نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

فأردت قطعها ، وترك المراجعة عنها ، فقالت لي نفسي : قد عرفت مكانها ، بالله لا قطعتها إلا يده ، فأثبت على ظهرها ما يكون سببا إلى صوتها ، فقلت : [المتقارب]

نعقت ولم تدر كيف الجواب

وأخطأت حتّى أتاك الصّواب

وأجريت وحدك في حلبة

نأت عنك فيها الجياد العراب

وبتّ من الجهل مستصحبا

لغير قرى فأتتك الذّئاب(١)

فكيف تبيّنت عقبى الظّلوم

إذا ما انقضت بالخميس العقاب

لعمري ما لي طباع تذمّ

ولا شيمة يوم مجد تعاب(٢)

أنيل المنى والظبا سخّط

وأعطي الرّضا والعوالي غضاب(٣)

وأقول : [الطويل]

وغاصب حقّ أوبقته المقادر

يذكّرني حاميم والرّمح شاجر(٤)

غدا يستعير الفخر من خيم خصمه

ويجهل أنّ الحقّ أبلج ظاهر

ألم تتعلّم يا أخا الظّلم أنّني

برغمك ناه منذ عشر وآمر

تذلّ لي الأملاك حرّ نفوسها

وأركب ظهر النّسر والنّسر طائر

وأبعث في أهل الزّمان شواردا

تلينهم وهي الصّعاب النّوافر(٥)

فإن أثو في أرض فإنّي سائر

وإن أنا عن قوم فإنّي حاضر(٦)

وحسبك أنّ الأرض عندك خاتم

وأنّك في سطح السّلامة عاثر

ولا لوم عندي في استراحتك الّتي

تنفّست عنها والخطوب فواقر

فإنّي للحلف الّذي مرّ حافظ

وللنّزعة الأولى بحاميم ذاكر

هنيئا لكلّ ما لديه فإنّنا

عطية من تبلى لديه السّرائر

__________________

(١) في ب : الجهل مستنبحا.

(٢) في ب ، ه : لعمرك ما لي ..

(٣) الظبا : جمع ظبة : حد السيف. والعوالي : الرماح.

(٤) أوبق : أهلك. والشطر الثاني من البيت مأخوذ من قول الشاعر

يذكرني حاميم والرمح شاجر

فهلا تلا حاميم قبل التقدم

(٥) النوافر : ذات نفار ، والنفار : الإعراض والصدّ.

(٦) ثوى بالمكان : استقر فيه.

٢٤١

ومن شعر أبي محمد بن حزم يخاطب قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن بن بشير (١) : [الطويل]

أنا الشّمس في جوّ العلوم منيرة

ولكنّ عيبي أن مطلعي الغرب

ولو أنّني من جانب الشّرق طالع

لجدّ على ما ضاع من ذكري النّهب

ولي نحو آفاق العراق صبابة

ولا غرو أن يستوحش الكلف الصّبّ

فإن ينزل الرّحمن رحلي بينهم

فحينئذ يبدو التّأسّف والكرب

فكم قائل أغفلته وهو حاضر

وأطلب ما عنه تجيء به الكتب

هنالك يدري أنّ للعبد قصّة

وأنّ كساد العلم آفته القرب

فيا عجبا من غاب عنهم تشوّقوا

له ، ودنوّ المرء من دارهم ذنب

وإنّ مكانا ضاق عنّي لضيّق

على أنّه فيح مهامهه سهب(٢)

وإنّ رجالا ضيّعوني لضيّع

وإنّ زمانا لم أنل خصبه جدب

ومنها في الاعتذار عن مدحه لنفسه :

ولكنّ لي في يوسف خير أسوة

وليس على من بالنّبيّ ائتسى ذنب(٣)

يقول مقال الصّدق والحقّ إنّني

حفيظ عليم ، ما على صادق عتب

وقوله : [البسيط]

لا يشمتن حاسدي إن نكبة عرضت

فالدّهر ليس على حال بمتّرك

ذو الفضل كالتّبر يلقى تحت متربة

طورا ، وطورا يرى تاجا على ملك

وقوله لما أحرق المعتضد بن عباد كتبه بإشبيلية : [الطويل]

دعوني من إحراق رقّ وكاغد

وقولوا بعلم كي يرى النّاس من يدري

فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الّذي

تضمّنه القرطاس ، بل هو في صدري

يسير معي حيث استقلّت ركائبي

وينزل إن أنزل ويدفن في قبري

وقوله : [الوافر]

__________________

(١) في ب : بشر.

(٢) فيح : جمع فيحاء : الواسعة. والمهامه : جمع مهمه : الصحراء.

(٣) ائتسى : اقتدى. والأسوة : القدوة.

٢٤٢

لئن أصبحت مرتحلا بشخصي

فقلبي عندكم أبدا مقيم

ولكن للعيان لطيف معنى

لذا سأل المعاينة الكليم(١)

وقوله : [الطويل]

وذي عذل فيمن سباني حسنه

يطيل ملامي في الهوى ويقول

أمن أجل وجه لاح لم تر غيره

ولم تدر كيف الجسم أنت عليل(٢)

فقلت له أسرفت في اللّوم فاتّئد

فعندي ردّ لو أشاء طويل

ألم تر أني ظاهريّ ، وأنّني

على ما أرى حتّى يقوم دليل

وهو أبو محمد علي بن أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن مزيد ، القرطبي.

قال ابنه أبو رافع الفضل : اجتمع عندي بخط أبي من تواليفه نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من نحو ثمانين ألف ورقة ، انتهى.

وأبوه الوزير أبو عمر المذكور كان من وزراء المنصور بن أبي عامر ، وتوفي ـ كما قال ابن حيان ـ بذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة ، وكان منشؤه ومولده بقرية تعرف بالزاوية.

وحكي أن الحافظ أبا محمد بن حزم قصد أبا عامر بن شهيد في يوم غزير المطر والوحل شديد الريح ، فلقيه أبو عامر ، وأعظم قصده على تلك الحال ، وقال له : يا سيدي ، مثلك يقصدني في مثل هذا اليوم ، فأنشده أبو محمد بن حزم بديها : [الطويل]

فلو كانت الدّنيا دوينك لجّة

وفي الجوّ صعق دائم وحريق (٣)

لسهّل ودّي فيك نحوك مسلكا

ولم يتعذّر لي إليك طريق

قال الحافظ ابن حزم : أنشدني الوزير أبي في بعض وصاياه لي : [الطويل]

إذا شئت أن تحيا سعيدا فلا تكن

على حالة إلّا رضيت بدونها(٤)

وهذا كاف في فضل الفرع والأصل ، رحم الله الجميع (٥).

قال ابن حزم في «طوق الحمامة» : إنه مر يوما هو وأبو عمر بن عبد البر صاحب «الاستيعاب» بسكة الحطابين من مدينة إشبيلية ، فلقيهما شاب حسن الوجه ، فقال أبو محمد :

__________________

(١) الكليم : هو النبي موسى بن عمران عليه السلام.

(٢) في ه : أمن حسن وجه.

(٣) اللجة : معظم الماء.

(٤) في ب ، ه : إذا شئت أن تحيا غنيا ..

(٥) في ب ، ه : سامح الله الجميع.

٢٤٣

هذه صورة حسنة ، فقال له أبو عمر : لم نر إلا الوجه ، فلعل ما سترته الثياب ليس كذلك ، فقال ابن حزم ارتجالا وذي عذل فيمن سباني حسنه الأبيات المتقدمة (١).

ولابن حزم أيضا قوله : [الخفيف]

لا تلمني لأنّ سبقة لحظ

فات إدراكها ذوي الألباب

يسبق الكلب وثبة اللّيث في العد

وويعلو النّخال فوق اللّباب(٢)

ولأبي بكر بن مفوّز جزء يردّ فيه على أبي محمد بن حزم ، وفيه قال معرضا : [البسيط]

يا من تعاني أمورا لن تعانيها

خلّ التّعاني وأعط القوس باريها

تروي الأحاديث عن كلّ مسامحة

وإنّما لمعانيها معانيها

وقيل : إنه خاطب بهما بعض أصحاب ابن حزم.

رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي ـ ومن نظمه قوله من مرثية : [الطويل]

أحنّ ويثني اليأس نفسي على الأسى

كما اضطرّ محمول على المركب الصّعب

ومن جيد نظمه قوله : [الطويل]

أسرّوا على اللّيل البهيم سراهم

فنمّت عليهم في الشّمال شمائل(٣)

متى نزلوا ثاوين بالخيف من منى

بدت للهوى بالمأزمين مخايل

فلله ما ضمّت منى وشعابها

وما ضمّنت تلك الرّبا والمنازل

ولمّا التقينا للجمار وأبرزت

أكفّ لتقبيل الحصى وأنامل

أشارت إلينا بالغرام محاجر

وباحت به منّا جسوم نواحل (٤)

وقال الباجي أبو الوليد رحمه الله تعالى : [الوافر]

مضى زمن المكارم والكرام

سفاه الله من صوب الغمام(٥)

وكان البرّ فعلا دون قول

فصار البرّ نطقا بالكلام

__________________

(١) المتقدمة : غير موجودة في ب.

(٢) النخال : ما بقي من الشيء بعد نخله.

(٣) نمت عليهم : وشت بهم وأظهرتهم. والشمائل : جمع شميلة ، وهي الطبع.

(٤) المحاجر : جمع محجر ، وهو ما أحاط بالعين وأراد العين نفسها.

(٥) سفاه : حمله وزاده.

٢٤٤

وذيله بعضهم بقوله : [الوافر]

وزال النّطق حتّى لست تلقى

فتى يسخو بردّ للسّلام

وزاد الأمر حتّى ليس إلّا

سخيّ بالأذى أو بالملام

٤٦ ـ ومنهم الفقيه العالم الشهير أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان ابن أيوب الفهري الطرطوشي صاحب «سراج الملوك» ، ويعرف بابن أبي رندقة ـ بالراء المهملة المفتوحة ، وسكون النون ـ وكفى بسراج الملوك دليلا على فضله.

ذكره ابن بشكوال في الصلة ، وتوفي بالإسكندرية في شعبان ، وقيل : جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة ، وزرت قبره بالإسكندرية ، وممن أخذ عنه الحافظ القاضي أبو بكر بن العربي وغيره.

ومن نظم الطرطوشي قوله من رسالة : [الطويل]

أقلّب طرفي في السّماء تردّدا

لعلّي أرى النّجم الّذي أنت تنظر

وأستعرض الرّكبان من كلّ وجهة

لعلّي بمن قد شمّ عرفك أظفر(١)

وأستقبل الأرواح عند هبوبها

لعلّ نسيم الرّيح عنك يخبّر(٢)

وأمشي وما لى في الطّريق مآرب

عسى نغمة باسم الحبيب ستذكر

وألمح من ألقاه من غير حاجة

عسى لمحة من نور وجهك تسفر

ومن نظمه أيضا قوله : [المتقارب]

يقولون ثكلى ومن لم يذق

فراق الأحبّة لم يثكل

لقد جرّعتني ليالي الفراق

كؤوسا أمرّ من الحنظل

ومما ينسب إليه وكان كثيرا ما ينشده (٣) : [المتقارب]

إذا كنت في حاجة مرسلا

وأنت بإنجازها مغرم

فأرسل بأكمه جلّابة

به صمم أغطش أبكم(٤)

__________________

(١) العرف ، بفتح العين وسكون الراء : الرائحة الطيبة.

(٢) الأرواح : جمع ريح.

(٣) وكان كثيرا ما ينشده : غير موجودة في ب.

(٤) الأكمه : الأعمى. والأغطش : من كان بعينيه ضعف.

٢٤٥

ودع عنك كلّ رسول سوى

رسول يقال له الدّرهم

وكان كثيرا ما ينشد (١) : [الرمل]

إنّ لله عبادا فطنا

طلّقوا الدّنيا وخافوا الفتنا

فكّروا فيها فلمّا علموا

أنّها ليست لحيّ وطنا

جعلوها لجّة واتّخذوا

صالح الأعمال فيها سفنا

وقال رحمه الله تعالى : كنت ليلة نائما بالبيت المقدس إذ سمعت في الليل صوتا حزينا ينشد : [الطويل]

أخوف ونوم ، إنّ ذا لعجيب

ثكلتك من قلب فأنت كذوب

أما وجلال الله لو كنت صادقا

لما كان للإغماض فيك نصيب

قال : فأيقظ النوّام ، وأبكى العيون.

وكان رحمه الله تعالى زاهدا ، عابدا (٢) ، متورعا ، متقللا من الدنيا ، قوّالا للحق.

وكان يقول : إذا عرض لك أمران (٣) أمر دنيا وأخرى ، فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى ، وله طريقة في الخلاف.

ودخل مرة على الأفضل بن أمير الجيوش فوعظه ، وقال له : إن الأمر الذي أصبحت فيه من الملك إنما صار إليك بموت من كان قبلك ، وهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك ، فاتق الله فيما خوّلك من هذه الأمة ، فإن الله عز وجل سائلك عن النقير والقطمير والفتيل ، واعلم أن الله عز وجل آتى سليمان بن داود ملك الدنيا بحذافيرها فسخر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحوش (٤) والبهائم ، وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، ورفع عنه حساب ذلك أجمع ، فقال عز من قائل : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٩) [ص : ٣٩] فما عدّ ذلك نعمة كما عددتموها ، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها ، بل خاف أن يكون استدراجا من الله عز وجل ، فقال : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل : ٤٠] فافتح الباب ، وسهل الحجاب ، وانصر المظلوم.

__________________

(١) جاء في الصلة أن هذه الأبيات له ، وقد وردت في ديوان الشافعي.

(٢) عابدا : غير موجودة في ب.

(٣) أمران : غير موجودة في ب.

(٤) في ب : والوحش.

٢٤٦

وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فأنشده : [السريع]

يا ذا الّذي طاعته قربة

وحقّه مفترض واجب

إنّ الّذي شرفت من أجله

يزعم هذا أنّه كاذب

وأشار إلى النصراني ، فأقامه الأفضل من مكانه :

والطرطوشي ـ بضم الطاءين ـ نسبة إلى طرطوشة من بلاد الأندلس (١) ، وقد تفتح الطاء الأولى.

وعبر عنه ابن الحاجب في مختصره الفقهي في باب العتق بالأستاذ.

وكان رحمه الله تعالى صحب القاضي أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى بسرقسطة ، وأخذ عنه مسائل الخلاف ، وسمع منه ، وأجازه ، وقرأ الفرائض والحساب بوطنه ، وقرأ الأدب على أبي محمد بن حزم بمدينة إشبيلية ، ثم رحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة ، ودخل بغداد والبصرة فتفقه هناك (٢) عند أبي بكر الشاشي وأبي محمد الجرجاني ، وسمع بالبصرة من أبي علي التّستري ، وسكن الشام مدّة ، ودرس بها ، وكان راضيا باليسير.

وقال الصفدي في ترجمة الطرطوشي : إن الأفضل بن أمير (٣) الجيوش أنزله في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد ، وكان يكرهه ، فلما طال مقامه به ضجر ، وقال لخادمه : إلى متى نصبر؟ اجمع لي المباح ، فجمعه ، وأكله ثلاثة أيام ، فلما كان عند صلاة المغرب قال لخادمه : رميته الساعة ، فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل ، وولي بعده المأمون بن البطائحي فأكرم الشيخ إكراما كثيرا ، وله ألف الشيخ «سراج الملوك» انتهى.

ومقامه ـ أعني الطرطوشي ـ مشهور ، وهذه الحكاية تكفي في ولايته.

ومن تآليفه مختصر تفسير الثعالبي ، والكتاب الكبير في مسائل الخلاف ، وكتاب في تحريم جبن الروم ، وكتاب «بدع الأمور ومحدثاتها» وكتاب «شرح رسالة الشيخ ابن أبي زيد».

وولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريبا ، ولما توفي صلى عليه ولده محمد ، ودفن

__________________

(١) طرطوشة : مدينة بينها وبين بلنسية مائة ميل ، مسيرة أربعة أيام وهي في سفح جبل ، ولها سور حصين ، وبها أسواق وعمارات ، وبجبالها خشب الصنوبر ، ومنه تتخذ السفن (صفة جزيرة الأندلس ص ١٢٤).

(٢) هناك : غير موجودة في ب.

(٣) في ب ـ الأفضل ابن أمير.

٢٤٧

رحمه الله تعالى قبل الباب الأخضر بإسكندرية ، وزرت قبره مرارا ، رحمه الله تعالى ، ورضي عنه ، ونفعنا به!.

وكان القاضي عياض ممن استجازه فأجازه ولم يلقه ، وشهرته رضي الله تعالى عنه تغني عن الإطناب فيه (١).

وحكي أنه كتب على «سراج الملوك» الذي أهداه لولي الأمر بمصر : [السريع]

النّاس يهدون على قدرهم

لكنّني أهدي على قدري

يهدون ما يفنى وأهدي الّذي

يبقى على الأيّام والدّهر

وحكي أنه لما (٢) سمع رضي الله تعالى عنه منشدا ينشد للوأواء الدمشقي (٣) : [مجزوء الكامل]

قمر أتى من غير وعد

في ليلة طرقت بسعد

بات الصّباح إلى الصّبا

ح معانقي خدّا بخدّ

يمتار فيّ وناظري

ما شئت من خمر وشهد

(٤) فقال : أو يظن هذا الدمشقي أن أحدا لا يحسن ينظم الكذب غيره؟ لو شئنا لكذبنا مثل هذا ، ثم أنشد لنفسه يعارضه : [مجزوء الكامل]

قمر أتى من غير وعد

حفّت شمائله بسعد(٥)

قبّلته ورشفت ما

في فيه من خمر وشهد

فمزجت مزن السّلسبي

ل بزنجبيل مستعدّ(٦)

ولثمت فاه من الغرو

ب إلى الصّباح المستجدّ

وسكرت من رشفي العقي

ق على أقاح تحت رند

فنزعت عن فمه فمي

ووضعت خدّا فوق خدّ(٧)

__________________

(١) فيه : غير موجودة في ب.

(٢) لما : غير موجودة في ب.

(٣) الدمشقي : غير موجودة في ب ، ه.

(٤) في ب : يمتاز في ..

(٥) في ب ، ه : قمر بدا من غير وعد.

(٦) في ب ، ه : فرشفت مزن السلسبيل.

(٧) العقيق : خرز أحمر. والرند : شجر طيب الرائحة ، وأزهاره بيضاء صغار.

٢٤٨

وشممت عرف نسيمه ال

جاري على مسك وندّ

وصحوت من ريّا القرن

فل بين ريحان وورد

وألذّ من وصلي به

شكواه وجدا مثل وجدي

ومن نظم الطرطوشي قوله أيضا : [المتقارب]

كأن لساني والمشكلات

سنى الصّبح ينحر ليلا بهيما(١)

وغيري إن رام ما رمته

خصيّ يحاول فرجا عقيما

وقوله أيضا : [المتدارك]

اعمل لمعادك يا رجل

فالنّاس لدنياهم عملوا(٢)

واذخر لمسيرك زاد تقى

فالقوم بلا زاد رحلوا(٣)

٤٧ ـ ومنهم محمد بن عبد الجبار الطرطوشي (٤) ـ وفد إلى المشرق ، وذكره العماد في «الخريدة» وله في الآمدي العلي (٥) بمصر ، وكان يخضب بسواد الرمّان قوله (٦) : [الخفيف]

اخلط العفص فيه يا أحوج النّا

س إلى العفص حين يعكس عفص

٤٨ ـ ومنهم القاضي الشهير الشهيد أبو علي الصيرفي (٧) ، وهو حسين بن محمد بن فيّره بن حيّون ، ويعرف بابن شكّرة (٨) ، وهو من أهل سرقسطة ، سكن مرسية. وروى بسرقسطة عن الباجي وأبي محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل وغيرهما ، وسمع ببلنسية من أبي العباس العذري ، وسمع بالمريّة من أبي عبد الله محمد بن سعدون القروي وأبي عبد الله بن المرابط وغيرهما ، ورحل إلى المشرق أول المحرم من سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ، وحج من عامه ، ولقي بمكة أبا عبد الله الحسن بن علي الطبري وأبا بكر الطرطوشي وغيرهما ، ثم سار إلى البصرة فلقي بها أبا يعلى المالكي وأبا العباس الجرجاني وأبا القاسم بن شعبة وغيرهم ، وخرج إلى بغداد فسمع بواسط من أبي المعالي محمد بن عبد السلام الأصبهاني وغيره ، ودخل بغداد سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ، فأطال الإقامة بها خمس سنين كاملة ، وسمع بها من أبي الفضل بن خيرون مسند بغداد ، ومن أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار

__________________

(١) الليل البهيم : الشديد الظلمة.

(٢) في ب : فاعمل لمعادك ... فالقوم لدنياهم ..

(٣) في ب : لمسيرك من زاد ..

(٤) في بعض النسخ : الطرسوسي.

(٥) في ج : الأمد العجلي.

(٦) في ب : الرمان يخضب بأقبح سواد خضب به.

(٧) في ب : الصدفي.

(٨) في ب : بابن سكرة.

٢٤٩

الصيرفي ، وطراد الزينبي ، والحميدي ، وغيرهم ، وتفقه عند أبي بكر الشاشي وغيره ، ثم رحل منها سنة سبع وثمانين ، فسمع بدمشق من أبي الفتح نصر المقدسي وأبي الفرج الإسفرايني (١) وغيرهما ، وسمع بمصر من القاضي أبي الحسن الخلعي وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الرازي ، وأجاز له الحبال مسند مصر في وقته ومكثرها ، وسمع بالإسكندرية من أبي القاسم الوراق (٢) وشعيب بن سعيد وغيرهما ، ووصل إلى الأندلس في صفر من سنة سبعين وأربعمائة (٣) ، وقصد مرسية ، فاستوطنها ، وقعد يحدّث الناس بجامعها ، ورحل الناس من البلدان إليه ، وكثر سماعهم عليه ، وكان عالما بالحديث وطرقه ، عارفا بعلله ، وأسماء رجاله ونقلته ، وكان حسن الخط جيد الضبط ، وكتب بخطه علما كثيرا ، وقيّده ، وكان حافظا لمصنفات الحديث ، قائما عليها ، ذاكرا لمتونها وأسانيدها ورواتها (٤) ، وكتب منها صحيح البخاري في سفر (٥) ، وصحيح مسلم في سفر ، وكان قائما على الكتابين مع مصنّف أبي عيسى الترمذي ، وكان فاضلا ، ديّنا ، متواضعا ، حلوما ، وقورا ، عالما ، عاملا ، واستقضي بمرسية ، ثم استعفى فأعفي ، وأقبل على نشر العلم وبثّه.

وقد ذكره أبو القاسم بن عساكر في تاريخه لدخوله الشام ، قال : وبعد أن استقرت به النوى ، واستمرت إفادته بما قيد وروى ، رفعته ملوك أوانه ، وشفّعته في مطالب إخوانه ، فأوسعته رعيا ، وأحسنت فيه رأيا ، ومن أبنائهم من جعل يقصده ، لسماع يسنده ، وعلى وقاره الذي كان به يعرف ، ندر له مع بعضهم ما يستطرف (٦) ، وهو أن فتى يسمى يوسف لازم مجلسه ، معطرا رائحته ومنظفا ملبسه ، ثم غاب لمرض قطعه ، أو شغل منعه ، ولما فرغ أو أبلّ (٧) ، عاود ذلك النادي المبارك والمحل ، وقبل إفضائه إليه ، دلّ طيبه عليه ، فقال الشيخ على سلامته من المجون ، وخلاصه من الفتون (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) [يوسف : ٩٤] وهي من طرف نوادره (٨) ، رحمة الله عليه.

ولما قلّد قضاء مرسية وعزم عليه صاحب الأمر فيه فر إلى المرية فأقام بها سنة خمس وبعض سنة ست وخمسمائة ، وفي سنة ست قبل قضاءها على كره إلى أن استخفى آخر سنة

__________________

(١) في ب : الاسفراييني.

(٢) اسمه : مهدي بن يونس.

(٣) في ب ، ج : سنة ٤٩٠.

(٤) في بعض النسخ : وروايتها.

(٥) السفر ، بكسر السين وسكون الفاء : الكتاب الضخم.

(٦) في ه : ما يستظرف.

(٧) أبل من مرضه : شفي.

(٨) في ه : ظرف نوادره.

٢٥٠

سبع في قصة يطول إيرادها ، ولطول مقامه (١) بالمرية أخذ الناس عنه بها ، فلما كانت وقعة كتندة كان ممن حضرها ففقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة ، رحمه الله تعالى!.

وقال القاضي عياض : ولقد حدثني الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر أنه قال له : خذ الصحيح ، واذكر أي متن شئت منه أذكر لك سنده ، أو أي سند شئت أذكر لك متنه ، انتهى.

وذكر غير واحد أنه حدث ببغداد بحديث واحد ، والله أعلم وهو من أبناء الستين (٢).

٤٩ ـ ومنهم ابن أبي روح الجزيري ـ ومن شعره لما تغرب بالمشرق قوله : [الطويل]

أحنّ إلى الخضراء في كلّ موطن

حنين مشوق للعناق وللضّمّ

وما ذاك إلّا أنّ جسمي رضيعها

ولا بدّ من شوق الرّضيع إلى الأمّ

٥٠ ـ ومنهم العالم أبو حفص عمر بن حسن الهوزني ، الحسيب العالم المحدّث ـ ذكره ابن بسام في «الذخيرة» والحجاري في «المسهب» وسبب رحلته للمشرق أنه لما تولى المعتضد بن عبّاد خاف منه ، فاستأذنه في الحج سنة ٤٤٤ ، ورحل إلى مصر ، ثم إلى مكة ، وسمع في طريقه كتاب صحيح البخاري ، وعنه أخذه أهل الأندلس ، ورجع ، وسكن إشبيلية وخدم المعتضد ، فقتله ومن (٣) من شيء سلط عليه ، وكان قتله يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ستين وأربعمائة.

ومن شعره يحرّضه على الجهاد : [الطويل]

أعبّاد جلّ الرّزء والقوم هجّع

على حالة من مثلها يتوقّع(٤)

فلقّ كتابي من فراغك ساعة

وإن طال فالموصوف للطّول موضع

إذا لم أبثّ الدّاء ربّ شكاية

أضعت ، وأهل للملام المضيّع

ووصله بنثر ، وهو : وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها ، ولا أرجأ الدليل من ناط الأمور بأربابها ، ولرب أمل بين أثناء المحاذير مدمج ، ومحبوب في طي المكاره مدرج ، فانتهز فرصتها فقد بان لك (٥) من غيرك العجز ، وطبّق مضاربها (٦) فقد أمكنك الحزّ ، ولا غرو أن يستمطر الغمام في الجدب ، ويستصحب الحسام في الحرب.

__________________

(١) في ب ، ه : وبطول مقامه.

(٢) وهو من أبناء الستين : زيادة من الذخيرة.

(٣) في ب : ومن خاف من ..

(٤) الرزء : المصيبة.

(٥) لك : غير موجودة في ب.

(٦) في ب : وطبق مفاصلها.

٢٥١

وله : [المديد]

صرّح الشّرّ فلا يستقلّ

إن نهلتم جاءكم بعد علّ

بدء صعق الأرض رشّ وطلّ

ورياح ثمّ غيم أبلّ

خفّضوا فالدّاء رزء أجلّ

واغمدوا سيفا عليكم يسلّ

وابنه أبو القاسم هو الذي كان سبب فساد دولة المعتمد بن عباد بسبب قتل المعتضد والده كما مرّ (١).

٥١ ـ ومنهم أبو عمرو عثمان بن الحسين، أخو الحافظ أبي الخطاب بن دحية الآتي ذكره كان أسنّ من أخيه أبي الخطاب ، وكان حافظا للغة العرب ، قيما بها ، وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث الكاملية التي أنشأها بين القصرين ورتب مكانه أخاه أبا عمرو المذكور ، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة ٦٣٤ ، بالقاهرة ، ودفن بسفح المقطم كأخيه ، وكان موت أبي عمرو بعد أبي الخطاب بسنة ، رحمهما الله تعالى!.

٥٢ ـ ومنهم الكاتب أبو بكر محمد بن القاسم ـ من أهل وادي الحجارة ، ويعرف باشكنهادة (٢) ، وارتحل إلى المشرق لما نبت به حضرة قرطبة عند تقلب دولها ، وتحول ملوكها وخولها ، فجال في الفراق ، وقاسى ألم الفراق ، واجتاز بحلب ، وأقام بها مقام غريب لم يصف له حلب ، وقال : [الرمل]

أين أقصى الغرب من أرض حلب

أمل في الغرب موصول التّعب

حنّ من شوق إلى أوطانه

من جفاه صبره لمّا اغترب

جال في الأرض لجاجا حائرا

بين شوق وعناء ونصب

كلّ من يلقاه لا يعرفه

مستغيثا بين عجم وعرب

لهف نفسي أين هاتيك العلا

وا ضياعاه ويا غبن الحسب

والّذي قد كان ذخرا وبه

أرتجي المال وإدراك الرّتب

__________________

(١) وضع بين قوسين في ه مكان هذا الكلام ، ما يلي «وسبب قتل بني عباد لأبي حفص الهوزني المذكور تسبب ابنه أبو القاسم في فساد دولة المعتمد بن عباد ، وحرض عليه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صاحب المغرب حتى أزال ملكه ، ونثر سلكه ، سبب حلكه ، كما ذكرناه بالأندلس بيت كبير مشهور ، ومنهم عدة علماء وكبراء ، رحم الله الجميع».

(٢) في المغرب : اشكهباط.

٢٥٢

صار لي أبخس ما أعددته

بين قوم ما دروا طعم الأدب

يا أحبّاي اسمعوا بعض الّذي

يتلقّاه الطّريد المغترب

وليكن زجرا لكم عن غربة

يرجع الرّأس لديها كالذّنب

واحملوا طعنا وضربا دائما

فهو عندي بين قومي كالضّرب(١)

ولئن قاسيت ما قاسيته

فبما أبصر لحظي من عجب

ولقد أخبركم أن ألتقي

بكم حتّى تقولوا قد كذب

واجتاز بدمشق فقال من أبيات رحمه الله تعالى : [الوافر]

دمشق جنّة الدّنيا حقيقا

ولكن ليس تصلح للغريب

بها قوم لهم عدد ومجد

وصحبتهم تؤول إلى حروب

ثم إنه ودع الشرق بلا سلام ، وحل بحضرة دانية لدى ملكها مجاهد العامري في بحبوحة عزّ لا يخشى فيه الملام ، واستقبل الأندلس بخاطر جديد ، ونال بها بعد من بلوغ الآمال ما ليس له عليه مزيد ، وقال : [الطويل]

وكم قد لقيت الجهد قبل مجاهد

وكم أبصرت عيني وكم سمعت أذني

ولاقيت من دهري وصرف خطوبه

كما جرت النّكباء في معطف الغصن

فلا تسألوني عن فراق جهنّم

ولكن سلوني عن دخولي إلى عدن

وله من كتاب : وحامل كتابي ـ سلمه الله تعالى وأعانه! ـ ممن أخنى عليه الزمان ، وأدار عليه وما صحا إلى الآن كؤوس الهوان ، وقد قصد على بعد جنابك الرحيب الخصيب ، قصد الحسن محلّ الخصيب (٢) ويمم جناب ابن طاهر حبيب (٣) ، وإني لأرجو أن يرجع منك رجوع نصيب عن سليمان (٤) ، ويستعين في شكرك بكل لسان ، وأنت عليم بأن الثناء هو الخلف ، وقد قال الأول : [مجزوء الخفيف]

أرى النّاس أحدوثة

فكوني حديثا حسن

وأنا القائل : [الطويل]

__________________

(١) الضرب ، بفتح الضاد والراء : العسل الأبيض.

(٢) الحسن : أراد الحسن بن هانىء أبا نواس. والخصيب : ممدوحه.

(٣) هو عبد الله بن طاهر بن الحسين والي خراسان. وحبيب : هو حبيب بن أوس الطائي ، أبو تمام.

(٤) نصيب : شاعر أموي اشتهر بمدح الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك.

٢٥٣

فلا تزهدن في الخير قد مات حاتم

وأخباره حتّى القيامة تذكر

ومع هذا فهو عليه بقدر ما يحتمل من التكليف هذا الأوان ، عارف وجوه الأعذار غير ذي عجل في العتب قبل البيان ، وعند سيدي من التهدي للإيفاء (١) ، ما يحقق فيه جميل الرجاء (٢) ، دامت أرجاؤه مؤملة ، ولا برحت نعمه سابغة مكملة.

٥٣ ـ ومنهم الكاتب أبو عبد الله محمد بن عبد ربه المالقي ـ وقال بعضهم : إنه من الجزيرة الخضراء ، له رحلة إلى الديار المصرية ، صنع فيها مقامه يقول فيها : [الطويل]

وفي جنبات الرّوض نهر ودوحة

يروقك منها سندس ونضار

تقول وضوء البدر فيه مغربا

ذراع فتاة دار فيه سوار(٣)

ومن شعره : [السريع]

ما كلّ إنسان أخ منصف

ولا اللّيالي أبدا تسعف

فلا تضع إن أمكنت فرصة

واصحب من الإخوان من ينصف

وانتف من الدّهر ولو ريشة

فإنّما حظّك ما تنتف

وقوله يرثي السيد أبا عمران ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس : [الطويل]

بجيد المعالي أيّ عقد تبدّدا

وصدر العوالي أيّ رمح تقصّدا

ولمّا دهت خيل الشّقيّ فجاءة

وسال العدا بحرا من الموت مزبدا

شهدت بوجه كالغزالة مشرقا

وإن كان وجه الشّمس بالنّقع مربدا(٤)

عزائم صدق ليس تصرف هكذا

إلى الموت تسعى أو على الموت يعتدى

وكان السيد أبو عمران المرثي قتله الميورقي صاحب فتنة إفريقية في الهزيمة المشهورة على تاهرت (٥) ، وجمع ابن عبد ربه المذكور شعر السيد أبي الربيع بن عبد الله بن أمير

__________________

(١) في ب ، ه : للإيصاء.

(٢) في ب ، ه : ما يحقق فيه جميع الرجاء.

(٣) في ب : فيه مغرب.

(٤) الغزالة : الشمس.

(٥) الميورقي : هو يحيى بن غانية ، وكان السيد أبو عمران موسى واليا على تلمسان فهاجمه الميورقي وقضى عليه واقتحم مدينة تاهرت ونهبها وخربها (ابن خلدون ج ٦ ص ٢٤٩ ـ ٢٧٨).

٢٥٤

المؤمنين عبد المؤمن بن علي ، وكان ابن عبد ربه المذكور كاتبا للسيد أبي الربيع سليمان المذكور ، ولما أنشد لبعض الشعراء : [المنسرح]

حاكت يمين الرّياح محكمة

في نهر واضح الأسارير

فكلّما ضعّفت به حلقا

قام لها القطر بالمسامير

أنشد لنفسه : [البسيط]

بين الرّياض وبين الجو معترك

بيض من البرق أو سمر من السّمر

إن أوترت قوسها كفّ السّماء رمت

نبلا من الماء في زغف من الغدر(١)

لأجل ذاك إذا هبّت طلائعها

تدرّع النّهر واهتزّت قنا الشّجر

واجتمع ابن عبد ربه المذكور في رحلته بالسعيد بن سناء الملك ، وأخذ عنه شيئا من شعره ، ورواه بالمغرب.

٥٤ ـ ومنهم الشاعر الأديب أبو محمد عبد المنعم بن عمر بن حسان ، المالقيّ.

ومن نظمه في السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب من قصيدة رحمه الله تعالى : [الطويل]

وفي صهوات المقربات وفي القنا

حصون حمى لا في هضاب المعاقل

ومنها : [الطويل]

ولا ملك يأتي كيوسف آخرا

كما لم يجيء مثل له في الأوائل

٥٥ ـ ومنهم الحافظ أبو الخطاب بن دحية ، وهو مجد الدين عمر بن الحسن بن علي بن محمد (٢) بن فرح بن خلف ، الظاهري المذهب ، الأندلسي.

كان من كبار المحدثين ، ومن الحفاظ الثّقات الأثبات المحصلين ، استوطن بجاية في مدة أبي عبد الله بن يومور (٣) ، وروى بها ، وأسمع ، وكان من أحفظ أهل زمانه باللغة ، حتى صار حوشيّ اللغة (٤) عنده مستعملا غالبا ، ولا يحفظ الإنسان من اللغة حوشيّها إلا وذلك أضعاف

__________________

(١) الزّغف : السحاب الذي صب ماءه وهو يغطي السماء.

(٢) في ب : محمد بن الجميل بن فرج ..

(٣) في ج : تومور.

(٤) حوشي اللغة : الغريب ، الغامض.

٢٥٥

أضعاف محفوظه من مستعملها ، وكان قصده ـ والله تعالى أعلم ـ أن ينفرد بنوع يشتهر به دون غيره ، كما فعل كثير من الأدباء حيث تركوا طريق المعرب وانفردوا بالطريق الآخر ، ولو سلكوا طريق المعرب لكانوا فيه كآحاد الناس ، وكذا الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له رسائل ومخاطبات كلها مغلقات مقفلات ، وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ إذا كتب اسمه فيما يجيزه أو غير ذلك يكتب «ابن دحية ودحية معا المتشبّه به جبريل وجبرائيل» ، ويذكر ما ينيف على ثلاث عشرة لغة مذكورة في جبريل ، ويقول عند فاطر السماوات والأرض ، وهذا فرع انفرد به عمن عداه من أهل العلم.

قال صاحب عنوان الدراية : رأيت له تصنيفا في رجال الحديث لا بأس به ، وارتحل إلى المشرق في دولة بني أيوب ، فرفعوا شأنه ، وقربوا له مكانه ، وجمعوا له علماء الحديث ، وحضروا له مجلسا أقروا له بالتقدم ، وعرفوا أنه من أولي الضبط والإتقان والتفهم ، وذكروا أحاديث بأسانيد حولوا متونها ، فأعاد المتون المحولة ، وعرّف عن تغييرها ، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية ، ومثل هذه الحكاية اتفق لأبي عمر بن عات في كتاب مسلم بمراكش ببيت الطلبة منها.

ومن شعر أبي الخطاب ما كتب به إلى الكامل بن العادل بن أيوب : [الكامل]

ما لي أسائل برق بارق عنكم

من بعد ما بعدت دياري منكم

فمحلّكم قلبي وأنتم بالحشا

لا بالعقيق ولا برامة أنتم

وأنا المقيم على الوفاء بعهدكم

يا مالكين ، وفيتم أو خنتم

وهي طويلة ، ومنها :

رفعت له الأملاك منه سجيّة

ملك السّماك الرّمح وهو محرّم

ومنها أيضا :

لذوي النّهى والفهم سرّ حكومة

قد حار فيها كاهن ومنجّم

فاقصد مرادك حيث سرت مظفّرا

والله يكلأ والكواكب نوّم

وليهنك الشّهر السّعيد تصومه

وتفوز فيه بالثّواب وتغنم

فلأنت في الدّنيا كليلة قدره

قدرا ، فقدرك في الملوك معظّم

فأجابه السلطان مكافأة بنثر ونظم ، فمن النظم : [الطويل]

وهيّجن شوقي للأجارع باللّوى

وأين اللّوى منّي وأين الأجارع

٢٥٦

مرابع لو أنّ المرابع أنجم

لكان نجوم الأرض تلك المرابع

رعى الله أيّاما بها ولو أنّها

إليّ وقد ولّى الشّباب رواجع(١)

ليالي لا ليلى إذا رمت وصلها

يلوح لها من صبح شيبي مواقع

في جملة أبيات.

ومن النثر : الحمد لله ولي الحمد ، وقف ولده على الأبيات التي حسن شعرها ، وصفا درّها ، وليس من البديع أن يقذف البحر درا ، أو ينظم الخليل (٢) شعرا ، وقد أخذت الورقة لأتنزه في معانيها ، وأستفيد بما أودعه فيها ، فالله تعالى لا يخلينا من فوائد فكرته ، وصالح أدعيته ، والسلام.

فأجابه الحافظ أبو الخطاب عن الأبيات بقوله من قصيدة : [الطويل]

شجتني شواج في الغصون سواجع

ففاضت هوام للجفون هوامع(٣)

وأكثر فيها من التغزل ، إلى أن قال : [الطويل]

ولا حاكم أرضاه بيني وبينها

سوى حاكم دهري له اليوم طائع

يدافع عنّي الضّيم قائم سيفه

إذا عزّ من للضّيم عنّي يدافع

هو الكامل الأوصاف والملك الّذي

تشير إليه بالكمال الأصابع

وبيض أياديه الكريمة في الورى

قلائد في الأعناق وهي الصّنائع

ويوماه يوماه اللذان هما هما

إذا جمعت غلب الملوك المجامع

ومنها :

فما روضة غنّا بها مرّت الصّبا

ونشر شذاها الطّيّب النّشر ذائع(٤)

له من شذيّ الزّهر برد مفوّف

أتيح له من أرض صنعاء صانع(٥)

فراقك منها أخضر الثّوب ناضر

وشاقك منها أصفر اللّون فاقع

__________________

(١) في ب ، ه : رعى الله أياما لها ..

(٢) الخليل : هو الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع العروض.

(٣) همعت العين همعا وهموعا : دمعت.

(٤) غنّا : أصلها : غناء ، حذفت الهمزة لإقامة الوزن ، وهو جائز. والروضة الغناء : التي كثرت أطيارها المغردة ، والصبا : ريح الشمال. والشذى : طيب الرائحة وأريجها. والنشر : الرائحة الطيبة. وذائع : منتشر.

(٥) مفوّف : مخطط.

٢٥٧

وأحمر قان للخدود مورّد

وأبيض كالثّغر المفلّج ناصع(١)

بأحسن من توشيع مدحي الّذي له

بدائع من وشي البديع وشائع(٢)

وما ضائع من نشر شكري الّذي به

تأرّجت الأرجاء عندك ضائع

ولو لم يقيّدني نداك لكان لي

مجال فسيح في البسيطة واسع

فأنت الّذي لي والأعادي كثيرة

فويق مكان النّجم في الأفق دافع

ومنها :

بقيت لعبد جدّه دحية الذي

يشابه جبريل له ويضارع

وجدّته الزّهراء بنت محمّد

عليه السّلام الدّائم المتتابع

ولا عدمت منك الممالك مالكا

يقرّب للآمال ما هو شاسع

ومنك عيون للمهمّات يقظ

وعنك عيون الحادثات هواجع

وقال المقريزي في ترجمة الملك الكامل : إنه كان مشغوفا بسماع الحديث النبوي ، وتقدم عنده أبو الخطاب بن دحية ، وبنى له دار الحديث الكاملية بين القصرين بالقاهرة ، انتهى.

وقال أبو الخطاب بن دحية : أنشدني أبو القاسم السّهيلي لنفسه ، وذكر أنه ما سأل الله تعالى بها شيئا (٣) إلا أعطاه : [الكامل]

يا من يرى ما في الضّمير ويسمع

أنت المعدّ لكلّ ما يتوقّع

يا من يرجّى للشّدائد كلها

يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قول كن

امنن فإنّ الخير عندك أجمع

ما لي سوى فقري إليك وسيلة

فبالافتقار إليك فقري أدفع(٤)

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة

فلئن رددت فأيّ باب أقرع

ومن الّذي أدعو وأهتف باسمه

إن كان فضلك عن فقيرك يمنع

__________________

(١) مفلّج الثغر : منفرج الأسنان ، وكان العرب يستحسنون ذلك للمرأة.

(٢) توشيع مدحي : زخرفته.

(٣) شيئا : غير موجودة في ب.

(٤) في ه : وبالافتقار إليك فقري أدفع.

٢٥٨

حاشا لجودك أن يقنّط عاصيا

الفضل أجزل والمواهب أوسع

ومن نظم السّهيلي رضي الله تعالى عنه : [الطويل]

أسائل عن جيرانه من لقيته

وأعرض عن ذكراه والحال تنطق (١)

وما لي إلى جيرانه من صبابة

ولكنّ نفسي عن صبوح ترقّق(٢)

وله : [الكامل]

لمّا أجاب بلا طمعت بوصله

إذ حرف لا حرفان معتنقان

وكذا نعم بنعيم وصل آذنت

فنعم ولا في اللّفظ متفقان

ولد أبو الخطاب بن دحية في ذي القعدة سنة سبع ـ أو ثمان ـ وأربعين وخمسمائة (٣) وتوفي في انفجار الفجر ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة ، ودفن بسفح المقطم.

وتكلم فيه جماعة فيما ذكره ابن النجار ، وقدره أجل مما ذكروه ، وقد روى رحمه الله تعالى بالمغرب ومصر والشام والعراق وخراسان وعراق العجم ، وكل ذلك في طلب الحديث ، وسمع بالأندلس من ابن بشكوال وابن زرقون في جمع كثير (٤) ، وببغداد من أبي الفرج بن الجوزي ، وبأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني معجم الطبراني ومن غيره ، وبنيسابور من أبي سعيد بن الصفار ومنصور بن الفراوي والمؤيد الطوسي ، وحصل الكتب والأصول ، وحدث ، وأفاد ، وكان من أعيان العلماء ، ومشاهير الفضلاء ، متقنا لعلم الحديث وما يتعلق به ، عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها.

وصنف كتبا كثيرة مفيدة جدا ، منها كتاب «التنوير ، في مولد السراج المنير» صنفه عند قدومه إلى إربل سنة أربعة وستمائة ، وهو متوجه إلى خراسان لما رأى ملك إربل (٥) مظفر الدين كوكبري (٦) معتنيا بعمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول كل عام ، مهتما به غاية الاهتمام ،

__________________

(١) في ه : والحال ينطق.

(٢) في ب : وما بي إلى جيرانه ..

(٣) اختلف في سنة ولادته فبينما هي هنا سنة ٥٤٧ أو ٥٤٨ ، هي في وفيات الأعيان سنة ٥٤٤ ه‍.

(٤) في ب : في جمع كبير.

(٥) إربل : انظر معجم البلدان لياقوت الحموي ج ١ ص ١٣٧ ـ ١٤٠.

(٦) مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كوجك علي باني إربل وأميرها ، وبعهده ازدهرت. (معجم البلدان ج ١ ص ١٣٨).

٢٥٩

وكمله وقرأه عليه بنفسه ، وختمه بقصيدة طويلة ، فأجازه بألف دينار ، وصنف أيضا «العلم المشهور ، في فضائل الأيام والشهور» ، و «الآيات البينات ، في ذكر ما في أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات» وكتاب «شرح أسماء النبي صلى الله عليه وسلم» وكتاب «النبراس ، في أخبار خلفاء بني العباس» وكتاب «الإعلام المبين ، في المفاضلة بين أهل صفّين».

وولي قضاء بلد أصوله دانية مرتين ، ثم صرف عن ذلك لسيرة نسبت إليه (١) ، فرحل عنها وحدث بتونس سنة ٥٩٥ ، ثم حج وكتب بالمشرق عن جماعة بأصبهان ونيسابور ، وعاد إلى مصر ، فاستأدبه العادل لولده الكامل (٢) ، وأسكنه القاهرة ، فنال بذلك دنيا عريضة ، ثم زادت حظوته عند الكامل ، وأقبل عليه إقبالا عظيما وكان يعظمه ويحترمه ، ويعتقد فيه الخير ، ويتبرك به ، حتى كان يسوي له المداس حين يقوم ، وهو بلنسي كما قاله ابن خلكان وغيره ، وبلنسية مشهورة بشرق الأندلس ثلث سنة بالتصحيف (٣).

٥٦ ـ ومنهم : خلف بن القاسم بن سهل بن الدباغ ، الحافظ ، الأندلسي.

رحل إلى المشرق ، وكان حافظا فهما عارفا بالرجال ، حدث حديث مالك وشعبة وأشياء في الزهد ، وسمع بمصر أبا الحسن بن الورد البغدادي ومسلم بن الفضل والحسن بن رشيق وجماعة ، وسمع بدمشق علي بن أبي العقب وأبا الميمون بن راشد وبمكة من بكير الحداد وأبي الحسن الخزاعي والأجري ، وبقرطبة من أحمد بن يحيى بن الشاهد ومحمد بن معاوية ، وتوفي سنة ٣٩٣.

٥٧ ـ ومنهم : خلف بن سعيد بن عبد الله بن زرارة أبو القاسم بن المرابط ، الكلبي ، من ذرية الأبرش الكلبي ، ويعرف بالمبرقع ، المحتسب ، القرطبي.

رحل إلى المشرق مرتين ، أولاهما سنة ٣٣٣ (٤) ، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وسمع أبا سعيد بن الأعرابي وابن الورد ، وأبا بكر الآجري ، وروى عنه أبو إسحاق بن شنظير وأبو جعفر الزهراوي ، وقال ابن شنظير : إنه توفي في نحو الأربعمائة رحمه الله تعالى ، ورضي عنه!.

٥٨ ـ ومنهم : سابق فضلاء زمانه ، أبو الصّلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصّلت الإشبيلي.

__________________

(١) في ب ، ه : نعيت عليه.

(٢) استأدبه لابنه : جعله مؤدبا ومعلما.

(٣) ثلث سنة بالتصحيف : غير موجودة في ب ، ه.

(٤) في ب ، وفي الصلة : ٣٣٢ ه‍.

٢٦٠