نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

يقال : إن عمره ستون سنة ، منها عشرون في بلده إشبيلية ، وعشرون في إفريقية عند ملوكها الصّنهاجيين ، وعشرون في مصر محبوسا في خزانة الكتب ، وكان وجّهه صاحب المهدية إلى ملك مصر فسجن بها طول تلك المدة في خزانة الكتب ، فخرج في فنون العلم إماما ، وأمتن علومه الفلسفة والطب والتلحين ، وله في ذلك تواليف تشهد بفضله ومعرفته ، وكان يكنى بالأديب الحكيم ، وهو الذي لحن الأغاني الإفريقية.

قال ابن سعيد : وإليه تنسب إلى الآن ، وذكره العماد في «الخريدة» وله كتاب «الحديقة» على أسلوب «يتيمة الثعالبي» (١) وتوفي سنة ٥٢٠ ، وقيل : سنة ٥٢٨ ، بالمهدية ، وقيل : مستهل السنة بعدها ، ودفن بها.

وله فيمن اسمه واصل : [الكامل]

يا هاجرا سمّوه عمدا واصلا

وبضدّها تتبيّن الأشياء

ألغيتني حتّى كأنّك واصل

وكأنّني من طول هجري الرّاء

وقوله ، وهو من بدائعه : [الكامل]

لا غرو أن سبقت لهاك مدائحي

وتدفّقت جدواك ملء إنائها

يكسى القضيب ولم يحن إثماره

وتطقطق الورقاء قبل غنائها (٢)

وقال في الأفضل : [الكامل]

تردي بكلّ فتى إذا شهد الوغى

نثر الرّماح على الدّروب كعوبا(٣)

قد لوّحته يد الهواجر فاغتدى

مثل القناة قضافة وشحوبا(٤)

تخذوا القنا أشطانهم واستنبطوا

في كلّ قلب بالطّعان قليبا(٥)

ومنها : [الكامل]

تعطي الّذي أعطتكه سمر القنا

أبدا فتغدو سالبا مسلوبا

__________________

(١) في ب ، ه : يتيمة الدهر للثعالبي.

(٢) في ب ، ه : وتطوق الورقاء قبل غنائها. والورقاء : الحمامة التي يميل لونها إلى الخضرة. وتطقطق : تصوت.

(٣) ردى يردي رديا ورديانا الفرس : ضرب الأرض بحوافره في سيره.

(٤) الهواجر : جمع هاجرة ، وهي شدة الحر وسط النهار. والقضافة : النحافة والنحول.

(٥) القليب : البئر. والأشطان : الحبال.

٢٦١

ومنها :

وأنا الغريب مكانه وبيانه

فاجعل صنيعك في الغريب غريبا

وله : [الكامل]

ومهفهف شربت محاسن وجهه

ما مجّه في الكاس من إبريقه(١)

ففعالها من مقلتيه ، ولونها

من وجنتيه ، وطعمها من ريقه

أخذه من ابن حيّوس ، وقصر عنه ، في قوله : [الكامل]

ومهفهف يغني بلحظ جفونه

عن كاسه الملأى وعن إبريقه

فعل المدام ولونها ومذاقها

في مقلتيه ووجنتيه وريقه

ولأبي الصلت فيمن اسمه محسن : [مجزوء الخفيف]

أيّها الظّالم المسي

ء مدى دهره بنا

ما لهم أخطئوا الصوا

ب فسمّوك محسنا

وله في لابس قرمزية حمراء : [المنسرح]

أقبل يسعى أبو الفوارس في

مرأى عجيب ومنظر أنق

أقبل في قرمزيّة عجب

قد صبغت لون خدّه الشّرق

كأنّما جيده وغرّته

من دونها إذ بدون في نسق

عمود فجر من فوقه قمر

دارت به قطعة من الشّفق

وله في ثقيل وقد أجاد (٢) : [الخفيف]

لي جليس عجبت كيف استطاعت

هذه الأرض والجبال تقلّه

أنا أرعاه مكرها وبقلبي

منه ما يقلق الجبال أقلّه(٣)

فهو مثل المشيب أكره مرآ

ه ولكن أصونه وأجلّه (٤)

أخذه من قول أبي الحسن جعفر بن الحاج الميورقي (٥) ، وهما في عصر واحد : [الكامل]

__________________

(١) المهفهف : الضامر البطن ، الدقيق الخصر.

(٢) وقد أجاء : غير موجودة في ب ، ه.

(٣) في ه : ما يتلف الجبال أقله.

(٤) أجلّه : أعظمه وأحترمه.

(٥) في ب : اللورقي.

٢٦٢

لي صاحب عميت عليّ شؤونه

حركاته مجهولة وسكونه

يرتاب بالأمر الجليّ توهّما

فإذا تيقّن نازعته ظنونه

إنّي لأهواه على شرقي به

كالشّيب تكرهه وأنت تصونه

وأوصى أن يكتب على قبره أبو الصلت (١) المذكور مما نظمه قبل (٢) موته : [الطويل]

سكنتك يا دار الفناء مصدّقا

بأنّي إلى دار البقاء أصير

وأعظم ما في الأمر أنّي صائر

إلى عادل في الحكم ليس يجور

فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها

وزادي قليل والذنوب كثير

فإن أك مجزيّا بذنبي فإنّني

بشرّ عقاب المذنبين جدير

وإن يك عفو ثمّ عنّى ورحمة

فثمّ نعيم دائم وسرور

وله أيضا : [الطويل]

إذا كان أصلي من تراب فكلّها

بلادي ، وكلّ العالمين أقاربي

ولا بدّ لي أن أسأل العيس حاجة

تشقّ على شمّ الذّرا والغوارب

وقال : [الكامل]

دبّ العذار بخدّه ثمّ انثنى

عن لثم مبسمه البرود الأشنب

لا غرو أن خشي الرّدى في لثمه

فالرّيق سمّ قاتل للعقرب

وقد ذكروا أن من خواصّ ريق الإنسان أنه يقتل العقرب ، وهو مجرب.

وقال : [السريع]

لا تدعني ولتدع من شئته

إليك من عجم ومن عرب

فنحن أكّالون للسّحت في

ذراك سمّاعون للكذب (٣)

وقال : [الكامل]

لا تسألنّي عن صنيع جفونها

يوم الوداع وسل بذلك من نجا

لو كنت أملك خدّها للثمته

حتّى أعيد به الشّقيق بنفسجا(٤)

__________________

(١) في ه : وأوصى أبو الصلت المذكور أن يكتب على قبره ..

(٢) في ب : قبيل موته.

(٣) السحت : الحرام.

(٤) الشقيق : زهر أحمر ، والبنفسج أزرق اللون.

٢٦٣

أو كنت أهجع لاحتضنت خيالها

ومنعت ضوء الصّبح أن يتبلّجا(١)

وبثثت في الظّلماء كحل جفونها

وعقدت هاتيك الذّوائب بالدّجا

وقال مهنّئا بمولود : [السريع]

يلوح في المهد على وجهه

تجهّم البأس وبشرى النّدى

والشّمس والبدر إذا استجمعا

لم يلبثا أن يلدا فرقدا

فابق له حتّى ترى نجله

وإن عرا خطب فنحن الفدا

قال ابن سعيد : وهذا البيت الأخير من أثقل الشعر يتطير من سماعه ، وتركه أولى وقال رحمه الله تعالى في الرصد : [البسيط]

فذا غدير ، وذا روض ، وذا جبل ،

فالضّبّ والنّون والملّاح والحادي

٥٩ ـ ومنهم الفقيه أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول السّرقسطي.

ذكره العماد الأصبهاني في «الخريدة» وذكره السمعاني في الذيل ، وأنه دخل بغداد في حدود سنة ست عشرة وخمسمائة.

ومن شعره : [الطويل]

أيا شمس إنّي إن أتتك مدائحي

وهنّ لآل نظّمت وقلائد

فلست بمن يبغي على الشّعر رشوة

أبى ذاك لي جد كريم ووالد

وأنّي من قوم قديما ومحدثا

تباع عليهم بالألوف القصائد

٦٠ ـ ومنهم الفقيه المقرئ أبو عامر التياري(٢).

من رجال «الذخيرة» رحل إلى المشرق ، وقرأ على أبي جعفر الديباجي كتابه في العروض وسائر كتبه ، ولقي شيخ القيروان في العربية ابن القزاز وأديبها الحصري.

وأخبر عن نفسه أنه كان بين يديه تلميذ له وسيم ، فمر به أبو جعفر التجاني بسحاءة (٣) كتب له فيها وخلاها بين يديه ، وهو قد غلب النوم عليه ، فقال : [مجزوء الكامل]

يا نائما متعمّدا

إبصار طيف حبيبه

__________________

(١) تبلج الصبح : أشرق وأنار.

(٢) في ج : الباري. وفي ه : المتباري. وفي فهرست الذخيرة : البيماري.

(٣) السحاءة : أراد بها ورقة رقيقة.

٢٦٤

هو جوهر فاثقبه إنّ

الطّيب في مثقوبه

أو أركبنّي ظهره

إن لم تقل بركوبه

فلما قرأها علم أنها للتّجاني ، فكتب تحتها : [مجزوء الكامل]

يا طالبا أضحى حجا

ب دون ما مطلوبه

لو لم يكن في ذاك إث

م لم أكن أسخو به

إنّي أغار عليه من

أثوابه ورقيبه

وأنشد يوما في حلقته لابن الرومي في خبّاز : [البسيط]

إن أنس لا أنس خبّازا مررت به

يدحو الرّقاقة وشك اللّمح بالبصر

ما بين رؤيتها في كفّه كرة

وبين رؤيتها قوراء كالقمر(١)

إلّا بمقدار ما تنداح دائرة

في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر(٢)

 فقال بعض تلامذته : أما إنه لا يقدر على الزيادة على هذا ، فقال : [البسيط]

فكاد يضرط إعجابا برؤيتها

ومن رأى مثل ما أبصرت منه خري

فضحك من حضر ، وقال : البيت لائق بالقطعة ، لو لا ما فيه من ذكر الرجيع ، فقال :

إن كان بيتي هذا ليس يعجبكم

فعجّلوا محوه أو فالعقوه طري

٦١ ـ ومنهم الأديب الطبيب أبو الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي.

مطبوع في الشعر والتوشيح ، قال ابن سعيد : اجتمعت به في القاهرة مرارا بمجلس الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور بن جلدك وفي غيره ، وتوفي في مارستان القاهرة.

ومن شعره : [الكامل]

أمّا الغراب فإنّه سبب النّوى

لا ريب فيه وللنّوى أسباب

يدعو الغراب وبعد ذاك يجيبه

جمل وتعوي بعد ذاك ذئاب

لا تكذبنّ فهذه أسبابه

لكنّ منها بدأة وجواب

٦٢ ـ ومنهم الإمام المحدث الحافظ جمال الدين أبو بكر محمد بن يوسف بن موسى ، الأندلسي ، المعروف بابن مسدي.

__________________

(١) قوراء : مستديرة.

(٢) تنداح : تتسع.

٢٦٥

وهو من الأئمة المشهورين بالمشرق والمغرب ، قال رحمه الله تعالى : أنشدني رئيس الأندلس وأديبها أبو الحسن سهل بن مالك الأزدي الغرناطي لنفسه سنة ٦٣٧ في شوّال بداره بغرناطة (١) : [البسيط]

منغّص العيش لا يأوي إلى دعة

من كان ذا بلد أو كان ذا ولد

والسّاكن النّفس من لم ترض همّته

سكنى مكان ولم يسكن إلى أحد

٦٣ ـ ومنهم الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتّوح بن عبد الله الأزدي الحميدي ، نسبة لجده حميد الأندلسي (٢).

ولد أبوه بقرطبة ، وولد هو بالجزيرة بليدة بالأندلس ، قبل العشرين وأربعمائة ، وكل يحمل على الكتف للسماع سنة ٤٢٥ ، فأول ما سمع من الفقيه أبي القاسم أصبغ ، قال : وكنت أفصح من يقرأ عليه ، وكان قد لقي ابن أبي زيد وقرأ عليه وتفقه ، وروى عنه رسالته ومختصر المدوّنة ، ورحل سنة ٤٤٨ ، وقدم مصر وسمع بها من الضّرّاب والقضاعي (٣) وغير واحد ، وكان سمع بالأندلس من ابن عبد البر وابن حزم ولازمه وقرأ عليه مصنفاته وأكثر من الأخذ عنه ، وشهر بصحبته وصار على مذهبه إلا أنه لم يكن يتظاهر به ، وسمع بدمشق وغيرها ، وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عنه أكثر مصنفاته ، وسمع بمكة من الزنجاني ، وأقام بواسط مدّة بعد خروجه من بغداد ، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها وكتب بها كثيرا من الحديث والأدب وسائر الفنون ، وصنف مصنفات كثيرة ، وعلق فوائد ، وخرج تخاريج للخطيب ولغيره ، وروى عنه أبو بكر الخطيب أكثر مصنفاته وابن ماكولا ، وكان إماما من أئمة المسلمين في حفظه ومعرفته وإتقانه وثقته وصدقه ونبله وديانته وورعه ونزاهته ، حتى قال بعض الأكابر ممن لقي الأئمة : لم تر عيناي مثل أبي عبد الله الحميدي في فضله ونبله ونزاهة نفسه وغزار علمه وحرصه على نشر العلم وبثه في أهله ، وكان ورعا ثقة إماما في علم الحديث وعلله ومعرفة متونه ورواته ، محققا في علم الأصول على مذهب أصحاب الحديث ، متبحّرا في علم الأدب والعربية ، ومن تصانيفه كتاب «جذوة المقتبس ، في أخبار علماء الأندلس» وكتاب «تاريخ الإسلام» وكتاب «من ادعى الأمان ، من أهل الإيمان» وكتاب «الذهب المسبوك ، في وعظ

__________________

(١) كان من أعيان مصره ، تفننا في العلوم ، وبراعة في المنثور والمنظوم ، محدثا ضابطا عدلا ، ثقة ، ثبتا ، مجوّدا للقرآن ، متقدما في العربية ، وافر النصيب من الفقه والأصول ، كاتبا ، مجيد النظم (بغية الوعاة ج ١ ص ٦٠٥) ولقد ورد التبيان في البغية.

(٢) انظر في ترجمته : شذرات الذهب ج ٣ ص ٣٩٢. وتذكرة الحفاظ : ١٢١٨ ، والصلة ص ٥٣٠.

(٣) في ج : القراعي.

٢٦٦

الملوك» وكتاب «تسهيل السبيل ، إلى علم الترسيل» وكتاب «مخاطبات الأصدقاء ، في المكاتبات واللقاء» وكتاب «ما جاء من النصوص والأخبار ، في حفظ الجار» وكتاب «ذم النميمة» (١) وكتاب «الأماني الصادقة» وغير ذلك من المصنفات ، و «الأشعار الحسان ، في المواعظ والأمثال» وكان من كثرة اجتهاده ينسخ بالليل في الحر ويجلس في إجانة ماء يتبرد به ، ومن مشهور مصنفاته كتاب «الجمع بين الصحيحين».

وذكره الحجاري في المسهب وقال عنه : إنه أظهر العلم في طرق ميورقة (٢) بعد ما كانت عطلاء من هذا الشأن ، وترك لها فخرا تباري به خواص البلدان ، وهو من علماء أئمة الحديث ، ولازم أبا محمد بن حزم من الأندلس واستفاد منه ، ورحل إلى بغداد ، وبها ألف كتاب الجذوة ، ومن شعره قوله رضي الله تعالى عنه. [الطويل]

ألفت النّوى حتّى أنست بوحشها

وصرت بها لا في الصّبابة مولعا

فلم أحص كم رافقته من مرافق

ولم أحص كم خيّمت في الأرض موضعا

ومن بعد جوب الأرض شرقا ومغربا

فلا بدّ لي من أن أوافي مصرعا(٣)

وقال رحمه الله تعالى : [الوافر]

لقاء النّاس ليس يفيد شيئا

سوى الهذيان من قيل وقال

فأقلل من لقاء النّاس إلّا

لأخذ العلم أو إصلاح حال

وذكره ابن بشكوال في الصّلة ، وتوفي ببغداد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، رحمه الله تعالى!.

قال ابن ماكولا : أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي ، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ ، لم أر مثله في عفّته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم ، وكان أوصى مظفرا ابن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند قبر بشر الحافي ، فخالف وصيته ودفنه في مقبرة باب أبرز (٤) ، فلما كانت مدة رآه مظفر في النوم كأنه يعاتبه على مخالفته ، فنقل في صفر سنة ٤٩١ إلى مقبرة باب حرب ، ودفن عند قبر بشر ، وكان كفنه جديدا وبدنه طريا تفوح منه رائحة الطيب ، ووقف كتبه على أهل العلم ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) في ب ، ه : وكتاب النميمة.

(٢) في ب ، ه : إنه طرق ميورقة بعد ما كانت عطلا من هذا الشأن.

(٣) جوب الأرض : قطعها.

(٤) في ج : باب البزر.

٢٦٧

ومن مناقبه أنه قال لمن دخل عليه فوجده مكشوف الفخذ : تعديت بعين إلى موضع لم ينظره أحد منذ عقلت ، انتهى.

ومن شعر الحميدي أيضا قوله : [الوافر]

طريق الزّهد أفضل ما طريق

وتقوى الله تالية الحقوق

فثق بالله يكفك ، واستعنه

يعنك ، ودع بنيّات الطّريق

وقوله : [الوافر]

كلام الله عزّ وجلّ قولي

وما صحّت به الآثار ديني

وما اتّفق الجميع عليه بدءا

وعودا فهو عن حقّ مبين

فدع ما صدّ عن هذا وهذا

تكن منها على عين اليقين(١)

٦٤ ـ ومنهم الكمال أبو العباس أحمد الشريشي (٢) ، وهو أحمد بن عبد المؤمن بن موسى بن عيسى بن عبد المؤمن ، القيسي ، من أهل شريش ، روى عن أبي الحسن بن لبّال (٣) وأبي بكر بن أزهر وأبي عبد الله بن زرقون وأبي الحسين بن جبير وغيرهم ، وأقرأ العربية ، وله تواليف أفاد بما حشد (٤) فيها : منها شرح الإيضاح للفارسي ، والجمل للزجاج ، وله في العروض تواليف ، وجمع مشاهير قصائد العرب ، واختصر نوادر أبي علي القالي.

قال ابن الأبار : لقيته بدار شيخنا أبي الحسن بن حريق من بلنسية ، قبل توجهي إلى إشبيلية في سنة ست عشرة وستمائة ، وهو إذ ذاك يقرأ عليه شرحه للمقامات ، فسمعت عليه بعضه ، وأجاز لي سائره مع رواياته وتواليفه ، وأخذ عنه أصحابنا ، ثم لقيته ثانية مقدمه من مرسية ، انتهى.

ومن بديع نظمه وهو بمصر يتشوق إلى الشام : [البسيط]

يا جيرة الشّام هل من نحوكم خبر

فإنّ قلبي بنار الشّوق يستعر(٥)

بعدت عنكم فلا والله بعدكم

ما لذّ للعين لا نوم ولا سهر

__________________

(١) في ب ، ه : فدع ما صدّ عن هذي وخذها.

(٢) انظر ترجمته في بغية الوعاة ج ١ ص ٣٣١. وقال في البغية : توفي سنة ٧٠٢ ه‍.

(٣) في ج : ليال.

(٤) في ب ، ه : بما حشر فيها.

(٥) يستعر : يشتعل.

٢٦٨

إذا تذكّرت أوقاتا نأت ومضت

بقربكم كادت الأحشاء تنفطر

كأنّني لم أكن بالنّيربين ضحى

والغيم يبكي ومنه يضحك الزّهر(١)

والورق تنشد ، والأغصان راقصة

والدّوح يطرب بالتّصفيق والنّهر(٢)

والسّفح أين عشيّاتي الّتي سلفت

لي منه فهي لعمري عندي العمر

سقاك يا سفح سفح الدّمع منهملا

وقلّ ذاك له إن أعوز المطر

وله رحمة الله تعالى شروح لمقامات الحريري : كبير ، ووسط ، وصغير ، وفي الكبير من الآداب ما لا كفاء له ، وكان رحمه الله تعالى معجبا بالشام :

وقال ابن الأبار عندما ذكره : إنه شرح مقامات الحريري في ثلاث نسخ : كبراها الأدبية ، ووسطاها اللغوية ، وصغراها المختصرة ، انتهى.

وتوفي بشريش بلده سنة تسع عشرة وستمائة ، رحمه الله تعالى!.

٦٥ ـ ومنهم أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد ، الأزدي ، القرطبي ، الملقب بضياء الدين.

أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث النحو (٣) واللغة وغير ذلك.

قال القاضي الشمس ابن خلكان : إنه رحل من الأندلس في عنفوان شبابه وقدم مصر فسمع بالإسكندرية أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي ، وبمصر أبا صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المدني المصري وأبا طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المعروف بالسّلفي وغيرهم ، ودخل بغداد سنة ٥١٧ ، وقرأ بها القرآن الكريم على الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي المقري المعروف بابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط ، وسمع عليه كتبا كثيرة منها كتاب سيبويه ، وقرأ الحديث على أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزار المعروف بقاضي المارستان وأبي القاسم بن الحصين وأبي العز وغيرهم ، وكان ديّنا ورعا عليه وقار وسكينة ، وكان ثقة صدوقا ثبتا نبيلا قليل الكلام كثير الخير مفيدا ، أقام بدمشق مدة ، واستوطن الموصل ، ورحل منها إلى أصبهان ، ثم عاد إلى الموصل ، وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر ، وذكره الحافظ

__________________

(١) النيربان : مثنى نيرب ، وهي قرية قرب دمشق.

(٢) الورق : جمع ورقاء وهي الحمامة التي يميل لونها إلى الاخضرار.

(٣) في ب : والنحو.

٢٦٩

ابن السمعاني في كتاب الذيل ، وقال : إنه اجتمع به بدمشق ، وسمع عنه مشيخة أبي عبد الله الرازي ، وانتخب عليه أجزاء ، وسأله عن مولده فقال : ولدت سنة ٤٨٦ في مدينة قرطبة ، ورأيت في بعض الكتب أن مولده سنة ٤٨٧ ، والأول أصح ، وكان شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن (١) يوسف بن رافع (٢) بن تميم المعروف بابن شداد قاضي حلب رحمه الله تعالى يفتخر بروايته وقراءته عليه ، وقال : كنا نقرأ عليه بالموصل ، ونأخذ عنه ، وكنا نرى رجلا يأتي إليه كل يوم فيسلم عليه وهو قائم ، ثم يمد يده إلى الشيخ بشيء ملفوف ، فيأخذه الشيخ من يده ، ولا نعلم ما هو ، ويتركه ذلك الرجل ويذهب ، ثم تقفينا ذلك فعلمنا أنها دجاجة مسموطة كانت ترسم (٣) للشيخ في كل يوم ، يبتاعها له ذلك الرجل ويسمطها ويحضرها ، وإذا دخل الشيخ إلى منزله تولى طبخها بيده.

وذكر في كتاب «دلائل الأحكام» أنه لازم القراءة عليه إحدى عشرة سنة ، آخرها سنة ٥٦٧.

وكان الشيخ أبو بكر القرطبي المذكور كثيرا ما ينشد مسندا إلى أبي الخير الكاتب الواسطي : [الوافر]

جرى قلم القضاء بما يكون

فسيّان التّحرّك والسّكون

جنون منك أن تسعى لرزق

ويرزق في غشاوته الجنين

وتوفي القرطبي المذكور بالموصل يوم عيد الفطر سنة ٥٦٧ ، رحمه الله تعالى!.

انتهى كلام ابن خلكان ببعض اختصار.

٦٦ ـ ومنهم الوزير أبو عبد الله محمد ، ابن الشيخ الأجل أبي الحسن بن عبد ربه ، وهو من حفداء صاحب كتاب «العقد» المشهور.

حدث الشيخ الأجل أبو عبد الله محمد بن علي اليحصبي القرموني (٤) رفيقه قال : اصطحبت معه في المركب من المغرب إلى الإسكندرية ، فلما قربنا منها هاج علينا البحر ،

__________________

(١) أبو المحاسن : غير موجودة في ب.

(٢) هو يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد بن عتاب بن شداد أبو المحاسن ، وأبو العز الأسدي الحلبي ، قاضي القضاة إمام علامة ولد سنة ٥٣٩ ونشأ بالموصل ، وحفظ القرآن ولزم يحيى بن سعدون القرطبي ، فأحكم عليه القراءات والعربية (انظر غاية النهاية ج ٢ ص ٣٩٥).

(٣) في ابن خلكان : برسم الشيخ.

(٤) في بعض النسخ : القرومي.

٢٧٠

وأشفينا على الغرق ، فلاح لنا ونحن على هذه الحال منار الإسكندرية ، فسررنا برؤيته ، وطمعنا في السلامة ، فقال لي : لا بد أن أعمل في المنار شيئا ، فقلت له : أعلى مثل هذه الحال التي نحن فيها؟ فقال : نعم ، فقلت : فاصنع ، فأطرق ثم عمل بديها : [البسيط]

لله درّ منار اسكندريّة كم

يسمو إليه على بعد من الحدق

من شامخ الأنف في عرنينه شمم

كأنّه باهت في دارة الأفق(١)

لله درّ منار اسكندريّة كم

يسمو إليه على بعد من الحدق

يكسّر الموج منه جانبي رجل

مشمّر الذّيل لا يخشى من الغرق

لا يبرح الدّهر من ورد على سفن

ما بين مصطبح منها ومغتبق

للمنشآت الجواري عند رؤيته

كموقع النّوم من أجفان ذي أرق

وتقدمت ترجمة الكاتب أبي عبد الله بن عبد ربه ، وأظنه هذا ، فليتنبه له ، بل أعتقد أنه هو لا غيره ، والله تعالى أعلم.

٦٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن الصفار ، القرطبي (٢).

قال في القدح المعلى : بيتهم مشهور بقرطبة ، لم يزل يتوارث في العلم والجاه وعلو المرتبة ، ونشأ أبو عبد الله هذا حافظا للآداب ، إماما في علم الحساب ، مع أنه كان أعمى مقعدا مشوه الخلقة ، ولكنه إذا نطق علم كل منصف حقه ، ومن عجائبه أنه سافر على تلك الحالة ، حتى غدت بغداد له هالة (٣) ، اجتمعت به بحضرة تونس فرأيت بحرا زاخرا ، وروضا ناضرا ، إلا أنه حاطب ليل (٤) ، وساحب ذيل ، لا يبالي ما أورده ، ولا يلتفت إلى ما أنشده ، جامعا بين السمين والغث ، حافظا للمتين والرث ، وكان يقرئ الأدب بمراكش وفاس وتونس وغيرها.

ومن مشهور حكاياته أنه لما قال أبو زيد الفازازي (٥) في أبي علي (٦) المستنصر قصيدته التي مطلعها : [البسيط]

الحزم والعزم منسوبان للعرب

__________________

(١) العرنين : الأنف.

(٢) انظر ترجمته في القدح المعلى ص ٢٠٣ ـ ٢٠٦.

(٣) الهالة : دارة القمر. وقد شبه صاحب القدح الصفار بالقمر وبغداد بهالته.

(٤) حاطب ليل : أي لا يبالي بما يعجبه ولا يدرك الغث من السمين.

(٥) في القدح : الفزاري.

(٦) في ب : أبي العلاء.

٢٧١

عارضه بقصيدة ، ثم قال فيه وفي ابن أخيه يحيى بن الناصر الذي نازعه في ذلك الأوان (١) : [البسيط]

وإن ينازعك في المنصور ذو نسب

فنجل نوح ثوى في قسمة العطب(٢)

وإن يقل أنا عمّ فالجواب له

عمّ النّبيّ بلا شكّ أبو لهب

وشاعت القصيدة فبلغت أبا العلاء ، فحرض على قتله ، وسلمه الله تعالى منه ، ومات سنة ٦٣٩.

ومن شعر قوله : [السريع]

لا تحسب النّاس سواء متى

تشابهوا فالنّاس أطوار(٣)

وانظر إلى الأحجار ، في بعضها

ماء ، وبعض ضمنها نار(٤)

 وقوله : [المجتث]

يا طالعا في جفوني

وغائبا في ضلوعي

بالغت في السّخط ظلما

وما رحمت خضوعي

إذا نويت انقطاعا

فاحسب حساب الرّجوع(٥)

انتهى باختصار يسير.

٦٨ ـ ومنهم أبو الوليد بن الجنّان محمد بن المشرف أبي عمرو بن (٦) الكاتب أبي بكر بن العالم الجليل أبي العلاء بن الجنّان ، الكناني ، الشاطبي (٧).

قال ابن سعيد : توارثوا بشاطبة ، مراتب تحسدها النجوم الثاقبة ، وأبو الوليد أشعرهم ، وقد تجدّد به في أقطار المشرق مفخرهم ، وهو معروف هناك بفخر الدين ، ومتصدر في أئمة النحويين ، ومرتب في شعراء الملك الناصر صاحب الشام ، ومقطّعاته الغرامية قلائد أهل الغرام ، صحبته بمصر ودمشق وحلب ، وجريت معه طلق الجموح في ميادين الأدب ، وأنشدني بدمشق : [الرمل]

__________________

(١) في ب : الأوان [رداء السلطان]

(٢) في ب : قمة العطب.

(٣) في القدح المعلى : اشتبهوا فالناس أطوار.

(٤) في القدح : ماء وبعض ضمنه نار.

(٥) في القدح : فاعمل حساب الرجوع.

(٦) في ب : عمرو ابن الكاتب.

(٧) انظر ترجمته في القدح المعلى ص ٢٠٦.

٢٧٢

أنا من سكر هواهم ثمل

لا أبالي هجروا أم وصلوا

فبشعري وحديثي فيهم

زمزم الحادي وسار المثل

إن عشّاق الحمى تعرفني

والحمى يعرفني والطّلل

رحلوا عن ربع عيني فلذا

أدمعي عن مقلتي ترتحل

ما لها قد فارقت أوطانها

وهي ليست لحماهم تصل

لا تظنّوا أنّني أسلو فما

مذهبي عن حبّكم ينتقل

وقوله رحمه الله تعالى (١) : [البسيط]

بالله يا بانة الوادي إذا خطرت

تلك المعاطف حيث الشّيح والغار(٢)

فعانقيها عن الصّبّ الكئيب فما

على معانقة الأغصان إنكار

وعرّفيها بأنّي فيك مكتئب

فبعض هذي لها بالحبّ إخبار(٣)

وأنتم جيرة الجرعاء من إضم

لي في حماكم أحاديث وأسمار

وأنتم أنتم في كلّ آونة

وإنما حبّكم في الكون أطوار

ويا نسيما سرى تحدو ركائبه

لي بالغوير لبانات وأوطار

وقوله (٤) : [الخفيف]

يا رعى أنسنا بين روض

حيث ماء السّرور فيه يجول

تحسب الزهر عنده يتثنى

وتخال الغصون فيه تميل

وله : [البسيط]

هات المدام فقد ناح الحمام على

فقد الظّلام وجيش الصّبح في غلب

وأعين الزّهر من طول البكا رمدت

فكحّلتها يمين الشّمس بالذّهب

والكأس حلّتها حمراء مذهبة

لكن أزرّتها من لؤلؤ الحبب

كم قلت للأفق لمّا أن بدا صلفا

بشمسه عندما لاحت من الحجب

__________________

(١) في القدح : ص ٢٠٧.

(٢) الشيح والغار : نبتان طيبا الرائحة.

(٣) في ه ، ب : والقدح المعلى : فبعض هذا لها بالحب إخبار.

(٤) في ب : وله :

٢٧٣

إن تهت بالشّمس يا أفق السّماء فلي

شمسان وجه نديمي وابنة العنب

قم اسقنيها وثغر الصّبح مبتسم

واللّيل تبكيه عين البدر بالشّهب

والسّحب قد لبست سود الثّياب وقد

قامت لترثيه الأطيار في القضب

وله (١) : [السريع]

عليك من ذاك الحمى يا رسول

بشرى علامات الرّضا والقبول

جئت وفي عطفيك منهم شذى

يسكر من خمر هواه العذول

ومنها : [السريع]

أحبابنا ودّعتم ناظري

وأنتم بين ضلوعي نزول

حللتم قلبي وهو الّذي

يقول في دين الهوى بالحلول

أنا الّذي حدّث عن الهوى

بأنّني عن حبّكم لا أحول

فليزد العاذل في عذله

وليقل الواشي لكم ما يقول

انتهى كلام النور بن سعيد.

وقال غيره : ولد المذكور بشاطبة منتصف شوال سنة ٦١٥ ، ومات بدمشق ودفن بسفح قاسيون ، وكان عالما فاضلا ، دمث الأخلاق ، كريم الشمائل ، كثير الاحتمال ، واسع الصدر ، صحب الشيخ كمال الدين بن العديم ، وولده قاضي القضاة مجد الدين ، فاجتذبوه إليهم ، وصار حنفي المذهب ، ودرس بالمدرسة الإقبالية الحنفية بدمشق ، وله مشاركة في علوم كثيرة ، وله يد في النظم ، ومن شعره (٢) : [الكامل]

لله قوم يعشقون ذوي اللّحى

لا يسألون عن السّواد المقبل(٣)

وبمهجتي قوم وإنّي منهم

جبلوا على حبّ الطّراز الأوّل

وله أيضا : [البسيط]

قم اسقنيها وليل الهمّ منهزم

والصّبح أعلامه محمرّة العذب

__________________

(١) القدح المعلى ص ٢٠٨ وقد وردت فيه أبيات زائدة عما في النفح.

(٢) في ب ، ه : ومنه قوله :

(٣) الشطر الثاني من هذا البيت وما بعده مأخوذ من قول حسان بن ثابت :

يغشون حتى ما تهر كلابهم

لا يسألون عن السواد المقبل

بيض الوجوه كريمة أحاسبهم

شم الأنوف من الطراز الأول

٢٧٤

والسّحب قد نثرت في الأرض لؤلؤها

تضمّه الشّمس في ثوب من الذّهب

وقد تقدم عن ابن سعيد له ما يقارب هذا.

وله ـ رحمه الله تعالى! ـ في كاتب : [الطويل]

وبي كاتب أضمرت في القلب حبّه

مخافة حسّادي عليه وعذّالي

له صنعة في خطّ لام عذاره

ولكن سها إذ نقّط اللّام بالخال

٦٩ ـ ومنهم أبو محمد القرطبي (١) :

قال ابن سعيد : لقيته بالقاهرة ، وكأنه لا خبر عنده من الآخرة ، وقد طال عمره في أكل الأعراض ، وفساد الأغراض ، ومما بقي في أذني من شعره قوله : [الخفيف]

رحم الله من لقيت قديما

فلقد كان بي رؤوفا رحيما

أتمنّى لقاء حرّ وقد أع

وز بختي كما عدمت الكريما

وتوفي بالقاهرة سنة ٦٤٣ ، انتهى.

٧٠ ـ ومنهم علي بن أحمد (٢) ، القادسي ، الكناني

قال ابن سعيد : لقيته ببيت المقدس على زي الفقراء ، وحصلت منه هذه الأبيات ، وندمت بعد ذلك على ما فات ، وهي : [المجتث]

ذاك العذار المطلّ

دمي عليه يطلّ

كأنّما الخدّ ماء

وقد جرى فيه ظلّ

عقود صبري عليه

مذ حلّ قلبي تحلّ

جرت دموعي عليه

فقلت آس وطلّ

٧١ ـ ومنهم أبو عبد الله بن العطار ، القرطبي (٣).

قال ابن سعيد : هو حلو المنازع ، ظريف المقاطع والمطالع ، مطبوع النوادر ، موصوف بالأديب الشاعر ، مازجته بالإسكندرية ، وبهذه الحضرة العلية ، وما زال يدين بالانفراد ،

__________________

(١) ترجمته في القدح المعلى ص ٢١٢ تحت عنوان : أبو المحامد. القرطبي. وقال عن ابن سعيد : كان يلقب بأبي البغل. (القدح المعلى ص ٢١٢).

(٢) انظر القدح المعلى ص ٢١٣.

(٣) انظر القدح المعلى ص ٢١٥.

٢٧٥

والتجول في البلاد ، حتى قضى مناه ، وألقى بهذه المدينة عصاه ، لا يخطر الهم له ببال ، ولا يبيت إلا على وعد من وصال ، وله حين سمع ما ارتجلته في السكين بالإسكندرية حين داعبني باختلاسها القاضي زين القضاة بن الرّيغي ، وقال : ما لي إليه سبيل ، حتى يحضر مصري (١) نبيل : [الطويل]

أيا سارقا ملكا مصونا ولم يجب

على يده قطع وفيه نصاب

ستندبه الأقلام عند عثارها

ويبكيه إن يعد الصّواب كتاب(٢)

فقال : [الطويل]

أحاجيك ما شيء إذا ما سرقته

وفيه نصاب ليس يلزمك القطع

على أنّ فيه القطع والحدّ ثابت

ولا حدّ فيه ، هكذا حكم الشّرع

انتهى كلام ابن سعيد من كتابه «القدح المعلى» فيما أظن.

ويعني والله سبحانه وتعالى أعلم بقوله «وبهذه الحضرة العلية» حضرة تونس المحروسة ، فإنها كانت محط رحال الأفاضل ، من الأواخر والأوائل ، حتى إن قاضي القضاة ابن خلدون أقام بها مدة ، ومنها ارتحل إلى مصر ، وكذلك الخطيب الجليل سيدي أبو عبد الله بن مرزوق رحمه الله تعالى ، ومنها خاطب الوزير لسان الدين بن الخطيب وسلطانه في الشفاعة له عند سلطان المغرب ، فكتب لسان الدين عن سلطانه في ذلك ما نصه : المقام الذي نؤكد إليه ببر سلفه الوداد ، ونغري بتخليد فخره وأمره القلم والمداد ، ونصل به الاستظهار على عدو الله تعالى والاستعداد (٣) ، ونخطب له من الله بهزّ أعطافه للخير والتوفيق والسداد ، والإعانة منه والإمداد ، مقام محل أخينا الذي اشتهر فضله ودينه ، ووضح سعده متألقة براهينه ، وحياه الصنع الجميل وبيّاه مشرقا جبينه ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ، أبقاه الله يرعى الذّمم ، ويسلك من الفضائل المنهج الأمم (٤) ، ويغلي البضائع النافقة عند الله تعالى ويعلي الهمم ، معظم قدره ، وملتزم بره ، الحريص على توفير أجره ، وتخليد فخره ، فلان ، أما بعد حمد الله تعالى ناصر الإمرة المطاعة ، المحافظة على السنة والجماعة ، وحافظها من الإضاعة ، إلى قيام الساعة ، الذي جعل المودة فيه أنفع الوسائل النفّاعة ، والصلاة والسلام على

__________________

(١) في القدح : ما إليها سبيل ، حتى يحضر لك فيها معنى نبيل.

(٢) عثارها : العثرة : الزلّة.

(٣) في ب ، ه : والاعتداد.

(٤) الأمم : القريب.

٢٧٦

سيدنا ومولانا محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة على العموم والإشاعة ، متمم مكارم الأخلاق من الفضل والبذل والحياء والشجاعة ، والرضا عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة ، وزرعوا الخير في العاجلة ففازوا في الآجلة بفائدة (١) تلك الزراعة ، والدعاء لمقامكم الأعلى بصنع يروي فيه عن الأشمط الباتر خبر النصر المتواتر لسان البراعة ، وتأييد لا ترضى فيه القنا بمقام تلك (٢) القناعة ، فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لثنائكم العاطر بتخليد المفاخر منشور الإذاعة ، في أيدي النواسم الضّوّاعة ، من حمراء غرناطة ـ حرسها الله تعالى! ـ عن خير هامي السحاب ، وبشر مفتح الأبواب ، وعز للإسلام ، ببركة الاعتداد بملككم المنصور الأعلام ، مقتبل الشباب ، ويمن ضافي الجلباب ، والحمد لله على تضافر الأيدي في ذاته وتوفر الأسباب ، وجانبكم الرفيع الأمل للمنتاب ، إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب (٣) ، ومطمح الوسائل المطرزة المسائل بتصحيح الود اللّباب ، وإلى هذا وصل الله تعالى سعيكم بسوابغ نعمه (٤) وآلائه دائمة الانسكاب ، وجعل ما عجل لكم من نعمه وآلائه (٥) كفيلة بالزلفى وحسن المتاب (٦) ، وألهمكم تقييد شواردها بالشكر قولا وعملا فالشكر مستدعي المزيد كما ورد (٧) في الكتاب ، فإن من المنقول الذي اشتهر ، وراق فضله وبهر ، قوله «اشفعوا تؤجروا» وما في معناه من المعتبر في الخبر وتنفيس كربة عن مسلم ، وسماع شكوى من متظلم ، ولو لا أن مقامكم السني أغنى ، لجلبنا الكثير من هذا المعنى ، ولما تحقق ما أنتم عليه من سلوك سبيل والدكم الملك الصالح ـ قدس الله تربته ، وضاعف قربته! ـ من يمن الظفر ، وسلوك سبيل (٨) الخير وإقامة رسول (٩) الدين ، والاهتداء من هديه بالنور المبين ، خفّ علينا أن نقصدكم بالشفاعات مع الساعات ، ونتّجر لكم مع الله بأنفس البضاعات ، فما أثمر من ذلك شكرنا الله تعالى عليه حقيقة وشكرناكم عليه شريعة ، وما تأخر أوسعناكم فيه عذرا يسد ذريعة ، وعلمنا أن الله تعالى

__________________

(١) في ه : بفائد.

(٢) تلك : غير موجودة في ب.

(٣) ذوات الأقتاب : أي النوق.

(٤) في ب ، ه : وإلى هذا وصل الله تعالى سوابغ نعمه وآلائه.

(٥) في ب : من نعمه كفيلة.

(٦) في ب : المآب.

(٧) إشارة إلى قوله تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).

(٨) من والدكم .. إلى سلوك سبيل : موجودة في ب ، ه.

(٩) في ب : رسوم الدين.

٢٧٧

لم يأذن في تعجيله ، وسألناه في تيسيره وتسهيله ، سواء لدينا في ذلك ما عاد ، بإعانة عامة وإمداد ، وساهم في قصد جهاد ، وما لم يعد علينا خصوصا وعلى المسلمين عموما بإعانة ولا إرفاد ، إنما علينا أن نجلب الخير الباقي والأجر الراقي إلى بابكم ، وندلّ عليه كريم جنابكم ، بمقتضى وداد ، صبحه باد ، وجميل ظن في دينكم المتين واعتقاد ، سلم محمله ومفصّله من انتقاد ، وذلك أن الشيخ الخطيب الفقيه الكبير الشهير الصدر الأوحد العلامة (١) سلالة الصالحين ، وخطيب والدكم كبير الخلفاء والسلاطين ، ويا لها من مزية دنيا ودين ، أبا عبد الله بن مرزوق جبر الله تعالى على يدكم البرة حاله ، وسنّى من مقامكم السني آماله ، جرى عليه من المحن ، وتباريح الإحن (٢) ، ما يعلم كل ذي مروءة وعقل ، واجتهاد ونقل ، أن ذلك من الجنايات على والدكم السلطان محسوب ، وإلى معقّاته منسوب ، ولو كانت ذنوبه رضوى وثبيرا (٣) ، لاستدعت إلى تعمدها عفوا كبيرا ، رعيا لذلك الإمام الصالح الذي كبّر خلفه وأحرم ، وتشهد وسلم ، وأمّن عقب دعائه ، ونصب كفه لمواهب الله تعالى وآلائه ، وأنصت لخطبته ووعظه ، وأوجب المزية لسعة حفظه وعذوبة لفظه ، فأحبط ذلك من أحبط الأعمال الصالحة ، وعطّل المتاجر الرابحة ، وأسف الملك المذكور بدم ولده ، وإحراق خزائنه وعدده ، وتغيير رسومه وحدوده وإسخاطه وإسخاط الله معبوده ، إلى أن طهر سيفكم الملك من عاره ، وأخذ منه بثاره ، وتقرب إلى الله وإلى السلف الكريم بمحو آثاره ، والحمد لله على ما خصّه من إيثاره ، وتدارك الإسلام بإقالة عثاره ، وإنه خاطبنا الآن من حضرة تونس يقرر من حاله ما يفتّ الفؤاد ، ويوجب الامتعاض له والاجتهاد (٤) ، يطلب منا الإعانة بين يديكم والإنجاد ، ويشكو العيلة والأولاد ، والغربة التي أحلّته الأقطار النازحة والبلاد ، والحوادث التي سلبته الطارف والتّلاد ، وأن نذكركم بوسيلته ، وضعف حيلته ، فبادرنا لذلك عملا بالواجب ، وسلوكا من بره ورعي حقه على السّنن اللاحب (٥) ، وإن كنا نطوقه في أمرنا عند الحادثة علينا تقصيرا ، ولا نشكر إلا الله وليا ونصيرا ، فحقه علينا أوجب ، فهو الذي لا يجحد ولا يحجب ، ولا يلتبس منه المذهب ، وكيف لا يشفع فيمن جعله السلف إلى الله تعالى شفيعا ، وأحلّه محلا منيعا رفيعا ، إلى وليه الذي جبر ملكه سريعا ، وصير جنابه بعد المحول مريعا (٦) ، وجدد رسومه

__________________

(١) في ب : الأوحد سلالة ..

(٢) في ه : ونتائج الإحن. وتباريح : جمع تبريح. والإحن : جمع إحنة وهي الحقد.

(٣) رضوى وثبير : جبلان.

(٤) الامتعاض : الحنق والغصب.

(٥) السنن اللاحب : الطريق الواضح البيّن.

(٦) المريع ، بفتح الميم وكسر الراء : الخصيب.

٢٧٨

تأصيلا لها وتفريعا ، ومثلكم من اغتنم بره في نصر مظلوم ، وسبر مكلوم ، وإعداء كرم على لوم ، وهي منا ذكرى تنفع ، وحرص على أجر من يشفع ، وإسعاف لمن سأل ما يعلى من قدركم ويرفع ، وتأدية لحق سلفكم الذي توفرت حقوقه ، وإبلاغ نصيحة دينية إلى مجدكم الذي لا يمنعه عن المجد مانع ولا يعوقه ، ومطلبه في جنب ملككم الكبير حقير ، وهو إلى ما يفتح الله تعالى به على يد صدقتكم فقير ، ومنهلكم الأروى ، وباعكم في الخير أطول وساعدكم أقوى (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧] والله عز وجل يسلك بكم المسالك التي تخلد بالجميل ذكركم ، وتعظم عند الله أجركم ، فما عند الله خير للأبرار ، والدنيا دار الغرور والآخرة دار القرار ، وهو سبحانه يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، انتهى.

والسلطان المخاطب بهذا هو أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني ، وكان ابن مرزوق غالبا على دولة السلطان أبي سالم أخي أبي فارس المذكور ، فقتله الوزير عمر بن عبد الله

الفودودي ، وتغلب على الملك ، ونصب أخا لأبي سالم معتوها ، وسجن ابن مرزوق ، ورام قتله ، فخلصه الله تعالى منه ، ثم إن السلطان أبا فارس ثار على الوزير المتغلب وقتله ، واستقل بالملك ، فخوطب في شأن ابن مرزوق بما ذكر.

رجع إلى ما كنا فيه من ذكر الراحلين من أعلام الأندلسيين إلى البلاد المشرقية المحروسة بالله سبحانه وتعالى ، فنقول :

٧٢ ـ ومنهم أبو الوليد وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر ، الأزدي ، القرطبي ، المعروف بابن الفرضي ، الحافظ المشهور (١).

كان فقيها عالما ، عارفا بعلم الحديث ورجاله ، بارعا في الأدب وغيره ، وله من التصانيف «تاريخ علماء الأندلس» ، وقفت عليه بالمغرب ، وهو بديع في بابه وهو الذي ذيل عليه ابن بشكوال بكتاب «الصلة» وله كتاب حسن في المؤتلف والمختلف وفي مشتبه النسبة ، وكتاب في أخبار شعراء الأندلس ، وغير ذلك ، ورحل من الأندلس إلى المشرق سنة ٣٨٢ ، فحج وسمع من العلماء وأخذ منهم وكتب من أماليهم ، وروى عن شيوخ عدّة من أهل المشرق.

__________________

(١) جاء في شذرات الذهب : أبو الوليد الفرضي عبد الله بن محمد بن يوسف القرطبي الحافظ ، مؤلف تاريخ الأندلس إلخ. (الشذرات ج ٣ ص ١٦٨). وانظر ترجمته في الصلة ص ٢٤٦ ، والمطمح ص ٥٧ ، ووفيات الأعيان ج ٢ ص ٢٩٠.

٢٧٩

ومن شعره : [الطويل]

أسير الخطايا عند بابك واقف

على وجل ممّا به أنت عارف(١)

يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها

ويرجوك فيها فهو راج وخائف

ومن ذا الّذي يرجى سواك ويتّقى

وما لك في فصل القضاء مخالف

فيا سيّدي لا تخزني في صحيفتي

إذا نشرت يوم الحساب الصّحائف

وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما

يصدّ ذوو القربى ويجفو المؤالف

لئن ضاق عنّي عفوك الواسع الّذي

أرجّي لإسرافي فإنّي لتالف

وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ حسن الشعر والبلاغة.

ومن شعره أيضا رحمه الله تعالى : [الكامل]

إنّ الّذي أصبحت طوع يمينه

إن لم يكن قمرا فليس بدونه

ذلّي له في الحبّ من سلطانه

وسقام جسمي من سقام جفونه

وله شعر كثير ، ومولده في ذي القعدة ليلة الثلاثاء لتسع بقين منه سنة ٣٥١ ، وتولى القضاء بمدينة بلنسية في دولة محمد المهدي المرواني ، وقتله البربر يوم فتح قرطبة يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة ٤٠٣ ، وبقي في داره ثلاثة أيام ، ودفن متغيرا من غير غسل ولا كفن ولا صلاة ، رحمه الله تعالى!.

وروي عنه أنه قال : تعلقت بأستار الكعبة ، وسألت الله تعالى الشهادة ، ثم انحرفت وفكرت في هول القتل ، فندمت وهممت أن أرجع فأستقيل الله سبحانه وتعالى فاستحييت.

وأخبر من رآه بين القتلى ودنا منه فسمعه يقول بصوت ضعيف : لا يكلم أحد في سبيل الله ، والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما (٢) اللون لون الدم والريح ريح المسك ، كأنه يعيد على نفسه الحديث الوارد في ذلك ، قال : ثم قضى على إثر ذلك.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.

وقد ساق في المطمح حكايته فقال : كان حافظا عالما كلفا بالرواية ، رحل في طلبها ،

__________________

(١) على وجل : على خوف.

(٢) يثعب : مضارع : ثعب الدم والماء ونحوهما ـ من باب منع وفتح ـ إذا سال وانفجر ، وهو بالعين المهملة.

٢٨٠