شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وي كأن من لم يكن له نشب

يحبب ومن يفتقر يعش عيش صعر (١)

قال أبو سعيد : في (وَيْكَأَنَّ اللهَ) ثلاثة أقوال ؛ أحدها قول الخليل الذي ذكرناه تكون وي كلمة تندّم يقولها المتندم عند إظهار ندامته ، ويقولها المندم لغيره ، والمنبه له ، ومعنى «وكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده» (٢) وإن كان لفظه لفظ التشبيه فمعناه التحقيق. قال الشاعر :

وأصبح بطن مكة مقشعرّا

كأن الأرض ليس بها هشام (٣)

ومعناه : الأرض ليس بها هشام ؛ لأنه مات ، وهذا من مراثيه ، والقول الثاني قول الفراء : يكون (ويك) موصولة بالكاف ، وأن الله منفصلة من الكاف. وذكر الفراء أن معناها في كلام العرب تقرير ، كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله تعالى؟ واحتج الفراء على من قال هي (وي) ثم بعدها (كأن) ، بأنها كتبت موصولة غير مفصولة. والحجة للخليل في فصل كأن من وي وإن كانت موصولة في الخط أنه كتب في المصحف موصولا بعد ما حقه أن مفصولا كقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)(٤) ما بمعنى الذي وحقه أن يكتب مفصولا (أن ما غنمتم) وكتبت في المصحف موصولة (أنما) وكل واحد من مذهب الخليل ومذهب الفراء يتخرج على ما روي عن المفسرين ؛ لأن قوله : ألم تر تنبيه على ما قاله الخليل ، وأجاز الفراء وغيره أن يكون ويك بمعنى ويلك ، وحذفت العرب اللام لكثرتها في الكلام. وأنشد قول عنترة :

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم (٥)

قال أبو سعيد : وهذا عندي يبعد ؛ لأنه لا يقال ويلك أنّ زيدا قائم بفتح أنّ ، وإنما يقال ويلك إنّ زيدا قائم ؛ لأن ويلك منقطع مما بعده ، والقول الثالث : ما حكاه الفراء عن بعض النحويين أنه يذهب إلى أنها ويك بمعنى ويلك ، وجعل (أنّ) مفتوحة بفعل مضمر ، كأنه قال ويلك أعلم أن الله ، وأنكر الفرّاء هذا وقال ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء : يا

__________________

(١) البيتان نسبا في اللسان إلى زيد بن عمرو بن نفيل ، والدرر ٢ / ١٤٠ ، ونسب إلى أبي الأعور سعيد بن زيد في البيان والتبيين ١ / ١٦٦ ، وابن يعيش ٤ / ٧٦.

(٢) سورة القصص ، من الآية ٨٢.

(٣) البيت في الدرر ١ / ١١١ ، وشواهد المغني ١٧٤.

(٤) الأنفال ، من الآية ٤١.

(٥) البيت في ديوانه ١٢٨ ، وابن يعيش ٤ / ٧٧ ، وشواهد المغني ٢٦٩.

٤٨١

هذا إنّك قائم؟ وقد يحتمل أن يكون بيت عنترة أن تكون الكاف في (ويك) للخطاب ؛ مثل الكاف في رويدك.

قال : " واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون إنهم أجمعون ذاهبون ، وإنك وزيد ذاهبان ، وذلك أن معناه معنى الابتداء ، فيرى أنه قال هم كما قال :

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا

وأما قوله والصابئون فعلى التقديم والتأخير ، كأنه ابتداء ، والصابئون بعد ما مضى من الخبر وقال الشاعر :

وإلّا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق (١)

كأنه قال : بغاة ما بقينا وأنتم».

قال أبو سعيد : قد ذكر بعض النحويين أن الغلط إنما وقع في أنهم أجمعون ؛ لأن لفظ هم يكون للرفع في قولك هم قائمون ، وأشباه ذلك ، فتوهموا أنهم في تقدير هم أجمعون ، وجعل إنك وزيدا في معنى أنت وزيد ذاهبان ، والغلط فيه أن ذاهبان خبر الكاف في إنك ، وهو منصوب بإن وزيد وهو مرفوع بالابتداء ، وخبر إن يرتفع بغير الذي يرتفع به خبر الابتداء ، ولو قال إنك ذاهب وزيد ، كان من أجود كلام على ما بيناه ، وفي مذهب الكوفيين إنك وزيد ذاهبان جائز لا غلط فيه. أما الكسائي فإنه يجيز ذلك فيما ظهر فيه عمل (إنّ) وفيما لم يظهر فيه ؛ كقولك : إن زيدا وعمرو قائمان ، وإنك وعمرو قائمان ، وأما الفراء فإنه يجيز فيما لم يتبين فيه عمل إن كقولك إنيّ وزيد ذاهبان ، وإن الذي في الدار وزيد قائمان ، ولا يجيزه فيما يتبين فيه عمل إن ، لا يجيز إن عمرا وزيد قائمان ؛ لأنهم يزعمون أن عمل إن ضعيف ، وأنه يعمل في الاسم وحده ، وأنه لا يتخطى إلى الخبر ، وأن الخبر مرفوع بما كان يرتفع به قبل دخول إنّ ، وقد بينا بطلانه.

ومن بطلان ما ادعوه في ضعف عملها أنها تعمل في الاسم ، وبينها وبين الظرف خبر أو غير خبر ؛ كقوله عزوجل : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ)(٢) فهذا يدل على قوة عمل إن والغلط في (ولا سابق شيئا) أن خبر ليس يستعمل كثيرا بالباء ، فيتوهم العاطف أنّ في الأول الباء أو يجريه على ما كان يستعمل ، كما يجري الاسم على موضع إنّه ، كأنها ليست في الكلام ، وكذلك تقول : بدا لي أني لست مدرك ما مضى ، ولا سابق على ما

__________________

(١) البيت لبشر بن أبي خازم في ديوانه ١٦٥ ، وابن يعيش ٨ / ٧٠ ، والإنصاف ١٩٠.

(٢) سورة المائدة ، من الآية ٢٢.

٤٨٢

كان يستعمل إذا قالوا لست بمدرك ما مضى ، وأما الصابئون ، فالذي قال سيبويه على أنه على التقديم والتأخير كأنه قال : إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصّابئون والنّصارى كذلك. وفيه وجه آخر نحو هذا غير خارج عن مذهبه ، وهو أنّ يجعل من آمن بالله واليوم الآخر إلى آخر الآية للصابئين والنصارى خبرا وتضمر مثل الذي ظهر للذين آمنوا والذين هادوا ؛ لأنه يجوز أن تقول : زيد وعمرو قائم ، تجعل قائم خبرا لأيهما شئت.

وفي رفع الصابئون غير هذين الوجهين ، مما كرهنا الإطالة بذكره ، وفي قوله :

وإلا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق (١)

وجهان أحدهما التقديم والتأخير الذي ذكره سيبويه ، والثاني أنّا نضمر لأن خبرا محذوفا يدل عليه ما بعده ونجعل بغاة خبر أنتم ، كأنه قال : وإلا فاعلموا أنّا بغاة وأنتم بغاة ، وحذف خبر الأول اكتفاء بخبر الثاني. وقد حمله بعض أصحابنا على الغلط كأنه شبه (نا) في (أنّا) ب (نا) الذي هو ضمير الرفع في نحو قلنا : وذهبنا. فتوهم (نا) مرفوعا في أنّا لإشباهه (نا) في (قلنا) ولست أحب هذا الوجه.

هذا باب كم

" اعلم أن ل (كم) موضعين : أحدهما الاستفهام وهو الحرف المستفهم به بمنزلة كيف وأين.

والموضع الآخر : يكون فيه معناها معنى (ربّ).

وقد تكون في الموضعين اسما فاعلا ، ومفعولا ، وظرفا ، ويبنى عليها إلا أنّها لا تتصرف تصرفّ يوم وليلة ، كما أن حيث وأين لا يتصرفان تصرف تحتك ، وخلفك ، وهما موضعان بمنزلتهما ، غير أنها حروف لم تتمكن في الكلام ، إنما لها مواضع تلزمها في الكلام ، ومثل ذلك ـ في الكلام ـ كثير ، وقد ذكر فيما مضى وستراه فيما يستقبل إن شاء الله.

أما (كم) في الاستفهام إذا عملت فيما بعدها فهي بمنزلة اسم متصرف في الكلام منون ، قد عمل فيما بعده لأنه ليس من صفته ، ولا محمولا على ما حمل عليه ، وذلك الاسم عشرون وما أشبهها نحو ثلاثين وأربعين.

__________________

(١) البيت سبق تخريجه

٤٨٣

وإذا قال لك رجل : كم لك؟ فقد سألك عن عدد ، لأن (كم) هو اسم لعدة.

فإذا قال : كم لك درهما؟ أو كم درهما لك؟ ففسرت ما يسأل عنه قلت :

عشرون درهما. فعملت في الدرهم عمل العشرين في الدرهم ولك مبنية على كم.

واعلم أن (كم) تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه ، فإذا قبح للعشرين أن تعمل في شيء قبح ذلك في (كم) لأن العشرين عدد منوّن ، وكذلك (كم) هو منون عندهم ، كما أن خمسة عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه ، لو لا ذلك لم يقولوا : خمسة عشر درهما ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا يتصرف ، وموضعه موضع اسم منون.

وكذلك (كم) موضعها موضع اسم منون ، وذهبت منها الحركة ، كما ذهبت من (إذ) لأنهما غير متمكنين في الكلام ، وذلك أنك لو قلت : كم لك الدرهم لم يجز ، كما لم يجز في قولك : عشرون الدرهم ، ولأنهم إنما أرادوا عشرون من الدراهم ، هذا معنى الكلام ، ولكنهم حذفوا الألف واللام وصيروه إلى الواحد ، وحذفوا (من) استخفافا كما قالوا : هذا أول فارس في الناس وإنما يريدون : هذا أول من الفرسان فحذف الكلام.

وكذلك (كم) إنما أرادوا كم لك من الدراهم؟

وزعم أن قولك العشرون لك درهما فيها قبح ، ولكنها جازت في (كم) جوازا حسنا ؛ كأنه صار عوضا من التمكن في الكلام ؛ لأنها لا تكون إلا مبتدأة ولا تؤخر فاعله ولا مفعوله ، ولا تقول : رأيت كم رجلا ، وإنما تقول : كم رجلا رأيت.

وتقول : كم رجل أتاني ، ولا تقول : أتاني كم رجل.

ولو قال : أتاك ثلاثون ـ اليوم ـ رجلا كان قبيحا ؛ لأنه لا يقوى قوة الفاعل وليس مثل (كم) لما ذكرت لك. وقال الشاعر :

على أنني ـ بعد ما قد مضى ـ

ثلاثون للهجر حولا كميلا

يذكر منك حنين العجول

ونوح الحمامة تدعو هديلا (١)

و (كم رجلا أتاك) أقوى من : (كم أتاك رجلا) ، وكم هاهنا فاعلة.

و (كم رجلا ضربت) أقوى من : (كم ضربت رجلا) ، وكم هاهنا معقولة.

__________________

(١) البيتان منسوبان لعباس بن مرداس في الخزانة الشاهد ٢١٦ ، ابن يعيش ٤ / ١٣٠ ، العيني ٤ / ٤٨١.

٤٨٤

وتقول : كم مثله لك ، وكم خيرا منه لك ، وكم غيره لك ، كلّ هذا جائز حسن ؛ لأنه يجوز بعد عشرين ـ فيما زعم يونس.

وتقول : كم غيره مثله لك ، انتصب غيره (بكم) ، وانتصب مثله لأنه صفة له ولم يجز يونس والخليل : كم غلمانا لك ؛ لأنك لا تقول : عشرون ثيابا لك إلا على وجه : لك مائة بيضاء وعليك راقود خلا.

فإن أردت هذا المعنى قلت : كم لك غلمانا ، ويقبح أن تقول : كم غلمانا لك ؛ لأنه قبيح أن تقول : عبد الله قائما فيها ، كما قبح أن تقول : قائما فيها زيد ، وقد فسرنا ذلك في بابه.

وإذا قلت : كم عبد الله ماكث ، فكم أيام ، وعبد الله فاعل ، وإذا قلت : كم عبد الله عندك ، فكم ظرف من الأيام ، وليس يكون عبد الله تفسيرا للأيام لأنه ليس منها.

والتفسير : كم يوما عبد الله ماكث أو كم شهرا عبد الله عندك؟ فعبد الله يرتفع بالابتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت : كم رجلا ضرب عبد الله.

فإذا قلت : كم جريبا أرضك؟ فأرضك مرتفعة ب (كم) لأنها مبتدأة ، والأرض مبنية عليها وانتصب الجريب ؛ لأنه ليس بمبني على مبتدإ ، ولا وصف فكأنك قلت : عشرون درهما خير من عشرة.

وإن شئت قلت : كم غلمان لك؟ فتجعل (غلمان) في موضع خبر ، وتجعل (لك) صفة لهم.

وسألته : على كم جذع بيتك مبني؟ فقال : القياس النصب ، وهو قول عامة الناس

فأما الذين جرّوا فإنهم أرادوا معنى (من) ولكنهم حذفوها هاهنا.

تخفيفا على اللسان ، وصارت (على) عوضا منها.

ومثل ذلك : الله لا أفعل ، فإذا قلت : لاها الله لا أفعل لم يكن إلا الجر ، وذلك أنه يريد لاها والله ، ولكنه صار (ها) عوضا من اللفظ بالحرف الذي يجر وعاقبه.

ومثل ذلك : الله ليفعلنّ؟ إذا استفهمت أضمروا الحذف الذي يجرّ وحذفوا تخفيفا على اللسان ، وصارت ألف الاستفهام بدلا منه في اللفظ معاقبا.

واعلم أن (كم) ـ في الخبر ـ بمنزلة اسم يتصرف في الكلام غير منّون يجر ما بعده إذا سقط التنوين ، وذلك الاسم نحو : مائتي درهم ، فانجر الدرهم ؛ لأن التنوين

٤٨٥

ذهب ودخل فيما قبله ، والمعنى معنى ربّ ، وذلك قولك :

كم غلام لك قد ذهب.

قال : فإن قال قائل : ما شأنها في الخبر صارت بمنزلة اسم غير منون؟

فالجواب فيه أن تقول : جعلوها في المسألة مثل (عشرين) وما أشبهها ، وجعلت في الخبر بمنزلة ثلاثة إلى العشرة تجر ما بعدها ، كما جرت هذه الحروف ما بعدها فجاز (ذا) في (كم) حين اختلف الموضعان ، كما جاز في الأسماء المتصرفة التي هي للعدد.

واعلم أن (كم) في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه ربّ ؛ لأن المعنى واحد ، إلا أن كم اسم و (ربّ) غير اسم بمنزلة من ، الدليل عليه أن العرب تقول : كم رجل أفضل منك ، تجعله خبر (كم) أخبرنا بذلك يونس عن أبي عمرو.

واعلم أن ناسا من العرب يعملونها فيما بعدها في الخبر كما يعملونها في الاستفهام فينصبون بها كأنها اسم منون.

ويجوز لها أن تعمل في هذا الموضع في جميع ما عملت فيه (ربّ) إلا أنها تنصب لأنها منونة ، ومعناها منونة وغير منونة سواء ، لأنه لو جاز في الكلام أو اضطر شاعر فقال : ثلاثة أثوابا كان معناه معنى ثلاثة أثواب.

وقال يزيد بن حنية ويروى للربيع :

إذا عاش الفتى مائتين عاما

فقد ذهب المسرة والفتاء (١)

وقال الآخر :

أنعت عيرا من حمير خنزره

في كل عير مائتان كمّره (٢)

وبعض العرب ينشد قول الفرزدق :

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت علي عشاري

وهو كثير ، منهم الفرزدق.

وقد قال بعضهم : كم على كل حال منونة ، ولكن الذين جروا في الخبر أضمروا

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ٦ / ٢٣ ، الخزانة الشاهد ٥٤٥ ، الجمهرة لابن دريد ٣ / ٢١٥.

(٢) الرجز للأعور بن براء الكلبي ، في ابن يعيش ٦ / ٢٤

٤٨٦

(من) كما جاز لهم أن يضمروا (رب) وزعم الخليل أن قولهم : (لاه أبوك) ولقيته أمس إنما هو على : لله أبوك ، ولقيته بالأمس ، ولكنهم حذفوا الجار تخفيفا على اللسان ، وليس كل جار يضمر ؛ لأن المجرور داخل في الجار ، فصارا عندهم بمنزلة حرف واحد ، فمن ثمّ قبح ، ولكنهم يضمرونه ويحذفونه فيما كثر في كلامهم ؛ لأنهم إلى تخفيف ما أكثروا استعماله أحوج.

قال الشاعر العنبري :

وجدّاء ما يرجى بهاذ وقرابة

لعطف وما يخشى السماة ربيبها (١)

وقال امرؤ القيس :

ومثلك بكرا قد طرقت وثّيبا

وألهيتها عن ذي تمام مغيل (٢)

أي رب مثلك.

ومن العرب من ينصبه على الفعل :

ومثلك رهبي قد تركت رذية

تقلّب عينيها إذا مرّ طائر (٣)

سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب.

والتفسير الأول في (كم) أقوى لأنه لا يحمل على الاضطرار والشاذ ، وإذا كان له وجه جيد ولا يقوى قول الخليل في أمس لأنك تقول : ذهب أمس بما فيه.

فإذا فصلت بين (كم) وبين الاسم بشيء استغني عليه السكوت أو لم يستغن فاحمله على لغة الذين يستعملونها بمنزلة اسم منون ؛ لأنه قبيح أن يفصل بين الجار والمجرور ، لأن المجرور داخل في الجار فصارا كأنهما كلمة واحدة ، والاسم المنون يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه ، تقول : هذا ضارب بك زيدا ، ولا تقول : هذا ضارب بك زيد. قال زهير :

تؤم سنانا وكم دونك

من الأرض محدودبا غارها (٤)

وقال القطامي :

__________________

(١) البيت في الكتاب ص ٢٤٤.

(٢) البيت في الديوان ٦٦.

(٣) نسبه بعضهم إلى أبي ربيس الثعلبي ، وهو من الخمسين.

(٤) البيت نسب إلى زهير وابنه كعب في ابن يعيش ٤ / ١٣١ ، الإنصاف ٣٠٦ ، الأشموني ٤ / ٨٣ ، وليس بديوانهما.

٤٨٧

كم نالني منهم فضلا على عدم

إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل (١)

وإن شاء رفع فجعل كم المرار التي ناله فيها الفضل ، فارتفع الفضل ب (نالني) كقولك : كم قد أتاني زيد ، فزيد فاعل وكم مفعول فيها وهي المرار التي أتاه فيها.

وليس زيد من المرار ، وقد قال بعض العرب.

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت علىّ عشار

وقال الآخر :

كم قد فاتني بطل كميّ

وياسر فتية سمح هضوم (٢)

فجعل (كم) مرارا كأنه قال : كم مرة قد حلبت علي عماتك.

وقال ذو الرمة ففصل بين الجار والمجرور :

(كأنّ أصوات من أيغالهنّ بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج (٣)

وقد يجوز في الشعر أن تجر وبينها وبين الاسم حاجر : فتقول : كم فيها رجل. كما قال الأعشى :

إلا علالة أو بداهة قارج بهذا الجزارة (٤)

فإن قال قائل : أضمر (من) بعد (فيها) قيل له ليس في كل موضع يضمر الجارّ ، ومع ذلك إن وقوعها بعد (كم) أكثر.

وقال : يجوز على قول الشاعر :

كم بجود مقرف نال العلا

وكريم نجله قد وضّعه (٥)

الجر والرفع والنصب على ما فسرنا. كما قال :

كم فيهم ملك أغر وسوقة

حكم بأردية المكارم مرتدي (٦)

وقال :

__________________

(١) البيت في ديوانه ٣٠ ، وابن يعيش ٤ / ١٣١ ، الدرر ١ / ٢١٢.

(٢) البيت منسوب إلى الأشهب بن رميلة في الكتاب ١ / ٢٩٥ ، المقتضب ٣ / ٦٢.

(٣) البيت في ديوانه ٧٦ ، ابن يعيش ٣ / ٧٧ ، ٤ / ١٣٢.

(٤) البيت في الخزانة الشاهد ٢٣ ، الخصائص ٢ / ٤٠٧.

(٥) البيت منسوب إلى أبي الأسود الدؤلي بالخزانة الشاهد ٤٨٩ / ابن يعيش ٤ / ١٣٢ ، الدرر ١ / ٢١٢.

(٦) البيت للفرزدق وليس في ديوانه ، ابن السيرافي ١ / ٣٤٨.

٤٨٨

كم في بني بكر بن سعد سيد

ضخم الدسيفة ماجد نفاء (١)

وتقول : كم قد أتاني لا رجل ولا رجلان ، وكم عبد لك ولا عبد ولا عبدان ، فهذا محمول على ما حمل عليه (كم) لا على ما تعمل فيه كم ، فإنك قلت :

لا رجل أتاني ولا رجلان ، ولا عبد لك ولا عبدان ، وذلك لأن (كم) يفسر ما وقعت عليه من العدد بالواحد المنكور ، كما قلت : عشرون درهما ، أو بجميع منكور نحو ثلاثة أثواب وهذا جائز في التي تقع في الخبر ، فأما التي تقع في الاستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين.

ولو قلت : كم لا رجلا ولا رجلين في الخبر أو الاستفهام كان غير جائز ؛ لأنه ليس هكذا تفسير العدد.

ولو جاز (ذا) لقلت : عشرون لا عبدا ولا عبدين.

ولا رجل ولا رجلان توكيد ل (كم) ، لا للذي عمل فيه ؛ لأنه لو كان عليه كان حالا وكان نقضا. ومثل ذلك قولك للرجل : كم لك عبدا؟ فيقول : عبدان ، أو ثلاثة أعبد ، حمل الكلام على ما حمل عليه (كم) ولم يرد من المسؤول أن يفسر له العدد الذي يسأل عنه ، إنما على السائل أن يفسر له العدد حتى يجيبه المسؤول على العدد ثم يفسره بعد ، إن شاء فيعمل في الذي يفسر به العدد ، كما أعمل السائل في (كم) في العدد. ولو أراد المسؤول عن ذلك أن ينصب عبدا أو عبدين على (كم) كان قد أحال ، كأنه يريد أن يجيب السائل بقوله : كم عبدا فيصير سائلا ، ومع هذا أنه لا يجوز لك أن تعمل (كم) وهي مضمرة ، في واحد من الموضعين ؛ لأنه ليس بفعل ولا اسم أخذ من الفعل. ألا ترى إنه إذا قال المسؤول : عبدين أو ثلاثة أعبد فنصب على (كم) أنه قد أضمر (كم).

وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول : كم غلاما لك ذاهب ، تجعل لك صفة للغلام ، وذاهبا خبرا ل (كم) ، ومن ذلك أن تقول : كم منهم شاهد على فلان ، إذا جعلت شاهدا خبرا ل (كم) ، وكذلك هو في الخبر أيضا.

تقول : كم مأخوذ بك إذا أردت أن تجعل مأخوذا بك في موضع (لك) إذا قلت : كم لك ؛ لأن لك لا تعمل فيه كم ولكنه مبنيّ عليها ، كأنك قلت : كم رجل لك ،

__________________

(١) البيت للفرزدق وليس في ديوانه ، ابن يعيش ٤ / ١٣٢ ، العيني ٤ / ٣٩٢.

٤٨٩

وإن كان المعنيان مختلفين ؛ لأن معنى كم مأخوذ بك غير معنى : كم رجل لك.

ولا يجوز في (ربّ) ذلك ؛ لأن كم اسم ، وربّ غير اسم ، ولا يجوز أن تقول : رب رجل لك.

قال أبو سعيد : هذا الباب أكثره مفهوم ، ومنه ما قد مضى تفسيره في غير هذا الباب ، وأنا أسوق هذا الباب إلى آخره جملة ، ليقع تفسير ما يفسر منه جملة غير مفرقة والله المعين بطوله.

فمن ذلك قوله : وهي : يعني (كم) في الاستفهام تكون اسما فاعلا ، وكم لا تكون فاعلة ؛ لأنها أول الكلام في اللفظ ، فإذا كان الفعل لها فإنما يرتفع ضميرها به. وهي مرفوعة بالابتداء ، وإنما سماها فاعلة لأن الفعل في المعنى لها. وقوله : لا تصرّف تصّرف يوم وليلة ؛ لأن يوما وليلة يتقدمان ويتوسطان ويتأخران ، و (كم) لها صدر الكلام.

وشبهت (بعشرين) لأنها تنصب ، ومنصوبها واحد من النوع ، فمذهبها مذهب ما ينصب واحدا منكورا ، وهي من أحد عشر إلى تسعة وتسعين ، وتقدر (كم) تقدير اسم كان منونا بنصب ما بعده بالتنوين ، ودخله البناء ، وحذف التنوين لوقوعه موقع حرف الاستفهام فصار ينصب ما بعده بتقدير التنوين ، ودخله البناء ، كما تنصب ما بعد خمسة عشر بتقدير التنوين.

ولا يستقبح الفصل بين عشرين وبين منصوبها من النوع ؛ لأن (كم) كانت مستحقة للتمكن بالاسمية ثم منعته بما أوجب لها البناء ، فصار الفصل واستحسان جوازه عوضا مما منعته من التمكن و (العشرون) وبابها باق على التمكن ، وإن كان ذلك يجوز في العشرين ونحوها في الشعر على ضعفه لضعف عمل (عشرين).

فمما لم ينشده سيبويه قول عبد بني الحسحاس من :

أشوقا ولما تمض لي غير ليلة

رويد الهوى حتى تغب لياليا

فأشهد عند الله أني رأيتها

وعشرون منها إصبعا من ورائيا (١)

وذكر أبو العباس محمد بن يزيد أنه قرأ على عمارة لجرير :

في خمس عشرة من جمادى ليلة

لا أستطيع على الفراش رقادي (٢)

__________________

(١) البيتان ليسا في ديوان سحيم ، ابن يعيش ٤ / ١٣٠.

(٢) البيت في الأغاني ٢٠ / ١٨٣ ، طبقات ابن المعتز ٣١٦. والبيت في ديوان جرير ٥٠٧ برواية :

لي خمس عشر من جمادى ليلة

ما أستطيع ...

٤٩٠

فإن قال قائل : ذكر سيبويه أن الفصل بين (كم) وبين ما نصبته تلك يجوز في (كم) جوازا حسنا ؛ لأنه كأنه صار عوضا من التمكن ، فيلزم في خمس عشرة ونظائره من (أحد عشر) إلى (تسعة عشر) أن يجوز الفصل جوازا حسنا ، فللمحتج عن سيبويه أن يقول : قد كثر الكلام ب (كم) لأنه في كل مستفهم عنه من المقدار فاجتمع كثرة الاستعمال إلى منع التمكن ، ولم تكثر في باب (خمسة عشر).

والذي عندي أن جواز ذلك في (كم) لكثرة استعمالها وترددها في المواضع واعلم أنه يجوز أن تحذف من (كم) مفسره كما تحذف من عشرين ونظائره ، وتكتفي بالدلالة عليه مما يجري (ذكره) أو مما يقتضيه الكلام ولا يكون مميزه إلا واحدا منكورا من النوع ، كما لا يكون إلا ذلك في عشرين ونظائره.

فإذا لم يكن بعد (كم) ما يصح أن يكون مميزا له علمت أنه قد حذف مميّزه وذلك قولك كم عبد الله ماكث ، فعبد الله مبتدأ ، وماكث خبره ، وعريت (كم) من ذكر المميز ، وكانت مسألة السائل عن مقدار مكث عبد الله من الزمان ، فقدرت كم يوما أو كم شهرا ، أو ما أشبه ذلك ، وكم في موضع نصب ، ينصبه ماكث ، وهو ظرف من الزمان ، ولأن (كم) يسأل بها عن كل مقدار جاز أن يسأل بها عن الزمان وعن المكان وعن المصادر وعن الأسماء.

فعن أي شيء سئل بها صارت من ذلك الجنس ، فإذا قلت : كم سرت؟ وأنت تريده ما ساره من المسافة فهو ظريف من المكان ، كأنك قلت : كم فرسخا سرت ، أو كم ميلا ، ونحو ذلك.

وإذا أردت مساره من الأيام فهو ظرف من الزمان ، وتقديره : كم يوما سرت؟ أو كم ساعة ، أو نحو ذلك مما تقصد ويفهم عنك.

فإذا قلت : كم غلمانا لك لم يجز على وجه من الوجوه ؛ لأنك إن نصبت غلمانا على التمييز لم يجز ؛ لأن (كم) في الاستفهام لا يميز إلا بواحد ، كعشرين.

وإن أردت نصبها على الحال لم يجز ؛ لأن العامل (لك) وهي مؤخرة ، فلا يجوز ذلك. كما لا يجوز : زيد ـ قائما ـ فيها.

فإن قدمت فقلت : كم لك غلمانا جاز كما يجوزه عبد الله ـ فيها قائما ، وتقديره : كم مماليكك في حال ما هم غلمان ، أو كم ولدك غلمانا ، كما تقول : لك مائة بيضا ، أي في حال ما هي بيض.

وإذا قال : كم غلمان لك فتقديره : كم غلاما غلمان لك ، فيكون كم مبتدأ ،

٤٩١

وغلمان خبره ، ولك صفة ، وقد ذكرنا أن (كم) في الاستفهام تنصب لا غير.

وقد ذكر سيبويه عن الخليل : على كم جذع بيتك مبنيّ؟ وذكر أن القياس النصب ، وإنما خفض بإضمار (من) وصارت (على) في أول الكلام عوضا منها ، ولاها الله لا أفعل ، وآلله ليفعلن ، ألف الاستفهام في اسم الله تعالى ، و (ها) في (لاها) عوض من واو القسم ، وقد ذكر ذاك في موضعه.

و (كم) في الخبر تخالف (كم) في الاستفهام في المميز وفي إعراب المميز ، أما المميز في (كم) للاستفهام فهو واحد منكور ، وإعرابه النصب.

وأما (كم) في الخبر ، فمميز ويكون واحدا وجميعا ، ويكون مخفوضا ومنصوبا ، والأكثر فيه الخفض ، وذكر أصحابنا أنهم نصبوا بها في الاستفهام وخفضوا في الخبر للفرق بين المعنيين.

ولقائل أن يقول : فلم صارت التي للاستفهام أولى بالنصب والأخرى أولى بالخفض؟ فالجواب عن ذلك : أن التي في الخبر تضارع (ربّ) وهي حرف ، وكم للتكثير ورب للتقليل ، فلما وجب في التي تضارع (رب) في الخبر الخفض بمضارعة (رب) وجب للأخرى النصب ؛ لأن العدد إما عمل نصبا أو خفضا.

ومما تقوي ذلك أن الاستفهام مضارع للفعل ، والفعل له النصب ، فكذلك جعلت بمنزلة ما ينصب ، وإنما أضيف التي في الخبر إلى الجمع والواحد ؛ لأنه لما وجب لها الخفض وكان العدد الخافض بعضه يميّز بجمع كقولك : ثلاثة أثواب وخمسة أجمال وبعضه يميّز بواحد كقولك : مائة ثوب وألف درهم ، فيجوز في (كم) الوجهان ، كما جاء في العدد الذي تعمل عمله. والذين ينصبون بها في الخبر يحملونه على الاستفهام ، وهو الأصل لأن (كم) عدد منهم فأصلها الاستفهام ؛ لأن المستفهم يحتاج أن يبهم لشرح ما يسأل عنه ، وليس الأصل في الإخبار والإبهام ، فذلك صار الأصل الاستفهام ، فإذا نصب بما في الخبر جاز أن يكون المنصوب جماعة ؛ لأنه يزد به ما لباب فيه.

والأكثر الخفض ، فصار كقولك : مائتين عاما وثلاثة أثوابا إذا احتاج إلى نصبه الشاعر فإذا فصلت بين (كم) وهي خافضة ، وبين ما تخفضه فإن الأحسن حملها على لغة من ينصب بها لقبح الفصل بين الخافض والمخفوض ، وقد ذكرت ما أنشده في ذلك.

وبيت الفرزدق من ينشد على ثلاثة أوجه :

أجوده الخفض ؛ لأنه خبر ، كم عمة لك يا جرير ، هي في معنى (عمات) وبعدها النصب ، وهي ـ أيضا ـ في معنى عمات ، وإذا رفع فقيل :

٤٩٢

كم عمة لك فهي عمة واحدة ، كأنه قال : كم عمتك؟ وكم واقعة على مرار الحلب ، وكأنه قال : كم مرة عمتك حلبت علىّ ، وعمة لك بتلك المنزلة.

وأهل الكوفة يخفضون ما بعد كم في كل حال بمن ، فإن أظهرتها فهي الخافضة وإن حذفت وخفضت فهي مقدرة ، فلذلك فصلوا بين (كم) وبين المخفوض.

وتقول : كم قد أتاني لا رجل ولا رجلين ، وكم عبد لك لا عبد ولا عبدان ، كم رفع بالابتداء ومميزه محذوف ، وتقديره : كم رجل ؛ لأنه في الخبر ، وخبر (كم) قد أتاني ، فصار التقدير : رجال أتوني ، ولا رجل ولا رجلان : عطف على (كم).

كما تقول : زيد أتاني لا عمرو ولا بكر.

ولا يجوز أن تعمل (كم) في لا رجل ولا رجلين ؛ لأن تفسير (كم) استفهاما كانت أو خبرا ـ لا تقع كذلك ، أما في الاستفهام فمنزلتها منزلة (عشرين) وأنت لا تقول في تمييز العشرين : عندي عشرون لا رجلا ولا رجلين ، وأما في الخبر فهي تجري مجرى (ربّ) وأنت لا تقول : ربّ لا رجل ولا رجلين ، ومعنى قوله : كان محالا وكان نقضا ؛ أي نصبت وجئت ب (كم) بعد (لا) فقلت :

لا كم رجلا ، أو أضمرت (كم) لم يجز وانتقض الكلام ؛ لأنه يصير في الخبر بمنزلة لا ربّ رجل ولا كم رجل ، والقائل إذا قال : كم أتاني الرجل والرجلان يريد تكثير من أتاه ، فإذا حمل لا رجل ولا رجلين على (كم) صار لا كم ، فإذا أظهرها وأضمرها استحال وذهب معنى الكلام.

وعلى ذلك جواب من يقال له : كم لك عبدا؟ فيقول : عبدان أو ثلاثة أعبد ، عبدان أو ثلاثة جواب (كم) وهو رفع بالابتداء وخبره (لي) محذوفة ، كما كان (لك) خبر (كم).

قوله : ولم يرد من المسؤول أن يفسر على السائل فيفسر فيقول : كم درهما أو دينارا لك فيقول المسؤول : عشرون أو ثلاثون ، وإن شاء ذكر المعدود فقال : ثلاثون درهما أو دينارا وما شاء ، وإن شاء لم يفسر النوع ؛ لأن السائل قد ذكره فلا اضطرار بالمجيب إلى ذكره لأنه إذا قال : كم عندك من الدراهم فقال : عشرون فقد عرف ما يعني ، فلو لم يبين السائل ويفسر العدد لم يدر المسؤول بأي شيء يجيبه؟

ومعنى قوله : ولو أراد المسؤول عن ذلك أن ينصب عبدا أو عبدين على (كم) كان قد أحال يعني : أن المسؤول لو نصب خرج عن حد الجواب فصار سائلا ؛ لأنه إذا نصب فإنما ينصبه ب (كم) والذي يلفظ ب (كم) هو سائل.

وإن أظهرها فقال في جوابه : كم لا عبدا ولا عبدين فقد أحال ؛ لأنه سأل وحقه أن

٤٩٣

يجيب وإن لم يظهر (كم) فلا بد من أن يقدرها مضمرة فيشارك من أظهرها ويزيد عليه في إعماله (كم) مضمرة ، وهي وأمثالها لا تضمر لضعفها.

وقد يجوز أن يسأل السائل فيقول : كم عندك؟ فيعدل المجيب عن جوابه إلى الإخبار بأن عنده عددا كبيرا فيقول : كم رجل عندي أو كم رجال عندي؟ على استئناف إخبار منه بكثرة ما عنده على غير ما يقتضيه الجواب من ذكر مبلغ ما عنده ، ومعناه : عندي رجال كثير ، وإن لم يخبره بعدتهم.

وذكر بعض أصحابنا أن رجلا لو قال لآخر كم لا رجلا عندك ولا امرأة ، وأراد كم عندك غير رجل كأنه قال : كم بعيرا عندك لا رجلا ولا امرأة ، أي إنما أسألك عن الإبل لا غير.

وبيّن بما ذكر من المسائل ـ في آخر الباب ـ أن (كم) اسم و (رب) حرف وذلك أنه جاء (كم) بخبر كخبر المبتدأ كقولك : كم غلاما لك ذاهب ، وكم منهم شاهد ، فذاهب وشاهد خبران لكم ، وكذلك : كم مأخوذ بك ، وتأويله : كم رجلا مأخوذ بك ، ومأخوذ خبر ، ولو نصب مأخوذا لم يتم الكلام واحتجت إلى خبر إذا قلت : كم مأخوذا بك ، لم يتم حتى تقول : في الحبس ، أو معاقب ، أو ما أشبه ذلك.

وكذلك : كم لك ، أو كم رجل لك ، هو الخبر ، ولا يجوز في (رب) ذلك. لا تقول : رب مأخوذ بك ، ولا رب رجل قائم.

هذا باب ما جرى مجرى كم في الاستفهام

وذلك قولك : له كذا وكذا درهما ، وهو مبهم في الأشياء ، بمنزلة (كم) وهو كناية للعدد ، بمنزلة فلان ، إذا كنيت به في الأسماء ، وكقولك : كان من الأمر ذية وذية ، وذيت وذيت وكيت وكيت ، صار (ذا) بمنزلة التنوين ؛ لأن المجرور بمنزلة التنوين.

وكذلك : كأيّ رجلا قد رأيت ، وزعم ذلك يونس. وكأين ـ قد أتاني ـ رجلا ، إلا أن أكثر العرب إنما يتكلمون بها مع من. قال الله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)(١)

وقال عمرو بن شأس :

وكائنّ رددنا عنكم من مدجج

يجيء أمام الألف يردى مقنّعا (٢)

__________________

(١) سورة الطلاق ، من الآية ٨.

(٢) البيت في الكتاب ١ / ٢٩٧ ، الدرر ١ / ٢١٣ ، شواهد الكشاف ١٣٥.

٤٩٤

فإنما ألزموها لأنها توكيد ، فجعلت كأنها شيء يتم به الكلام وصار كالمثل.

ومثل ذلك : ولا سيّما زيد ، ف (ربّ) توكيد لازم حتى يصبر كأنه من الكلمة. وفي نسخة مبرمان كأنه من الكلمة. وكأين معناها معنى ربّ.

وإن حذفت (من) و (ما) (١) فعربي. وقال : إن جرها أحد من العرب فحسن أن يجرها بإضمار (من) كما كان ذلك عند ذكرنا إياها في (كم).

وقال في كذا وكأين : عملتا فيما بعدها كعمل أفضلهم في رجل حين قلت : أفضلهم رجلا ، فصار أي وذا بمنزلة التنوين كما كان المجرور بمنزلة التنوين.

وقال الخليل : كأنهم قالوا : له كالعدد درهما ، كالعدد من قرية ، فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به. فإنما تجيء الكاف للتشبيه فتصير ـ وما بعدها ـ بمنزلة شيء واحد. من ذلك قولك : كأن ، أدخلت الكاف على أن للتشبيه".

قال أبو سعيد : قد مضى الكلام في (كذا وكذا درهما) وفي ذيّة وذيت وفي كية وكيت ، وفي كل واحد من ذيت وكيت إذا خفضت ثلاث لغات : الضم والفتح والكسر.

كقولنا : ذيت وذيت وذيت ، وكيت وكيت وكيت ، وإذا شددت فالفتح لا غير كقولنا : ذيّة وكيّة. قال أبو العباس محمد بن يزيد : لأن الهاء ـ وما قبلها ـ بمنزلة خمسة عشر وأما قوله : كأي رجلا ، وهي كاف التشبيه دخلت على أي وفيها خمس لغات : أصلها كلها : كأيّ (وهي كأي) ، وكأئن ، وكأيّن ، وكئن ، وكأن ، وهي تنصب ما بعدها بلزوم التنوين لها.

وقد كثر في كلام العرب وقوع (من) بعدها ، وإنما اختارت العرب أن يتكلموا بها مع (من) فيما ذكر أبو العباس محمد بن يزيد أنه إذا قال : كأين رجلا أهلكت ، جاز أن يكون رجلا نصبا بكأي ، فيكون واحد في معنى جميع ، ويجوز أن تجعل ، كأي ظرفا ، كأنه قال : كأي مرة ، وتنصب رجلا بأهلكت ، فيصير واحدا في معنى نفسه.

فإذا أدخلت (من) صار واحدا في معنى (جميع) ويخرج أن يكون واحدا في معنى نفسه. فأما اللغات فأصلها وأفصحها.

كأيّ مشددة والوقوف عليها بغير نون ، وبعدها في الفصاحة والكثرة :

كائن ، على مثال : كاعن ، وهي أكثر من الأولى في شعر العرب.

__________________

(١) يعني لو حذفت من مع (كأيّن) و (ما) مع (لا سيما) فهو عربي.

٤٩٥

وقال الشاعر ـ غير ما أنشده سيبويه :

فكائنّ ترى من يلمعيّ مخطرب

وليس له عند العزائم جول (١)

وقال آخر :

وكائن بالأباطح من صديق

يراني لو أصبت هو المصابا (٢)

والوقف على هذا ـ على ما قاله أبو علي محمد بن المستنير قطرب في القياس ـ وكائن. ذهب إلى أنها مقلوبة أخرت همزتها ، وينبغي ـ على قوله ـ أن تكون الألف بعد الكاف منقلبة من ياء.

قال أبو العباس محمد بن يزيد : لما أدخلت الكاف جعلت اسما واحدا ، وحذفت الياء الأولى من أي ، وجعل التنوين عوضا من الياء المحذوفة.

والذي يوجبه مذهبه أن يجعل على وزن فاعل ، (الكاف) منه كفاء الفعل ، وبعد الكاف ألف (فاعل) وبعدها الهمزة التي هي أول أي ، وقد حذفت إحدى الياءين ، فتكون الهمزة في موضع عين الفعل ، والياء الباقية في موضع لام الفعل ، ودخل عليه التنوين الذي كان في أي ، فسقطت الياء لاجتماع الساكنين فصار كائنّ ، ولزمت النون عوضا وينبغي أن تكون النون ثابتة في الوقف.

وحكى محمد بن المستنير أن يونس بن حبيب كان يزعم أن (كائن) فاعل من كان يكون ، فإذا وقفت على هذا القول قلت : كائن بإثبات النون.

وأما كأن على وزن كيعبن ، فقد حكاه أبو العباس.

وأما كأين بهمزة ساكنة بعدها ياء مكسورة فحكاها أبو الحسن بن كيسان.

وحكى أبو الحسن بن كيسان عن بندار ـ يعني أبا عمرو بندار بن كره الكرخي عن بعض البصريين ولم يسمه بندار : كين بتقدير كعن.

قال سيبويه : وكأي معناه معنى (رب).

وقال الفراء : معناها (كم).

وكثر استعمال النحويين ـ من البصريين والكوفيين تفسيرها بكم.

والذي قال سيبويه أصبح ؛ لأن الكاف حرف دخوله على ما بعده كدخول (رب) ، و (كم) في نفسها اسم ، وأنت تقول : كم لك؟ ولا تقول كأيّ لك. كما لا تقول : ربّ

__________________

(١) البيت في إصلاح المنطق ١٠٠.

(٢) البيت منسوب لجرير في ابن يعيش ٣ / ١١٠ ، والدرر ١ / ٤٦ ، وشواهد الكشاف ١٣٥.

٤٩٦

لك.

وما بقي من الباب مفهوم والله أعلم بالصواب.

هذا باب ما ينصب نصب كم إذا كانت منونة في الخبر والاستفهام

" وذلك ما كان من المقادير نحو قولك : ما في السماء موضع راحة سحابا ، ولي مثله عبدا ، وما في الناس مثله فارسا ، وعليها مثلها زيدا ، وذلك إذا أردت أن تقول : لي مثله من العبيد ، ولي ملؤه من العسل ، وما في السماء موضع كفّ من السحاب ، فحذف ذلك تخفيفا كما حذفه في (عشرين) حين قال : عشرون درهما ، وصارت الأسماء المضاف إليها المجرورة بمنزلة التنوين ، ولم يكن ما بعدها من صفتها ولا محمولا على ما حملت عليه فانتصب ب (ملء) كفّ ومثله ، كما انتصب الدرهم بالعشرين ؛ لأن (مثل) بمنزلة عشرين ، والمجرور بمنزلة التنوين ؛ لأنه قد منع الإضافة كما منع التنوين.

وزعم الخليل أن المجرور بدل من التنوين.

ومع ذلك أنك إذا قلت : لي مثله ، فقد أبهمت ، كما أنك إذا قلت لي عشرون فقد أبهمت الأنواع ، فإذا قلت درهما ، فقد اختصصت نوعا منه ، وبه يعرف من أي نوع ذلك العدد ، وكذلك مثل هو مبهم يقع على أنواع :

على الشجاعة والفروسية والعبيد ، فإذا قال : عبدا فقد بيّن من أي أنواع المثل ، والعبد ضرب من الضروب التي تكون على مقدار المثل ، فاستخرج على المقدار نوعا ، والنوع هو المثل ، ولكنه ليس من اسمه ، والدرهم ليس بالعشرين ولا من اسمه ، ولكنه ينصب كما تنصب (العشرون) وتحذف من النوع كما يحذف من نوع العشرين ، والمعنى مختلف ، مثل ذلك : عليه شعر كلبين دينا ، الشعر : مقدار ، وكذلك : لي ملء الدار خيرا منك عبدا ، ولي ملء الدار أمثالك ؛ لأن خيرا منك نكرة ، وأمثالك نكرة ، وإن شئت قلت : لي ملء الدار رجلا وأنت تريد جميعا ، فيجوز ذلك كمنزلة في كم وعشرين ، وإن شئت قلت : رجالا كما جاز في (كم) حين دخل فيها معنى رب ؛ لأن المقدار معناه مخالف لمعنى كم في الاستفهام ، فجاز في تفسيره بالواحد.

والجميع ، كما جاز في (كم) إذ دخلها معنى (ربّ) كما تقول : ثلاثة أثوابا ، أي تجعله بمنزلة التنوين ومثل ذلك : لا كزيد فارسا ، إذا كان الفارس هو الذي سميت ، كأنك قلت : لا فارس كزيد فارسا ، قال كعب بن جعيل :

٤٩٧

لنا مرفد سبعون ألف مدجّج

فهل في معد فوق ذلك مرفدا (١)

ومثل ذلك : تالله رجلا ، كأنه أضمر تالله ما رأيت كاليوم رجلا ، وما رأيت مثله رجلا".

قال أبو سعيد : المقادير في المكيل والموزون والعدد والمساحة وغير ذلك يجري مجرى واحد.

وقوله : ما في السماء موضع كفّ : مقدار من المساحة ، كما أن (عشرين) مقدار من العدد ، و (سحابا) هو النوع الذي يفسره ، كما أن درهما نوع يفسر العشرين.

ولي مثله : أي لي مقداره ، أي : ما يقادره ويماثله في عدد. و (عبدا) هو النوع.

وكذا : ما في الناس مثله فارسا ، وعليها مثلها زيدا ، وإنما يريد : ثمرة عليها مثل : ولي ملؤه عسلا.

ومذهب البصريين فيه كمذهب نصب (العشرين) لما بعده ، وقد ذكرنا ذلك قبل هذا الموضع.

وقد جعل سيبويه بعض هذه المنصوبات من الأنواع هو الأول ، بعضه غير الأول.

فأما ما كان منه هو الأول : فهو ما كان الأول منه مثله وشبهه وملؤه ، وتعتبر ذلك بأنك لو جعلت المنصوب في موضع الأول وجعلت الأول تابعا له لم يتغير معناه مرفوعا ومنصوبا.

ألا ترى أنك تقول : لي ملؤه عسلا ، و (عسل) منصوب ، ولو قلت : لي عسل ملؤه لأدى ذلك المعنى ولم يكن بينهما فضل.

وكذلك : لي مثله عبدا. لو قلت : لي عبد مثله لأدى ذلك المعنى.

وهذا معنى قوله : فاستخرج على المقدار نوعا ، والنوع هو المثل ، ولكنه ليس من اسمه ، يعني ليس بنعت له ، وإن كان هو هو.

وعلى هذا المذهب قوله : فهل في معدّ فوق ذلك مرفدا؟

لأن المرفد مثل : المردّ للجيش ، فقال كعب : لنا مرفد هذا عددهم على التكثير ، فهل في معدّ فوق ذلك؟ أي : هل في معد عدد فوق ذلك مرفدا؟

فهو كقولك : لي مثله عبدا ، فمرفد هو العدد المقدّر.

وفضل سيبويه بين : لي مثله عبدا ، وبين : عشرين درهما ؛ لأن الدرهم ليس

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ٢ / ١١٤ ، والكتاب ١ / ٢٩٩.

٤٩٨

بالعشرين. كما كان مثله هو العبد ، ولأنك لا تجعل الدرهم مكان العشرين ، فتقول : لي درهم (عشرون) وإن كان (العشرون) و (لي مثله) يشتركان في نصب ما بعدهما.

ولو قلت : لي ملء الدار رجلا ، لم يكن (رجلا) هو الأول ؛ لأن ملء الدار لجماعة ورجلا هو واحد ، ولكن ملء الدار العشرين.

وقوله : وإن شئت قلت : رجالا ؛ لأنه خبر يجري مجرى (كم) التي في معنى (رب) في جواز الجمع ، ويصير : لي ملء الدار رجالا من باب : لي ملؤه عسلا ؛ لأن الثاني هو الأول ، ولا كزيد فارسا من باب لي مثله عبدا ؛ لأن معناه : لا مثل زيد. وقولهم تالله رجلا تقديره : تالله ما رأيت رجلا كرجل أراه اليوم ، وقد فسرته وذكرت ترتيب الحذف فيه في غير هذا الموضع بما يغني عن إعادته.

٤٩٩

فهرس المحتويات

باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام وحروف الأمر والنهي..................... ٣

باب من الفعل يستعمل في الاسم.................................................. ٩

باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول ويجري على الاسم.......................... ٢٢

باب من اسم الفاعل............................................................ ٢٦

باب ما جرى مجرى الفعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين في اللفظ لا في المعنى........... ٣١

باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع في عمله ومعناه.......................... ٤٥

باب الصفة المشبهة............................................................. ٥٠

باب استعمال الفعل في اللفظ.................................................. ١٠٤

باب وقوع الأسماء ظروفا....................................................... ١٠٩

باب ما يكون فيه المصدر حينا لسعة الكلام والاختصار........................... ١١٧

باب ما يكون من المصادر مفعولا فيرتفع كما ينتصب إذا شغلت الفعل به وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره    ١٢٥

باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره.............. ١٣٤

باب من الفعل سمي الفعل فيه بأسماء لم تؤخذ من أمثلة الفعل الحادث................ ١٤١

باب متصرّف رويد............................................................ ١٤٥

باب ما جرى من الأمر والنهي على إضمار الفعل المستعمل إظهاره إذا علمت أن الرجل مستغن عن لفظك بالفعل     ١٥٣

باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره في غير الأمر والنهي...................... ١٥٥

باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف.............................. ١٥٦

باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره استغناء عنه...................... ١٦٩

باب ما جرى على الأمر والتحذير.............................................. ١٦٩

باب ما يكون معطوفا في هذا الباب على الفاعل المضمر في النية.................... ١٧٥

باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي............... ١٨٦

باب ما يظهر فيه الفعل وينتصب فيه الاسم لأنه مفعول معه ومفعول به كما انتصب نفسه في قولك : " امرأ ونفسه"  ١٩٤

٥٠٠