نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

صانك الله عن كلالك فيها

فمن العار كلّة المسمار

فكتب إليه ابن شهيد : [الخفيف]

قد فضضنا ختام ذاك السّوار

واصطبغنا من النّجيع الجاري

ونعمنا في ظلّ أنعم ليل

ولهونا بالبدر ثمّ الدّراري

وقضى الشّيخ ما قضى بحسام

ذي مضاء عضب الظّبا بتّار

فاصطنعه فليس يجزيك كفرا

واتّخذه سيفا على الكفّار

وقد قدمنا هذه الحكاية في أخبار المنصور من الباب الثالث ، ولكنا أعدناها هنا بلفظ المطمح لما فيه من العذوبة والفائدة الزائدة.

وممن كان في أيام المنصور من الوزراء المشهورين الوزير الكاتب أبو مروان عبد الملك بن إدريس الخولاني ، قال في المطمح (١) : علم من الأعلام فريد (٢) الزمان ، وعين من أعيان البيان ، باهر الفصاحة ، طاهر الجناب والساحة ، تولى التحبير أيام المنصور والإنشاء ، وأشعر بدولته الأفراح والانتشاء ، ولبس العزة مدتها (٣) ضافية البرود ، وورد بها النعمة صافية الورود ، وامتطى من جياد التوجيه ، وأعنق من لاحق والوجيه (٤) ، وتمادى طلقة ، ولا أحد يلحقه ، إلى أيام المظفر فمشى على سننه ، وتمادى السعد يترنم على فننه (٥) ، إلى أن قتل المظفر صهره عيسى بن القطاع ، صاحب دولته وأميرها المطاع ، وكان أبو مروان قديم الاصطناع له والانقطاع ، فاتهم معه ، وكاد أن يذوق حمامه ومصرعه (٦) ، إلا أن إحسانه شفع ، وبيانه نفع ودفع ، فحطّ عن تلك الرتب ، وحمل إلى طرطوشة على القتب ، فبقي هنالك معتقلا في برج من أبراجها نائي المنتهى ، كأنما يناجي السها ، قد بعد ساكنه عن الأنيس ، وقعد من النجم بمنزلة الجليس ، تمر الطيور دونه ولا تجوزه ، ويرى منه الثرى ولا يكاد يحوزه ، فبقي فيه دهرا لا يرتقي إليه راق ، ولا يرجى لبثّه راق ، إلى أن أخرج منه إلى ثراه ، واستراح مما عراه ، فمن بديع نظمه قوله يصف المعتقل (٧) ، الذي فيه اعتقل : [الكامل]

يأوي إليه كلّ أعور ناعق

وتهبّ فيه كلّ ريح صرصر

__________________

(١) المطمح ص ١٣.

(٢) في ب ، ه : علم من أعلام الزمان.

(٣) في ب : ولبس العزة ضافية البرود.

(٤) لاحق ، والوجيه : فرسان من جياد الخيل.

(٥) الفنن : الغصن.

(٦) في المطمح : أن يذوق الحمام ومصرعه.

(٧) في ب : يصف المعقل.

١٠١

ويكاد من يرقى إليه مرّة

من عمره يشكو انقطاع الأبهر(١)

ودخل ليلة على المنصور والمنصور قد اتكأ وارتفق ، وتحلى بمجلسه ذلك الأفق ، والدّنيا بمجلسه ذلك مسوقة ، وأحاديث الأماني به منسوقة ، فأمره بالنزول عنده (٢) فنزل في جملة الأصحاب ، والقمر يظهر ويحتجب في السحاب ، والأفق يبدو به أغر ثم يعود مبهما ، والليل يتراءى منه أشقر ثم يعود أدهما ، وأبو مروان قد انتشى ، وجال في ميدان الأنس ومشى ، وبرد خاطره قد دبجه السرور ووشى ، فأقلقه ذلك المغيب والالتياح ، وأنطقه ذلك السرور والارتياح ، فقال : [الوافر]

أرى بدر السّماء يلوح حينا

فيبدو ثمّ يلتحف السّحابا

وذلك أنّه لمّا تبدّى

وأبصر وجهك استحيا فغابا

مقال لو نمى عندي إليه

لراجعني بذا حقّا جوابا

وله في مدة اعتقاله ، وتردّده في قيله وقاله : [الكامل]

شحط المزار فلا مزار ، ونافرت

عيني الهجوع فلا خيال يعتري

أزري بصبري وهو مشدود القوى

وألان عودي وهو صلب المكسر(٣)

وطوى سروري كلّه وتلذّذي

بالعيش طيّ صحيفة لم تنشر

ها إنّما ألقى الحبيب توهّما

بضمير تذكاري وعين تذكّري

عجبا لقلبي يوم راعتني النّوى

ودنا وداع كيف لم يتفطّر(٤)

رجع إلى المنصور : وكان المنصور إذا أراد أمرا مهما شاور أرباب الدولة والأكابر (٥) من خدام الدولة الأموية ، فيشيرون عليه بالوجه الذي عرفوه وجرت الدولة الأموية عليه ، فيخالفهم إلى المنهج الذي ابتدعه ، فيقضون في أنفسهم بالهلاك في الطريق الذي سلكه ، والمهيع الذي اخترعه (٦) ، فتسفر العاقبة عن السلامة التامة التي اقتضاها سعده ، فيكثرون التعجب من موارد أموره ومصادرها.

وقيل له مرة : إن فلانا مشؤوم فلا تستخدمه ، فقال : أف لسعد لا يغطي على شؤمه ، فاستخدمه ، ولم ينله من شؤمه الذي جرت به العادة شيء.

__________________

(١) الأبهر : وريد العنق.

(٢) عنده : غير موجودة في ب.

(٣) في ب ، ج : مشدود العرى.

(٤) في ه ، ب : ودنا وداعي كيف لم يتفطر.

وتفطر : تصدع.

(٥) في ب : أرباب الدولة الأكابر.

(٦) المهيع : الطريق البيّن الواسع.

١٠٢

وحكي عنه أنه كان في قصره بالزاهرة ، فتأمل محاسنه ، ونظر إلى مياهه المطردة ، وأنصت لأطياره المغردة ، وملأ عينه من الذي حواه من حسن وجمال ، والتفت في الزاهرة من اليمين إلى الشمال ، فانحدرت دموعه ، وتجهم وقال : ويها (١) لك يا زاهرة ، فليت شعري من الخائن الذي يكون خرابك على يديه عن قريب؟ فقال له بعض خاصته : ما هذا الكلام الذي ما سمعناه من مولانا قط؟ وما هذا الفكر الرديء الذي لا يليق بمثله شغل البال به؟ فقال : والله لترون ما قلت ، وكأني بمحاسن الزاهرة قد محيت ، وبرسومها قد غيرت ، وبمبانيها قد هدمت ونحّيت ، وبخزائنها قد نهبت ، وبساحاتها قد أضرمت بنار الفتنة وألهبت ، قال الحاكي : فلم يكن إلا أن توفي المنصور وتولى المظفر ولم تطل مدته ، فقام بالأمر أخوه عبد الرحمن الملقب بشنجول ، فقام عليه المهدي والعامة ، وكانت منهم عليه وعلى قومه الطامة ، وانقرضت دولة آل عامر ، ولم يبق منهم آمر : [الطويل]

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا

أنيس ولم يسمر بمكّة سامر

بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا

صروف اللّيالي والجدود العواثر

وخربت الزاهرة ، ومضت كأمس الدابر (٢) ، وخلت منها الدسوت الملوكية زاهرة والدساكر (٣) ، واستولى النهب على ما فيها من العدة والذخائر ، والسلاح ، وتلاشى أمرها فلم يرج لفسادها صلاح ، وصارت قاعا صفصفا (٤) ، وأبدلت بأيام الترح عن أيام الفرح والصفا.

ويروى أن بعض أولياء ذلك الزمان مر بها ، ونظر إلى مصانعها السامية الفائقة ، ومبانيها العالية الرائقة ، فقال : يا دار فيك من كل دار ، فجعل الله منك في كل دار.

قال الحاكي : فلم تكن بعد دعوة ذلك الرجل الصالح إلا أيام يسيرة حتى نهبت ذخائرها ، وعمّ بالخراب سائرها ، فلم تبق دار في الأندلس إلا ودخلها من فيئها حصة كثيرة أو قليلة ، وحقق الله تعالى دعاء ذلك الرجل الذي همته مع ربه جليلة.

ولقد حكي أن بعض ما نهب منها بيع ببغداد وغيرها من البلاد المشرقية ، فسبحان من لا يزول سلطانه ولا ينقضي ملكه! لا إله إلا هو.

__________________

(١) في ج : ويل لك يا زاهرة.

(٢) في ب ، ه : وذهبت كأمس الدابر.

(٣) في ب : المنابر.

(٤) وصارت قاعا صفصفا : أخذها من قوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) والقاع : الأرض السهلة المنخفضة من المرتفعات المحيطة بها. والصفصف : المستوي الذي لا نبات فيه.

١٠٣

وتذكرت هنا ما رآه في المنام بعض أهل المغرب بالليلة التي انقرض فيها ملك الموحّدين أن شخصا ينشده : [البسيط]

ملك بني مؤمن تولّى

وكان فوق السّماك سمكه

فاعتبروا وانظروا وقولوا :

سبحان من لا يبيد ملكه

لا إله إلا هو.

وكان المهدي القائم على العامرين ماجنا فاتكا ، وقال ـ وقد حيّاه في مجلس شرابه غلام بقضيب آس ـ : [الكامل]

أهديت شبه قوامك الميّاس

غصنا رطيبا ناعما من آس

وكأنّما يحكيك في حركاته

وكأنّما تحكيه في الأنفاس

وكان المنصور بن أبي عامر حين تغلب على ملك الأمويين غير مكترث بمثل المهدي المذكور ، فسلطه الله تعالى على كل ما أسسه المنصور حتى هدمه ، وأخر كل ما قدمه ، ولم ينفع في ذلك احتياط ولا حزم ، ولا راد للقضاء المبرم الجزم.

[مجزوء الكامل]

والله يحكم ما يشا

ء فلا تكن متعرّضا

وقد قدمنا شيئا من أخبار المنصور ، ولا بأس أن نلمّ هنا ببعضها وإن حصل منه نوع تكرار في نبذة منها لارتباط الكلام بعضه ببعض.

قال بعض المحققين من المؤرخين : حجر المنصور بن أبي عامر على هشام المؤيد بحيث لم يره أحد منذ ولي الحجابة ، وربما أركبه بعد سنين وجعل عليه برنسا ، وعلى جواريه مثل ذلك ، فلا يعرف منهن ، ويأمر من ينحّي الناس من طريقه ، حتى ينتهي المؤيد إلى موضع تنزهه ، ثم يعود ، غير أنه أركبه بأبهة الخلافة في بعض الأيام لغرض له ، كما ألمعنا به فيما سبق ، وكان المنصور إذا سافر وكّل بالمؤيد من يفعل معه ذلك ، فكان هذا من فعله سببا لانقطاع ملك بني أمية من الأندلس ، وأخذ مع ذلك في قتل من يخشى منه من بني أمية خوفا أن يثوروا به ، ويظهر أنه يفعل ذلك شفقة على المؤيد ، حتى أفنى من يصلح منهم للولاية ، ثم فرق باقيهم في البلاد ، وأدخلهم زوايا الخمول عارين من الطّراف والتّلاد ، وربما سكن بعضهم البادية ، وترك مجلس الأبهة وناديه ، حتى قال بعض من ينقم على المنصور ذلك الفعل من قصيدة : [الكامل]

١٠٤

أبني أميّة أين أقمار الدّجى

منكم؟ وأين نجومها والكوكب؟

غابت أسود منكم عن غابها

فلذاك حاز الملك هذا الثّعلب

مع أن للمنصور مفاخر ، بذّ بها (١) الأوائل والأواخر ، من المثابرة على جهاد العدو ، وتكرار الذهاب بنفسه في الرواح والغدوّ ، وله مع المصحفي وغيره أخبار مرت ويأتي بعضها ، ولا بأس أن نلخص ترجمة المصحفي فنقول :

قال الفتح في المطمح (٢) : الحاجب جعفر المصحفي ـ تجرّد للعليا ، وتمرد في طلب الدنيا ، حتى بلغ المنى ، وتسوّغ ذلك الجنى ، فسما دون سابقة ، وارتمى إلى رتبة لم تكن لبنيته بمطابقة ، والتاح (٣) في أفياء الخلافة (٤) ، وارتاح إليها بعطفه (٥) كنشوان السّلافة (٦) ، واستوزره المستنصر ، وعنه كان يسمع وبه كان يبصر ، فأدرك بذلك ما أدرك ، ونصب لأمانيه الحبائل والشّرك ، واقتنى وادخر ، وأزرى بمن سواه وسخر ، واستعطفه المنصور محمد (٧) بن أبي عامر ونجمه بعد غائر لم يلح ، وسره مكتوم لم يبح ، فما عطف ، ولا جنى من روضة دنياه ولا قطف ، فأقام في تدبير الأندلس ما أقام والأندلس متغيرة ، والأذهان في تكيف سعده متحيرة ، فناهيك من ذكر خلد ، ومن فخر تقلد ، ومن صعب راض ، وجناح فتنة هاض ، ولم يزل بنجاد تلك الخلافة معتقلا ، وفي مطالعها منتقلا ، إلى أن توفي الحكم ، فانتقض عقده المحكم ، وانبرت إليه النوائب ، وتسدّدت إليه من الخطوب سهام صوائب ، واتّصل إلى المنصور ذلك الأمر ، واختص به كما مال بيزيد أخوه الغمر ، وأناف في تلك الخلافة كما شبّ قبل اليوم عن طوقه عمرو ، وانتدب للمصحفي بصدر قد (٨) كان أوغره ، وساءه وصغّره ، فاقتصّ من تلك الإساءة ، وأغصّ حلقه بأي مساءة ، فأخمله ونكبه ، وأرجله عما كان الدهر أركبه ، وألهب جوارحه (٩) حزنا ، ونهب له مدّخرا ومختزنا ، ودمّر عليه ما كان حاط ، وأحاط به من مكروهه ما أحاط ، وغبر سنين في مهوى تلك النكبة ، وجوى تلك الكربة ، ينقله المنصور معه في غزواته ويعتقله بين ضيق المطبق ولهواته ، إلى أن تكوّرت شمسه ، وفاظت بين أثناء المحن نفسه (١٠) ، ومن بديع ما حفظ له في نكبته ، قوله يستريح من كربته : [الطويل]

__________________

(١) بذّ : تفوق ، غلب ، سبق.

(٢) المطمح ص ٤.

(٣) في ب : فالتاج ..

(٤) في ه : في أفق الخلافة.

(٥) في ه : إليه معطفه.

(٦) السلافة : أفضل الخمر.

(٧) محمد : غير موجودة في ب.

(٨) في ب : بصدر كان.

(٩) في ه : جوانحه.

(١٠) فاضت نفسه : مات.

١٠٥

صبرت على الأيّام لمّا تولّت

وألزمت نفسي صبرها فاستمرّت

فوا عجبا للقلب كيف اعترافه

وللنّفس بعد العزّ كيف استذلّت

وما النّفس إلّا حيث يجعلها الفتى

فإن طمعت تاقت وإلّا تسلّت

وكانت على الأيّام نفسي عزيزة

فلمّا رأت صبري على الذّلّ ذلّت

فقلت لها يا نفس موتي كريمة

فقد كانت الدّنيا لنا ثمّ ولّت

وكان له أدب بارع ، وخاطر إلى نظم القريض يسارع (١) ، فمن محاسن نظامه (٢) وإنشاده ، التي بعثها إيناس دهره بإسعاده ، قوله : [الطويل]

لعينيك في قلبي عليّ عيون

وبين ضلوعي للشّجون فنون

لئن كان جسمي مخلقا في يد الهوى

فحبّك عندي في الفؤاد مصون

وله وقد أصبح عاكفا على حميّاه ، هاتفا بإجابة دنياه ، مرتشفا ثغر الأنس متنسما ريّاه ، والملك يغازله بطرف كليل ، والسعد قد عقد عليه منه إكليل ، يصف لون مدامه ، وما تعرّف له منها دون ندامه : [الكامل]

صفراء تطرق في الزّجاج فإن سرت

في الجسم دبّت مثل صلّ لادغ(٣)

خفيت على شرّابها فكأنّما

يجدون ريّا من إناء فارغ

ومن شعره الذي قاله في السّفرجل مشبها ، وغدا به لنائم البديع منبها ، قوله يصف سفرجلة ، ويقال إنه ارتجله : [الطويل]

ومصفرّة تختال في ثوب نرجس

وتعبق عن مسك ذكيّ التّنفّس

لها ريح محبوب وقسوة قلبه

ولون محبّ حلّة السّقم مكتسي

فصفرتها من صفرتي مستعارة

وأنفاسها في الطّيب أنفاس مؤنسي

وكان لها ثوب من الزّغب أغبر

على جسم مصفرّ من التّبر أملس

فلمّا استتمّت في القضيب شبابها

وحاكت لها الأوراق أثواب سندس

مددت يدي باللّطف أبغي اجتناءها

لأجعلها ريحانتي وسط مجلسي

__________________

(١) في ه : مسارع.

(٢) نظامه و : غير موجودة في ب.

(٣) الصّلّ : الحية الخبيثة.

١٠٦

فبزّت يدي غصبا لها ثوب جسمها

وأعريتها باللّطف من كلّ ملبس(١)

ولمّا تعرّت في يدي من برودها

ولم تبق إلّا في غلالة نرجس(٢)

ذكرت لها من لا أبوح بذكره

فأذبلها في الكفّ حرّ التّنفّس

وله وقد أعاده المنصور إلى المطبق ، والشجون تسرع إليه وتسبق ، معزيا لنفسه ، ومجتزيا بإسعاد أمسه : [المتقارب]

أجازي الزّمان على حاله

مجازاة نفسي لأنفاسها

إذا نفس صاعد شفّها

توارت به دون جلّاسها

وإن عكفت نكبة للزّمان

عكفت بنفسي على راسها

ومما حفظ له في استعطافه ، واستنزاله للمنصور واستلطافه ، قوله : [المتقارب]

عفا الله عنك ، ألا رحمة

تجود بعفوك أن أبعدا

لئن جلّ ذنب ولم أعتمده

فأنت أجلّ وأعلى يدا

ألم تر عبدا عدا طوره

ومولى عفا ورشيدا هدى

ومفسد أمر تلافيته

فعاد فأصلح ما أفسدا

أقلني أقالك من لم يزل

يقيك ويصرف عنك الرّدى

عود وانعطاف إلى أخبار المنصور بن أبي عامر رحمه الله تعالى! وجازاه عن جهاده أفضل الجزاء بمنه وكرمه وفضله وطوله! فنقول :

وكان له في كل غزوة من غزواته المنيفة على الخمسين مفخر من المفاخر الإسلامية ، فمنها أن بعض الأجناد نسي رايته مركوزة على جبل بقرب إحدى مدائن الروم ، فأقامت عدة أيام لا يعرف الروم ما وراءها بعد رحيل العساكر ، وهذا بلا خفاء مما يفتخر به أهل التوحيد على أهل التثليث (٣) ، لأنهم لما أشرب قلوبهم خوف شرذمة المنصور وحزبه ، وعلم كلّ من ملوكهم أنه لا طاقة له بحربه لجؤوا إلى الفرار والتحصن بالمعاقل والقلاع ، ولم يحصل منهم غير الإشراف من بعد والاطلاع.

ومن مفاخر المنصور في بعض غزواته أنه مر بين جبلين عظيمين في طريق عرض بريد

__________________

(١) بزت : سلبت.

(٢) الغلالة : لباس يلبس تحت الثوب أو تحت الدرع.

(٣) أهل التثليث : النصارى. وفي ب : أهل : غير موجودة.

١٠٧

بوسط بلاد الإفرنج ، فلما جاوز ذلك المحل ـ وهو آخذ في التحريق والتخريب والغارات والسبي يمينا وشمالا ـ لم يجسر أحد من الإفرنج على لقائه ، حتى أقفرت البلاد مسافة أيام ، ثم عاد فوجد الإفرنج قد استجاشوا من وراءهم ، وضبطوا ذلك المدخل الضيق الذي بين جبلين ، وكان الوقت شتاء ، فلما رأى ما فعلوه رجع واختار منزلا من بلادهم أناخ به فيمن معه من العساكر ، وتقدم ببناء الدور والمنازل ، وبجمع آلات الحرث ونحوها ، وبث سراياه فسبت وغنمت ، فاسترق الصّغار ، وضرب أعناق الكبار ، وألقى جثثهم حتى سدّ بها المدخل الذي من جهته ، وصارت سراياه تخرج فلا تجد إلا بلدا خرابا ، فلما طال البلاء على العدو أرسلوا إليه في طلب الصلح ، وأن يخرج بغير أسرى ولا غنائم ، فامتنع من ذلك ، فلم تزل رسلهم تتردد إليه حتى سألوه أن يخرج بغنائمه وأسراه ، فأجابهم : إن أصحابي أبوا أن يخرجوا ، وقالوا : إنا لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى ، فنقعد ههنا إلى وقت الغزاة ، فإذا غزونا عدنا ، فما زال الإفرنج يسألونه إلى أن قرر عليهم أن يحملوا على دوابهم ما معه من الغنائم والسبي ، وأن يمدّوه بالميرة حتى يصل إلى بلاده ، وأن ينحّوا جيف القتلى عن طريقه (١) بأنفسهم ، ففعلوا ذلك كله ، وانصرف.

ولعمري إن هذا لعز ما وراءه مطمح ، ونصر لا يكاد الزمان يجود بمثله ويسمح ، خصوصا إزالتهم جيف قتلاهم من الطريق ، وغصصهم (٢) في شرب ذلك بالريق.

ومن مآثره التي هي في جبين عصره غرة ، ولعين دهره قرّة ، أنه لما ختن أولاده ختن معهم من أولاد أهل دولته خمسمائة صبي ، ومن أولاد الضعفاء عدد لا يحصر (٣) ، فبلغت النفقة عليهم في هذا الإعذار ، خمسمائة ألف دينار ، وهذه مكرمة مخلّدة ، ومنه مقلدة ، فالله سبحانه يجازيه عن ذلك أفضل الجزاء! ويجعل للمسلمين في فقد مثله أحسن العزاء!.

ومن مناقبه التي لم تتفق لغيره من الملوك في غالب الظنّ ، أن أكثر جنده من سبيه على ما حققه بعض المؤرخين ، وذلك غاية المنح من الله والمنّ.

ومن أخباره الدالة على إقبال أمره وخيبة عدوّه وإدباره ، أنه ما عاد قط من غزوة إلا استعدّ لأخرى ، ولم تهزم له قط راية مع كثرة غزواته شاتية وصائفة (٤) وكفاه ذلك فخرا.

__________________

(١) ينحون : يبعدون.

(٢) في ه : وغصّهم.

(٣) في ب ، ه : لا ينحصر.

(٤) الغزوة الشاتية أي في الشتاء. والصائفة : أي في الصيف.

١٠٨

ومنها أنه لقيته ـ وقد عاد من بعض غزواته ـ امرأة نغصّت عليه بلوغ مناه وشهواته ، وقالت له : يا منصور ، استمع ندائي ، فأنت من طيب عيشك وأنا في بكائي ، فسألها عن مصيبتها التي عمّتها وغمّتها ، فذكرت له أن لها ابنا أسيرا في بلاد سمّتها ، وأنها لا يهنأ عيشها لفقده ، ولا يخبو ضرام قلقلها من وقده ، وأنشد لسان حالها : [مجزوء الكامل]

يا ذلك الملك العليّ

ويح الشّجيّ من الخليّ

(١) فرحّب المنصور بها ، وأظهر الرقة بسببها ، وخرج من القابلة إلى تلك المدينة التي فيها ابنها وجاس أقطارها وتخللها ، حتى دوّخها إذ أناخ عليها بكلكله (٢) وذللها ، وأعراها من حماتها وببنود الإسلام المنصورة ظلّلها ، وخلّص جميع من فيها من الأسرى ، وجلبت عوامله إلى قلوب الكفرة كسرا ، وانقلبت عيون الأعداء حسرى ، وتلا لسان حال المرأة : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥)) [الشرح : ٥ ، ٦].

فهكذا تكون الهمة السلطانية ، والنخوة الإيمانية ، فالله سبحانه يروّح تلك الأرواح في الجنان ، ويرقى درجاتها ويعاملها بمحض الفضل والامتنان.

وقد تذكرت هنا والحديث شجون (٣) ، وبذكر (٤) المناسبات يبلغ الطلاب ما يرجون ، كتابا كتبه الأديب الكاتب أبو محمد ابن الإمام الحافظ محدث الأندلس أبي عمر بن عبد البر النّميري ، إلى المنصور بن أبي عامر ، وهو من ذرية المنصور الكبير الذي كنا نتحدث في أخباره ، يمت إليه بسلفه ومعاملتهم لمن تقدم من آبائه بتعظيم قدره وإكباره ، وهو : عمّر الله ببقاء سيدي (٥) ذي السابقتين بهجة أوطانه ، وملّكه عنان زمانه ، ومدّ عليه ظلال أمانه ، أنى أبقى الله الملك الكريم ، والسيد الزعيم ، لما أضاءت لي أهلّة مفاخركم في سماء الفخار ، وأشرقت شموس مكارمكم على مفارق الأحرار ، وأبصرت شمائلك الزهر تهدى إليك من الهمم محامدها (٦) ، ومحاسنك الغر توقظ لك من الآمال رواقدها (٧) ، أيقنت أنه بحقّ انقادت لك

__________________

(١) الشطر الثاني من البيت أخذ من بيت لأبي تمام وتمامه :

أيا ويح الشجي من الخلي

وبالي الربع من إحدى بلي

وفي ب : أيا ويح ؛ فيكون من بحر الوافر.

(٢) الكلكل : الصدر ، وأناخ عليها بكلكله : أي نال منها كثيرا.

(٣) الحديث شجون : أي أنواع وضروب ، يتصل بعضها ببعض. وشجون جمع شجن وهو الشعبة من كل شيء.

(٤) في ب : وفي ذكر.

(٥) في ب : ببقاء مولاي.

(٦) في ب : الهمم كامنها.

(٧) في ب : من الآمال نائمها.

١٠٩

القلوب بأعنّتها ، وتهادت إليك النفوس بأزمّتها ، فآليت أن لا ألم إلا بحماك ، ولا أحطّ رحلا إلا بفناك ، علما بأنك نثرة الفخر ، وغرة الدهر ، فتيمّمت ساريا في ساطع نورك ، متيمنا بيمن طائرك ، محققا للربح ، موقنا بالفلج والنّجح ، حتى حللت في دوحة المجد ، وأنخت بدولة السعد ، واستشعرت لبسة الشكر والحمد ، وجعلت أنظم من جواهر الكلام ، ما يربي عليّ جواهر النّظام ، وأنشر من عطر الثناء ، ما يزري بالروضة الغنّاء ، وحاشا للفهم أن يعطل ليلي من أقمارك ، أو يخلي أفقي من أنوارك ، فأراني منخرطا في غير سلكه ، ومنحطا إلى غير ملكه ، لا جرم أنه من استضاء بالهلال ، غني عن الذّبال (١) ، ومن استنار بالصباح ، ألقى سنا المصباح ، وتالله ما هزت آمالي ذوائبها إلى سواك ، ولا حدت أوطاري ركائبها إلى من مداك (٢) ، ليكون فيّ أثر الوسميّ في الماحل (٣) ، وعليّ جمال الحلي على العاطل ، لسيادتك السنية ، ورياستك الأولية ، التي يقصر عنها لسان إفصاحي ، ويعيا في بعضها بياني وإيضاحي ، فالقراطيس عند بثّ مناقبك تفنى ، والأقلام في رسم مآثرك تحفى ، وما أمل المجدب ، في حياة المخصب ، ولا جذل المذنب ، برضا المعتب ، كأملي في التعزز بحوزتك ، والتجمّل بجملتك ، والترفع بخدمتك ، فالسعيد من نشأ في دولتك ، وظهر في أمتك ، واستضاء بعزتك ، لقد فاز بالسبق من لحظته عين رعايتك ، وكنفته حوزة حمايتك ، فأنت الذي أمنت الذي بعدله نوائب الأيام ، وقويت بسلطانه دعائم الإسلام ، تختال بك المعاني (٤) اختيال العروس ، وتخضع لجلالك أعزة النفوس ، سابقة أشهر من الفجر ، وفطنة أنور من البدر ، وهمة أنفذ من الدهر : [الطويل]

لقد فاز من أضحى بكم متمسّكا

يشدّ على تأميل عزّكم يدا

سلكت سبيل الفخر خلقا مركّبا

وغيرك لا يأتيه إلّا تجلّدا

فأنتم لواء الدّين لا زال قيّما

بآرائكم في ظلمة الخطب يهتدى

ليهنكم مجد تليد بنيتم

أغار سناه في البلاد وأنجدا(٥)

ومثله أبقاه الله سبحانه يستثمر إيراقه ، فيثمر جناه ، ويستمطر إبراقه ، فيمطر حياه ، لا سيما وإني نشأة حفّها إحسان أوائلك الطاهرين ، وألفها إنعام أكابرك الأخيار الطيبين ، وجدير بقبولك

__________________

(١) الذبال : جمع ذبالة ، وهي الفتيلة والسراج.

(٢) في ب : عداك.

(٣) الوسمي : المطر في أول الربيع.

(٤) في ب : تختال بك المعالي.

(٥) أخذ عجز هذا البيت من قول الأعمش :

نبيّ يرى ما لا ترون وذكره

أغار لعمري في البلاد وأنجدا

١١٠

وإقبالك ، وبرك وإجمالك ، من أصله ثابت في أهل محبتكم ، وفرعه نابت في خاصتكم (١) : [الطويل]

وما رغبتي في عسجد أستفيده

ولكنّها في مفخر أستجدّه

فكلّ نوال كان أو هو كائن

فلحظة طرف منك عندي ندّه

فكن في اصطناعي محسنا كمجرّب

يبن لك تقريب الجواد وشدّه

إذا كنت في شكّ من السّيف فابله

فإمّا تنافيه وإمّا تعدّه

وما الصّارم الهنديّ إلّا كغيره

إذا لم يفارقه النّجاد وغمده

ولا بأس (٢) أن يتطوّل مولاي بغرس الصنيعة في أزكى الترب ، ووضع الهناء موضع النّقب(٣) ، والله سبحانه يبقي مولاي آخذا بزمام الفخر ، ناهضا بأعباء البر ، مالكا لأعنّة الدهر ، وصنع الله سبحانه لسيدي أتم الصنع وأجمله ، وأفضله وأكمله ، بمنه لا رب سواه ، انتهى.

رجع إلى أخبار المنصور الكبير محمد بن أبي عامر ، رحمه الله!.

وكنا قد ذكرنا أنه قبض على الوزير الحاجب المصحفي مع أنه كان أحد أتباعه.

قال صاحب كتاب «روضة الأزهار ، وبهجة النفوس ، ونزهة الأبصار» : ولما أمر المنصور بن أبي عامر بسجن المصحفي في المطبق بالزهراء (٤) ودّع أهله وودّعوه وداع الفرقة ، وقال لهم : لستم ترونني بعدها حيا ، فقد أتى وقت إجابة الدعوة ، وما كنت أرتقبه منذ أربعين سنة ، وذلك أني أشركت (٥) في سجن رجل في عهد الناصر ، وما أطلقته إلا برؤيا رأيتها بأن قيل لي : أطلق فلانا فقد أجيبت فيك دعوته ، فأطلقته وأحضرته وسألته عن دعوته عليّ ، فقال : دعوت على من شارك في أمري أن يميته الله في أضيق السجون ، فقلت : إنها قد أجيبت ، فإني كنت ممن شارك في أمره ، وندمت حين لا ينفع الندم ، فيروى أنه كتب للمنصور بن أبي عامر بهذه الأبيات : [البسيط]

هبني أسأت فأين العفو والكرم

إذ قادني نحوك الإذعان والنّدم

__________________

(١) الأبيات لأبي الطيب المتنبي من قصيدة يمدح بها كافورا الإخشيدي مطلعها :

أودّ من الأيام ما لا توده

وأشكو إليها بيننا وهي جنده

(٢) في ب ، ج : ولا غرو.

(٣) الهناء : القطران. والنقب : جمع نقبة ، وهي الجرب.

(٤) في ب ، ه : بالمطبق في الزهراء.

(٥) في ه : شاركت.

١١١

يا خير من مدّت الأيدي إليه أما

ترثي لشيخ نعاه عندك القلم

بالغت في السّخط فاصفح صفح مقتدر

إنّ الملوك إذا ما استرحموا رحموا

فأجابه المنصور بأبيات لعبد الملك الجزيري : [البسيط]

يا جاهلا بعد ما زلّت بك القدم

تبغي التكرّم لمّا فاتك الكرم

ندمت إذ لم تعد منّي بطائلة

وقلّما ينفع الإذعان والنّدم

نفسي إذا جمحت ليست براجعة

ولو تشفّع فيك العرب والعجم

فبقي في المطبق حتى مات ، نعوذ بالله تعالى من دعوة المظلوم ، انتهى.

وقد ذكر بعضهم فيه هذه الأبيات زيادة حسبما ذكرناه في غير هذا المحل ، فإن هذه الأبيات للمنصور ، وهذا المؤرخ مصرح بأنها لعبد الملك الجزيري ، وقد يقال : لا منافاة بينهما ، فإن المنصور أجاب بالأبيات ، وهل هو قائلها أم لا؟ الأمر أعم ، فبين هنا ، والله أعلم.

وقال بعض مؤرخي المغرب : إن الحاجب المصحفي حصل له في هذه النكبة من الهلع والجزع ما لم يظن أنه يصدر من مثله ، حتى إنه كتب إلى المنصور بن أبي عامر يطلب منه أن يقعد في دهليزه معلما لأولاده ، فقال المنصور بدهائه وحذفه : إن هذا الرجل يريد أن يحط من قدري عند الناس ، لأنهم طالما رأوني بدهليزه خادما ومسلما ، فكيف يرونه الآن في دهليزي معلما؟! وكان المنصور يذهب به بعد نكبته معه في غزواته ، حتى إنه حكى بعضهم أنه رأى الحاجب المصحفي في ليلة نهى المنصور فيها الناس عن إيقاد النيران تعمية على العدو الكافر ، وهو ينفخ فحما في كانون صغير ويخفيه تحت ثيابه ، أو كما قال ، فسبحان مديل (١) الدول ، لا إله إلا هو ، فإن هذا المصحفي بلغ من الجلالة والعظم (٢) والتحكم في الدولة المدة المديدة أمرا لا مزيد عليه ، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

ولقد ذكر بعض علماء (٣) المغاربة أن من أعاجيب انقلاب الدنيا بأهلها قصة المنصور بن أبي عامر مع الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ، ولم يزل أعداء المنصور بن أبي عامر يتربّصون به الدوائر ، فغلب سعده الذي هو المثل السائر ، وربما همس بعض الشعراء بهجوه

__________________

(١) مديل الدول : يقال : دالت له دولة ، أي صارت إليه. ومديل الدول : الذي ينقلها من إنسان إلى آخر ، وهو مالك الملك سبحانه.

(٢) في ب : والعظمة.

(٣) في ب ، ه : بعض العلماء المغاربة.

١١٢

وهجو الدولة جميعا إذ قال (١) : [السريع]

اقترب الوعد وحان الهلاك

وكلّ ما تحذره قد أتاك

خليفة يلعب في مكتب

وأمّه حبلى وقاض يناك

يعني بالخليفة هشاما المؤيد لكونه كان صغيرا ، وأمّه صبح البشكنشية (٢) كان الأعداء يتهمون بها المنصور ، وذلك بهتان وزور ، وأفظع منه رميهم القاضي بالفجور ، والله عالم بسرائر الأمور ، ونعوذ بالله من ألسنة الشعراء الذين لا يراعون إلّا ولا ذمة ، ويطلقون ألسنتهم في العلماء والأئمة. [الطويل]

وأظلم أهل الأرض من كان حاسدا

لمن بات في نعمائه يتقلّب(٣)

جدير بأن لا يدرك ما يؤمّل ويتطلب ، لأنه يعترض على الله سبحانه في أحكامه ، نعوذ بالله من شر أنفسنا ومن شر كل ذي شر ، بجاه نبينا عليه أزكى صلوات الله وأفضل سلامه.

وقد قدمنا أن المنصور بن أبي عامر كان أولا يخدم جعفر بن عثمان المصحفي مدبر مملكة هشام المؤيد ، ويريه النصيحة ، وأنه ما زال يستجلب القلوب بجوده وحسن خلقه ، والمصحفي ينفرها ببخله وسوء خلقه ، إلى أن كان من أمره ما كان ، فاستولى على الحجابة ، وسجن المصحفي ، وفي ذلك يقول المصحفي : [الطويل]

غرست قضيبا خلته عود كرمة

وكنت عليه في الحوادث قيّما

وأكرمه دهري فيزداد خبثه

ولو كان من أصل كريم تكرّما

ولما يئس المصحفي من عفو المنصور قال (٤) : [الكامل]

لي مدّة لا بدّ أبلغها

فإذا انقضت أيّامها متّ

لو قابلتني الأسد ضارية

والموت لم يقرب لما خفت(٥)

فانظر إليّ وكن على حذر

في مثل حالك أمس قد كنت

ومن أحسن ما نعى به نفسه قوله حسبما تقدم : [الطويل]

__________________

(١) انظر ابن عذاري ج ٢ ص ٤١٨.

(٢) في ب : البشكنسية.

(٣) ورد البيت في ب بصورة النثر وبإسقاط : أظلم أهل الأرض.

(٤) انظر الذخيرة : ج ٤ ص ٥١.

(٥) الأسود الضارية : المفترسة.

١١٣

صبرت على الأيّام حتّى تولّت

وألزمت نفسي صبرها فاستمرّت

فوا عجبا للقلب كيف اعترافه

وللنّفس بعد العزّ كيف استذلّت

وما النّفس إلّا حيث يجعلها الفتى

فإن طمعت ماتت وإلّا تسلّت(١)

وكانت على الأيّام نفسي عزيزة

فلمّا رأت صبري على الذّلّ ذلّت

فقلت لها يا نفس موتى كريمة

فقد كانت الدّنيا لنا ثمّ ولّت

وأنشد له الفتح في المطمح ، ونسبهما غيره لأحمد بن الفرج صاحب الحدائق : [الخفيف]

كلّمتني فقلت درّ سقيط

فتأمّلت عقدها هل تناثر

فازدهاها تبسّم فأرتني

نظم درّ من التّبسّم آخر

وله كما مر : [الكامل]

صفراء تطرق في الزّجاج ، فإن سرت

في الجسم دبّت مثل صلّ لادغ

خفيت على شرّابها فكأنّما

يجدون ريّا من إناء فارغ

وله : [السريع]

يا ذا الّذي أودعني سرّه

لا ترج أن تسمعه منّي

لم أجره بعدك في خاطري

كأنّه ما مرّ في أذني

وأنشد له صاحب بدائع التشبيهات : [الطويل]

سألت نجوم اللّيل هل ينقضي الدّجى

فخطّت جوابا بالثّريّا كخطّ لا

وكنت أرى أنّي بآخر ليلتي

فأطرق حتّى خلته عاد أوّلا

وما عن هوى سامرتها ، غير أنّني

أنافسها المجرى إلى طرق العلا

رجع ـ وكان كما تقدم بقرطبة المصحف العثماني ، وهو متداول (٢) بين أهل الأندلس ، قالوا : ثم آل أمره إلى الموحّدين ، ثم إلى بني مرين ، قال الخطيب بن مرزوق في كتابه «المسند الصحيح الحسن» ما ملخصه : وكان السلطان أبو الحسن لا يسافر موضعا (٣) إلا ومعه

__________________

(١) في ب : تاقت وإلا تسلت.

(٢) في ه : وهو متواتر عند أهل الأندلس.

(٣) موضعا : غير موجودة في ب.

١١٤

المصحف الكريم العثماني ، وله عند أهل الأندلس شأن عظيم ، ومقام كبير ، وكيف لا؟ قال ابن بشكوال : أخرج هذا المصحف منها ـ أي قرطبة (١) ـ وغرّب منها وكان بجامعها الأعظم ، ليلة السبت حادي عشر شوّال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في أيام أبي محمد عبد المؤمن بن علي وبأمره ، وهذا أحد المصاحف الأربعة التي بعث بها عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الأمصار : مكة ، والبصرة ، والكوفة ، والشام ، وما قيل إن فيه دم عثمان هو بعيد ، وإن يكن أحدها فلعله الشامي ، قاله ابن عبد الملك.

قال أبو القاسم التجيبي السبتي : أما الشامي فهو باق بمقصورة جامع بني أمية بدمشق المحروسة ، وعاينته هناك سنة ٦٥٧ ، كما عاينت المكي بقبة اليهودية ، وهي قبة التراب ، قلت: عاينتها (٢) مع الذي بالمدينة سنة ٧٣٥ وقرأت فيهما (٣) ، قال النخعي : لعله الكوفي أو البصري ، وأقول : اختبرت الذي بالمدينة والذي نقل من الأندلس فألفيت خطّهما سواء ، وما توهموه (٤) أنه خطه بيمينه فليس بصحيح ، فلم يخط عثمان واحدا منها ، وإنما جمع عليها بعضا من الصحابة كما هو مكتوب على ظهر المدني ، ونص ما على ظهره : هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي ، وذكر العدد الذي جمعه عثمان رضي الله تعالى عنه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كتب المصحف ، انتهى.

واعتنى به عبد المؤمن بن علي ، ولم يزل الموحّدون يحملونه في أسفارهم متبركين به ، إلى أن حمله المعتضد ، وهو السعيد علي بن المأمون أبي العلاء إدريس بن المنصور ، حين توجه لتلمسان آخر سنة ٦٤٥ ، فقتل قريبا من تلمسان ، وقدّم ابنه إبراهيم ، ثم قتل ، ووقع النهب في الخزائن ، واستولت العرب وغيرهم على معظم العسكر ، ونهب المصحف ولم يعلم مستقره ، وقيل : إنه في خزانة ملوك تلمسان ، قلت : لم يزل هذا المصحف في الخزانة إلى أن افتتحها إمامنا أبو الحسن أواخر شهر رمضان سنة ٧٣٧ ، فظفر به وحصل عنده إلى أن أصيب في وقعة طريف (٥) وحصل في بلاد برتقال ، وأعمل الحيلة في استخلاصه ، ووصل إلى فاس

__________________

(١) في ب : هذا المصحف من قرطبة ..

(٢) في ب : عاينتهما.

(٣) في ب : وقرأت فيها.

(٤) في ه : وما توهموا من أنه خط.

(٥) وقعت هذه الواقعة سنة ٧٤١ ه‍ ، وفيها غلب أبو الحسن المريني وعاد إلى الغرب مغلولا (اللمحة البدرية ص ٩٣).

١١٥

سنة ٧٤٥ على يد أحد تجار أزمّور (١) ، واستمر بقاؤه في الخزانة ، انتهى باختصار.

واعتنى به ملوك الموحدين غاية الاعتناء ، كما ذكره ابن رشيد في رحلته ، ولا بأس أن أذكر كلامه بجملته ، والرسالة في شأن المصحف لما فيها من الفائدة ، ونص محل الحاجة منه : أنشدني الخطيب أبو محمد بن برطلة من لفظه وكتبته من خطه ، قال : أنشدني الشيخ الفقيه القاضي أبو القاضي أبو القاسم عبد الرحمن بن كاتب الخلافة أبي عبد الله بن عياش لأبيه رحمهم الله تعالى مما نظمه ، وقد أمر أمير المؤمنين المنصور بتحلية المصحف : [الطويل]

ونفّلته من كلّ ملك ذخيرة

كأنّهم كانوا برسم مكاسبه

فإن ورث الأملاك شرقا ومغربا

فكم قد أخلّوا جاهلين بواجبه

وكيف يفوت النّصر جيشا جعلته

أمام قناه في الوغى وقواضبه

وألبسته الياقوت والدرّ حلية

وغيرك قد روّاه من دم صاحبه(٢)

وعلى ذكر هذا المصحف الكريم فلنذكر كيفية الأمر في وصوله إلى الخليفة أمير المؤمنين عبد المؤمن ، وما أبدى في ذلك من الأمور الغريبة التي لم يسمع بمثلها في سالف الدهر ، حسبما أطرفنا به الوزير الأجل أبو زكرياء يحيى بن أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي حفظه الله تعالى وشكره ، مما استفاده وأفاده لنا مما لم نسمع به قبل ، عن كتاب جده الوزير أبي بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل المذكور ، مما تضمنه من وصف قصة المصحف ، فقال : وصل إليهم أدام الله سبحانه تأييدهم قمرا الأندلس النيران ، وأميراها المتخيّران ، السيدان الأجلان أبو سعيد وأبو يعقوب أيدهما الله ، وفي صحبتهما مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، وهو الإمام الذي لم يختلف فيه مختلف ، وما زال ينقله خلف عن سلف ، وقد (٣) حفظ شخصه على كثرة المتناولين ، وذخره الله لخليفته المخصوص بمن سخر لخدمته من المتداولين ، وله من غرائب الأنباء ومتقدم الإشعار بما آل إليه أمره من الإيماء ما ملئت به الطروس ، وتحفظه من أهل الأندلس الرائس والمرؤوس ، فتلقي عند وصوله بالإجلال والإعظام ، وبودر إليه بما يجب من التبجيل والإكرام ، وعكف عليه

__________________

(١) أزمور : وردت في معجم البلدان أزمورة ، وهي بلد بالغرب في جبال البربر (معجم البلدان ج ١ ص ١٦٩).

(٢) يشير إلى ما فعله الذين حاصروا أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار ، وقتلوه وهو يقرأ القرآن ، فخضبوا المصحف بدمه.

(٣) في ب : قد حفظه.

١١٦

أطول العكوف والتزم أشدّ الالتزام ، وكان في وصوله ذلك الوقت من عظيم العناية وباهر الكرامة ما هو معتبر لأولي الألباب ، وبلاغ في الإغراب والإعجاب ، وذلك أن سيدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين ، أدام الله له عوائد النصر والتمكين ، كان قبل ذلك بأيام قد جرى ذكره في خاطره الكريم ، وحركته إليه دواعي خلقه العظيم ، وتراءى مع نفسه المطمئنة المرضية ، وسجاياه الحسنة الرضية ، في معنى اجتلابه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم ، ووطنه الموصل بحرمته للتقديم ، فتوقّع أن يتأذّى أهل ذلك القطر بفراقه ، ويستوحشوا لفقدان إضاءته في أفقهم وإشراقه ، فتوقف عن ذلك لما جبل عليه من رحمته وإشفاقه ، فأوصله الله إليه تحفة سنية ، وهدية هنية ، وتحية من عنده مباركه زكية ، دون أن يكدرها من البشر اكتساب ، أو يتقدمها استدعاء أو اجتلاب ، بل أوقع الله سبحانه وتعالى في نفوس أهل ذلك القطر من الفرح بإرساله إلى مستحقه ، والتبرع به إلى القائم إلى الله تعالى بحقه ، ما اطلع بالمشاهدة والتواتر على صحته وصدقه ، وعضدت مخايل برقه سواكب ودقه ، وكان ذلك من كرامات سيدنا ومولانا الخليفة معدودا ، وإلى أمره الذي هو أمر الله مردودا ، وجمع عند ذلك بحضرة مراكش ـ حرسها الله تعالى! ـ سائر الأبناء الكرام ، والسادة الأعلام ، بدور الآفاق ، وكواكب الإشراق ، وأهل الاستئهال للمقامات الرفيعة وذوو الاستحقاق ، فانتظم عند ذلك هذا القصيد مشيرا إلى اجتماع هذه الدراري الزاهرة ، والتئام خطوطها على مركز الدائرة ، ووصول المتقدم ذكره ، المشهور في جميع المعمور أمره ، وهو هذا : [الطويل]

دراريّ من نور الهدى تتوقّد

مطالعها فوق المجرّة أسعد

وأنهار جود كلّما أمسك الحيا

يمدّ بها طامي الغوارب مزبد(١)

وآساد حرب غابها شجر القنا

ولا لبد إلا العجاج الملبّد(٢)

مساعير في الهيجا مساريع للنّدى

بأيديهم يحمى الهجير ويبرد

تشبّ بهم ناران للحرب والقرى

ويجري بهم سيلان جيش وعسجد(٣)

ويستمطرون البرق والبرق عندهم

سيوف على أفق العداة تجرّد

إذا منّ سجف السّاريات مضاؤها

فماذا الّذي يغني الحديد المسرّد(٤)

__________________

(١) الحيا : المطر. وطامي الغوارب : أعالي الموج.

(٢) في ب ، ه : ولا لبدة.

(٣) القرى ، بكسر القاف : ما قدّم للضيفان.

(٤) في ب : إذا عنّ.

١١٧

ويسترشدون النّجم والنّجم عندهم

نصول إلى حبّ القلوب تسدّد

تزاحم في جوّ السّماء كأنّما

عواملها في الأفق صرح ممرّد(١)

تخازر ألحاظ الكواكب دونها

ويفرق منها المرزمان وفرقد(٢)

ألم ترها في الأفق خافقة الحشا

كما تطرف العينان والقلب يزأد(٣)

وليس احمرار الفجر من أثر السّنى

ولكنّه ذاك النّجيع المورّد

وما انبسطت كفّ الثّريّا فدافعت

ولكنّها في الحرب شلو مقدّد

وحطّ سهيلا ذعره عن سميّه

فأضحى على أفق البسيطة يرعد

ولمّا رأى نسر وقوع أليفه

تطاير من خوف فما زال يجهد

مواقع أمر الله في كلّ حالة

يكاد لها رأس الثّرى يتميّد

أهاب بأقصى الخافقين فنظّمت

وهيّب جمع المخفقين فبدّدوا

وأضفى على الدّنيا ملابس رحمة

نضارتها في كلّ حين تجدّد

وأخضل أرجاء الرّبا فكأنّما

عليها من النّبت النّضير زبرجد

فمن طرب ما أصبح البرق باسما

ومن فرح ما أضحت المزن ترعد(٤)

وغنّى على أفنان كلّ أراكة

غذاها حيا النّعمى حمام مغرّد

وكبّر ذو نطق وسبّح صامت

وكاد به المعدوم يحيا ويوجد

وأبرز للأذهان ما كان غائبا

فسيّان فيها مطلق ومقيّد

سلام على المهديّ ، أمّا قضاؤه

فحتم ، وأمّا أمره فمؤكّد

إمام الورى عمّ البسيطة عدله

على حين وجه الأرض بالجور أربد(٥)

بصير رأى الدّنيا بعين جليّة

فلم يغنه إلّا المقام الممجّد

ولمّا مضى والأمر لله وحده

وبلّغ مأمول وأنجز موعد

تردّى أمير المؤمنين رداءه

وقام بأمر الله والنّاس هجّد

__________________

(١) العوامل : صدور الرماح.

(٢) تتخازر : تضيق عينيها لتحد النظر.

(٣) يزأد : يخوّف.

(٤) المزن : جمع مزنة ، وهي السحابة الممطرة.

(٥) الأربد : المغبّر.

١١٨

بعزمة شيحان الفؤاد مصمّم

يقوم به أقصى الوجود ويقعد(١)

مشيئته ما شاءه الله ، إنّه

إذا همّ فالحكم الإلهيّ يسعد

كتائبه مشفوعة بملائك

ترادفها في كلّ حال وترفد(٢)

وما ذاك إلّا نيّة خلصت له

فليس له فيما سوى الله مقصد

إذا خطبت راياته وسط محفل

ترى قمم الأعداء في التّرب تسجد

وإن نطقت بالفصل فيهم سيوفه

أقرّ بأمر الله من كان يجحد

معيد علوم الدّين بعد ارتفاعها

ومبدي علوم لم تكن قبل تعهد

وباسط أنوار الهداية في الورى

وقد ضمّ قرص الشّمس في الغرب ملحد

وقد كان ضوء الشّمس عند طلوعها

يغان بأكنان الضّلال ويغمد (٣)

فما زال يجلو عن مطالعها الصّدا

ويبرزها بيضاء والجوّ أسود

جزى الله عن هذا الأنام خليفة

به شربوا ماء الحياة فخلّدوا

وحيّاه ما دامت محاسن ذكره

على مدرج الأيّام تتلى وتنشد

لمصحف عثمان الشّهيد وجمعه

تبيّن أنّ الحقّ بالحقّ يعضد(٤)

تحامته أيدي الرّوم بعد انتسافه

وقد كاد لو لا سعده يتبدّد

فما هو إلّا أن تمرّس صارخ

بدعوته العليا فصين المبدّد

وجاء وليّ الثّأر يرغب نصره

فلبّاه منه عزمه المتجرّد

رأى أثر المسفوح في صفحاته

فقام لأخذ الثّأر منه مؤيّد

وشبّهه بالبدر وقت خسوفه

فلله تشبيه له الشّرع يشهد(٥)

زمان ارتفاع العلم كان خسوفه

وقد عاد بالمهديّ والعود أحمد

أتتك أمير المؤمنين ألوكة

من الحرم الأقصى لأمرك تمهد(٦)

سيوف بني عيلان قامت شهيرة

لدعوتك العلياء تهدي وترشد

وطافت ببيت الله فاشتدّ شوقه

إليك ولبّى منه حجر ومسجد

__________________

(١) شيحان الفؤاد : حازم الفؤاد ، قويه.

(٢) ترادفها : تتبعها ، ويكون لها رديف.

(٣) يغان : يغطى بالغيم. والأكنان : جمع كنّ ، وهو الستر.

(٤) يعضد : يعان ، يساعد.

(٥) في ج : قبل خسوفه. و : فلله تشبيه به الشرع.

(٦) الألوكة : الرسالة.

١١٩

وحجّ إليك الرّكن والمرو والصّفا

فأنت لذاك الحجّ حجّ ومقصد

مشاعرها الأجسام والرّوح أمركم

ومنكم لها يرضى المقام المخلّد

فلله حجّ واعتمار وزورة

أتتنا ولم يبرحك بالغرب مشهد

ولله سبع نيّرات تقارنت

بها فئة الإسلام تحمى وتسعد(١)

إذا لم يكن إلّا فناءك عصمة

فماذا الّذي يرجو القصيّ المبعّد

فدم للورى غيثا وعزّا ورحمة

فقربك في الدارين منج ومسعد

وزادت بك الأعياد حسنا وبهجة

كأنّك للأعياد زيّ مجدّد

ولا زلت للأيّام تبلي جديدها

وعمرك في ريعانه ليس ينفد

ثم إنهم أدام الله سبحانه تأييدهم ، ووصل سعودهم ، لما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور ، واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزير (٢) ، شرعوا في انتخاب كسوته ، وأخذوا في اختيار حليته ، وتأنقوا في استعمال أحفظته ، وبالغوا في استجادة أصونته (٣) ، فحشروا له الصّنّاع المتقنين والمهرة المتفنّنين ممن كان بحضرتهم العلية ، أو سائر بلادهم القريبة والقصيّة ، فاجتمع لذلك حذّاق كل صناعة ، ومهرة كل طائفة من المهندسين والصواغين والنظامين والحلائين (٤) والنقاشين والمرصّعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين ، ولم يبق من يوصف ببراعة ، أو ينسب إلى الحذق في صناعة ، إلا أحضر للعمل فيه ، والاشتغال بمعنى من معانيه ، فاشتغل أهل الحيل الهندسية بعمل أمثلة مخترعة ، وأشكال مبتدعة ، وضمنوها من غرائب الحركات ، وخفي إمداد الأسباب للمسببات ، ما بلغوا فيه منتهى طاقتهم ، واستفرغوا فيه جهد قوتهم ، والهمة العلية أدام الله سموها تترقى فوق معارجهم (٥) وتتخلص كالشهاب الثاقب وراء موالجهم (٦) ، وتنيف على ما ظنوه الغاية القصوى من لطيف مدارجهم ، فسلكوا من عمل هذه الأمثلة كل شعب (٧) ، ورأبوا

__________________

(١) في ج : تحيا وتسعد.

(٢) التعزير : التعظيم والتوقير ، وفي القرآن (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ).

(٣) الأصونة : جمع صوان ، وهو ما يحفظ فيه الشيء.

(٤) الحلائين : صانعي الحلي.

(٥) المعارج : السلالم.

(٦) الموالج : المداخل.

(٧) الشعب : الصدع.

١٢٠