الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨
سمعنا خشفة الخشف |
|
وشمنا طرفة الطّرف |
وصدّقنا ولم نقطع |
|
وكذبنا ولم ننف |
وأغضينا لإجلال |
|
ك عن أكرومة الظّرف |
ولم تنصف وقد جئنا |
|
ك ما ننهض من ضعف |
وكان الحكم أن تحم |
|
ل أو تردف في الرّدف(١) |
فراجعهما في الحين (٢) بقطعة منها : [الهزج]
أيا أسفي على حال |
|
سلبت بها من الظّرف(٣) |
ويا لهفي على جهلي |
|
بضيف كان من صنف(٤) |
ولأهل الأندلس في مغاني الأنس الحسان ، ما لا يفي به لسان.
وقال الفتح في ترجمة الوزير أبي الفضل بن حسداي ، بعد كلام ، ما صورته (٥) : فمنها هذه القطعة التي أطلعها نيرة ، وترك الألباب بها متحيرة ، في يوم كان عند المقتدر بالله مع علية ، قد اتخذوا المجد حلية ، والأمل قد سفر لهم عن محيّاه ، وعبق لهم عن ريّاه ، فصافحه الكل منهم وحيّاه ، وشمس الراح ، دائرة على فلك الراح ، والملك ينشر فضله ، وينصر وابله وطلّه ، يسدي العلاء ، ويهب الغنى والغناء ، فصدحت الغواني ، وأفصحت المثالث والمثاني ، بما استنزل من مرقب الوقار ، وسرى في النفوس مسرى العقار : [البسيط]
توريد خدّك للأحداق لذّات |
|
عليه من عنبر الأصداغ لامات |
نيران هجرك للعشّاق نار لظى |
|
لكنّ وصلك إن واصلت جنّات |
|
||
كأنّما الرّاح والرّاحات تحملها |
|
بدور تمّ وأيدي الشّرب هالات |
حشاشة ما تركنا الماء يقتلها |
|
إلّا لتحيا بها منّا حشاشات |
قد كان في كأسها من قبلها ثقل |
|
فخفّ إذ ملئت منها الزّجاجات |
عهد للبنى تقاضته الأمانات |
|
بانت وما قضيت منها لبانات |
يدني التوهّم للمشتاق منتزحا |
|
من الأمور ، وفي الأوهام راحات |
تقضى عدات إذا هبّ الكرى ، وإذا |
|
هبّ النّسيم فقد تهدى تحيّات |
__________________
(١) في ه : وكان الحق.
(٢) في بعض النسخ : فراجعهما أبو الحسن.
(٣) في ه. سللت بها.
(٤) في ه : بصنف كان من صنف.
(٥) القلائد : ١٨٣.
زور يعلّل قلب المستهام به |
|
دهرا ، وقد بقيت في النّفس حاجات |
لعلّ عتب اللّيالي أن يعود إلى |
|
عتبى فتبلغ أوطار ولذّات |
حتّى نفوز بما جاد الخيال به |
|
فربما صدقت تلك المنامات |
ولما أعرس المستعين بالله (١) ببنت الوزير الأجل أبي بكر بن عبد العزيز (٢) احتفل أبوه المؤتمن في ذلك احتفالا شهره ، وأبدع فيه إبداعا راق من حضره وبهره ، فإنه أحضر فيه من الآلات المبتدعة ، والأدوات المخترعة ، ما بهر الألباب ، وقطع بذكائه (٣) دون معرفتها الأسباب ، واستدعى إليه جميع أعيان الأندلس ، من دان وقاص ، ومطيع وعاص ، فأتوه مسرعين ، ولبوه متبرعين ، وكان مدير تلك الآراء ومدبّرها ، ومنشئ مخاطباتها ومحبّرها ، الوزير الكاتب أبو الفضل ، وصدرت عنه في ذلك الوقت كتب ظهر إعجازها ، وبهر اقتضابها وإيجازها ، فمن ذلك ما خاطب به صاحب المظالم أبا عبد الرحمن بن طاهر : محلك أعزك الله في طي الجوانح ثابت وإن نزحت الدار ، وعيانك في أحناء الضلوع باد وإن شحط المزار ، فالنفس فائزة منك بتمثّل الخاطر بأوفر الحظ ، والعين نازعة إلى إن تمتع من لقائك بظفر اللحظ ، فلا عائدة أسبغ بردا ، ولا موهبة أسوغ وردا ، من تفضلك بالخفوف (٤) إلى مأنس يتم بمشاهدتك التئامه ، ويتصل بمحاضرتك انتظامه ولك فضل الإجمال ، بالإمتاع من ذلك بأعظم الآمال ، وأنا أعزك الله على شرف سؤددك حاكم ، وعلى مشرع سنائك حائم ، وحسبي ما تتحقّقه من نزاعي وتشوّقي ، وتتيقنه من تطلعي وتتوقي ، وقد تمكن الارتياح باستحكام الثقة ، واعترض الانشراح بارتقاب الصلة (٥) ، وأنت وصل الله سعدك بسماحة شيمك ، وبارع كرمك ، تنشىء للمؤانسة عهدا ، وتوري بالمكارمة زندا ، وتقتضي بالمشاركة شكرا حافلا وحمدا ، لا زلت مهنّئا بالسعود المقتبلة (٦) ، مسوّغا اجتلاء غرر الأماني المتهللة ، بمنه ، انتهى.
ثم قال بعد هذا بيسير ، ما نصه : وركب المستعين بالله يوما نهر سرقسطة يريد طراد لذته ، وارتياد نزهته ، وافتقاد أحد حصونه المنتظمة بلبّته ، واجتمع له من أصحابه ، من اختصه لاستصحابه ، وفيهم أبو الفضل مشاهدا لانفراجهم ، سالكا لمنهاجهم ، والمستعين قد أحضر من
__________________
(١) أحمد بن محمد بن سليمان بن هود ، تولى الحكم بعد أبيه المؤتمن ، وبقي في الحكم حتى سنة ٥٠١.
(٢) أبو بكر بن عبد العزيز : كان وزيرا للمظفر عبد الملك بن منصور العامري.
(٣) بذكائه : غير موجودة في ب.
(٤) الخفوف : الإسراع.
(٥) في ب ، ج : واعترض الاقتراح باستحباب الصلة.
(٦) في ب ، ه : المقبلة.
آلات إيناسه ، وأظهر من أنواع ذلك وأجناسه ، ما راق من حضر ، وفاق حسنه الروض الأنضر ، والزوارق قد حفت به ، والتفّت بجوانبه ، ونغمات الأوتار تحبس السائر عن عدوه ، وتخرس الطائر المفصح بشدوه ، والسمك (١) تثيرها المكايد ، وتغوص إليها المصايد ، فتبرز منها للعين ، قضبان در أو سبائك لجين ، والراح لا يطمس لها لمع ، ولا يبخس منها بصر ولا سمع ، والدهر قد غضت صروفه ، واقتص من نكره معروفه ، فقال : [البسيط]
لله يوم أنيق واضح الغرر |
|
مفضّض مذهب الآصال والبكر |
كأنّما الدّهر لمّا ساء أعتبنا |
|
فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر |
نسير في زورق حفّ السّفين به |
|
من جانبيه بمنظوم ومنتثر |
مدّ الشّراع به نشرا على ملك |
|
بذّ الأوائل في أيّامه الأخر(٢) |
هو الإمام الهمام المستعين حوى |
|
علياء مؤتمن عن هدي مقتدر |
تحوي السّفينة منه آية عجبا |
|
بحر تجمّع حتّى صار في نهر |
تصاد من قعره النّينان مصعدة |
|
صيدا كما ظفر الغوّاص بالدّرر(٣) |
وللنّدامى به عب ومرتشف |
|
كالرّيق يعذب في ورد وفي صدر |
والشّرب في مدح مولى خلقه زهر |
|
يذكو وغرّته أبهى من القمر |
وقال في ترجمة العلامة الكبير ، الأستاذ أبي محمد عبد الله بن السّيد البطليوسي شارح أدب الكتاب وسقط الزّند وغيرهما (٤) ، ما صورته : أخبرني أنه حضر مع المأمون بن ذي النون في مجلس الناعورة بالمنية التي تطمح إليها المنى ، ومرآها هو المقترح والمتمنى ، والمأمون قد احتبى ، وأفاض الحبا ، والمجلس يروق كأن الشّمس (٥) في أفقه ، والبدر في مفرقه (٦) ، والنّور عبق ، وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق ، والدولاب يئن كناقة إثر الحوار (٧) ، أو كثكلى من حر الأوار ، والجوّ قد عنبرته أنواؤه ، والروض قد رشّته أنداؤه ، والأسد قد فغرت أفواهها ، ومجت أمواهها ، فقال : [المنسرح]
__________________
(١) في ب ، ه : السمك (بإسقاط الواو).
(٢) بذ الأوائل : فاقهم وسبقهم.
(٣) النينان : جمع نون ، وهو الحوت.
(٤) سقط الزند : من تأليف أبي العلاء المعري. وأدب الكتاب : من تأليف أبي بكر محمد بن يحيى الصولي.
(٥) في ب ، ج : كالشمس في أفقه.
(٦) في ب : والبدر كالتاج في مفرقه.
(٧) الحوار ، بضم الحاء : ولد الناقة منذ ولادته حتى فطامه.
يا منظرا إن نظرت بهجته |
|
أذكرني حسن جنّة الخلد |
تربة مسك ، وجوّ عنبرة ، |
|
وغيم ندّ ، وطشّ ما ورد |
والماء كاللّازورد قد نظمت |
|
فيه اللآلي فواغر الأسد |
كأنّما جاثل الحباب به |
|
يلعب في جانبيه بالنّرد |
تراه يزهو إذا يحلّ به ال |
|
مأمون زهو الفتاة بالعقد(١) |
تخاله إن بدا به قمرا |
|
تمّا بدا في مطالع السّعد |
كأنّما ألبست حدائقه |
|
ما حاز من شيمة ومن مجد |
كأنّما جادها فروّضها |
|
بوابل من يمينه رغد |
لا زال في رفعة مضاعفة |
|
متمّم الرّفد واري الزّند(٢) |
وقال في وصف هذا المجلس بعينه ، في الكتاب الذي أفرده لترجمة ابن السيد ما صورته : فمن ذلك أنه حضر مع القادر بالله بن ذي النون بمجلس الناعورة بطليطلة في المنية المتناهية البهاء والإشراق ، المباهية لزوراء العراق ، التي ينفح شذاها العطر ، ويكاد من الغضارة يمطر ، والقادر بالله رحمه الله قد التحف الوقار وارتداه ، وحكم العقار في جوده ونداه ، والمجلس يشرق كالشمس في الحمل ، ومن حواه يبتهج كالنفس عند منال الأمل ، والزهر عبق ، وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق ، والدولاب يئن كناقة إثر حوار ، إلى آخر ما سبق.
وقال الفضل (٣) في وصف هذا المجلس حاذيا حذو الفتح ، ما صورته : حضر الأستاذ أبو محمد بن السيد أبو محمد بن السيد عند المأمون ابن ذي النون في بعض منتزهاته في وقت طاب نعيمه ، وسرت بالسعود نجومه ، والروض قد أجاد وشيه راقمه ، والماء قد جرت بين الأعشاب أراقمه ، وثم بركة مملوة ، كأنها مرآة مجلوة ، قد اتخذت سباع الصّفر بشاطئها غابا ، ومجّت بها من سائغ الماء لعابا ، فكأنها آساد عين ، أدلعت ألسنة من لجين ، وهي لا تزال تقذف الماء ولا تفتر ، وتنظم لآلي الحباب بعد ما تنثر ، فأمره بوصف ذلك الموضع ، الذي تخد (٤) إليه ركائب القلوب وتوضع (٥) ، فقال بديها يا منظرا إلخ ، انتهى.
ثم قال الفتح في هذا التصنيف بعد كلام في المذكور ، ما نصه : وما أبدع قوله في وصف
__________________
(١) في ه : تراه يزهى.
(٢) في ه : لا زال في عزه.
(٣) في ه : وقال ابن ظافر.
(٤) وخد الجمل : أسرع ورمى بأرجله كالنعام.
(٥) أوضعت الناقة : أسرعت. وأوضعتها : جعلتها تسرع.
الراح ، والحضّ على النبذ للهموم والاطّراح ، بمعاطاة كأسها ، وموالاة إيناسها ، ومعاقرة دنانها ، واهتصار ثمار الفتوّة من أفنانها (١) ، والإعراض عن الأيام وأنكادها ، والجري في ميدان الصّبوة إلى أبعد آمادها : [الكامل]
سلّ الهموم إذا نبا زمن |
|
بمدامة صفراء كالذّهب |
مزجت فمن درّ على ذهب |
|
طاف ومن حبب على لهب |
وكأنّ ساقيها يثير شذى |
|
مسك لدى الأقوام منتهب |
ولله هو فقد ندب إلى المندوب ، وذهب إلى مداواة القلوب من الندوب ، وإبرائها من الآلام ، وإهدائها كلّ تحية وسلام ، وإبهاجها بآصال وبكر ، وعلاجها من هموم وفكر ، في زمن حلي عاطله ، وجلّي في أحسن الصور باطله ، ونفقت محالاته (٢) ، وطبقت أرضه وسماءه استحالاته ، فليثه كأسد ، وذئبه مستأسد وأضغاثه تنسر (٣) ، وبغاثه قد استنسر (٤) ، فلا استراحة إلا في معاطاة حميّا ، ومواخاة وسم المحيّا (٥) ، وقد كان ابن عمار ذهب مذهب ، وفضّضه بالإبداع وذهّبه ، حين دخل سرقسطة ورأى غباوة أهلها ، وتكاثف جهلها ، وشاهد منهم من لا يعلم معنى ولا فصلا ، وواصل من لا يعرف قطعا ولا وصلا ، فأقبل على راحه يتعاطاها ، وعكف عليها ما تعدّاها ولا تخطّاها ، حتى بلغه أنهم نقموا معاقرته العقار ، وجالت ألسنتهم في توبيخه مجال ذي الفقار (٦) ، فقال : [الطويل]
نقمتم عليّ الرّاح أدمن شربها |
|
وقلتم فتى راح وليس فتى مجد |
ومن ذا الّذي قاد الجياد إلى الوغى |
|
سواي ومن أعطى كثيرا ولم يكد؟(٧) |
فديتكمو لم تفهموا السّرّ ، إنّما |
|
قليتكم جهدي فأبعدتكم جهدي |
(٨) ودعى ابن السيد ليلة إلى مجلس قد احتشد فيه الأنس والطرب ، وقرع فيه السرور نبعه بالغرب ، ولاحت نجوم أكواسه ، وفاح نسيم رنده وآسه ، وأبدت صدور أباريقه أسرارها ،
__________________
(١) الأفنان : جمع فنن ، وهو الغصن. وفي ب : وأفنانها.
(٢) نفقت حالاته : راجت.
(٣) في ب : وحفّاثه تنمر.
(٤) أخذه في المثل : إن البغاث بأرضنا تستنسر.
(٥) في ب : وسيم المحيا.
(٦) ذو الفقار : سيف الإمام علي بن أبي طالب.
(٧) أكدى : لم يظفر بحاجته.
(٨) قليتكم : كرهتكم.
وضمت عليه المجالس أزرارها ، والراح يديرها أهيف أوطف (١) ، والأماني تجنى وتقطف ، فقال: [الكامل]
يا ربّ ليل قد هتكت حجابه |
|
بمدامة وقّادة كالكوكب |
يسعى بها أحوى الجفون كأنّها |
|
من خدّه ورضاب فيه الأشنب |
بدران بدر قد أمنت غروبه |
|
يسعى ببدر جانح للمغرب |
فإذا نعمت برشف بدر غارب |
|
فانعم برشفة طالع لم يغرب |
حتّى ترى زهر النّجوم كأنّها |
|
حول المجرّة ربرب في مشرب |
واللّيل منفجر يطير غرابه |
|
والصّبح يطرده بباز أشهب(٢) |
ثم قال الفتح ، بعد كلام كثير ، ما صورته : ودخل ـ يعني ابن السيد ـ سرقسطة أيام المستعين وهي جنة الدنيا ، وفتنه المحيا ، ومنتهى الوصف ، وموقف السرور القصف ، ملك نمير البشاشة ، كثير الهشاشة ، وملك أبهج الفناء ، أرج الأرجاء ، يروق المجتلى ، ويفوق النجم المعتلى ، وحضرة منسابة الماء ، منجابة السماء ، يبسم زهرها ، وينساب نهرها ، وتتفتح خمائلها ، وتتضوع صباها وشمائلها ، والحوادث لا تعترضها ، والكوارث لا تقترضها (٣) ، ونازلها من عرس إلى موسم ، وآملها متصل بالأماني ومتّسم ، فنزل منها في مثل الخورنق والسدير ، وتصرف فيها بين روضة وغدير ، فلم يخف على المستعين احتلاله ، ولم تخفّ لديه خلاله ، فذكره معلما به ومعرفا ، وأحضره منوّها به ومشرفا ، وقد كان فر من ابن رزين ، فرار السرور من نفس الحزين ، وخلص من اعتقاله ، خلوص السيف من ثقاله (٤) ، فقال يمدحه (٥) : [الطويل]
هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا |
|
بأقمار أطواق مطالعها بان |
لئن غادروني باللّوى إنّ مهجتي |
|
مسايرة أظعانهم حيثما كانوا |
سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم |
|
ينازعها نهر من الدّمع هتّان |
أأحبابنا هل ذلك العهد راجع |
|
وهل لي عنكم آخر الدّهر سلوان |
ولي مقلة عبرى وبين جوانحي |
|
فؤاد إلى لقياكم الدّهر حنّان |
__________________
(١) الأوطف : طويل أهداب العين.
(٢) في ب ، ه : والليل منحفز.
(٣) في ب ، ه : لا تقرضها ، وهما بنفس المعنى.
(٤) في ب : صقاله.
(٥) القلائد : ١٩٩.
تنكّرت الدّنيا لنا بعد بعدكم |
|
وحفّت بنا من معضل الخطب ألوان |
أناخت بنا في أرض شنتمريّة |
|
هواجس ظنّ خان والظّنّ خوّان |
وشمنا بروقا للمواعيد أتعبت |
|
نواظرنا دهرا ولم يهم تهتان |
فسرنا وما نلوي على متعذّر |
|
إذا وطن أقصاك آوتك أوطان |
ولا زاد إلّا ما انتشته من الصّبا |
|
أنوف وحازته من الماء أجفان |
رحلنا سوام الحمد منها لغيرها |
|
فلا ماؤها صدّا ولا النّبت سعدان(١) |
إلى ملك حاباه بالمجد يوسف |
|
وشاد له البيت الرّفيع سليمان |
إلى مستعين بالإله مؤيّد ، |
|
له النّصر حزب والمقادير أعوان |
جفتنا بلا جرم كأنّ مودّة |
|
ثنى نحونا منها الأعنّة شنآن(٢) |
ولو لم تفد منّا سوى الشّعر وحده |
|
لحقّ لنا برّ عليه وإحسان |
فكيف ولم نجعل بها الشّعر مكسبا |
|
فيوجب للمكدي جفاء وحرمان |
ولا نحن ممّن يرتضي الشّعر خطّة |
|
وإن قصرت عن شأونا فيه أعيان |
ومن أوهمته غير ذاك ظنونه |
|
فثمّ مجال للمقال وميدان |
خليليّ من يعدي على زمن له |
|
إذا ما قضى حيف عليّ وعدوان |
وهل ريء من قبلي غريق مدامع |
|
يفيض بعينيه الحيا وهو حرّان(٣) |
وهل طرفت عين لمجد ولم يكن |
|
لها مقلة من آل هود وإنسان |
بوجه ابن هود كلّما أعرض الورى |
|
صحيفة إقبال لها البشر عنوان |
فتى المجد في برديه بدر وضيغم |
|
وبحر وقدس ذو الهضاب وثهلان(٤) |
من النّفر الشّمّ الّذين أكفّهم |
|
غيوث ولكنّ الخواطر نيران |
ليوث شرى ما زال منهم لدى الوغى |
|
هزبر بيمناه من السّمّ ثعبان |
وهل فوق ما قد شاد مقتدر لهم |
|
ومؤتمن بالله لقياه إيمان(٥) |
__________________
(١) أخذ الشاعر البيت من المثل : ماء لا كصداء ، ومرعى ولا كالسعدان ، وفتى ولا كمالك.
(٢) الشنآن : الكراهية.
(٣) ريء : أصلها : رئي. والحيا : المطر. وحرّان : شديد العطش.
(٤) الضيغم : الأسد.
(٥) الهزبر : الأسد. وفي ب : من السمر ثعبان.
ألا ليس فخر في الورى غير فخرهم |
|
وإلّا فإنّ الفخر زور وبهتان |
فيا مستعينا مستغاثا لمن نبا |
|
به وطن يوما وعضّته أزمان (١) |
كسوتك من نظمي قلادة مفخر |
|
يباهي بها جيد المعالي ويزدان (٢) |
وإن قصرت عمّا لبست فربّما |
|
تجاور درّ في النّظام ومرجان |
معان حكت غنج الحسان كأنّني |
|
بهن حبيب أو بطليوس بغدان (٣) |
إذا غرست كفّاك غرس مكارم |
|
بأرضي أحنتك الثّنا منه أغصان (٤) |
وقال في وصف مجلس لأبي عيسى بن لبّون أحضر إليه ابن السيد منوها بقدره ، ما صورته :
وأحضره إلى مجلس نام عنه الدهر وغفل ، وقام لفرط أنسه واحتفل ، قد بانت صروفه ، ودنت من الزائر قطوفه ، وقال : هل بنا إلى الاجتماع بمذهبك ، والاستمتاع بما شئته من براعة (٥) أدبك ، فأقاموا يعملون كأسهم ، ويصلون إيناسهم ، وباتوا ليلتهم (٦) ما طرقهم نوم ، ولا عداهم عن طيب اللذات سوم.
ثم قال بعد كلام كثير : وحضر ابن السيد عند عبد الرحمن الظافر بن ذي النون مجلسا رفعت فيه المنى لواءها ، وخلعت عليه أضواءها ، وزفّت إليه المسرات أبكارها ، وفارقت إليه الطير أوكارها ، فقال يصف (٧) : [الرجز]
لم تر عيني مثله ولا ترى |
|
أنفس في نفسي وأبهى منظرا |
إذا تردّى وشيه المصوّرا |
|
من حوك صنعاء وحوك عبقرا |
ونسج قرقوب ونسج تسترا |
|
خلت الرّبيع الطّلق فيه نوّرا (٨) |
__________________
(١) في ب ، ه : فيا مستعينا مستعانا.
(٢) في ب : جيد الزمان ويزدان.
(٣) بغدان : بغداد.
(٤) في ب : أجنتك الثنا.
(٥) في ب : ه : ببراعة أدبك.
(٦) في ب ، ه : باتوا ليلهم.
(٧) في ب ، ورد البيت التالي ، أولا :
ومجلس جم الملاهي أزهرا |
|
ألذّ في الأجفان من طعم الكرى |
|
(٨) قرقوب : بين واسط والأهواز. وتستر : مدينة بخوزستان.
كأنّما الإبريق حين قرقرا |
|
قد أمّ لثم الكأس حين فغرا(١) |
وحشيّة ظلّت تناغي جؤذرا |
|
ترضعه الدّرّ ويرنو حذرا(٢) |
كأنّما مجّ عقيقا أحمرا |
|
أوفتّ من ريّاه مسكا أذفرا |
أو عابد الرّحمن يوما ذكرا |
|
فنمّ مسكا ذكره وعنبرا |
أو عابد الرّحمن يوما ذكرا |
|
فنمّ مسكا ذكره وعنبرا |
الظّافر الملك الّذي من ظفرا |
|
بقربه نال العلاء الأكبرا |
لو أنّ كسرى راءه أو قيصرا |
|
هلّل إكبارا له وكبّرا |
تبدي سماء الملك منه قمرا |
|
إذا حجاب المجد عنه سفرا |
يا أيّها المنضي المطايا بالسّرى |
|
تبغى غمام المكرمات الممطرا |
وقال الفتح في ترجمة الأديب أبي القاسم بن العطار ، ما صورته :
هو أحد أدباء إشبيلية ونحاتها ، العامرين لأرجاء المعارف وساحاتها ، لو لا مواصلة راحاته ، وتعطيل بكره وروحاته ، وموالاته للفرج ، ومغالاته في عرف الأنس والأرج (٣) ، لا يعرّج إلا على ضفة نهر ، ولا يبتهج (٤) إلا بقطعة زهر ، ولا يحفل بملام ، ولا يتنقل إلا في طاعة غلام ، ناهيك من رجل مخلوع العنان في ميدان الصبابة ، مغرم بالحسان غرام يزيد (٥) بحبابة ، لا تراه إلا في ذمة انهماك ، ولا تلقاه إلا في لمّة انهتاك ، رافعا لرايات الهوى ، فارعا لثنيّات الجوى ، لا يقفر فؤاده من كلف ، ولا يبيت إلا رهن تلف ، أكثر خلق الله تعالى علاقة ، وأحضرهم لمشهد خلاقة ، مع جزالة تحرك السكون ، وتضحك الطير في الوكون ، وقد أثبتّ له مما ارتجله (٦) في أوقات أنسه وساعاته ، ونفث (٧) به أثناء زفراته ولوعاته ، فمن ذلك ما قاله في يوم ركب فيه النهر على عادات انكشافه ، وارتضاعه لثغور اللذات وارتشافه : [الطويل]
عبرنا سماء النّهر والجوّ مشرق |
|
وليس لنا إلّا الحباب نجوم |
وقد ألبسته الأيك برد ظلالها |
|
وللشّمس في تلك البرود رقوم |
__________________
(١) قرقر الإبريق : صوّت.
(٢) الجؤذر : ولد البقرة الوحشية.
(٣) في ب ، ه : في عرف للأنس أو أرج.
(٤) في ب ، ه : لا يلهج.
(٥) يزيد : هو يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وحبابة : جارية كانت له وقد أغرم بها.
(٦) في ه : وقد أثبت له ما يرتجله.
(٧) في ب : وينفث به.
وله فيه : [الطويل]
مررنا بشاطي النّهر بين حدائق |
|
بها حدق الأزهار تستوقف الحدق |
وقد نسجت كفّ النّسيم مفاضة |
|
عليه وما غير الحباب لها حلق |
وله : [الخفيف]
هبّت الرّيح بالعشيّ فحاكت |
|
زردا للغدير ناهيك جنّه |
وانجلى البدر بعد هدء فصاغت |
|
كفّه للقتال منه أسنّه |
وقوله : [الكامل]
لله بهجة منزه ضربت به |
|
فوق الغدير رواقها الأنسام(١) |
فمع الأصيل النّهر درع سابغ |
|
ومع الضّحى يلتاح منه حسام |
وله : [الكامل]
ما كالعشيّة في رواء جمالها |
|
وبلوغ نفسي منتهى آمالها |
ما شئت شمس الأرض مشرقة السّنى |
|
والشّمس قد شدّت مطيّ رحالها |
في حيث تنساب المياه أراقما |
|
وتعيرك الأفياء برد ظلالها |
وله : [الكامل]
لله حسن حديقة بسطت لنا |
|
منها النّفوس سوالف ومعاطف |
تختال في حلل الرّبيع وحليه |
|
ومن الرّبيع قلائد ومطارف |
وقال الفتح في ترجمة ابن عمار : أخبرني ذو الوزارتين الأجل أبو المطرف بن عبد العزيز أنه حضر معه عند المؤتمن في يوم جادت فيه السماء بهطلها ، وأتبعت وبلها بطلّها ، وأعقب (٢) رعدها برقها ، وانسكب دراكا ودقها ، والأزهار قد تجلت من كمامها (٣) ، وتحلّت بدرّ غمامها ، والأشجار قد جلي صداها ، وتوشّحت بنداها ، وأكؤس الراح كأنها كواكب تتوقد ، تديرها أنامل تكاد من اللطافة تعقد ، إذا بفتى من فتيان المؤتمن أخرس لا يفصح ، ومستعجم لا يبين ولا يوضح ، متنمر تنمّر الليث ، متشمر كالبطل الفارس عند العيث (٤) ، وقد أفاض على نفسه درعا ، تضيق بها الأسنة ذرعا ، وهو يريد استشارة المؤتمن في التوجه (٥) إلى موضع بعثه إليه ووجّهه ،
__________________
(١) في ب : الأنشام.
(٢) في ج : وارتقب رعدها برقها.
(٣) في ج : من أكمامها.
(٤) في ب : عند الغيث. والعيث : الإفساد.
(٥) في العلائق ، ه : في الخروج.
وكل من صده عنه نهره ونجهه (١) ، حتى وصل إلى مكان انفراده ، ووقف بإزاء وساده ، فلما وقعت عين ابن عمّار عليه ، أشار بيده إليه ، وقرّبه واستدناه (٢) ، وضمه إليه كأنه تبنّاه ، وأراد (٣) أن يخلع عنه ذلك الغدير ، وأن يكون هو الساقي والمدير ، فأمره المؤتمن بخلعه ، وطاعة أمره وسمعه ، فنضاه عن جسمه ، وقام يسقي على حكمه ورسمه ، فلما دبت فيه الحميّا (٤) ، وشبت غرامه بهجة ذلك المحيّا واستنزلته سورة العقار ، من مرقب الوقار ، قال : [الكامل]
وهويته يسقي المدام كأنّه |
|
قمر يدور بكوكب في مجلس |
متأرّج الحركات تندى ريحه |
|
كالغصن هزّته الصّبا بتنفّس |
يسعى بكأس في أنامل سوسن |
|
ويدير أخرى من محاجر نرجس |
يا حامل السّيف الطّويل نجاده |
|
ومصرّف الفرس القصير المحبس |
إيّاك بادرة الوغى من فارس |
|
خشن القناع على عذار أملس |
جهم وإن حسر اللّثام فإنّما |
|
كشف الظلام عن النّهار المشمس(٥) |
يطغى ويلعب في دلال عذاره |
|
كالمهر يمرح في اللّجام المجرس(٦) |
سلّم فقد قصف القنا غصن النّقا |
|
وسطا بليث الغاب ظبي المكنس(٧) |
عنّا بكاسك ، قد كفتنا مقلة |
|
حوراء قائمة بسكر المجلس |
وأورد هذه القصة صاحب البدائع بقوله : حضر أبو المطرّف بن عبد العزيز عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجوّ فيه أشقر برقه ، ورمى بنبل ودقه ، وتحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها ، وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها ، والرياح قد أشرقت نجومها في بروج الراح ، وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح ، ومديرها قد ذاب ظرفا فكاد يسيل من إهابه ، وأخجل خدّها حسنا فتظلل بعرق حبابه ، إذا بفتى روميّ (٨) من فتيان المؤتمن قد أقبل متدرّعا كالبدر اجتاب سحابا ، والخمر قد اكتست حبابا ، (٩) وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع قد (١٠) كان عوّل فيه عليه ، وأمره أن
__________________
(١) نجهه : استقبله بما يكره.
(٢) استدناه : قرّبه.
(٣) في ب : وحد أن يخلع.
(٤) الحميا : الخمر.
(٥) في ه : جهم وإن حسر القناع.
(٦) المجرس : الذي له صوت كصوت الجرس.
(٧) المكنس : مأوى الغزلان.
(٨) رومي : غير موجودة في ب.
(٩) الحباب : الفقاقيع التي تظهر على ظهر الخمر أو الماء.
(١٠) قد : غير موجودة في ب.
يتوجّه إليه ، فحين لمحه ابن عمار والسكر قد استحوذ على لبه ، وبثّ سراياه في ضواحي قلبه ، جدّ في أن يستخرج تلك الدرة من ماء ذلك الدّلاص (١) ، وأن يجلّي عنه سهكه كما يجلّى الخبث عن الخلاص (٢) ، وأن يكون هو الساقي ، فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله ، واحتذاء مثاله (٣) ، فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها ، ورميت شياطين النفوس من كميت المدام بشهبها ، ارتجل ابن عمار : وهويته ـ الخ :
إلا أنه قال إثر قوله : إياك بادرة الوغى من فارس ما صورته : يضع السنان على العذار الأملس ولابن عمار الرائية المشهورة في مدح المعتضد عباد والد المعتمد ، وهي (٤) : [الكامل]
در المدامة فالنّسيم قد انبرى |
|
والنّجم قد صرف العنان عن السّرى |
والصّبح قد أهدى لنا كافوره |
|
لمّا استردّ اللّيل منّا العنبرا |
والرّوض كالحسنا كساه زهره |
|
وشيا وقلّده نداه جوهرا |
أو كالغلام زها بورد خدوده |
|
خجلا وتاه بآسهنّ معذّرا |
روض كأنّ النّهر فيه معصم |
|
صاف أطلّ على رداء أخضرا |
وتهزّه ريح الصّبا فتخاله |
|
سيف ابن عبّاد يبدّد عسكرا |
عبّاد المخضرّ نائل كفّه |
|
والجوّ قد لبس الرّداء الأغبرا |
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد |
|
ونحاه لا يردون حتّى يصدرا |
أندى على الأكباد من قطر النّدى |
|
وألذّ في الأجفان من سنة الكرى |
يختار إذ يهب الخريدة كاعبا |
|
والطّرف أجرد والحسام مجوهرا(٥) |
قدّاح زند المجد لا ينفكّ من |
|
نار الوغى إلا إلى نار القرى |
لا خلق أفرى من شفار حسامه |
|
إن كنت شبّهت المواكب أسطرا(٦) |
__________________
(١) الدلاص : اللين البراق.
(٢) السهك : الرائحة الكريهة.
(٣) في ج : واحتذاء أمثاله.
(٤) انظر قلائد العقيان ص ٩٦.
(٥) الخريدة : الفتاة البكر الحسناء. والكاعب : من ظهر ثدياها. والطرف : الفرس الكريم ، والأجرد : القصير الشعر.
(٦) في ب : لا خلق أقرأ.
أيقنت أنّي من ذراه بجنّة |
|
لمّا سقاني من نداه الكوثرا |
وعلمت حقّا أنّ ربعي مخصب |
|
لمّا سألت به الغمام الممطرا (١) |
من لا توازنه الجبال إذا احتبى |
|
من لا تسابقه الرّياح إذا جرى |
ماض وصدر الرّمح يكهم والظّبا |
|
تنبو وأيدي الخيل تعثر في الثّرى (٢) |
قاد الكتائب كالكواكب فوقهم |
|
من لأمهم مثل السّحاب كنهورا(٣) |
من كلّ أبيض قد تقلّد أبيضا |
|
عضبا وأسمر قد تقلّد أسمرا |
ملك يروقك خلقه أو خلقه |
|
كالرّوض يحسن منظرا أو مخبرا |
أقسمت باسم الفضل حتّى شمته |
|
فرأيته في بردتيه مصوّرا |
وجهلت معنى الجود حتّى زرته |
|
فقرأته في راحتيه مفسّرا |
فاح الثّرى متعطّرا بثنائه |
|
حتّى حسبنا كلّ ترب عنبرا |
وتتوّجت بالزّهر صلع هضابه |
|
حتّى ظننا كل هضب قيصرا |
هصرت يدي غصن الغنى من كفّه |
|
وجنت به روض السّرور منوّرا |
أيقنت أنّي من ذراه بجنّة |
|
لمّا سقاني من نداه الكوثرا |
هصرت يدي غصن الغنى من كفّه |
|
وجنت به روض السّرور منوّرا |
حسبي على الصّنع الّذي أولاه أن |
|
أسعى بجد أو أموت فاعذرا |
يا أيّها الملك الّذي حاز العلا |
|
وحباه منه بمثل حمدي أنورا |
السّيف أفصح من زياد خطبة |
|
في الحرب إن كانت يمينك منبرا (٤) |
ما زلت تغني من عنا لك راجيا |
|
وحباه منه بمثل حمدي أنورا |
ما زلت تغني من عنا لك راجيا |
|
نيلا وتفني من عتا وتجبّرا (٥) |
حتّى حللت من الرّياسة محجرا |
|
رحبا وضمّت منك طرفا أحورا |
شقيت بسيفك أمّة لم تعتقد |
|
إلّا اليهود وإن تسمّت بربرا |
أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم |
|
لمّا رأيت الغصن يعشق مثمرا |
وصبغت درعك من دماء كماتهم |
|
لمّا علمت الحسن يلبس أحمرا(٦) |
وإليكها كالرّوض زارته الصّبا |
|
وحنا عليه الظّلّ حتّى نوّرا |
__________________
(١) في ه ، والقلائد : لما أسال به الغمام الممطرا.
(٢) كهم الرمح : لم يقطع. والظبا : جمع ظبة ، وهي حد السيف.
(٣) اللأم : جمع لأمة ، وهي عدة الحرب. والكنهور : قطع السحاب.
(٤) زياد : هو زياد ابن أبيه ، وكان فصيحا بعيدا عن اللحن.
(٥) عنا : أسر ، وافتقر.
(٦) الكماة : جمع كمي : اللابس سلاحه ، الشجاع.
وقال في ترجمة عبد الجليل بن وهبون المرسي (١) : ركب بإشبيلية زورقا في نهرها الذي لا تدانيه الصّراة (٢) ، ولا يضاهيه الفرات ، في ليلة تنقبت في ظلمتها (٣) ، ولم يبد وضح في دهمتها ، وبين أيديهم شمعتان قد انعكس شعاعهما في اللجة ، وزاد في تلك البهجة ، فقال : [المنسرح]
وكان معه غلام البكري معاطيا للراح ، وجاريا في ميدان ذلك المراح ، فلما جاء عبد الجليل بما جاء ، وحلّى للإبداع الجوانب والأرجاء ، حسده على ذلك الارتجال ، وقال بين البطء والاستعجال : [الكامل]
وقال الفتح رحمه الله (٦) : دعيت يوما إلى منية المنصور بن أبي عامر ببلنسية ، وهي منتهى الجمال ، ومزدهى الصبا والشمال ، على وهي بنائها ، وسكنى الحوادث برهة بفنائها ، فوافيتها والصبح قد ألبسها قميصه ، والحسن قد شرح بها عويصه (٧) ، وبوسطها مجلس قد تفتحت للروض أبوابه ، وتوشّحت بالأزر الذهبية أثوابه ، يخترقه جدول كالحسام المسلول ، __________________ (١) القلائد ص ٢٤٢. (٢) الصراة : اسم لنهرين في بغداد ؛ الصراة الكبرى ، والصراة الصغرى (انظر معجم البلدان ج ٣ ص ٣٩٩). (٣) في ب ، ه : بظلمتها. (٤) الغيناء : الخضراء الكثيرة الأغصان. (٥) التاح : لاح وظهر. (٦) القلائد ص ٦٨. (٧) عويصة : صعبة. |
قم فاسقني والرّياض لابسة |
|
وشيا من النّور حاكه القطر(٢) |
في مجلس كالسّماء لاح به |
|
من وجه من قد هويته بدر |
والشّمس قد عصفرت غلائلها |
|
والأرض تندى ثيابها الخضر |
والنّهر مثل المجرّ حفّ به |
|
من النّدامى كواكب زهر |
فحللت ذلك المجلس وفيه أخدان ، كأنهم الولدان ، وهم في عيش لدن (٣) ، كأنهم في جنة عدن ، فأنخت لديهم ركائبي وعقلتها ، وتقلدت بهم رغائبي واعتقلتها ، وأقمنا نتنعم بحسنه طول ذلك اليوم ، ووافى الليل فذدنا عن الجفون طروق النوم ، وظللنا بليلة كأن الصبح منها مقدود ، والأغصان تميس كأنها قدود ، والمجرة تتراءى نهرا ، والكواكب تخالها في الجو زهرا ، والثريا كأنها راحة تشير ، وعطارد لنا بالطرب بشير ، فلما كان من الغد وافيت الرئيس أبا عبد الرحمن زائرا ، فأفضنا في الحديث إلى أن أفضى بنا إلى ذكر منتزهنا بالأمس ، وما لقينا فيه من الأنس ، فقال لي : ما بهجة موضع قد بان قطينه وذهب ، وسلب الزمان بهجته وانتهب ، وباد فلم يبق إلا رسمه ، ومحاه الحدثان فما كاد يلوح رسمه (٤) ، عهدي به عند ما فرغ من تشييده ، وتنوهي في تنسيقه وتنضيده ، وقد استدعاني إليه المنصور في وقت (٥) حلت فيه الشمس برج شرفها ، واكتسب فيه (٦) الأرض بزخرفها ، فحللت به والدوح تميس معاطفه ، والنّور يخجله قاطفه ، والمدام تطلع به وتغرب ، وقد حل فيه (٧) قحطان ويعرب ، وبين يدي المنصور مائة غلام ما يزيد أحدهم على العشر غير أربع ، ولا يحل غير الفؤاد من مربع ، وهم يديرون رحيقا ، خلتها في كأسها درّا أو عقيقا ، فأقمنا والشهب تغازلنا ، وكأن الأفلاك منازلنا ، ووهب المنصور في ذلك اليوم ما يزيد على عشرين ألفا من صلات متصلات ، وأقطع ضياعا ثم توجع لذلك العهد ، وأفصح بما بين ضلوعه من الوجد ، وقال : [الكامل]
سقيا لمنزلة اللّوى وكثيبها |
|
إذ لا أرى زمنا كأزماني بها |
وما أحسن ما كتب به الفتح إلى بعض الملوك يصف نزهة ببعض منتزهات الأندلس المونقة ، ويذكر استضاءته فيها بشموس المسرة المشرقة ، وهو :
__________________
(١) الأيم : الحية الذكر ، جمع أيوم.
(٢) في ب ، ه : قم سقّني.
(٣) الأخدان : الأصدقاء ، واللدان : ناعم ، لين.
(٤) في ب : وسمه.
(٥) في ب ، ه : في يوم.
(٦) في ب : واكتست الأرض.
(٧) في ب : وقد حل به.
ألا حيّ أوطاني بشلب أبا بكر |
|
وسلهنّ هل عهد الوصال كما أدري |
وسلّم على قصر الشّراجيب من فتى |
|
له أبدا شوق إلى ذلك القصر |
وقصر الشراجيب هذا متناه في البهاء والإشراق ، مباه لزوراء العراق ، ركضت فيه جياد راحاته ، وأومضت بروق أمانيه في ساحاته ، وجرى الدهر مطيعا بين بكره وروحاته ، أيام لم تحل عنه تمائمه ، ولا خلت من أزاهير (٢) الشباب كمائمه ، وكان يعتدها مشتهى (٣) آماله ، ومنتهى أعماله ، إلى بهجة جنباتها ، وطيب نفحاتها وهبّاتها ، والتفاف خمائلها ، وتقلدها بنهرها مكان حمائلها ، وفيها يقول ابن اللّبّانة : [الطويل]
أما علم المعتدّ بالله أنّني |
|
بحضرته في جنّة شقّها نهر(٤) |
وما هو نهر أعشب النّبت حوله |
|
ولكنّه سيف حمائله خضر |
فلما صدر عنها وقد حسنت آثاره في تدبيرها ، وانسدلت رعايته على صغيرها وكبيرها ، نزل المعتمد عليه مشرفا لأوبته ، ومعرفا بسموّ قدره لديه ورتبته ، وأقام يومه عنده مستريحا ، وجرى في ميدان الأنس بطلا مشيحا ، وكان واجدا على الراضي فجلت الحميّا أفقه ، ومحت غيظه عليه وحنقه ، وصورته له عين حنوّه ، وذكرته بعده فجنح إلى دنوّه ، وبين ما استدعى وأوفى ، مالت بالمعتمد نشوته وأغفى ، وألقاه صريعا في منتداه ، طريحا في منتهى مداه ، فأقام تجاهه ، يرتقب انتباهه ، وفي أثناء ذلك صنع شعرا أتقنه وجوّده ، فلما استيقظ أنشده : [المتقارب]
__________________
(١) في ب ، ه : وأخبرني المعتز.
(٢) في ب : من أزهار الشباب.
(٣) في ب ، ه : محيا آماله. وفي القلائد : مجنى آماله.
(٤) في ب ، ه : أما علم المعتز بالله أنني.
الآن تعود حياة الأمل |
|
ويدنو شفاء فؤاد معل |
ويورق للعزّ غصن ذوى |
|
ويطلع للسّعد نجم أفل |
فقد وعدتني سحاب الرّضا |
|
بوابلها حين جادت بطل |
أيا ملكا أمره نافذ |
|
فمن شا أعزّ ومن شا أذل |
دعوت فطار بقلبي السرور |
|
إليك ، وإن كان منك الوجل |
كما يستطيرك حبّ الوغى |
|
إليها وفيها الظّبا والأسل |
فلا غرو إن كان منك اغتفار |
|
وإن كان منّا جميعا زلل |
فمثلك ـ وهو الّذي لم نجد |
|
ه عاد بحلم على من جهل |
وقال في ترجمة المتوكل على الله ابن الأفطس ، ما صورته : وأخبرني الوزير أبو محمد بن عبدون ، أن الأرض توالى عليها الجدب بحضرته (١) حتى جفّت مذانبها (٢) ، واغبرت جوانبها ، وغرد المكّاء في غير روضه (٣) ، وخاض الياس بالناس أعظم خوضه ، وأبدت الخمائل عبوسها ، وشكت الأرض للسماء بوسها ، فأقلع المتوكل عن الشرب واللهو ، ونزع ملابس الخيلاء والزّهو ، وأظهر الخشوع ، وأكثر السجود والركوع ، إلى أن غيّم الجوّ ، وانسجم النوّ ، وصاب الغمام (٤) ، وتزنّمت الحمام ، وسفرت الأنوار (٥) ، وزهت النجود والأغوار ، واتفق أن وصل أبو يوسف المغنّي والأرض قد لبست زخارفها ، ورقم الغمام مطارفها ، وتتوجت الغيطان (٦) والربا ، وأرجت نفحات الصّبا ، والمتوكل ما فض لتوبته ختاما ، ولا قوّض عن قلبه منها خياما (٧) ، فكتب إليه : [المتقارب]
ألمّ أبو يوسف والمطر |
|
فياليت شعري ما ينتظر |
ولست بآب وأنت الشّهيد |
|
حضور نديّك فيمن حضر |
ولا مطلعي وسط تلك السّما |
|
ء بين النّجوم وبين القمر |
وركضي فيها جياد المدا |
|
م محثوثة بسياط الوتر |
فبعث إليه مركوبا ، وكتب معه : [المتقارب]
__________________
(١) في ب : عبدون أن الجدب توالى بحضرته.
(٢) المذانب : جمع مذنب ، وهو مسيل الماء.
(٣) المكاء : طائر أبيض يكثر من الصفير.
(٤) صاب الغمام : هطل المطر.
(٥) في ج : وسفرت الأزهار.
(٦) في ب ، ه : وتدبحت الغيطان.
(٧) في ب ، ه : ولا نفض عن قلبه منها قتاما.
بعثت إليك جناحا فطر |
|
على خفية من عيون البشر |
على ذلل من نتاج البروق |
|
وفي ظلل من نسيج الشّجر |
فحسبي ممّن نأى من دنا |
|
ومن غاب كان فدى من حضر |
فوصل القصبة (١) المطلة على البطحاء ، المزرية بمنازل الرّوحاء ، فأقام منها حيث قال عديّ بن زيد يصف صنعاء (٢) : [الكامل]
في قباب حول دسكرة |
|
حولها الزّيتون قد ينعا |
ومرّ لهم من السرور يوم ما مر لذي رعين ، ولا تصوّر قبل عيونهم لعين ، وأخبرني أنه سايره إلى شنترين قاصية أرض الإسلام ، السامية الذرا والأعلام ، التي لا يروعها صرف ، ولا يفرعها طرف (٣) ، لأنها متوعّرة المراقى ، معقّرة للراقي (٤) ، متمكنة الرّواسي والقواعد ، من ضفة نهر استدار بها استدارة القلب بالساعد ، قد أطلّت على خمائلها ، إطلال العروس من منصّتها ، واقتطعت من الجوّ أكثر من حصّتها ، فمروا بألبش (٥) قطر سالت به جداوله ، واختالت فيه خمائله ، فما يجول الطّرف منه إلا في حديقة ، أو بقعة أنيقة ، فتلقاهم ابن مقانا قاضي حضرته وأنزلهم عنده ، وأورى لهم بالمبرة زنده ، وقدم لهم طعاما واعتقد قبوله منّا وإنعاما ، وعندما طعموا قعد القاضي بباب المجلس رقيبا لا يبرح ، وعين المتوكل حياء منه لا تجول ولا تمرح ، فخرج أبو محمد وقد أبرمه القاضي (٦) بتثقيله ، وحرمه راحة رواحه ومقيله ، فلقي ابن خيرون منتظرا له وقد أعد لحلوله منزله ، فسار إلى مجلس قد ابتسمت ثغور نوّاره ، وخجلت خدود ورده من زوّاره ، وأبدت صدور أباريقه أسرارها ، وضمت عليه المحاسن أزرارها ، ولما حضر له وقت الأنس وحينه ، وأرجت له رياحينه ، وجّه من يرقب المتوكل حتى يقوم جليسه ، ويزول موحشه لا أنيسه ، فأقام رسوله وهو بمكانه لا يريمه ، قد لازمه كأنه غريمه ، فما انفصل ، حتى ظن أن عارض الليل قد نصل ، فلما علم أبو محمد بانفصاله بعث إلى المتوكل قطيع راح وطبق ورد ، وكتب معهما : [الرجز]
__________________
(١) في ج : فوصل القبة. وفي القلائد : فوصل إلى القصبة.
(٢) في ب : يصف مصنعا.
(٣) يفرعها : يعلوها.
(٤) في ب : معفرة. وفي القلائد : معثرة.
(٥) في ج : بأنفس قطر. والأصح : ألبش ، وهي تقع غربي بطليوس.
(٦) القاضي : غير موجودة في ب.
إليكها فاجتلها منيرة |
|
وقد خبا حتّى الشّهاب الثّاقب |
واقفة بالباب لم يؤذن لها |
|
إلّا وقد كاد ينام الحاجب |
فبعضها من المخاف جامد |
|
وبعضها من الحياء ذائب |
فقبلها منه رحمه الله تعالى وعفا عنه وكتب إليه : [الرجز]
قد وصلت تلك الّتي زففتها |
|
بكرا وقد شابت لها ذوائب |
فهبّ حتّى نستردّ ذاهبا |
|
من أنسنا إن استردّ ذاهب |
فركب إليه ، ونقل معه ما كان بالمجلس بين يديه ، وباتا ليلتهما لا يريمان السهر ، ولا يشيمان برقا إلا الكاس والزهر.
ثم قال بعد كلام : وأخبرني الوزير الفقيه أبو أيوب بن أبي أمية أنه مرّ في بعض أيامه بروض مفتر المباسم ، معطّر الرياح النواسم ، قد صقل الربيع حوذانه (١) ، وأنطق بلبله وورشانه (٢) ، وألحف غصونه برودا مخضرة ، وجعل إشراقه للشمس ضرة ، وأزاهره تتيه على الكواكب ، وتختال في خلع الغمائم السواكب ، فارتاح إلى الكون به بقية نهاره ، والتنعم ببنفسجه وبهاره ، فلما حصل من أنسه في وسط المدى ، عمد إلى ورقة كرنب قد بللها النّدى ، وكتب فيها بطرف غصن ناعم (٣) ، يستدعي الوزير أبا طالب بن غانم ، أحد ندمائه ، ونجوم سمائه : [البسيط]
أقبل أبا طالب إلينا |
|
وقع وقوع النّدى علينا |
فنحن عقد بغير وسطى |
|
ما لم تكن حاضرا لدينا |
وقال في ترجمة المعتصم بن صمادح ، ما صورته : وأخبرني الوزير أبو خالد بن بشتغير أنه حضر مجلسه بالصمادحية في يوم غيم وفيه أعيان الوزراء ، ونبهاء الشعراء ، فقعد على موضع يتداخل الماء فيه ، ويلتوي في نواحيه ، والمعتصم منشرح النفس ، مجتمع الأنس ، فقال : [البسيط]
أنظر إلى حسن هذا الماء في صببه |
|
كأنّه أرقم قد جدّ في هربه |
فاستبدعوه ، وتيموه به وأولعوه ، فأسكب عليهم شآبيب نداه ، وأغرب بما أظهره (٤) من بشره وأبداه.
__________________
(١) الحوذان : نبات له زهر أحمر في أصله صفرة.
(٢) الورشان : طائر مغرّد.
(٣) ناعم : غير موجودة في ب.
(٤) في ب : بما ظهر. وفي ج : وأعرب بما ظهر.