شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذا باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام

وحروف الأمر والنهي

وهى حروف النفي شبهوها بألف الاستفهام ، حيث قدم الاسم قبل الفعل ؛ لأنهن غير واجبات ، كما أن الألف وحروف الجزاء غير واجبة وكما أن الأمر والنهي غير واجبين ، وسهل تقديم الاسم فيها لأنها نفي واجب ، وليست كحروف الاستفهام والجزاء.

قال أبو سعيد وقد قدمنا أن قولك : " زيد ضربته" أجود من" زيدا ضربته" وقولك : " أزيدا ضربته" في الاستفهام أجود من قولك : " أزيد ضربته" ، وقد توسطت هذين البابين حروف يتقارب النصب فيها والرفع ، وهي" ما" و" لا" ، تقول : " ما زيدا ضربته" و" ما زيد ضربته" و" لا زيدا كلمته ولا عمرا أكرمته ، وإن شئت قلت : " لا زيد كلمته"" ولا عمرو أكرمته".

وإنما تقارب النصب فيها والرفع ، لأنها تشبه حروف الاستفهام من جهة ، وتشبه المبتدأ من جهة.

فأما شبهها بحروف الاستفهام ؛ فلأنها حروف دخلت على المبتدأ فأخرجته من حد الإيجاب إلى حد النفي ، كما أن حروف الاستفهام أخرجت ما دخلت عليه من الإيجاب إلى الاستفهام.

وأما شبهها بالمبتدأ فلأنها نقيضة المبتدأ ، ونفي له ، والنفي يجري مجرى الإيجاب ، ألا ترى أنك إذا قلت : " قام زيد" ، فنفي هذا أن تقول : " ما قام زيد" ، تردّ الكلام على لفظه وتدخل حرف النفي.

وأنشد أبياتا بالنصب منها قول جرير :

٣

ولا حسبا فخرت به لتيم

ولا جدا إذا ازدحم الجدود (١)

أراد فلا ذكرت حسبا فخرت به ، وقد يجوز أن تكون" لا" للنفي ونوّن الحسب اضطرارا ، وقد كان يونس يذهب إليه.

قال : " وإن شئت رفعت ، والرفع فيه أقوى ؛ إذ كان في ألف الاستفهام ؛ لأنهن نفي واجب".

يعني لما جاز أن يكون الرفع في الاستفهام ، وإن كان الاختيار النصب كان الرفع في حروف النفي أقوى ؛ لأنها لم تبلغ أن تكون في القوة مثل حروف الاستفهام والجزاء ؛ لشبه المبتدأ الذي ذكرناه.

قال : (فإن جعلت" ما" بمنزلة" ليس" في لغة أهل الحجاز لم يكن إلا الرفع ؛ لأنك تجيء بالفعل بعد ما عمل فيه ما هو بمنزلة فعل يرفع ، كأنك قلت : ليس زيد ضربته).

يعني أن أهل الحجاز يرفعون الاسم ب" ما" ، ويجعلونها بمنزلة" ليس" فإذا قلت : " ما زيد ضربته" ، فالرفع لا غير في" زيد" على قولهم ؛ لأنهم جعلوها عاملة في" زيد" فغير جائز أن تضمر فعلا آخر ينصب زيدا ، وقد رفعته ب" ما" وذكرت" ضربته" بعد ما عملت" ما" في" زيد" ، فكأنك قلت : " كان زيد ضربته" و" ليس زيد ضربته".

قال : (وقد أنشد بعضهم هذا البيت رفعا :

وقالوا تعرّفها المنازل من منى وما كلّ من وافى منى أنا عارف) (٢)

كأنما قال : اطلبها في المنازل. قال : (فإن شئت حملته على" ليس").

يعني إن شئت جعلت" كلّ" مرفوعا بما ، وجعلت" أنا عارف" في موضع الخبر ، وأضمرت في عارف" ها" تعود إلى" كلّ" كأنك قلت : أنا عارفه ، وهذا على لغة أهل الحجاز.

قال : (وإن شئت حملته على" كلّه لم أصنع" وهذا أبعد الوجهين).

__________________

(١) الخزانة ١ / ٤٧٧ ، ديوان جرير ١٦٥.

(٢) البيت لمزاحم العقيلي ، انظر شرح شواهد المغني ٣٢٨.

٤

يعني : وإن شئت رفعت كلا بالابتداء ، وجعلت الجملة في موضع الخبر ، وأضمرت الهاء في" عارف" على لغة بني تميم كما قلت : " كلّه لم أصنع" فرفعت" كلّ" بالابتداء ، وأضمرت في" أصنع" هاء تعود إلى" كلّ" ، ومعنى قوله : " وهذا أبعد الوجهين".

يعنى : رفع كل بالابتداء أبعد الوجهين ؛ وذلك لأن من يرفعه بالابتداء لا يعمل" ما" ؛ فإذا لم يعملها أمكنه أن يعمل" عارف" في" كل" ، فإذا لم يعمل فقد قبح ؛ إذ قد وجد السبيل إلى الكلام المختار ، ولا ضرورة تدعو إلى غيره ، ومن رفع" كلّ"" بما" فهو لا يجد السبيل إلى إعمال" عارف" في" كل" إلا بحذف" ما" ، وحذفها يغير المعنى.

قال : (وقد زعم بعضهم أنّ" ليس" تجعل ك" ما" وذلك قليل لا يكاد يعرف ، فهذا يجوز أن يكون منه : " ليس خلق الله مثله" و" ليس قالها زيد").

يعني أن بعضهم يجعل" ليس" محمولة على" ما" فيلغي عملها ، ولا يجوز أن يكون الذي يفعل هذا من العرب ، إلا من كانت من لغته في" ما" إلغاؤها ، فتحمل" ليس" على" ما" ، وتجعلها حرفا لا تعمل في اللفظ شيئا ، كما لم تعمل" ما" ، وليس على هذه اللغة دليل قاطع ، ولا حجّة تقطع العذر ؛ لأن كل ما يستشهد به يحتمل التأويل ؛ لأنه إذا احتجّ محتج بقولهم : " ليس خلق الله مثله" فقال : " خلق" فعل ، ولو كانت" ليس" فعلا لما وليها الفعل ، فللقائل أن يقول في : " ليس" ضمير الأمر والشأن و" خلق" وما بعده جملة في موضع الخبر ؛ فلذلك قال سيبويه : " فهذا يجوز أن يكون منه" لهذا المعنى الذي ذكرناه.

وقد احتجوا بشيء آخر ـ وهو أقوى من الأول ـ وهو قول بعض العرب : " ليس الطيب إلا المسك" فقالوا : هذا بمنزلة : ما الطيب إلا المسك ، قالوا : ولو كان في" ليس" ضمير الأمر والشأن ، لكانت الجملة التي في موضع الخبر قائمة بنفسها ، وفي موضع خبرها ، ونحن لا نقول : " الطيب إلا المسك" بغير تقديم حرف النفي ، وليس الأمر على ما ظنوا ؛ لأن الجملة إذا كانت في موضع خبر اسم قد وقع عليه حرف النفي فقد لحقها في المعنى ، ألا ترى أنك إذا قلت : " ما زيد أبوه قائم" فقد نفيت قيام أبيه كما لو قلت : " ما أبو زيد قائم" وعلى هذا يجوز أن تقول : " ما زيد أبوه إلا قائم" ، كأنك قلت : " ما أبو زيد إلا قائم".

٥

وأنشد لحميد الأرقط ، على لغة من يجعل" ليس" بمعنى" ما" :

فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم

وليس كلّ النوى يلقي المساكين (١)

فنصب" كلّ" بيلقي ، وجعل" ليس" بمعنى" ما" ، كأنه قال : ما يلقي ، وبقول هشام أخي ذي الرمة :

هي الشفاء لدائي إن ظفرت بها

وليس منها شفاء الداء مبذول (٢)

على قولك : ما منها شفاء الداء مبذول.

قال : (هذا كله سمع من العرب ، والوجه والحد فيه أن تحمله على أن في" ليس" إضمارا ، وهذا مبتدأ كقوله : "" إنه أمة الله ذاهبة").

يعني ضمير الأمر.

قال : (إلا أن بعضهم قال" ليس الطيب إلا المسك" و" ما كان الطيب إلا المسك").

وكان هذا عنده أقوى من الحجة الأولى ؛ وذلك أن الذين رفعوا المسك في" ليس" هم الذين نصبوه في" كان" فأشبه أن يكون لفرق بين ليس وكان ، والوجه هو الذي ذكرناه ، ولو جعل في" كان" ضمير الأمر والشأن لرفع المسك أيضا.

قال : (فإن قلت : " ما أنا زيد لقيته" رفعت إلا في قول من نصب" زيدا لقيته" ؛ لأنك شغلت الفعل بضميره).

يعني أنك إذا قلت : " ما أنا زيد لقيته" فالذي ولى حرف النفي غير زيد ، ففصل بين" زيد" وبين حرف النفي ، فصار" زيد" بمحله في الابتداء ، وكان الاختيار فيه الرفع ، وهذا يشبه قولك : " أنت زيد ضربته" لما فصلت بين ألف الاستفهام وبين" زيد" وقد مضى الكلام في هذا.

قال : (وهو فيه أقوى لأنه عامل في الاسم).

يعني الرفع في : " ما أنا زيد ضربته" أقوى منه في : " أنت زيد ضربته" لأن" ما" عاملة

__________________

(١) العيني ٢ / ٨٢ ـ الخزانة ٤ / ٥٨ ـ آمالي ابن الشجري ٢ / ٢٠٣.

(٢) انظر شواهد المغني ٢٤٠ ، الدرر ١ / ٨٠ ، المقتضب ٤ / ١٠١.

٦

في الاسم الذي بعدها ، يعني في لغة أهل الحجاز فلما كانت عاملة في الاسم الذي بعدها ، وألف الاستفهام غير عاملة كان الرفع أقوى في" ما".

قال : (وأما ألف الاستفهام وما في لغة بني تميم يفصلن ولا يعملن ، فإذا اجتمع أنك تفصل وتعمل الحرف فهو أقوى).

يعني أن" ما" وألف الاستفهام في لغة بني تميم يفصلن عن الاسم الذي وقع الفعل على ضميره باسم آخر ، كقولك : " أأنت زيد ضربته" و" ما أنا زيد لقيته" ، فصلت الألف و" ما" عن زيد بدخول" أنا" و" أنت" بينهما ، وهما لا يعملان في الاسم الذي يليها فمجراهما واحد.

فإذا جئت إلى لغة أهل الحجاز في" ما" فصلت بينها وبين الاسم الذي وقع الفعل على ضميره وأعملتها في الاسم الذي يليها ، فبعد النصب عن الاسم الذي وقع الفعل على ضميره ؛ لبعدها منه لمّا اجتمع الفصل بينها وبينه ، وعملها فيما وليها ، ويجوز" ما أنا زيدا لقيته" على قول من قال في الابتداء : " زيدا لقيته" ، والاختيار الرفع.

واعلم أن الجملة إذا كانت في موضع خبر اسم متقدم ، أو في محل بعينه كان سبيلها كسبيلها إذا وقعت مبتدأة ، ويختار فيها ما يختار في الابتداء.

وكونها خبرا في أربعة أشياء. وهي : خبر المبتدأ ، وخبر كان وأخواتها ، وخبر إن وأخواتها ، والمفعول الثاني في" ظننت" وأخواتها ، تقول : " زيد أبوه ضربته" و" كنت زيد ضربته" و" إني عمرو كلمته" و" حسبتني أخوك رأيته" ، وإنما صار الاختيار الرفع في هذه الأشياء ؛ لأنك جئت بهذه الجمل ، وهي كلام قائم بنفسه ، فوضعته في موضع خبره ، فينبغي أن تعطي الكلام حقه وإعرابه ، ثم توقعه في هذا الموقع ، ويجوز نصبه بما جاز في الابتداء.

وأما قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)(١) فإنه على قول من يقول : " زيدا ضربته".

فإن قال قائل : فأنتم تزعمون أن قول القائل : " إني زيد كلمته" الاختيار فيه الرفع ؛

__________________

(١) سورة القمر ، آية : ٤٩.

٧

لأنه جملة في موضع الخبر ، فلم اختير النصب في : " إنا كلّ شيء خلقناه" وكلام الله تعالى أولى بالاختيار؟ فالجواب أن في النصب هاهنا دلالة على معنى لا يوجد ذلك المعنى في حالة الرفع ؛ وذلك أنك إذا قلت : " إنا كلّ شيء خلقناه بقدر" ، فتقديره : إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ، فهو يوجب العموم ؛ لأنه إذا قال : إنا خلقنا كلّ شيء فقد عمّ ، وإذا رفع فقال : كلّ شيء خلقناه بقدر ، فليس فيه عموم ؛ لأنه يجوز أن نجعل" خلقناه" نعتا لشيء ، ويكون" بقدر" خبرا لكل ، ولا تكون فيه دلالة لفظه على خلق الأشياء كلها ، بل تكون فيه دلالة على أن ما خلق منها خلقه بقدر ، ومثل هذا في الكلام" كلّ نحوي أكرمته في الدار" فقد أوجبت أنه ما بقي أحد من النحويين إلا وقد أكرمته ؛ لأن تقديره : أكرمت كلّ نحوي أكرمته في الدار ، وإذا قلت : " كلّ نحوي أكرمته في الدار" ، وجعلت" أكرمته" نعتا لنحوي ، فمعناه كل من أكرمته من النحويين فهو حاصل في الدار ، ويجوز أن يكون في النحويين من لم تكرمه في الدار.

قال : وقد قرأ بعضهم : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ)(١).

والاختيار الرفع وهو الأكثر في القراءة ، ونصبه على إضمار فعل ، كأنه قال : وأما ثمود فهدينا فهديناهم يعني قراءة من قرأ : إنا كلّ شيء خلقناه ، وإن كان الاختيار الرفع لقراءة من قرأ" وأما ثمود فهديناهم" والاختيار الرفع لأن" أمّا" من حروف الابتداء ، وقد بينا ما في ذلك.

قال : (وتقول : " كنت عبد لله لقيته" لأنه ليس من الحروف التي ينصب ما بعدها كحروف الاستفهام وحروف الجزاء وما شبه بها).

يعني" كنت" ليس مثل هذه الحروف التي يختار النصب فيما بعدها كحروف الاستفهام ، وحروف الجزاء ، وما شبه بها من الأمر ، وحروف النفي ، وليس بفعل ذكرته ليعمل في شيء فينصبه أو يرفعه ، ثم تضم إلى الكلام الأول الاسم ، يعني أن" كنت" ليست بجملة مبنية على فعل عطفت عليها جملة أخرى كقولك : " ضربت زيدا وعمرا كلمته" ، فوجب أن يكون الاختيار الرفع فيما كان في موضع الخبر على ما وصفنا.

وتكلم بكلام طويل لم يخرج عن الجملة التي عندنا ، فأرى أن الجملة التي تقع في

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ١٧.

٨

موضع الخبر لا تشبه الجملة المعطوفة ، وكان فيما ذكر أن الجملة التي تقع في موضع الخبر قد حالت بين الأول وبين مفعوله أن تنصبه ، فكيف يختار فيه النصب وقد حال بينه وبين مفعوله.

يعني أنك إذا قلت : " كنت زيد ضربته" فقد وقع" زيد ضربته" في موضع مفعول" كنت" كأنك قلت : " كنت قائما" ، فإذا كانت الجملة قد منعت كنت المنصوب وحلت في محله ، لم تشبه الجملة المعطوفة وهي" ضربت زيدا وعمرا كلمته" ؛ لأن الأول قد نصب مفعوله ، وعطف الثاني عليه ، فأجري مجراه في تسلطه على مفعوله.

قال : (ومثله" قد علمت لعبد الله تضربه" ، فدخول اللام يدلّك على أنه إنما أراد به ما أراد إذا لم يكن قبله شيء).

يعني أن اللام منعت من أن يكون" عبد الله" مفعولا لعلمت فارتفع كما يرتفع في الابتداء ، وكذلك وقوع هذه الجملة في موضع خبر كان قد منع كان من التسلط عليها ، ونصبها لها كما تنصب خبرها فصارت كالمبتدأ ، وليس ذلك بمنزلة حروف العطف.

قال : (وترك الواو في الأول هو كدخول اللام هنا). يعني ترك الواو في" كنت زيد ضربته" حين جعلته خبرا ، ولم تجعله عطفا كدخول اللام في : " قد علمت لعبد الله تضربه".

قال : (فإن شاء نصب كما قال الشاعر ، وهو المرّار الأسديّ :

فلو أنها إياك عضّتك مثلها

جررت على ما شئت نحرا وكلكلا

وهذا البيت على قول من قال : " إني زيدا ضربته" ، وأنت إذا قلت : " إني زيدا ضربته" ثم خاطبت زيدا لقلت : " إني إياك ضربتك" فيكون" إياك" بمنزلة" زيد" ، والكاف بمنزلة الهاء ، والتقدير : لو أنها إياك عضت مثلها عضتك مثلها ، وإذا قلت : " إني زيد ضربته" ثم خاطبت زيدا قلت : " إني أنا ضربتك".

هذا باب من الفعل يستعمل في الاسم

ثم يبدل مكان ذلك الاسم اسم آخر فيعمل فيه كما عمل في الأول.

وذلك قولك : " رأيت قومك أكثرهم" و" رأيت قومك ثلثيهم" و" رأيت بني عمك ناسا منهم" ، و" رأيت عبد الله شخصه" و" صرفت وجوهها أولها".

قال أبو سعيد اعلم أن البدل إنما يجيء في الكلام على أن يكون مكان المبدل منه

٩

كأنه لم يذكر ، والنحويون يقولون : إن التقدير فيه تنحية الأول ـ وهو المبدل منه ـ ووضع البدل مكانه وليس تقديرهم تنحية الأول على معنى الإلغاء له ، وإزالة الفائدة به ولكن على أن البدل قائم بنفسه ، غير مبين للمبدل منه تبيين النعت للمنعوت الذي هو تمام للمنعوت ، والدليل على أن المبدل منه لا يلغي أنك تقول : " زيد رأيت أباه عمرا" وتجعل" عمرا" بدلا من" أباه" ، فلو كان في تقدير اللغو لكان الكلام زيد رأيت عمرا ، وهذا فاسد محال ؛ فقد صح أن البدل غير منحّ للأول حتى يكون بمعنى الملغى.

فإن قال قائل : فلأي شيء دخل؟ قيل له : قد يكون للشيء الواحد أسماء من معان يشتق له منها تلك الأسماء فيجوز أن يشتهر ببعض الأسماء عند قوم ، وببعض أسمائه عند آخرين ، فإذا جمع الاسمين جميعا على طريق بدل أحدهما من الآخر ، فقد بينه بغاية البيان ، وذلك أنه إذا قال : " زيد رأيت أباه عمرا" فقد يجوز أن يكون المخاطب يعرف أبا زيد ولا يعلم أنه عمرو ، وقد يجوز أن يكون عارفا بعمرو ، ولا يعرف أبا زيد من هو ، فإذا أتى بالأمر جميعا عرفه من وجه آخر.

وإذا قال : " رأيت زيدا رجلا صالحا" يجوز أن يكون غرضه أن يبين للناس مروره برجل صالح ، ويبين أيضا أنه زيد ، وليس كل من عرف أنه زيد عرف أنه رجل صالح ، فأتى بالعلم الذي يعرف به ، وبالمذهب الذي هو عليه ؛ ليجتمع له بذلك غرضه ، فهذا هو القصد في البدل.

وهو يشتمل على أربعة أوجه :

فالوجه الأول : بدل الشيء من الشيء ، وهو هو ، كقولك : " مررت بزيد رجل صالح" ، و" مررت برجل صالح زيد".

والوجه الثاني : بدل الشيء من الشيء وهو بعضه ، كقولك" رأيت زيدا وجهه" و" أتاني بنو تميم أكثرهم".

وبدل الشيء من الشيء وهو مشتمل عليه ، كقولك : " سلب زيد ثوبه" ، و" أعجبني زيد حسنه" ، والمشتمل على الشيء هو الذي تصح العبارة عنه بلفظه عن ذلك الشيء ، وذلك أنك إذا قلت : " سلب زيد" فقد يجوز أن يكون ذلك وأنت تعني الثوب ، وإذا قلت : " أعجبني زيد" فإنما تعني كلامه أو حسنه ، أو ما أشبه ذلك من أفعاله وهيئاته ، أو ما يتعلق به ؛ ولا يجوز أن تقول : " ضربت زيدا عبده" ؛ وذلك أنك لا تقول : " ضربت زيدا"

١٠

وأنت تريد عبده ؛ لأنه لا يعبر بزيد عن عبده ، فلفظ" زيد" ليس يشتمل على العبد.

وبدل المعرفة من النكرة ، والنكرة من المعرفة ، والمضمر من المظهر ، والمظهر من المضمر ، في هذه الأبواب سواء ، وليست كالنعت ؛ لأن النعت تمام المنعوت ، وتجلية له ، والبدل منقطع من المبدل منه على ما ذكرنا ، فلم تكن حال توجب استواءهما في التعريف والتنكير.

والوجه الرابع : بدل الغلط ، ولا يجوز أن يقع في شعر ولا قرآن ولا كلام معمول محكّك وإنما يجيء في الكلام الذي يبتدؤه الإنسان على جهة سبق اللسان إلى الشيء الذي لا يريده ، فيلغيه ، حتى كأنه لم يذكره بلفظ مما يريده ، كقولك : " رأيت زيدا" وأنت تريد عمرا فتلغي زيدا ، وتذكر عمرا فتقول : رأيت زيدا عمرا ، وتكون مريدا لزيد ، فيبدو لك ، إما لأنك تبينت أن الفعل لم يقع بعد بزيد ، وأنه كان واقعا بعمرو ، وإما لأنك أردت الإضراب عن نسبة ذلك الفعل إلى زيد ، وإنما يقع في بديه الكلام.

والعامل في البدل في ذلك كله هو العامل في المبدل منه ؛ لتعلقهما به من طريق واحد.

قال سيبويه على إثر ما ذكره من البدل : (فهذا يجيء على وجهين : على أنه أراد رأيت أكثر قومك ورأيت ثلثي قومك ، وصرفت وجوه أولها ، ولكنه ثنّى الاسم توكيدا كما قال الله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(١)).

فهذا أحد الوجهين ، والمعنى في ذلك أنه حين قال : " رأيت قومك" كان غرضه رأيت ثلثي قومك ؛ لأنه قد يجوز أن تعبّر باللفظ العام وأنت تريد البعض ، كما قد يقول القائل : " شغب الجند" وإنما تريد بعضهم ، و" ضج أهل بغداد" ، وعسى ألا يكون ضج منهم إلا نفر ، فإذا أراد باللفظ الأول العام البعض ثم أتى بذلك البعض فكرره بلفظ آخر فقد أكّد ، كما أكّد في قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ،) وكما قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ)(٢) ، ف" قتال فيه" بدل وهو تأكيد على هذا الوجه الذي ذكرناه ، لأنه أراد بقوله : " الشهر الحرام" القتال ، ثم أعاد القتال توكيدا قال

__________________

(١) سورة الحجر ، آية : ٣٠.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢١٧.

١١

الشاعر :

وذكرت تقتد برد مائها

وعتك البول على أنسائها (١)

فأبدل" برد مائها" من" تقتد" ، و" تقتد" موضع ، و" برد مائها" بدل الاشتمال ، وأنشده سيبويه للتأكيد الذي ذكره في البدل و" وعتك البول" يعني قدمه وصفرته ، يقال : قوس عاتكة إذا اصفرت من القدم ، والمعنى أن هذه الناقة ذكرت برد ماء هذا الموضع ، وهذه حالها لطول السفر ، ويروى" وعبك البول على أذنابها" ، وهو تركده وتراكبه عليه ، ويجوز" عتك البول" على معنى وقد عتك البول.

قال : (وقد يكون هذا البيت على الوجه الآخر الذي أذكره لك).

يعني من الوجهين اللذين ذكرنا أحدهما أنه على سبيل التأكيد.

قال : (وهو أن يتكلم فيقول رأيت قومك ، ثم يبدو له أن يبين ما الذي رأى منهم ، فيقول : " ثلثيهم" أو" ناسا منهم").

وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين ، وهو أن يقول : " رأيت قومك" ، وقصده إلى جميعهم ، ثم بدا له في ذلك ، وامتنع أن يخبر عن جميعهم ، فعدل إلى الإخبار عن البعض ، فهذا لم يكن في أول كلامه قاصدا إلى ذكر البدل ، وإنما بدا له ذلك بعد ما مضى صدر كلامه على الوجه الذي لفظ ، والذي قبل هذا لم يبد له شيء لم يرد أن يتكلم به من بعد.

قال : (ولا يجوز أن تقول : " رأيت زيدا أباه" ، والأب غير زيد ؛ لأنك لا تبيّنه بغيره ، ولا بشيء ليس منه).

وقد بينا ذلك.

قال : (وإنما يجوز" رأيت زيدا أباه" و" رأيت زيدا عمرا" أن يكون أراد أن يقول : رأيت عمرا ورأيت أبا زيد ، فغلظ أو نسي ، ثم استدرك كلامه).

قال : (ومن هذا الباب" بعت متاعك أسفله قبل أعلاه" واشتريت متاعك أسفله أسرع من اشترائي أعلاه ، واشتريت متاعك بعضه أعجل من بعض ، وسقيت إبلك صغارها أحسن من سقي كبارها ، وضربت الناس بعضهم قائما وبعضهم قاعدا).

قال أبو سعيد فهذا كله على البدل ، والمنصوب الثالث على الحال.

__________________

(١) سيبويه ١ / ٧٥ (بولاق) ، ١ / ١٥١ هارون.

١٢

قال سيبويه : (فهذا لا يكون فيه إلا النصب ، لأن ما ذكرت بعده ليس مبنيّا على الاسم فيكون الاسم مبتدأ وإنما هو من نعت الفعل ، زعمت أن بيعك أسفله كان قبل بيعك أعلاه ، وأن الشراء كان في بعض أعجل من بعض ، وسقيه الصغار كان أحسن من سقيه الكبار ولم تجعله خبرا لما قبله).

يعني أنك لا تقول : " اشتريت متاعك بعضه أعجل من بعض" ، فتجعله ابتداء وخبرا في موضع الحال من" متاعك" ؛ لأنك لم ترد اشتريت متاعك وبعضه أعجل من بعض ؛ لأنه لا فائدة فيه ، ولم ترد سقيت إبلك وصغارها أحسن من كبارها ، كما تقول" ضربت زيدا أبوه قائم" على معنى ضربت زيدا وأبوه قائم ، وإنما المعنى اشتريت بعض متاعك أعجل من بعض ، فلما قدمت المتاع جعلت البعض بدلا منه ، وأدخلته في عمل الفعل ، وذلك معنى قوله : " وإنما هو من نعت الفعل".

قال : (ومن ذلك" مررت بمتاعك" بعضه مرفوعا وبعضه مطروحا ، فهذا لا يكون مرفوعا ؛ لأنك جعلت النعت على المرور فجعلته حالا للمرور ولم تجعله مبنيّا على مبتدأ ، ولم يجز ابتداء بعضه ، ولا تسند إليه شيئا).

يعني أنك لا تقول : " مررت بمتاعك بعضه مرفوعا" فترفع البعض ، وتنصب مرفوعا ؛ لأنك إذا رفعته فقد جعلته مبتدأ ولا خبر له ، ففسد لذلك ، ولو قلت : " بعضه مرفوع وبعضه مطروح" جاز ، وتكون الجملة في موضع الحال ، كما تقول : " مررت بقومك بعضهم قائم وبعضهم قاعد" ، أي هذه حالهم.

ومعنى قوله : " لأنك جعلت النعت على المرور فجعلته حالا".

يعني أنك جعلت" مرفوعا" و" مطروحا" حالا محمولا على المرور ؛ إذ كان العامل فيه ، وسمّي مرفوعا ومطروحا نعتا وليس بجار على منعوت ؛ لأنه سمي النعت كل ما كان فيه تمييز شيء من شيء ، لو لم يكن ذلك النعت لجاز وقوعه عليه وعلى غيره ، فمن ذلك" مررت برجل ظريف" و" ظريف" نعت لرجل ، وقد كان" رجل" قبل ورود" ظريف" يصلح أن يكون لظريف وغيره.

وإذا قلت : " مررت بمتاعك" صلح أن يكون مرفوعا ، وصلح ألا يكون مرفوعا ، فصار" مرفوع" نعتا له من طريق التمييز بين أحواله التي تتوهم ، وعلى ذلك سمي قائما وقاعدا في قولك : " ضربت الناس بعضهم قائما وبعضهم قاعدا" من نعت الفعل لأنك إذا

١٣

قلت : " ضربت الناس" جاز أن يكون مستوعبا لكلهم ، وجاز أن يكون لبعضهم ، فصار ذكر البعض كالتحلية للضرب والتمييز بين أحواله.

قال : (ومن هذا الباب" ألزمت الناس بعضهم بعضا" و" خوّفت الناس ضعيفهم وقويّهم").

فالوجه في ذا نصب الثاني على البدل!! ؛ وذلك أنّ" ألزمت" و" خوفت" فعلان منقولان من لزم وخاف ، وكان الأصل لزم الناس بعضهم بعضا ، وخاف الناس ضعيفهم قويّهم على البدل ، فلما أدخلت الألف في" لزم" وشدّدت عين الفعل من" خاف" جئت بفاعل آخر ، فصيرت الفاعل الأول مفعولا ، وأبدلت منه في حال النصب ما أبدلت منه في حال الرفع.

قال : (وعلى ذلك" دفعت الناس بعضهم ببعض" على قولك : دفع الناس بعضهم بعضا ، ودخول الباء هاهنا بمنزلة قولك" ألزمت" كأنك قلت في التمثيل" أدفعت" كما أنك تقول : " ذهبت به من عندنا ، وأذهبته من عندنا" وأخرجته معك وخرجت به معك).

قال أبو سعيد : اعلم أن الباء قد تقوم في نقل الفعل مقام الألف ، وتشديد عين الفعل ، تقول : " قام زيد" فإذا نقلته قلت : " أقمت زيدا" فنقلته بالألف وتقول : " قمت بزيد" على معنى أقمت زيدا ، فقامت الباء مقام الألف ، وتقول : " عرف زيد عمرا" فإذا نقلت قلت : " عرّفت زيدا عمرا" فالنقل بهذه الثلاثة الأشياء.

وربما استعمل في شيء بعضها دون بعض ، فمن ذلك" دنا زيد" ثم تقول : أدنيت زيدا ، ولا يقال : دنّيته ، وتقول : " عرّفت زيدا عمرا" ولا تقول : أعرفت ، وتقول : دفع زيد عمرا فإذا نقلته أدخلت الباء فقلت : " دفّعت زيدا بعمرو" ولا تقول : " دفعّت زيدا عمرا" فهذا كله على نحو ما استعملته العرب في النقل ، والأكثر في كلامهم النقل بالهمزة ، وإنما ينقل من الأفعال ما كان ثلاثيّا ، وليس كل فعل ثلاثي ينقل ؛ لأنك إذا قلت : " ظننت زيدا منطلقا ، فأكثر البصريين لا يجيزون من طريق القياس" أظننت زيدا بكرا منطلقا" ، وكان الأخفش يجيزه.

ومعنى قولنا : " نقل الفعل على الجملة" هو أن تجعل الفاعل مفعولا ، وكان أبو العباس يفرق بين" ذهبت به"" وأذهبته" فيقول : " ذهبت به" إذا ذهب وأنت معه ،

١٤

" وأذهبته" إذا نحيته وأزلته ، ويجوز أن تكون معه ، ويجوز ألا تكون معه ، وقد ردّ عليه ذلك بقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)(١) على معنى أزاله لا غيره ؛ لأن الله لا يجوز عليه التغير ، وقال امرؤ القيس :

كما زلّت الصفواء بالمتنزل (٢)

على معنى أزلّته ولم تزلّ الصفواء.

قال ومن ذلك أيضا البدل مما هو منقول : (ميّزت متاعك بعضه من بعض وأوصلت القوم بعضهم إلى بعض).

لأنك تقول : وصل القوم بعضهم إلى بعض فأما" ميزت" فالأصل الذي وقع منه النقل ماز متاعك بعضه من بعض ، غير أنه لا يستعمل" ماز" الذي نقل عنه" ميّزت" ، وإنما يستعمل" ماز" الذي في معنى" ميّزت" متعديا ، كما قال الله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٣) في معنى ليميّز.

قال : (ومثل ذلك" صككت الحجرين أحدهما بالآخر" على أنه منقول من اصطك الحجران أحدهما بالآخر).

يعني إذا قلت : اصطك الحجران أحدهما بالآخر ، " فأحدهما" بدل من" الحجران".

قال أبو سعيد : اعلم أن من الأفعال فعل المطاوعة ، وهو ضد النقل ، وذلك أن النقل يصير الفاعل فيه مفعولا ويؤتى بفاعل آخر على ما وصفنا ، وفعل المطاوعة يحذف منه الفاعل ، ويصير المفعول فاعلا ، فهما في الطرفين ، تقول : " كسرت القلم" و" انكسر القلم" و" شققت الثوب" و" انشق الثوب" فحذفت الفاعل وجعلت المفعول فاعلا.

وعلى هذا تقول : " صككت الحجرين أحدهما بالآخر" ، وفعل المطاوعة من ذلك : اصطك الحجران أحدهما بالآخر ؛ لأنك جعلت المفعول فاعلا فمنزلة فعل المطاوعة من الفعل الأصلي كمنزلة الفعل الأصلي من فعل النقل ؛ لأنك إذا رددت فعل المطاوعة إلى الأصل صيرت الفاعل مفعولا ، وجئت بفاعل آخر ، فجعل سيبويه" صككت الحجرين

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٠.

(٢) ديوان امرئ القيس ١ / ٥٩ ، شرح القصائد السبع للأنباري ٨٤.

(٣) سورة الأنفال ، آية : ٣٧.

١٥

أحدهما بالآخر" مفعولا من" اصطك الحجران" كما جعل" ألزمت الناس بعضهم بعضا" مفعولا من" لزم" وهذا على العكس ؛ لأن" ألزمت" هو فرع على" لزم" ، وصككت هو أصل لاصطك ، ولكنهما قد اشتركا بجعل الفاعل في" لزم" وفي" اصطك" مفعولا في" ألزمت" و" صككت".

قال سيبويه : (وهذا ما يجري فيه مجرورا كما يجري منصوبا ، وذلك قولك : عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض).

قال أبو سعيد : يعني أن المصادر تجري في هذا الباب مجرى أفعالها كما جرت في غير هذا الباب ، أضيفت أو لم تضف ؛ فإذا أضيفت انجرّ ما بعدها بالإضافة ، وإذا لم تضف جرى ما بعدها على الفعل كما بينا فيما قبل ، فقولك : " عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض" تقديره إذا ردّ إلى الفعل : عجبت من أن دفعت الناس بعضهم ببعض.

وهذا معنى قوله : " إذا جعلت الناس مفعولين ، والفاعل في النية وكذلك" عجبت من إذهاب الناس بعضهم بعضا".

وتقديره : من أن أذهب الناس بعضهم بعضا ، فالمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول ، وقد أضيف في المسألة الأولى إلى المفعول ، وفي الثانية إلى الفاعل ، وجرّا جميعا ، ويجري هذا المجرور على مجراه ، إذا نوّن المصدر ، أو ردّ إلى الفعل في تعدّيه بحرف وبغير حرف.

قال سيبويه : (وتقول : سمعت وقع أنيابه بعضها فوق بعض جرى على قولك : وقعت أنيابه بعضها فوق بعض).

فالمصدر مضاف إلى الفاعل.

قال : (وتقول : عجبت من إيقاع أنيابه بعضها فوق بعض).

فيكون المصدر مضافا إلى ما أقيم مقام الفاعل ، وفيه عندي وجه آخر وهو أن تقدر مقام" الأنياب" تقدير مفعول ، فيكون : عجبت من أن أوقعت أنيابه بعضها فوق بعض ، فإذا رددته إلى المصدر ، أضفت" إيقاع" إلى" الأنياب" ، وهي في موضع نصب ، فيكون التقدير : من إيقاع أنت أنيابه بعضها فوق بعض ، والفاعل منوي ، والبعض في هذه المسائل كلها بدل ما قبله.

ثم قال : (هذا وجه اتفاق الرفع والنصب في هذا الباب ، واختيار النصب ،

١٦

واختيار الرفع).

يريد أن المنصوب بالفعل ، والمرفوع به يتفقان في الجر إذا أضفت المصدر إليهما ، وبيّن بتقديره ما الاختيار فيه النصب وما الاختيار فيه الرفع.

فالذي الاختيار فيه النصب قولك : " عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض". على تقدير : أن دفعت الناس بعضهم ببعض ، والذي الاختيار فيه الرفع" سمعت وقع أنيابه بعضها فوق بعض" ، على معنى : أن وقعت أنيابه بعضها فوق بعض.

ويجوز أن يكون قوله : " هذا وجه اتفاق الرفع والنصب في هذا الباب ، واختيار النصب واختيار الرفع". للكلام الذي يأتي من بعد ، لا ما تقدم.

قال : (وتقول : رأيت متاعك بعضه فوق بعض ، إذا جعلت" فوق" في موضع الاسم المبني على المبتدأ ، وجعلت الأول مبتدأ ، كأنك قلت : رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض).

فالرؤية هاهنا تكون من رؤية القلب ، ورؤية العين ، فإذا كانت من رؤية القلب ، فالجملة في موضع المفعول الثاني ، وإذا كانت من رؤية العين فالجملة في موضع الحال.

(فإن جعلته حالا بمنزلة قولك : مررت بمتاعك بعضه مطروحا ، وبعضه مرفوعا ، نصبته لأنك لم تبن عليه شيئا فتبتدئه).

يعني : إذا جعلت" فوق بعض" في موضع الحال ، ولم تجعله خبرا فلا بد من أن يتبع البعض ما قبله ، فتنصبه على البدل.

قال : (وإن شئت قلت : رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض ، فيكون بمنزلة قولك : رأيت بعض متاعك الجيّد ، فتوصل إلى مفعولين).

يعني : تجعل" رأيت" من رؤية القلب.

قال : (والرفع في هذا أعرف ؛ لأنهم شبهوه بقولك : " رأيت زيدا أبوه أفضل منه" ؛ لأنه اسم هو الأول ومن سببه ، كما أن هذا له ومن سببه والآخر هو المبتدأ الأول ، كما أن الآخر هو المبتدأ الأول).

يعني : أن قولك : " رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض" أجود من قولك : رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض ، وإنما صار الاختيار الرفع ؛ لأنك إذا رفعت فلست تنوي اطّراح المتاع ، وإبدال غيره منه ، ولا ينوى في شيء من الكلام إذا كان مرفوعا تغيير في

١٧

ترتيبه ووضعه ، وإذا كان منصوبا فقد أبدل الثاني من الأول ، واعتمد بالحديث على الثاني.

قال سيبويه : (فمما جاء في الرفع قوله عزوجل : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)(١)) ولو قال" وجوههم مسودة" لجاز على البدل ، والرفع أجود.

قال : (ومما جاء في النصب قول العرب : خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها).

ولو قال : " يداها أطول من رجليها" جاز.

قال : (وحدثنا يونس أن العرب تنشد هذا البيت وهو لعبدة بن الطبيب :

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدّما) (٢)

فهذا على قوله : خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها ، جعل" هلك" الأول بدلا من" قيس" ، والثاني خبرا لكان ، وعلى الوجه الآخر ـ وهو الاختيار ـ هلكه هلك واحد ، والهلك الأول ابتداء والثاني خبره ، والجملة في موضع خبر" قيس".

و (قال رجل من خثعم أو بجيلة :

ذرينى إن أمرك لن يطاعا

وما ألفيتني حلمي مضاعا) (٣)

فالحلم بدل من النون والياء.

(وقال الآخر في البدل :

إنّ عليّ الله أن تبايعا

تؤخذ كرها أو تجيء طائعا) (٤)

فأبدل" تؤخذ" من" تبايع" ، و" تجيء" عطف على" تؤخذ" ، وينبغي أن تعلم أنه ليس في بدل الفعل من الفعل إلا وجه واحد ، من أقسام البدل التي ذكرناها في الأسماء ، من بدل البعض ، وبدل الاشتمال ، وبدل الشيء من الشيء وهو هو ، لا يبدل الفعل إلا من شيء هو هو في معناه ؛ لأنه لا يتبعض ، ولا يكون فيه الاشتمال الذي ذكرناه ، وصار" تؤخذ كرها أو تجيء طائعا" هو معنى المبايعة ؛ لأنها تقع على أحد هذين الوجهين.

__________________

(١) سورة الزمر ، آية : ٦٠.

(٢) ديوان الحماسة شرح المرزوقي ٧٩٠ ـ ابن يعيش ٣ / ٦٥.

(٣) الخزانة ٢ / ٣٦٨ ـ العيني ٤ / ١٩٢ ـ ابن يعيش ٣ / ٦٥.

(٤) الخزانة ٢ / ٣٧٣ ـ العيني ٤ / ١٩٩ ـ شواهد الكشاف ٧٥.

١٨

قال : (فهذا عربي حسن والأول أكثر وأعرب).

يعني الإنشاد في هذه الأبيات على البدل ، ولو رفع على الابتداء لكان أكثر وأعرب فتقول : هلكه هلك واحد ، و" ما ألفيتني حلمي مضاع" ، يكون" حلمي مضاع" في موضع الحال ، و" تؤخذ كرها أو تجيء طائعا" ، على معنى أنت تؤخذ كرها ، فتكون" أنت تؤخذ كرها" في موضع الحال من المبايعة.

قال : (وتقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض ، فله ثلاثة أوجه في النصب : إن شئت جعلت" فوق" في موضع الحال ، كأنه قال : عملت متاعك وهو بعضه على بعض ، أي في هذه الحال ، كما فعلت ذلك في رأيت ، وإن شئت نصبت كما نصبت عليه" رأيت زيدا وجهه أحسن من وجه فلان".

وإن شئت نصبته على أنك إذا قلت : جعلت متاعك يدخله معنى" ألقيت" ، فيصير كأنك قلت : ألقيت متاعك بعضه فوق بعض ، لأن" ألقيت" كقولك : أسقطت متاعك بعضه على بعض ، وهو مفعول من قولك : سقط متاعك بعضه على بعض).

قال أبو سعيد : اعلم أن" جعلت" تكون بمعنيين ، بمعنى صنعت وعملت ، ومعنى صيّرت ، فإذا كانت بمعنى صنعت فهي تتعدى إلى مفعول واحد ، قال الله عزوجل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)(١) بمعنى صنع وخلق ، وقال : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)(٢).

وإذا كانت بمعنى" صيرت" تعدت إلى مفعولين ، لا يجوز الاقتصار على أحدهما وهي في هذا الوجه تنقسم على ثلاثة أقسام ، كما تنقسم" صيرت". أحدها بمعنى" سمّيت" كقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)(٣) أي صيروهم إناثا بالقول والتسمية ، كما تقول : " جعل زيد عمرا فاسقا" أي صيره بالقول كذلك.

والوجه الثاني : أن تكون على معنى الظن والتخيل كقولك : " اجعل الأمير عاميا وكلمه" أي صيّره في نفسك كذلك.

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١.

(٢) سورة الأعراف ، آية : ١٨٩.

(٣) سورة الزخرف ، آية : ١٩.

١٩

والوجه الثالث : أن يكون في معنى النقل ، فتقول : جعلت الطين خزفا أي صيرته خزفا ، ونقلته عن حال إلى حال وقال الله عزوجل : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً)(١) أي صيّره آمنا وانقله عن هذه الحال.

فأما الثلاثة الأوجه التي ذكرها سيبويه فوجهان فيها يرجعان إلى الوجه الأول مما ذكرناه ، وهو أن تجعل" جعلت" متعدّيا إلى واحد ، غير أن معنى الوجهين اللذين ذكرهما سيبويه مختلف ، وإن كانا يجتمعان في التعدي إلى واحد ، فأحد الوجهين هو الأول الذي قال فيه : " إن شئت جعلت فوق في موضع الحال" فيكون معناه عملت متاعك عاليا ، كأنك أصلحت بعضه وهو عال ، فيكون فوق في موضع الحال كما تقول : عملت الباب مرتفعا أي أصلحته ، وهو في هذه الحال.

والوجه الثاني من هذين الوجهين هو الثالث مما ذكره سيبويه في قوله : " وإن شئت نصبته ، على أنك إذا قلت : " جعلت متاعك" يدخله معنى : ألقيت متاعك بعضه فوق بعض ، لأن" ألقيت" كقولك : أسقطت متاعك بعضه فوق بعض".

فيكون هذا متعديا إلى مفعول.

وهو منقول من سقط متاعك بعضه فوق بعض.

فهو يوافق الوجه الأول في التّعدي إلى مفعول واحد ، ويخالف في غير ذلك ، لأنك لم تعمل المتاع هاهنا ؛ لإصلاح شيء منه وتأثير فيه ، كما تعمل الباب بنجره ونحته وقطعه ، و" فوق" في هذا كالمفعول ، لا في موضع الحال ؛ لأنه في جملة الفعل الذي هو" ألقيت" ؛ لأنه منقول من" سقط متاعك بعضه فوق بعض" ، والسقوط وقع على فوق ، وعمل فيه على طريق الظرف ، وفي المسألة الأولى لم يعمل فيه" جعلت" ، إنما عمل فيه الاستقرار وصار في موضع الحال ، فهذان الوجهان كوجه واحد. وقوله : " وإن شئت نصبت على ما نصبت عليه" رأيت زيدا وجهه أحسن من وجه فلان".

فتعديه إلى مفعولين من جهة النقل والعمل ، كما تقول : " صيّرت الطين خزفا" ، وإنما حملنا هذا الوجه على هذا ؛ لأنه في ذكر" جعلت" الذي في معنى" عملت وأثّرت".

قال : والوجه الثالث أن تجعله مثل : " ظننت متاعك بعضه أحسن من بعض".

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٢٦.

٢٠