نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

فقال لا مرغب عن ذكر ما

ترغبه قلت إذن مركبا (١)

وكان ما كان فو الله ما

ذكرته دهري أو أغلبا

وستأتي هذه القصيدة بكمالها في جملة من نظم ابن سعيد المذكور.

وقال يتشوق إلى إشبيلية ، وهي حمص الأندلس : [الكامل]

أنّ الخليج وغنّت الورقاء

هل برّحا إذ هاجت البرحاء (٢)

أنا منكما أولى بحلية عاشق

أفنى وما نمّت بي الصّعداء

أخشى الوشاة فما أفوه بلفظة

والكتم عند العاشقين عناء

لو لا تشوّق أرض حمص ما جرى

دمعي ولا شمتت بي الأعداء

لم أستطع كتما له فكأنّني

ما كان لي كتم ولا إخفاء

والبدر مهما رام كتما من سرى

فيه ينمّ على سراه ضياء

بلد متى يخطر له ذكر هفا

قلبي وخان تصبّر وعزاء

من بعده ما الصّبح يشرق نوره

عندي ، ولا يتبدّل الظّلماء

كم لي به من ذي وفاء لم يخن

عهدي ، وينمو بالوداد وفاء

فتراه إذ ما مرّ ذكري سائلا

عن حالتي إن قلّت الأنباء(٣)

يمسي ويصبح في تذكّر مدّة

يرضى بها الإصباح والإمساء

مع كلّ مبذول الوصال ممنّع

من غيرنا تسمو به الخيلاء

كالظّبي كالشّمس المنيرة كالنّقا

كالغصن يثني معطفيه رخاء(٤)

يسعى براح كالشّهاب ، براحة

كالبدر ، والوجه المنير ذكاء(٥)

ما لان نحو الوصل حتّى طال من

ه الهجر واتّصلت به البلواء

خير المحبّة ما تأتّت عن قلى

تدرى ببؤس الفاقة النّعماء(٦)

__________________

(١) في ب ، ه : فقال لا مذهب عن ذكر ما.

(٢) برّحا : أتعبا وأوذيا. والبرحاء : الشدة. وفي ب : برّحا.

(٣) في ب : فتراه إمّا مر ذكري سائلا. وفي ه : فترى إذا ما ود ذكري سائل.

(٤) الرخاء ، بضم الراء : الريح اللينة.

(٥) ذكاء : الشمس.

(٦) القلى : البغض.

١٨١

ما زلت أرقي بالقريض جنونه

حتى استكان ، وكان منه إباء

فظفرت منه بمدّة لو أنّها

دامت لدامت لي بها السّرّاء

صفو تكدّر بالتحرّك ، ليته

ما زال ، لكن لا يردّ قضاء(٢)

إنّ الفراق هو المنيّة ، إنّما

أهل النّوى ماتوا وهم أحياء

لو لا تذكّر لذّة طابت لنا

بذرى الجزيرة حيث طاب هواء

وجرى النّسيم على الخليج معطّرا

وتبدّدت في الدّوحة الأنداء

ما كابدت نفسي أليم تفكّر

ألوى به عن جفني الإغضاء(٣)

يا نهر حمص لا عدتك مسرّة

ماء يسيل لديك أم صهباء

كلّ النّفوس تهشّ فيك كأنّما

جمعت عليك شتاتها الأهواء

ودّي إليك مع الزّمان مجدّد

ما إن يحول تذكّر وعناء

ولو أنّني لم أحي ذكرا للّذي

أوليته ما كان فيّ حياء

ما كنت أطمع في الحياة لو أنّني

أيقنت أن لا يستردّ لقاء

غيري إذا ما بان حان ، وإنّما

أبقى حياتي حين بنت رجاء(٤)

وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا النمط وغيره مزيد أثناء الكتاب ، بحسب ما اقتضته المناسبة ، والله تعالى المرجو في حسن المتاب ، وهو سبحانه لا إله إلا هو الموفق للصواب.

__________________

(١) أرقي : أستعمل الرقية. والرقية : ما يستعان به من أساليب ووسائل وكلام لشفاء المريض أو المصاب بالعين أو الملدوغ أو المجنون.

(٢) في ه : لينه ما زلت ..

(٣) في ب ، ه : الإعفاء.

(٤) بان : بعد. وحان : هلك ، لم يهتد إلى الرشاد.

١٨٢

الباب الخامس

في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق الزاكية العرار (١) والبشام (٢) ، ومدح جماعة من أولئك الأعلام ، ذوي العقول الراجحة والأحلام (٣) ، لشامة وجنة الأرض دمشق الشام (٤) ، وما اقتضته المناسبة من كلام أعيانها ، وأرباب بيانها ، ذوي السؤدد والاحتشام ، ومخاطبتهم للفقير المؤلف حين حلّها سنة ألف وسبع وثلاثين للهجرة ، وشاهد برق فضلها المبين وشام (٥).

اعلم ـ جعلني الله تعالى وإياك ممن له للمذهب الحق انتحال (٦)! ـ أنّ حصر أهل الارتحال ، لا يمكن بوجه ولا بحال ، ولا يعلم ذلك على الإحاطة إلا علام الغيوب الشديد المحال (٧) ، ولو أطلنا (٨) عنان الأقلام فيمن عرفناه فقط من هؤلاء العلماء (٩) الأعلام ، لطال الكتاب وكثر الكلام ، ولكنا نذكر منهم لمعا على وجه التوسط من غير إطناب داع إلى الملال واختصار مؤدّ للملام ، فنقول مستمدين من واهب العقول :

__________________

(١) العرار ، بفتح العين والراء : نبات طيب الرائحة. ويقال : ه النرجس البري ، وفيه قيل :

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار

(٢) البشام ، بفتح الباء : شجر طيب الرائحة والمذاق ، صغير الورق ، لا ثمر له وفيه قال جرير بن عطية الخطفي :

أتذكر يوم تصقل عارضيها

بعود بشامة؟ سقي البشام

(٣) الأحلام : العقول ، جمع حلم.

(٤) الشامة : علامة في البدن تخالف لونه. ووجنة الأرض : خدّها.

(٥) شام : نظر.

(٦) انتحال المذهب : اتخاذه والقول به.

(٧) شديد المحال : شديد القوة والتدبير. وفي التنزيل العزيز : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) [الرعد : ١٣].

(٨) في ب ، ه : أطلقنا.

(٩) كلمة «العلماء» غير موجودة في ب ، ه.

١٨٣

١ ـ منهم عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب السّلمي :

وقد عرّف به القاضي عياض في المدارك وغير واحد ، ورأيت في بعض التواريخ أن تواليفه بلغت ألفا ، ومن أشهرها كتاب «الواضحة» في مذهب مالك ، كتاب كبير مفيد ، ولابن حبيب مذهب في كتب المالكية مسطور ، وهو مشهور عند علماء المشرق ، وقد نقل عنه الحافظ ابن حجر وصاحب المواهب وغيرهما.

ومن نظمه يخاطب سلطان الأندلس : [البسيط]

لا تنس لا ينسك الرّحمن عاشورا

واذكره لا زلت في التّاريخ مذكورا

قال النّبيّ صلاة الله تشمله

قولا وجدنا عليه الحقّ والنّورا

فيمن يوسّع في إنفاق موسمه

أن لا يزال بذاك العام ميسورا

وهذا البيت الثالث نسيت لفظه فكتبته بالمعنى والوزن إذ طال عهدي به ، والله تعالى أعلم.

وقال الفتح في المطمح (١) : الفقيه العالم أبو مروان عبد الملك بن حبيب السلمي ، أي شرف لأهل الأندلس وأي مفخر (٢) ، وأي بحر بالعلوم يزخر (٣) ، خلدت منه الأندلس فقيها عالما ، أعاد مجاهل أهلها معالما (٤) ، وأقام فيها للعلوم أسواقا نافقة (٥) ، ونشر منها ألوية خافقة ، وجلا عن الألباب صدأ الكسل ، وشحذها شحذ الصّوارم والأسل (٦) ، وتصرف في فنون العلوم ، وعرف كل معلوم ، وسمع بالأندلس وتفقه ، حتى صار أعلم من بها وأفقه ، ولقي أنجاب مالك ، وسلك في مناظرتهم (٧) أوعر المسالك ، حتى أجمع عليه الاتفاق ، ووقع على تفضيله الإصفاق (٨) ، ويقال : إنه لقي مالكا آخر عمره ، وروى عنه عن سعيد بن المسيّب أن سليمان بن داود صلى الله عليهما وسلم كان يركب إلى بيت المقدس فيتغدّى به ، ثم يعود فيتعشّى بإصطخر ، وله في الفقه كتاب «الواضحة» ومن أحاديثه غرائب ، قد تحلت بها للزمان نحور وترائب (٩).

__________________

(١) المطمح ص ٣٦.

(٢) في ب ، ج : أي شرف لأهل الأندلس ومفخر.

(٣) يزخر : يرتفع ويعلو.

(٤) في ب ، ه : أعاد مجاهل جهلها معالما.

(٥) نافقة : رائجة.

(٦) الصوارم : السيوف. والأسل : الرماح.

(٧) في ب : وسلك من مناظرتهم. وفي ه : من مناظراتهم.

(٨) الإصفاق : الإجماع.

(٩) الترائب : موضع القلادة من الصدر.

١٨٤

وقال محمد بن لبابة (١) : فقيه الأندلس عيسى بن دينار ، وعالمها عبد الملك بن حبيب ، وراويها يحيى بن يحيى.

وكان عبد الملك قد جمع إلى علم الفقه والحديث علم اللغة والإعراب ، وتصرف في فنون الآداب ، وكان له شعر يتكلم به متبحرا ، ويرى ينبوعه بذلك متفجرا ، وتوفي بالأندلس في رمضان سنة ٢٣٨ وهو ابن ثلاث وخمسين بعد ما جال في الأرض ، وقطع طولها والعرض ، وجال في أكنافها ، وانتهى إلى أطرافها.

ومن شعره قوله : [السريع]

قد طاح أمري والذي أبتغي

هين على الرّحمن في قدرته

ألف من الحمر وأقلل بها

لعالم أربى على بغيته

زرياب قد أعطيها جملة

وحرفتي أشرف من حرفته(٢)

وكتب إلى الزجاليّ (٣) رسالة وصلها بهذه الأبيات : [السريع]

كيف يطيق الشّعر من أصبحت

حالته اليوم كحال الغرق

والشّعر لا يسلس إلّا على

فراغ قلب واتّساع الخلق

فاقنع بهذا القول من شاعر

يرضى من الحظّ بأدنى العنق(٤)

فضلك قد بان عليه كما

بان لأهل الأرض ضوء الشّفق

أمّا ذمام الودّ منّي لكم ا

فهو من المحتوم فيما سبق

ولم يكن له علم بالحديث يعرف به صحيحه من معتله ، ويفرق مستقيمه من مختله (٥) ، وكان غرضه الإجازة ، وأكثر رواياته غير مستجازة ، قال ابن وضاح : قال إبراهيم بن المنذر : أتى صاحبكم الأندلس ـ يعني عبد الملك هذا ـ بغرارة مملوءة ، فقال لي : هذا علمك ، قلت له : نعم ، ما قرأ علي منه حرفا ولا قرأته عليه.

وحكى أنه قال في دخوله المشرق وحضر مجلس بعض الأكابر فازدراه من رآه : [البسيط]

__________________

(١) محمد بن لبابة : هو محمد بن لبابة القرطبي الفقيه ، توفي سنة ٣١٤ ه‍ (ابن الفرضي ج ، ص ٣٦).

(٢) زرياب : مغنّ قدم الأندلس وعاش فيها واشتهر.

(٣) في المطمح : وكتب إلى محمد بن سعيد الترحالي.

(٤) العنق ، بفتح العين والنون : السير السريع.

(٥) في ب ، ه : ولا يفرق بين مستقيمه ومختله.

١٨٥

لا تنظرنّ إلى جسمي وقلّته

وانظر لصدري وما يحوي من السّنن

فربّ ذي منظر من غير معرفة

وربّ من تزدريه العين ذو فطن

وربّ لؤلؤة في عين مزبلة

لم يلق بال لها إلّا إلى زمن

انتهى ما في المطمح الصغير.

قلت : أمّا ما ذكره من عدم معرفته بالحديث فهو غير مسلم ، وقد نقل عنه غير واحد من جهابذة المحدّثين (١) ، نعم لأهل الأندلس غرائب لم يعرفها كثير من المحدثين ، حتى إن في شفاء عياض أحاديث لم يعرف أهل المشرق النقّاد مخرجها ، مع اعترافهم بجلالة حفاظ الأندلس الذين نقلوها كبقيّ بن مخلد وابن حبيب وغيرهما على ما هو معلوم.

وأما ما ذكره عنه بالإجازة (٢) بما في الغرارة فذلك على مذهب من يرى الإجازة ، وهو مذهب مستفيض ، واعتراض من اعترض عليه إنما هو بناء على القول بمنع الإجازة ، فاعلم ذلك ، والله سبحانه الموفق.

٢ ـ ومن الراحلين من الأندلس الفقيه المحدّث يحيى بن يحيى الليثي راوي الموطّأ عن مالك رضي الله تعالى عنه ، ويقال : إن أصله من برابر مصمودة (٣) ، وحكي أنه لما ارتحل إلى مالك لازمه ، فبينما هو عنده في مجلسه مع جماعة من أصحابه إذ قال قائل : قد (٤) حضر الفيل ، فخرج أصحاب مالك كلهم ، ولم يخرج يحيى ، فقال له مالك : مالك لم تخرج وليس الفيل في بلادك؟ فقال : إنما جئت من الأندلس لأنظر إليك ، وأتعلم من هديك وعلمك ، ولم أكن لأنظر إلى الفيل ، فأعجب به مالك ، وقال : هذا عاقل الأندلس ، ولذلك قيل : إن يحيى هذا عاقل الأندلس ، وعيسى بن دينار فقيهها ، وعبد الملك بن حبيب عالمها (٥) ، ويقال : إن يحيى راويها ومحدثها ، وتوفي يحيى بن يحيى سنة ٢٣٤ في رجب (٦) ، وقبره يستسقى به بقرطبة ، وقيل : إن وفاته في السنة التي قبلها ، والله تعالى أعلم.

وروايته الموطأ مشهورة ، حتى إن أهل المشرق الآن يسندون الموطأ من روايته كثيرا ، مع تعدّد رواة الموطأ ، والله أعلم.

__________________

(١) الجهابذة : جمع جهبذ ؛ وهو الخبير بالأمور ، المميز بين جيدها ورديئها.

(٢) في ب : في الإجازة.

(٣) مصمودة : قبيلة من قبائل البربر كثيرة العدد ، قوية.

(٤) قد : غير موجودة في ب.

(٥) هذا القول لمحمد بن عمر بن لبابة ، وقد ورد في ترجمة عبد الملك بن حبيب السلمي.

(٦) في ب : برجب.

١٨٦

وكان يحيى بن يحيى روى الموطأ بقرطبة عن زياد بن عبد الرحمن اللخميّ المعروف بشبطون ، وسمع من يحيى بن مضر القيسي الأندلسي ، ثم ارتحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة ، فسمع من مالك بن أنس الموطأ غير أبواب في كتاب الاعتكاف ، شكّ في سماعها ، فأثبت روايته فيها عن زياد ، وذلك ما يدلّ على ورعه.

وسمع بمصر من اللّيث بن سعد ، وبمكة من سفيان بن عيينة ، وتفقه بالمدنيين والمصريين كعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم العتقي (١) ، وسمع منهما ، وهما من أكابر أصحاب مالك ، بعد انتفاعه بمالك وملازمته له.

وانتهت إليه الرياسة بالأندلس ، وبه اشتهر مذهب مالك في تلك الديار ، وتفقه به جماعة لا يحصون عددا ، وروى عنه خلق كثير ، وأشهر رواة الموطأ وأحسنهم رواية يحيى المذكور ، وكان ـ مع أمانته ودينه ـ معظّما عند الأمراء ، يكنى عندهم ، عفيفا عن الولايات ، متنزها ، جلت رتبته عن القضاء ، وكان أعلى من القضاة قدرا عند ولاة الأمر بالأندلس لزهده في القضاء وامتناعه.

قال الحافظ ابن حزم : مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان : مذهب أبي حنيفة ، فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية ، فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه ، ومذهب مالك عندنا بالأندلس ، فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاء ، وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره ، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه ، والناس سراع إلى الدنيا ، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به ، على أن يحيى لم يل قضاء قط ، ولا أجاب إليه ، وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم ، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم ، انتهى.

وذكرنا في غير هذا الموضع قولا آخر في سبب انتشار مذهب مالك بالأندلس ، والله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر.

وقال ابن أبي الفياض : جمع الأمير عبد الرحمن بن الحكم الفقهاء في قصره ، وكان وقع على جارية يحبها في رمضان ، ثم ندم أشدّ ندم ، فسألهم عن التوبة والكفارة ، فقال يحيى : تكفر بصوم شهرين متتابعين ، فلما بادر يحيى بهذه الفتيا سكت الفقهاء حتى خرجوا ، فقال

__________________

(١) هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي ، الفقيه المالكي ، جمع بين الزهد والعلم ، وصحب مالكا عشرين سنة وهو صاحب «المدوّنة» في المذهب المالكي. توفي سنة ١٩١ ه‍ في مصر (وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٢٩).

١٨٧

بعضهم له : لم لم تفت بمذهب مالك بالتخيير؟ فقال : لو فتحنا له [هذا] الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.

وقال بعض المالكية : إن يحيى ورّى بهذا ، ورأى أنه لم يملك (١) شيئا إذ هو مستغرق الذّمة فلا عتق له ولا إطعام ، فلم يبق إلا الصيام ، انتهى.

ولما انفصل يحيى عن مالك ووصل إلى مصر رأى ابن القاسم يدوّن سماعه من مالك ، فنشط للرجوع إلى مالك ليسمع منه المسائل التي رأى ابن القاسم يدوّنها ، فرحل رحلة ثانية ، فألفى مالكا عليلا ، فأقام عنده إلى أن مات وحضر جنازته ، فعاد إلى ابن القاسم وسمع منه سماعه من مالك ، هكذا ذكره ابن الفرضي في تاريخه ، وهو مما يرد الحكاية المشهورة الآن بالمغرب أن يحيى سأل مالكا عن زكاة التين ، فقال [له] : لا زكاة فيها ، فقال : إنها تدّخر عندنا ، ونذر إن وصل إلى الأندلس أن يرسل لمالك سفينة مملوءة تينا ، فلما وصل أرسلها فإذا مالك قد مات ، انتهى.

قال ابن الفرضي : ولما انصرف يحيى إلى الأندلس كان إمام وقته ، وواحد بلاده ، وكان ممن اتهم بالهيج في وقعة الرّبض المشهورة ففر إلى طليطلة ثم استأمن فكتب له الأمير الحكم أمانا ، وانصرف إلى قرطبة (٢).

وقيل : لم يعط أحد من أهل الأندلس منذ دخلها الإسلام ما أعطي يحيى من الحظوة ، وعظم القدر ، وجلالة الذكر.

وقال ابن بشكوال : إن يحيى بن يحيى كان مجاب الدعوة ، وإنه أخذ في سمته وهيئته ونفسه ومقعده هيئات مالك.

ويحكى عنه أنه قال : أخذت بركاب الليث بن سعد ، فأراد غلامه أن يمنعني ، فقال : دعه ، ثم قال لي الليث : خدمك العلم! فلم تزل بي الأيام حتى رأيت مالكا ، انتهى.

٣ ـ ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى (٣).

__________________

(١) في ه : وإنه لم ير أنه يملك شيئا.

(٢) انظر الجزء الأول ٣٢٥ ـ ٣٢٩.

(٣) هو محمد بن عبد الله بن أبي عيسى. ولي قضاء عدة من الكور ، ما بين طليطلة وبجانة ، بسيرة عادلة ، التزم فيها الصرامة في تنفيذ الحقوق وإقامة الحدود. قال ابن الفرضي : وكان حافظا للرأي ، معتنيا بالآثار ، جامعا للسنن ، متصرفا في علم الإعراب ومعاني الشعر. ثم تولى قضاء الجماعة بقرطبة سنة ٣٢٦ ه‍ أيام الأمير الناصر لدين الله. وتوفي سنة ٣٣٩ (تاريخ قضاة الأندلس ص ٥٩).

١٨٨

قال في المطمح : من بني يحيى بن يحيى الليثي ، وهذه ثنية علم وعقل ، وصحة ضبط ونقل ، كان علم الأندلس ، وعالمها النّدس (١) ، ولي القضاء بقرطبة بعد رحلة رحلها إلى المشرق ، وجمع فيها من الروايات والسماع كل مفترق ، وجال في آفاق ذلك الأفق ، لا يستقر في بلد ، ولا يستوطن في جلد (٢) ، ثم كر إلى الأندلس فسمت رتبته ، وتحلّت بالأماني لبّته ، وتصرف في ولايات أحمد فيها منابه ، واتصلت بسببها بالخليفة أسبابه ، وولاه القضاء بقرطبة فتولاه بسياسة محمودة ، ورياسة في الدين مبرمة القوى مجهودة ، والتزم فيها الصّرامة في تنفيذ الحقوق ، والحزامة في إقامة الحدود ، والكشف عن البيان في السر ، والصّدع بالحق في الجهر ، لم يستمله مخادع ، ولم يكده مخاتل ، ولم يهب ذا حرمة ، ولا داهن ذا مرتبة ، ولا أغضى لأحد من أرباب (٣) السلطان وأهله ، حتى تحاموا حدة (٤) جانبه ، فلم يجسر أحد منهم عليه ، وكان له نصيب وافر من الأدب ، وحظ من البلاغة إذا نظم وإذا كتب.

ومن ملح شعره ما قاله عند أوبته عن غربته : [الطويل]

كأن لم يكن بين ولم تك فرقة

إذا كان من بعد الفراق تلاق

كأن لم تؤرّق بالعراقين مقلتي

ولم تمر كفّ الشّوق ماء مآقي

ولم أزر الأعراب في جنب أرضهم

بذات اللّوى من رامة وبراق

ولم أصطبح بالبيد من قهوة النّدى

وكأس سقاها في الأزاهر ساق

وله أيضا : [البسيط]

ما ذا أكابد من ورق مغرّدة

على قضيب بذات الجزع ميّاس

ردّدن شجوا شجى قلب الخليّ فهل

في عبرة ذرفت في الحبّ من باس

ذكّرنه الزمن الماضي بقرطبة

بين الأحبّة في أمن وإيناس

هم الصّبابة لو لا همة شرفت

فصيّرت قلبه كالجندل القاسي

وله أخبار تدل على رقة العراق والتغذي بماء تلك الآفاق :

فمنها أنه خرج إلى حضور جنازة بمقابر قريش ، ورجل من بني جابر كان يواخيه له منزل هناك ، فعزم عليه في الميل إليه ، وعلى أخيه ، فنزل (٥) عليه ، فأحضر لهما طعاما ، وأمر جارية له بالغناء ، فغنت : [الكامل]

__________________

(١) الندس : الشديد الفطنة.

(٢) الجلد ، بفتحتين : الأرض الصلبة.

(٣) في ب : أسباب السلطان.

(٤) في ب : حتى تحاموا جانبه.

(٥) في ب : منزلا عليه.

١٨٩

طابت بطيب لثاتك الأقداح

وزهت بحمرة خدّك التّفّاح

وإذا الرّبيع تنسّمت أرواحه

طابت بطيب نسيمك الأرواح(١)

وإذا الحنادس ألبست ظلماءها

فضياء وجهك في الدّجى مصباح

 (٢) فكتبها القاضي في ظهر يده ، وخرج من عنده ، قال يونس بن عبد الله : فلقد رأيته يكبر للصلاة على الجنازة والأبيات مكتوبة على ظهر كفه.

وكان رحمه الله تعالى في غاية اللطف ، حكى بعض أصحابه قال : ركبنا معه في موكب حافل من وجوه الناس ، إذ عرض لنا فتّى متأدب قد خرج من بعض الأزقّة سكران يتمايل ، فلما رأى القاضي هابه ، وأراد الانصراف ، فخانته رجلاه ، فاستند إلى الحائط ، وأطرق ، فلما قرب القاضي رفع رأسه وأنشأ (٣) يقول : [الطويل]

ألا أيّها القاضي الّذي عمّ عدله

فأضحى به بين الأنام فريدا

قرأت كتاب الله تسعين مرّة

فلم أر فيه للشّراب حدودا

فإن شئت جلدا لي فدونك منكبا

صبورا على ريب الزّمان جليدا

وإن شئت أن تعفو تكن لك منّة

تروح بها في العالمين حميدا

وإن أنت تختار الحديد فإنّ لي

لسانا على هجو الزّمان حديدا

فلما سمع شعره وميز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه ، ومضى لشأنه ، انتهى ملخصا من المطمح.

ورأيت بخطي في بعض مسوّداتي ما صورته : محمد بن عبد الله بن يحيى بن يحيى الليثي قاضي الجماعة بقرطبة ، سمع عم أبيه عبيد الله بن يحيى ومحمد بن عمر بن لبابة وأحمد بن خالد ، ورحل من قرطبة سنة ٣١٣ (٤) ، ودخل مصر ، وحج ، وسمع بمكة من ابن المنذر والعقيلي وابن الأعرابي (٥) ، وكان حافظا ، معتنيا بالآثار ، جامعا للسّنن ، متصرفا في علم الإعراب ، ومعاني الشعر ، شاعرا مطبوعا ، وشاوره القاضي أحمد بن بقي ، واستقضاه الناصر

__________________

(١) في ه : تنسمت أدواحه ... الأدواح.

(٢) الحنادس : جمع حندس ، وهو الليل الشديد الظلمة.

(٣) في تاريخ قضاة الأندلس : ثم أنشأ يقول : (تاريخ قضاة الأندلس ص ٦١).

(٤) في ب : سنة ٣١٢.

(٥) في ب : وابن الأعرابي وغيرهم.

١٩٠

عبد الرحمن بن محمد على إلبيرة وبجّانة (١) ، ثم ولاه قضاء الجماعة بقرطبة بعد أبي طالب سنة ٣٢٤ (٢) ، وجمعت له مع القضاء الصلاة ، وكان كثيرا ما يخرج إلى الثغور ، ويتصرف في إصلاح ما وهى منها ، فاعتل في آخر خرجاته ، ومات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة سنة ٣٣٧ ، ومولده سنة ٢٨٤ ، انتهى وأظن أني نقلته من كتاب ابن الأبار الحافظ ، والله أعلم.

٤ ـ ومنهم عتيق بن أحمد بن عبد الباقي الأندلسي ، الدمشقي وفاة ، يكنى أبا بكر نزيل دمشق ، كان مشهورا بالصلاح ، وانتفع به جماعة من الفقراء ، وولد على ما قيل سنة ٥١٦ ، وتوفي سنة ٦١٦ (٣) ، بدمشق ، ودفن بمقابر الصوفية ، فيكون عمره على هذا مائة سنة ، رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته وبركات أمثاله!.

٥ ـ ومنهم أبو إبراهيم إسماعيل بن محمد بن يوسف ، الأنصاري ، الأندلسي ، الأبّذي ، الملقب في البلاد المشرقية ببرهان الدين ، وأبذة ـ بضم الهمزة ، وتشديد الباء الموحدة وفتحها ، وبعدها ذال معجمة ـ بلد بالأندلس ، سمع المذكور بمكة وغيرها من البلاد ، وبدمشق من الحافظ ابن طبرزذ ، وأمّ بالصخرة ، وكان فاضلا صالحا شاعرا ، توفي سنة ٦٥٦ ، وأخبر عن بعض الأولياء المجاورين ببيت المقدس أنه سمع هاتفا يقول لما خرب (٤) القدس : [الخفيف]

إن يكن بالشّآم قلّ نصيري

ثم خرّبت واستمرّ هلوكي

فلقد أثبت الغداة خرابي

سمر العار في حياة الملوك

هكذا رأيته بخط الصفدي «في حياة» ويحتمل أن يكون «في جباه» جمع جبهة ، والله أعلم.

٦ ـ ومنهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي ، قاضي الجماعة بقرطبة ، وقد قدمنا جملة من أخباره في الباب الثالث والرابع من هذا القسم ، وكان لا يخاف في الله لومة لائم.

ومن مشهور ما جرى له في ذلك قصته في أيتام أخي نجدة ، وحدث بها جماعة من أهل العلم والرواية ، وهي أن الخليفة الناصر احتاج إلى شراء دار بقرطبة ، لحظية من نسائه تكرم عليه ، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد زكريا أخي نجدة ، وكانت بقرب النشارين في

__________________

(١) في ج : إلبيرة وبجاية.

(٢) في ب : سنة ٣٢٦.

(٣) في ج : سنة ٦١٤.

(٤) في ب : خربت القدس.

١٩١

الرّبض الشرقي منفصلة عن دوره ، ويتصل بها حمّام له غلة واسعة ، وكان أولاد زكريا أخي نجدة أيتاما في حجر القاضي ، فأرسل الخليفة من قوّمها له بعد ما طابت نفسه ، وأرسل ناسا أمرهم بمداخله وصى الأيتام في بيعها عليهم ، فذكر أنه لا يجوز إلا بأمر القاضي ، إذ لم يجز بيع الأصل إلا عن رأيه ومشورته ، فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر في بيع هذه الدار ، فقال لرسوله : البيع على الأيتام لا يصح إلا لوجوه : منها الحاجة ، ومنها الوهي الشديد ، ومنها الغبطة (١) ، فأما الحاجة فلا حاجة لهؤلاء الأيتام إلى البيع ، وأما الوهي فليس فيها ، وأما الغبطة فهذا مكانها ، فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستبين به الغبطة أمرت وصيهم بالبيع ، وإلا فلا ، فنقل جوابه إلى الخليفة ، فأظهر الزهد في شراء الدار طمعا أن يتوخّى رغبته فيها ، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق الأيتام ثورتها (٢) ، فأمر وصيّ الأيتام بنقض الدار وبيع أنقاضها ، ففعل ذلك وباع الأنقاض ، فكانت لها قيمة أكثر مما قومت به للسلطان ، فاتصل الخبر به ، فعز عليه خرابها ، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها ، فأحال الوصي على القاضي أنه أمره بذلك ، فأرسل عند ذلك للقاضي منذر ، وقال له : أأنت (٣) أمرت بنقض دار أخي نجدة؟ فقال له : نعم ، فقال : وما دعاك إلى ذلك؟ قال : أخذت فيها بقول الله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩) [الكهف : ٧٩] مقوّموك لم يقوموها (٤) إلا بكذا ، وبذلك تعلق وهمك ، فقد نضّ (٥) في أنقاضها أكثر من ذلك ، وبقيت القاعة والحمام فضلا ، ونظر الله تعالى للأيتام ، فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أتى من ذلك ، وقال : نحن أولى من انقاد إلى الحق ، فجزاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيرا!.

قالوا : وكان ـ على متانته وجزالته ـ حسن الخلق ، كثير الدّعابة ، فربما ساء ظنّ من لا يعرفه ، حتى إذا رام أن يصيب من دينه شعرة ثار له ثورة الأسد الضاري ، فمن ذلك ما حدث به سعيد ابنه قال : قعدنا ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم مع أبينا للإفطار بداره البرانية ، فإذا سائل (٦) يقول : أطعموني (٧) من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنة ، هذه الليلة ، ويكثر من ذلك ، فقال القاضي إن استجيب لهذا السائل فيكم فليس يصبح منا أحد (٨).

__________________

(١) أراد بالغبطة المنفعة الظاهرة للأيتام.

(٢) في ب : الأيتام سورتها.

(٣) في ب : وقال له : أنت.

(٤) في ب ، ه : لم يقدروها.

(٥) نضّ : حصل.

(٦) في ه : فإذا بسائل وفي المطمح : فإذا بسائل يقول : يا أهل هذه الدار الصالح أهلها أطعمونا.

(٧) في ب : أطعمونا.

(٨) في ب ، ه : واحد.

١٩٢

وحكى عنه قاسم بن أحمد الجهني أنه ركب يوما لحيازة أرض محبّسة في ركب من وجوه الفقهاء وأهل العدالة فيهم أبو إبراهيم اللؤلؤي ونظراؤه ، قال : فسرنا نقفوه (١) وهو أمامنا ، وأمامه أمناؤه يحملون خرائطه وذووه عليهم السكينة والوقار ، وكانت القضاة حينئذ لا تراكب ولا تماشي ، فعرض له في بعض الطريق كلاب مع مستوحمة (٢) ، والكلاب تلعق هنها وتدور حولها ، فوقف وصرف وجهه إلينا وقال : ترون يا أصحابنا ما أبرّ الكلاب بالهن الذي تلعقه وتكرمه ، ونحن لا نفعل ذلك ، ثم لوى عنان دابته وقد أضحكنا ، وبقينا متعجبين من هزله.

وحضر عند الحكم المستنصر بالله يوما في خلوة له في بستان الزهراء على بركة ماء طافحة ، وسط روضة نافحة (٣) ، في يوم شديد الوهج (٤) ، وذلك إثر منصرفه من صلاة الجمعة ، فشكا إلى الخليفة من وهج الحرّ والجهد ، وبث منه ما تجاوز الحدّ ، فأمره بخلع ثيابه والتخفيف عن جسمه ، ففعل ، ولم يطف ذلك ما به ، فقال له : الصواب أن تنغمس في وسط الصهريج انغماسة يبرد بها جسمك ، وليس مع الخليفة إلا الحاجب جعفر الخادم الصقلبي أمين الخليفة الحكم ، لا رابع لهم ، فكأنه استحيا من ذلك وانقبض عنه وقارا ، وأقصر عنه إقصارا ، فأمر الخليفة حاجبه جعفرا بسبقه إلى النزول في الصهريج ليسهل عليه الأمر فيه ، فبادر جعفر لذلك ، وألقى نفسه في الصهريج ، وكان يحسن السّباحة ، فجعل يجول يمينا وشمالا فلم يسع القاضي إلا إنفاذ أمر الخليفة ، فقام وألقى بنفسه خلف جعفر ، ولاذ بالقعود في درج الصهريج ، وتدرّج فيه بعض تدريج ، ولم ينبسط في السباحة ، وجعفر يمر مصعّدا ومصوبا (٥) فدسّه الحكم على القاضي ، وحمله على مساجلته في العوم ، وهو يعجزه في إخلاده إلى القعود ، ويعابثه بإلقاء الماء عليه ، والإشارة بالجذب إليه ، وهو لا ينبعث معه ، ولا يفارق موضعه ، إلى أن كلمه الحكم وقال له : ما لك لا تساعد الحاجب في فعله وتتقبل (٦) صنعه؟ فمن أجلك نزل ، وبسببك تبذّل ، فقال له : يا سيدي ، يا أمير المؤمنين ، الحاجب سلمه الله تعالى لا هو جل معه ، وإنما هذا (٧) ، الهوجل الذي معي يعقلني ويمنعني من أن أجول معه مجاله ، يعني أن الحاجب خصيّ لا هوجل معه ، والهوجل : الذكر ، فاستفرغ الحكم ضحكا من نادرته ولطيف تعريضه لجعفر ، وخجل جعفر من قوله ، وسبه سب الأشراف ، وخرجا من الماء ، وأمر لهما الخليفة بخلع ، ووصلهما بصلات سنية تشاكل كل واحد منهما.

__________________

(١) نقفوه : نتبعه.

(٢) المستوحمة : التي تظهر الرغبة في اللقاح.

(٣) نافحة : ذات ريح عطرة.

(٤) الوهج : الحر الشديد.

(٥) مصعدا : منحدرا. ومصوبا : صاعدا.

(٦) في ه : وتقبل صنعه.

(٧) في ب ، ه : وأنا بهذا الهوجل.

١٩٣

وحكي أن الخليفة الحكم قال له يوما (١) : لقد بلغني أنك لا تجتهد للأيتام ، وأنك تقدم لهم أوصياء سوء يأكلون أموالهم ، قال : نعم ، وإن أمكنهم نيك أمهاتهم لم يعفّوا عنهنّ ، قال : وكيف تقدم مثل هؤلاء؟ قال : لست أجد غيرهم ولكن أحلني على اللؤلؤي وأبي إبراهيم ومثل هؤلاء ، فإن أبوا أجبرتهم بالسّوط والسجن ، ثم لا تسمع إلا خيرا.

وقال القاضي منذر : أتيت وأبو جعفر بن النحاس في مجلسه بمصر يملي في أخبار الشعراء شعر قيس المجنون حيث يقول : [الطويل]

خليليّ هل بالشّام عين حزينة

تبكّي على نجد لعلّي أعينها

قد اسلمها الباكون إلّا حمامة

مطوّقة باتت وبات قرينها

تجاوبها أخرى على خيزرانة

يكاد يدنّيها من الأرض لينها

فقلت له : يا أبا جعفر ، ما ذا أعزك الله تعالى باتا يصنعان؟ فقال لي : وكيف تقول أنت يا أندلسي؟ فقلت له : بانت وبان قرينها ، فسكت ، وما زال يستثقلني بعد ذلك ، حتى منعني كتاب العين ، وكنت ذهبت إلى الانتساخ من نسخته ، فلما قطع بي قيل لي : أين أنت من (٢) أبي العباس بن ولّاد؟ فقصدته ، فلقيت رجلا كامل العلم حسن المروءة ، فسألته الكتاب ، فأخرجه إليّ ، ثم ندم أبو جعفر لما بلغه إباحة أبي العباس الكتاب إلي (٣) ، وعاد إلى ما كنت أعرفه منه.

قال : وكان أبو جعفر لئيم النفس ، شديد التقتير على نفسه ، وربما وهبت له العمامة فيقطعها ثلاث عمائم ، وكان يأبي شراء حوائجه بنفسه ، ويتحامل (٤) فيها على أهل معرفته ، انتهى.

وأبو جعفر هذا يقال : إن تواليفه تزيد على خمسين ، منها شرح عشرة دواوين للعرب ، وإعراب القرآن ، ومعاني القرآن ، وشرح أبيات الكتاب (٥) وغير ذلك.

رجع ـ وقال منذر بن سعيد : كتبت إلى أبي علي البغدادي أستعير منه كتابا من الغريب ، وقلت: [المجتث]

بحق ريم مهفهف

وصدغه المتعطّف(٦)

ابعث إلي بجزء

من الغريب المصنف

__________________

(١) انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ٧٣.

(٢) في ب : عن أبي.

(٣) في ب ، ه : إباحة أبي العباس الكتاب لي.

(٤) يتحامل فيها على أهل معرفته : أي يحملهم القيام بها.

(٥) الكتاب : هو كتاب سيبويه.

(٦) الريم : الظبي الأبيض. والمهفهف : الضامر البطن ، الدقيق الخصر.

١٩٤

فقضى حاجتي ، وأجاب بقوله :

وحقّ درّ تألّف

بفيك أيّ تألّف

لأبعثنّ بما قد

حوى الغريب المصنّف

ولو بعثت بنفسي

إليك ما كنت أسرف

فرحم الله تعالى تلك الأرواح الطاهرة!.

وذكر ابن أصبغ الهمداني عن منذر أنه خطب يوما ، وأراد التواضع ، فكان من فصول خطبته أن قال (١) : حتى متى وإلى متى (٢) أعظ ولا أتعظ ، وأزجر ولا أنزجر ، أدل الطريق إلى (٣) المستدلين ، وأبقى مقيما مع الحائرين؟ كلا إن هذا لهو البلاء المبين (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥] الآية ، اللهم فرغني لما خلقتني له ، ولا تشغلني بما تكفّلت لي به ، ولا تحرمني وأنا أسألك ، ولا تعذبني وأنا أستغفرك ، يا أرحم الراحمين.

وسمع منذر بالأندلس من عبيد الله بن يحيى بن يحيى ونظرائه ، ثم رحل حاجا سنة ثمان وثلاثمائة فاجتمع بعدّة أعلام ، وظهرت فضائله بالمشرق ، وممن سمع عليه منذر بالمشرق ثم بمكة محمد بن المنذر النيسابوري ، سمع عليه كتابه المؤلف في اختلاف العلماء المسمى «بالإشراف» وروى بمصر كتاب «العين» للخليل عن أبي العباس بن ولّاد ، وروى عن أبي جعفر بن النحاس ، وكان منذر متفننا في ضروب العلوم وغلب عليه التفقه بمذهب أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري ، فكان منذر يؤثر مذهبه ، ويجمع كتبه ، ويحتج لمقالته ، ويأخذ به في نفسه وذويه ، فإذا جلس للحكومة قضى بمذهب الإمام مالك وأصحابه ، وهو الذي عليه العمل بالأندلس ، وحمل السلطان أهل مملكته عليه ، وكان خطيبا ، بليغا ، عالما بالجدل ، حاذقا فيه ، شديد العارضة ، حاضر الجواب عتيده ، ثابت الحجة ذا شارة عجيبة (٤) ، ومنظر جميل ، وخلق حميد ، وتواضع لأهل الطلب ، وانحطاط إليهم ، وإقبال عليهم ، وكان ـ مع وقاره التام ـ فيه دعابة مستملحة ، وله نوادر مستحسنة ، وكانت ولايته القضاء بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، ولبث قاضيا من ذلك

__________________

(١) انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ٦٩.

(٢) وإلى متى : غير موجودة في ب.

(٣) في ب ، ه ، وتاريخ قضاة الأندلس : على المستدلين.

(٤) في ه : ذا إشارة.

١٩٥

التاريخ للخليفة الناصر إلى وفاته ، ثم للخليفة الحكم المستنصر إلى أن توفي رحمه الله تعالى عقب ذي القعدة من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة ، فكانت ولايته لقضاء الجماعة المعبر عنه في المشرق بقضاء القضاة ستة عشر عاما كاملة ، لم يحفظ عليه فيها جور في قضية ، ولا قسم بغير سويّة ، ولا ميل لهوى (١) ، ولا إصغاء إلى عناية ، رحمه الله تعالى ورضي عنه! ودفن بمقبرة قريش بالربض الغربي من قرطبة أعادها الله تعالى! جوفيّ مسجد السيدة الكبرى ، بقرب داره.

وله رحمه الله تعالى تواليف مفيدة : منها كتاب «أحكام القرآن» و «الناسخ والمنسوخ» وغير ذلك في الفقه والكلام في الرد على أهل المذاهب ، تغمده الله تعالى برضوانه!.

وكتب بعض الأدباء إلى القاضي منذر بقوله : [السريع]

مسألة جئتك مستفتيا

عنها ، وأنت العالم المستشار

علام تحمّر وجوه الظّبا

وأوجه العشّاق فيها اصفرار

فأجاب منذر بقوله : [السريع]

احمر وجه الظّبي إذ لحظه

سيف على العشّاق فيه احورار(٢)

واصفرّ وجه الصّبّ لمّا نأى

والشّمس تبقي للمغيب اصفرار

٧ ـ وممن رحل إلى المشرق من الأندلس فشهد له بالسبق ، كل أهل المغرب والشرق ، الإمام العلامة أبو القاسم (٣) الشاطبي ، صاحب «حرز الأماني» و «العقيلة» وغيرهما.

وهو أبو القاسم (٤) بن فيّره بن خلف بن أحمد ، الرّعيني ، الشاطبي ، المقري ، الفقيه ، الحافظ ، الضرير ، أحد العلماء المشهورين ، والفضلاء المشكورين (٥) ، خطب ببلده شاطبة مع

__________________

(١) في ب : بهوى.

(٢) فيه احورار : الضمير عائد على لحظه.

(٣) هو القاسم بن فيره بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي المقرئ النحوي الضرير. كان إماما فاضلا في النحو والقراءات والتفسير والحديث. علامة نبيلا ، محققا ذكيا واسع المحفوظ ، صالحا ، صدوقا. ولد سنة ٥٣٨ ه‍ وتوفي سنة ٥٩٠ ه‍ (بغية الوعاة ج ٢ ص ٢٦٠) وانظر في ترجمته : معجم الأدباء ج ١٦ ص ٢٩٣ ، وطبقات السبكي ج ٤ ص ٣٩٧ ، وشذرات الذهب ج ٤ ص ٣٠١ ، وغيرها.

(٤) ورد في أصل عند ه : أبو القاسم القاسم بن فيره وهو يطابق ما ورد في الكتب من ترجمته.

(٥) في ب ، ه : المذكورين.

١٩٦

صغر سنه ، ودخل الديار المصرية سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، وحضر عند الحافظ السّلفي وابن برّي وغيرهما ، وولد بشاطبة آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة ، وتوفي بالقاهرة يوم الأحد الثامن والعشرين ، وقيل : الثامن عشر ، من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة ، بعد العصر ، ودفن من الغد بالتربة الفاضلية بسفح المقطم.

وحكي أن الأمير عز الدين موسك ، الذي كان والد ابن الحاجب حاجبا له بعث إلى الشيخ الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده ، فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه : [مجزوء الكامل]

قل للأمير مقالة

من ناصح فطن نبيه

إنّ الفقيه إذا أتى

أبوابكم لا خير فيه

ومن نظمه رحمه الله تعالى : [الكامل]

خالقت أبناء الزمان فلم أجد

من لم أرم منه ارتيادي مخلصي(١)

ردّ الشّباب وقد مضى لسبيله

أهيا وأمكن من صديق مخلص(٢)

وكان رحمه الله تعالى قرأ بشاطبة القراءات ، وأتقنها على النّفري (٣) ، ثم انتقل إلى بلنسية فقرأ بها التيسير من حفظه على ابن هذيل ، وسمع الحديث منه ومن ابن النعمة وابن سعادة وابن عبد الرحيم وغيرهم ، وارتحل إلى المشرق فاستوطن القاهرة ، واشتهر اسمه ، وبعد صيته ، وقصده الطلبة من النواحي ، وكان إماما ، علامة ، ذكيا ، كثير الفنون ، منقطع القرين ، رأسا في القراءات ، حافظا للحديث ، بصيرا بالعربية ، واسع العلم ، وقد سارت الركبان بقصيدته «حرز الأماني» و «عقيلة أتراب الفضائل» اللتين في القراءات والرسم ، وحفظهما خلق كثير (٤) لا يحصون ، وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء وحذاق القراء ، ولقد أوجز وسهّل الصعب.

وممن روى عنه أبو الحسن بن خيرة ، ووصفه من قوّة الحفظ بأمر عجيب (٥) معجب ، وممن قرأ عليه بالروايات الإمام الشهير محمد بن عمر القرطبي.

__________________

(١) في ب ، ه : خالصت .. من لم أرم.

(٢) أهيا : أكثر تهيؤا : أقرب وأسهل.

(٣) في ب ، ه : النفري ، وهو تحريف ، في ب : النفزي.

(٤) كثير : غير موجودة في ب.

(٥) عجيب : غير موجودة في ب.

١٩٧

وتصدر الشاطبي رحمه الله تعالى للإقراء بالمدرسة الفاضلية ، وكان موصوفا بالزهد والعبادة والانقطاع.

وقبره بالقرافة يزار ، وترجى استجابة الدعاء عنده ، وقد زرته مرارا ، ودعوت الله بما أرجو قبوله.

وترك أولادا : منهم أبو عبد الله محمد ، عاش نحو ثمانين سنة.

وقال السبكي في حق الإمام الشاطبي : إنه كان قوي الحافظة ، واسع المحفوظ ، كثير الفنون ، فقيها ، مقرئا ، محدثا ، نحويا ، زاهدا ، عابدا ، ناسكا ، يتوقد ذكاء ، قال السخاوي (١) : أقطع أنه كان مكاشفا ، وأنه سأل الله كتمان حاله ، ما كان أحد يعلم أي شيء هو ، انتهى.

وترجمته واسعة ، رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين!.

وقال ابن خلّكان : إنه أبدع (٢) في «حرز الأماني» وهي عمدة قرّاء هذا الزمان في تعلمهم (٣) ، فقلّ من يشتغل بالقراءات إلا ويقدّم حفظها ومعرفتها ، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات لطيفة ، وما أظنه سبق إلى أسلوبها ، وقد روي عنه أنه كان يقول : لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله عز وجل ، لأني نظمتها لله تعالى مخلصا ، وكان عالما بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرا ، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مبرزا فيه ، وكان إذا قرىء عليه صحيحا البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه ، ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها ، وكان أوحد في علم النحو واللغة ، عارفا بتعبير الرؤيا (٤) ، حسن المقاصد ، مخلصا فيما يقول ويفعل ، وكان يجتنب فضول الكلام ، ولا ينطق في سائر أوقاته إلا بما تدعو إليه الحاجة (٥) ، ولا يجلس للقراءة إلا على طهارة في هيئة حسنة وتخشع واستكانة ، وكان يعتلّ العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوّه ، وإذا سئل عن حاله قال : العافية ، لا يزيد على ذلك ، وكان كثيرا ما ينشد هذا اللغز في النعش ، وهو لأبي زكريا يحيى بن سلامة الخطيب : [الطويل]

أتعرف شيئا في السّماء نظيره

إذا سار صاح النّاس حيث يسير

فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا

وكلّ أمير يعتليه أسير

يحضّ على التّقوى ويكره قربه

وتنفر منه النّفس وهو نذير

__________________

(١) السخاوي : هو علي بن محمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمداني السخاوي.

(٢) في ب ، ه : ولقد أبدع كل الإبداع. وهذا نص ابن خلكان.

(٣) في ب ، ه ، ووفيات الأعيان : في نقلهم.

(٤) في ه : بتفسير الرؤيا.

(٥) في ب ، ه : ضرورة.

١٩٨

ولم يستزر عن رغبة في زيارة

ولكن على رغم المزور يزور

وكان يقول (١) عند دخوله إلى مصر : إنه يحفظ وقر بعير (٢) من العلوم ، وكان نزيل القاضي الفاضل ، ورتّبه بمدرسته بالقاهرة ، وقيل : إن كنيته أبو محمد (٣) حسبما وجد في بعض إجازاته ، رحمه الله تعالى!.

٨ ـ ومن الراحلين إلى المشرق من الأندلس الإمام القاضي : أبو بكر بن العربي.

قال ابن سعيد : هو الإمام العالم القاضي الشهير فخر المغرب (٤) ، أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري ، قاضي قضاة كورة إشبيلية ، ذكره الحجاري في المسهب ، طبق الآفاق بفوائده ، وملأ الشام والعراق بأوابده ، وهو إمام في الأصول والفروع وغير ذلك.

ومن شعره وقد ركب مع أحد أمراء الملثّمين ، وكان ذلك الأمير صغيرا ، فهز عليه رمحا (٥) كان في يده مداعبا له ، فقال : [الطويل]

يهزّ عليّ الرّمح ظبي مهفهف

لعوب بألباب البريّة عابث

ولو كان رمحا واحدا لا تّقيته

ولكنّه رمح وثان وثالث(٦)

وقوله وقد دخل عليه غلام جميل الصورة في لباس خشن : [الرمل]

لبس الصّوف لكي أنكره

وأتانا شاحبا قد عبسا

قلت إيه عرفناك وذا

جلّ سوء لا يعيب الفرسا

كلّ شيء أنت فيه حسن

لا يبالي حسن ما لبسا

وزعم بعض أن الأبيات ليست له ، وإنما تمثل بها ، فالله تعالى أعلم.

وممن عرّف بابن العربي وذكره ابن الإمام في سمط الجمان ، والشّقندي في الطرف ،

__________________

(١) في ب ، ه : وكان يقال.

(٢) وقر بعير : حمل بعير.

(٣) أكثر المصادر على أن اسمه القاسم وأن له كنيتين : أبو القاسم ، وأبو محمد.

(٤) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد العربي المعافري المكنى بأبي بكر (انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ١٠٥. وشذرات الذهب ج ٤ ص ١٤١ ، وكتاب الوفيات لابن قنفذ ص ٢٧٩ ، والملح ص ٦٢ ، وغيرها كثير).

(٥) في ب : رميحا.

(٦) في ب : فلو أنه رمح إذن لا تّقيته ...

١٩٩

وكان قد صحب المهدي محمد بن تومرت بالمشرق ، فأوصى عليه عبد المؤمن وكان مكرما عنده ، وحكي أنه كتب كتابا فأشار عليه بعض من حضر أن يذرّ عليه نشارة ، فقال : قف ، ثم فكر ساعة ، وقال : اكتب : [الخفيف]

لا تشنه بما تذرّ عليه

فكفاه هبوب هذا الهواء

فكأنّ الّذي تذرّ عليه

جدريّ بوجنة حسناء

ولقي أبا بكر الطّرطوشي ، وما برح معظما إلى أن تولى خطة القضاء ، ووافق ذلك أن احتاج سور إشبيلية إلى بنيان جهة منه ، ولم يكن بها (١) مال متوفر ، ففرض على الناس جلود ضحاياهم ، وكان ذلك في عيد أضحى ، فأحضروها كارهين ، ثم اجتمعت العامة العمياء ، وثارت عليه ، ونهبوا داره ، وخرج إلى قرطبة.

وكان في أحد أيام الجمع قاعدا ينتظر الصلاة ، فإذا بغلام رومي وضيء قد جاء يخترق الصفوف بشمعة في يده وكتاب معتّق ، فقال : [السريع]

وشمعة تحملها شمعة

يكاد يخفي نورها نارها

لو لا نهى نفس نهت غيّها

لقبّلته وأتت عارها(٢)

ولما سمعهما أبو عمران الزاهد قال : إنه لم يكن يفعل ، ولكنه هزته أريحية الأدب ولو كنت أنا لقلت : [البسيط]

لو لا الحياء وخوف الله يمنعني

وأن يقال صبا موسى على كبره(٣)

إذا لمتّعت لحظي في نواظره

حتى أوفّي جفوني الحقّ من نظره

رجع إلى أخبار ابن العربي ـ فنقول : إنه سمع بالأندلس أباه وخاله أبا القاسم الحسن الهوزني وأبا عبد الله السّرقسطي ، وببجاية أبا عبد الله الكلاعي ، وبالمهدية أبا الحسن بن الحداد الخولاني ، وسمع بالإسكندرية من الأنماطي ، وبمصر من أبي الحسن الخلعي وغيره ، وبدمشق غير واحد كأبي الفتح نصر المقدسي ، وبمكة أبا عبد الله الحسين الطبري وابن طلحة وابن بندار ، وقرأ الأدب على التبريزي ، وعمل رحمه الله تعالى على مدينة إشبيلية سورا بالحجارة والآجر بالنورة من ماله ، وكان ـ كما في الصلة (٤) ـ حريصا على آدابها وسيرها (٥) ،

__________________

(١) في ب ، ه : فيها.

(٢) النهى : العقل.

(٣) صبا : مال من اللهو.

(٤) في ب : في الصلة ـ مقدمة في المعارف كلها حريصا على أدائها ونشرها.

(٥) في ب : في الصلة ـ مقدمة في المعارف كلها حريصا على أدائها ونشرها.

٢٠٠