نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

ثاقب الذهن في تمييز الصواب فيها ، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق ، مع حسن المعاشرة ، ولين الكنف ، وكثرة الاحتمال ، وكرم النفس ، وحسن العهد ، وثبات الود.

وذكره ابن بشكوال في الصلة وقال فيه : هو الإمام (١) الحافظ ، ختام علماء الأندلس ، رحل إلى المشرق مع أبيه مستهلّ ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة ، ودخل الشام والعراق وبغداد ، وسمع بها من كبار العلماء ، ثم حج في سنة تسع وثمانين ، وعاد إلى بغداد ، ثم صدر منها.

وقال ابن عساكر : خرج من دمشق راجعا إلى مقره سنة ٤٩١ ، ولما غرّب (٢) صنف «عارضة الأحوذي» ولقي بمصر والإسكندرية جملة من العلماء ، ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين ، وقدم إشبيلية بعلم كثير ، وكان موصوفا بالفضل والكمال ، وولي القضاء بإشبيلية ، ثم صرف عنه ، ومولده ليلة يوم الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة ، وتوفي بمغيلة بمقربة (٣) من مدينة فاس ، ودفن بفاس في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ، انتهى كلام ابن سعيد وغيره ملخصا.

وما وفى ابن سعيد حافظ الإسلام أبا بكر بن العربي حقه ، فلنعززه بما حضرنا من التعريف به ، فنقول : إنه لقي ببغداد الشاشي الإمام أبا بكر (٤) والإمام أبا حامد الطوسي الغزالي ، ونقل عنه أنه قال : كل من رحل لم يأت بمثل ما أتيت به من العلم إلا الباجي ، أو كلاما هذا معناه ، وكان من أهل التفنن في العلوم ، متقدما في المعارف كلها ، متكلما على أنواعها ، حريصا على نشرها ، وقام بأمر القضاء أحمد قيام ، مع الصرامة في الحق ، والقوّة والشدة على الظالمين ، والرفق بالمساكين ، وقد روي عنه أنه أمر بثقب أشداق زامر ، ثم صرف عن القضاء ، وأقبل على نشر العلم وبثّه ، وقرأ عليه الحافظ ابن بشكوال بإشبيلية.

وقال ابن الأبّار (٥) : إن الإمام الزاهد العابد أبا عبد الله بن مجاهد الإشبيلي لازم القاضي ابن العربي نحوا من ثلاثة أشهر ، ثم تخلف عنه ، فقيل له في ذلك ، فقال : كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان ، انتهى.

__________________

(١) هو : غير موجودة في ب.

(٢) غرّب : صار إلى الغرب.

(٣) في ج : وتوفي بمقيلة بمقبرة من مدينة فاس ، وفي ه : بمقيلة بقرية من مدينة فاس.

(٤) في ج : الشاشي ، والإمام أبا بكر. وفي ه : الشاشي أبا بكر.

(٥) انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ١٠٦.

٢٠١

وذكره ابن الزبير في صلته ، وقال : إنه رحل مع أبيه أبي محمد عند انقراض الدولة العبّادية (١) ، وسنه نحو سبعة عشر عاما ، إلى أن قال : وقيد الحديث ، وضبط ما روي ، واتسع في الرواية ، وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام على أئمة هذا الشأن ، ومات أبوه ـ رحمه الله تعالى! ـ بالإسكندرية أول سنة ثلاث وتسعين فانصرف حينئذ إلى إشبيلية ، فسكنها ، وشوور فيها ، وسمع ودرس الفقه والأصول ، وجلس للوعظ والتفسير ، وصنف في غير فن تصانيف مليحة حسنة مفيدة ، وولي القضاء مدّة أوّلها في رجب من سنة ثمان وعشرين ، فنفع الله تعالى به لصرامته ونفوذ أحكامه ، والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله ، فأحسن الصبر على ذلك كله ، ثم صرف عن القضاء ، وأقبل على نشر العلم وبثّه وكان فصيحا ، حافظا ، أديبا ، شاعرا ، كثير الملح ، مليح المجلس.

ثم قال : قال القاضي عياض ـ بعد أن وصفه بما ذكرته ـ : ولكثرة حديثه وأخباره وغريب حكاياته ورواياته أكثر الناس فيه الكلام ، وطعنوا في حديثه ، وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة بعد دخول الموحّدين مدينة إشبيلية ، فحبسوا بمراكش نحو عام ، ثم سرحوا ، فأدركته منيته ، وروى عنه خلق كثير ، منهم القاضي عياض وأبو جعفر بن الباذش وجماعة ، انتهى ملخصا.

ووقع في عبارة ابن الزبير تبعا لجماعة أنه دفن خارج الجيسة بفاس ، والصواب خارج باب المحروق ، كما أشبعت الكلام على ذلك في «أزهار الرياض» وقد زرته مرارا ، وقبره هنالك مقصود للزيارة خارج القصبة ، وقد صرح بذلك بعض المتقدمين الذين حضروا وفاته ، وقال : إنه دفن بتربة القائد مظفر خارج القصبة ، وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج ، رحمه الله تعالى!.

ومن بديع نظمه (٢) : [المتقارب]

أتتني تؤنّبني بالبكاء

فأهلا بها وبتأنيبها

تقول وفي نفسها حسرة :

أتبكي بعين تراني بها؟

فقلت : إذا استحسنت غيركم

أمرت جفوني بتعذيبها!

وقال رحمه الله تعالى : دخل علي الأديب ابن صارة وبين يدي نار علاها رماد ، فقلت له : قل في هذه ، فقال : [الكامل]

__________________

(١) الدولة العبادية : نسبة إلى عباد ، ومن رجالاتها المعتضد بن عباد والمعتمد بن عباد.

(٢) انظر أزهار الرياض ج ٣ ص ٨٨.

٢٠٢

شابت نواصي النّار بعد سوادها

وتستّرت عنّا بثوب رماد

ثم قال لي أجز ، فقلت : [الكامل]

شابت كما شبنا وزال شبابنا

فكأنّما كنّا على ميعاد

وقد اختلف حذاق الأدباء في قوله : «ولكنه رمح وثان وثالث» (١) ما هو الثاني والثالث؟

فقيل : القدّ واللحظ ، وقيل غير ذلك.

ولما ذكر رحمه الله تعالى في كتابه «قانون التأويل» ركوبه البحر في رحلته من إفريقية قال : وقد سبق في علم الله تعالى أن يعظم علينا البحر بزوله (٢) ، ويغرقنا في هوله (٣) ، فخرجنا من البحر خروج الميت من القبر ، وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم ، ونحن من السّغب (٤) ، على عطب ، ومن العري ، في أقبح زي ، قد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها (٥) ، ودسّمت الأدهان وبرها وجلدتها ، فاحترمناها أزرا ، واشتملناها لفافا ، تمجّنا الأبصار (٦) ، وتخذلنا الأنصار ، فعطف أميرهم علينا ، فأوينا إليه فآوانا ، وأطعمنا الله تعالى على يديه وسقانا ، وأكرم مثوانا ، وكسانا بأمر حقير ضعيف ، وفنّ من العلم طريف ، وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدبّر أعواد الشاه (٧) ، فعل السامد اللاه ، فدنوت منه في تلك الأطمار ، وسمح لي بياذقته إذ كنت من الصغر في حدّ يسمح فيه للأغمار ، ووقفت بإزائهم ، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم ، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خلس البطالة ، مع غلبة الصّبوة والجهالة ، فقلت للبياذقة : الأمير أعلم من صاحبه ، فلمحوني شزرا ، وعظمت في أعينهم بعد أن كنت نزرا ، وتقدّم إلى الأمير من نقل إليه الكلام ، فاستدناني ، فدنوت منه ، وسألني : هل لي بما هم فيه بصر؟ فقلت : لي فيه بعض نظر ، سيبدو لك ويظهر ، حرّك تلك القطعة ، ففعل كما أشرت (٨) وعارضه صاحبه ، فأمرته أن يحرّك أخرى ،

__________________

(١) يريد بذلك البيت الذي قاله في أحد أمراء الملثمين : انظر ص ٢٣٥ من هذا الجزء.

(٢) الزول : العجب ، البلاء.

(٣) الهول : الأمر الشديد المخيف.

(٤) السّغب ، بفتح السين والغين : الجوع.

(٥) المنيئة : الجلد أول عهده بالدباع ، وفي ه : هيئتها.

(٦) اتمجنا الأبصار : تعافنا.

(٧) يدبر أعواد الشاه : أراد : يلعب الشطرنج. وفي ب : يدير.

(٨) كما أشرت : غير موجودة في ب.

٢٠٣

وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى ، حتى هزمهم الأمير ، وانقطع التدبير ، فقالوا : ما أنت بصغير ، وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا : [الطويل]

وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه

وفي الهجر فهو الدّهر يرجو ويتّقي

فقال : لعن الله أبا الطيب! أو يشك الربّ؟ فقلت له في الحال : ليس كما ظنّ صاحبك أيها الأمير ، إنما أراد بالرب ههنا الصاحب ، يقول : ألذ الهوى ما كان المحبّ فيه من الوصال ، وبلوغ الغرض من الآمال (١) ، على ريب ، فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله ، وتقاة (٢) لما يقع به (٣) ، كما قال : [الطويل]

إذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضا

فأين حلاوات الرّسائل والكتب

وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض ، في طرفي إبرام وانتقاض (٤) ، ما حرّك منهم إلى جهتي دواعي (٥) الانتهاض ، وأقبلوا يتعجبون مني ويسألوني كم سني ، ويستكشفونني عني ، فبقرت (٦) لهم حديثي ، وذكرت لهم نجيثي (٧) ، وأعلمت الأمير بأن أبي معي ، فاستدعاه ، وقمنا الثلاثة إلى مثواه ، فخلع علينا خلعه ، وأسبل علينا أدمعه ، وجاء كل خوان ، بأفنان وألوان (٨).

ثم قال بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه : فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب ، مع تلك الصّبابة اليسيرة من الأدب ، كيف أنقذا من العطب؟ وهذا الذكر يرشدكم إن عقلتم إلى المطلب ، وسرنا حتى انتهينا إلى ديار مصر ، انتهى مختصرا.

والزول : العجب ، ونجيث الخبر : ما ظهر من قبيحه ، يقال : بدا نجيث القوم ، إذا ظهر سرهم الذي كانوا يخفونه ، قالهما الجوهري.

وذكر ـ رحمه الله تعالى ـ! في رحلته عجائب :

منها : أنه حكى في (٩) دخوله بدمشق بيوت بعض الأكابر أنه رأى فيه النهر جاريا إلى موضع جلوسهم ، ثم يعود من ناحية أخرى ، فلم أفهم معنى ذلك حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا ، فأخذها الخدم ووضعوها بين أيدينا ، فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها

__________________

(١) في ه : وبلوغ الغرض والآمال.

(٢) التقاة : الخوف والحذر.

(٣) في ب ، ج : لما يقطع به.

(٤) في ب ، ه : طرفي الإبرام والانتقاض.

(٥) في ب : داعي.

(٦) بقرت لهم حديثي : أوضحته.

(٧) النجيث : السر الخفي.

(٨) في ب ، ه : بأفنان الألوان.

(٩) في ب : حكى دخوله.

٢٠٤

في النهر الراجع ، فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم تلك الناحية ، فعلمت السر ، وإن هذا لعجيب ، انتهى بمعناه.

وقال في «قانون التأويل» : ورد علينا ذانشمند (١) ـ يعني الغزالي ـ فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية ، معرضا عن الدنيا ، مقبلا على الله تعالى ، فمشينا إليه ، وعرضنا أمنيتنا عليه ، وقلت له : أنت ضالّتنا التي كنا ننشد ، وإمامنا الذي به نسترشد ، فلقينا لقاء المعرفة ، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة ، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه عليّ بن العباس لما قال (٢) : [المتقارب]

إذا ما مدحت امرا غائبا

فلا تغل في مدحه واقصد

فإنّك إن تغل تغل الظّنو

ن فيه إلى الأمد الأبعد

فيصغر من حيث عظّمته

لفضل المغيب على المشهد

وكنت نقلت من المطمح في حقه ما صورته : الفقيه الحافظ أبو بكر بن العربي (٣) علم الأعلام الطاهر الأثواب ، الباهر الألباب ، الذي أنسى ذكاء إياس (٤) ، وترك التقليد للقياس ، وأنتج الفرع من الأصل ، وغدا في يد (٥) الإسلام أمضى من النّصل ، سقى الله تعالى به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف ، ومد عليها منه الظلّ الوارف ، وكساها رونق نبله ، وسقاها ريّق وبله ، وكان أبوه أبو محمد بإشبيلية بدرا في فلكها ، وصدرا في مجلس ملكها ، واصطفاه معتمد بني عبّاد ، اصطفاء المأمون لابن أبي دواد (٦) ، وولاه الولايات الشريفة ، وبوّأه المراتب المنيفة ، فلما أقفرت حمص من ملكهم وخلت ، وألقتهم منها وتخلّت ، رحل به إلى المشرق ، وحل فيه محل الخائف الفرق ، فجال في أكنافه ، وأجال قداح الرجاء في استقبال العزو استئنافه ، فلم يسترد ذاهبا ، ولم يجد كمعتمده باذلا له وواهبا ، فعاد إلى الرواية والسماع ، وما استفاد من آمال تلك الأطماع ، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوّح (٧) ، وفي روض الشباب زهر ما صوّح (٨) ، فألزمه مجالس العلم رائحا وغاديا ، ولازمه سائقا إليها وحاديا ، حتى استقرت

__________________

(١) في ب : دانشمند ، وهو الحكيم العلامة.

(٢) علي بن عباس : هو الشاعر المعروف ، ابن الرومي.

(٣) الفقيه الحافظ أبو بكر بن العربي : العبارة غير موجودة في ب.

(٤) إياس : هو إياس بن معاوية الذي كان يضرب فيه المثل في الذكاء.

(٥) يد : سقطت من ب ، وهي موجودة في المطمح.

(٦) المأمون : هو ابن هارون الرشيد. وابن أبي دؤاد : القاضي أحمد بن أبي دؤاد.

(٧) ما دوّح : أي لم يصر دوحة بعد ، والدوحة : الشجرة العظيمة الممتدة الوارفة الظلال.

(٨) صوّح : ذبل وذوى.

٢٠٥

به مجالسه ، واطّردت له مقايسه ، فجدّ في طلبه ، واستجدّ به أبوه متمزق أربه ، ثم أدركه حمامه ، ووارته هناك رجامه (١) ، وبقي أبو بكر متفردا ، وللطلب متحردا (٢) ، حتى أصبح في العلم وحيدا ، ولم تجد عنه رياسته محيدا ، فكر إلى الأندلس فحلّها والنفوس إليه متطلعة ، ولأنبائه متسمعة ، فناهيك من حظوة لقي ، ومن عزة سقي ، ومن رفعة سما إليها ورقي ، وحسبك من مفاخر قلّدها ، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلّدها ، وقد أثبتّ من بديع نظمه ما يهز أعطافا ، وترده الأفهام نطافا ، (٣) فمن ذلك قوله يتشوق إلى بغداد ، ويخاطب فيها أهل الوداد : [الطويل]

أمنك سرى واللّيل يخدع بالفجر

خيال حبيب قد حوى قصب الفخر؟

جلا ظلم الظّلماء مشرق نوره

ولم يخبط الظّلماء بالأنجم الزّهر

ولم يرض بالأرض البسيطة مسحبا

فسار على الجوزا إلى فلك يجري

وحثّ مطايا قد مطاها بعزّة

فأوطأها قسرا على قنّة النّسر

فصارت ثقالا بالجلالة فوقها

وسارت عجالا تتّقي ألم الزّجر

وجرّت على ذيل المجرّة ذيلها

فمن ثمّ يبدو ما هناك لمن يسري

ومرّت على الجوزاء توضع فوقها

فآثار ما مرّت به كلف البدر(٤)

وساقت أريج الخلد من جنّة العلا

فدع عنك رملا بالأنيعم يستذري

فما حذرت قيسا ولا خيل عامر

ولا أضمرت خوفا لقاء بني ضمر

سقى الله مصرا والعراق وأهلها

وبغداد والشّامين منهمل القطر

ومن تآليف الحافظ أبي بكر بن العربي المذكور كتاب «القبس ، في شرح موطأ مالك بن أنس» وكتاب «ترتيب المسالك ، في شرح موطأ مالك» وكتاب «أنوار الفجر» وكتاب «أحكام القرآن» وكتاب «عارضة الأحوذيّ (٥) ، في شرح الترمذي» والأحوذي ـ بفتح الهمزة ، وسكون الحاء المهملة ، وفتح الواو ، وكسر الذال المعجمة ، وآخره ياء مشددة. وكتاب «مراقي الزّلف»

__________________

(١) الرجام : جمع رجم ، وهو الحجارة التي توضع على القبر ، أو القبر نفسه.

(٢) تحرّد : تنحّى.

(٣) النطاف : جمع نطفة : الماء الصافي.

(٤) في ب : فآثر.

(٥) عارضة الأحوذي : العارضة : قوة الحجة والبيان ، والأحوذي : الرجل المشمر النشيط ، السريع لبلوغ حاجته.

٢٠٦

وكتاب «الخلافيات» وكتاب «نواهي الدواهي» وكتاب «سراج المريدين» وكتاب «المشكلين : مشكل الكتاب (١) ، والسنة» وكتاب «الناسخ والمنسوخ في القرآن» وكتاب «قانون التأويل» وكتاب «النيرين ، في الصحيحين» وكتاب «سراج المهتدين» وكتاب «الأمد الأقصى ، بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا» وكتاب «في الكلام على مشكل حديث السبحات والحجاب» ، وكتاب «العقد الأكبر ، للقلب الأصغر» و «تبيين الصحيح ، في تعيين الذبيح» (٢) و «تفصيل التفضيل ، بين التحميد والتهليل» ورسالة «الكافي ، في أن لا دليل على النافي» وكتاب «السباعيات» وكتاب «المسلسلات» وكتاب «المتوسط في معرفة صحّة الاعتقاد ، والرد على من خالف أهل السنة من ذوي البدع والإلحاد» وكتاب «شرح غريب الرسالة» وكتاب «الإنصاف ، في مسائل الخلاف» عشرون مجلدا ، وكتاب «حديث الإفك» وكتاب «شرح حديث جابر في الشفاعة» وكتاب «شرح حديث أم زرع» وكتاب «ستر العورة» وكتاب «المحصول ، في علم الأصول» وكتاب «أعيان الأعيان» وكتاب «ملجأة المتفقهين ، إلى معرفة غوامض النحويين» وكتاب «ترتيب الرحلة» وفيه من الفوائد ما لا يوصف (٣).

ومن فوائد القاضي أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى قوله : قال علماء الحديث : ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة (٤) ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها ـ الحديث» قال : وهذا دعاء منه عليه الصلاة والسلام لحملة علمه ، ولا بدّ بفضل الله تعالى من نيل بركته ، انتهى.

وإلى هذه النّضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله : [الكامل]

أهل الحديث عصابة الحقّ

فازوا بدعوة سيّد الخلق

فوجوههم زهر منضّرة

لألاؤها كتألّق البرق(٥)

يا ليتني معهم فيدركني

ما أدركوه بها من السّبق

ولا بأس أن نذكر هنا بعض فوائد الحافظ أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى : فمنها قوله في تصريف المحصنات : يقال : أحصن الرجل فهو محصن ـ بفتح العين في

__________________

(١) في ب ، ه : مشكل القرآن والسنة.

(٢) أي تعيين أي ابني إبراهيم الخليل عليه السلام هو الذبيح؟ إسماعيل أم إسحاق؟.

(٣) عدّ المقري في كتابه : أزهار الرياض مؤلفات ابن العربي ، ولكنه لم يذكرها كلها كما ورد في النفح.

(٤) النضرة : حسن الوجه ، وفي القرآن الكريم (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ).

(٥) اللأواء : الشدة والضيق.

٢٠٧

اسم الفاعل ـ وأسهب في الكلام فهو مسهب ، إذا أطال البحث فيه ، وألفج فهو ملفج ، إذا كان عديما ، لا رابع لها ، والله تعالى أعلم ، انتهى.

ومنها قوله : سمعت الشيخ فخر الإسلام أبا بكر الشاشي وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر يقول : يقال في اللغة العربية لا تقرب كذا ـ بفتح الراء ـ أي لا تتلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع ، وهذا الذي قاله صحيح مسموع ، انتهى.

ومنها قوله : شاهدت المائدة بطورزيتا (١) مرارا ، وأكلت عليها ليلا ونهارا ، وذكرت الله سبحانه فيها (٢) سرا وجهارا ، وكان ارتفاعها أشفّ من القامة بنحو الشبر (٣) ، وكان لها درجان قبلي وجنوبي (٤) ، وكانت صخرة صلودا (٥) لا تؤثر فيها المعاول ، وكان الناس يقولون : مسخت صخرة إذ مسخ أربابها قردة وخنازير (٦) ، والذي عندي أنها كانت صخرة في الأصل قطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء ، وكل ما حولها حجارة مثلها ، وكان ما حولها محفوفا بقصور ، وقد نحتت في ذلك الحجر الصلد بيوت أبوابها منها ومجالسها منها ، مقطوعة فيها ، وحناياها في جوانبها ، وبيوت خدمتها قد صوّرت من الحجر كما تصوّر من الطين والخشب ، فإذا خلت في قصر من قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة مقدار ثقل (٧) ثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض ، وإذا هبّت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح إلا بعد صب الماء تحته والإكثار منه حتى يسيل بالتراب ، وينفرج منفرج الباب ، وقد بار بها قوم بهذه العلة (٨) ، وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس ، ولكني كنت في كل حين أكنس حول الباب ، مخافة مما جرى لغيري فيها ، وقد شرحت أمرها في كتاب «ترتيب الرحلة» بأكثر من هذا ، انتهى.

ومنها قوله رحمه الله تعالى : تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي حديث أبي ثعلبة المرفوع «إن من ورائكم أيّاما للعامل فيها أجر خمسين منكم»

__________________

(١) طورزيتا : جبل قريب من رأس عين ، يقال إنه مات فيه سبعون نبيا.

(٢) في ب : سبحانه وتعالى.

(٣) أشفّ : أزيد أو أقل ، وهي من الألفاظ التي تحمل المعنيين المتناقضين.

(٤) في ب : درجتان قبليا وجنوبيا ..

(٥) الصخرة الصلود : الصلبة.

(٦) يشير إلى الآية الكريمة التي تحكي صنيع الله تعالى في عصاة بني إسرائيل : (... مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ...) [المائدة ، الآية : ٦٠].

(٧) ثقل : غير موجودة في ب.

(٨) بار : هلك.

٢٠٨

فقالوا : بل منهم ، فقال : «بل منكم ، لأنكم تجدون على الخير أعوانا (١) ، وهم لا يجدون عليه أعوانا» وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمّة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسّسوا الإسلام ، وعضدوا الدين وأقاموا المنار ، وافتتحوا الأمصار ، وحموا البيضة ، ومهّدوا الملة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح : «لو أنفق أحدكم كلّ يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» فتراجعنا القول ، وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح ، وخلاصته : أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ، ولا يدانيهم فيها بشر ، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم ، وخلّصها من شوائب البدع والرياء بعدهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام ، وهو أيضا انتهاؤه ، وقد كان قليلا في ابتداء الإسلام ، صعب المرام ، لغلبة الكفار على الحق ، وفي آخر الزمان أيضا يعود كذلك ، لوعد الصادق صلى الله عليه وسلم بفساد الزمان ، وظهور الفتن ، وغلبة الباطل ، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق ، وركوب من يأتي سنن (٢) من مضى من أهل الكتاب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «لتركبنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ خرب لدخلتموه» وقال صلى الله عليه وسلم : «بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ» (٣). فلا بد والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق أن يرجع الإسلام إلى واحد ، كما بدأ من واحد ، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى إذا قام به قائم مع احتواشه (٤) بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدّعاء إلى الله تعالى ، وذلك قوله : «لأنّكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا» حتى ينقطع ذلك انقطاعا باتّا لضعف اليقين وقلة الدين ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم السّاعة حتّى لا يقال في الأرض الله الله» (٥) يروى برفع الهاء ونصبها ، فالرفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله عز وجل ، والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن المنكر (٦) يقول : أخاف الله ، حينئذ يتمنى العاقل الموت ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم السّاعة حتّى يمرّ الرّجل بقبر الرّجل فيقول : يا ليتني كنت مكانه» (٧) انتهى وأنشد رحمه الله تعالى لبعض الصوفية : [السريع]

امتحن الله بذا خلقه

فالنّار والجنّة في قبضته

فهجره أعظم من ناره

ووصله أطيب من جنّته

__________________

(١) انظر مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٨٢.

(٢) سنن الطريق : نهجه وجهته.

(٣) انظر مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٧٧ ـ ٢٧٩.

(٤) احتواشه بالمخاوف : إحاطته بالمخاوف.

(٥) انظر مجمع الزوائد ج ٨ ص ١٢.

(٦) في ب : عن منكر.

(٧) صحيح مسلم ج ٢ ص ٣٧٨ ، ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٨٢.

٢٠٩

ومن فوائد ابن العربي رحمه الله تعالى أنه قال : كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور ابن جهير على رتبة بيناها في كتاب «الرحلة ، للترغيب في الملة» فقرأ القارئ (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] وكنت في الصف الثاني من الحلقة بظهر أبي الوفاء علي بن عقيل إمام الحنبلية بمدينة السلام (١) ، وكان معتزلي الأصول ، فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري : هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة : فإن العرب لا تقول : «لقيت فلانا» إلا إذا رأته ، فصرف وجهه أبو الوفاء مسرعا إلينا ، وقال ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله تعالى لا يرى في الآخرة : فقد قال الله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٧] وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة ، وقد شرحنا وجه الآية في المشكلين ، وتقدير الآية : فأعقبهم هو نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ، فيحتمل ضمير يلقونه أن يعود إلى ضمير الفاعل في (أعقبهم) المقدر بقولنا هو ، ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازا على تقدير الجزاء ، انتهى.

ومنها ما نقله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة» فإن قوما قيل فيهم (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] وقد أنبأنا (٢) محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ ، أنبأنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه : كنا في جنازة فقال المنذر بها : انصرفوا رحمكم الله تعالى ، فقال : لا يقل أحدكم انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] ولكن قولوا : انقلبوا رحمكم الله ، فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : ١٧٤] انتهى.

ومنها ، وقد ذكر الخلاف في شاهد يوسف ، ما صورته : فإذا قلنا إنه القميص ، فكان يصح من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدم مقاله ، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور ، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات ، ومن أحلاه قول بعضهم : قال الحائط للوتد : لم تشقّني؟ قال : سل من يدقني ، ما يتركني ورائي (٣) ، هذا الذي ورائي ، لكن قوله تعالى بعد ذلك : (مِنْ أَهْلِها) [يوسف : ٢٦] في صفة

__________________

(١) علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري ، أبو الوفاء ، ويعرف بابن عقيل ، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته. كان قوي الحجة ، اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته ، وكان يعظم الحلاج فأراد الحنابلة قتله ، فاستجار بباب المراتب عدة سنين ، فتمكن من الظهور. له تصانيف أهمها : كتاب الفنون وكتاب الواضح في الأصول ، والفصول ، والرد على الأشاعرة. (الأعلام للزركلي ج ٥ ص ١٢٩).

(٢) في ب : وقد أخبرنا.

(٣) ورائي : أي ورأيي.

٢١٠

الشاهد يبطل أن يكون القميص ، وأما من قال إنه ابن عمها أو رجل من أصحاب العزيز فإنه يحتمل ، لكن قوله : (مِنْ أَهْلِها) [يوسف : ٢٦] يعطي اختصاصها من جهة القرابة ، انتهى.

ومنها قوله : إنه كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأي إمام ، يعرف بابن عطاء ، فتكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه (١) من مكروه ، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال : يا شيخ ، يا سيدنا ، فإذن يوسف همّ وما تم ، فقال : نعم ، لأن العناية من ثمّ ، فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم وفطنة العامي في سؤاله ، والعالم في اختصاره واستيفائه ، ولذا قال علماؤنا الصوفية : إن فائدة قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [يوسف : ٢٢] إن الله تعالى أعطاه العلم والحكمة أيام غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة. انتهى.

ومنها قوله : كنت بمكة مقيما في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة ، وكنت أشرب من (٢) ماء زمزم كثيرا ، وكل ما شربته نويت به العلم والإيمان ، ففتح الله تعالى لي ببركته في المقدار الذي يسّره لي من العلم ، ونسيت أن أشربه للعمل ، ويا ليتني شربته لهما ، حتى يفتح الله تعالى لي فيهما ، ولم يقدّر فكان صفوي (٣) للعلم أكثر منه للعمل ، وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق برحمته.

ومنها قوله : سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول : إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ، ولا مالية فيه ، ولا منفعة مبتوتة عليه (٤) ، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها ، فلذلك تبعها ، كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة ، لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها ، وهذه من البدائع ، انتهى.

ومنها قوله : ومن نوادر أبي الفضل الجوهري ما أخبرنا عنه محمد بن عبد الملك الواعظ وغيره أنه كان يقول : إذا أمسكت علاقة الميزان بالإبهام والسبابة ، وارتفعت سائر الأصابع كان شكلها مقروا (٥) بقولك الله ، فكأنها إشارة منه سبحانه في تيسير الوزن كذلك إلى أن الله سبحانه مطلع عليك ، فاعدل في وزنك ، انتهى.

__________________

(١) في ب : مما ينسب إليه.

(٢) من : غير موجودة في ب.

(٣) في ب : صفوي.

(٤) مبتوتة : مقطوع بها. في ب : مبثوثة.

(٥) في ب : مقررا بقولك : الله.

٢١١

ومنها قوله : كان ابن الكازروني يأوي إلى المسجد الأقصى ، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات ، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى عليه السلام فيسمع من الطور ، فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا دون قراءته ، إلا الإصغاء إليه ، انتهى.

ومنها قوله في تفسير قوله تعالى (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) [فصلت : ١٦] قيل : إنها كانت آخر شوال ، من الأربعاء إلى الأربعاء ، والناس يكرهون السفر يوم الأربعاء لأجل هذه الرواية ، حتى إني لقيت يوما مع خالي الحسن بن أبي حفص رجلا من الكتاب ، فودعنا بنية السفر ، فلما فارقنا قال لي خالي : إنك لا تراه أبدا لأنه سافر في يوم أربعاء لا يتكرر ، وكذا (١) كان ، مات في سفره ، وهذا ما لا أراه ، لأن يوم الأربعاء يوم عجيب ، بما جاء في الحديث من الخلق فيه والترتيب ، فإن الحديث ثابت بأن الله تعالى خلق يوم السبت التربة ، ويوم الأحد الجبال ، ويوم الاثنين الشجر ، ويوم الثلاثاء المكروه ، ويوم الأربعاء النور ، وروى النون ، وفي غريب الحديث أنه خلق يوم الأربعاء التّقن (٢) ، وهو كل شيء تتقن به الأشياء ، يعني المعادن من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص ، فاليوم الذي خلق فيه المكروه لا يعافه الناس ، واليوم الذي خلق فيه النور أو التّقن يعافونه (٣) ، إن هذا لهو الجهل المبين!. وفي المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء بين الظهر والعصر ، فاستجيب له ، وهي ساعة فاضلة ، فالآثار الصّحاح تدل على فضل هذا اليوم ، فكيف يدعى فيه التحذير والنحس بأحاديث لا أصل لها ، وقد صور قوم أياما من الأشهر الشمسية ادعوا فيها الكراهية لا يحل لمسلم أن ينظر إليها ولا يشغل بها بالا ، فحسبهم الله (٤) ، انتهى.

ومنها : وكان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الإمام دانشمند من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية ، فربك أعلم به ، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله ، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله ، انتهى.

ومن شعر ابن العربي (٥) مما نسبه الشيخ أبو حيان قوله : [مجزوء الرمل]

__________________

(١) في ب : وكذلك كان.

(٢) التقن ، بكسر التاء وسكون القاف : المتقن للأشياء ، الحاذق الماهر ، والطبع ، والطين الذي يذهب عنه الماء فيتشقق ، وما يرسب من الماء الكدر في الحوض.

(٣) عافه : كرهه ونفر منه.

(٤) في ب : ولا يشغل بالا بها ، والله حسبهم.

(٥) تنسب هذه الأبيات إلى المتصوف الكبير محيي الدين بن عربي ، وهو في ابتداء كتابه أسمى ترجمان الأشواق ص ١١.

٢١٢

ليت شعري هل دروا

أيّ قلب ملكوا

وفؤادي لو درى

أيّ شعب سلكوا(١)

أتراهم سلموا

أم تراهم هلكوا

حار أرباب الهوى

في الهوى وارتبكوا

ومن فوائده : أخبرني المهرة من السّحرة بأرض بابل أنه من كتب آخر آية من كل سورة ويعلقها لم يبلغ إليه سحرنا ، قال : هكذا قالوا ، والله تعالى أعلم بما نقلوه.

وقال رحمه الله تعالى : حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثا لضبط القرآن والعربية والحساب ، فبلغت ست عشرة وقد قرأت من الأحرف نحوا من عشرة بما يتبعها في إظهار وإدغام ونحوه ، وتمرنت في العربية (٢) واللغة ، ثم رحل بي أبي إلى المشرق ، ثم ذكر تمام رحلته ، رحمه الله تعالى!.

٩ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن أبي عامر بن حجّاج ، الغافقي ، الإشبيلي.

ومن نظمه بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام : [السريع]

لم يبق لي سؤل ولا مطلب

مذ صرت جارا لحبيب الحبيب

لا أبتغي شيئا سوى قربه

وها أنا منه قريب قريب

من غاب عن حضرة محبوبه

فلست عن طيبة ممّن يغيب

لا تسأل المغبوط عن حاله

جار كريم ومحلّ خصيب

العيش والموت هنا طيّبّ

بطيبة لي كلّ شيء يطيب

وممن روى عنه هذه الأبيات الأشرف بن الفاضل.

١٠ ـ ومنهم الشيخ الأديب الفاضل البارع جمال الدين أبو عبد الله محمد ابن الفقيه الخطيب أبي الحسن محمد بن أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن ذي النون ، الأنصاري ، المالقي ، من أشياخ أبي حيّان ، لقيه ببلبيس من ديار مصر ، قال : وأنشدني لشيخه أبي عبد الله (٣) الإستجي من قصيدة : [الكامل]

__________________

(١) الشعب ، بكسر الشين وسكون العين : الطريق في الجبل.

(٢) في ب : وتمرنت في العربية والشعر واللغة. وفي ج : وتمرنت في الغريب والشعر واللغة.

(٣) في ه : لشيخه عبد الله الإستجي.

٢١٣

ما للنّسيم سرى يهبّ عليلا

أتراه يشكو لوعة وغليلا(١)

جرّ الذّيول على ديار أحبّتي

فأتى يجرّ من السّقام ذيولا

وأنشد رحمه الله تعالى لرضوان المخزومي : [المجتث]

إن كنت يوسف حسنا

وكنت عبد العزيز

فإنّ يوسف من قب

ل كان عبد العزيز

وأخذ ابن ذي النون المذكور عن أبي عبد الله بن صالح ، وقرأ للسبعة على أبي جعفر الفحام وأبي زيد القمارشي ، وعلى أبي جعفر السّهيلي ، وولد ابن ذي النون سنة ٦١٨ (٢) بمالقة ، ومن تواليفه «نفح المسك الأذفر ، في مدح المنصور بن المظفر» و «أزهار الخميلة ، في الآثار الجميلة» و «استطلاع البشير» و «محض اليقين» و «روض المتقين».

١١ ـ ومنهم زياد بن عبد الرحمن بن زيادة اللخميّ ، المعروف بشبطون ، يكنى أبا عبد الله ، كان فقيه الأندلس على مذهب مالك ، وهو أول من أدخل مذهبه الأندلس ، وكانوا قبله يتفقّهون على مذهب الأوزاعي ، وأراده الأمير هشام على القضاء بقرطبة وعزم عليه ، فهرب ، فقال هشام : ليت الناس كلهم كزياد حتى أكفى الرغبة في الدنيا ، وأرسل إلى زياد فأمّنه حتى رجع إلى داره.

ويحكى أنه لما أراده للقضاء كلمه الوزراء في ذلك عن الأمير ، وعرفوه عزمه عليه ، فقال لهم : أما إن أكرهتموني على القضاء فزوجتي فلانة طالق ثلاثا لئن أتاني مدّع في شيء مما في أيديكم لأخرجنّه عنكم ثم أجعلكم مدّعين فيه ، فلما سمعوا منه ذلك علموا صدقه ، فتكلموا (٣) عند الأمير في معافاته.

سمع من مالك الموطأ ، ويعرف سماعه بسماع زياد ، وسمع من معاوية بن صالح ، وكانت ابنة معاوية تحته ، وروى يحيى بن يحيى الليثي عن زياد هذا الموطأ قبل أن يرحل إلى مالك ، ثم رحل فأدرك مالكا فرواه عنه إلا أبوابا في كتاب الاعتكاف ، شك في سماعها من مالك ، فأبقى روايته فيها عن زياد عن مالك.

وتوفي سنة أربع ومائتين ، وقيل : سنة ١٩٣ ، وقيل : في التي بعدها ، وقيل : سنة ١٩٩ ، والأول أولى بالقبول ، والله تعالى أعلم ..

__________________

(١) في ب : ما للنسيم سرى الأصيل عليلا. وفي ه : ما للنسيم جرى الأصيل عليلا.

(٢) في ب ، ه : سنة ٦١٧.

(٣) في ج : فعملوا عند الأمير.

٢١٤

ورحل في ذلك العصر جماعة من أمثال شبطون (١) ، كفرغوس بن العباس وعيسى بن دينار (٢) وسعيد بن أبي هند وغيرهم ممن رحل إلى الحج أيام هشام بن عبد الرحمن والد الحكم ، فلما رجعوا وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به صيته بالأندلس ، فانتشر يومئذ (٣) رأيه وعلمه بالأندلس ، وكان رائد الجماعة في ذلك شبطون.

وهو أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس مكملا متقنا ، فأخذه عنه يحيى بن يحيى كما مر ، وهو إذ ذاك صدر في طلاب الفقه ، فأشار عليه زياد بالرحيل إلى مالك ما دام حيا ، فرحل سريعا ، وأخذ يحيى عن زياد هذا الكتب العشرة المنسوبة إلى يحيى.

ولقي أيضا عبد الله بن وهب صاحب مالك ، وسمع منه الموطأ (٤) ، ولقي أيضا عبد الله بن نافع المدني صاحب مالك ، وسمع منه ومن الليث بن سعد فقيه مصر ، ومن سفيان بن عيينة بمكة ، وقدم يحيى الأندلس أيام الحكم ، فانتشر به وبزياد وبعيسى (٥) بن دينار علم مالك بالأندلس ، رضي الله تعالى عن الجميع!.

وقد قدمنا الحديث الذي رواه زياد بن عبد الرحمن عن مالك ، فليراجع في الباب الثالث.

١٢ ـ ومنهم سوار بن طارق مولى عبد الرحمن بن معاوية ، قرطبي ، حج ودخل البصرة ، ولقي الأصمعي ونظراءه ، وانصرف إلى الأندلس ، وأدّب الحكم ، ومن ولده محمد بن عبد الله بن سوار ، حج أيضا ، ولقي أبا حاتم بالبصرة والرياشي وغيرهما ، وأدخل الأندلس علما كثيرا ، رحم الله تعالى الجميع!.

١٣ ـ ومنهم بقي بن مخلد ، الشهير الذكر ، صاحب التآليف التي لم يؤلف مثلها في الإسلام ، ولقي مائتين وأربعة وثمانين شيخا ، وكانت له خاصة من الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، وستأتي جملة فيما (٦) يتعلق ببقي بن مخلد في رسالة ابن حزم في الباب السابع ، وبقيّ على وزن عليّ ، رحمه الله تعالى ورضي عنه! وقد عرف ببقي بن مخلد غير واحد من العلماء كصاحب النبراس وغيره.

١٤ ـ ومنهم قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف ، أبو محمد ، البيّاني ، وبيّانة : من

__________________

(١) في ب : من أنظار شبطون.

(٢) انظر الأعلام للزركلي ج ٥ ص ٢٨٦.

(٣) في ه : حينئذ.

(٤) في ج : وسمع منه موطأه.

(٥) في ب : وعيسى بن دينار.

(٦) في ه ، ب : مما يتعلق ببقي بن دينار.

٢١٥

أعمال قرطبة (١) ، وأصل سلفه من موالي الوليد بن عبد الملك ، وسمع المذكور بقرطبة من بقي ابن مخلد ومحمد بن وضاح ومطرّف بن قيس وأصبغ بن خليل وابن مسرة وغير واحد ، ورحل إلى المشرق مع محمد بن عبد الملك بن أيمن ومحمد بن زكريا بن عبد الأعلى سنة أربع وسبعين ومائتين ، فسمع بمكة من محمد بن إسماعيل الصائغ وعلي بن عبد العزيز ، ودخل العراق ، فلقي من أهل الكوفة إبراهيم بن أبي العنبس قاضيها وإبراهيم بن عبد الله القصار (٢) ، وسمع ببغداد من القاضي إسماعيل وأحمد بن زهير بن حرب وغيرهما كعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل والحارث بن أبي أسامة وكتب عن ابن أبي خيثمة تاريخه ، وسمع من ابن قتيبة كثيرا من كتبه ، وسمع من المبرد وثعلب وابن الجهم في آخرين ، وسمع بمصر من محمد بن عبد الله العمري ومطلب بن شعيب وغيرهما ، وسمع بالقيروان من أحمد بن يزيد المعلم وبكر بن حماد التاهرتي الشاعر ، وانصرف إلى الأندلس بعلم كثير ، فمال الناس إليه في تاريخ أحمد بن زهير وكتب ابن قتيبة ، وأخذوا ذلك عنه دون صاحبيه ابن أيمن وابن عبد الأعلى ، وكان بصيرا بالحديث والرجال ، نبيلا في النحو والغريب والشعر (٣) ، وكان يشاور في الأحكام ، وصنف على كتاب السنن لأبي داود كتابا في الحديث ، وسببه أنه لما قدم العراق سنة ست وسبعين ومائتين مع صاحبه محمد بن أيمن ، فوجدا أبا داود قد مات قبل وصولهما بيسير ، فلما فاتهما عمل كل واحد منهما مصنفا في السنن على أبواب كتاب أبي داود ، وخرجا الحديث من روايتهما عن شيوخهما وهما مصنفان جليلان ، ثم اختصر قاسم بن أصبغ كتابه وسماه «المجتنى» بالنون. وابتدأ اختصاره في المحرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ، وجعله باسم الحكم المستنصر ، وفيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثا في سبعة أجزاء.

ومولده يوم الاثنين عاشر ذي الحجة سنة سبع وأربعين ومائتين ، رحمه الله تعالى!.

وحكى القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] : أن قاسم بن أصبغ قال : لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان ، فأخذت عن بكر بن حماد حديث مسدّد (٤) ، فقرأت عليه يوما فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قدم عليه قوم من

__________________

(١) بيانة : من أعمال قرطبة ، وهي من مدن قبرة ، وعلى يمين الذاهب إلى قرطبة ، وشرقي قبرة ، بينهما عشرة أميال ، وهي على ربوة من الأرض ، طيبة التربة ، كثيرة المياه السائحة ولها حصن منيع ، ثم ذكر من أهلها قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح بن عطاء البياني (صفة جزيرة الأندلس ص ٥٩).

(٢) في ج : القصاد وهو تحريف.

(٣) في ب ، ه : في النحو والعربية والشعر.

(٤) في ه : أخذت عن بكر بن حماد حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم عليه ... إلخ.

٢١٦

مضر مجتابي النمار» فقال : إنما هو مجتابي الثمار ، فقلت : إنما هو مجتابي النمار ، هكذا قرأته على كل من لقيته بالأندلس والعراق ، فقال لي : بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا؟ أو نحو هذا ، ثم قال لي : قم بنا إلى ذلك ، لشيخ كان في المسجد ، فإن له بمثل هذا علما ، فقمنا إليه وسألناه عن ذلك ، فقال : إنما هو مجتابي النمار كما قلت ، وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم ، والنمار : جمع نمرة ، فقال بكر بن حماد ، وأخذ بأنفه : رغم أنفي للحق ، وانصرف ، انتهى.

وهذه الحكاية دالة على عظيم قدر الرجلين ، رحمهما الله تعالى ورضي عنهما ، ونفعنا بهما!.

١٥ ـ ومنهم قاسم بن ثابت ، أبو محمد ، العوفي ، السّرقسطي ، رحل مع أبيه فسمع بمصر من أحمد بن شعيب النسائي وأحمد بن عمرو البزار ، وبمكة من عبد الله بن علي بن الجارود ومحمد بن علي الجوهري ، واعتنى بجمع الحديث واللغة هو وأبوه ، فأدخلا إلى الأندلس علما كثيرا ، ويقال : إنهما أوّل من أدخل كتاب العين (١) إلى الأندلس ، وألف قاسم في شرح الحديث كتابا سماه «الدلائل» ، بلغ فيه الغاية في الإتقان ، ومات قبل إكماله ، فأكمله أبوه ثابت (٢) بعده ، وقد روي عن أبي علي البغدادي أنه كان يقول : كتبت كتاب الدلائل ، وما أعلم أنه وضع بالأندلس ، مثله ، وكان قاسم عالما بالحديث واللغة ، متقدما في معرفة الحديث والنحو والشعر ، وكان مع ذلك ورعا ناسكا ، وأريد على القضاء بسرقسطة ، فأبى ذلك ، فأراد أبوه إكراهه عليه ، فسأله أن يتركه ينظر في أمره ثلاثة أيام (٣) ، ويستخير الله تعالى ، فمات في هذه الثلاثة الأيام ، فيروون أنه دعا لنفسه بالموت ، وكان مجاب الدعوة ، توفي سنة ٣٠٣ (٤) بسرقسطة ، رحمه الله تعالى!.

١٦ ـ ومنهم علم الدين أبو محمد المرسيّ اللّورقي (٥) ، وهو قاسم بن أحمد بن موفق بن جعفر ، العلامة ، المقرئ ، الأصولي ، النحوي ، ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة ، وقرأ بالروايات قبل الستمائة على أبي جعفر الحصار وأبي عبد الله المرادي وأبي عبد الله بن نوح

__________________

(١) كتاب العين : للخليل بن أحمد الفراهيدي.

(٢) في ج : فأكمله ابن ثابت بعده. وفي ه : فأكمله أبو ثابت بعده ، وكلاهما تحريف ظاهر الخطأ.

(٣) في ب : في أمره ثلاثا.

(٤) في ب : سنة ٣٠٢.

(٥) ترجمته في غاية النهاية في طبقات القراء ج ٢ ص ١٥.

٢١٧

الغافقي ، وقدم مصر فقرأ بها على أبي الجود غياث بن فارس ، وبدمشق على التاج زيد الكندي ، وسمع ببغداد من أبي محمد بن الأخضر ، وأخذ العربية عن أبي البقاء ، ولقي الجزولي (١) بالمغرب ، وسأله عن مسألة مشكلة في مقدمته ، فأجابه ، وبرع في العربية وفي علم الكلام والفلسفة ، وكان يقرئ ذلك ويحققه ، وأقرأ بدمشق ، ودرس ، وشرح المفصل في النحو في أربع مجلدات فأجاد وأفاد ، وشرح الجزولية والشاطبية ، وكان مليح الشكل ، حسن البزة ، موطّأ الأكناف ، قرأ عليه جماعة ، وتوفي سابع رجب سنة ٦٦١ ، وكان معمرا مشتغلا بأنواع العلوم ، وسماه بعضهم أبا القاسم ، والأوّل أصح.

١٧ ـ ومنهم قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيار ، أبو محمد ، من أهل قرطبة ، وجدّه مولى الوليد بن عبد الملك (٢) ، رحل فسمع بمصر من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمزني والبرقي والحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى وإبراهيم بن المنذر وغيرهم ، ولزم ابن عبد الحكم للتفقه ، وتحقق به وبالمزني ، وكان يذهب مذهب الحجة والنظر وترك التقليد ، ويميل إلى مذهب الشافعي ، ولما قال له ابنه محمد بن القاسم : يا أبت أوصني ، قال : أوصيك بكتاب الله ، فلا تنس حظك منه ، واقرأ منه كل يوم جزءا ، واجعل ذلك عليك واجبا ، وإن أردت أن تأخذ من هذا الأمر بحظ ، يعني الفقه ، فعليك برأي الشافعي ، فإني رأيته أقل خطأ ، قال أبو الوليد بن الفرضي : ولم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر والبصر بالحجة ، وقال أحمد بن خالد ومحمد بن عمر بن لبابة : ما رأينا أفقه من قاسم بن محمد فيمن (٣) دخل الأندلس من أهل الرحلة ، وقال أسلم بن عبد العزيز : سمعت عن ابن عبد الحكم أنه قال : لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد ، ولقد عاتبته في حين انصرافه إلى الأندلس ، وقلت له : أقم عندنا فإنك تعتقد (٤) ههنا رياسة ويحتاج الناس إليك ، فقال : لا بدّ من الوطن ، وقال سعيد بن عثمان (٥) : قال لي أحمد بن صالح الكوفي : قدم علينا من بلادكم رجل يسمى قاسم بن محمد ، فرأيت رجلا فقيها.

وألف رحمه الله تعالى كتابا نبيلا في الرد على ابن مزين وعبد الله بن خالد والعتبي يدل على علمه ، وله كتاب في خبر الواحد.

__________________

(١) الجزولي : انظر وفيات الأعيان ـ تحقيق محيي الدين عبد الحميد ج ٣ ص ١٥٧.

(٢) في الجذوة : مولى هشام بن عبد الملك.

(٣) في ب ، ه : ممن دخل الأندلس.

(٤) في ب ، ه : تقتعد ، وهو أصح.

(٥) هو سعيد بن عثمان الأعناقي.

٢١٨

وكان يلي وثائق الأمير محمد طول أيامه.

روى عنه ابن لبابة وابن أيمن والأعناقي وابنه محمد بن قاسم في آخرين (١).

توفي سنة ست ـ أو سبع ، أو ثمان ـ وسبعين ومائتين ، رحمه الله تعالى!.

١٨ ـ ومنهم أبو بكر الغساني ، وهو محمد بن إبراهيم بن أحمد بن أسود ، من أهل المرية ، قدم إلى مصر ولقي بها أبا بكر الطرطوشي ، ثم عاد إلى بلده ، وشوور ، واستقضي بمرسية مدة طويلة ، ثم صرف ، وسكن مراكش ، قال ابن بشكوال : توفي بمراكش في رجب سنة ٦٣٦ ، وقال أبو جعفر بن الزبير : إن له كتاب تفسير القرآن ، وبيته بيت علم ودين.

١٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حيّون ، من أهل وادي الحجارة ، قال ابن الفرضي ، سمع من ابن وضاح والخشني ونظرائهما بالأندلس ، ورحل إلى المشرق ، فتردد هنالك ، نحوا من خمس عشرة سنة ، وسمع بصنعاء ومكة وبغداد ولقي جماعة من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل : منهم عبد الله بن أحمد ، وسمع بمصر من الخفاف النيسابوري (٢) وإبراهيم بن موسى وغيرهما ، وبالمصيصة والقيروان ، وكان إماما في الحديث ، عالما ، حافظا للعلل بصيرا بالطرق ، ولم يكن بالأندلس قبله أبصر بالحديث منه ، وهو ضابط متقن ، حسن التوجيه (٣) للحديث ، صدوق ، ولم يذهب مذهب مالك ، ومن روى عنه ابن أيمن وقاسم بن أصبغ ووهب بن مسرة وأحمد بن سعيد بن حزم ، وقال خالد بن سعيد : لو كان الصدق لسانا لكان ابن حيّون ، وكان يزنّ بالتشيّع (٤) لشيء كان يظهر منه في حق معاوية ، رضي الله تعالى عنه! وكان شاعرا ، وتوفي بقرطبة سنة ٣٠٥ ، سامحه الله تعالى!.

٢٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم (٥) بن غالب ، المالقيّ (٦) ، قال ابن نقطة : سمع بالإسكندرية من أبي الحسن بن المقدسي ، وكان فاضلا ، رأيت بخطه إجازة بمصر لبعض المصريين في رجب سنة ٦٠٤ ، وسمع بمصر شيئا من الخلعيّات ، قال ابن فرتون الفاسي في ذيل تاريخ الأندلس : روى بمالقة ، ورحل إلى المشرق ،

__________________

(١) في ابن الفرضي : في جماعة سواهم.

(٢) في ه : الحفاظ النيسابوري.

(٣) في ه : حسن التوجه للحديث.

(٤) يزن : يتهم. وفي ب : بالتشييع.

(٥) بن إبراهيم : غير موجودة في ب.

(٦) التكملة ص ٦٣٨ ، والذيل والتكملة ج ٦ ص ٣٥.

٢١٩

وحج ، ولقي أبا الحسن علي بن المفضل (١) المقدسي ، وأخذ عنه كتاب «تحقيق الجواب ، عمن أجيز له ما فاته من الكتاب» من تآليفه ، ورجع إلى الأندلس ، ثم نهض إلى مراكش فتوفي في أقصى بلاد السّوس في حدود سنة ٦٤٥ ، رحمه الله تعالى!.

٢١ ـ ومنهم اليقّوري ، وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم مصنف كتاب «إكمال الإكمال» للقاضي عياض على صحيح مسلم ، وكتب على كتاب الشهاب القرافي في الأصول ، وسمع الحديث ، وقدم إلى مصر ومعه مصحف قرآن حمل بغل بعثه ملك المغرب ليوقف بمكة ، ثم عاد بعد حجه ، ومات بمراكش سنة ٧٠٧ ، وقد زرت قبره بها مرارا ، قال الحافظ المقريزي : واليقّوري نسبه إلى يقّورة (٢) ـ بياء آخر الحروف مفتوحة ، وقاف مشددة ، وراء مهملة ـ بلد بالأندلس ، انتهى.

٢٢ ـ ومنهم أبو عبد الله الأنصاري ، وهو محمد بن إبراهيم بن موسى بن عبد السلام ، ويعرف بابن شق الليل ، من أهل طليطلة ، سمع بمصر أبا الفرج الصوفي وأبا القاسم الطحان الحافظ وأبا محمد بن النحاس وأبا القاسم بن ميسرة وأبا الحسن بن بشر وغيرهم ، وسمع بطليطلة من جماعة ، وحدث عن جماعة من المحدثين كثيرة.

قال ابن بشكوال : وكان فقيها عالما ، وإماما متكلما ، حافظا للفقه والحديث ، قائما بهما ، متقنا لهما ، إلا أن المعرفة بالحديث وأسماء رجاله والبصر بمعانيه وعلله كان أغلب عليه ، وكان مليح الخط ، جيد الضبط ، من أهل الرواية والدراية والمشاركة في العلوم ، وكان أديبا شاعرا مجيدا لغويا دينا فاضلا ، كثير التصانيف والكلام على علم الحديث ، حلو الكلام في تآليفه ، وله عناية بأصول الديانات وإظهار الكرامات ، وتوفي بطلبيرة (٣) يوم الجمعة منتصف شعبان سنة ٤٥٥ ، رحمه الله تعالى!.

٢٣ ـ ومنهم الشيخ الإمام الشهير الكبير الولي العارف بالله (٤) سيدي أبو عبد الله القرشي الهاشمي الأندلسي ، شيخ السالكين ، وإمام العارفين ، وقدوة المحققين ، قدم مصر بعد ما صحب ببلاد المغرب جماعة من أعلام الزهاد ، وكان يقول : صحبت ستمائة شيخ اقتديت منهم

__________________

(١) في ج : علي بن الفضل.

(٢) لم ترد في معجم البلدان ، وإنما ورد : بقيرة ـ بالفتح ثم الكسر ـ وقال : مدينة في شرقي الأندلس ، معدودة في أعمال تطيلة. أما صفة جزيرة الأندلس فلم يرد فيها بقورة أيضا وإنما ورد يبورة ص ١٩٨.

(٣) طلبيرة : بلد بالأندلس بينها وبين وادي الرمل خمسة وثلاثون ميلا وهي أقصى ثغور المسلمين (صفة جزيرة الأندلس ص ١٢٨).

(٤) في ب : بالله تعالى.

٢٢٠