نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

من منتشرها كل شعب ، وأشرفوا عند تحقيقها وإبراز دقيقها على كل صعب ، فكانت منهم وقفة كادت لها النفس تيأس عن مطلبها ، والخواطر تكر راجعة عن خفي مذهبها ، حتى أطلع الله خليفته في خلقه ، وأمينه المرتضى لإقامة حقه ، على وجه انقادت فيه تلك الحركات بعد اعتياصها (١) ، وتخلّصت أشكالها عن الاعتراض على أحسن وجوه خرصها ، ألقوا ذلك ـ أيدهم الله بنصره ، وأمدهم بمعونته ويسره! ـ إلى المهندسين والصناع فقبلوه أحسن القبول ، وتصوروه بأذهانهم فرأوه على مطابقة المأمول ، فوقفهم حسن تنبيهه مما جهلوه على طور غريب من موجبات التعظيم ، وعلموا أن الفضل لله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وسيأتي بعد هذا إشارة إلى تفصيل تلك الحركات المستغربة ، والأشكال المونقة المعجبة ، إن شاء الله تعالى.

مما صنع للمصحف العظيم من الأصونة الغريبة ، والأحفظة العجيبة ، أنه كسي كله بصوان واحد من الذهب والفضة ذي صنائع غريبة من ظاهره وباطنه ، لا يشبه بعضها بعضا ، قد أجري فيه من ألوان الزجاح الرومي ما لم يعهد له في العصر الأول مثال ، ولا عمر قبله بشبهه خاطر ولا بال ، وله مفاصل تجتمع إليها أجزاؤه وتلتئم ، وتتناسق عندها عجائبه وتنتظم ، قد أسلست (٢) للتحرك أعطافها ، وأحكم إنشاؤها على البغية وانعطافها ، ونظم على صفحته وجوانبه من فاخر الياقوت ونفيس الدر وعظيم الزمرد ما لم تزل الملوك السالفة والقرون الخالية تتنافس في أفراده وتتوارثه على مرور الزمن وترداده ، وتظنّ العز الأقعس (٣) ، والملك الأنفس ، في ادخاره وإعداده ، وتسمى الواحد منها بعد الواحد بالاسم العلم لشذوذه في صنعه (٤) واتحاده ، فانتظم عليه منها ما شاكله زهر الكواكب في تلألئه (٥) واتقاده ، وأشبهه الروض المزخرف غبّ سماء أقلعت عن إمداده ، وأتى هذا الصّوان الموصوف رائق المنظر ، آخذا بمجامع القلب والبصر ، مستوليا بصورته الغريبة على جميع الصّور ، يدهش العقول بهاء ، ويحير الألباب رواء (٦) ، ويكاد يعشي الناظر (٧) تألّقا وضياء ، فحين تمت خصاله ، واستركبت أوصاله ، وحان ارتباطه بالمصحف العظيم واتصاله ، رأوا ـ أدام الله تأييدهم ، وأعلى كلمتهم!. مما رزقهم الله تعالى من ملاحظة الجهات ، والإشراف على جميع الثنيات ، أن يتلطف في وجه

__________________

(١) اعتياص الأمر : صعوبته وعدم انقياده.

(٢) أسلست قيادها : جعلته سهلا سلسا.

(٣) العز الأقعس : الثابت ، المنيع.

(٤) في ب : في صنفه.

(٥) في ب : تلألؤه.

(٦) الرواء : حسن المنظر.

(٧) يعشي الناظر : يصيبه بالعشاء ، وهو سوء البصر.

١٢١

يكون به هذا الصّوان المذكور طورا متصلا ، وطورا منفصلا ، ويتأتّى به للمصحف الشريف العظيم أن يبرز تارة للخصوص متبذلا وتارة للعموم متجملا ، إذ معارج الناس في الاستبصار تختلف ، وكل له مقام إليه ينتهى وعنده يقف ، فعمل فيه على شاكلة هذا المقصد ، وتلطف في تتميم هذا الغرض المعتمد ، وكسي المصحف العزيز بصوان لطيف من السندس الأخضر ، ذي حلية عظيمة (١) خفيفة تلازمه في المغيب والمحضر ، ورتب ترتيبا يتأتى معه أن يكسى بالصّوان الأكبر ، فيلتئم به التئاما يغطي على العين من هذا الأثر ، وكمل ذلك كله على أجمل الصفات وأحسنها ، وأبدع المذاهب وأتقنها ، وصنع له محمل غريب الصنعة ، بديع الشكل والصبغة (٢) ، ذو مفاصل ينبو عن دقتها الإدراك ، ويشتد (٣) بها الارتباط بين المفصلين ويصح الاشتراك ، مغشّى كله بضروب من الترصيع ، وفنون من النقش البديع ، في قطع من الآبنوس والخشب الرفيع ، لم تعمل قط في زمان من الأزمان ، ولا انتهت قط إلى أيسره نوافذ الأذهان ، مدار بصنعة قد أجريت في صفائح الذهب ، وامتدت امتداد ذوائب الشّهب ، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله عند الانتقال ، ويشاركه في أكثر الأحوال ، مرصّع مثل ترصيعه الغريب ، ومشاكل له في جودة التقسيم وحسن الترتيب ، وصنع لذلك كله تابوت يحتوي عليه احتواء المشكاة على أنوارها ، والصدور على محفوظ أفكارها ، مكعب الشكل سام في الطول حسن الجملة والتفصيل ، بالغ ما شاء من التتميم في أوصاله والتكميل ، جار مجرى المحمل في التزيين والتجميل ، وله في أحد غواربه باب ركبت عليه دفتان قد أحكم ارتتاجهما (٤) ، ويسر بعد الإبهام (٥) انفراجهما ، ولانفتاح هذا الباب وخروج هذا الكرسي من تلقائه ، وتركب المحمل عليه ، ما دبرت الحركات الهندسية ، وتلقيت تلك التنبيهات القدسية ، وانتظمت العجائب المعنوية والحسية ، والتأمت الذخائر النفيسة والنفسية ، وذلك أن بأسفل هاتين الدفّتين فيصلا فيه موضع قد أعدّ له مفتاح لطيف يدخل فيه ، فإذا أدخل ذلك المفتاح فيه وأديرت به اليد انفتح الباب بانعطاف الدفتين إلى داخل الدفتين من تلقائهما ، وخرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته ، وفي خلال خروج الكرسي يتحرك عليه المحمل حركة منتظمة مقترنة بحركته يأتي بها من مؤخر الكرسي زحفا إلى مقدمه ، فإذا كمل الكرسي بالخروج وكمل المحمل بالتقدم

__________________

(١) عظيمة : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : بديع الشكل والصيغة.

(٣) في ب : ويشهد بها الارتباط.

(٤) أرتج يرتج الباب إرتاجا : أغلقه إغلاقا وثيقا. وارتتاج الدفتين : انغلاقهما بإحكام.

(٥) الإبهام : أبهم الباب : أغلقه وسده. أبهم عليه الأمر : لم يجعل له وجها يعرفه.

١٢٢

عليه انغلق الباب برجوع الدّفتين إلى موضعهما من تلقائهما دون أن يمسهما أحد ، وترتبت هذه الحركات الأربع على حركة المفتاح فقط دون تكلف شيء آخر ، فإذا أدير المفتاح إلى خلف الجهة التي أدير إليها أولا انفتح الباب وأخذ الكرسي في الدخول والمحمل في التأخر عن مقدم الكرسي إلى مؤخره ، فإذا عاد كل إلى مكانه انسدّ الباب بالدفتين أيضا من تلقائه ، كل ذلك يترتب على حركة المفتاح ، كالذي كان في حال خروجه ، وصحّت هذه الحركات اللطيفة على أسباب ومسبّبات غائبة عن الحس في باطن الكرسي ، وهي مما يدقّ وصفها ، ويصعب ذكرها ، أظهرتها بركات هذا الأمر السعيد ، وتنبيهات سيدنا ومولانا الخليفة ، أدام الله تعالى أمرهم! وأعز نصرهم!.

وفي خلال الاشتغال بهذه الأعمال التي هي غرر الدهر ، وفرائد العمر ، أمروا. أدام الله تعالى تأييدهم! ـ ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش ـ حرسها الله تعالى! ـ فبدىء ببنائه (١) وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ، وكمل منتصف شعبان المكرم من العام المذكور ، على أكمل الوجوه ، وأغرب الصنائع ، وأفسح المساحة ، وأبعد البناء والنجارة ، وفيه من شمسيات الزجاج ودرجات (٢) المنبر والمقصورة ما لو عمل في السنين العديدة لاستغرب تمامه ، فكيف في هذا الأمد (٣) اليسير الذي لم يتخيل أحد من الصّنّاع أن يتم فيه فضلا عن بنائه؟ وصليت فيه صلاة الجمعة منتصف شعبان المذكور ، ونهضوا ـ أدام الله سبحانه تأييدهم! ـ عقب ذلك لزيادة البقعة المكرمة ، والروضة المعظمة ، بمدينة تينملّل (٤) أدام الله رفعتها ، فأقاموا بها بقية شعبان المكرم ، وأكثر شهر رمضان المعظم ، وحملوا في صحبتهم المصحف العزيز ومعه مصحف الإمام المهديّ المعلوم رضي الله تعالى عنه في التابوت الموصوف ، إذ كان قد صنع له غرفة في أعلاه ، وأحكمت فيه إحكاما كمل به معناه ، واجتمع في مشكاته فعاد النور إلى مبتداه ، وختم القرآن العزيز في مسجد الإمام المعلوم ختمات كادت لا تحصى لكثرتها ، وهنا انتهى ما وجدناه من هذا المكتوب.

ثم قال ابن رشيد ـ بعد إيراد ما تقدّم ـ ما صورته : نجزت الرسالة في المصحف العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، انتهى محل الحاجة منه.

وما أحسن قول الشيخ الإمام أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية يستودع أهل قرطبة : [المنسرح]

__________________

(١) في ب ، ه : ببنيانه.

(٢) في ب ، ه : وحركات المنبر.

(٣) في ب : الأمر اليسير.

(٤) تينملّل : المدينة التي دفن فيها ابن تومرت.

١٢٣

أستودع الله أهل قرطبة

حيث وجدت الحياء والكرما(١)

والجامع الأعظم العتيق ولا

زال مدى الدّهر مأمنا حرما

وقال أبو الربيع بن سالم : حدثني بذلك أبو الحسن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري (٢) قال: أنشدني أبو محمد بن عطية لنفسه ، فذكرهما بعد أن قال : إنه لما أزمع القاضي أبو محمد بن عطية الارتحال عن قرطبة قصد المسجد الجامع وأنشدني (٣) البيتين ، انتهى.

وقال ابن عطية أيضا رحمه الله تعالى : [البسيط]

بأربع فاقت الأمصار قرطبة

وهنّ قنطرة الوادي وجامعها

هاتان ثنتان ، والزّهراء ثالثة ،

والعلم أكبر شيء وهو رابعها

وقد تقدم إنشادنا لهذين البيتين من غير نسبتهما لأحد (٤).

ومما يدخل في أخبار الزاهرة من غير ما قدمناه ما حكاه عن نفسه الوزير الكاتب أبو المغيرة بن حزم قال : نادمت يوما المنصور بن أبي عامر في منية السرور بالزاهرة ذات الحسن النضير ، وهي جامعة بين روضة وغدير ، فلما تضمخ النهار بزعفران العشي ، ورفرف غراب الليل الدّجوجيّ ، وأسبل الليل جنحه ، وتقلد السّماك رمحه ، وهمّ النسر بالطيران ، وعام في الأفق زورق الزّبرقان (٥) ، أوقدنا مصابيح الراح ، واشتملنا ملاء الارتياح ، وللدّجن فوقنا رواق مضروب ، فغنتنا عند ذلك جارية تسمى أنس القلوب وقالت (٦). [الخفيف]

قدم اللّيل عند سير النّهار

وبدا البدر مثل نصف السّوار

فكأنّ النّهار صفحة خدّ

وكأنّ الظّلام خطّ عذار

وكأنّ الكؤوس جامد ماء

وكأنّ المدام ذائب نار

نظري قد جنى عليّ ذنوبا

كيف ممّا جنته عيني اعتذاري؟

يا لقومي تعجّبوا من غزال

جائر في محبّتي وهو جاري

__________________

(١) في ب ، ه : حيث عهدت الحياء والكرما.

(٢) هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري ، كان قاضي استجة توفي سنة ٥٨٥ (التكملة رقم ١٦١٩).

(٣) في ب : وأنشد البيتين.

(٤) في ب : نسبة لأحد.

(٥) الزبرقان : البدر.

(٦) وقالت : غير موجودة في ب.

١٢٤

ليت لو كان لي إليه سبيل

فأقضّي من الهوى أوطاري(١)

قال : فلما أكملت الغنا ، أحسست بالمعنى ، فقلت : [الخفيف]

كيف كيف الوصول للأقمار

بين سمر القنا وبيض الشّفار

لو علمنا بأنّ حبّك حقّ

لطلبنا الحياة منك بثار

وإذا ما الكرام همّوا بشيء

خاطروا بالنّفوس في الأخطار

قال : فعند ذلك بادر المنصور لحسامه ، وغلظ في كلامه ، وقال لها : قولي واصدقي إلى من تشيرين ، بهذا الشوق والحنين؟ فقالت الجارية : إن كان الكذب أنجى ، فالصدق أحرى وأولى ، والله ما كانت إلا نظرة ، ولّدت في القلب فكرة ، فتكلّم الحب على لساني ، وبرّح الشوق بكتماني ، والعفو مضمون لديك عند المقدرة ، والصفح معلوم منك عند المعذرة ، ثم بكت فكأن دمعها در تناثر من عقد ، أو طلّ تساقط من (٢) ورد ، وأنشدت :

أذنبت ذنبا عظيما

فكيف منه اعتذاري؟

والله قدّر هذا

ولم يكن باختياري

والعفو أحسن شيء

يكون عند اقتدار

قال : فعند ذلك صرف المنصور وجه الغضب إليّ ، وسلّ سيف السخط عليّ ، فقلت: أيدك الله تعالى! إنما كانت هفوة جرها الفكر ، وصبوة أيدها النظر ، وليس للمرء إلا ما قدر له ، لا ما اختاره وأمله ، فأطرق المنصور قليلا ثم عفا وصفح ، وتجاوز عنا وسمح ، وخلي سبيلي ، فسكن وجيب قلبي وغليلي ، ووهب الجارية لي فبتنا بأنعم ليلة ، وسحبنا فيها للصّبا ذيله ، فلما شمر الليل غدائره ، وسلّ الصباح بواتره ، وتجاوبت الأطيار بضروب الألحان ، في أعالي الأغصان ، انصرفت بالجارية إلى منزلي ، وتكامل سروري.

قال بعضهم : ذكرتني حكاية أبي المغيرة هذه حكاية قرأتها في النوادر لأبي علي القالي البغدادي حذت في الظرف حذوها (٣) ، وزهت في الإغراب زهوها ، وهي ما أسنده عن منصور البرمكي أنه كانت للرشيد جارية غلامية وكان المأمون يميل إليها ، وهو إذ ذاك أمرد ، فوقفت تصبّ على يد الرشيد من إبريق معها ، والمأمون خلف الرشيد (٤) ، فأشار إليها يقبلها(٥) ،

__________________

(١) في ب ، ه : من حبه أوطاري ، وفي ه : وأقضي.

(٢) الطلّ : المطر الخفيف.

(٣) أمالي القالي ج ١ ص ٢٢٢.

(٤) في ب : والمأمون جالس خلف الرشيد.

(٥) في ب : فأشار إليها كأنه يقبلها.

١٢٥

فأنكرت ذلك بعينها ، وأبطأت في الصب على قدر نظرها للمأمون وإشارتها إليه ، فقال الرشيد: ما هذا؟ ضعي الإبريق من يدك ، ففعلت ، فقال لها (١) : والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك ، فقالت : يا سيدي ، أشار إلي كأنه يقبلني (٢) ، فأنكرت ذلك عليه ، فالتفت إلى المأمون فنظر إليه كأنه ميت لما داخله من الجزع والخجل ، فرحمه وضمه إليه ، وقال : يا عبد الله ، أتحبها؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : هي لك فاخل (٣) بها في تلك القبة ، ففعل ، ثم قال له : هل قلت في هذا الأمر شيئا؟ فقال : نعم يا سيدي ، وأنشد (٤) : [المجتث]

ظبي كنيت بطرفي

من الضّمير إليه

قبّلته من بعيد

فاعتلّ من شفتيه

وردّ أخبث ردّ

بالكسر من حاجبيه

فما برحت مكاني

حتّى قدرت عليه

وفي هذا المعنى يقول بعض البلغاء : اللحظ ، يعرب عن اللفظ ، وقال آخر : رب كناية تغني عن إيضاح ، ورب لفظ يدل على ضمير ، ونظمه الشاعر فقال : [الطويل]

جعلنا علامات المودّة بيننا

دقائق لحظ هنّ أمضى من السّحر

فأعرف منها الوصل في لين لحظها

وأعرف منها الهجر بالنّظر الشّزر(٥)

وفي هذا قال بعض الحكماء : العين باب القلب ، فما في القلب ظهر في العين وقال الشاعر : [البسيط]

العين تبدي الّذي في نفس صاحبها

من المحبّة أو بغض إذا كانا

فالعين تنطق والأفواه صامتة

حتّى ترى من ضمير القلب تبيانا

وأبو المغيرة بن حزم قال في حقه في المطمح ما نصه (٦) : الوزير الكاتب أبو المغيرة عبد الوهاب بن حزم ، وبنو حزم فتية علم وأدب ، وثنيّة مجد وحسب ، وأبو المغيرة هذا في الكتابة أوحد ، لا ينعت ولا يحد ، وهو فارس المضمار ، حامي ذلك الذّمار ، وبطل الرّعيل (٧) ، وأسد ذلك الغيل ، نسق المعجزات ، وسبق في المعضلات الموجزات ، إذا كتب وشّى المهارق ودبج ، وركب من بحر البلاغة الثّبج (٨) ، وكان هو وأبو عامر بن شهيد خليلي صفاء ، وحليفي

__________________

(١) لها : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : أشار إلي عبد الله ..

(٣) في ه : فأدخل بها.

(٤) في ب ، ه : ثم أنشد.

(٥) النظر الشزر : الشديد ، الممتلئ غضبا.

(٦) انظر المطمح ص ٢٢.

(٧) الرعيل : جماعة الرجال التي تتقدم غيرها.

(٨) الثبج من الشيء : معظمه ، ومن الموج : أعلاه.

١٢٦

وفاء ، لا ينفصلان في رواح ولا مقيل ، ولا يفترقان كمالك وعقيل (١) ، وكانا بقرطبة رافعي ألوية الصّبوة ، وعامري أندية السلوة ، إلى أن اتّخذ أبو عامر في حبالة الردى وعلق ، وغدا رهنه فيها وغلق (٢) ، فانفرد أبو المغيرة بذلك الميدان ، واستردّ من سبقه ما فاته منذ زمان ، فلم تذكر له مع أبي عامر حسنة ، ولا سرت له فقرة مستحسنة ، لتعذر ذلك وامتناعه ، بشفوف أبي عامر وامتداد باعه ، وأمّا شعر أبي المغيرة فمرتبط بنثره ، ومختلط زهره بدرّه ، وقد أثبتّ له منها فنونا ، تجنّ بها الأفهام جنونا ، فمن ذلك قوله : [الكامل]

ظعنت وفي أحداجها من شكلها

عين فضحن بحسنهنّ العينا

ما أنصفت في جنب توضح إذ قرت

ضيف الوداد بلابلا وشجونا

أضحى الغرام قطين ربع فؤاده

إذ لم يجد بالرّقمتين قطينا

وله : [المنسرح]

لمّا رأيت الهلال منطويا

في غرّة الفجر قارن الزّهره

شبّهته والعيان يشهد لي

بصولجان انثنى لضرب كره(٣)

وأبو عامر بن شهيد المذكور قال في حقّه ما صورته (٤) :

الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد الأشجعي ، عالم بأقسام البلاغة ومعانيها ، حائز قصب السبق فيها ، لا يشبهه أحد من أهل زمانه ، ولا ينسق ما نسق من درّ البيان وجمانه ، توغل في شعاب البلاغة وطرقها ، وأخذ على متعاطيها ما بين مغربها ومشرقها ، لا يقاومه عمرو بن بحر (٥) ، ولا تراه يغترف إلا من بحر ، مع انطباع ، مشى في طريقه بأمدّ باع ، وله الحسب المشهور ، والمكان الذي لم يعده ظهور (٦) ، وهو من ولد الوضاح ، المتقلد تلك المفاخر والأوضاح ، والضحاك صاحب يوم المرج (٧) ، وراكب ذلك الهرج ، وأبو عامر حفيده هذا من ذلك النسب ، ونبع لا يراش إلا من ذلك الغرب ، وقد أثبتّ له ما هو بالسحر لا حق ، ولنور المحاسن ما حق ، فمن ذلك قوله : [البسيط]

إنّ الكريم إذا نابته مخمصة

أبدى إلى النّاس ريّا وهو ظمآن(٨)

__________________

(١) مالك وعقيل : هما نديما جذيمة الأبرش.

(٢) في ب : فيها قد غلق.

(٣) في ب : بصولجان أوفى.

(٤) المطمح ص ١٩.

(٥) عمرو بن بحر : هو أبو عثمان الجاحظ.

(٦) لم يعده : لم يتجاوزن. وفي ب : للظهور.

(٧) في ب : وصاحب الضحاك يوم المرج.

(٨) المخصمة : خلو البطن من الطعام ، المجاعة.

١٢٧

يحني الضّلوع على مثل اللّظى حرقا

والوجه غمر بماء البشر ريّان(١)

وهو مأخوذ من قول الرضي : [الكامل]

ما إن رأيت كمعشر صبروا

عزّا على الأزلات والأزم

بسطوا الوجوه وبين أضلعهم

حرّ الجوى ومآلم الكلم

وله أيضا : [البسيط]

كلفت بالحبّ حتّى لو دنا أجلي

لما وجدت لطعم الموت من ألم

كلا النّدى والهوى قدما ولعت به

ويلي من الحبّ أو ويلي من الكرم

وأخبرني الوزير أبو الحسين (٢) بن سراج ـ وهو بمنزل ابن شهيد ـ وكان من البلاغة في مدى غاية البيان ، ومن الفصاحة في أعلى مراتب التبيان ، وكنا نحضر مجلس شرابه ، ولا نغيب عن بابه ، وكان له بباب الصّومعة من الجامع موضع لا يفارقه أكثر نهاره ، ولا يخليه من نثر درره وأزهاره ، فقعد في ليلة ٢٧ من رمضان في لمة من إخوانه (٣) ، وأئمة سلوانه ، وقد حفّوا به ليقطفوا نخب أدبه ، وهو يخلط لهم الجدّ بهزل ، ولا يفرط في انبساط مشتهر ولا انقباض جزل ، وإذا بجارية من أعيان أهل قرطبة معها من جواريها ، من يسترها ويواريها ، وهي ترتاد موضعا لمناجاة ربها ، وتبتغي منزلا لاستغفار ذنبها ، وهي متنقبة ، خائفة ممن يرقبها مترقبة ، وأمامها طفل لها كأنه غصن آس ، أو ظبي يمرح في كناس ، فلما وقعت عينها على أبي عامر ولّت سريعة ، وتولت مروعة ، خيفة أن يشبب بها (٤) ، أو يشهرها باسمها ، فلما نظرها قال قولا فضحها به وشهرها (٥) : [المتقارب]

وناظرة تحت طيّ القناع

دعاها إلى الله بالخير داعي

سعت خفية تبتغي منزلا

لوصل التبتّل والانقطاع

فجاءت تهادى كمثل الرّؤوم

تراعي غزالا بروض اليفاع

وجالت بموضعنا جولة

فحلّ الرّبيع بتلك البقاع

أتتنا تبختر في مشيها

فحلّت بواد كثير السّباع

وريعت حذارا على طفلها

فناديت يا هذه لا تراعي

__________________

(١) اللظى : لهب النار.

(٢) ديوان الرضي : ج ٢ ص ٤٢٢.

(٣) اللمة : الجماعة.

(٤) يشبب بها : يتغزل.

(٥) ديوان ابن شهيد ص ٩٤.

١٢٨

غزالك تفرق منه اللّيوث

وتفزع منه كماة المصاع(١)

فولّت وللمسك في ذيلها

على الأرض خطّ كظهر الشّجاع(٢)

انتهى المقصود منه.

رجع ـ ومما ينخرط في سلك أخبار الزهراء ما حكاه الفتح في ترجمة المعتمد بن عباد إذ قال (٣) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين (٤) بن سراج أنه حضر مع الوزراء والكتاب بالزهراء في يوم قد غفل عنه الدهر فلم يرمقه بطرف ، ولم يطرقه بصرف ، أرّخت به المسرات عهدها ، وأبرزت له الأماني خدّها ونهدها (٥) وأرشفت فيه لماها ، وأباحت للزائرين حماها ، وما زالوا ينتقلون (٦) من قصر إلى قصر ، ويبتذلون الغصون بجنى وهصر ، ويتوقّلون في تلك الغرفات ، ويتعاطون الكؤوس بين تلك الشّرفات ، حتى استقروا بالروض من بعد ما قضوا من تلك الآثار أوطارا ، ووفروا بالاعتبار (٧) قطارا ، فحلوا منها في درانك ربيع مفوّفة بالأزهار ، مطرّزة بالجداول والأنهار ، والغصون تختال في أدواحها ، وتتثنى في أكف أرواحها ، وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها ، وانقراض أترابها (٨) وأطرابها ، والوهى بمشيدها لاعب ، وعلى كل جدار غراب ناعب ، وقد محت الحوادث ضياءها ، وقلصت ظلالها وأفياءها ، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت ، وفاحت من شذاهم وتأرّجت (٩) ، أيام نزلوا خلالها ، وتفيؤوا ظلالها ، وعمروا حدائقها وجنّاتها ، ونبهوا الآمال من سناتها (١٠) ، وراعوا الليوث في آجامها ، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها ، فأضحت ولها بالتداعي تلفّع واعتجار ، ولم يبق من آثارها إلا نؤي وأحجار ، قد وهت قبابها ، وهرم شبابها ، وقد يلين الحديد ، ويبلى ، على طيه الجديد ، فبينما هم يتعاطونها صغارا وكبارا ،

__________________

(١) في ه : وتنصاع منه كماة المصاع. وتفرق : تخاف. والليوث : الأسود. والمصاع : المضاربة بالسيوف.

(٢) الشجاع : نوع من الحيات.

(٣) قلائد العقيان ص ١٠.

(٤) في قلائد : أبو الحسن بن سراج.

(٥) ونهدها : غير موجودة في ب.

(٦) في ب : وما زالوا ينقلون.

(٧) في ب : وأوقروا بالاعتبار.

(٨) أترابها و : غير موجودة في ب.

(٩) في ب ، ه : وأرجت.

(١٠) السنات : جمع سنة ، بكسر السين وفتح النون : أول النوم.

١٢٩

ويديرونها أنسا واعتبارا ، إذا برسول المعتمد قد وافاهم برقعة فيها (١) : [الخفيف]

حسد القصر فيكم الزّهراء

ولعمري وعمركم ما أساء

قد طلعتم بها شموسا صباحا

فاطلعوا عندنا بدورا مساء

فساروا إلى قصر البستان بباب العطارين فألفوا مجلسا قد حار فيه الوصف ، واحتشد فيه اللهو والقصف ، وتوقدت نجوم مدامه ، وتأوّدت قدود خدّامه ، وأربى على الخورنق والسدير ، وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير ، فأقاموا ليلتهم (٢) ما عراهم نوم ، ولا عداهم عن طيب اللذات سوم ، وكانت قرطبة منتهى أمله ، وكان روم أمرها أشهى عمله ، وما زال يخطبها بمداخلة أهليها ، ومواصلة واليها ، إذ لم يكن في منازلتها قائد ، ولم يكن لها إلا حيل ومكايد ، لاستمساكهم بدعوة خلفائها ، وأنفتهم من طموس رسوم الخلافة وعفائها ، وحين اتفق له تملكها ، وأطلعه فلكها ، وحصل في قطب دائرتها ، ووصل إلى تدبير رياستها وإدارتها ، قال (٣): [البسيط]

من للملوك بشأو الأصيد البطل؟

هيهات جاءتكم مهديّة الدّول

خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت

من جاء يخطبها بالبيض والأسل

وكم غدت عاطلا حتّى عرضت لها

فأصبحت في سريّ الحلي والحلل

عرس الملوك لنا في قصرها عرس

كلّ الملوك بها في مأتم الوجل

فراقبوا عن قريب لا أبا لكم

هجوم ليث بدرع البأس مشتمل

ولما انتظمت في سلكه ، واتّسمت بملكه ، أعطى ابنه الظافر زمامها ، وولاه نقضها وإبرامها ، فأفاض فيها نداه ، وزاد على أمده ومداه ، وجملها بكثرة حبائه ، واستقل بأعبائها على فتائه ، ولم يزل فيها آمرا وناهيا ، غافلا عن المكر ساهيا ، حسن ظن بأهلها اعتقده ، واغترارا بهم ما رواه ولا انتقده ، وهيهات كم من ملك كفّنوه في دمائه ، ودفنوه بذمائه ، وكم من عرش ثلّوه ، وكم من عزيز ملك أذلوه ، إلى أن ثار فيها ابن عكّاشة ليلا ، وجر إليها حربا وويلا ، فبرز الظافر منفردا عن كماته ، عاريا من حماته ، وسيفه في يمينه ، وهاديه في الظلماء نور جبينه ، فإنه كان غلاما قد بلله (٤) الشباب بأندائه ، وألحفه الحسن بردائه ، فدافعهم أكثر ليله ، وقد منع منه

__________________

(١) في ب : تلفع واعتجار.

(٢) هكذا في ب وفي القلائد. وفي ه : ليلهم.

(٣) ديوان المعتمد بن عباد ص ٦٥.

(٤) في ب ، ه : كما بلّله.

١٣٠

تلاحق رجله وخيله ، حتى أمكنتهم منه عثرة لم يقل لها لعا ، ولا استقال (١) منها ولا سعى ، فترك ملتحفا في الظلماء (٢) ، تحت نجوم السماء (٣) ، معفرا في وسط أكماء (٤) ، تحرسه الكواكب ، بعد المواكب ، ويستره الحندس (٥) ، بعد السندس (٦) ، فمر بمصرعه سحرا أحد أئمة الجامع المغلّسين ، فرآه وقد ذهب ما كان عليه ومضى ، وهو أعرى من الحسام المنتضى ، فخلع رداءه عن منكبيه ونضاه ، وستره به سترا أقنع المجد به وأرضاه ، وأصبح لا يعلم رب تلك الصنيعة ، ولا يعرف فتشكر له يده الرفيعة ، فكان المعتمد إذا تذكر صرعته ، وسعّر الحزن لوعته ، رفع بالعويل نداءه ، وأنشد «ولم أدر من ألقى عليه رداءه» (٧) ، ولما كان من الغد حزّ رأسه ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم ، ويرشق نفس كل ناظر بألم ، فلما رمقته الأبصار ، وتحققته الحماة والأنصار ، رموا أسلحتهم ، وسوّوا للفرار أجنحتهم ، فمنهم من اختار فراره وجلاه ، ومنهم من أتت به إلى حينه رجلاه ، وشغل المعتمد عن رثائه بطلب ثاره ، ونصب الحبائل لوقوع ابن عكاشة وعثاره ، وعدل عن تأبينه ، إلى البحث عن مفرقه وجبينه ، فلم تحفظ له فيه قافية ، ولا كلمة للوعته شافية ، إلا إشارته إليه ، في تأبين أخويه ، المأمون والراضي المقتولين في أول النائرة (٨) ، والفتنة الثائرة ، انتهى.

وقد رأيت أن أزيد على ما تقدم ـ مما قصدت جلبه في هذا الموضع ـ نبذة من كلام الفتح في ذكر منتزهات قرطبة وغيرها من بلاد الأندلس ووصف مجالس الأنس التي كانت بها مما تنشرح له الأنفس ، ووقع ذكر غير قرطبة والزهراء لهما تبعا ، ولا يخلو ذلك من عبرة بحال من جعل في اللهو مصيفا ومرتبعا ، ثم طواه الدهر طيّ السجل ، ومحا آثاره التي كانت تسمو وتجلّ ، وما قصدنا علم الله غير الاعتبار ، بهذه الأخبار ، لا الحث على الحرام ، وتسهيل القصد إليه والمرام ، والأعمال بالنيات ، والله سبحانه كفيل بفضله وكرمه ببلوغ الأمنيات ، وتعويضنا عن هذه النعم الفانيات ، بالنعم الباقيات السنيّات.

__________________

(١) في ب ، ه : ولا استقل منها.

(٢) في ب ، ه : ملتحفا بالظلما.

(٣) في ب ، ه : السما.

(٤) في ب ، ه : في وسط الحمى.

(٥) الحندس : الظلام الشديد.

(٦) السندس : نوع من رقيق الحرير.

(٧) هذا صدر بين لأبي خراش الهذلي ، وهو :

ولم أدر من ألقى عليه رداءه

سوى أنه قد سلّ عن ماجد محض

(٨) النائرة : العداوة الشديدة.

١٣١

قال الفتح رحمه الله تعالى في ترجمة الوزير أبي الوليد بن زيدون ، ما صورته (١) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين (٢) بن سراج رحمه الله تعالى أنه في وقت فراره أضحى ، غداة الأضحى ، وقد ثار به الوجد بمن كان يألفه والغرام ، وتراءت لعينيه تلك الظّباء الأوانس والآرام ، وقد كان الفطر وافاه ، والشقاء قد استولى على رسم عافيته حتى أعفاه (٣) ، فلما عاده منهما ما عاد ، وأعياه ذلك النكد المعاد ، استراح إلى ذكر عهده الحسن ، وأراح جفونه المسهّدة بتوهم ذلك الوسن ، وذكر معاهد كان يخرج إليها في العيد ، ويتفرج بها مع أولئك الغيد ، فقال (٤) : [الطويل]

خليليّ لا فطر يسرّ ولا أضحى

فما حال من أمسى مشوقا كما أضحى

لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل

أخصّ بممحوض الهوى ذلك السّفحا(٥)

وما انفكّ جوفيّ الرّصافة مشعري

دواعي بثّ يعقب الأسف البرحا

ويهتاج قصر الفارسيّ صبابة

لقلبي لا يألو زناد الأسى قدحا

وليس ذميما عهد محبس ناصح

فأقبل في فرط الولوع به نصحا(٦)

كأنّي لم أشهد لدى عين شهدة

نزال عتاب كان آخره الفتحا

وقائع جانيها التّجنّي فإن مشى

سفير خضوع بيننا أكّد الصّلحا

وأيّام وصل بالعقيق اقتضيته

فإن لم يكن ميعاده العيد فالفصحا

وآصال لهو في مسنّاة مالك

معاطاة ندمان إذا شئت أو سبحا

لدى راكد تصبيك من صفحاته

قوارير خضر خلتها مرّدت صرحا

معاهد لذّات وأوطان صبوة

أجلت المعلّى في الأماني بها قدحا

ألا هل إلى الزّهراء أوبة نازح

تقضّى تنائيها مدامعه نزحا

مقاصير ملك أشرقت جنباتها

فخلنا العشايا الجون أثناءها صبحا

يمثّل قرطيها لي الوهم جهرة

فقبّتها فالكوكب الرّحب فالسّطحا (٧)

__________________

(١) قلائد العقيان ص ٧٢.

(٢) في ج : أبو الحسن.

(٣) في ب ، ه : حتى عفاه.

(٤) ديوان ابن زيدون ، طبعة صادر ص ٢١.

(٥) العقاب : اسم مكان في قرطبة. وممحوض الهوى : خالصه وصافيه.

(٦) في ب : عهد مجلس.

(٧) في ب : الوهم جمرة .. فالكوكب الجون ..

١٣٢

محلّ ارتياح يذكر الخلد طيبه

إذا عزّ أن يصدى الفتى فيه أو يضحى(١)

هناك الجمام الزّرق تندى حفافها

ظلال عهدت الدّهر فيها فتى سمحا(٢)

تعوّضت من شدو القيان خلالها

صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا

ومن حملي الكأس المفدّى مديرها

تقحّم أهوال حملت لها الرّمحا

أجل إنّ ليلي فوق شاطىء بيطة

لأقصر من ليلي بآنة فالبطحا(٣)

 وهذه معاهد بني أمية قطعوا بها ليالي وأياما ، وظلت فيها الحوادث عنهم نياما ، فهاموا بشرق العقاب ، وشاموا به برقا يبدو من نقاب ، ونعموا بجوفيّ الرّصافة ، وطمعوا عيشا تولى الدهر جلاءه وزفافه ، وأبعدوا نصح الناصح ، وحمدوا أنس محبس (٤) ناصح ، وعموا بالزهراء ، وصمّوا عن نبأ صاحب الزوراء ، حتى رحلهم الموت عنها وقوّضهم ، وعوّضهم منها ما عوّضهم ، فصاروا أحاديث وأنباء ، ولم يتزودوا منها إلا حنوطا وكباء ، وغدت تلك المعاهد تصافحها أيدي الغير ، وتناوحها نعبات الطير ، وراحت بعد الزينة سدى ، وأمست مسرحا للبوم وملعبا للصّدى ، يسمع للجنّ بها عزيف ، ويصرع فيها البطل الباسل والنزيف ، وكذا الدنيا أعمالها خراب ، ومآلها آل وسراب (٥) ، أهلكت أصحاب الأخدود ، وأذهبت ما كان بمأرب من حيازات وحدود ، انتهى.

وقال الفتح بعد كلام ما صورته : ولما عضّته أنياب الاعتقال ، ورضّته تلك النوب الثقال ، وعوّض بخشانة العيش من اللين ، وكابد قسوة خطب لا تلين ، تذكر عهد عيشه الرقيق ، ومرحه بين الرّصافة والعقيق ، وحنّ إلى سعد زرّت عليه جيوبه ، واستهدى نسيم عيش طاب له هبوبه ، وتأسّى بمن باتت له النوائب بمرصاد ، ورمته بسهام ذات إقصاد وضيم من عهد الأحصّ إلى ذات الإصاد (٦) فقال (٧) : [الخفيف]

__________________

(١) يصدى : يعطش. يضحى : يتعرض لحر الشمس.

(٢) الجمام : جمع جمة ؛ وهي مكان اجتماع الماء.

(٣) في الديوان : شاطىء نيطة.

(٤) في ب : مجلس ناصح.

(٥) في ب ، ه : وآمالها. والآل ، والسراب بمعنى واحد ، وهو ما يحسبه الإنسان في الصحراء ماء ، وإنما هو انعكاس أشعة الشمس على الرمال.

(٦) الأحص : مكان بنجد كان يحميه كليب وائل. وذات الإصاد : من بلاد فزارة والذي ضيم في الأحص. وذات الإصاد بنو مرة ، ثم ثأروا بقتل كليب.

(٧) ديوان ابن زيدون ص ١٢٣.

١٣٣

الهوى في طلوع تلك النّجوم

والمنى في هبوب ذاك النّسيم

سرّنا عيشنا الرّقيق الحواشي

لو يدوم السّرور للمستديم

وطر ما انقضى إلى أن تقضّى

زمن ما ذمامه بالذّميم

أيّها المؤذني بظلم اللّيالي

ليس يومي بواجد من ظلوم(١)

ما ترى البدر إن تأمّلت والشّم

مس هما يكسفان دون النّجوم

وهو الدّهر ليس ينفكّ ينحو

بالمصاب العظيم نحو العظيم

وقال الفتح أيضا في شأن ابن زيدون ، ما صورته (٢) :

ولما تعذر انفكاكه ، وعفّر فرقده وسماكه ، وعاودته الأوهام والفكر ، وخانه من أبي الحزم الصارم الذكر ، قال يصف ما بين مسرّاته وكروبه ، ويذكر بعد طلوع سعده (٣) من غروبه ، ويبكي لما هو فيه من التعذير ، ويعذر أبا الحزم وليس له غيره من عذير ، ويتعزى بإخناء (٤) الدهر على الأحرار ، وإلحاحه على التمام بالسّرار ، ويخاطب ولّادة بوفاء عهده ، ويقيم لها البراهين على أرقه وسهده (٥) : [البسيط]

ما جال بعدك لحظي في سنا القمر

إلّا ذكرتك ذكر العين بالأثر

ولا استطلت ذماء اللّيل من أسف

إلّا على ليلة سرّت مع القصر

في نشوة من سنات الدّهر موهمة

أن لا مسافة بين الوهن والسّحر(٦)

يا ليت ذاك السّواد الجون متّصل

قد استعار سواد القلب والبصر

يا للرّزايا لقد شافهت منهلها

غمرا فما أشرب المكروه بالغمر

لا يهنأ الشّامت المرتاح خاطره

أنّي معنّى الأماني ضائع الخطر

هل الرّياح بنجم الأرض عاصفة

أم الكسوف لغير الشّمس والقمر

إن طال في السّجن إيداعي فلا عجب

قد يودع الجفن حدّ الصّارم الذّكر

وإن يثبّط أبا الحزم الرّضا قدر

عن كشف ضرّي فلا عتب على القدر

__________________

(١) في ب : بواحد من ظلوم.

(٢) القلائد : ٧٦.

(٣) في ب : طلوع أمله.

(٤) في ب ، ه : بإنحاء الدهر.

(٥) ديوان ابن زيدون ص ١٤٧.

(٦) في ب : في نشوة من شباب الوصل من أسف.

١٣٤

من لم أزل من تدانيه على ثقة

ولم أبت من تجنّيه على حذر(١)

وله يتغزل ، ويعاتب من يستعطفه ويتنزل (٢) : [خلع البسيط]

يا مستخفّا بعاشقيه

ومستغشّا لناصحيه

ومن أطاع الوشاة فينا

حتّى أطعنا السّلوّ فيه

الحمد لله إذ أراني

تكذيب ما كنت تدّعيه

من قبل أن يهزم التّسلّي

ويغلب الشّوق ما يليه

وما أحسن قول ابن زيدون المذكور في قصيدته النونية الشهيرة (٣) : [البسيط]

غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا

بأن نغضّ فقال الدّهر آمينا

ومن أغرب ما وقفت عليه موشّحة لابن الوكيل دخل فيها على أعجاز نونية ابن زيدون ، وهي :

غدا منادينا محكّما فينا

يقضي علينا الأسى لو لا تأسّينا

بحر الهوى يغرق

من فيه جهده عام

وناره تحرق

من همّ أو قد هام

وربّما يقلق

فتى عليه نام

قد غيّر الأجسام ، وصيّر الأيّام

سودا وكانت بكم بيضا ليالينا

يا صاحب النّجوى

قف واستمع منّي

إيّاك أن تهوى

إنّ الهوى يضني

لا تقرب البلوى

اسمع وقل عنّى

بحاره مرّه ، خضنا على غرّه

حينا فقام بها للنّعي ناعينا

من هام بالغيد

لاقى بهم همّا

بذلت مجهودي

لأحور ألمى

يهمّ بالجود

وردّ ما همّا

__________________

(١) في ب ، ه ، والديوان : من لم أزل من تأنيه على ثقة.

(٢) ديوان ابن زيدون ص ٥٣.

(٣) ديوان ابن زيدون ص ٩.

١٣٥

وعند ما قد جاد ، بالوصل أو قد كاد

أضحى التّنائي بديلا من تدانينا

بحقّ ما بيني

وبينكم إلّا

أقررتم عيني

فتجمعوا الشملا

فالعين بالبين

بفقدكم أبلى

جديد ما قد كان ، بالأهل والإخوان

ومورد اللهو صاف من تصافينا

يا جيرة بانت

عن مغرم صبّ(١)

لعهده خانت

من غير ما ذنب

ما هكذا كانت

عوائد العرب

لا تحسبوا البعدا ، يغيّر العهدا

إذ طالما غيّر النّأي المحبّينا

يا نازلا بالبان

بالشّفع والوتر

والنّمل والفرقان

واللّيل إذا يسر(٢)

وسورة الرّحمن

والنّحل والحجر

هل حلّ في الأديان ، أن يقتل الظّمآن

من كان صرف الهوى والودّ يسقينا

يا سائل القطر

عرّج على الوادي

من ساكني بدر

وقف بهم نادي

عسى صبا تسري

لمغرم صادي

إن شئت تحيينا بلّغ تحيّتنا

من لو على البعد حيّا كان يحيينا(٣)

وافت لنا أيّام

كأنّها أعوام

وكان لي أعوام

كأنّها أيام

تمرّ كالأحلام

بالوصل لي لو دام

والكأس مترعة ، حثّت مشعشعة

فينا الشّمول وغنّانا مغنّينا

رجع إلى ما يتعلق بقرطبة ـ قال الوزير أبو بكر بن القبطرنة ، يخاطب الوزير أبا الحسين بن سراج ، ويذكر لمّة إخوانه بقرطبة : [الكامل]

__________________

(١) بانت : بعدت ونأت.

(٢) في ب : والليل أذا يسر (بوصل همزة إذا).

(٣) في ب : بلغ تحيّينا.

١٣٦

يا سيّدي وأبي هدى وجلالة

ورسول ودّي إن طلبت رسولا(١)

عرّج بقرطبة ولذ إن جئتها

بأبي الحسين وناده تعويلا(٢)

فإذا سعدت بنظرة من وجهه

فاهد السّلام لكفّه تقبيلا

واذكر له شكري وشوقي مجملا

ولو استطعت سردته تفصيلا(٣)

بتحيّة تهدى إليه كأنّما

جرّت على زهر الرّياض ذيولا

وأشمّ منها المصحفيّ على النّوى

نفسا ينسّي السّوسن المبلولا

وإلى أبي مروان منه نفحة

تهدي له نور الرّبا مطلولا

وإذا لقيت الأخطبيّ فسقّه

من صفو ودّي قرقفا وشمولا(٤)

وأبو عليّ سقّ منها ربعه

مسكا بماء غمامة محلولا(٥)

واذكر لهم زمنا يهب نسيمه

أصلا كنفث الرّاقيات عليلا(٦)

مولى ومولي نعمة وكرامة

وأخا إخاء مخلصا وخليلا

بالحير ما عبست هناك غمامة

إلا تضاحك إذخرا وجليلا

يوما وليلا كان ذلك كلّه

سحرا وهذا بكرة وأصيلا

لا أدركت تلك الأهلّة دهرها

نقصا ولا تلك النّجوم أفولا

قال أبو نصر : الحير (٧) الذي ذكره هنا هو حير الزّجّالي خارج باب اليهود بقرطبة الذي يقول فيه أبو عامر بن شهيد :

لقد أطلعوا عند باب اليهو

د شمسا أبى الحسن أن تكسفا

تراه اليهود على بابها

أميرا فتحسبه يوسفا

وهذا الحير من أبدع المواضع وأجملها ، وأتمها حسنا وأكملها ، صحنه مرمر صافي

__________________

(١) في ب : يا سيدي وأبي هوى.

(٢) في ب : وناده تمويلا.

(٣) في ب : شرحته تفصيلا.

(٤) القرقف والشمول : الخمر.

(٥) القلائد : وأبا علي روّ.

(٦) الأصل ، بضمتين : جمع أصيل ، وهو وقت اصفرار الشمس عند الغروب.

(٧) الحير ، بفتح فسكون ؛ في الأصل : مجتمع الماء ، وهنا : البستان.

١٣٧

البياض ، يخترقه جدول كالحية النّضناض ، به جابية ، كل لجة بها (١) كابية ، قد قربصت بالذهب واللازورد سماؤه ، وتأزّرت بهما جوانبه وأرجاؤه ، والروض قد اعتدلت أسطاره ، وابتسمت من كمائمها أزهاره ، ومنع الشمس أن ترمق ثراه ، وتعطّر النسيم بهبوبه عليه ومسراه ، شهدت به (٢) ليالي وأيّاما كأنما تصورت من لمحات الأحباب ، أو قدّت من صفحات أيام الشباب ، وكانت لأبي عامر بن شهيد به فرج وراحات ، أعطاه فيها الدهر ما شاء ، ووالى عليه الصحو والانتشاء ، وكان هو وصاحب الروض المدفون بإزائه أليفي صبوة ، وحليفي نشوة ، عكفا فيه على جريالها (٣) ، وتصرفا بين زهوهما واختيالهما ، حتى ردّاهما الردى ، وعداهما الحمام عن ذلك المدى ، فتجاورا في الممات ، تجاورهما في الحياة ، وتقلصت عنهما وارفات تلك الفيات (٤) ، وإلى ذلك العهد أشار ابن شهيد وبه عرّض ، وبشوقه صحح وما مرض ، حيث يقول عند موته يخاطب أبا مروان صاحبه وأمر أن يدفن بإزائه ويكتب على قبره : [البسيط]

يا صاحبي قم فقد أطلنا

أنحن طول المدى هجود؟(٥)

فقال لي : لن نقوم منها

ما دام من فوقنا الصّعيد

تذكر كم ليلة نعمنا

في ظلّها والزّمان عيد

وكم سرورا همى علينا

سحابه ثرّة تجود؟(٦)

فخيره مسرعا تقضّى

وشؤمه حاضر عتيد(٧)

حصّله كاتب حفيظ

وضمّه صادق شهيد

يا ويلنا إن تنكّبتنا

رحمة من بطشه شديد

يا ربّ عفوا فأنت مولى

قصّر في أمرك العبيد

انتهى.

ثم قال بعد كلام : وركب أبو الحسن بن القبطرنة إلى سوق الدواب بقرطبة ومعه أبو الحسين بن سراج ، فنظر إلى أبي الحكم بن حزم غلاما كما عقّ تمائمه (٨) ، وهو يروق كأنه

__________________

(١) النضناض : الحية التي لا تستقر مكانها. والجابية : الحوض الضخم يجمع فيه الماء.

(٢) في ب : شهدت له.

(٣) الجريال : الخمر.

(٤) في ب : الفيئات.

(٥) ديوان ابن شهيد ص ١٥٣.

(٦) في ب : كم سرور.

(٧) في ب : كلّ كأن لم يكن تقضى.

(٨) عق تمائمه : أي جاوز حد الطفولة.

١٣٨

زهر فارق كمائمه ، فسأل أبا الحسين بن سراج أن يقول فيه ، فأرتج عليه (١) ، فثنى عنان القول إليه ، فقال : [الطويل]

رأى صاحبي عمرا فكلّف وصفه

وحمّلني من ذاك ما ليس في الطّوق

فقلت له : عمرو كعمرو ، فقال لي :

صدقت ولكن ذاك شبّ على الطّوق(٢)

وكان بنو القبطرنة بالأندلس أشهر من نار على علم ، وقد تصرفوا في البراعة والقلم ، ولهم الوزارة المذكورة ، والفضائل المشكورة ، ولذا قال أبو نصر في حقهم ما صورته (٣) :

هم للمجد كالأثافي ، وما منهم إلا موفور القوادم والخوافي ، إن ظهروا ، زهروا ، وإن تجمّعوا ، تضوّعوا ، وإن نطقوا ، صدقوا ، ماؤهم صفو ، وكل واحد منهم لصاحبه كفو ، أنارت بهم نجوم المعالي وشموسها ، ودانت لهم أرواحها ونفوسها ، ولهم النظام الصافي الزجاجة ، المضمحل العجاجة ، انتهى.

ثم قال : وبات منهم أبو محمد مع أخويه في أيام صباه ، واستطابته (٤) جنوب الشّباب وصباه ، بالمنية المسماة بالبديع ، وهو روض كان المتوكل يكلف بموافاته ، ويبتهج بحسن صفاته ، ويقطف رياحينه وزهره ، ويقف عليه إغفاءه وسهره ، ويستفزه الطرب متى ذكره ، وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره ، ويدير حميّاه على ضفة نهره ، ويخلع سره فيه لطاعة جهره ، ومعه أخواه فطاردوا اللذات حتى أنضوها ، ولبسوا برود السرور وما نضوها ، حتى صرعتهم العقار ، وطلّحتهم تلك الأوقار ، فلما همّ رداء الفجر أن يندى ، وجبين الصبح أن يتبدّى ، قام الوزير أبو محمد فقال : [الخفيف]

يا شقيقي وافى الصّباح بوجه

ستر اللّيل نوره وبهاؤه

فاصطبح واغتنم مسرّة يوم

لست تدري بما يجيء مساؤه

ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال : [الخفيف]

يا أخي قم تر النّسيم عليلا

باكر الرّوض والمدام شمولا

لا تنم واغتنم مسرّة يوم

إنّ تحت التّراب نوما طويلا

في رياض تعانق الزّهر فيها

مثل ما عانق الخليل الخليلا

__________________

(١) ارتج عليه : استغلق عليه الكلام.

(٢) في ج : ولكن ذا أشب على الطوق.

(٣) القلائد : ص ١٤٨.

(٤) في ب ، ج ، ه : واستطابة جنوب الشباب.

١٣٩

ثم استيقظ أخوهما أبو الحسن ، وقد هبّ من غفلة الوسن (١) ، فقال : [البسيط]

يا صاحبيّ ذرا لومي ومعتبتي

قم نصطبح خمرة من خير ما ذخروا

وبادرا غفلة الأيّام واغتنما

فاليوم خمر ويبدو في غد خبر(٢)

وساق صاحب البدائع هذه القصة فقال : وذكر الفتح ما هذا معناه أنه خرج الوزراء بنو القبطرنة إلى المنية المسماة بالبديع ، وهو روض قد اخضرّت مسارح نباته ، واخضلّت مساري هبّاته ، ودمعت بالطلّ عيون أزهاره ، وذاب على زبرجده بلّور أنهاره ، وتجمعت فيها المحاسن المتفرّقة ، وأضحت مقل الحوادث عنه مطرقة ، فخيول النسيم تركض في ميادينه فلا تكبو ، ونصول السواقي تحسم أدواء الشجر فلا تنبو ، والزروع قد نقّبت وجه الثرى ، وحجبت الأرض عن العيون فما تبصر ولا ترى ، وكان المتوكل بن الأفطس يعده غاية الأرب ، ويعدّه مشهدا للطرب ، ومدفعا للكرب ، فباتوا فيه ليلتهم يديرون لمع لهب يتمنون فيه الخلود ، ويتحسّون (٣) ذوب ذهب لا يصهر به ما في بطونهم والجلود ، حتى تركتهم ابنة الخابية ، كأنهم أعجاز نخل خاوية ، فلما هزم روميّ الصباح زنجيّ الظلام ، ونادى الديك حيّ على المدام ، انتبه كبيرهم أبو محمد مستعجلا ، وأنشد مرتجلا : يا شقيقي ـ إلخ فانتبه أخوه أبو بكر لصوته ، وتخوّف لذهاب ذلك الوقت وفوته ، وأنبه أخاهما أبا الحسن وهو يرتجل : يا أخي قم تر النسيم ـ إلى آخره. فانتبه أخوه لكلامه ، دافعا لذة منامه للذة قيامه ، وارتجل يا صاحبيّ ذرا ـ إلخ ، انتهى.

قال الفتح (٤) : ولما أمر المعتمد بن عباد أبا بكر بن القبطرنة السابق الذكر مع الوزير أبي الحسين بن سراج بلقاء ذي الوزارتين أبي الحسن بن اليسع القائد والمشي إليه ، والنزول عليه ، تنويها بمقدمه (٥) ، وتنبيها على حظوته لديه وتقدمه ، فصارا إلى بابه ، فوجداه مقفرا من حجّابه ، فاستغربا خلوّه من خول ، وظنّ كلّ واحد منهما وتأوّل ، ثم أجمعا على قرع الباب ، ورفع ذلك الارتياب ، فخرج وهو دهش ، وأشار إليهما بالتحية ويده ترتعش ، وأنزلهما خجلا ، ومشى بين أيديهما عجلا ، وأشار إلى شخص فتوارى بالحجاب ، وبارى الريح سرعة في الاحتجاب ، فقعدا ومقلة الخشف (٦) ، ترمق من خلال السّجف (٧) ، فانصرفا عنه ، وعزما أن يكتبا إليه بما فهما منه ، فكتبا إليه : [الهزج]

__________________

(١) الوسن ، بفتح الواو والسين : النوم.

(٢) أخذ هذا من قول امرئ القيس : اليوم خمر وغدا أمر.

(٣) يتحسون : يشربون جرعة بعد جرعة.

(٤) قلائد العقيان : ١٦٨.

(٥) في ب : لمقدمه.

(٦) الخشف ، بكسر فسكون : ولد الظبية.

(٧) السجف : الستر.

١٤٠