الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨
من منتشرها كل شعب ، وأشرفوا عند تحقيقها وإبراز دقيقها على كل صعب ، فكانت منهم وقفة كادت لها النفس تيأس عن مطلبها ، والخواطر تكر راجعة عن خفي مذهبها ، حتى أطلع الله خليفته في خلقه ، وأمينه المرتضى لإقامة حقه ، على وجه انقادت فيه تلك الحركات بعد اعتياصها (١) ، وتخلّصت أشكالها عن الاعتراض على أحسن وجوه خرصها ، ألقوا ذلك ـ أيدهم الله بنصره ، وأمدهم بمعونته ويسره! ـ إلى المهندسين والصناع فقبلوه أحسن القبول ، وتصوروه بأذهانهم فرأوه على مطابقة المأمول ، فوقفهم حسن تنبيهه مما جهلوه على طور غريب من موجبات التعظيم ، وعلموا أن الفضل لله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وسيأتي بعد هذا إشارة إلى تفصيل تلك الحركات المستغربة ، والأشكال المونقة المعجبة ، إن شاء الله تعالى.
مما صنع للمصحف العظيم من الأصونة الغريبة ، والأحفظة العجيبة ، أنه كسي كله بصوان واحد من الذهب والفضة ذي صنائع غريبة من ظاهره وباطنه ، لا يشبه بعضها بعضا ، قد أجري فيه من ألوان الزجاح الرومي ما لم يعهد له في العصر الأول مثال ، ولا عمر قبله بشبهه خاطر ولا بال ، وله مفاصل تجتمع إليها أجزاؤه وتلتئم ، وتتناسق عندها عجائبه وتنتظم ، قد أسلست (٢) للتحرك أعطافها ، وأحكم إنشاؤها على البغية وانعطافها ، ونظم على صفحته وجوانبه من فاخر الياقوت ونفيس الدر وعظيم الزمرد ما لم تزل الملوك السالفة والقرون الخالية تتنافس في أفراده وتتوارثه على مرور الزمن وترداده ، وتظنّ العز الأقعس (٣) ، والملك الأنفس ، في ادخاره وإعداده ، وتسمى الواحد منها بعد الواحد بالاسم العلم لشذوذه في صنعه (٤) واتحاده ، فانتظم عليه منها ما شاكله زهر الكواكب في تلألئه (٥) واتقاده ، وأشبهه الروض المزخرف غبّ سماء أقلعت عن إمداده ، وأتى هذا الصّوان الموصوف رائق المنظر ، آخذا بمجامع القلب والبصر ، مستوليا بصورته الغريبة على جميع الصّور ، يدهش العقول بهاء ، ويحير الألباب رواء (٦) ، ويكاد يعشي الناظر (٧) تألّقا وضياء ، فحين تمت خصاله ، واستركبت أوصاله ، وحان ارتباطه بالمصحف العظيم واتصاله ، رأوا ـ أدام الله تأييدهم ، وأعلى كلمتهم!. مما رزقهم الله تعالى من ملاحظة الجهات ، والإشراف على جميع الثنيات ، أن يتلطف في وجه
__________________
(١) اعتياص الأمر : صعوبته وعدم انقياده.
(٢) أسلست قيادها : جعلته سهلا سلسا.
(٣) العز الأقعس : الثابت ، المنيع.
(٤) في ب : في صنفه.
(٥) في ب : تلألؤه.
(٦) الرواء : حسن المنظر.
(٧) يعشي الناظر : يصيبه بالعشاء ، وهو سوء البصر.
يكون به هذا الصّوان المذكور طورا متصلا ، وطورا منفصلا ، ويتأتّى به للمصحف الشريف العظيم أن يبرز تارة للخصوص متبذلا وتارة للعموم متجملا ، إذ معارج الناس في الاستبصار تختلف ، وكل له مقام إليه ينتهى وعنده يقف ، فعمل فيه على شاكلة هذا المقصد ، وتلطف في تتميم هذا الغرض المعتمد ، وكسي المصحف العزيز بصوان لطيف من السندس الأخضر ، ذي حلية عظيمة (١) خفيفة تلازمه في المغيب والمحضر ، ورتب ترتيبا يتأتى معه أن يكسى بالصّوان الأكبر ، فيلتئم به التئاما يغطي على العين من هذا الأثر ، وكمل ذلك كله على أجمل الصفات وأحسنها ، وأبدع المذاهب وأتقنها ، وصنع له محمل غريب الصنعة ، بديع الشكل والصبغة (٢) ، ذو مفاصل ينبو عن دقتها الإدراك ، ويشتد (٣) بها الارتباط بين المفصلين ويصح الاشتراك ، مغشّى كله بضروب من الترصيع ، وفنون من النقش البديع ، في قطع من الآبنوس والخشب الرفيع ، لم تعمل قط في زمان من الأزمان ، ولا انتهت قط إلى أيسره نوافذ الأذهان ، مدار بصنعة قد أجريت في صفائح الذهب ، وامتدت امتداد ذوائب الشّهب ، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله عند الانتقال ، ويشاركه في أكثر الأحوال ، مرصّع مثل ترصيعه الغريب ، ومشاكل له في جودة التقسيم وحسن الترتيب ، وصنع لذلك كله تابوت يحتوي عليه احتواء المشكاة على أنوارها ، والصدور على محفوظ أفكارها ، مكعب الشكل سام في الطول حسن الجملة والتفصيل ، بالغ ما شاء من التتميم في أوصاله والتكميل ، جار مجرى المحمل في التزيين والتجميل ، وله في أحد غواربه باب ركبت عليه دفتان قد أحكم ارتتاجهما (٤) ، ويسر بعد الإبهام (٥) انفراجهما ، ولانفتاح هذا الباب وخروج هذا الكرسي من تلقائه ، وتركب المحمل عليه ، ما دبرت الحركات الهندسية ، وتلقيت تلك التنبيهات القدسية ، وانتظمت العجائب المعنوية والحسية ، والتأمت الذخائر النفيسة والنفسية ، وذلك أن بأسفل هاتين الدفّتين فيصلا فيه موضع قد أعدّ له مفتاح لطيف يدخل فيه ، فإذا أدخل ذلك المفتاح فيه وأديرت به اليد انفتح الباب بانعطاف الدفتين إلى داخل الدفتين من تلقائهما ، وخرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته ، وفي خلال خروج الكرسي يتحرك عليه المحمل حركة منتظمة مقترنة بحركته يأتي بها من مؤخر الكرسي زحفا إلى مقدمه ، فإذا كمل الكرسي بالخروج وكمل المحمل بالتقدم
__________________
(١) عظيمة : غير موجودة في ب.
(٢) في ب : بديع الشكل والصيغة.
(٣) في ب : ويشهد بها الارتباط.
(٤) أرتج يرتج الباب إرتاجا : أغلقه إغلاقا وثيقا. وارتتاج الدفتين : انغلاقهما بإحكام.
(٥) الإبهام : أبهم الباب : أغلقه وسده. أبهم عليه الأمر : لم يجعل له وجها يعرفه.
عليه انغلق الباب برجوع الدّفتين إلى موضعهما من تلقائهما دون أن يمسهما أحد ، وترتبت هذه الحركات الأربع على حركة المفتاح فقط دون تكلف شيء آخر ، فإذا أدير المفتاح إلى خلف الجهة التي أدير إليها أولا انفتح الباب وأخذ الكرسي في الدخول والمحمل في التأخر عن مقدم الكرسي إلى مؤخره ، فإذا عاد كل إلى مكانه انسدّ الباب بالدفتين أيضا من تلقائه ، كل ذلك يترتب على حركة المفتاح ، كالذي كان في حال خروجه ، وصحّت هذه الحركات اللطيفة على أسباب ومسبّبات غائبة عن الحس في باطن الكرسي ، وهي مما يدقّ وصفها ، ويصعب ذكرها ، أظهرتها بركات هذا الأمر السعيد ، وتنبيهات سيدنا ومولانا الخليفة ، أدام الله تعالى أمرهم! وأعز نصرهم!.
وفي خلال الاشتغال بهذه الأعمال التي هي غرر الدهر ، وفرائد العمر ، أمروا. أدام الله تعالى تأييدهم! ـ ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش ـ حرسها الله تعالى! ـ فبدىء ببنائه (١) وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ، وكمل منتصف شعبان المكرم من العام المذكور ، على أكمل الوجوه ، وأغرب الصنائع ، وأفسح المساحة ، وأبعد البناء والنجارة ، وفيه من شمسيات الزجاج ودرجات (٢) المنبر والمقصورة ما لو عمل في السنين العديدة لاستغرب تمامه ، فكيف في هذا الأمد (٣) اليسير الذي لم يتخيل أحد من الصّنّاع أن يتم فيه فضلا عن بنائه؟ وصليت فيه صلاة الجمعة منتصف شعبان المذكور ، ونهضوا ـ أدام الله سبحانه تأييدهم! ـ عقب ذلك لزيادة البقعة المكرمة ، والروضة المعظمة ، بمدينة تينملّل (٤) أدام الله رفعتها ، فأقاموا بها بقية شعبان المكرم ، وأكثر شهر رمضان المعظم ، وحملوا في صحبتهم المصحف العزيز ومعه مصحف الإمام المهديّ المعلوم رضي الله تعالى عنه في التابوت الموصوف ، إذ كان قد صنع له غرفة في أعلاه ، وأحكمت فيه إحكاما كمل به معناه ، واجتمع في مشكاته فعاد النور إلى مبتداه ، وختم القرآن العزيز في مسجد الإمام المعلوم ختمات كادت لا تحصى لكثرتها ، وهنا انتهى ما وجدناه من هذا المكتوب.
ثم قال ابن رشيد ـ بعد إيراد ما تقدّم ـ ما صورته : نجزت الرسالة في المصحف العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، انتهى محل الحاجة منه.
وما أحسن قول الشيخ الإمام أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية يستودع أهل قرطبة : [المنسرح]
__________________
(١) في ب ، ه : ببنيانه.
(٢) في ب ، ه : وحركات المنبر.
(٣) في ب : الأمر اليسير.
(٤) تينملّل : المدينة التي دفن فيها ابن تومرت.
أستودع الله أهل قرطبة |
|
حيث وجدت الحياء والكرما(١) |
والجامع الأعظم العتيق ولا |
|
زال مدى الدّهر مأمنا حرما |
وقال أبو الربيع بن سالم : حدثني بذلك أبو الحسن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري (٢) قال: أنشدني أبو محمد بن عطية لنفسه ، فذكرهما بعد أن قال : إنه لما أزمع القاضي أبو محمد بن عطية الارتحال عن قرطبة قصد المسجد الجامع وأنشدني (٣) البيتين ، انتهى.
وقال ابن عطية أيضا رحمه الله تعالى : [البسيط]
بأربع فاقت الأمصار قرطبة |
|
وهنّ قنطرة الوادي وجامعها |
هاتان ثنتان ، والزّهراء ثالثة ، |
|
والعلم أكبر شيء وهو رابعها |
وقد تقدم إنشادنا لهذين البيتين من غير نسبتهما لأحد (٤).
ومما يدخل في أخبار الزاهرة من غير ما قدمناه ما حكاه عن نفسه الوزير الكاتب أبو المغيرة بن حزم قال : نادمت يوما المنصور بن أبي عامر في منية السرور بالزاهرة ذات الحسن النضير ، وهي جامعة بين روضة وغدير ، فلما تضمخ النهار بزعفران العشي ، ورفرف غراب الليل الدّجوجيّ ، وأسبل الليل جنحه ، وتقلد السّماك رمحه ، وهمّ النسر بالطيران ، وعام في الأفق زورق الزّبرقان (٥) ، أوقدنا مصابيح الراح ، واشتملنا ملاء الارتياح ، وللدّجن فوقنا رواق مضروب ، فغنتنا عند ذلك جارية تسمى أنس القلوب وقالت (٦). [الخفيف]
قدم اللّيل عند سير النّهار |
|
وبدا البدر مثل نصف السّوار |
فكأنّ النّهار صفحة خدّ |
|
وكأنّ الظّلام خطّ عذار |
وكأنّ الكؤوس جامد ماء |
|
وكأنّ المدام ذائب نار |
نظري قد جنى عليّ ذنوبا |
|
كيف ممّا جنته عيني اعتذاري؟ |
يا لقومي تعجّبوا من غزال |
|
جائر في محبّتي وهو جاري |
__________________
(١) في ب ، ه : حيث عهدت الحياء والكرما.
(٢) هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري ، كان قاضي استجة توفي سنة ٥٨٥ (التكملة رقم ١٦١٩).
(٣) في ب : وأنشد البيتين.
(٤) في ب : نسبة لأحد.
(٥) الزبرقان : البدر.
(٦) وقالت : غير موجودة في ب.
ليت لو كان لي إليه سبيل |
|
فأقضّي من الهوى أوطاري(١) |
قال : فلما أكملت الغنا ، أحسست بالمعنى ، فقلت : [الخفيف]
كيف كيف الوصول للأقمار |
|
بين سمر القنا وبيض الشّفار |
لو علمنا بأنّ حبّك حقّ |
|
لطلبنا الحياة منك بثار |
وإذا ما الكرام همّوا بشيء |
|
خاطروا بالنّفوس في الأخطار |
قال : فعند ذلك بادر المنصور لحسامه ، وغلظ في كلامه ، وقال لها : قولي واصدقي إلى من تشيرين ، بهذا الشوق والحنين؟ فقالت الجارية : إن كان الكذب أنجى ، فالصدق أحرى وأولى ، والله ما كانت إلا نظرة ، ولّدت في القلب فكرة ، فتكلّم الحب على لساني ، وبرّح الشوق بكتماني ، والعفو مضمون لديك عند المقدرة ، والصفح معلوم منك عند المعذرة ، ثم بكت فكأن دمعها در تناثر من عقد ، أو طلّ تساقط من (٢) ورد ، وأنشدت :
أذنبت ذنبا عظيما |
|
فكيف منه اعتذاري؟ |
والله قدّر هذا |
|
ولم يكن باختياري |
والعفو أحسن شيء |
|
يكون عند اقتدار |
قال : فعند ذلك صرف المنصور وجه الغضب إليّ ، وسلّ سيف السخط عليّ ، فقلت: أيدك الله تعالى! إنما كانت هفوة جرها الفكر ، وصبوة أيدها النظر ، وليس للمرء إلا ما قدر له ، لا ما اختاره وأمله ، فأطرق المنصور قليلا ثم عفا وصفح ، وتجاوز عنا وسمح ، وخلي سبيلي ، فسكن وجيب قلبي وغليلي ، ووهب الجارية لي فبتنا بأنعم ليلة ، وسحبنا فيها للصّبا ذيله ، فلما شمر الليل غدائره ، وسلّ الصباح بواتره ، وتجاوبت الأطيار بضروب الألحان ، في أعالي الأغصان ، انصرفت بالجارية إلى منزلي ، وتكامل سروري.
قال بعضهم : ذكرتني حكاية أبي المغيرة هذه حكاية قرأتها في النوادر لأبي علي القالي البغدادي حذت في الظرف حذوها (٣) ، وزهت في الإغراب زهوها ، وهي ما أسنده عن منصور البرمكي أنه كانت للرشيد جارية غلامية وكان المأمون يميل إليها ، وهو إذ ذاك أمرد ، فوقفت تصبّ على يد الرشيد من إبريق معها ، والمأمون خلف الرشيد (٤) ، فأشار إليها يقبلها(٥) ،
__________________
(١) في ب ، ه : من حبه أوطاري ، وفي ه : وأقضي.
(٢) الطلّ : المطر الخفيف.
(٣) أمالي القالي ج ١ ص ٢٢٢.
(٤) في ب : والمأمون جالس خلف الرشيد.
(٥) في ب : فأشار إليها كأنه يقبلها.
فأنكرت ذلك بعينها ، وأبطأت في الصب على قدر نظرها للمأمون وإشارتها إليه ، فقال الرشيد: ما هذا؟ ضعي الإبريق من يدك ، ففعلت ، فقال لها (١) : والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك ، فقالت : يا سيدي ، أشار إلي كأنه يقبلني (٢) ، فأنكرت ذلك عليه ، فالتفت إلى المأمون فنظر إليه كأنه ميت لما داخله من الجزع والخجل ، فرحمه وضمه إليه ، وقال : يا عبد الله ، أتحبها؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : هي لك فاخل (٣) بها في تلك القبة ، ففعل ، ثم قال له : هل قلت في هذا الأمر شيئا؟ فقال : نعم يا سيدي ، وأنشد (٤) : [المجتث]
ظبي كنيت بطرفي |
|
من الضّمير إليه |
قبّلته من بعيد |
|
فاعتلّ من شفتيه |
وردّ أخبث ردّ |
|
بالكسر من حاجبيه |
فما برحت مكاني |
|
حتّى قدرت عليه |
وفي هذا المعنى يقول بعض البلغاء : اللحظ ، يعرب عن اللفظ ، وقال آخر : رب كناية تغني عن إيضاح ، ورب لفظ يدل على ضمير ، ونظمه الشاعر فقال : [الطويل]
جعلنا علامات المودّة بيننا |
|
دقائق لحظ هنّ أمضى من السّحر |
فأعرف منها الوصل في لين لحظها |
|
وأعرف منها الهجر بالنّظر الشّزر(٥) |
وفي هذا قال بعض الحكماء : العين باب القلب ، فما في القلب ظهر في العين وقال الشاعر : [البسيط]
العين تبدي الّذي في نفس صاحبها |
|
من المحبّة أو بغض إذا كانا |
فالعين تنطق والأفواه صامتة |
|
حتّى ترى من ضمير القلب تبيانا |
وأبو المغيرة بن حزم قال في حقه في المطمح ما نصه (٦) : الوزير الكاتب أبو المغيرة عبد الوهاب بن حزم ، وبنو حزم فتية علم وأدب ، وثنيّة مجد وحسب ، وأبو المغيرة هذا في الكتابة أوحد ، لا ينعت ولا يحد ، وهو فارس المضمار ، حامي ذلك الذّمار ، وبطل الرّعيل (٧) ، وأسد ذلك الغيل ، نسق المعجزات ، وسبق في المعضلات الموجزات ، إذا كتب وشّى المهارق ودبج ، وركب من بحر البلاغة الثّبج (٨) ، وكان هو وأبو عامر بن شهيد خليلي صفاء ، وحليفي
__________________
(١) لها : غير موجودة في ب.
(٢) في ب : أشار إلي عبد الله ..
(٣) في ه : فأدخل بها.
(٤) في ب ، ه : ثم أنشد.
(٥) النظر الشزر : الشديد ، الممتلئ غضبا.
(٦) انظر المطمح ص ٢٢.
(٧) الرعيل : جماعة الرجال التي تتقدم غيرها.
(٨) الثبج من الشيء : معظمه ، ومن الموج : أعلاه.
وفاء ، لا ينفصلان في رواح ولا مقيل ، ولا يفترقان كمالك وعقيل (١) ، وكانا بقرطبة رافعي ألوية الصّبوة ، وعامري أندية السلوة ، إلى أن اتّخذ أبو عامر في حبالة الردى وعلق ، وغدا رهنه فيها وغلق (٢) ، فانفرد أبو المغيرة بذلك الميدان ، واستردّ من سبقه ما فاته منذ زمان ، فلم تذكر له مع أبي عامر حسنة ، ولا سرت له فقرة مستحسنة ، لتعذر ذلك وامتناعه ، بشفوف أبي عامر وامتداد باعه ، وأمّا شعر أبي المغيرة فمرتبط بنثره ، ومختلط زهره بدرّه ، وقد أثبتّ له منها فنونا ، تجنّ بها الأفهام جنونا ، فمن ذلك قوله : [الكامل]
ظعنت وفي أحداجها من شكلها |
|
عين فضحن بحسنهنّ العينا |
ما أنصفت في جنب توضح إذ قرت |
|
ضيف الوداد بلابلا وشجونا |
أضحى الغرام قطين ربع فؤاده |
|
إذ لم يجد بالرّقمتين قطينا |
وله : [المنسرح]
لمّا رأيت الهلال منطويا |
|
في غرّة الفجر قارن الزّهره |
شبّهته والعيان يشهد لي |
|
بصولجان انثنى لضرب كره(٣) |
وأبو عامر بن شهيد المذكور قال في حقّه ما صورته (٤) :
الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد الأشجعي ، عالم بأقسام البلاغة ومعانيها ، حائز قصب السبق فيها ، لا يشبهه أحد من أهل زمانه ، ولا ينسق ما نسق من درّ البيان وجمانه ، توغل في شعاب البلاغة وطرقها ، وأخذ على متعاطيها ما بين مغربها ومشرقها ، لا يقاومه عمرو بن بحر (٥) ، ولا تراه يغترف إلا من بحر ، مع انطباع ، مشى في طريقه بأمدّ باع ، وله الحسب المشهور ، والمكان الذي لم يعده ظهور (٦) ، وهو من ولد الوضاح ، المتقلد تلك المفاخر والأوضاح ، والضحاك صاحب يوم المرج (٧) ، وراكب ذلك الهرج ، وأبو عامر حفيده هذا من ذلك النسب ، ونبع لا يراش إلا من ذلك الغرب ، وقد أثبتّ له ما هو بالسحر لا حق ، ولنور المحاسن ما حق ، فمن ذلك قوله : [البسيط]
إنّ الكريم إذا نابته مخمصة |
|
أبدى إلى النّاس ريّا وهو ظمآن(٨) |
__________________
(١) مالك وعقيل : هما نديما جذيمة الأبرش.
(٢) في ب : فيها قد غلق.
(٣) في ب : بصولجان أوفى.
(٤) المطمح ص ١٩.
(٥) عمرو بن بحر : هو أبو عثمان الجاحظ.
(٦) لم يعده : لم يتجاوزن. وفي ب : للظهور.
(٧) في ب : وصاحب الضحاك يوم المرج.
(٨) المخصمة : خلو البطن من الطعام ، المجاعة.
يحني الضّلوع على مثل اللّظى حرقا |
|
والوجه غمر بماء البشر ريّان(١) |
وهو مأخوذ من قول الرضي : [الكامل]
ما إن رأيت كمعشر صبروا |
|
عزّا على الأزلات والأزم |
بسطوا الوجوه وبين أضلعهم |
|
حرّ الجوى ومآلم الكلم |
وله أيضا : [البسيط]
كلفت بالحبّ حتّى لو دنا أجلي |
|
لما وجدت لطعم الموت من ألم |
كلا النّدى والهوى قدما ولعت به |
|
ويلي من الحبّ أو ويلي من الكرم |
وأخبرني الوزير أبو الحسين (٢) بن سراج ـ وهو بمنزل ابن شهيد ـ وكان من البلاغة في مدى غاية البيان ، ومن الفصاحة في أعلى مراتب التبيان ، وكنا نحضر مجلس شرابه ، ولا نغيب عن بابه ، وكان له بباب الصّومعة من الجامع موضع لا يفارقه أكثر نهاره ، ولا يخليه من نثر درره وأزهاره ، فقعد في ليلة ٢٧ من رمضان في لمة من إخوانه (٣) ، وأئمة سلوانه ، وقد حفّوا به ليقطفوا نخب أدبه ، وهو يخلط لهم الجدّ بهزل ، ولا يفرط في انبساط مشتهر ولا انقباض جزل ، وإذا بجارية من أعيان أهل قرطبة معها من جواريها ، من يسترها ويواريها ، وهي ترتاد موضعا لمناجاة ربها ، وتبتغي منزلا لاستغفار ذنبها ، وهي متنقبة ، خائفة ممن يرقبها مترقبة ، وأمامها طفل لها كأنه غصن آس ، أو ظبي يمرح في كناس ، فلما وقعت عينها على أبي عامر ولّت سريعة ، وتولت مروعة ، خيفة أن يشبب بها (٤) ، أو يشهرها باسمها ، فلما نظرها قال قولا فضحها به وشهرها (٥) : [المتقارب]
وناظرة تحت طيّ القناع |
|
دعاها إلى الله بالخير داعي |
سعت خفية تبتغي منزلا |
|
لوصل التبتّل والانقطاع |
فجاءت تهادى كمثل الرّؤوم |
|
تراعي غزالا بروض اليفاع |
وجالت بموضعنا جولة |
|
فحلّ الرّبيع بتلك البقاع |
أتتنا تبختر في مشيها |
|
فحلّت بواد كثير السّباع |
وريعت حذارا على طفلها |
|
فناديت يا هذه لا تراعي |
__________________
(١) اللظى : لهب النار.
(٢) ديوان الرضي : ج ٢ ص ٤٢٢.
(٣) اللمة : الجماعة.
(٤) يشبب بها : يتغزل.
(٥) ديوان ابن شهيد ص ٩٤.
غزالك تفرق منه اللّيوث |
|
وتفزع منه كماة المصاع(١) |
فولّت وللمسك في ذيلها |
|
على الأرض خطّ كظهر الشّجاع(٢) |
انتهى المقصود منه.
رجع ـ ومما ينخرط في سلك أخبار الزهراء ما حكاه الفتح في ترجمة المعتمد بن عباد إذ قال (٣) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين (٤) بن سراج أنه حضر مع الوزراء والكتاب بالزهراء في يوم قد غفل عنه الدهر فلم يرمقه بطرف ، ولم يطرقه بصرف ، أرّخت به المسرات عهدها ، وأبرزت له الأماني خدّها ونهدها (٥) وأرشفت فيه لماها ، وأباحت للزائرين حماها ، وما زالوا ينتقلون (٦) من قصر إلى قصر ، ويبتذلون الغصون بجنى وهصر ، ويتوقّلون في تلك الغرفات ، ويتعاطون الكؤوس بين تلك الشّرفات ، حتى استقروا بالروض من بعد ما قضوا من تلك الآثار أوطارا ، ووفروا بالاعتبار (٧) قطارا ، فحلوا منها في درانك ربيع مفوّفة بالأزهار ، مطرّزة بالجداول والأنهار ، والغصون تختال في أدواحها ، وتتثنى في أكف أرواحها ، وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها ، وانقراض أترابها (٨) وأطرابها ، والوهى بمشيدها لاعب ، وعلى كل جدار غراب ناعب ، وقد محت الحوادث ضياءها ، وقلصت ظلالها وأفياءها ، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت ، وفاحت من شذاهم وتأرّجت (٩) ، أيام نزلوا خلالها ، وتفيؤوا ظلالها ، وعمروا حدائقها وجنّاتها ، ونبهوا الآمال من سناتها (١٠) ، وراعوا الليوث في آجامها ، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها ، فأضحت ولها بالتداعي تلفّع واعتجار ، ولم يبق من آثارها إلا نؤي وأحجار ، قد وهت قبابها ، وهرم شبابها ، وقد يلين الحديد ، ويبلى ، على طيه الجديد ، فبينما هم يتعاطونها صغارا وكبارا ،
__________________
(١) في ه : وتنصاع منه كماة المصاع. وتفرق : تخاف. والليوث : الأسود. والمصاع : المضاربة بالسيوف.
(٢) الشجاع : نوع من الحيات.
(٣) قلائد العقيان ص ١٠.
(٤) في قلائد : أبو الحسن بن سراج.
(٥) ونهدها : غير موجودة في ب.
(٦) في ب : وما زالوا ينقلون.
(٧) في ب : وأوقروا بالاعتبار.
(٨) أترابها و : غير موجودة في ب.
(٩) في ب ، ه : وأرجت.
(١٠) السنات : جمع سنة ، بكسر السين وفتح النون : أول النوم.
ويديرونها أنسا واعتبارا ، إذا برسول المعتمد قد وافاهم برقعة فيها (١) : [الخفيف]
حسد القصر فيكم الزّهراء |
|
ولعمري وعمركم ما أساء |
قد طلعتم بها شموسا صباحا |
|
فاطلعوا عندنا بدورا مساء |
فساروا إلى قصر البستان بباب العطارين فألفوا مجلسا قد حار فيه الوصف ، واحتشد فيه اللهو والقصف ، وتوقدت نجوم مدامه ، وتأوّدت قدود خدّامه ، وأربى على الخورنق والسدير ، وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير ، فأقاموا ليلتهم (٢) ما عراهم نوم ، ولا عداهم عن طيب اللذات سوم ، وكانت قرطبة منتهى أمله ، وكان روم أمرها أشهى عمله ، وما زال يخطبها بمداخلة أهليها ، ومواصلة واليها ، إذ لم يكن في منازلتها قائد ، ولم يكن لها إلا حيل ومكايد ، لاستمساكهم بدعوة خلفائها ، وأنفتهم من طموس رسوم الخلافة وعفائها ، وحين اتفق له تملكها ، وأطلعه فلكها ، وحصل في قطب دائرتها ، ووصل إلى تدبير رياستها وإدارتها ، قال (٣): [البسيط]
من للملوك بشأو الأصيد البطل؟ |
|
هيهات جاءتكم مهديّة الدّول |
خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت |
|
من جاء يخطبها بالبيض والأسل |
وكم غدت عاطلا حتّى عرضت لها |
|
فأصبحت في سريّ الحلي والحلل |
عرس الملوك لنا في قصرها عرس |
|
كلّ الملوك بها في مأتم الوجل |
فراقبوا عن قريب لا أبا لكم |
|
هجوم ليث بدرع البأس مشتمل |
ولما انتظمت في سلكه ، واتّسمت بملكه ، أعطى ابنه الظافر زمامها ، وولاه نقضها وإبرامها ، فأفاض فيها نداه ، وزاد على أمده ومداه ، وجملها بكثرة حبائه ، واستقل بأعبائها على فتائه ، ولم يزل فيها آمرا وناهيا ، غافلا عن المكر ساهيا ، حسن ظن بأهلها اعتقده ، واغترارا بهم ما رواه ولا انتقده ، وهيهات كم من ملك كفّنوه في دمائه ، ودفنوه بذمائه ، وكم من عرش ثلّوه ، وكم من عزيز ملك أذلوه ، إلى أن ثار فيها ابن عكّاشة ليلا ، وجر إليها حربا وويلا ، فبرز الظافر منفردا عن كماته ، عاريا من حماته ، وسيفه في يمينه ، وهاديه في الظلماء نور جبينه ، فإنه كان غلاما قد بلله (٤) الشباب بأندائه ، وألحفه الحسن بردائه ، فدافعهم أكثر ليله ، وقد منع منه
__________________
(١) في ب : تلفع واعتجار.
(٢) هكذا في ب وفي القلائد. وفي ه : ليلهم.
(٣) ديوان المعتمد بن عباد ص ٦٥.
(٤) في ب ، ه : كما بلّله.
تلاحق رجله وخيله ، حتى أمكنتهم منه عثرة لم يقل لها لعا ، ولا استقال (١) منها ولا سعى ، فترك ملتحفا في الظلماء (٢) ، تحت نجوم السماء (٣) ، معفرا في وسط أكماء (٤) ، تحرسه الكواكب ، بعد المواكب ، ويستره الحندس (٥) ، بعد السندس (٦) ، فمر بمصرعه سحرا أحد أئمة الجامع المغلّسين ، فرآه وقد ذهب ما كان عليه ومضى ، وهو أعرى من الحسام المنتضى ، فخلع رداءه عن منكبيه ونضاه ، وستره به سترا أقنع المجد به وأرضاه ، وأصبح لا يعلم رب تلك الصنيعة ، ولا يعرف فتشكر له يده الرفيعة ، فكان المعتمد إذا تذكر صرعته ، وسعّر الحزن لوعته ، رفع بالعويل نداءه ، وأنشد «ولم أدر من ألقى عليه رداءه» (٧) ، ولما كان من الغد حزّ رأسه ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم ، ويرشق نفس كل ناظر بألم ، فلما رمقته الأبصار ، وتحققته الحماة والأنصار ، رموا أسلحتهم ، وسوّوا للفرار أجنحتهم ، فمنهم من اختار فراره وجلاه ، ومنهم من أتت به إلى حينه رجلاه ، وشغل المعتمد عن رثائه بطلب ثاره ، ونصب الحبائل لوقوع ابن عكاشة وعثاره ، وعدل عن تأبينه ، إلى البحث عن مفرقه وجبينه ، فلم تحفظ له فيه قافية ، ولا كلمة للوعته شافية ، إلا إشارته إليه ، في تأبين أخويه ، المأمون والراضي المقتولين في أول النائرة (٨) ، والفتنة الثائرة ، انتهى.
وقد رأيت أن أزيد على ما تقدم ـ مما قصدت جلبه في هذا الموضع ـ نبذة من كلام الفتح في ذكر منتزهات قرطبة وغيرها من بلاد الأندلس ووصف مجالس الأنس التي كانت بها مما تنشرح له الأنفس ، ووقع ذكر غير قرطبة والزهراء لهما تبعا ، ولا يخلو ذلك من عبرة بحال من جعل في اللهو مصيفا ومرتبعا ، ثم طواه الدهر طيّ السجل ، ومحا آثاره التي كانت تسمو وتجلّ ، وما قصدنا علم الله غير الاعتبار ، بهذه الأخبار ، لا الحث على الحرام ، وتسهيل القصد إليه والمرام ، والأعمال بالنيات ، والله سبحانه كفيل بفضله وكرمه ببلوغ الأمنيات ، وتعويضنا عن هذه النعم الفانيات ، بالنعم الباقيات السنيّات.
__________________
(١) في ب ، ه : ولا استقل منها.
(٢) في ب ، ه : ملتحفا بالظلما.
(٣) في ب ، ه : السما.
(٤) في ب ، ه : في وسط الحمى.
(٥) الحندس : الظلام الشديد.
(٦) السندس : نوع من رقيق الحرير.
(٧) هذا صدر بين لأبي خراش الهذلي ، وهو :
ولم أدر من ألقى عليه رداءه |
|
سوى أنه قد سلّ عن ماجد محض |
(٨) النائرة : العداوة الشديدة.
قال الفتح رحمه الله تعالى في ترجمة الوزير أبي الوليد بن زيدون ، ما صورته (١) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين (٢) بن سراج رحمه الله تعالى أنه في وقت فراره أضحى ، غداة الأضحى ، وقد ثار به الوجد بمن كان يألفه والغرام ، وتراءت لعينيه تلك الظّباء الأوانس والآرام ، وقد كان الفطر وافاه ، والشقاء قد استولى على رسم عافيته حتى أعفاه (٣) ، فلما عاده منهما ما عاد ، وأعياه ذلك النكد المعاد ، استراح إلى ذكر عهده الحسن ، وأراح جفونه المسهّدة بتوهم ذلك الوسن ، وذكر معاهد كان يخرج إليها في العيد ، ويتفرج بها مع أولئك الغيد ، فقال (٤) : [الطويل]
خليليّ لا فطر يسرّ ولا أضحى |
|
فما حال من أمسى مشوقا كما أضحى |
لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل |
|
أخصّ بممحوض الهوى ذلك السّفحا(٥) |
وما انفكّ جوفيّ الرّصافة مشعري |
|
دواعي بثّ يعقب الأسف البرحا |
ويهتاج قصر الفارسيّ صبابة |
|
لقلبي لا يألو زناد الأسى قدحا |
وليس ذميما عهد محبس ناصح |
|
فأقبل في فرط الولوع به نصحا(٦) |
كأنّي لم أشهد لدى عين شهدة |
|
نزال عتاب كان آخره الفتحا |
وقائع جانيها التّجنّي فإن مشى |
|
سفير خضوع بيننا أكّد الصّلحا |
وأيّام وصل بالعقيق اقتضيته |
|
فإن لم يكن ميعاده العيد فالفصحا |
وآصال لهو في مسنّاة مالك |
|
معاطاة ندمان إذا شئت أو سبحا |
لدى راكد تصبيك من صفحاته |
|
قوارير خضر خلتها مرّدت صرحا |
معاهد لذّات وأوطان صبوة |
|
أجلت المعلّى في الأماني بها قدحا |
ألا هل إلى الزّهراء أوبة نازح |
|
تقضّى تنائيها مدامعه نزحا |
مقاصير ملك أشرقت جنباتها |
|
فخلنا العشايا الجون أثناءها صبحا |
يمثّل قرطيها لي الوهم جهرة |
|
فقبّتها فالكوكب الرّحب فالسّطحا (٧) |
__________________
(١) قلائد العقيان ص ٧٢.
(٢) في ج : أبو الحسن.
(٣) في ب ، ه : حتى عفاه.
(٤) ديوان ابن زيدون ، طبعة صادر ص ٢١.
(٥) العقاب : اسم مكان في قرطبة. وممحوض الهوى : خالصه وصافيه.
(٦) في ب : عهد مجلس.
(٧) في ب : الوهم جمرة .. فالكوكب الجون ..
محلّ ارتياح يذكر الخلد طيبه |
|
إذا عزّ أن يصدى الفتى فيه أو يضحى(١) |
هناك الجمام الزّرق تندى حفافها |
|
ظلال عهدت الدّهر فيها فتى سمحا(٢) |
تعوّضت من شدو القيان خلالها |
|
صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا |
ومن حملي الكأس المفدّى مديرها |
|
تقحّم أهوال حملت لها الرّمحا |
أجل إنّ ليلي فوق شاطىء بيطة |
|
لأقصر من ليلي بآنة فالبطحا(٣) |
وهذه معاهد بني أمية قطعوا بها ليالي وأياما ، وظلت فيها الحوادث عنهم نياما ، فهاموا بشرق العقاب ، وشاموا به برقا يبدو من نقاب ، ونعموا بجوفيّ الرّصافة ، وطمعوا عيشا تولى الدهر جلاءه وزفافه ، وأبعدوا نصح الناصح ، وحمدوا أنس محبس (٤) ناصح ، وعموا بالزهراء ، وصمّوا عن نبأ صاحب الزوراء ، حتى رحلهم الموت عنها وقوّضهم ، وعوّضهم منها ما عوّضهم ، فصاروا أحاديث وأنباء ، ولم يتزودوا منها إلا حنوطا وكباء ، وغدت تلك المعاهد تصافحها أيدي الغير ، وتناوحها نعبات الطير ، وراحت بعد الزينة سدى ، وأمست مسرحا للبوم وملعبا للصّدى ، يسمع للجنّ بها عزيف ، ويصرع فيها البطل الباسل والنزيف ، وكذا الدنيا أعمالها خراب ، ومآلها آل وسراب (٥) ، أهلكت أصحاب الأخدود ، وأذهبت ما كان بمأرب من حيازات وحدود ، انتهى.
وقال الفتح بعد كلام ما صورته : ولما عضّته أنياب الاعتقال ، ورضّته تلك النوب الثقال ، وعوّض بخشانة العيش من اللين ، وكابد قسوة خطب لا تلين ، تذكر عهد عيشه الرقيق ، ومرحه بين الرّصافة والعقيق ، وحنّ إلى سعد زرّت عليه جيوبه ، واستهدى نسيم عيش طاب له هبوبه ، وتأسّى بمن باتت له النوائب بمرصاد ، ورمته بسهام ذات إقصاد وضيم من عهد الأحصّ إلى ذات الإصاد (٦) فقال (٧) : [الخفيف]
__________________
(١) يصدى : يعطش. يضحى : يتعرض لحر الشمس.
(٢) الجمام : جمع جمة ؛ وهي مكان اجتماع الماء.
(٣) في الديوان : شاطىء نيطة.
(٤) في ب : مجلس ناصح.
(٥) في ب ، ه : وآمالها. والآل ، والسراب بمعنى واحد ، وهو ما يحسبه الإنسان في الصحراء ماء ، وإنما هو انعكاس أشعة الشمس على الرمال.
(٦) الأحص : مكان بنجد كان يحميه كليب وائل. وذات الإصاد : من بلاد فزارة والذي ضيم في الأحص. وذات الإصاد بنو مرة ، ثم ثأروا بقتل كليب.
(٧) ديوان ابن زيدون ص ١٢٣.
الهوى في طلوع تلك النّجوم |
|
والمنى في هبوب ذاك النّسيم |
سرّنا عيشنا الرّقيق الحواشي |
|
لو يدوم السّرور للمستديم |
وطر ما انقضى إلى أن تقضّى |
|
زمن ما ذمامه بالذّميم |
أيّها المؤذني بظلم اللّيالي |
|
ليس يومي بواجد من ظلوم(١) |
ما ترى البدر إن تأمّلت والشّم |
|
مس هما يكسفان دون النّجوم |
وهو الدّهر ليس ينفكّ ينحو |
|
بالمصاب العظيم نحو العظيم |
وقال الفتح أيضا في شأن ابن زيدون ، ما صورته (٢) :
ولما تعذر انفكاكه ، وعفّر فرقده وسماكه ، وعاودته الأوهام والفكر ، وخانه من أبي الحزم الصارم الذكر ، قال يصف ما بين مسرّاته وكروبه ، ويذكر بعد طلوع سعده (٣) من غروبه ، ويبكي لما هو فيه من التعذير ، ويعذر أبا الحزم وليس له غيره من عذير ، ويتعزى بإخناء (٤) الدهر على الأحرار ، وإلحاحه على التمام بالسّرار ، ويخاطب ولّادة بوفاء عهده ، ويقيم لها البراهين على أرقه وسهده (٥) : [البسيط]
ما جال بعدك لحظي في سنا القمر |
|
إلّا ذكرتك ذكر العين بالأثر |
ولا استطلت ذماء اللّيل من أسف |
|
إلّا على ليلة سرّت مع القصر |
في نشوة من سنات الدّهر موهمة |
|
أن لا مسافة بين الوهن والسّحر(٦) |
يا ليت ذاك السّواد الجون متّصل |
|
قد استعار سواد القلب والبصر |
يا للرّزايا لقد شافهت منهلها |
|
غمرا فما أشرب المكروه بالغمر |
لا يهنأ الشّامت المرتاح خاطره |
|
أنّي معنّى الأماني ضائع الخطر |
هل الرّياح بنجم الأرض عاصفة |
|
أم الكسوف لغير الشّمس والقمر |
إن طال في السّجن إيداعي فلا عجب |
|
قد يودع الجفن حدّ الصّارم الذّكر |
وإن يثبّط أبا الحزم الرّضا قدر |
|
عن كشف ضرّي فلا عتب على القدر |
__________________
(١) في ب : بواحد من ظلوم.
(٢) القلائد : ٧٦.
(٣) في ب : طلوع أمله.
(٤) في ب ، ه : بإنحاء الدهر.
(٥) ديوان ابن زيدون ص ١٤٧.
(٦) في ب : في نشوة من شباب الوصل من أسف.
من لم أزل من تدانيه على ثقة |
|
ولم أبت من تجنّيه على حذر(١) |
وله يتغزل ، ويعاتب من يستعطفه ويتنزل (٢) : [خلع البسيط]
يا مستخفّا بعاشقيه |
|
ومستغشّا لناصحيه |
ومن أطاع الوشاة فينا |
|
حتّى أطعنا السّلوّ فيه |
الحمد لله إذ أراني |
|
تكذيب ما كنت تدّعيه |
من قبل أن يهزم التّسلّي |
|
ويغلب الشّوق ما يليه |
وما أحسن قول ابن زيدون المذكور في قصيدته النونية الشهيرة (٣) : [البسيط]
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا |
|
بأن نغضّ فقال الدّهر آمينا |
ومن أغرب ما وقفت عليه موشّحة لابن الوكيل دخل فيها على أعجاز نونية ابن زيدون ، وهي :
غدا منادينا محكّما فينا |
|
يقضي علينا الأسى لو لا تأسّينا |
بحر الهوى يغرق |
|
من فيه جهده عام |
وناره تحرق |
|
من همّ أو قد هام |
وربّما يقلق |
|
فتى عليه نام |
قد غيّر الأجسام ، وصيّر الأيّام |
|
سودا وكانت بكم بيضا ليالينا |
يا صاحب النّجوى |
|
قف واستمع منّي |
إيّاك أن تهوى |
|
إنّ الهوى يضني |
لا تقرب البلوى |
|
اسمع وقل عنّى |
بحاره مرّه ، خضنا على غرّه |
|
حينا فقام بها للنّعي ناعينا |
من هام بالغيد |
|
لاقى بهم همّا |
بذلت مجهودي |
|
لأحور ألمى |
يهمّ بالجود |
|
وردّ ما همّا |
__________________
(١) في ب ، ه ، والديوان : من لم أزل من تأنيه على ثقة.
(٢) ديوان ابن زيدون ص ٥٣.
(٣) ديوان ابن زيدون ص ٩.
وعند ما قد جاد ، بالوصل أو قد كاد |
|
أضحى التّنائي بديلا من تدانينا |
بحقّ ما بيني |
|
وبينكم إلّا |
أقررتم عيني |
|
فتجمعوا الشملا |
فالعين بالبين |
|
بفقدكم أبلى |
جديد ما قد كان ، بالأهل والإخوان |
|
ومورد اللهو صاف من تصافينا |
يا جيرة بانت |
|
عن مغرم صبّ(١) |
لعهده خانت |
|
من غير ما ذنب |
ما هكذا كانت |
|
عوائد العرب |
لا تحسبوا البعدا ، يغيّر العهدا |
|
إذ طالما غيّر النّأي المحبّينا |
يا نازلا بالبان |
|
بالشّفع والوتر |
والنّمل والفرقان |
|
واللّيل إذا يسر(٢) |
وسورة الرّحمن |
|
والنّحل والحجر |
هل حلّ في الأديان ، أن يقتل الظّمآن |
|
من كان صرف الهوى والودّ يسقينا |
يا سائل القطر |
|
عرّج على الوادي |
من ساكني بدر |
|
وقف بهم نادي |
عسى صبا تسري |
|
لمغرم صادي |
إن شئت تحيينا بلّغ تحيّتنا |
|
من لو على البعد حيّا كان يحيينا(٣) |
وافت لنا أيّام |
|
كأنّها أعوام |
وكان لي أعوام |
|
كأنّها أيام |
تمرّ كالأحلام |
|
بالوصل لي لو دام |
والكأس مترعة ، حثّت مشعشعة |
|
فينا الشّمول وغنّانا مغنّينا |
رجع إلى ما يتعلق بقرطبة ـ قال الوزير أبو بكر بن القبطرنة ، يخاطب الوزير أبا الحسين بن سراج ، ويذكر لمّة إخوانه بقرطبة : [الكامل]
__________________
(١) بانت : بعدت ونأت.
(٢) في ب : والليل أذا يسر (بوصل همزة إذا).
(٣) في ب : بلغ تحيّينا.
يا سيّدي وأبي هدى وجلالة |
|
ورسول ودّي إن طلبت رسولا(١) |
عرّج بقرطبة ولذ إن جئتها |
|
بأبي الحسين وناده تعويلا(٢) |
فإذا سعدت بنظرة من وجهه |
|
فاهد السّلام لكفّه تقبيلا |
واذكر له شكري وشوقي مجملا |
|
ولو استطعت سردته تفصيلا(٣) |
بتحيّة تهدى إليه كأنّما |
|
جرّت على زهر الرّياض ذيولا |
وأشمّ منها المصحفيّ على النّوى |
|
نفسا ينسّي السّوسن المبلولا |
وإلى أبي مروان منه نفحة |
|
تهدي له نور الرّبا مطلولا |
وإذا لقيت الأخطبيّ فسقّه |
|
من صفو ودّي قرقفا وشمولا(٤) |
وأبو عليّ سقّ منها ربعه |
|
مسكا بماء غمامة محلولا(٥) |
واذكر لهم زمنا يهب نسيمه |
|
أصلا كنفث الرّاقيات عليلا(٦) |
مولى ومولي نعمة وكرامة |
|
وأخا إخاء مخلصا وخليلا |
بالحير ما عبست هناك غمامة |
|
إلا تضاحك إذخرا وجليلا |
يوما وليلا كان ذلك كلّه |
|
سحرا وهذا بكرة وأصيلا |
لا أدركت تلك الأهلّة دهرها |
|
نقصا ولا تلك النّجوم أفولا |
قال أبو نصر : الحير (٧) الذي ذكره هنا هو حير الزّجّالي خارج باب اليهود بقرطبة الذي يقول فيه أبو عامر بن شهيد :
لقد أطلعوا عند باب اليهو |
|
د شمسا أبى الحسن أن تكسفا |
تراه اليهود على بابها |
|
أميرا فتحسبه يوسفا |
وهذا الحير من أبدع المواضع وأجملها ، وأتمها حسنا وأكملها ، صحنه مرمر صافي
__________________
(١) في ب : يا سيدي وأبي هوى.
(٢) في ب : وناده تمويلا.
(٣) في ب : شرحته تفصيلا.
(٤) القرقف والشمول : الخمر.
(٥) القلائد : وأبا علي روّ.
(٦) الأصل ، بضمتين : جمع أصيل ، وهو وقت اصفرار الشمس عند الغروب.
(٧) الحير ، بفتح فسكون ؛ في الأصل : مجتمع الماء ، وهنا : البستان.
البياض ، يخترقه جدول كالحية النّضناض ، به جابية ، كل لجة بها (١) كابية ، قد قربصت بالذهب واللازورد سماؤه ، وتأزّرت بهما جوانبه وأرجاؤه ، والروض قد اعتدلت أسطاره ، وابتسمت من كمائمها أزهاره ، ومنع الشمس أن ترمق ثراه ، وتعطّر النسيم بهبوبه عليه ومسراه ، شهدت به (٢) ليالي وأيّاما كأنما تصورت من لمحات الأحباب ، أو قدّت من صفحات أيام الشباب ، وكانت لأبي عامر بن شهيد به فرج وراحات ، أعطاه فيها الدهر ما شاء ، ووالى عليه الصحو والانتشاء ، وكان هو وصاحب الروض المدفون بإزائه أليفي صبوة ، وحليفي نشوة ، عكفا فيه على جريالها (٣) ، وتصرفا بين زهوهما واختيالهما ، حتى ردّاهما الردى ، وعداهما الحمام عن ذلك المدى ، فتجاورا في الممات ، تجاورهما في الحياة ، وتقلصت عنهما وارفات تلك الفيات (٤) ، وإلى ذلك العهد أشار ابن شهيد وبه عرّض ، وبشوقه صحح وما مرض ، حيث يقول عند موته يخاطب أبا مروان صاحبه وأمر أن يدفن بإزائه ويكتب على قبره : [البسيط]
يا صاحبي قم فقد أطلنا |
|
أنحن طول المدى هجود؟(٥) |
فقال لي : لن نقوم منها |
|
ما دام من فوقنا الصّعيد |
تذكر كم ليلة نعمنا |
|
في ظلّها والزّمان عيد |
وكم سرورا همى علينا |
|
سحابه ثرّة تجود؟(٦) |
فخيره مسرعا تقضّى |
|
وشؤمه حاضر عتيد(٧) |
حصّله كاتب حفيظ |
|
وضمّه صادق شهيد |
يا ويلنا إن تنكّبتنا |
|
رحمة من بطشه شديد |
يا ربّ عفوا فأنت مولى |
|
قصّر في أمرك العبيد |
انتهى.
ثم قال بعد كلام : وركب أبو الحسن بن القبطرنة إلى سوق الدواب بقرطبة ومعه أبو الحسين بن سراج ، فنظر إلى أبي الحكم بن حزم غلاما كما عقّ تمائمه (٨) ، وهو يروق كأنه
__________________
(١) النضناض : الحية التي لا تستقر مكانها. والجابية : الحوض الضخم يجمع فيه الماء.
(٢) في ب : شهدت له.
(٣) الجريال : الخمر.
(٤) في ب : الفيئات.
(٥) ديوان ابن شهيد ص ١٥٣.
(٦) في ب : كم سرور.
(٧) في ب : كلّ كأن لم يكن تقضى.
(٨) عق تمائمه : أي جاوز حد الطفولة.
زهر فارق كمائمه ، فسأل أبا الحسين بن سراج أن يقول فيه ، فأرتج عليه (١) ، فثنى عنان القول إليه ، فقال : [الطويل]
رأى صاحبي عمرا فكلّف وصفه |
|
وحمّلني من ذاك ما ليس في الطّوق |
فقلت له : عمرو كعمرو ، فقال لي : |
|
صدقت ولكن ذاك شبّ على الطّوق(٢) |
وكان بنو القبطرنة بالأندلس أشهر من نار على علم ، وقد تصرفوا في البراعة والقلم ، ولهم الوزارة المذكورة ، والفضائل المشكورة ، ولذا قال أبو نصر في حقهم ما صورته (٣) :
هم للمجد كالأثافي ، وما منهم إلا موفور القوادم والخوافي ، إن ظهروا ، زهروا ، وإن تجمّعوا ، تضوّعوا ، وإن نطقوا ، صدقوا ، ماؤهم صفو ، وكل واحد منهم لصاحبه كفو ، أنارت بهم نجوم المعالي وشموسها ، ودانت لهم أرواحها ونفوسها ، ولهم النظام الصافي الزجاجة ، المضمحل العجاجة ، انتهى.
ثم قال : وبات منهم أبو محمد مع أخويه في أيام صباه ، واستطابته (٤) جنوب الشّباب وصباه ، بالمنية المسماة بالبديع ، وهو روض كان المتوكل يكلف بموافاته ، ويبتهج بحسن صفاته ، ويقطف رياحينه وزهره ، ويقف عليه إغفاءه وسهره ، ويستفزه الطرب متى ذكره ، وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره ، ويدير حميّاه على ضفة نهره ، ويخلع سره فيه لطاعة جهره ، ومعه أخواه فطاردوا اللذات حتى أنضوها ، ولبسوا برود السرور وما نضوها ، حتى صرعتهم العقار ، وطلّحتهم تلك الأوقار ، فلما همّ رداء الفجر أن يندى ، وجبين الصبح أن يتبدّى ، قام الوزير أبو محمد فقال : [الخفيف]
يا شقيقي وافى الصّباح بوجه |
|
ستر اللّيل نوره وبهاؤه |
فاصطبح واغتنم مسرّة يوم |
|
لست تدري بما يجيء مساؤه |
ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال : [الخفيف]
يا أخي قم تر النّسيم عليلا |
|
باكر الرّوض والمدام شمولا |
لا تنم واغتنم مسرّة يوم |
|
إنّ تحت التّراب نوما طويلا |
في رياض تعانق الزّهر فيها |
|
مثل ما عانق الخليل الخليلا |
__________________
(١) ارتج عليه : استغلق عليه الكلام.
(٢) في ج : ولكن ذا أشب على الطوق.
(٣) القلائد : ص ١٤٨.
(٤) في ب ، ج ، ه : واستطابة جنوب الشباب.
ثم استيقظ أخوهما أبو الحسن ، وقد هبّ من غفلة الوسن (١) ، فقال : [البسيط]
يا صاحبيّ ذرا لومي ومعتبتي |
|
قم نصطبح خمرة من خير ما ذخروا |
وبادرا غفلة الأيّام واغتنما |
|
فاليوم خمر ويبدو في غد خبر(٢) |
وساق صاحب البدائع هذه القصة فقال : وذكر الفتح ما هذا معناه أنه خرج الوزراء بنو القبطرنة إلى المنية المسماة بالبديع ، وهو روض قد اخضرّت مسارح نباته ، واخضلّت مساري هبّاته ، ودمعت بالطلّ عيون أزهاره ، وذاب على زبرجده بلّور أنهاره ، وتجمعت فيها المحاسن المتفرّقة ، وأضحت مقل الحوادث عنه مطرقة ، فخيول النسيم تركض في ميادينه فلا تكبو ، ونصول السواقي تحسم أدواء الشجر فلا تنبو ، والزروع قد نقّبت وجه الثرى ، وحجبت الأرض عن العيون فما تبصر ولا ترى ، وكان المتوكل بن الأفطس يعده غاية الأرب ، ويعدّه مشهدا للطرب ، ومدفعا للكرب ، فباتوا فيه ليلتهم يديرون لمع لهب يتمنون فيه الخلود ، ويتحسّون (٣) ذوب ذهب لا يصهر به ما في بطونهم والجلود ، حتى تركتهم ابنة الخابية ، كأنهم أعجاز نخل خاوية ، فلما هزم روميّ الصباح زنجيّ الظلام ، ونادى الديك حيّ على المدام ، انتبه كبيرهم أبو محمد مستعجلا ، وأنشد مرتجلا : يا شقيقي ـ إلخ فانتبه أخوه أبو بكر لصوته ، وتخوّف لذهاب ذلك الوقت وفوته ، وأنبه أخاهما أبا الحسن وهو يرتجل : يا أخي قم تر النسيم ـ إلى آخره. فانتبه أخوه لكلامه ، دافعا لذة منامه للذة قيامه ، وارتجل يا صاحبيّ ذرا ـ إلخ ، انتهى.
قال الفتح (٤) : ولما أمر المعتمد بن عباد أبا بكر بن القبطرنة السابق الذكر مع الوزير أبي الحسين بن سراج بلقاء ذي الوزارتين أبي الحسن بن اليسع القائد والمشي إليه ، والنزول عليه ، تنويها بمقدمه (٥) ، وتنبيها على حظوته لديه وتقدمه ، فصارا إلى بابه ، فوجداه مقفرا من حجّابه ، فاستغربا خلوّه من خول ، وظنّ كلّ واحد منهما وتأوّل ، ثم أجمعا على قرع الباب ، ورفع ذلك الارتياب ، فخرج وهو دهش ، وأشار إليهما بالتحية ويده ترتعش ، وأنزلهما خجلا ، ومشى بين أيديهما عجلا ، وأشار إلى شخص فتوارى بالحجاب ، وبارى الريح سرعة في الاحتجاب ، فقعدا ومقلة الخشف (٦) ، ترمق من خلال السّجف (٧) ، فانصرفا عنه ، وعزما أن يكتبا إليه بما فهما منه ، فكتبا إليه : [الهزج]
__________________
(١) الوسن ، بفتح الواو والسين : النوم.
(٢) أخذ هذا من قول امرئ القيس : اليوم خمر وغدا أمر.
(٣) يتحسون : يشربون جرعة بعد جرعة.
(٤) قلائد العقيان : ١٦٨.
(٥) في ب : لمقدمه.
(٦) الخشف ، بكسر فسكون : ولد الظبية.
(٧) السجف : الستر.