخضرة. وتطقطق : تصوت.
(٣) ردى يردي رديا ورديانا الفرس : ضرب الأرض بحوافره في سيره.
(٤) الهواجر : جمع هاجرة ، وهي شدة الحر وسط النهار. والقضافة : النحافة والنحول.
(٥) القليب : البئر. والأشطان : الحبال.
ومنها :
وأنا الغريب مكانه وبيانه |
|
فاجعل صنيعك في الغريب غريبا |
وله : [الكامل]
ومهفهف شربت محاسن وجهه |
|
ما مجّه في الكاس من إبريقه(١) |
ففعالها من مقلتيه ، ولونها |
|
من وجنتيه ، وطعمها من ريقه |
أخذه من ابن حيّوس ، وقصر عنه ، في قوله : [الكامل]
ومهفهف يغني بلحظ جفونه |
|
عن كاسه الملأى وعن إبريقه |
فعل المدام ولونها ومذاقها |
|
في مقلتيه ووجنتيه وريقه |
ولأبي الصلت فيمن اسمه محسن : [مجزوء الخفيف]
أيّها الظّالم المسي |
|
ء مدى دهره بنا |
ما لهم أخطئوا الصوا |
|
ب فسمّوك محسنا |
وله في لابس قرمزية حمراء : [المنسرح]
أقبل يسعى أبو الفوارس في |
|
مرأى عجيب ومنظر أنق |
أقبل في قرمزيّة عجب |
|
قد صبغت لون خدّه الشّرق |
كأنّما جيده وغرّته |
|
من دونها إذ بدون في نسق |
عمود فجر من فوقه قمر |
|
دارت به قطعة من الشّفق |
وله في ثقيل وقد أجاد (٢) : [الخفيف]
لي جليس عجبت كيف استطاعت |
|
هذه الأرض والجبال تقلّه |
أنا أرعاه مكرها وبقلبي |
|
منه ما يقلق الجبال أقلّه(٣) |
فهو مثل المشيب أكره مرآ |
|
ه ولكن أصونه وأجلّه (٤) |
أخذه من قول أبي الحسن جعفر بن الحاج الميورقي (٥) ، وهما في عصر واحد : [الكامل]
__________________
(١) المهفهف : الضامر البطن ، الدقيق الخصر.
(٢) وقد أجاء : غير موجودة في ب ، ه.
(٣) في ه : ما يتلف الجبال أقله.
(٤) أجلّه : أعظمه وأحترمه.
(٥) في ب : اللورقي.
لي صاحب عميت عليّ شؤونه |
|
حركاته مجهولة وسكونه |
يرتاب بالأمر الجليّ توهّما |
|
فإذا تيقّن نازعته ظنونه |
إنّي لأهواه على شرقي به |
|
كالشّيب تكرهه وأنت تصونه |
وأوصى أن يكتب على قبره أبو الصلت (١) المذكور مما نظمه قبل (٢) موته : [الطويل]
سكنتك يا دار الفناء مصدّقا |
|
بأنّي إلى دار البقاء أصير |
وأعظم ما في الأمر أنّي صائر |
|
إلى عادل في الحكم ليس يجور |
فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها |
|
وزادي قليل والذنوب كثير |
فإن أك مجزيّا بذنبي فإنّني |
|
بشرّ عقاب المذنبين جدير |
وإن يك عفو ثمّ عنّى ورحمة |
|
فثمّ نعيم دائم وسرور |
وله أيضا : [الطويل]
إذا كان أصلي من تراب فكلّها |
|
بلادي ، وكلّ العالمين أقاربي |
ولا بدّ لي أن أسأل العيس حاجة |
|
تشقّ على شمّ الذّرا والغوارب |
وقال : [الكامل]
دبّ العذار بخدّه ثمّ انثنى |
|
عن لثم مبسمه البرود الأشنب |
لا غرو أن خشي الرّدى في لثمه |
|
فالرّيق سمّ قاتل للعقرب |
وقد ذكروا أن من خواصّ ريق الإنسان أنه يقتل العقرب ، وهو مجرب.
وقال : [السريع]
لا تدعني ولتدع من شئته |
|
إليك من عجم ومن عرب |
فنحن أكّالون للسّحت في |
|
ذراك سمّاعون للكذب (٣) |
وقال : [الكامل]
لا تسألنّي عن صنيع جفونها |
|
يوم الوداع وسل بذلك من نجا |
لو كنت أملك خدّها للثمته |
|
حتّى أعيد به الشّقيق بنفسجا(٤) |
__________________
(١) في ه : وأوصى أبو الصلت المذكور أن يكتب على قبره ..
(٢) في ب : قبيل موته.
(٣) السحت : الحرام.
(٤) الشقيق : زهر أحمر ، والبنفسج أزرق اللون.
أو كنت أهجع لاحتضنت خيالها |
|
ومنعت ضوء الصّبح أن يتبلّجا(١) |
وبثثت في الظّلماء كحل جفونها |
|
وعقدت هاتيك الذّوائب بالدّجا |
وقال مهنّئا بمولود : [السريع]
يلوح في المهد على وجهه |
|
تجهّم البأس وبشرى النّدى |
والشّمس والبدر إذا استجمعا |
|
لم يلبثا أن يلدا فرقدا |
فابق له حتّى ترى نجله |
|
وإن عرا خطب فنحن الفدا |
قال ابن سعيد : وهذا البيت الأخير من أثقل الشعر يتطير من سماعه ، وتركه أولى وقال رحمه الله تعالى في الرصد : [البسيط]
فذا غدير ، وذا روض ، وذا جبل ، |
|
فالضّبّ والنّون والملّاح والحادي |
٥٩ ـ ومنهم الفقيه أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول السّرقسطي.
ذكره العماد الأصبهاني في «الخريدة» وذكره السمعاني في الذيل ، وأنه دخل بغداد في حدود سنة ست عشرة وخمسمائة.
ومن شعره : [الطويل]
أيا شمس إنّي إن أتتك مدائحي |
|
وهنّ لآل نظّمت وقلائد |
فلست بمن يبغي على الشّعر رشوة |
|
أبى ذاك لي جد كريم ووالد |
وأنّي من قوم قديما ومحدثا |
|
تباع عليهم بالألوف القصائد |
٦٠ ـ ومنهم الفقيه المقرئ أبو عامر التياري(٢).
من رجال «الذخيرة» رحل إلى المشرق ، وقرأ على أبي جعفر الديباجي كتابه في العروض وسائر كتبه ، ولقي شيخ القيروان في العربية ابن القزاز وأديبها الحصري.
وأخبر عن نفسه أنه كان بين يديه تلميذ له وسيم ، فمر به أبو جعفر التجاني بسحاءة (٣) كتب له فيها وخلاها بين يديه ، وهو قد غلب النوم عليه ، فقال : [مجزوء الكامل]
يا نائما متعمّدا |
|
إبصار طيف حبيبه |
__________________
(١) تبلج الصبح : أشرق وأنار.
(٢) في ج : الباري. وفي ه : المتباري. وفي فهرست الذخيرة : البيماري.
(٣) السحاءة : أراد بها ورقة رقيقة.
هو جوهر فاثقبه إنّ |
|
الطّيب في مثقوبه |
أو أركبنّي ظهره |
|
إن لم تقل بركوبه |
فلما قرأها علم أنها للتّجاني ، فكتب تحتها : [مجزوء الكامل]
يا طالبا أضحى حجا |
|
ب دون ما مطلوبه |
لو لم يكن في ذاك إث |
|
م لم أكن أسخو به |
إنّي أغار عليه من |
|
أثوابه ورقيبه |
وأنشد يوما في حلقته لابن الرومي في خبّاز : [البسيط]
إن أنس لا أنس خبّازا مررت به |
|
يدحو الرّقاقة وشك اللّمح بالبصر |
ما بين رؤيتها في كفّه كرة |
|
وبين رؤيتها قوراء كالقمر(١) |
إلّا بمقدار ما تنداح دائرة |
|
في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر(٢) |
فقال بعض تلامذته : أما إنه لا يقدر على الزيادة على هذا ، فقال : [البسيط]
فكاد يضرط إعجابا برؤيتها |
|
ومن رأى مثل ما أبصرت منه خري |
فضحك من حضر ، وقال : البيت لائق بالقطعة ، لو لا ما فيه من ذكر الرجيع ، فقال :
إن كان بيتي هذا ليس يعجبكم |
|
فعجّلوا محوه أو فالعقوه طري |
٦١ ـ ومنهم الأديب الطبيب أبو الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي.
مطبوع في الشعر والتوشيح ، قال ابن سعيد : اجتمعت به في القاهرة مرارا بمجلس الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور بن جلدك وفي غيره ، وتوفي في مارستان القاهرة.
ومن شعره : [الكامل]
أمّا الغراب فإنّه سبب النّوى |
|
لا ريب فيه وللنّوى أسباب |
يدعو الغراب وبعد ذاك يجيبه |
|
جمل وتعوي بعد ذاك ذئاب |
لا تكذبنّ فهذه أسبابه |
|
لكنّ منها بدأة وجواب |
٦٢ ـ ومنهم الإمام المحدث الحافظ جمال الدين أبو بكر محمد بن يوسف بن موسى ، الأندلسي ، المعروف بابن مسدي.
__________________
(١) قوراء : مستديرة.
(٢) تنداح : تتسع.
وهو من الأئمة المشهورين بالمشرق والمغرب ، قال رحمه الله تعالى : أنشدني رئيس الأندلس وأديبها أبو الحسن سهل بن مالك الأزدي الغرناطي لنفسه سنة ٦٣٧ في شوّال بداره بغرناطة (١) : [البسيط]
منغّص العيش لا يأوي إلى دعة |
|
من كان ذا بلد أو كان ذا ولد |
والسّاكن النّفس من لم ترض همّته |
|
سكنى مكان ولم يسكن إلى أحد |
٦٣ ـ ومنهم الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتّوح بن عبد الله الأزدي الحميدي ، نسبة لجده حميد الأندلسي (٢).
ولد أبوه بقرطبة ، وولد هو بالجزيرة بليدة بالأندلس ، قبل العشرين وأربعمائة ، وكل يحمل على الكتف للسماع سنة ٤٢٥ ، فأول ما سمع من الفقيه أبي القاسم أصبغ ، قال : وكنت أفصح من يقرأ عليه ، وكان قد لقي ابن أبي زيد وقرأ عليه وتفقه ، وروى عنه رسالته ومختصر المدوّنة ، ورحل سنة ٤٤٨ ، وقدم مصر وسمع بها من الضّرّاب والقضاعي (٣) وغير واحد ، وكان سمع بالأندلس من ابن عبد البر وابن حزم ولازمه وقرأ عليه مصنفاته وأكثر من الأخذ عنه ، وشهر بصحبته وصار على مذهبه إلا أنه لم يكن يتظاهر به ، وسمع بدمشق وغيرها ، وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عنه أكثر مصنفاته ، وسمع بمكة من الزنجاني ، وأقام بواسط مدّة بعد خروجه من بغداد ، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها وكتب بها كثيرا من الحديث والأدب وسائر الفنون ، وصنف مصنفات كثيرة ، وعلق فوائد ، وخرج تخاريج للخطيب ولغيره ، وروى عنه أبو بكر الخطيب أكثر مصنفاته وابن ماكولا ، وكان إماما من أئمة المسلمين في حفظه ومعرفته وإتقانه وثقته وصدقه ونبله وديانته وورعه ونزاهته ، حتى قال بعض الأكابر ممن لقي الأئمة : لم تر عيناي مثل أبي عبد الله الحميدي في فضله ونبله ونزاهة نفسه وغزار علمه وحرصه على نشر العلم وبثه في أهله ، وكان ورعا ثقة إماما في علم الحديث وعلله ومعرفة متونه ورواته ، محققا في علم الأصول على مذهب أصحاب الحديث ، متبحّرا في علم الأدب والعربية ، ومن تصانيفه كتاب «جذوة المقتبس ، في أخبار علماء الأندلس» وكتاب «تاريخ الإسلام» وكتاب «من ادعى الأمان ، من أهل الإيمان» وكتاب «الذهب المسبوك ، في وعظ
__________________
(١) كان من أعيان مصره ، تفننا في العلوم ، وبراعة في المنثور والمنظوم ، محدثا ضابطا عدلا ، ثقة ، ثبتا ، مجوّدا للقرآن ، متقدما في العربية ، وافر النصيب من الفقه والأصول ، كاتبا ، مجيد النظم (بغية الوعاة ج ١ ص ٦٠٥) ولقد ورد التبيان في البغية.
(٢) انظر في ترجمته : شذرات الذهب ج ٣ ص ٣٩٢. وتذكرة الحفاظ : ١٢١٨ ، والصلة ص ٥٣٠.
(٣) في ج : القراعي.
الملوك» وكتاب «تسهيل السبيل ، إلى علم الترسيل» وكتاب «مخاطبات الأصدقاء ، في المكاتبات واللقاء» وكتاب «ما جاء من النصوص والأخبار ، في حفظ الجار» وكتاب «ذم النميمة» (١) وكتاب «الأماني الصادقة» وغير ذلك من المصنفات ، و «الأشعار الحسان ، في المواعظ والأمثال» وكان من كثرة اجتهاده ينسخ بالليل في الحر ويجلس في إجانة ماء يتبرد به ، ومن مشهور مصنفاته كتاب «الجمع بين الصحيحين».
وذكره الحجاري في المسهب وقال عنه : إنه أظهر العلم في طرق ميورقة (٢) بعد ما كانت عطلاء من هذا الشأن ، وترك لها فخرا تباري به خواص البلدان ، وهو من علماء أئمة الحديث ، ولازم أبا محمد بن حزم من الأندلس واستفاد منه ، ورحل إلى بغداد ، وبها ألف كتاب الجذوة ، ومن شعره قوله رضي الله تعالى عنه. [الطويل]
ألفت النّوى حتّى أنست بوحشها |
|
وصرت بها لا في الصّبابة مولعا |
فلم أحص كم رافقته من مرافق |
|
ولم أحص كم خيّمت في الأرض موضعا |
ومن بعد جوب الأرض شرقا ومغربا |
|
فلا بدّ لي من أن أوافي مصرعا(٣) |
وقال رحمه الله تعالى : [الوافر]
لقاء النّاس ليس يفيد شيئا |
|
سوى الهذيان من قيل وقال |
فأقلل من لقاء النّاس إلّا |
|
لأخذ العلم أو إصلاح حال |
وذكره ابن بشكوال في الصّلة ، وتوفي ببغداد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، رحمه الله تعالى!.
قال ابن ماكولا : أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي ، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ ، لم أر مثله في عفّته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم ، وكان أوصى مظفرا ابن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند قبر بشر الحافي ، فخالف وصيته ودفنه في مقبرة باب أبرز (٤) ، فلما كانت مدة رآه مظفر في النوم كأنه يعاتبه على مخالفته ، فنقل في صفر سنة ٤٩١ إلى مقبرة باب حرب ، ودفن عند قبر بشر ، وكان كفنه جديدا وبدنه طريا تفوح منه رائحة الطيب ، ووقف كتبه على أهل العلم ، رحمه الله تعالى!.
__________________
(١) في ب ، ه : وكتاب النميمة.
(٢) في ب ، ه : إنه طرق ميورقة بعد ما كانت عطلا من هذا الشأن.
(٣) جوب الأرض : قطعها.
(٤) في ج : باب البزر.
ومن مناقبه أنه قال لمن دخل عليه فوجده مكشوف الفخذ : تعديت بعين إلى موضع لم ينظره أحد منذ عقلت ، انتهى.
ومن شعر الحميدي أيضا قوله : [الوافر]
طريق الزّهد أفضل ما طريق |
|
وتقوى الله تالية الحقوق |
فثق بالله يكفك ، واستعنه |
|
يعنك ، ودع بنيّات الطّريق |
وقوله : [الوافر]
كلام الله عزّ وجلّ قولي |
|
وما صحّت به الآثار ديني |
وما اتّفق الجميع عليه بدءا |
|
وعودا فهو عن حقّ مبين |
فدع ما صدّ عن هذا وهذا |
|
تكن منها على عين اليقين(١) |
٦٤ ـ ومنهم الكمال أبو العباس أحمد الشريشي (٢) ، وهو أحمد بن عبد المؤمن بن موسى بن عيسى بن عبد المؤمن ، القيسي ، من أهل شريش ، روى عن أبي الحسن بن لبّال (٣) وأبي بكر بن أزهر وأبي عبد الله بن زرقون وأبي الحسين بن جبير وغيرهم ، وأقرأ العربية ، وله تواليف أفاد بما حشد (٤) فيها : منها شرح الإيضاح للفارسي ، والجمل للزجاج ، وله في العروض تواليف ، وجمع مشاهير قصائد العرب ، واختصر نوادر أبي علي القالي.
قال ابن الأبار : لقيته بدار شيخنا أبي الحسن بن حريق من بلنسية ، قبل توجهي إلى إشبيلية في سنة ست عشرة وستمائة ، وهو إذ ذاك يقرأ عليه شرحه للمقامات ، فسمعت عليه بعضه ، وأجاز لي سائره مع رواياته وتواليفه ، وأخذ عنه أصحابنا ، ثم لقيته ثانية مقدمه من مرسية ، انتهى.
ومن بديع نظمه وهو بمصر يتشوق إلى الشام : [البسيط]
يا جيرة الشّام هل من نحوكم خبر |
|
فإنّ قلبي بنار الشّوق يستعر(٥) |
بعدت عنكم فلا والله بعدكم |
|
ما لذّ للعين لا نوم ولا سهر |
__________________
(١) في ب ، ه : فدع ما صدّ عن هذي وخذها.
(٢) انظر ترجمته في بغية الوعاة ج ١ ص ٣٣١. وقال في البغية : توفي سنة ٧٠٢ ه.
(٣) في ج : ليال.
(٤) في ب ، ه : بما حشر فيها.
(٥) يستعر : يشتعل.
إذا تذكّرت أوقاتا نأت ومضت |
|
بقربكم كادت الأحشاء تنفطر |
كأنّني لم أكن بالنّيربين ضحى |
|
والغيم يبكي ومنه يضحك الزّهر(١) |
والورق تنشد ، والأغصان راقصة |
|
والدّوح يطرب بالتّصفيق والنّهر(٢) |
والسّفح أين عشيّاتي الّتي سلفت |
|
لي منه فهي لعمري عندي العمر |
سقاك يا سفح سفح الدّمع منهملا |
|
وقلّ ذاك له إن أعوز المطر |
وله رحمة الله تعالى شروح لمقامات الحريري : كبير ، ووسط ، وصغير ، وفي الكبير من الآداب ما لا كفاء له ، وكان رحمه الله تعالى معجبا بالشام :
وقال ابن الأبار عندما ذكره : إنه شرح مقامات الحريري في ثلاث نسخ : كبراها الأدبية ، ووسطاها اللغوية ، وصغراها المختصرة ، انتهى.
وتوفي بشريش بلده سنة تسع عشرة وستمائة ، رحمه الله تعالى!.
٦٥ ـ ومنهم أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد ، الأزدي ، القرطبي ، الملقب بضياء الدين.
أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث النحو (٣) واللغة وغير ذلك.
قال القاضي الشمس ابن خلكان : إنه رحل من الأندلس في عنفوان شبابه وقدم مصر فسمع بالإسكندرية أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي ، وبمصر أبا صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المدني المصري وأبا طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المعروف بالسّلفي وغيرهم ، ودخل بغداد سنة ٥١٧ ، وقرأ بها القرآن الكريم على الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي المقري المعروف بابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط ، وسمع عليه كتبا كثيرة منها كتاب سيبويه ، وقرأ الحديث على أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزار المعروف بقاضي المارستان وأبي القاسم بن الحصين وأبي العز وغيرهم ، وكان ديّنا ورعا عليه وقار وسكينة ، وكان ثقة صدوقا ثبتا نبيلا قليل الكلام كثير الخير مفيدا ، أقام بدمشق مدة ، واستوطن الموصل ، ورحل منها إلى أصبهان ، ثم عاد إلى الموصل ، وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر ، وذكره الحافظ
__________________
(١) النيربان : مثنى نيرب ، وهي قرية قرب دمشق.
(٢) الورق : جمع ورقاء وهي الحمامة التي يميل لونها إلى الاخضرار.
(٣) في ب : والنحو.
ابن السمعاني في كتاب الذيل ، وقال : إنه اجتمع به بدمشق ، وسمع عنه مشيخة أبي عبد الله الرازي ، وانتخب عليه أجزاء ، وسأله عن مولده فقال : ولدت سنة ٤٨٦ في مدينة قرطبة ، ورأيت في بعض الكتب أن مولده سنة ٤٨٧ ، والأول أصح ، وكان شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن (١) يوسف بن رافع (٢) بن تميم المعروف بابن شداد قاضي حلب رحمه الله تعالى يفتخر بروايته وقراءته عليه ، وقال : كنا نقرأ عليه بالموصل ، ونأخذ عنه ، وكنا نرى رجلا يأتي إليه كل يوم فيسلم عليه وهو قائم ، ثم يمد يده إلى الشيخ بشيء ملفوف ، فيأخذه الشيخ من يده ، ولا نعلم ما هو ، ويتركه ذلك الرجل ويذهب ، ثم تقفينا ذلك فعلمنا أنها دجاجة مسموطة كانت ترسم (٣) للشيخ في كل يوم ، يبتاعها له ذلك الرجل ويسمطها ويحضرها ، وإذا دخل الشيخ إلى منزله تولى طبخها بيده.
وذكر في كتاب «دلائل الأحكام» أنه لازم القراءة عليه إحدى عشرة سنة ، آخرها سنة ٥٦٧.
وكان الشيخ أبو بكر القرطبي المذكور كثيرا ما ينشد مسندا إلى أبي الخير الكاتب الواسطي : [الوافر]
جرى قلم القضاء بما يكون |
|
فسيّان التّحرّك والسّكون |
جنون منك أن تسعى لرزق |
|
ويرزق في غشاوته الجنين |
وتوفي القرطبي المذكور بالموصل يوم عيد الفطر سنة ٥٦٧ ، رحمه الله تعالى!.
انتهى كلام ابن خلكان ببعض اختصار.
٦٦ ـ ومنهم الوزير أبو عبد الله محمد ، ابن الشيخ الأجل أبي الحسن بن عبد ربه ، وهو من حفداء صاحب كتاب «العقد» المشهور.
حدث الشيخ الأجل أبو عبد الله محمد بن علي اليحصبي القرموني (٤) رفيقه قال : اصطحبت معه في المركب من المغرب إلى الإسكندرية ، فلما قربنا منها هاج علينا البحر ،
__________________
(١) أبو المحاسن : غير موجودة في ب.
(٢) هو يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد بن عتاب بن شداد أبو المحاسن ، وأبو العز الأسدي الحلبي ، قاضي القضاة إمام علامة ولد سنة ٥٣٩ ونشأ بالموصل ، وحفظ القرآن ولزم يحيى بن سعدون القرطبي ، فأحكم عليه القراءات والعربية (انظر غاية النهاية ج ٢ ص ٣٩٥).
(٣) في ابن خلكان : برسم الشيخ.
(٤) في بعض النسخ : القرومي.
وأشفينا على الغرق ، فلاح لنا ونحن على هذه الحال منار الإسكندرية ، فسررنا برؤيته ، وطمعنا في السلامة ، فقال لي : لا بد أن أعمل في المنار شيئا ، فقلت له : أعلى مثل هذه الحال التي نحن فيها؟ فقال : نعم ، فقلت : فاصنع ، فأطرق ثم عمل بديها : [البسيط]
لله درّ منار اسكندريّة كم |
|
يسمو إليه على بعد من الحدق |
من شامخ الأنف في عرنينه شمم |
|
كأنّه باهت في دارة الأفق(١) |
لله درّ منار اسكندريّة كم |
|
يسمو إليه على بعد من الحدق |
يكسّر الموج منه جانبي رجل |
|
مشمّر الذّيل لا يخشى من الغرق |
لا يبرح الدّهر من ورد على سفن |
|
ما بين مصطبح منها ومغتبق |
للمنشآت الجواري عند رؤيته |
|
كموقع النّوم من أجفان ذي أرق |
وتقدمت ترجمة الكاتب أبي عبد الله بن عبد ربه ، وأظنه هذا ، فليتنبه له ، بل أعتقد أنه هو لا غيره ، والله تعالى أعلم.
٦٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن الصفار ، القرطبي (٢).
قال في القدح المعلى : بيتهم مشهور بقرطبة ، لم يزل يتوارث في العلم والجاه وعلو المرتبة ، ونشأ أبو عبد الله هذا حافظا للآداب ، إماما في علم الحساب ، مع أنه كان أعمى مقعدا مشوه الخلقة ، ولكنه إذا نطق علم كل منصف حقه ، ومن عجائبه أنه سافر على تلك الحالة ، حتى غدت بغداد له هالة (٣) ، اجتمعت به بحضرة تونس فرأيت بحرا زاخرا ، وروضا ناضرا ، إلا أنه حاطب ليل (٤) ، وساحب ذيل ، لا يبالي ما أورده ، ولا يلتفت إلى ما أنشده ، جامعا بين السمين والغث ، حافظا للمتين والرث ، وكان يقرئ الأدب بمراكش وفاس وتونس وغيرها.
ومن مشهور حكاياته أنه لما قال أبو زيد الفازازي (٥) في أبي علي (٦) المستنصر قصيدته التي مطلعها : [البسيط]
الحزم والعزم منسوبان للعرب
__________________
(١) العرنين : الأنف.
(٢) انظر ترجمته في القدح المعلى ص ٢٠٣ ـ ٢٠٦.
(٣) الهالة : دارة القمر. وقد شبه صاحب القدح الصفار بالقمر وبغداد بهالته.
(٤) حاطب ليل : أي لا يبالي بما يعجبه ولا يدرك الغث من السمين.
(٥) في القدح : الفزاري.
(٦) في ب : أبي العلاء.
عارضه بقصيدة ، ثم قال فيه وفي ابن أخيه يحيى بن الناصر الذي نازعه في ذلك الأوان (١) : [البسيط]
وإن ينازعك في المنصور ذو نسب |
|
فنجل نوح ثوى في قسمة العطب(٢) |
وإن يقل أنا عمّ فالجواب له |
|
عمّ النّبيّ بلا شكّ أبو لهب |
وشاعت القصيدة فبلغت أبا العلاء ، فحرض على قتله ، وسلمه الله تعالى منه ، ومات سنة ٦٣٩.
ومن شعر قوله : [السريع]
لا تحسب النّاس سواء متى |
|
تشابهوا فالنّاس أطوار(٣) |
وانظر إلى الأحجار ، في بعضها |
|
ماء ، وبعض ضمنها نار(٤) |
وقوله : [المجتث]
يا طالعا في جفوني |
|
وغائبا في ضلوعي |
بالغت في السّخط ظلما |
|
وما رحمت خضوعي |
إذا نويت انقطاعا |
|
فاحسب حساب الرّجوع(٥) |
انتهى باختصار يسير.
٦٨ ـ ومنهم أبو الوليد بن الجنّان محمد بن المشرف أبي عمرو بن (٦) الكاتب أبي بكر بن العالم الجليل أبي العلاء بن الجنّان ، الكناني ، الشاطبي (٧).
قال ابن سعيد : توارثوا بشاطبة ، مراتب تحسدها النجوم الثاقبة ، وأبو الوليد أشعرهم ، وقد تجدّد به في أقطار المشرق مفخرهم ، وهو معروف هناك بفخر الدين ، ومتصدر في أئمة النحويين ، ومرتب في شعراء الملك الناصر صاحب الشام ، ومقطّعاته الغرامية قلائد أهل الغرام ، صحبته بمصر ودمشق وحلب ، وجريت معه طلق الجموح في ميادين الأدب ، وأنشدني بدمشق : [الرمل]
__________________
(١) في ب : الأوان [رداء السلطان]
(٢) في ب : قمة العطب.
(٣) في القدح المعلى : اشتبهوا فالناس أطوار.
(٤) في القدح : ماء وبعض ضمنه نار.
(٥) في القدح : فاعمل حساب الرجوع.
(٦) في ب : عمرو ابن الكاتب.
(٧) انظر ترجمته في القدح المعلى ص ٢٠٦.
أنا من سكر هواهم ثمل |
|
لا أبالي هجروا أم وصلوا |
فبشعري وحديثي فيهم |
|
زمزم الحادي وسار المثل |
إن عشّاق الحمى تعرفني |
|
والحمى يعرفني والطّلل |
رحلوا عن ربع عيني فلذا |
|
أدمعي عن مقلتي ترتحل |
ما لها قد فارقت أوطانها |
|
وهي ليست لحماهم تصل |
لا تظنّوا أنّني أسلو فما |
|
مذهبي عن حبّكم ينتقل |
وقوله رحمه الله تعالى (١) : [البسيط]
بالله يا بانة الوادي إذا خطرت |
|
تلك المعاطف حيث الشّيح والغار(٢) |
فعانقيها عن الصّبّ الكئيب فما |
|
على معانقة الأغصان إنكار |
وعرّفيها بأنّي فيك مكتئب |
|
فبعض هذي لها بالحبّ إخبار(٣) |
وأنتم جيرة الجرعاء من إضم |
|
لي في حماكم أحاديث وأسمار |
وأنتم أنتم في كلّ آونة |
|
وإنما حبّكم في الكون أطوار |
ويا نسيما سرى تحدو ركائبه |
|
لي بالغوير لبانات وأوطار |
وقوله (٤) : [الخفيف]
يا رعى أنسنا بين روض |
|
حيث ماء السّرور فيه يجول |
تحسب الزهر عنده يتثنى |
|
وتخال الغصون فيه تميل |
وله : [البسيط]
هات المدام فقد ناح الحمام على |
|
فقد الظّلام وجيش الصّبح في غلب |
وأعين الزّهر من طول البكا رمدت |
|
فكحّلتها يمين الشّمس بالذّهب |
والكأس حلّتها حمراء مذهبة |
|
لكن أزرّتها من لؤلؤ الحبب |
كم قلت للأفق لمّا أن بدا صلفا |
|
بشمسه عندما لاحت من الحجب |
__________________
(١) في القدح : ص ٢٠٧.
(٢) الشيح والغار : نبتان طيبا الرائحة.
(٣) في ه ، ب : والقدح المعلى : فبعض هذا لها بالحب إخبار.
(٤) في ب : وله :
إن تهت بالشّمس يا أفق السّماء فلي |
|
شمسان وجه نديمي وابنة العنب |
قم اسقنيها وثغر الصّبح مبتسم |
|
واللّيل تبكيه عين البدر بالشّهب |
والسّحب قد لبست سود الثّياب وقد |
|
قامت لترثيه الأطيار في القضب |
وله (١) : [السريع]
عليك من ذاك الحمى يا رسول |
|
بشرى علامات الرّضا والقبول |
جئت وفي عطفيك منهم شذى |
|
يسكر من خمر هواه العذول |
ومنها : [السريع]
أحبابنا ودّعتم ناظري |
|
وأنتم بين ضلوعي نزول |
حللتم قلبي وهو الّذي |
|
يقول في دين الهوى بالحلول |
أنا الّذي حدّث عن الهوى |
|
بأنّني عن حبّكم لا أحول |
فليزد العاذل في عذله |
|
وليقل الواشي لكم ما يقول |
انتهى كلام النور بن سعيد.
وقال غيره : ولد المذكور بشاطبة منتصف شوال سنة ٦١٥ ، ومات بدمشق ودفن بسفح قاسيون ، وكان عالما فاضلا ، دمث الأخلاق ، كريم الشمائل ، كثير الاحتمال ، واسع الصدر ، صحب الشيخ كمال الدين بن العديم ، وولده قاضي القضاة مجد الدين ، فاجتذبوه إليهم ، وصار حنفي المذهب ، ودرس بالمدرسة الإقبالية الحنفية بدمشق ، وله مشاركة في علوم كثيرة ، وله يد في النظم ، ومن شعره (٢) : [الكامل]
لله قوم يعشقون ذوي اللّحى |
|
لا يسألون عن السّواد المقبل(٣) |
وبمهجتي قوم وإنّي منهم |
|
جبلوا على حبّ الطّراز الأوّل |
وله أيضا : [البسيط]
قم اسقنيها وليل الهمّ منهزم |
|
والصّبح أعلامه محمرّة العذب |
__________________
(١) القدح المعلى ص ٢٠٨ وقد وردت فيه أبيات زائدة عما في النفح.
(٢) في ب ، ه : ومنه قوله :
(٣) الشطر الثاني من هذا البيت وما بعده مأخوذ من قول حسان بن ثابت :
يغشون حتى ما تهر كلابهم |
|
لا يسألون عن السواد المقبل |
بيض الوجوه كريمة أحاسبهم |
|
شم الأنوف من الطراز الأول |
والسّحب قد نثرت في الأرض لؤلؤها |
|
تضمّه الشّمس في ثوب من الذّهب |
وقد تقدم عن ابن سعيد له ما يقارب هذا.
وله ـ رحمه الله تعالى! ـ في كاتب : [الطويل]
وبي كاتب أضمرت في القلب حبّه |
|
مخافة حسّادي عليه وعذّالي |
له صنعة في خطّ لام عذاره |
|
ولكن سها إذ نقّط اللّام بالخال |
٦٩ ـ ومنهم أبو محمد القرطبي (١) :
قال ابن سعيد : لقيته بالقاهرة ، وكأنه لا خبر عنده من الآخرة ، وقد طال عمره في أكل الأعراض ، وفساد الأغراض ، ومما بقي في أذني من شعره قوله : [الخفيف]
رحم الله من لقيت قديما |
|
فلقد كان بي رؤوفا رحيما |
أتمنّى لقاء حرّ وقد أع |
|
وز بختي كما عدمت الكريما |
وتوفي بالقاهرة سنة ٦٤٣ ، انتهى.
٧٠ ـ ومنهم علي بن أحمد (٢) ، القادسي ، الكناني
قال ابن سعيد : لقيته ببيت المقدس على زي الفقراء ، وحصلت منه هذه الأبيات ، وندمت بعد ذلك على ما فات ، وهي : [المجتث]
ذاك العذار المطلّ |
|
دمي عليه يطلّ |
كأنّما الخدّ ماء |
|
وقد جرى فيه ظلّ |
عقود صبري عليه |
|
مذ حلّ قلبي تحلّ |
جرت دموعي عليه |
|
فقلت آس وطلّ |
٧١ ـ ومنهم أبو عبد الله بن العطار ، القرطبي (٣).
قال ابن سعيد : هو حلو المنازع ، ظريف المقاطع والمطالع ، مطبوع النوادر ، موصوف بالأديب الشاعر ، مازجته بالإسكندرية ، وبهذه الحضرة العلية ، وما زال يدين بالانفراد ،
__________________
(١) ترجمته في القدح المعلى ص ٢١٢ تحت عنوان : أبو المحامد. القرطبي. وقال عن ابن سعيد : كان يلقب بأبي البغل. (القدح المعلى ص ٢١٢).
(٢) انظر القدح المعلى ص ٢١٣.
(٣) انظر القدح المعلى ص ٢١٥.
والتجول في البلاد ، حتى قضى مناه ، وألقى بهذه المدينة عصاه ، لا يخطر الهم له ببال ، ولا يبيت إلا على وعد من وصال ، وله حين سمع ما ارتجلته في السكين بالإسكندرية حين داعبني باختلاسها القاضي زين القضاة بن الرّيغي ، وقال : ما لي إليه سبيل ، حتى يحضر مصري (١) نبيل : [الطويل]
أيا سارقا ملكا مصونا ولم يجب |
|
على يده قطع وفيه نصاب |
ستندبه الأقلام عند عثارها |
|
ويبكيه إن يعد الصّواب كتاب(٢) |
فقال : [الطويل]
أحاجيك ما شيء إذا ما سرقته |
|
وفيه نصاب ليس يلزمك القطع |
على أنّ فيه القطع والحدّ ثابت |
|
ولا حدّ فيه ، هكذا حكم الشّرع |
انتهى كلام ابن سعيد من كتابه «القدح المعلى» فيما أظن.
ويعني والله سبحانه وتعالى أعلم بقوله «وبهذه الحضرة العلية» حضرة تونس المحروسة ، فإنها كانت محط رحال الأفاضل ، من الأواخر والأوائل ، حتى إن قاضي القضاة ابن خلدون أقام بها مدة ، ومنها ارتحل إلى مصر ، وكذلك الخطيب الجليل سيدي أبو عبد الله بن مرزوق رحمه الله تعالى ، ومنها خاطب الوزير لسان الدين بن الخطيب وسلطانه في الشفاعة له عند سلطان المغرب ، فكتب لسان الدين عن سلطانه في ذلك ما نصه : المقام الذي نؤكد إليه ببر سلفه الوداد ، ونغري بتخليد فخره وأمره القلم والمداد ، ونصل به الاستظهار على عدو الله تعالى والاستعداد (٣) ، ونخطب له من الله بهزّ أعطافه للخير والتوفيق والسداد ، والإعانة منه والإمداد ، مقام محل أخينا الذي اشتهر فضله ودينه ، ووضح سعده متألقة براهينه ، وحياه الصنع الجميل وبيّاه مشرقا جبينه ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ، أبقاه الله يرعى الذّمم ، ويسلك من الفضائل المنهج الأمم (٤) ، ويغلي البضائع النافقة عند الله تعالى ويعلي الهمم ، معظم قدره ، وملتزم بره ، الحريص على توفير أجره ، وتخليد فخره ، فلان ، أما بعد حمد الله تعالى ناصر الإمرة المطاعة ، المحافظة على السنة والجماعة ، وحافظها من الإضاعة ، إلى قيام الساعة ، الذي جعل المودة فيه أنفع الوسائل النفّاعة ، والصلاة والسلام على
__________________
(١) في القدح : ما إليها سبيل ، حتى يحضر لك فيها معنى نبيل.
(٢) عثارها : العثرة : الزلّة.
(٣) في ب ، ه : والاعتداد.
(٤) الأمم : القريب.
سيدنا ومولانا محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة على العموم والإشاعة ، متمم مكارم الأخلاق من الفضل والبذل والحياء والشجاعة ، والرضا عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة ، وزرعوا الخير في العاجلة ففازوا في الآجلة بفائدة (١) تلك الزراعة ، والدعاء لمقامكم الأعلى بصنع يروي فيه عن الأشمط الباتر خبر النصر المتواتر لسان البراعة ، وتأييد لا ترضى فيه القنا بمقام تلك (٢) القناعة ، فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لثنائكم العاطر بتخليد المفاخر منشور الإذاعة ، في أيدي النواسم الضّوّاعة ، من حمراء غرناطة ـ حرسها الله تعالى! ـ عن خير هامي السحاب ، وبشر مفتح الأبواب ، وعز للإسلام ، ببركة الاعتداد بملككم المنصور الأعلام ، مقتبل الشباب ، ويمن ضافي الجلباب ، والحمد لله على تضافر الأيدي في ذاته وتوفر الأسباب ، وجانبكم الرفيع الأمل للمنتاب ، إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب (٣) ، ومطمح الوسائل المطرزة المسائل بتصحيح الود اللّباب ، وإلى هذا وصل الله تعالى سعيكم بسوابغ نعمه (٤) وآلائه دائمة الانسكاب ، وجعل ما عجل لكم من نعمه وآلائه (٥) كفيلة بالزلفى وحسن المتاب (٦) ، وألهمكم تقييد شواردها بالشكر قولا وعملا فالشكر مستدعي المزيد كما ورد (٧) في الكتاب ، فإن من المنقول الذي اشتهر ، وراق فضله وبهر ، قوله «اشفعوا تؤجروا» وما في معناه من المعتبر في الخبر وتنفيس كربة عن مسلم ، وسماع شكوى من متظلم ، ولو لا أن مقامكم السني أغنى ، لجلبنا الكثير من هذا المعنى ، ولما تحقق ما أنتم عليه من سلوك سبيل والدكم الملك الصالح ـ قدس الله تربته ، وضاعف قربته! ـ من يمن الظفر ، وسلوك سبيل (٨) الخير وإقامة رسول (٩) الدين ، والاهتداء من هديه بالنور المبين ، خفّ علينا أن نقصدكم بالشفاعات مع الساعات ، ونتّجر لكم مع الله بأنفس البضاعات ، فما أثمر من ذلك شكرنا الله تعالى عليه حقيقة وشكرناكم عليه شريعة ، وما تأخر أوسعناكم فيه عذرا يسد ذريعة ، وعلمنا أن الله تعالى
__________________
(١) في ه : بفائد.
(٢) تلك : غير موجودة في ب.
(٣) ذوات الأقتاب : أي النوق.
(٤) في ب ، ه : وإلى هذا وصل الله تعالى سوابغ نعمه وآلائه.
(٥) في ب : من نعمه كفيلة.
(٦) في ب : المآب.
(٧) إشارة إلى قوله تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
(٨) من والدكم .. إلى سلوك سبيل : موجودة في ب ، ه.
(٩) في ب : رسوم الدين.
لم يأذن في تعجيله ، وسألناه في تيسيره وتسهيله ، سواء لدينا في ذلك ما عاد ، بإعانة عامة وإمداد ، وساهم في قصد جهاد ، وما لم يعد علينا خصوصا وعلى المسلمين عموما بإعانة ولا إرفاد ، إنما علينا أن نجلب الخير الباقي والأجر الراقي إلى بابكم ، وندلّ عليه كريم جنابكم ، بمقتضى وداد ، صبحه باد ، وجميل ظن في دينكم المتين واعتقاد ، سلم محمله ومفصّله من انتقاد ، وذلك أن الشيخ الخطيب الفقيه الكبير الشهير الصدر الأوحد العلامة (١) سلالة الصالحين ، وخطيب والدكم كبير الخلفاء والسلاطين ، ويا لها من مزية دنيا ودين ، أبا عبد الله بن مرزوق جبر الله تعالى على يدكم البرة حاله ، وسنّى من مقامكم السني آماله ، جرى عليه من المحن ، وتباريح الإحن (٢) ، ما يعلم كل ذي مروءة وعقل ، واجتهاد ونقل ، أن ذلك من الجنايات على والدكم السلطان محسوب ، وإلى معقّاته منسوب ، ولو كانت ذنوبه رضوى وثبيرا (٣) ، لاستدعت إلى تعمدها عفوا كبيرا ، رعيا لذلك الإمام الصالح الذي كبّر خلفه وأحرم ، وتشهد وسلم ، وأمّن عقب دعائه ، ونصب كفه لمواهب الله تعالى وآلائه ، وأنصت لخطبته ووعظه ، وأوجب المزية لسعة حفظه وعذوبة لفظه ، فأحبط ذلك من أحبط الأعمال الصالحة ، وعطّل المتاجر الرابحة ، وأسف الملك المذكور بدم ولده ، وإحراق خزائنه وعدده ، وتغيير رسومه وحدوده وإسخاطه وإسخاط الله معبوده ، إلى أن طهر سيفكم الملك من عاره ، وأخذ منه بثاره ، وتقرب إلى الله وإلى السلف الكريم بمحو آثاره ، والحمد لله على ما خصّه من إيثاره ، وتدارك الإسلام بإقالة عثاره ، وإنه خاطبنا الآن من حضرة تونس يقرر من حاله ما يفتّ الفؤاد ، ويوجب الامتعاض له والاجتهاد (٤) ، يطلب منا الإعانة بين يديكم والإنجاد ، ويشكو العيلة والأولاد ، والغربة التي أحلّته الأقطار النازحة والبلاد ، والحوادث التي سلبته الطارف والتّلاد ، وأن نذكركم بوسيلته ، وضعف حيلته ، فبادرنا لذلك عملا بالواجب ، وسلوكا من بره ورعي حقه على السّنن اللاحب (٥) ، وإن كنا نطوقه في أمرنا عند الحادثة علينا تقصيرا ، ولا نشكر إلا الله وليا ونصيرا ، فحقه علينا أوجب ، فهو الذي لا يجحد ولا يحجب ، ولا يلتبس منه المذهب ، وكيف لا يشفع فيمن جعله السلف إلى الله تعالى شفيعا ، وأحلّه محلا منيعا رفيعا ، إلى وليه الذي جبر ملكه سريعا ، وصير جنابه بعد المحول مريعا (٦) ، وجدد رسومه
__________________
(١) في ب : الأوحد سلالة ..
(٢) في ه : ونتائج الإحن. وتباريح : جمع تبريح. والإحن : جمع إحنة وهي الحقد.
(٣) رضوى وثبير : جبلان.
(٤) الامتعاض : الحنق والغصب.
(٥) السنن اللاحب : الطريق الواضح البيّن.
(٦) المريع ، بفتح الميم وكسر الراء : الخصيب.
تأصيلا لها وتفريعا ، ومثلكم من اغتنم بره في نصر مظلوم ، وسبر مكلوم ، وإعداء كرم على لوم ، وهي منا ذكرى تنفع ، وحرص على أجر من يشفع ، وإسعاف لمن سأل ما يعلى من قدركم ويرفع ، وتأدية لحق سلفكم الذي توفرت حقوقه ، وإبلاغ نصيحة دينية إلى مجدكم الذي لا يمنعه عن المجد مانع ولا يعوقه ، ومطلبه في جنب ملككم الكبير حقير ، وهو إلى ما يفتح الله تعالى به على يد صدقتكم فقير ، ومنهلكم الأروى ، وباعكم في الخير أطول وساعدكم أقوى (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧] والله عز وجل يسلك بكم المسالك التي تخلد بالجميل ذكركم ، وتعظم عند الله أجركم ، فما عند الله خير للأبرار ، والدنيا دار الغرور والآخرة دار القرار ، وهو سبحانه يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، انتهى.
والسلطان المخاطب بهذا هو أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني ، وكان ابن مرزوق غالبا على دولة السلطان أبي سالم أخي أبي فارس المذكور ، فقتله الوزير عمر بن عبد الله
الفودودي ، وتغلب على الملك ، ونصب أخا لأبي سالم معتوها ، وسجن ابن مرزوق ، ورام قتله ، فخلصه الله تعالى منه ، ثم إن السلطان أبا فارس ثار على الوزير المتغلب وقتله ، واستقل بالملك ، فخوطب في شأن ابن مرزوق بما ذكر.
رجع إلى ما كنا فيه من ذكر الراحلين من أعلام الأندلسيين إلى البلاد المشرقية المحروسة بالله سبحانه وتعالى ، فنقول :
٧٢ ـ ومنهم أبو الوليد وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر ، الأزدي ، القرطبي ، المعروف بابن الفرضي ، الحافظ المشهور (١).
كان فقيها عالما ، عارفا بعلم الحديث ورجاله ، بارعا في الأدب وغيره ، وله من التصانيف «تاريخ علماء الأندلس» ، وقفت عليه بالمغرب ، وهو بديع في بابه وهو الذي ذيل عليه ابن بشكوال بكتاب «الصلة» وله كتاب حسن في المؤتلف والمختلف وفي مشتبه النسبة ، وكتاب في أخبار شعراء الأندلس ، وغير ذلك ، ورحل من الأندلس إلى المشرق سنة ٣٨٢ ، فحج وسمع من العلماء وأخذ منهم وكتب من أماليهم ، وروى عن شيوخ عدّة من أهل المشرق.
__________________
(١) جاء في شذرات الذهب : أبو الوليد الفرضي عبد الله بن محمد بن يوسف القرطبي الحافظ ، مؤلف تاريخ الأندلس إلخ. (الشذرات ج ٣ ص ١٦٨). وانظر ترجمته في الصلة ص ٢٤٦ ، والمطمح ص ٥٧ ، ووفيات الأعيان ج ٢ ص ٢٩٠.
ومن شعره : [الطويل]
أسير الخطايا عند بابك واقف |
|
على وجل ممّا به أنت عارف(١) |
يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها |
|
ويرجوك فيها فهو راج وخائف |
ومن ذا الّذي يرجى سواك ويتّقى |
|
وما لك في فصل القضاء مخالف |
فيا سيّدي لا تخزني في صحيفتي |
|
إذا نشرت يوم الحساب الصّحائف |
وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما |
|
يصدّ ذوو القربى ويجفو المؤالف |
لئن ضاق عنّي عفوك الواسع الّذي |
|
أرجّي لإسرافي فإنّي لتالف |
وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ حسن الشعر والبلاغة.
ومن شعره أيضا رحمه الله تعالى : [الكامل]
إنّ الّذي أصبحت طوع يمينه |
|
إن لم يكن قمرا فليس بدونه |
ذلّي له في الحبّ من سلطانه |
|
وسقام جسمي من سقام جفونه |
وله شعر كثير ، ومولده في ذي القعدة ليلة الثلاثاء لتسع بقين منه سنة ٣٥١ ، وتولى القضاء بمدينة بلنسية في دولة محمد المهدي المرواني ، وقتله البربر يوم فتح قرطبة يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة ٤٠٣ ، وبقي في داره ثلاثة أيام ، ودفن متغيرا من غير غسل ولا كفن ولا صلاة ، رحمه الله تعالى!.
وروي عنه أنه قال : تعلقت بأستار الكعبة ، وسألت الله تعالى الشهادة ، ثم انحرفت وفكرت في هول القتل ، فندمت وهممت أن أرجع فأستقيل الله سبحانه وتعالى فاستحييت.
وأخبر من رآه بين القتلى ودنا منه فسمعه يقول بصوت ضعيف : لا يكلم أحد في سبيل الله ، والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما (٢) اللون لون الدم والريح ريح المسك ، كأنه يعيد على نفسه الحديث الوارد في ذلك ، قال : ثم قضى على إثر ذلك.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
وقد ساق في المطمح حكايته فقال : كان حافظا عالما كلفا بالرواية ، رحل في طلبها ،
__________________
(١) على وجل : على خوف.
(٢) يثعب : مضارع : ثعب الدم والماء ونحوهما ـ من باب منع وفتح ـ إذا سال وانفجر ، وهو بالعين المهملة.