نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

بأربعة : الشيخ أبي الربيع ، والشيخ أبي الحسن بن طريف ، والشيخ أبي زيد القرطبي ، والشيخ أبي العباس الجوزي ، وسلك على يده جماعة : منهم الشيخ أبو العباس القسطلاني ، فإنه أخذ عنه كلامه وجمعه في جزء ، وخرج سيدي أبو عبد الله القرشي من مصر إلى بيت المقدس فأقام به إلى حين وفاته عشية الخميس السادس من ذي الحجة سنة ٥٩٩ عن خمس وخمسين سنة ، ودفن هناك ، وقبره ظاهر يقصد للزيارة زرته أول قدماتي على بيت المقدس سنة ١٠٢٨ ، ومن كلامه : من لم يدخل في الأمور بلطف الأدب (١) لم يدرك مطلوبه منها ، وقوله : العاقل يأخذ ما صفا ويدع التكلف ، فإنه تعالى يقول : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس : ١٠٧] وقال : من لم يراع حقوق الإخوان بترك حقوقه حرم بركة الصحبة ، وقال : سمعت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن طريف يقول : لما حضرت الشيخ أبا الحسن بن غالب الوفاة قال لأصحابه : اجتمعوا وهللوا سبعين ألف مرة ، واجعلوا ثوابها لي ، فإنه بلغني أنها فداء كل مؤمن من النار ، قال : فعلمناها ، واجتمعنا عليها ، وجعلنا ثوابها له.

ثم حكى عن شيخه أبي زيد القرطبي ما حكاه السنوسي عنه في أواخر شرح صغراه : وقد أنكر غير واحد من الحفاظ كابن حجر وغيره كون ما ذكر حديثا ، ولعل هؤلاء أخذوه من جهة الكشف ونحوه ، والله تعالى أعلم.

وقال رحمه الله تعالى : دخلت على الشيخ أبي محمد عبد الله المغاوري (٢) ، فقال لي : أعلمك شيئا تستعين به ، إذا احتجت لشيء فقل : يا واحد يا أحد يا واحد يا واجد يا جواد ، انفحنا منك بنفحة خير ، إنك على كل شيء قدير ، قال : فأنا أنفق منها منذ سمعتها ، وقال رحمه الله تعالى : ما من حال ذكر في رسالة القشيري إلا وقد شاهدته نفسي ، وتزوج رحمه الله تعالى بنساء حدثن عنه بكرامات ، ومنهن أم القطب القسطلاني ، وحكت أنها خرجت عنه يوما لحاجتها ، ثم عادت فسمعت عنده في طبقته حسّ رجل ، فتوقفت وتفقدت (٣) الباب فوجدته مغلقا ، فلما انقطع الكلام دخلت إليه ، فإذا هو وحده كما تركته ، وسألته (٤) عن ذلك ، فقال : هو الخضر دخل علي وفي يده حية فقال : هذه حيتك (٥) جئتك بها من أرض نجد ، وفيها شفاء مرضك ، فقلت : لا أريد ، اذهب أنت وحيتك لا حاجة لي بها ، ودخل عليه بعض نسائه يوما ، فوجدته بصيرا نقي الجسم من الجذام ، فلما نظرته قال لها : أتريدين أن أبقى لك هكذا؟ فقالت له : يا سيدي كن كيف شئت ، إنما مقصودي خدمتك وبركتك ، وقيل له ، وقد

__________________

(١) في ب ، ه : من لم يدخل في الأمور بالأدب.

(٢) في ب ، ه : المغاور.

(٣) في ب ، ه : وافتقدت.

(٤) في ب ، ه : فسألته.

(٥) كلمة «حيتك» : غير موجودة في ب ، ه.

٢٢١

تكاثرت منه رؤية الأشياء وإخباره بها ، مع كونه ضريرا ، عن ذلك ، فقال : كلي أعين (١) ، بأي عضو أردت أن أنظر به نظرت ، وقال : هممت أن أدعو برفع الغلاء ، فقيل لي : لا تدع فما نسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء ، فسافرت إلى الشام ، فلما وصلت إلى بلد الخليل عليه السلام تلقاني رسول الله (٢) الخليل حين ورودي عليه ، فقلت له : يا رسول الله اجعل ضيافتي عندك أهل مصر ، فدعا لهم ففرج الله عنهم ، ومناقبه رحمه الله تعالى وكراماته لا يفي بها هذا المختصر ، وإنما قصدنا بذكره (٣) البركة وكفارة ما وقع في هذا الكتاب من الإحماض ، والله المرجو في العفو.

ومن فوائده ما نقله عن شيخه أبي الربيع المالقي أنه قال له : ألا أعلمك كنزا تنفق منه ولا ينفد؟ قلت : بلى ، قال : قل : يا الله ، يا أحد ، يا واحد ، يا موجود ، يا جواد ، يا باسط ، يا كريم ، يا وهاب ، يا ذا الطّول ، يا غني ، يا مغني ، يا فتاح ، يا رزاق ، يا عليم ، يا حي ، يا قيوم ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حنان ، يا منان ، انفحني منك بنفحة خير تغنيني بها عمن سواك (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال : ١٩] (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف : ١٣] ، اللهم يا غني يا حميد ، يا مبدئ يا معيد ، يا رحيم (٤) يا ودود ، يا ذا العرش المجيد ، يا فعالا لما يريد ، اكفني بحلالك عن حرامك ، وأغنني بفضلك عمن سواك ، واحفظني بما حفظت به الذكر الحكيم (٥) ، وانصرني بما نصرت به الرسل ؛ إنك على كل شيء قدير ، فمن دوام على قراءته بعد كل صلاة خصوصا صلاة الجمعة حفظه الله تعالى من كل مخوف ، ونصره على أعدائه ، وأغناه ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ويسّر عليه معيشته ، وقضى عنه دينه ، ولو كان عليه أمثال الجبال دينا ، بكرمه وإحسانه ، انتهى ، نقله عنه العلامة ابن داود البلوي الأندلسي ، ومن خطه نقلت ، رحم الله تعالى الجميع! ونقله اليافعي كما ذكر رحمه الله تعالى ، إلا أنه لم يقل فيه «يا ودود» ، واتفقا فيما عدا ذلك ، والله سبحانه أعلم.

وقال ابن خلكان في حقه : محمد بن أحمد (٦) بن إبراهيم القرشي الهاشمي العبد الصالح الزاهد من أهل الجزيرة الخضراء ، كانت له كرامات ظاهرة ، ورأيت. أهل مصر يحكون عنه أشياء خارقة ، ولقيت جماعة ممن صحبه ، وكل منهم يثني (٧) عليه من بركته ، وذكروا عنه أنه

__________________

(١) في ب ، ه : كلي عين.

(٢) الله : هذه الكلمة غير موجود في ه.

(٣) في ب : بذكرها.

(٤) يا رحيم : غير موجودة في ب.

(٥) الحكيم : غير موجودة في ب.

(٦) بن أحمد : غير موجودة في ه.

(٧) في ب ، ه ، وابن خلكان : وكل منهم قد نمى عليه من بركته.

٢٢٢

وعد جماعته الذين صحبوه مواعيد من الولايات والمناصب العلية ، وأنها صحت كلها ، وكان من السادات الأكابر والطراز الأول ، وهو مغربي صحب بالمغرب أعلام الزهاد ، وانتفع بهم ، فلما وصل إلى مصر انتفع به من صحبه أو شاهده ، ثم سافر إلى الشام قاصدا زيارة بيت المقدس ، وأقام بها إلى أن مات ، وصلى عليه بالمسجد الأقصى ، وهو ابن خمس وخمسين سنة ، وقبره ظاهر للزيارة والتبرك به (١).

والجزيرة الخضراء في بلاد الأندلس : مدينة تقابل سبته من بر (٢) العدوة.

ومن جملة وصاياه لأصحابه : سيروا إلى الله تعالى عرجا ومكاسير فإن انتظار الصحة بطالة ، انتهى ببعض اختصار.

٢٤ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحسين (٣) القرطبي ، سمع من قاسم بن أصبغ وغيره ، وقدم مصر فسمع بها من ابن الورد وابن أبي الموال (٤) والبارودي وابن السكن في آخرين ، وسمع بالرملة وبيت المقدس ، وكان ضابطا بصيرا بالنحر واللغة فصيحا بليغا طويل اللسان ، ولي الشرطة ببلاد المغرب ، توفي سنة ٣٧٣ (٥).

٢٥ ـ ومنهم أبو بكر الجيّاني (٦) محمد بن علي بن خلف التّجيبي الإشبيلي ، الحافظ الكاتب ، روى عن ابن الجد وغيره ، ومر بمصر حاجا فلقي بمكة أبا حفص الميانشيّ وأبا الحسن المكناسي ، ولقي بالإسكندرية السّلفي وابن عوف وغيرهما ، وكان مدرسا للفقه ، فقيها جليلا ، متقدما فيه عارفا فاضلا سنيا ، توفي بعد امتحان من منصور بني عبد المؤمن (٧) سنة ٥٩٦ ، وذلك أنه وشى به للمنصور أيام عزم على ترك التقليد والعمل بالحديث.

٢٦ ـ ومنهم أبو بكر الأندلسي الجيّاني محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن ياسر ، الأنصاري ، الجيّاني (٨) سافر من بلده ودخل ديار مصر والشام والعراق وخراسان وما وراء

__________________

(١) به : هذه الكلمة سقطت من ج ، وهي في ب ، ه ، وابن خلكان.

(٢) بر : هذه الكلمة سقطت في ج ، وهي في ب ، ه ، وابن خلكان.

(٣) في ب ، ه : محمد بن علي بن الحسن بن أبي الحسين.

(٤) في ب ، ه : وابن أبي الموت.

(٥) في ب ، ه : سنة ٣٧٢ ه‍.

(٦) الجياني : غير موجودة في ب.

(٧) حمل المنصور الناس على الكتاب والسنة ، ورفض الاشتغال بالفروع ، فتعرض التجيبي بسبب ذلك للمحنة ، فأصيب بالفالج الذي لازمه حتى توفي.

(٨) الأنصاري ، الجياني : غير موجودة في ج.

٢٢٣

النهر ، ولقي أئمتها ، وتفقه ببخارى حتى تمهر في المذهب والخلاف والجدل ، ثم اشتغل بالحديث وسماعه وحفظه وحصل منه كثيرا ، ثم سكن بلخ مدة ، وعاد إلى بغداد ودخلها سنة ٥٥٩ ، وتوجه إلى مكة فحج ، ورجع إلى الشام ، واستوطن حلب ، إلى أن توفي بها ، ووقف كتبه ، وكان متدينا صدوقا حافظا عالما بالحديث ، وفيه فضل ، ولد بجيّان سنة ٤٩٢ ، ومات بحلب سنة ٥٦٣.

٢٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي التّجيبي الدهان الغرناطي ، كان حسن السّمت بارع الخط والخلق والخلق ، رحل إلى الحج ، وجال في البلاد في حدود سنة ست وستمائة فأخذ بمكة والشام ومصر والإسكندرية عن جماعة كثيرة ، وكان عدلا فاضلا على خير ودين ، وكان متحرفا بالتجارة بغرناطة ، ثم خرج منها آخر عمره فمات بقوص بعد ما حج سنة ٦٥٠ ، وصدر من مكة سنة ٦٥٣ فمات قبل منتصف السنة ، رحمه الله تعالى!.

٢٨ ـ ومنهم أبو عمر محمد بن علي بن محمد بن أبي الربيع القرشي العثماني الأندلسي الإشبيلي النحوي ، ولد سنة ٦١٧ بإشبيلية ، وقدم مصر فسمع الكثير بها ، وبدمشق وغيرها ، وكان إماما عالما نحويا فاضلا ، كتب عنه أبو محمد الدمياطي والقطب عبد الكريم ، وناهيك بهما علما (١).

٢٩ ـ ومنهم أبو بكر أبو (٢) عبد الله محمد بن علي بن محمد بن علي بن هذيل. البلنسي رحل وسمع من السّلفي ، وحج ، قال أبو الربيع بن سالم : هو شيخ صدوق متيقظ ، سمع أباه وأبا الوليد بن الدباغ وأبا الحسن طارق بن موسى بن يعيش وجماعة ، وأخذ بمكة سنة ٥٣٩ عن أبي علي حسن المقري ، (٣) وقفل إلى الأندلس سنة ٥٤٦ ، فأخذ عنه بها ، وسمع منه جماعة ، قال ابن الأبار : كان غاية في الصلاح وأعمال البر والورع ، توفي ببعض قرى بلنسية سنة ٥٨٣ (٤) ، ومولده سنة سبع أو تسع عشرة وخمسمائة ، وله حظ من علم التعبير واللغة ، رحمه الله تعالى!.

٣٠ ـ ومنهم أبو عبد الله ، ويقال : أبو سلمة ، محمد بن علي البيّاسي الغرناطي الأنصاري ناصر الدين ، روى عن الحافظ أبي جعفر (٥) بن الزبير وغيره ، وقدم إلى القاهرة واستوطنها بعد

__________________

(١) علما : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : أبو بكر وأبو عبد الله.

(٣) في ب : أبي علي الحسن المقرئ.

(٤) في النسخ كثير من الاختلاف في سنة وفاته ، وفي التكملة : سنة ٥٨٨ ه‍.

(٥) في ه : أبي حفص.

٢٢٤

الحج ، حتى مات بها سنة ٧٠٣ ، وكان عارفا بعلم الحديث وكتب منه كثيرا ، ومال إلى مذهب الظاهرية ، وانتفع به جماعة من طلبة الحديث وكان ثقة ، رحمه الله تعالى!.

٣١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي بن الشامي الأندلسي ، الغرناطي ، قدم مصر حاجا ، وأقام بمكة والمدينة ، وكان إماما فاضلا عالما متفننا (١) في علوم ما بين فقه وأصول ونحو ولغة وقراءات ونظم ونثر ، ومع معرفته بمذهب مالك ينقل كثيرا من مذهب الشافعي ، وسمع الموطأ بتونس من أبي محمد بن هارون القرطبي ، ومولده بغرناطة سنة ٦٧١ ، وتوفي سنة ٧١٥.

ومن شعره رضي الله تعالى عنه (٢) : [الطويل]

إذا كنت جارا للنّبيّ وصحبه

ومكّة بيت الله منّي على قرب

فما ضرّني أن فاتني رغد عيشة

وحسبي الّذي أوتيته نعمة حسبي

وقوله : [المتقارب]

نزيل الكرام عزيز الجوار

وإنّي نزيل عليكم وجار

حللت ذراك وأنت الكريم

ومن حلّ مثوى كريم يجار(٣)

٣٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمار الكلاعي الميورقي ـ قدم مصر ، وروى عن أبي محمد (٤) ابن الوليد بها ، وكان عالما ، وله قصيدة طويلة فيها حكم ومواعظ يوصي ابنه بها ، منها قوله : [الوافر]

وطاعة من إليه الأمر فالزم

وإن جاروا وكانوا مسلمينا

فإن كفروا ككفر بني عبيد

فلا تسكن ديار الكافرينا

واسم ابنه حسن ، وسمع من المذكور الحافظ القاضي أبو بكر بن العربي في رحلته سنة ٤٨٥ ، ووصفه بالعلم ، وعمّار : بالراء.

٣٣ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن الفخّار القرطبي الحافظ ـ روى عن عيسى الليثي وابن عون الله أبي جعفر (٥) التميمي وأبي محمد الباجي ، وقدم مصر ، وحج ،

__________________

(١) في نسخة : متقنا.

(٢) في ب : ومن شعره :

(٣) الذرى ، بفتح الذال والراء : ساحة الدار ونواحيها.

(٤) أبي محمد : غير موجودة في ب.

(٥) في ب ، ج : وابن عون الله وأبي جعفر.

٢٢٥

وجاور بالمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام ، وأفتى بها ، وافتخر بذلك على أصحابه ، وقال : لقد شوورت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم دار مالك بن أنس ومكان شوراه ، ولقي جماعة من العلماء وأخذ عنهم ، وكان من أهل العلم والذكاء والحفظ والفهم ، عارفا بمذاهب الأئمة وأقوال العلماء ، ذاكرا للروايات ، يحفظ المدونة والنوادر لابن أبي زيد ، ويوردها من صدره دون كتاب.

قال ابن حيان مؤرخ الأندلس : توفي الفقيه المشاور الحافظ المستبحر (١) الرواية ، الطويل الهجرة في طلب العلم ، الناسك المتقشف بمدينة بلنسية في ربيع الأول سنة ٤١٧ لعشر خلون من الشهر ، وكان الحفل في جنازته عظيما ، وعاين الناس فيها آية من ظهور أشباه الخطاطيف بها تجللت الجمع زافّة (٢) فوق النعش لم تفارق نعشه إلى أن ووري ، فتفرقت ، ومكث مدة ببلنسية مطاعا عظيم القدر عند السلطان والعامة.

وذكر جماهر بن عبد الرحمن حديث الطير ، وكذا ذكر الحسن بن محمد القبّشي خبر الطير.

قال : وكانت سنه نحو الثمانين سنة ، وكان مجاب الدعوة ، وظهرت في دعوته الإجابة.

وقال أبو عمرو الداني : إن وفاته يوم السبت لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وأربعمائة ، ودفن يوم الأحد بمدينة بلنسية ، وبلغ نحو ست وسبعين سنة ، وهو آخر الفقهاء الحفاظ الراسخين العاملين (٣) بالكتاب والسنة بالأندلس ، رحمه الله تعالى!.

٣٤ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمروس القرطبي ـ سمع علي بن مفرج وغيره من شيوخ قرطبة ، وقدم مصر فأخذ بها عن ابن المهندس وغيره ، وحج ودخل العراق ، وسمع من أبي بكر الأبهري والدارقطني وجماعة ، وعاد إلى الأندلس ، وشهر بالعلم والمال ، وولي الأحباس بقرطبة ، حدث عنه أبو عمر بن عبد البر وغيره ، ومات في جمادى الآخرة سنة أربعمائة ، رحمه الله تعالى!.

٣٥ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن نجيح ، المعافري (٤) ،

__________________

(١) في ب ، ه : المتبحر.

(٢) في ب : رافّة ، والخطاطيف : جمع خطاف ، وهو طائر أسود في حجم العصفور ، وتجللت : غطت. وزافة : أي كان لها صوت.

(٣) في ب ، ه : العالين.

(٤) انظر : ابن الفرضي ج ٢ ص ٧ ، والجذوة : ص ٦٩.

٢٢٦

المعروف بالأعشى ، القرطبي ـ رحل سنة ١٧٩ فسمع سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن وهب وجماعة ، وكان الغالب عليه الحديث ورواية الآثار ، وكان صالحا عاقلا سريا جوادا يذهب إلى مذهب أهل العراق ، وتوفي سنة ٢٢١ ، ذكره ابن يونس وغيره.

٣٦ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن فطيس الغافقي ، الإلبيري (١) ، الزاهد ـ قال الحميدي في حقه : هو من أهل الحديث والحفظ والفهم والبحث عن الرجال ، وله رحلة سمع فيها من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومن ابن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب وغيرهما ، وروي بالأندلس عن جماعة منهم بقي بن مخلد وابن وضاح ، وسمع بمكة وغيرها من مائة شيخ ، قال ابن الفرضي : كان شيخا (٢) نبيلا ، ضابطا لكتبه ، ثقة في روايته ، صدوقا في حديثه ، وكانت الرحلة إليه بإلبيرة ، وبها مات في شوال سنة ٣١٩ وهو ابن تسعين سنة ، رحمه الله تعالى!.

٣٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيّار ، القرطبي ـ من موالي بني أمية سمع من أبيه ومن بقي بن مخلد وغيره ، ورحل سنة ٢٩٤ فسمع بمصر من النسائي ، ومن أحمد بن حماد زغبة ، وسمع بمكة والبصرة والكوفة وبغداد ودمياط والإسكندرية والقيروان من مائة وستين رجلا ، قال أبو محمد الباجي : لم أدرك بقرطبة أكثر حديثا منه ، وكان عالما بالفقه ، متقدما في علم الوثائق ، رأسا فيها ، وكان مشاورا ، سمع من الناس كثيرا ، وكان ثقة صدوقا ، وغزا سنة ٣٢٧ ، ومات ثالث ذي الحجة منها ، ومولده سنة ٢٦٣ ، وقيل : توفي سنة ٣٢٨ ، قاله ابن يونس والحميدي.

٣٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم القرشي الفهري ، عرف بابن رمان ، الغرناطي ـ قرأ على أبي جعفر بن الزبير بها ، وقدم إلى القاهرة سنة ٧٢٢ ، ومات بالمدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام سنة ٧٢٩.

ومن شعره قوله : [الوافر]

فديتم خبّروني كيف صحّت

فريضة هالك من غير مين(٣)

__________________

(١) الإلبيري : نسبة إلى إلبيرة ، من كور الأندلس ، نزلها جنود دمشق من العرب ، وكثير من موالي الإمام عبد الرحمن بن معاوية ، وهو الذي أسسها. وبين إلبيرة وغرناطة ستة أميال. (صفة جزيرة الأندلس ، ص ٢٩).

(٢) في ج : كان شيخنا نبيلا.

(٣) المين ، بفتح الميم وسكون الياء : الكذب.

٢٢٧

لزيد زوجة ولها ابن أمّ

فماتت عنهما لا غير ذين

فحاز البعل ما تركته إرثا

وولّى غيره صفر اليدين

ولا رقّ فديت على أخيها

وليس بكافر يرمى بشين (١)

وليس معجّلا إرثا بقتل

مخافة أن ينال شقاوتين

٣٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن لبّ الشاطبي ـ حدث بالقاهرة ، وتوفي قريبا من سنة ٦٤٠ ، وهو أحد أصحاب الشيخ أبي الحسن بن الصباغ ، ومن كلامه : اشتغالك بوقت لم يأت تضييع للوقت الذي أنت فيه ، ولعمري لقد صدق.

٤٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سراقة الشاطبي (٢) بن محمد بن إبراهيم بن الحسين بن سراقة ، محيي الدين ، ويكنى أيضا أبا القاسم وأبا بكر ، الأنصاري الشاطبي ، المالكي ـ ولد بشاطبة سنة ٥٩٢ ، وسمع من أبي القاسم بن بقي ، ورحل في طلب الحديث ، فسمع ببغداد من الشيخ أبي حفص عمر السهروردي وأبي طالب القبّيطي وأبي حفص الدينوري وجماعة ، وسمع بحلب من ابن شداد وغيره ، وتولى مشيخة دار الحديث البهادية (٣) بحلب ، ثم قدم مصر وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة بعد وفاة ابن سهل القصري سنة ٦٤٢ ، وبقي بها إلى أن توفي بالقاهرة في شعبان سنة ٦٦٣ (٤) ، ودفن بسفح المقطم ، وكان الجمع كبيرا ، وهو أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل وكثرة العلم والجلالة والنبل ، وأحد المشايخ الصوفية ، له في ذلك إشارات لطيفة مع الدين والعفاف والبشر والوقار والمعرفة الجيدة بمعاني الشعر ، وكان صالح الفكرة في حل التراجم ، مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق ، واطراح التكلف ، ورقة الطبع ، ولين الجانب.

ومن شعره قوله : [الطويل]

نصبت ومثلي للمكارم ينصب

ورمت شروق الشّمس وهي تغرّب(٥)

وحاولت إحياء النّفوس بأسرها

وقد غرغرت يا بعد ما أنا أطلب(٦)

__________________

(١) الشين ، بفتح فسكون : العيب والقبح.

(٢) انظر ترجمته في شذرات الذهب ج ٥ ص ٣١٠ وغيره.

(٣) في الوافي ، ب : البهائية ، وهو أصح.

(٤) في ب ، ه : سنة ٦٦٢.

(٥) نصب : جد واجتهد.

(٦) غرغر : جاد بنفسه عند الموت.

٢٢٨

وأتعب إن لم تمنح الخلق راحة

وغيري إن لم تتعب الخلق يتعب

مرادي شيء والمقادير غيره

ومن عاند الأقدار لا شكّ يغلب

وقوله : [الطويل]

إلى كم أمنّي النّفس ما لا تناله

فيذهب عمري والأمانيّ لا تقضى

وقد مرّ لي خمس وعشرون حجّة

ولم أرض فيها عيشتي فمتى أرضى(١)

وأعلم أنّي والثّلاثون مدّتي

حر بمغاني اللهو أوسعها رفضا

وفماذا عسى في هذه الخمس أرتجي

ووجدي إلى أوب من العشر قد أفضى

فيا ربّ عجّل لي حياة لذيذة

وإلّا فبادر بي إلى العمل الأرضى(٢)

 وقال رحمه الله تعالى : [مخلع البسيط]

وصاحب كالزّلال يمحو

صفاؤه الشّكّ باليقين

لم يحص إلّا الجميل منّي

كأنّه كاتب اليمين

وهذا عكس قول المنازي (٣) : [مخلع البسيط]

وصاحب خلته خليلا

وما جرى غدره ببالي

لم يحص إلّا القبيح منّي

كأنّه كاتب الشّمال

٤١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الفرّيشي (٤) ـ بكسر الفاء ، وتشديد الراء المهملة ، بعدها شين معجمة ـ نسبة إلى فرّيش إحدى مدائن قرطبة.

ولد بغرناطة سنة ٥٥٧ ، وقرأ بالروايات على أبي القاسم بن غالب ، وسمع عليه وعلى أبي القاسم بن بشكوال وغيره ، وسمع بمكة ، وحدث بمصر ، وعاد إلى الأندلس فمات بقرطبة سنة ٦٣٣ ، وكان مشهورا بالصلاح ، معروفا بإجابة الدعاء ، ورعا ثقة زاهدا فاضلا ، رحمه الله تعالى!.

٤٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن خيرون ، وقيل : محمد بن عمر بن خيرون.

__________________

(١) حجّة : سنة.

(٢) البيت غير موجود في ب.

(٣) انظر ترجمة المنازي في وفيات الأعيان ، تحقيق محيي الدين عبد الحميد ج ١ ص ١٢٦.

(٤) في ب : محمد بن محمد بن أحمد. والفرّيشي : نسبة إلى فرّيش ، بلدة تقع إلى الشمال من قرطبة.

٢٢٩

أندلسي ، سكن القيروان ، ورحل إلى المشرق ، وأخذ القراءات بمصر عن محمد بن سعيد الأنماطي وغيره كعبد الله بن رجاء (١) وأبي الحسن إسماعيل (٢) بن يعقوب الأزرق المدني ، ودخل العراق ، وسمع به من أصحاب علي بن المديني ويحيى بن معين ، وعاد إلى القيروان ، وسمع بها وبقرطبة ، وقدم بقراءة نافع على أهل إفريقية ، وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة ، ولم يكن يقرأ بحرف نافع إلا الخواص ، حتى قدم بها فاجتمع إليه الناس ، ورحل إليه أهل القيروان من الآفاق ، وكان يأخذ أخذا شديدا على مذهب المشيخة من أصحاب ورش وتوفي بشعبان سنة ٣٠٦ ، وكان رجلا صالحا فاضلا كريم الأخلاق إماما في القراءات ، مشهورا بذلك ، ثقة ، مأمونا ، واحد أهل زمانه وأئمتهم في علم القرآن ، رحمه الله تعالى!.

٤٣ ـ ومنهم ضياء الدين أبو جعفر محمد بن محمد بن صابر بن بندار ، القيسي ، الأندلسي ، المالقي.

ولد بمالقة سنة ٦٢٥ وسمع الكثير ، وقدم القاهرة حاجا فسمع بها وبدمشق وكتب بخطه كثيرا ، وكان سريع الكتابة ، سريع القراءة ، كثير الفوائد ، دينا ، خيرا ، فاضلا ، له مشاركة جيدة في عدة علوم ، توفي شابا بالقاهرة سنة ٦٦٢ رحمه الله تعالى!.

٤٤ ـ ومنهم أبو بكر محمد الزّهري ، المعروف بابن محرز ، البلنسي (٣).

ولد بها سنة ٥٢٩ ، وقدم مصر فسمع ابن الفضل وغيره ، وروى عنه جماعة ، وكان أحد رجال الكمال علما وإدراكا وفصاحة وحفظا للفقه وتفننا في العلوم ومتانة في الأدب ، حافظا للغة والغريب ، وله شعر رائق ، ودين متين ، وأخذ الناس عنه ببلده وبمرسية وإشبيلية ومالقة ، وغرناطة في اجتيازه عليها ، وبغيرها من البلاد ، وعلا صيته ، وعرف بالدين والعلم والفضل ، وكان أبو الخطاب يثني على علمه ودينه ، وتوفي (٤) ببجاية سنة ٦٥٥ عن سنّ عالية ، رحمه الله تعالى!.

٤٥ ـ ومن الراحلين (٥) من الأندلس إلى المشرق القاضي أبو الوليد الباجي صاحب التصانيف المشهورة.

__________________

(١) في ب ، ه : كعبيد بن رجاء.

(٢) في ج : وأبي الحسن بن إسماعيل.

(٣) هو محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن سليمان ، أبو بكر الزهري البلنسي (الوافي ج ١ ص ١٩٨).

(٤) في ب : توفي.

(٥) في ب ، ه : وممن ارتحل من الأندلس.

٢٣٠

وقال ابن ماكولا في حقه : إنه فقيه ، متكلم ، أديب ، شاعر ، سمع بالعراق ، ودرس الكلام وصنف إلى أن مات ، وكان جليلا رفيع القدر والخطر.

وقال غير واحد : إنه ولد سنة ٤٠٣ ، وارتحل سنة ٤٢٦ ، وجاور ثلاثة أعوام ملازما لأبي ذر الهروي (١) الحافظ يخدمه ، ورحل إلى بغداد ودمشق ، ولقي في رحلته غير واحد ، وتفقه بالقاضي أبي الطيب الطّبري وغيره.

وقال أبو علي بن سكرة : ما رأيت مثل أبي الوليد الباجي ، وما رأيت أحدا على هيئته وسمته وتوقير مجلسه ، ولما كنت ببغداد قدم ولده أبو القاسم ، فسرت معه إلى شيخنا قاضي القضاة الشاشي ، فقلت له : أدام الله تعالى عزك! هذا ابن شيخ الأندلس ، فقال : لعله ابن الباجي ، فقلت : نعم ، فأقبل عليه.

قال القاضي عياض : وكثرت القالة في القاضي أبي الوليد لمداخلته الرؤساء ، وولي قضاء أماكن تصغر عن قدره ، وكان يبعث إلى تلك النواحي خلفاءه ، وربما أتاها المرة ونحوها ، وكان في أول أمره مقلا حتى احتاج إلى القصد بشعره ، واستأجر نفسه مدة مقامه ببغداد فيما سمعته مستفيضا لحراسة درب ، وقد جمع ابنه شعره.

قال : ولما قدم الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة ، إلا أنه كان خارجا عن المذهب ، ولم يكن بالأندلس من يشتغل بعلمه ، فقصرت ألسنة الفقهاء عن مجادلته وكلامه ، واتبعه على رأيه جماعة من أهل الجهل ، وحل بجزيرة ميورقة ، فرأس فيها ، واتبعه أهلها ، فلما قدم أبو الوليد كلموه في ذلك ، فدخل إليه ، وناظره وشهر باطله ، وله معه مجالس كثيرة.

ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه ، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر الصائغ وكفره بإجازة الكتب (٢) على الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم ، وأنه تكذيب للقرآن ، فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام ، حتى أثاروا عليه الفتنة وقبّحوا عليه عند العامة ما أتى به ، وتكلم به خطباؤهم في الجمع ، وقال شاعرهم : [البسيط]

__________________

(١) الهروي : غير موجودة في ب.

(٢) الكتب ، بفتح الكاف وسكون التاء : مصدر كتب يكتب ؛ والموضوع الذي يدور عليه الكلام هو ما حدث في صلح الحديبية حين كتب علي «هذا ما صالح عليه رسول الله» فقال سهيل بن عمرو : لو شهدت أنك رسول الله ما حاربتك ، اكتب اسمك واسم أبيك ، فأمر النبي عليا أن يمحو كلمة «رسول الله» ويكتب مكانها «محمد بن عبد الله» فأكبر علي ذلك ، فأخذ منه رسول الله الرق ، وكتب بيده اسمه ومعلوم أنه أمّي ، والأمي لا يقرأ ولا يكتب.

٢٣١

برئت ممّن شرى دنيا بآخرة

وقال : إنّ رسول الله قد كتبا

فصنف أبو الوليد رحمه الله تعالى رسالة بيّن فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة. فرجع بها جماعة ؛ إذ ليس من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن كونه أمّيا لأنه لا يسمّى كاتبا ، وجماعة من الملوك قد أدمنوا على كتابة العلامة وهم أمّيون ، والحكم للغالب لا للصور النادرة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «إنّا أمّة أمّيّون» أي : أكثرهم كذلك ، لندور الكتابة في الصحابة ، وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢] انتهى ، وبعضه بالمعنى.

وذكر ابن بسّام أن أبا الوليد الباجي نشأ وهمته في العلم ، وأنه بدأ بالأدب ، فبرز في ميادينه ، وجعل الشعر بضاعته ، فنال به من كل الرغائب ، ثم رحل فما حل بلدا إلا وجده ملآن بذكره (١) ، نشوان من قهوتي نظمه ونثره (٢) ، فمال إلى علم الديانة ، فمشى بمقياس ، وبنى على أساس ، حتى صار كثير من العلماء يسمعون منه ، ويرتاحون للأخذ عنه ، ثم كر واستقضي في طريقه بحلب ، فأقام بها نحوا من عام.

قال : وبلغني عن ابن حزم أنه كان يقول : لو لم يكن لأصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب إلا مثل أبي الوليد الباجي لكفاهم.

وصنف أبو الوليد كتبا كثيرة منها كتاب «التسديد ، إلى معرفة التوحيد» وكتاب «سنن المنهاج ، وترتيب الحجاج» وكتاب «إحكام الفصول ، في أحكام الأصول» وكتاب «التعديل والتجريح ، لمن خرّج عنه البخاري في الصحيح» وكتاب «شرح الموطأ» وهو نسختان : نسخة سماها الاستيفاء ، ثم انتقى منها فوائد سماها «المنتقى» في سبع مجلدات ، وهو أحسن كتاب ألف في مذهب مالك ، لأنه شرح فيه أحاديث الموطأ ، وفرع عليها تفريعا حسنا ، وأفرد منه شيئا سماه «الإيماء» ، وقال بعضهم : إنه صنف كتاب «المعاني ، في شرح الموطأ» فجاء عشرين مجلدا عديم النظير ، وكان أيضا صنف كتابا كبيرا جامعا. بلغ فيه الغاية سماه «الاستيفاء» وله كتاب «الإيماء» في الفقه ، خمس مجلدات ، انتهى.

ومن تصانيفه «مختصر المختصر» في مسائل المدونة ، وله كتاب «اختلاف الموطأ» وكتاب «الإشارة ، في أصول الفقه» وكتاب «الحدود» وكتاب «سنن الصالحين» وكتاب «التفسير» لم يتمه ، وكتاب «شرح المنهاج» وكتاب «التبيين ، لسبيل المهتدين» في اختصار فرق الفقهاء ، وكتاب «السراج» في الخلاف ، ولم يتم ، وغير ذلك.

__________________

(١) كناية عن ذيوع صيته.

(٢) القهوة : الخمر.

٢٣٢

وحجّ الباجي رحمه الله تعالى أربع حجج جاور فيها ثلاثة أعوام ملازما لأبي ذر عبد الرحمن بن أحمد الهروي ، وكان يسافر معه للسّروات (١) لأن أبا ذر تزوّج من العرب ، وسكن بها.

وأبو ذر المذكور هو عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير الأنصاري المالكي ، ويعرف بابن السماك ، سمع بهراة وسرخس وبلخ ومرو والبصرة وبغداد ودمشق ومصر ، وجاور بمكة ، وألف معجما لشيوخه ، وعمل الصحيح ، وصنف التصانيف ، قال الخطيب : قدم أبو ذر بغداد وأنا غائب ، فحدث بها ، ثم حج وجاور ، ثم تزوّج في العرب ، وسكن السّروات ، وكان يحج كل عام ويحدث ثم يرجع (٢) ، وكان ثقة ضابطا دينا ، وقال الحسن بن بقي المالقي : حدثني شيخي قال : قيل لأبي ذر : من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنك هروي؟ فقال : قدمت بغداد ، وكنت ماشيا مع الدارقطني ، فلقينا أبا بكر بن الطيب ، فالتزمه الدارقطني ، وقبّل وجهه وعينيه ، فلما افترقنا قلت : من هذا؟ قال : هذا إمام المسلمين ، والذابّ عن الدين (٣) ، القاضي أبو بكر بن الطيب. فمن ذلك الوقت تكررت إليه وتمذهبت بمذهبه ، انتهى.

قلت : هذا صريح في أن القاضي أبا بكر الباقلاني مالكي ، وهو الذي جزم به غير واحد ، ولذا ذكره عياض في المدارك في جملة المالكية ، وكذلك شيخ السنة الإمام أبو الحسن الأشعري (٤) مالكي المذهب فيما ذكره غير واحد من الأئمة ، وذكر بعض الشافعية أنهما شافعيان ، والله تعالى أعلم.

وقال عبد الغافر في تاريخ نيسابور : كان أبو ذر زاهدا ، ورعا ، عالما ، سخيا لا يدخر شيئا ، وصار كبير مشيخة الحرم ، مشارا إليه في التصوف ، خرّج على الصحيح تخريجا حسنا ، وكان حافظا ، كثير الشيوخ ، توفي سنة ٤٣٥ ، وقال أبو علي بن سكرة : توفي عقب شوّال سنة ٤٣٤ ، وقال الخطيب : في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثين ، رحمه الله تعالى! وأكثر نسخ البخاري الصحيحة بالمغرب إمّا من رواية الباجي عن أبي ذر عبد بن أحمد الهروي المذكور ، وإمّا من رواية أبي علي الصّدفي الشهير المعروف بابن سكرة بسنده.

__________________

(١) السروات ثلاث : واحدة بين تهامة ونجد ، والثانية في بلاد عدوان ، والثالثة تمتد على البحر من الغرب وعلى نجد من الشرق.

(٢) في ب ، ه : ويرجع.

(٣) الذاب عن الدين : المدافع عنه.

(٤) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، القائم بنصرة مذهب أهل السنة والجماعة ، ولد في سنة ٢٧٠ وتوفي سنة ٣٣٠ ه‍ ، وقيل سنة ٣٢٤ (انظر وفيات الأعيان ط صادر ج ٣ ص ٢٨٤).

٢٣٣

واعلم أن هراة المنسوب إليها الحافظ أبو ذر ليست بهراة التي وراء النهر نظيرة بلخ ، وإنما هي هراة بني شيمانة بالحجاز ، وبها كان سكنى أبي ذر ، والله تعالى أعلم.

رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى ـ ثم إنه ـ أعني الباجي ـ قدم بغداد ، وأقام بها ثلاثة أعوام يدرّس الفقه ، ويقرأ الحديث ، فلقي بها عدّة من العلماء كأبي الطيب الطبري والإمام الشهير أبي إسحاق الشيرازي والصّيمري وابن عمروس المالكي ، وأقام بالموصل سنة مع أبي جعفر السّمناني يأخذ عنه علم الكلام ؛ فبرع في الحديث وعلله ورجاله ، وفي الفقه وغوامضه وخلافه. وفي الكلام ومضايقه ، وتدبج مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي بحيث روى كل واحد منهما عن الآخر ، رضي الله تعالى عنهما ونفع بهما! ورجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم جمّ حصّله مع الفقر والتّعفّف.

ومما يفتخر به أنه روى عنه حافظا المغرب والمشرق أبو عمر بن عبد البر والخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادي ، وناهيك بهما ، وهما أسنّ منه وأكبر ، وأبو عبد الله الحميدي ، وعلي بن عبد الله الصّقلي ، وأحمد بن علي بن غزلون ، وأبو بكر الطرطوشي ، وأبو علي بن الحسين السّبتي ، وأبو بحر سفيان بن العاصي ، وممن روى عنه ابنه أبو القاسم أحمد ، وكان لما رجع إلى الأندلس فشا علمه ، وتهيأت الدنيا له ، وعظم جاهه ، وأجزلت له الصّلات ، فمات عن مال وافر ، وترسل للملوك (١) ، وولي القضاء بعدة مواضع ، رحمه الله تعالى!.

وأما ما تقدم عن القاضي أبي الوليد الباجي من إجراء حديث الكتابة على ظاهره فهو قول بعض ، والصواب خلافه ، قال القاضي أبو الفضل عياض : حدّثنا محمد بن علي المعروف بابن الصيقل الشاطبي من لفظه ، قال : حدثني أبو الحسن بن مفوز قال : كان أبو محمد بن أحمد بن الحاج الهوّاري من أهل جزيرة شقر ممن لازم الباجي وتفقه عنده ، وكان يميل إلى مذهب الباجي في جواز مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة بيده في حديث المقاضاة في الحديبية على ما جاء في ظاهر بعض رواياته ، ويعجب به ، وكنت أنكر ذلك عليه ، فلما كان بعد برهة أتاني زائرا على عادته ، وأعلمني أن رجلا من إخوانه كان يرى في النوم أنه بالمدينة ، وأنه يدخل المسجد ، فيرى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أمامه ، فتحدث (٢) له قشعريرة وهيبة عظيمة ، ثم يراه ينشقّ ويميد ، ولا يستقر ، فيعتريه منه فزع عظيم ، وسألني عن عبارة رؤياه ، فقلت : أخشى على صاحب هذا المنام أن يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير صفته ، أو ينحله (٣) ما ليس له بأصل (٤) ، أو لعله يفتري

__________________

(١) ترسل : كتب الرسائل.

(٢) في ب ، ه : فيجد له قشعريرة.

(٣) ينحله : ينسب إليه.

(٤) في ه : ما ليس له بأهل.

٢٣٤

عليه ، فسألني بالله (١) من أين قلت هذا؟ قلت له : من قول الله عز وجل (٢)(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَلَداً) [مريم : ٩٠ ، ٩٢] فقال لي : لله درك يا سيدي! وأقبل يقبل رأسي وبين عيني ، ويبكي مرة ويضحك أخرى ، ثم قال لي : أنا صاحب الرؤيا ، واسمع تمامها يشهد لك بصحة تأويلك ، قال : إنه لما رأيتني في ذلك الفزع العظيم كنت أقول : والله ما هذا إلا أنني أقول وأعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب ، فكنت أبكي وأقول : أنا تائب يا رسول الله ، وأكرّر ذلك مرارا ، فأرى القبر قد عاد إلى هيأته أوّلا ، وسكن ، فاستيقظت ، ثم قال لي : وأنا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كتب قط حرفا ، وعليه ألقى الله تعالى ، فقلت : الحمد لله الذي أراك البرهان ، فاشكر له كثيرا ، انتهى.

وقال ابن الأبار : حدثني بهذه الحكاية أبو الربيع بن سالم بقراءتي عليه ، عن الكاتب أبي بكر عبد الرحمن بن مغاور قراءة عليه ، عن القاضي أبي جعفر (٣) أحمد بن عبد الرحمن بن جحدر ، عن أبي الحسن طاهر بن مفوز قال : كان أبو محمد ـ إلى آخرها ، وهي أتم من هذه ، انتهى.

رجع إلى الباجي ـ ذكر أبو العرب عبد الوهاب البقساني بسنده إلى القاضي أبي الوليد الباجي أنه كان يقول ، وقد ذكرت له صحبة السلطان : لو لا السلطان لنقلتني الذر من الظل إلى الشمس ، أو ما هذا معناه ، انتهى.

ومن فوائد الباجي أنه حكى أن الطلبة كانوا يتناوبون (٤) مجلس أبي علي البغدادي ، واتفق أنه كان يوم مطر (٥) ووحل ، فلم يحضر من الطلبة سوى واحد ، فلما رأى الشيخ حرصه على الاشتغال وإتيانه في تلك الحال أنشده : [البسيط]

دببت للمجد والسّاعون قد بلغوا

حدّ النّفوس وألقوا دونه الأزرا

وكابدوا المجد حتّى ملّ أكثرهم

وعانق المجد من وافى ومن صبرا

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصّبرا(٦)

وروى عن القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى الخطيب البغدادي قوله رحمه الله تعالى : [المتقارب]

__________________

(١) بالله : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : قول الله تعالى.

(٣) في ب ، ه : أبي حفص.

(٤) في ب ، ه : ينتابون.

(٥) في ب ، ج : يوما مطر ووحل.

(٦) وردت الأبيات في أمالي القالي ج ١ ص ١١٢.

وقد أوردها بعد قوله : وقرأت على أبي بكر بن دريد لبعض العرب :

٢٣٥

إذا كنت أعلم علم اليقين

بأنّ جميع حياتي كساعه

فلم لا أكون ضنينا بها

وأجعلها في صلاح وطاعه

وقد ذكرناهما فيما يأتي قريبا من كلام الفتح ، لكوننا نقلنا كلامه بلفظه ، رحمه الله تعالى ، ورضي عنه!.

وقال في القلائد في حق الباجي رحمه الله تعالى ، ما صورته : بدر العلوم اللائح ، وقطرها الغادي الرائح ، وثبيرها الذي لا يزحم ، ومنيرها الذي ينجلي به ليلها الأسحم ، كان إمام الأندلس الذي تقتبس أنواره ، وتنتجع نجوده وأغواره ، رحل إلى المشرق فعكف على الطلب ساهرا ، وقطف من العلم أزاهرا ، وتفنن في اقتنائه ، وثنى إليه عنان اعتنائه ، حتى غدا مملوء الوطاب ، وعاد بلح طلبه إلى الإرطاب ، فكر إلى الأندلس بحرا لا تخاض لججه ، وفجرا لا يطمس منهجه ، فتهادته الدول ، وتلقته الخيل والخول ، وانتقل من محجر إلى ناظر ، وتبدل من يانع بناضر ، ثم استدعاه المقتدر بالله فصار إليه مرتاحا ، وبدا بأفقه ملتاحا ، وهناك ظهرت تواليفه وأوضاعه ، وبدا وخده في سبل الهدى (١) وإيضاعه ، وكان المقتدر يباهي بانحياشه إلى سلطانه ، وإيثاره لحضرته باستيطانه ، ويحتفل فيما يرتبه له ويجريه ، وينزله في مكانه متى كان يوافيه ، وكان له نظم يوقفه على ذاته ، ولا يصرفه في رفث القول وبذاته (٢).

فمن ذلك قوله في معنى الزهد : [المتقارب]

إذا كنت أعلم علم اليقين

بأنّ جميع حياتي كساعه

فلم لا أكون ضنينا بها

وأجعلها في صلاح وطاعه

وله يرثي ابنيه وماتا مغتربين ، وغربا كوكبين ، وكانا ناظري الدهر ، وساحري النّظم والنثر : [الطويل]

رعى الله قبرين استكانا ببلدة

هما أسكناها في السّواد من القلب

لئن غيّبا عن ناظري وتبوّآ

فؤادي لقد زاد التّباعد في القرب

يقرّ بعيني أن أزور ثراهما

وألصق مكنون التّرائب بالتّرب(٣)

وأبكي وأبكي ساكنيها لعلّني

سأنجد من صحب وأسعد من سحب

__________________

(١) في ب ، ه : في سبل العلم. والوخد والإيضاع : ضربان من السير السريع.

(٢) رفث القول : فحش الكلام. وبذاته : وبذاءته.

(٣) الترائب : عظام الصدر مما يلي الترقوتين. والترب : المقصود : تربة القبر.

٢٣٦

فما ساعدت ورق الحمام أخا أسى

ولا روّحت ريح الصّبا عن أخي كرب

ولا استعذبت عيناي بعدهما كرى

ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب

أحنّ ويثني اليأس نفسي عن الأسى

كما اضطرّ محمول على المركب الصّعب

وله يرثى ابنه محمدا : [الكامل]

أمحمّدا ، إن كنت بعدك صابرا

صبر السّليم لما به لا يسلم

ورزئت قبلك بالنّبيّ محمد

ولرزؤه أدهى لديّ وأعظم(١)

فلقد علمت بأنّني بك لا حق

من بعد ظنّي أنّني متقدّم

لله ذكر لا يزال بخاطري

متصرّف في صبره متحكّم(٢)

فإذا نظرت فشخصه متخيّل

وإذا أصخت فصوته متوهّم(٣)

وبكلّ أرض لي من اجلك لوعة

وبكلّ قبر وقفة وتلوّم (٤)

فإذا دعوت سواك حاد عن اسمه

ودعاه باسمك معول بك مغرم

حكم الرّدى ومناهج قد سنّها

لأولي النّهى والحزن قبل متمّم (٥)

ولعمري إنه لم يوف القاضي أبا الوليد الباجي حقه الواجب المفترض ، ووددت أنه مدّ النفس في ترجمته بعبارة يعترف (٦) ببراعتها من سلّم له ومن اعترض ، فإن ترجمة المذكور مما سطره أفسح مجالا ، وأفصح رويّة وارتجالا ، وبالجملة فهو أحد الأعلام بالأندلس (٧) ، وهو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التّجيبي ، وذكره ابن بسّام في الذخيرة وابن خلّكان وغير واحد ، وأصله من بطليوس ، وانتقل جده إلى باجة قرب إشبيلية ، وليس هو من باجة القيروان ، ومولده سنة ٤٠٣ ، ورحل سنة ٤٢٦ ، فقدم مصر ، وسمع بها ، وأجر نفسه ببغداد لحراسة الدروب ، وكان لما رجع إلى الأندلس يضرب ورق الذهب ، ويعقد الوثائق ، إلى أن فشا علمه ، وتهيأت له الدنيا ، وشهرته تغني عن وصفه.

__________________

(١) الرزء : المصيبة.

(١) الرزء : المصيبة.

(٢) في ب ، ه : مستحكم.

(٣) أصخت : سكت.

(٤) التلوّم : التمهل ، والانتظار ، والتلبث.

(٥) متمم : هو متمم بن نويرة الذي أكثر من رثاء أخيه مالك حين قتله خالد بن الوليد.

(٦) في ب ، ه : بعبارته التي يعترف ببراعتها.

(٧) في ب ، ه : أحد أعلام الأندلس.

٢٣٧

ومن نظمه قوله : [الكامل]

ما طال عهدي بالدّيار ، وإنّما

أنسى معاهدها أسى وتبلّد

لو كنت أنبأت الدّيار صبابتي

رقّ الصّفا بفنائها والجلمد

وله في المعتضد بن عباد والد المعتمد : [مخلع البسيط]

عبّاد استعبد البرايا

بأنعم تبلغ النّعائم

مديحه ضمن كل قلب

حتى تغنت به الحمائم

ومن أشهر نظمه قوله :

إذا كنت أعلم ـ البيتين ، وقد سبقا

وممن ذكره أيضا الحجاري في المسهب ، وابن بشكوال في الصّلة ، وأنه حج أربع حجج ، رحمه الله تعالى! وتوفي في المريّة لإحدى عشرة بقيت من رجب ، وقيل : ليلة الخميس تاسع رجب ، وقيل (١) : تاسع عشر صفر ، سنة أربع وسبعين وأربعمائة.

ومن تواليفه «المنتقى ، في شرح الموطأ» ذهب فيه مذهب الاجتهاد وإيراد الحجج ، وهو مما يدل على تبحره في العلوم والفنون (٢) ، ولما قدم من المشرق إلى الأندلس بعد ثلاثة عشر عاما وجد ملوك الطوائف أحزابا مفترقة ، فمشى بينهم في الصلح ، وهم يجلّونه في الظاهر (٣) ، ويستثقلونه في الباطن ، ويستبردون نزعته ، ولم يفد شيئا ، فالله تعالى يجازيه عن نيته. ولما ناظر ابن حزم قال له الباجي : أنا أعظم منك همة في طلب العلم ، لأنك طلبته وأنت معان عليه (٤) تسهر بمشكاة الذهب وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق ، فقال ابن حزم : هذا الكلام عليك لا لك ، لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي ، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته ، فلم أرج به إلا علوّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة ، فأفحمه.

قال عياض : قال لي أصحابه : كان يخرج إلينا للإقراء ، وفي يده أثر المطرقة ، إلى أن فشا علمه ونوهت الدنيا به (٥) ، وعظم جاهه ، وأجزلت صلاته (٦) ، حتى مات عن مال وافر ، وكان يستعمله الأعيان في ترسّلهم ، ويقبل جوائزهم ، وولي القضاء بمواضع من الأندلس.

وابن حزم المذكور هو أبو محمد بن حزم الظاهري ، قال ابن حيان وغيره : كان ابن حزم

__________________

(١) في ه : ليلة الخميس تاسع عشر صفر.

(٢) في ب ، ه : على تبحّره في الفنون.

(٣) يجلّونه : يعظمونه ويحترمونه.

(٤) عليه : ساقطة من ه.

(٥) نوهت الدنيا به : أي شهرته ، ورفعت ذكره.

(٦) الصلات : جمع صلة ، وهي العطية.

٢٣٨

صاحب حديث وفقه وجدل ، وله كتب كثيرة في المنطق والفلسفة لم يخل فيها من غلط ، وكان شافعي المذهب ، يناضل الفقهاء (١) عن مذهبه ثم صار ظاهريا ، فوضع الكتب في هذا المذهب ، وثبت عليه إلى أن مات ، وكان له تعلق بالأدب ، وشنّع عليه الفقهاء ، وطعنوا فيه ، وأقصاه الملوك وأبعدوه عن وطنه ، وتوفي بالبادية عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة.

وقال صاعد في تاريخه : كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام ، وأوسعهم معرفة ، مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار ، أخبرني ابنه الفضل (٢) أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تواليفه نحو أربعمائة مجلد ، نقله عن تاريخ صاعد الحافظ الذهبي.

قال الذهبي : وهو العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح ، الأموي ، مولاهم ، الفارسي الأصل ، الأندلسي ، القرطبي ، الظاهري ، صاحب المصنفات ، وأول سماعه سنة ٣٩٩ ، وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدّة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنّحل والعربية والآداب والمنطق والشعر ، ومع الصدق والديانة والحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب.

قال الغزالي رحمه الله تعالى : وجدت في أسماء الله تعالى كتابا لأبي محمد بن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهن ، انتهى باختصار.

وعلى الجملة فهو نسيج وحده ، لو لا ما وصف به من سوء الاعتقاد ، والوقوع في السلف الذي أثار عليه الانتقاد ، سامحه الله تعالى!.

وذكر الذهبي أن عمره اثنتان وسبعون سنة ، وهو لا ينافي قول غيره «إنه كان عمره إحدى وسبعين سنة وعشرة أشهر» لأنه ولد رحمه الله تعالى بقرطبة بالجانب الشرقي في ربض منية المغيرة قبل طلوع الشمس وبعد سلام الإمام من صلاة الصبح آخر ليلة الأربعاء آخر يوم من شهر رمضان ، سنة أربع وثمانين وثلاثمائة ، بطالع العقرب ، وتوفي ليومين بقيا من شعبان سنة ٤٥٦ ، وكان كثير المواظبة على التأليف ، ومن جملة تآليفه كتاب «الفصل ، بين أهل الأهواء

__________________

(١) يناضل الفقهاء : أراد يجادلهم.

(٢) سيذكر المؤلف الفضل أبا رافع بن حزم ، وسيذكر عدد مؤلفات ابن حزم التي وجدت عند ابنه ، وكان أبو رافع أديبا موفور الذكاء ، توفي سنة ٤٧٩ ه‍.

٢٣٩

والنحل» وكتاب «الصادع والرادع ، على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على فرق التقليد» وكتاب «شرح حديث الموطأ ، والكلام على مسائله» وكتاب «الجامع ، في حد صحيح الحديث (١) باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها» وكتاب «التلخيص والتخليص (٢) ، في المسائل النظرية وفروعها التي لا نص عليها في الكتاب والحديث» وكتاب منتقى الإجماع ، وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف» وكتاب «الإمامة والخلافة ، في سير الخفاء ومراتبها والندب والواجب منها» وكتاب «أخلاق النفس» وكتاب «الإيصال ، إلى فهم كتاب الخصال» وكتاب «كشف الالتباس ، ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس» انتهى.

وقال ابن سعيد في حق ابن حزم ، ما ملخصه : الوزير العالم الحافظ أبو محمد علي بن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي ، وشهرته تغني عن وصفه وتوفي منفيّا بقرية من بلده (٣) لبلة ، ووصله من ابن عمه أبي المغيرة رسالة فيها ما أوجب أن جاوبه بهذه الرسالة ، وهي : سمعت وأطعت ، لقوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] وأسلمت وانقدت لقول نبيه عليه الصلاة والسلام : «صل من قطعك ، واعف عمّن ظلمك» ورضيت بقول الحكماء : كفاك انتصارا ممن تعرض لأذاك إعراضك عنه ، وأقول : [المتقارب]

تتبّع سواي امرأ يبتغي

سبابك إنّ هواك السّباب

فإنّي أبيت طلاب السّفاه

ونزّهت عرضي عمّا يعاب(٤)

وقل ما بدا لك من بعد ذا

وأكثر فإنّ سكوتي خطاب

وأقول : [الطويل]

كفاني بذكر النّاس لي ومآثري

ومالك فيهم يا ابن عمّي ذاكر

عدوّي وأشياعي كثير كذاك من

غدا وهو نفّاع المساعي وضائر(٥)

وإنّي وإن آذيتني وعققتني

لمحتمل ما جاءني منك صابر

فوقّع له أبو المغيرة على ظهر رقعته : قرأت هذه الرقعة العاقّة ، فحين استوعبتها أنشدتني : [مجزوء الرجز]

نحنح زيد وسعل

لمّا رأى وقع الأسل

__________________

(١) في ب ، ه : الجامع في صحيح الحديث.

(٢) والتخليص : سقطت من ه.

(٣) في ب ، ه : من بلد لبلة : وما أثبتناه أصح.

(٤) في ب ، ه : وصنت محلّي عما يعاب.

(٥) الأشياع : جمع شيعة : الأتباع.

٢٤٠