نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

ثم قال بعد كلام : وخرج إلى برجة ودلاية وهما منظران (١) لم يجل في مثلهما ناظر ، ولم تدع حسنهما الخدود النواضر ، غصون تثنّيها الرياح ، ومياه لها انسياح ، وحدائق تهدي الأرج والعرف ، ومنازه (٢) تبهج النفس وتمتع الطرف ، فأقام فيها أياما يتدرج في مسارحها ، ويتصرف في منازهها ، وكانت نزهة أربت على نزهة هشام بدير الرّصافة ، وأنافت عليها أي إنافة.

وقال في ترجمة ابن رزين ، ما ملخصه : أخبرني الوزير أبو عامر بن سنون (٣) أنه اصطبح يوما والجوّ سماكي العوارف (٤) ، لا زورديّ المطارف ، والروض أنيقة لبّاته ، رقيقة هبّاته ، والنور مبتلّ ، والنسيم معتلّ ، ومعه قومه ، وقد راقهم يومه ، وصلاته تصافح معتفيهم ، ومبرّاته تشافه موافيهم ، والراح تشعشع ، وماء الأماني ينشع ، فكتب إلى ابن عمار وهو ضيفه : [الطويل]

ضمان على الأيّام أن أبلغ المنى

إذا كنت في ودّي مسرا ومعلنا

فلو تسأل الأيّام : من هو مفرد

بودّ ابن عمّار؟ لقلت لها : أنا

فإن حالت الأيّام بيني وبينه

فكيف يطيب العيش أو يحصل المنى (٥)

فلما وصلت الرقعة إليه تأخر عن الوصول ، واعتذر بعذر مختلّ المعاني والفصول ، فقال أحد الحاضرين : إني لأعجب من قعود ابن عمار ، عن هذا المضمار ، مع ميله إلى السّماع ، وكلفه بمثل هذا الاجتماع ، فقال ذو الرياستين : إن الجواب تعذر ، فلذا اعتذر ، لأنه يعاني قوله ويعلّله ، ويروّيه ولا يرتجله ، ويقوله في المدة ، والساعات الممتدة (٦) ، فرأى أن الوصول بلا جواب إخجال لأدبه ، وإخلال لمنازله في الشعر ورتبه ، فلما كان من الغد ورد ابن عمار ومعه الجواب ، وهو : [الطويل]

هصرت لي الآمال طيّبة الجنى

وسوّغتني الأحوال مقبلة الدّنى

وألبستني النّعمى أغضّ من النّدى

وأجمل من وشي الرّبيع وأحسنا

وكم ليلة أحظيتني بحضورها

فبتّ سميرا للسّناء وللسّنا (٧)

أعلّل نفسي بالمكارم والعلا

وأذني وكفّي بالغناء وبالغنى

__________________

(١) في ب : نظران.

(٢) في ب : منازل.

(٣) بن سنون : زيادة من القلائد.

(٤) في ه : مسكي العوارف.

(٥) في ب : أو يحسن الغنا.

(٦) في ب : ويقوله في المدة الممتدة ، فرأى ..

(٧) السناء : العلو والرفعة. والسنا : الضوء الشديد.

١٦١

سأقرن بالتّمويل ذكرك كلّما

تعاورت الأسماء غيرك والكنى

لأوسعتني قولا وطولا كلاهما

يطوّق أعناقا ويخرس ألسنا

وشرّفتني من قطعة الرّوض بالّتي

تناثر فيها الطّبع وردا وسوسنا

تروق بجيد الملك عقدا مرصّعا

وتزهو على عطفيه بردا مزيّنا

فدم هكذا يا فارس الدّست والوغى

لتطعن طورا بالكلام وبالقنا (١)

وأخبرني الوزير أبو جعفر (٢) بن سعدون أنه اصطبح يوما بحضرته وللرذاذ رشّ ، وللربيع على وجه الأرض فرش ، وقد صقل الغمام الأزهار حتى أذهب نمشها ، وسقاها فأروى عطشها ، فكتب إليه : [الطويل]

فديناك لا يسطيعك النّظم والنّثر

فأتت مليك الأرض ، وانفصل الأمر(٣)

فديناك لا يسطيعك النّظم والنّثر

كما سكبت وطفاء أو سكب البحر(٤)

وجاء الرّبيع الطّلق يبدي غضارة

فحيّتك منه الشّمس والرّوض والنّهر (٥)

إلى أن قال : ثم وجه فيه إلى روضة قد أرجت نفحاتها ، وتدبجت ساحاتها ، وتفتحت كمائمها ، وأفصحت حمائمها ، وتجرّدت جداولها كالبواتر ، ورمقت أزهارها بعيون فواتر (٦) ، وأقاموا يعملون أكواسهم ، ويشتملون إيناسهم ، فقال ذو الرياستين : [الطويل]

وروض كساه الطلّ وشيا مجدّدا

فأضحى مقيما للنّفوس ومقعدا

إذا صافحته الرّيح خلت غصونه

رواقص في خضر من القضب ميّدا

إذا ما انسكاب الماء عاينت خلته

وقد كسرته راحة الرّيح مبردا

وإن سكنت عنه حسبت صفاءه

حساما صقيلا صافي المتن جرّدا

وغنّت به ورق الحمائم بيننا

غناء ينسّيك الغريض ومعبدا

فلا تجفونّ الدّهر ما دام مسعدا

ومدّ إلى ما قد حباك به يدا (٧)

وخذها مداما من غزال كأنّه

إذا ما سقى بدر تحمّل فرقدا

إلى أن قال : وأخبرني الوزير أبو عامر بن سنون ، أنه كان معه في منية العيون ، في يوم مطرّز الأديم ، ومجلس معزز النديم ، والأنس يغازلهم من كل ثنية ، ويواصلهم بكل أمنية ،

__________________

(١) الدست : أراد هنا المجلس.

(٢) في ب : الوزير الكاتب أبو جعفر.

(٣) في ب : واتصل الأمر.

(٤) مرينا نداك : طلبنا جودك.

(٥) في ب ، ج : وجاء الربيع الطلق يبدي طلاقه.

(٦) في ب ، ج : كالعيون الفواتر.

(٧) حباك : أعطاك.

١٦٢

فسكر أحد الحاضرين سكرا مثل له ميدان الحرب ، وسهل عليه مستوعر الطعن والضرب ، فقلب مجلس الأنس حربا وقتالا ، وطلب الطعن وحده والنزالا (١) ، فقال ذو الرياستين :

نفس الذّليل تعزّ بالجريال

فيقاتل الأقران دون قتال(٢)

كم من جبان ذي افتخار باطل

بالرّاح تحسبه من الأبطال

كبش النّديّ تخمّطا وعرامة

وإذا تشبّ الحرب شاة نزال

وقال في ترجمة ابن طاهر ، ما صورته : وجئته يوما وقد وقفت بباب الحنش ، فقال لي : من أين؟ فأعلمته ، ووصفت له ما عاينته من حسنه وتأملته ، فقال لي : كنت أخرج إليه في أكثر الليالي مع الوزير الأجل أبي بكر ـ يعني ابن عبد العزيز ـ إلى روضته التي ودت الشمس أن يكون منها طلوعها ، وتمنى المسك أن تنضم عليه ضلوعها ، والزمان غلام ، والعيش أحلام ، والدنيا تحية وسلام ، والناس قد انتشروا في جوانبه ، وقعدوا على مذانبه (٣) ، وفي ساقيته الكبرى دولاب يئن كناقة إثر حوار ، أو كثكلى من حر الأوار ، وكل مغرم يجعل فيه ارتياحه ، بكرته ورواحه ، ويغازل عليه حبيبه ، ويصرف إليه تشبيبه ، فخرجت عليه ليلة والمتنبي الجزيري واقف وأمامه ظبي آنس ، تهيم به المكانس ، وفي أذنيه قرطان ، كأنهما كوكبان ، وهو يتأود تأود غصن البان ، والمتنبي يقول : [الرمل]

معشر النّاس بباب الحنش

بدر تمّ طالع في غبش

علّق القرط على مسمعه

من عليه آفة العين خشي

فلما رآني أمسك ، وسبح كأنه قد تنسك (٤).

وقال في ترجمة ابن عمار ، ما صورته : وتنزه بالدمشق بقرطبة ، وهو قصر شيده بنو أمية بالصّفّاح والعمد ، وجروا من إتقانه إلى غاية وأمد ، (٥) وأبدع بناؤه ، ونمقت ساحته وفناؤه ، واتخذوه ميدان مراحهم ، ومضمارا لانشراحهم ، وحكوا به قصرهم بالمشرق ، وأطلعوه كالكوكب الثاقب المشرق ، فحله أبو بكر بن عمار على أثر بوسه ، وابتسم له دهره بعد عبوسه ، والدنيا قد أعطته عفوها ، وسقته صفوها ، وبات فيه مع لمّة (٦) من أتباعه ، ومتفيئي

__________________

(١) أخذه من قول المتنبي :

وإذا ما خلا الجبان بأرض

طلب الطعن وحده والنزالا

(٢) الجريال : الخمر.

(٣) المذانب : جمع مذنب ، وهو مجرى الماء من الروضة إلى غيرها.

(٤) في ب : كأنه قد تنسك.

(٥) في ب : إلى غير أمد.

(٦) اللّمة : الجماعة.

١٦٣

رباعه ، وكلهم يحييه بكاس ، ويفديه بنفسه من كل باس ، فطابت له ليلته في مشيده ، وأطربه الأنس ببسيطه ونشيده ، فقال : [الخفيف]

كلّ قصر بعد الدّمشق يذمّ

فيه طاب الجنى وفاح المشمّ

منظر رائق ، وماء نمير

وثرى عاطر ، وقصر أشمّ

بتّ فيه واللّيل والفجر عندي

عنبر أشهب ومسك أحمّ

وعبر صاحب البدائع عن هذه القصة بقوله : تنزه ابن عمار بالدمشق بقرطبة ، وهو قصر شيده خلفاء بني أمية وزخرفوه ، ودفعوا صرف الدهر عنه وصرفوه ، وأجروه على إرادتهم وصرّفوه ، وذهّبوا سقفه وفضّضوها ، ورخّموا أرضه وروّضوها ، فبات به والسعد يلحظه بطرفه ، والروض يحييه بعرفه ، فلما استنفد كافور الصباح (١) مسك الغسق ، ورصع آبنوس الظلام نضار الشفق ، قال مرتجلا : «كل قصر بعد الدمشق يذم» إلخ ، انتهى.

وقال في ترجمة ذي الوزارتين أبي عيسى بن لبّون : أخبرني الوزير أبو عامر بن الطويل أنه كان بقصر مربيطر بالمجلس الشرقي منها (٢) ، والبطحاء قد لبست زخرفها ، ودبج الغمام مطرفها ، وفيها حدائق ترنو عن مقل نرجسها ، وتبث طيب تنفسها ، والجلنار قد لبس أردية الدماء ، وراع أفئدة الندماء ، فقال : [الكامل]

قم يا نديم أدر عليّ القرقفا

أو ما ترى زهر الرّياض مفوّفا(٣)

فتخال محبوبا مدلا وردها

وتظنّ نرجسها محبّا مدنفا

والجلّنار دماء قتلى معرك

والياسمين حباب ماء قد طفا

إلى أن قال : وشرب مع الوزراء الكتاب ببطحاء لورقة عند أخيه ، وابن اليسع غائب عنها (٤) في عشية تجود بدمائها ، ويصوب عليها دمع سمائها ، والبطحاء قد خلع عليها سندسها ، ودرّها (٥) نرجسها ، والشمس تنقض على الربا زعفرانها ، والأنوار تغمض أجفانها ، فكتب إلى ابن اليسع : [البسيط]

لو كنت تشهد يا هذا عشيّتنا

والمزن يسكب أحيانا وينحدر(٦)

والأرض مصفرّة بالشّمس كاسية

أبصرت تبرا عليه الدّرّ ينتثر(٧)

__________________

(١) في ب : الصباح به مسك.

(٢) في ب ، ه : بالمجلس المشرف منها.

(٣) القرقف : الخمر. ومفوف : مخطط وملون.

(٤) زيادة من قلائد العقيان.

(٥) في ب : ودنرها نرجسها.

(٦) في ب : والمزن تسكب أحيانا وتنحدر.

(٧) في ه ، والقلائد : والأرض مصفرة بالمزن كاسية.

١٦٤

وقال في ترجمة ذي الوزارتين أبي بكر بن رحيم ، ما صورته : ووصل هو وابن وضاح صهر المرتضى ، وابن جمال الخلافة صاحب صقلية ، إلى إحدى جنات مرسية ، فحلوا منها في قبة فوق جدول مطّرد ، وتحت أدواح طيرها غرد ، فأقاموا يتعاطون رحيقهم ، ويعمرون في المؤانسة طريقهم ، إذا بالجنّان (١) قد وقف عليهم وقال : كان بموضعكم بالأمس صاحب الموضع ومعه شعور منشورة ، وخدود غير مستورة ، قد رفعت عنها البراقع ، وما منها نظرة إلا ومعها سهم واقع ، فاستدعى فحما وكتب في إحدى زوايا القبة : [الخفيف]

قادنا ودّنا إليك فجئنا

بنفوس تفديك من كلّ بوس

فنزلنا منازلا لبدور

وحللنا مطالعا لشموس

وقال في ترجمة الوزير الكاتب أبي محمد بن عبدون ، ما صورته : حللت بيابرة (٢) فأنزلني واليها بقصرها ، ومكنني من جنى الأماني وهصرها ، فأقمت ليلي ، أجرّ على المجرة ذيلي ، وتتطارد في ميدان السرور خيلي ، فلما كان من الغد باكرني الوزير أبو محمد مسلما ، ومن تنكبي عنه متألما ، ثم عطف على القائد عاتبا عليه ، في كوني لديه ، ثم انصرف وقد أخذني من يديه ، فحللت عنده في رحب ، وهمت علي من البر أمطار سحب ، في مجلس كأن الدراري فيه مصفوفة ، أو كأن الشمس إليه مزفوفة ، فلما حان انصرافي ، وكثر تطلعي إلى مآبي واستشرافي ، ركب معي إلى حديقة نضرة ، مجاورة للحضرة ، فأنخنا عليها أيدي عيسنا (٣) ، ونلنا منها ما شئنا من تأنيسنا ، فلما امتطيت عزمي ، وسددت إلى غرض الرحلة سهمي ، أنشدني : [الطويل]

سلام يناجي منه زهر الرّبا عرف

فلا سمع إلّا ودّ لو أنّه أنف(٤)

حنيني إلى تلك السّجايا فإنّها

لآثار أعيان المساعي الّتي أقفو

ثم سرد القصيدة إلى أن قال : وله رحمه الله تعالى : [المتقارب]

سقاها الحيا من مغان فساح

فكم لي بها من معان فصاح(٥)

وحلّى أكاليل تلك الرّبا

ووشّى معاطف تلك البطاح

__________________

(١) الجنّان : البستاني.

(٢) يابرة : مدينة في البرتغال.

(٣) العيس : النوق.

(٤) العرف ، بفتح العين وسكون الراء : الرائحة الطيبة.

(٥) المغاني : المنازل ، جمع مغنى. في ب : الروي بالكسر (فصاح).

١٦٥

فما أنس لا أنس عهدي بها

وجرّي فيها ذيول المراح

ونومي على حبرات الرّياض

يجاذب برديّ مرّ الرّياح(١)

ولم أعط أمر النّهى طاعة

ولم أصغ سمعي إلى قول لاح(٢)

وليل كرجعة طرف المريب

لم ادر له شفقا من صباح

وقال في ترجمة الوزير أبي محمد بن مالك بعد كلام له فيه وإنشاده بيتيه البديعين اللذين هما : [الخفيف]

لا تلمني بأن طربت لشجو

يبعث الأنس فالكريم طروب

ليس شقّ الجيوب حقّا علينا

إنّما الشّأن أن تشقّ القلوب(٣)

ما صورته : وخرجت من إشبيلية مشيّعا لأحد زعماء المرابطين ، فألفيته معه مسايرا له في جملة من شيعه ، فلما انصرفنا مال بنا إلى معرّس أمير المسلمين أدام الله تعالى تأييده الذي ينزله عند حلوله بإشبيلية (٤) ، وهو موضع مستبدع ، كأن الحسن فيه مودع ، ما شئت من نهر ينساب انسياب الأراقم ، وروض كما وشت البرد يد راقم ، وزهر يحسد المسك ريّاه ، ويتمنى الصبح أن يسم به محيّاه ، فقطف غلام وسيم من غلمانه نورة ومد يده إليّ وهي في كفه ، فعزم على أن أقول بيتا في وصفه ، فقلت : [الطويل]

وبدر بدا والطّرف مطلع حسنه

وفي كفّه من رائق النّور كوكب

فقال أبو محمد : [الطويل]

يروح لتعذيب النّفوس ويغتدي

ويطلع في أفق الجمال ويغرب

ويحسد منه الغصن أيّ مهفهف

يجيء على مثل الكثيب ويذهب

وقال في ترجمة الوزير أبي القاسم بن السّقاط بعد كلام كثير ، ما صورته : وحملنا الوزير القاضي أبو الحسن بن أضحى إلى إحدى ضياعه بخارج غرناطة ، ومعنا الوزير أبو محمد بن مالك ، وجماعة من أعيان تلك الممالك ، فحللنا بضيعة لم ينحت المحل أثلها ، ولم ترمق العيون مثلها ، وجلنا بها في أكناف ، جنات ألفاف ، فما شئت من دوحة لفّاء ، وغصن يميس كمعطفي هيفاء ، وماء يناسب في جداوله ، وزهر يضمّخ بالمسك راحة متناوله ، ولما قضينا من

__________________

(١) في ه : يجاذب بردي راح الرياح.

(٢) في ب ، ه : ولم أصغ سمعا إلى لحي لاح.

(٣) في ه : إنما الحق أن تشق القلوب.

(٤) في ب ، ه : عند حلوله إشبيلية.

١٦٦

تلك الحدائق أربا ، وافتنا منها أترابا عربا (١) ، ملنا إلى موضع المقيل ، ونزلنا بمنازه (٢) تزري بمنازه جذيمة مع مالك وعقيل (٣) ، وعند وصولنا بدا لي من أحد الأصحاب تقصير في المبرة ، عرض لي منه تكدير لتلك العين الثرة (٤) ، فأظهرت التثاقل أكثر ذلك اليوم ، ثم عدلت عنهم إلى الاضطجاع والنوم ، فما استيقظت إلا والسماء قد نسخ صحوها ، وغيم جوها ، والغمام منهمل ، والثرى من سقياه ثمل ، فبسطني بتحفيه ، وأبهجني يبر له لم يزل يتمه (٥) ويوفيه ، وأنشدني : [البسيط]

يوم تجهّم فيه الأفق وانتثرت

مدامع الغيث في خدّ الثّرى هملا

رأى وجومك فاربدّت طلاقته

مضاهيا لك في الأخلاق ممتثلا

وقال في ترجمة الوزير القاضي أبي الحسن بن أضحى ، ما نصه : وكان لصاحب البلد الذي كان يتولى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة ، وكانت محاسن الأفعال والأقوال عليه مقصورة ، مع ما شئت من لسن ، وصوت حسن ، وعفاف ، واختلاط بالنّبهاء (٦) والتفاف ، فحملنا إلى إحدى ضياعه بقرب من حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفة نهر ، أحسن من شاذمهر (٧) ، تشقّها جداول كالصّلال ، ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال ، ومعنا جملة من أعيانها فأحضرنا من أنواع الطعام ، وأرانا من فرط الإكرام والإنعام ، ما لا يطاق ولا يحلو (٨) ، ويقصر عن بعضه العد ، وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته فقابلته بكلام اعتقده ، وملام أحقده (٩) ، فلما كان من الغد لقيت منه اجتنابه ، ولم أر منه ما عهدته من الإنابة ، فكتبت إليه مداعبا ، فراجعني بهذه القطعة : [الطويل]

أتتني أبا نصر نتيجة خاطر

سريع كرجع الطّرف في الخطرات

فأعربت عن وجد كمين طويته

بأهيف طاو فاتر اللّحظات

__________________

(١) الأتراب : جمع ترب وهو المساوي لك في السن. والعرب ، بضمتين : جمع عروب ، وهي المرأة المتحببة إلى زوجها.

(٢) في ب ، ه : وزلنا عن منازه.

(٣) جذيمة : هو جذيمة الأبرش ، ومالك وعقيل : نديماه.

(٤) العين الثرة : الكثيرة فيض الماء.

(٥) في ب : يتممه.

(٦) في ب : بالبهاء.

(٧) شاذمهر : منتزه بنيسابور.

(٨) في ب : ولا يحد.

(٩) في ب : بكلام أحقده ، وملام أعتقده.

١٦٧

غزال أحمّ المقلتين عرفته

بخيف منى للحين أو عرفات (١)

رماك فأصمى والقلوب رميّة

لكلّ كحيل الطّرف ذي فتكات (٢)

وظنّ بأنّ القلب منك محصّب

فلبّاك من عينيه بالجمرات

تقرّب بالنّساك في كلّ منسك

وضحّى غداة النّحر بالمهجات

وكانت له جيّان مثوى فأصبحت

ضلوعك مثواه بكلّ فلاة

يعزّ علينا أن تهيم فتنطوي

كئيبا على الأشجان والزّفرات

فلو قبلت للنّاس في الحبّ فدية

فديناك بالأموال والبشرات

وقال في ترجمة أديب الأندلس وشاعرها أبي إسحاق بن خفاجة بعد كلام ، ما صورته : وقال يندب معاهد الشباب ، ويتفجّع لوفاة الإخوان والأحباب ، بعقب سيل أعاد الديار آثارا ، وقضى عليها وهيا وانتثارا. [الطويل]

ألا عرّس الإخوان في ساحة البلى

وما رفعوا غير القبور قبابا

فدمع كما سحّ الغمام ولوعة

كما أضرمت ريح الشّمال شهابا(٣)

إذا استوقفتني في الدّيار عشيّة

تلذّذت فيها جيأة وذهابا(٤)

أكرّ بطرفي في معاهد فتية

ثكلتهم بيض الوجوه شبابا

فطال وقوفي بين وجد وفرقة

أنادي رسوما لا تحير جوابا(٥)

وأمحوا جميل الصّبر طورا بعبرة

أخطّ بها في صفحتيّ كتابا

وقد درست أجسامهم وديارهم

فلم أر إلّا أعظما ويبابا(٦)

وحسبي شجوا أن أرى الدّار بلقعا

خلاء وأشلاء الصّديق ترابا(٧)

ولقد أحلّني بهذه الديار المندوبة وهي كعهدها في جودة مبناها ، وعودة سناها ، في ليلة اكتحلنا ظلامها إثمدا ، ومحونا بها من نفوسنا كمدا ، ولم يزل ذلك الأنس يبسطه ، والسرور ينشطه ، حتى نشر لي ما طواه ، وبثّ مكتوم لوعته وجواه (٨) ، وأعلمني بلياليه فيها مع أترابه ، وما قضى بها من أطرابه.

__________________

(١) في ب ، ج : للحسن أو عرفات.

(٢) أصمى الصيد : رماه فقتله مكانه.

(٣) سح الغمام : صب الماء غزيرا.

(٤) في ب : تلدّدت فيها جيئة وذهابا.

(٥) في ه ، والقلائد : بين وجد وحرقة.

(٦) يبابا : خرابا.

(٧) البلقع : الأرض الخالية التي ليس فيها شيء.

(٨) الجوى : شدة الوجد والاحتراق من عشق أو حزن.

١٦٨

انتهى ما وقع عليه اختياري من كلام أبي نصر الفتح بن عبيد الله رحمه الله تعالى في وصف بعض منتزهات الأندلس البديعة ، ورياضها المونقة المريعة.

وما أحسن رسالة له مختصرة كتبها مهنئا بعض ملوك الأندلس بما منحه الله تعالى من التمكين الذي أيده الله به ونصره ، وقد جوّد أوصافه ، واستطرد منها إلى ذكر الناصر وولده الحكم اللذين عمرا الزهراء والرّصافة ، ونصها :

أدام الله تعالى أيام الأمير للأرض يتملّكها ، ويستدير بسعده فلكها ، وقد استبشره الملك أيدك الله وحقّ له الاستبشار ، فقد أومأ إليه السعد وأشار ، بما اتفق له من توليتك ، وخفق عليه من ألويتك ، فلقد حبي منك بملك أمضى من السهم المسدّد ، طويل نجاد السيف رحب المقلّد ، يتقدّم حيث يتأخر الذابل (١) ، ويتكرم إذا بخل الوابل ، ويحمي الحمى كربيعة بن مكدّم (٢) ، ويسقي الظبا نجيعا كلون العندم ، فهنيئا للأندلس فقد استردت عهد خلفائها ، واستجدّت رسوم تلك الإمامة بعد عفائها ، فكأن لم تمت أعاصرها ، ولم يمت حكمها ولا ناصرها ، اللذان عمرا الرصافة والزهرا ، ونكحا عقائل الروم وما بذلا غير المشرفية مهرا ، والله سبحانه أسأله إظهار أيامك ، وبه أرجو انتشار أعلامك ، حتى يكون عصرك أجمل من عصرهم ، ونصرك أغرب من نصرهم ، بمنه وكرمه ويمنه.

وقال رحمه الله تعالى في ترجمة الفقيه القاضي الحافظ أبي محمد عبد الحق بن عطية صاحب التفسير الشهير بعد كلام كثير ، ما صورته (٣) : ومررنا في إحدى نزهنا بمكان مقفر ، وعن المحاسن مسفر ، وفيه بكير نرجس كأنه عيون مراض ، يسيل وسطه ماء رضراض (٤) ، بحيث لا حس إلا للهام ، ولا أنس إلا ما يتعرض للأوهام ، فقال : [الرمل]

نرجس باكرت منه روضة

لذّ قطع الدّهر فيها وعذب

حثّت الرّيح بها خمر حيا

رقص النّبت لها ثمّ شرب

فغدا يسفر عن وجنته

نوره الغضّ ويهتزّ طرب

خلت لمع الشّمس في مشرقه

لهبا يخمد منه في لهب

وبياض الطّلّ في صفرته

نقط الفضّة في خطّ الذّهب

وسيأتي إن شاء الله تعالى كثير من وصف بلاد الأندلس ومنتزهاتها ، وما اشتملت عليه

__________________

(١) الذابل : الرمح الدقيق.

(٢) ربيعة بن مكدم : أحد فرسان الجاهلية.

(٣) قلائد العقيان : ص ٢١١.

(٤) الماء الرضراض : الماء يجري على حصى دقاق.

١٦٩

من المحاسن ، في كلام غير واحد ممن يجري ذكره في هذا الكتاب ، وخصوصا أديب زمانه غير مدافع ، من اعترف له أهل الشرق ، بالسبق ، وأهل المغرب ، بالإبداع المغرب ، النور أبو الحسن علي بن سعيد العنسي ، فإنه لما اتصل بمصر (١) ودخلها اشتاق إلى تلك المواطن الأندلسية الرائقة ، ووصفها بالقصائد والمقطوعات الفائقة ، وقد أسلفنا أيضا فيما مر من هذا الكتاب بعض ما يتعلق بمحاسن (٢) الأندلس ، فليراجع في محله من هذا الكتاب.

قلت : وما ذا عسى أن نذكر من محاسن قرطبة الزهراء والزهرا ، أو نصف من محاسن الأندلس التي تبصر بكل موضع منها ظلا ضافيا ونهرا صافيا (٣) وزهرا ، ويرحم الله تعالى أديبها المشهور ، الذي اعترف له بالسبق الخاصة والجمهور ، أبا إسحاق بن خفاجة ، إذ قال (٤) : [البسيط]

يا أهل أندلس لله درّكم

ماء وظلّ وأنهار وأشجار

ما جنّة الخلد إلّا في دياركم

ولو تخيّرت هذا كنت أختار

لا تحسبوا في غد أن تدخلوا سقرا

فليس تدخل بعد الجنّة النّار(٥)

ويروى مكان قوله : وهذه كنت لو خيرت أختار.

وكذا رأيت بخط الحافظ التّنسي (٦) ، والأول رأيته بخط العلامة الوانشريشي ، رحمهما الله تعالى!.

وحكي أن الخليليّ لما قدم من الأندلس رسولا إلى سلطان المغرب أبي عنان فارس ابن السلطان أبي الحسن المريني أنشد بحضرة السلطان المذكور أبيات ابن خفاجة هذه كالمفتخر ببلاد الأندلس ، فقال السلطان أبو عنان : كذب هذا الشاعر ، يشير إلى كونه جعلها جنة الخلد ، وأنه لو خير لاختارها على ما في الآخرة ، وهذا خروج من ربقة الدين ، ولا أقلّ من الكذب والإغراق ، وإن جرت عادة الشعراء بذلك الإطلاق ، فقال الخليليّ : يا مولانا ، بل صدق

__________________

(١) في ب ، ه : فإنه لما دخل مصر.

(٢) في ب ، ه : محاسن قرطبة الزاهرة والزهرا.

(٣) في ب : ونهرا وزهرا.

(٤) ديوان ابن خفاجة ص ٢٦٤.

(٥) في ج : لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سقرا.

(٦) التنسي : نسبة إلى قرية تنس وهي بلدة في ساحل إفريقية.

١٧٠

الشاعر ، لأنها موطن جهاد ، ومقارعة للعدو وجلاد ، والنبي صلى الله عليه وسلم الرؤوف الودود الرحيم العطوف ، يقول : «الجنة تحت ظلال السيوف» ، فاستحسن منه هذا الكلام ، ورفع عن قائل الأبيات الملام ، وأجزل صلته ، ورفع منزلته ، ولعمري إن هذا الجواب ، لجدير بالصواب ، وهكذا ينبغي أن تكون رسل الملوك في الافتنان ، روّح الله تعالى أرواح الجميع في الجنان!.

وأبو إسحاق بن خفاجة كان أوحد الناس في وصف الأنهار والأزهار والرياض والحياض والرياحين والبساتين ، وقد سبق بعض كلامه ، ويأتي أيضا منه بعض في (١) أثناء الكتاب ، ومن ذلك قوله (٢) : [الكامل]

وكمامة حدر الصّباح قناعها

عن صفحة تندى من الأزهار

في أبطح رضعت ثغور أقاحه

أخلاف كلّ غمامة مدرار

نثرت بحجر الأرض فيه يد الصّبا

درر النّدى ودراهم النّوّار

وقد ارتدى غصن النّقا ، وتقلّدت

حلي الحباب سوالف الأنهار

فحللت حيث الماء صفحة ضاحك

جذل وحيث الشّطّ بدء عذار

والرّيح تنفض بكرة لمم الرّبا

والطّلّ ينضح أوجه الأشجار

متقسّم الألحاظ بين محاسن

من ردف رابية وخصر قرار

وأراكة سجع الهديل بفرعها

والصّبح يسفر عن جبين نهار

هزّت له أعطافها ولربّما

خلعت عليه ملاءة الأنوار

وقوله (٣) : [الكامل]

سقيا ليوم قد أنخت بسرحة

ريّا تلاعبها الرّياح فتلعب

سكرى يغنّيها الحمام فتنثني

طربا ويسقيها الغمام فتشرب

يلهو فترفع للشّبيبة راية

فيه ، ويطلع للبهارة كوكب

والرّوض وجه أزهر ، والظّلّ فر

ع أسود ، والماء ثغر أشنب(٤)

في حيث أطربنا الحمام عشيّة

فشدا يغنّينا الحمام المطرب

واهتزّ عطف الغصن من طرب بنا

وافترّ عن ثغر الهلال المغرب

__________________

(١) في ب : بعض أثناء الكتاب.

(٢) ديوان ابن خفاجة : ص ٣٣٦.

(٣) ديوان ابن خفاجة : ص ٢٨٩.

(٤) أشنب : شنب شنبا وشنبة ، الثغر : رقت أسنانه وابيضّت.

١٧١

فكأنّه والحسن مقترن به

طوق على برد الغمامة مذهب

في فتية تسري فينصدع الدّجى

عنها ، وتنزل بالجديب فيخصب

كرموا فلا غيث السّماحة مخلف

يوما ، ولا برق اللّطافة خلّب

من كلّ أزهر للنّعيم بوجهه

ماء يرقرقه الشّباب فيسكب

وقال يمدح الأمير أبا يحيى بن إبراهيم (١) : [الكامل]

سمح الخيال على النّوى بمزار

والصّبح يمسح عن جبين نهار

فرفعت من ناري لضيف طارق

فرفعت من ناري لضيف طارق

ركب الدّجى أحسن به من مركب

وطوى السّرى أحسن به من ساري(٢)

وسقى فأروى غلّة من ناهل

أورى بجانحتيه زند أوار

يلوي الضّلوع من الولوع لخطرة

من شيم برق أو شميم عرار(٣)

واللّيل قد نضح النّدى سرباله

فانهلّ دمع الطّلّ فوق صدار

مترقّب رسل الرّياح عشيّة

بمساقط الأنواء والأنوار

ومجرّ ذيل غمامة لبست به

وشي الحباب معاطف الأنهار

خفقت ظلال الأيك فيه ذوائبا

وارتجّ ردفا مائج التّيّار

ولوى القضيب هناك جيدا أتلعا

قد قبّلته مباسم النّوّار

باكرته والغيم قطعة عنبر

مشبوبة والبرق لفحة نار

والرّيح تلطم فيه أرداف الرّبا

لعبا وتلثم أوجه الأزهار

والرّيح تلطم فيه أرداف الرّبا

خطباء مفصحة من الأطيار

في فتية جنبوا العجاجة ليلة

ولربّما سفروا عن الأقمار

ثار القتام بهم دخانا وارتمى

ولربّما سفروا عن الأقمار

شاهدت من هيئاتهم وهباتهم

إشراف أطواد وفيض بحار

__________________

(١) ديوان ابن خفاجة ص ٣٣. والأمير أبو يحيى بن إبراهيم أحد أمراء المرابطين توفي سنة ٥١٠.

(٢) أحسن به من مركب : ما أحسنه من مركب.

(٣) الشيم : النظر. والعرار : نبت طيب الرائحة.

١٧٢

من كلّ منتقب بوردة خجلة

كرما ومشتمل بثوب وقار

في عمّة خلعت عليه للمّة

وذؤابة قرنت بها لعذار

ضافي رداء المجد طمّاح العلا

طامي عباب الجود رحب الدّار

جرّار أذيال المعالي والقنا

حامي الحقيقة والحمى والجار

طرد القنيص بكلّ قيد طريدة

زجل الجناح مورّد الأظفار

ملتفّة أعطافه بحبيرة

مكحولة أجفانه بنضار

يرمى به الأمل القصيّ فينثني

مخضوب مرأى الظّفر والمنقار(١)

وبكلّ نائي الشّوط أشدق أخزر

طاوي الحشى حالي المقلّد ضاري

يفترّ عن مثل النّصال ، وإنّما

يمشي على مثل القنا الخطّار

مستقريا أثر القنيص على الصّفا

واللّيل مشتمل بشملة قار

من كلّ مسودّ تلهّب طرفه

ترميك فحمته بشعلة نار

ومورّس السّربال يخلع قيده

عن نجم رجم في سماء غبار(٢)

يستنّ في سطر الطّريق وقد عفا

قدما فتقرأ أحرف الآثار

عطف الضّمور سراته فكأنّه

والنّقع يحجبه هلال سرار

ولربّ روّاغ هنا لك أنبط

ذلق المسامع أطلس الأطمار

يجري على حذر فيجمع بسطه

يهوي فينعطف انعطاف سوار

ممتدّ حبل الشّاو يعسل رائغا

فيكاد يفلت أيدي الأقدار

متردّد يرمي به خوف الرّدى

كرة تهادتها أكفّ قفار

ولربّ طيّار خفيف قد جرى

فشلا بجار خلفه طيّار

من كل قاصرة الخطا مختالة

مشي الفتاة تجرّ فضل إزار

مخضوبة المنقار تحسب أنّها

كرعت على ظمإ بكأس عقار

ولو استجارت منهما بحمى أبي

يحيى لأمّنها أعزّ جوار(٣)

خدم القضاء مراده فكأنّما

ملكت يداه أعنّة الأقدار

__________________

(١) في ب ، ج ، ه : مخضوب راء الظفر. وأراد أن ظفره ومنقاره معوجان كحرف الراء.

(٢) في ب ، ه : يخلع قدّه.

(٣) في ب ، ه : لآمنها.

١٧٣

وعنا الزّمان لأمره فكأنّما

أصغى الزّمان به إلى أمّار

وجلا الإمارة في رفيف نضارة

جلت الدّجى في حلّة الأنوار

في حيث وشّح لبّة بقلادة

منها وحلّى معصما بسوار

جذلان يملأ منحة وبشاشة

أيدي العفاة وأعين الزّوّار

أرج النّديّ بذكره فكأنّه

متنفّس عن روضة معطار

بطل جرى الفلك المحيط بسرجه

واستلّ صارمه يد المقدار(١)

بيمينه يوم الوغى وشماله

ما شاء من نار ومن إعصار

والسّمر حمر ، والجياد عوابس

والجوّ كاس ، والسّيوف عواري

والخيل تعثر في شبا شوك القنا

قصدا وتسبح في الدّم الموّار

والبيض تحنى في الطّلى فكأنّما

تلوى عرا منها على أزرار

والنّقع يكسر من سنى شمس الضّحى

فكأنّه صدأ على دينار

صحب الحسام النّصر صحبة غبطة

في كفّ صوّال به سوّار(٢)

لو أنّه أومى إليه بنظرة

يوما لثار ولم ينم عن ثار(٣)

ومضى وقد ملكته هرّة عزّة

تحت العجاج وضحكة استبشار

وقال رحمه الله تعالى (٤) : [الكامل]

وأراكة ضربت سماء فوقنا

تندى وأفلاك الكؤوس تدار(٥)

حفّت بدوحتها مجرّة جدول

ت نثرت عليه نجومها الأزهار

وكأنّها وكأنّ جدول مائها

حسناء شدّ بخصرها زنّار

زفّ الزّجاج بها عروس مدامة

تجلى ونوّار الغصون نثار

في روضة جنح الدّجى ظلّ بها

وتجسّمت نورا بها الأنوار

غنّاء ينشر وشيه البزّاز لي

فيها ويفتق مسكه العطّار

__________________

(١) في ب : بطل حوى.

(٢) السّوار : الجسور.

(٣) أومى : أصله أومأ ، قلب الهمزة ألفا.

(٤) ديوان ابن خفاجة ص ٣٥١.

(٥) الأراكة : واحدة الأراك ؛ وهو شجر له حمل كحمل عناقيد العنب ، وهو شجر المسواك.

١٧٤

قام الغناء بها وقد نضح النّدى

وجه الثّرى واستيقظ النّوّار

والماء في حلي الحباب مقلّد

زرّت عليه جيوبها الأشجار

وقال ملتزما ما لا يلزم (١) : [الكامل]

خذها إليك وإنّها لنضيرة

طرأت إليك قليلة النّظراء

حملت وحسبك بهجة من نفحة

عبق العروس وخجلة العذراء(٢)

خذها إليك وإنّها لنضيرة

طرأت إليك قليلة النّظراء

من كلّ وارسة القميص كأنّما

من كلّ وارسة القميص كأنّما

نجمت تروق بها نجوما حسبها

نجمت تروق بها نجوما حسبها

وأتتك تسفر عن وجوه طلقة

وأتتك تسفر عن وجوه طلقة(٣)

يندى بها وجه النّدى ولربّما

بسطت هنالك أوجه السّرّاء(٤)

فاستضحكت وجه الدّجى مقطوعة

حملت جمال الغرّة الغرّاء (٥)

وقال أيضا : [المجتث]

وصدر ناد نظمنا

له القوافي عقدا

في منزل قد سحبنا

بظلّه العزّ بردا

تذكو به الشّهب جمرا

ويعبق اللّيل ندّا

وقد تأرّج نور

غضّ يخالط وردا

كما تنفّس ثغر

عذب يقبّل خدّا(٦)

وقال من قصيدة يصف منتزها (٧) : [الكامل]

يا ربّ وضّاح الجبين كأنّما

رسم العذار بصفحتيه كتاب

تغرى بطلعته العيون مهابة

وتبيت تعشق عقله الألباب

__________________

(١) ديوان ابن خفاجة : ص ٧١.

(٢) في ه : نفحة من بهجة.

(٣) في ب ، ه : عن الشعراء. وفي ه : عن الصفراء.

(٤) في ب ، ه : هناك أسرة السراء.

(٥) ديوان ابن خفاجة ص ٨٠.

(٦) في ه : كما تنسم ثغر.

(٧) ديوان ابن خفاجة ص ٣٣٧.

١٧٥

خلعت عليه من الصّباح غلالة

تندى ومن شفق المساء نقاب(١)

فكرعت من ماء الصّبا في منهل

قد شفّ عنه من القميص سراب

في حيث للرّيح الرّخاء تنفّس

أرج ، وللماء الفرات عباب

ولربّ غضّ الجسم مدّ بحوضه

سبحا كما شقّ السّماء شهاب

ولقد أنخت بشاطئيه يهزّني

طربا شباب راقني وشراب

وبكيت دجلته يضاحكني بها

مرحا حبيب شاقني وحباب(٢)

تجلى من الدّنيا عروس بيننا

حسناء ترشف والمدام رضاب

ثمّ ارتحلت وللنّهار ذؤابة

شيباء تخضب والنّهار خضاب

تلوي معاطفي الصّبابة والصّبا

واللّيل دون الكاشحين حجاب

وقال (٣) : [البسيط]

مرّ بنا وهو بدر تمّ

يسحب من ذيله سحابا

يقامة تنثني قضيبا

وغرّة تلتظي شهابا

يقرأ واللّيل مدلهمّ

لنور إجلائه كتابا

وربّ ليل شهرت فيه

أزجر من جنحه غرابا(٤)

حتّى إذا اللّيل مال سكرا

وشقّ سرباله وجابا

ازددت من لوعتي خبالا

فحثّ من غلّتي شرابا

ازددت من لوعتي خبالا

فحثّ من غلّتي شرابا

وما خطا قادما فوافى

حتى انثنى ناكصا فآبا

وبين جفنيّ بحر شوق

يعبّ في وجنتي عبابا

قد شبّ في وجهه شعاع

وشبّ في قلبي التهابا

وروضة طلقة حياء

غنّاء مخضرّة جنابا

ينجاب عن نورها كمام

يحطّ عن وجهه نقابا

__________________

(١) في ب : ومن شفق السماء نقاب.

(٢) في ه : وعبرت دجلته.

(٣) ديوان ابن خفاجة ص ٣٣٨.

(٤) في ج : أزجر من جنحه نكابا.

(٥) في ب : من سدفة غراب.

١٧٦

بات بها مبسم الأقاحي

يرشف من طلّها رضابا

ومن خفوق البروق فيها

ألوية حمّرت خضابا

كأنّها أنمل وراد

تحصر قطر الحيا حسابا

وله أيضا (١) : [البسيط]

رحلت عنكم ولي فؤاد

تنقض أضلاعه حنينا

أجود فيكم بعلق دمع

كنت به قبلكم ضنينا(٢)

يثور في وجنتيّ جيشا

وكان في جفنه كمينا

كأنّني بعدكم شمال

قد فارقت منكم يمينا

وقال (٣) : [الطويل]

فيا لشجا قلب من الصّبر فارغ

ويا لقذى طرف من الدّمع ملآن(٢)

ونفس إلى جوّ الكنيسة صبّة

وقلب إلى أفق الجزيرة حنّان

تعوّضت من واها بآه ومن هوى

بهون ومن إخوان صدق بخوّان

وما كلّ بيضاء تروق بشحمة

وما كلّ مرعى ترتعيه بسعدان

فيا ليت شعري هل لدهري عطفة

فتجمع أوطاري عليّ وأوطاني

ميادين أوطاري ولذّة لذّتي

ومنشأ تهيامي وملعب غزلاني

كأن لم يصلني فيه ظبي يقوم لي

لماه وصدغاه براحي وريحاني

فسقيا لواديهم وإن كنت إنّما

أبيت لذكراه بغلّة ظمآن

فكم يوم لهو قد أدرنا بأفقه

نجوم كؤوس بين أقمار ندمان

وللقضب والأطيار ملهى بجزعه

فما شئت من رقص على رجع ألحان

وبالحضرة الغرّاء غرّ علقته

فأحببت حبّا فيه قضبان نعمان(٥)

رقيق الحواشي في محاسن وجهه

ومنطقه مسلى قلوب وآذان

أغار لخدّيه على الورد كلّما

بدا ولعطفيه على أغصن البان(٦)

__________________

(١) ديوان ابن خفاجة ص ٣٤٠.

(٢) العلق : النفيس من كل شيء.

(٣) ديوان ابن خفاجة ص ٣٤٥.

(٤) في ب ، ه : فيا لشجا صدر.

(٥) الغرّ ، بكسر الغين : الجميل ، الأغن ، المتثني.

(٦) في ب ، ه : على غصن البان.

١٧٧

وهبني أجني ورد خدّ بناظري

فمن أين لي منه بتفّاح لبنان

يعلّلني منه بموعد رشفة

خيال له يغرى بمطل وليّان

حبيب عليه لجّة من صوارم

علاها حباب من أسنّة مرّان

تراءى لنا في مثل صورة يوسف

تراءى لنا في مثل ملك سليمان

طوى برده منها صحيفة فتنة

قرأنا له من وجهه سطر عنوان

محبّته ديني ومثواه كعبتي

ورؤيته حجّي وذكراه قرآني

وقال (٢) : [الطويل]

وليل تعاطينا المدام وبيننا

حديث كما هبّ النّسيم على الورد

نعاوده والكاس يعبق نفحه

وأطيب منها ما نعيد وما نبدي (٣)

ونقلي أقاح الثّغر أو سوسن الطّلى

ونرجسة الأجفان أو وردة الخدّ

إلى أن سرت في جسمه الكاس والكرى

وما لا بعطفيه فمال على عضدي

فأقبلت أستهدي لما بين أضلعي

من الحرّ ما بين الضّلوع من البرد (٤)

وعاينته قد سلّ من وشي برده

فعانقت منه السّيف سلّ من الغمد

ليان مجسّن واستقامة قامة

وهزّة أعطاف ورونق إفرند(٥)

أغازل منه الغصن في مغرس النّقا

وألثم وجه الشّمس في مطلع السعد

فإن لم يكنها أو تكنه فإنّه

أخوها كما قدّ الشّراك من الجلد

تسافر كلتا راحتيّ بجسمه

فطورا إلى خصر وطورا إلى نهد

فتهبط من كشحيه كفي تهامة

وتصعد من نهديه أخرى إلى نجد

وقال أيضا (٦) : [الكامل]

ورداء ليل بات فيه معانقي

طيف ألمّ بظبية الوعساء

__________________

(١) الليان : المطل ، التسويف.

(٢) ديوان ابن خفاجة ص ٣٤٨. وفي ب : وقال أيضا رحمه الله تعالى.

(٣) في ه : نعانقه والكأس تعبق نفحة ، وفي الديوان : تعبق مسكة.

(٤) في الديوان وفي الذخيرة : من الحرّ ما بين الثنايا من البرد.

(٥) الإفرند : جوهر السيف ووشيه.

(٦) ديوان ابن خفاجة ص ١٥٣.

١٧٨

فجمعت بين رضابه وشرابه

وشربت من ريق ومن صهباء

ولثمت في ظلماء ليلة وفرة

شفقا هناك لوجنة حمراء(١)

واللّيل مشمطّ الذّوائب كبرة

خرف يدبّ على عصا الجوزاء(٢)

ثمّ انثنى والصّبح يسحب فرعه

ويجرّ من طرب فضول رداء

تندى بفيه أقحوانة أجرع

قد غازلتها الشّمس غبّ سماء

وتميس في أثوابه ريحانة

كرعت على ظمإ بجدول ماء

تفّاحة الأنفاس إلّا أنّها

حذر النّدى خفّافة الأفياء(٣)

فلويت معطفها اعتناقا حسبنا

فيه بقطر الدّمع من أنواء

وكان المعتمد بن عباد رحمه الله تعالى كثيرا ما ينتاب وادي الطلح مع رميكيته (٤) ، وأولى أنسه ومسرته ، وهو واد بشرف (٥) إشبيلية ملتفّ الأشجار ، كثير ترنم الأطيار ، وفيه يقول نور الدين بن سعيد: [السريع]

سائل بوادي الطّلح ريح الصّبا

هل سخّرت لي في زمان الصّبا (٦)

كانت رسولا فيه ما بيننا

لن نأمن الرّسل ولن نكتبا

يا قاتل الله أناسا إذا

ما استؤمنوا خانوا فما أعجبا

هلّا رعوا أنّا وثقنا بهم

وما اتّخذنا عنهم مذهبا

يا قاتل الله الّذي لم يتب

من غدرهم من بعد ما جرّبا

واليمّ لا يعرف ما طعمه

إلّا الّذي وافى لأن يشربا

دعني من ذكر الوشاة الألى

لمّا يزل فكري بهم ملهبا

واذكر بوادي الطّلح عهدا لنا

لله ما أحلى وما أطيبا

بجانب العطف وقد مالت الأغ

صان والزّهر يبثّ الصّبا

والطّير مازت بين ألحانها

وليس إلّا معجبا مطربا

__________________

(١) في ب : ليلة وفره.

(٢) في ه : مشمطّ الذؤابة.

(٣) في ب : خفّاقة الأفياء.

(٤) الرميكية : زوجة المعتمد بن عباد ، وله معها قصص طريفة.

(٥) في ج : بشرق إشبيلية.

(٦) في ب ، ج : من زمان الصبا.

١٧٩

وخانني من لا أسمّيه من

شحّ أخاف الدّهر أن يسلبا

قد أترع الكأس وحيّا بها

وقلت أهلا بالمنى مرحبا

أهلا وسهلا بالّذي شئته

يا بدر تمّ مهديا كوكبا

لكنّني آليت أسقى بها

أو تودعنها ثغرك الأشنبا (١)

فمجّ لي في الكأس من ثغره

ما حبّب الشّرب وما طيّبا

وقال ها لثمي نقلا ولا

تشم إلّا عرفي الأطيبا (٢)

واقطف بخدّي الورد والآس والنّ

سرين لا تحفل بزهر الرّبا

أسعفته غصنا غدا مثمرا

ومن جناه ميسه قرّبا (٣)

قد كنت ذا نهي وذا إمرة

حتى تبدّى فحللت الحبا

ولم أصن عرضي في حبّه

ولم أطع فيه الّذي أنّبا

حتّى إذا ما قال لي حاسد

ترجوه والكوكب أن يقربا (٤)

أرسلت من شعري سحرا له

ييسّر المرغب والمطلبا

أرسلت من شعري سحرا له

ييسّر المرغب والمطلبا

وقال عرّفه بأنّي سأح

تال فما أجتنب المكتبا

فزاد في شوقي له وعده

ولم أزل مقتعدا مرقبا

أمدّ طرفي ثمّ أثنيه من

خوف أخي التّنغيص أن يرقبا

أصدّق الوعد وطورا أرى

تكذيبه والحرّ لن يكذّبا

أتى ومن سخّره بعد ما

أيأس بطء كاد أن يغضبا (٥)

قبّلت في التّرب ولم أستطع

من حصر اللّقيا سوى مرحبا

هنّأت ربعي إذ غدا هالة

وقلت يا من لم يضع أشعبا

بالله مل معتنقا لاثما

فمال كالغصن ثنته الصّبا

فقال ما ترغب قلت اتّئد

أدركت إذ كلّمتني المرغبا

__________________

(١) آليت : أقسمت ، والمعنى أنه أقسم عن الكأس إلى أن تودعنها.

(٢) في ه : فقال : هالثمي. وها : اسم فعل أمر بمعنى خذ. والنقل ، بفتح فسكون : ما يؤكل على الشراب من فاكهة أو فستق وما إلى ذلك.

(٣) في ه : غصنا غدا مثمرا.

(٤) في ه : والكوكب أن يغربا.

(٤) في ه : والكوكب أن يغربا.

(٥) في ه : آيس بطء ..

١٨٠