شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

....... لو لا حددت

وما يليه الاسم والفعل من الحروف فما بعده رفع بالابتداء ؛ كقولنا : إنّما وكأنّما وهل وألف الاستفهام ، وشبه ما حذف من خبر المبتدأ بعد (لو لا) بأشياء من المحذوفات كقولهم : إما لا ، وأصله ما زعم الخليل أنهم أرادوا : إن كنت لا تفعل غيره فافعل كذا وكذا إما لا.

معنى هذا الكلام أن رجلا لزمته أشياء يفعلها فامتنع منها فرضي منه صاحبه ببعضها ، فقال افعل هذا إما لا ، أي افعل هذا إن لا تفعل جميع ما يلزمك ، وزاد (ما) على (إن) وحذف الفعل وما يتصل به ، وكثر ذلك في كلامهم حتى صارت مع ما قبلها كشيء واحد ؛ وكذلك أمالوا الألف من (لا) وهي لا تمال في غير هذا الكلام ، ومثله حينئذ الآن ، إنما تريد اسمع الآن ؛ أي كان الشيء الذي ذكر حينئذ واسمع الآن ، وقولهم : ما أغفلت عنك شيئا ؛ أي دع الشك عنك ، فحذف هذا لكثرة استعمالهم.

وقال أبو سعيد : هذا الحذف ما فسره من مضى إلى أن مات المبرّد ، وفسره أبو إسحاق الزجاج بعد ذلك ، فقال : معناه على كلام قد تقدّم ، كأن قائلا قال : زيد ليس بغافل عني ، فقال المجيب : بلى ما أغفله عنك. انظر شيئا ، أي تفقد أمرك ، فاحتج به على أن الحذف ـ يريد حذف انظر ـ الناصب شيئا ، كأنك لما قلت : ما أغفله عنك ، أردت أن تبعثه على أن يعرف صحة كلامك ، فقلت له : انظر شيئا فإنك تعرف ما أقوله لك ، كما تقول : انظر قليلا ؛ أي تفقد ، وذكر من المحذوفات : هل من طعام؟ أي : هل من طعام في مكان أو زمان؟ أي هل طعام؟

وهذا وما بعده غير محتاج إلى تفسير والله أعلم.

هذا باب يكون المبتدأ فيه مضمرا ويكون المبنيّ عليه مظهرا

وذلك أنك رأيت صورة شخص فصار آية لك على معرفة الشخص ، فقلت : عبد الله وربي ، كأنك قلت : ذاك عبد الله ، وهذا عبد الله ، أو سمعت صوتا فعرفت صاحب الصوت ، فصار آية لك على معرفته ، فقلت زيد وربي ، أو مسست جسدا ، أو شممت ريحا فقلت زيد أو المسك ، أو ذقت طعاما فقلت العسل ، ولو حدثت عن شمائل رجل فصار آية لك على معرفته لقلت عبد الله ، وكان رجلا قال : مررت برجل راحم للمساكين بار بوالديه ، فقلت : فلان والله.

٤٦١

وهذا كله مفهوم والله أعلم بالصواب.

هذا باب الحروف الخمسة التّي تعمل فيما بعدها

لعمل الفعل فيما بعده

وهي من الفعل بمنزلة عشرين من الأسماء التي بمنزلة الفعل ، ولا تتصرف تصرف الأفعال كما أن عشرين لا تتصرف تصرف الأسماء التي أخذت من الأفعال ، وشبهت بها في هذا الموضع ، فنصبت درهما ؛ لأنه ليس من نعتها ولا هي مضافة إليه ، ولم يرد أن يحمل الدرهم على ما حمل العشرون عليه ، ولكنه واحد بين به العدد ، فعملت فيه كعمل الضارب في زيد ، إذا قلت : هذا الضارب زيدا ؛ لأن زيدا ليس من صفة الضارب ولا محمولا على ما حمل عليه الضارب ، وكذلك هذه الحروف منزلتها من الأفعال ، وهي (إن ولكنّ وليت ولعل وكأن) ، وذلك قولك : إن زيدا منطلق وإنّ عمرا مسافر ، وإنّ زيدا أخوك ، وكذلك أخواتها.

وزعم الخليل أنها عملت عملين : الرفع والنصب ، حين قلت : كأن أخاك زيد ، إلا أنه ليس لك أن تقول كأن أخوك عبد الله ، تريد كأن عبد الله أخوك ، لا تتصرف تصرف الأفعال ولا يضمر فيها المرفوع كما يضمر في كأن ، فمن ثمّ فرقوا بينهما كما فرقوا بين (ليس) و (ما) فلم يجروها مجراها ، ولكن قيل هي بمنزلة الأفعال فيما بعدها وليست بالأفعال.

قال أبو سعيد : شبه سيبويه هذه الحروف في نصب ما بعدها بالأفعال في نصب مفعولاتها ، وجعل منزلتها من الفعل في الشبه منزلة عشرين في نصبها ما بعدها من ضاربين التي أخذت من الفعل وكأنها بمنزلته ؛ أعني بمنزلة الفعل. فإذا قلت : هذه عشرون درهما ، فليس درهما بنعت للعشرين فتتبعها في إعرابها ، ولا العشرون مضافة إليها فيبنون خفضا بالإضافة ، ولا هو معطوف على العشرين محمول عليها فيعمل فيها عامل العشرين ، ولكن درهما بين به العشرون فعملت فيه كعمل ضارب وضاربين ، إذا قلت هؤلاء ضاربون زيدا ، والشبه بينهما أن عشرين مقدار يقدر به ، فإذا قال : هذه عشرون درهما ، فتقديره : هذه الدراهم تقادر أو تساوي أو تماثل أو توازن عشرين ، وترد إلى اسم الفاعل وتضاف فتصير هذه الدراهم مقادرة عشرين ، وتحذف فتقام العشرون مقامها ، والعشرون تقتضي نوعا يقدر بها كما أن ضاربا يقتضي مفعولا وقع به فشبه به لذلك.

٤٦٢

وقد ذكر هذا بأتم من هذا الشرح في غير موضع.

وأما الشبه بين هذه الحروف وبين الأفعال فمن وجهين ؛ أحدهما : من جهة اللفظ والآخر من جهة المعنى ، فأما الشبه من جهة اللفظ فلبناء أواخرها على الفتح ، كبناء الفعل الماضي ، وأما الشبه من جهة المعنى فلأن هذه الحروف تطلب الأسماء ولا تقع إلا عليها ، كما أن الأفعال تطلب الأسماء ولا تقع إلا عليها ، وتدخل هذه الحروف على المبتدإ والخبر فتنصب المبتدأ وترفع الخبر ، وشبهت في نصب المبتدأ ورفع الخبر بفعل قدّم مفعوله على فاعله ، والذي ترفعه هذه الحروف من أخبارها ما كان منها هو الاسم ؛ كقولك : إن زيدا أخوك ، ونحوه ، دون ما كان في موضع الخبر ، وإنما اختير أن يكون الاسم منصوبا ؛ لأنه لو جعل مرفوعا ثم أضمر المتكلم والمخاطب لتغيرت بنيته كما تتغير كان إذا قلت : كنت وكنت ، وكان يلزم فيها أن يقال إننت قائما وإننت منطلقا.

وهذه حروف ليس لها تصرف الأفعال فلم تحتمل التغيير ، ولهذه العلة لم يجز تقديم الخبر ؛ لأنه لو قدم ثم اتصلت به كتابة المتكلم والمخاطب ، للزمه التغيير الذي ذكرناه ، ومع هذا أنه يضعف تغيير ما تعمل فيه الحروف عن مواضعها المرتب فيها.

وأهل الكوفة يقولون في خبر إن وأخواتها إنه مرفوع ، كما كان يرتفع به قبل دخول (إن) و (أن) ؛ لأن (أن) دخلت وعملها ضعيف فعملت في الاسم ولم تجاوزه ، وبقي الخبر مرفوعا على ما كان قبل دخول (إن) وهذا غلط منهم ومناقضة ، فأما الغلط فلأن خبر المبتدإ كان يرتفع بالتعري من العوامل اللفظية ، وقد دخلت (إن) فزال ذلك التعري ، وأما المناقضة فإنهم يقولون زيد قائم ، كل واحد منهما يرفع الآخر ، وإذا دخلت (إنّ) بطلت المرافعة فكيف يبقى الخبر على حاله.

وقال سيبويه : " وتقول إن زيدا الظريف منطلق ، فإن لم تذكر المنطلق صار الظريف في موضع الخبر ، كما قلت : كان زيد الظريف ذاهبا ، فلما لم تجئ بالذاهب قلت كان زيد الظريف ، فنصب هذا في (كان زيد) بمنزلة رفع الأول في إن وأخواتها ، وتقول إن فيها زيدا قائما ، فإن شئت رفعت على إلغاء فيها ، وإن شئت قلت إن زيدا فيها قائما قائم ، وتفسير نصب القائم هاهنا ورفعه كتفسيره في الابتداء ، وعبد الله ينتصب بأن كما ارتفع بالابتداء ، إلا (أن) فيها هاهنا بمنزلة هذا في أنه يستغني على ما بعدها السكوت ويقع موقعه ، وليست بنفس عبد الله ، و (إن) هي ظرف لا

٤٦٣

تعمل فيها بمنزلة خلفك ، وإنما انتصب خلفك بالذي فيه ، وقد يقع الشيء موقع الشيء ، وليس إعرابه كإعرابه وذلك قولك : مررت برجل يقول ذاك ، فيقول في موضع قائل ، وليس إعرابه كإعرابه".

قال أبو سعيد : ذكر سيبويه في أن الظرف الذي يستغنى به الاسم فيحسن عليه السكوت ، والذي ينصب الظرف في خبر (إن) هو الذي كان ينصبه في خبر الابتداء ، وجواز الحال والخبر في إن كجوازهما في الابتداء ، والظرف موقعه اسم هو الأول مرفوع ؛ لأن قولنا زيد خلفك ، وإن زيدا خلفك ، موقعه موقع إن زيدا مستقر ، وإن زيدا أخوك ، وإن كان إعرابه يخالف إعرابه ، كما أن مررت برجل يقول ذاك في موضع قائل ذاك ، ويقول مرفوع وقائل مخفوض. وتقول إن بك زيدا مأخوذ ، وإن لك زيدا واقف ، من قبل أنك إذا أردت الوقوف والأخذ لم يكن بك ولا لك مستقرين لزيد ولا موضعين ، ألا ترى أن السكوت لا يستغنى على زيد إذا قلت لك زيد وأنت تريد الوقوف ، ومثل ذلك أن فيك زيدا لراغب.

قال الشاعر :

فلا تلحني فيها فإني بحبها

أخال مصاب القلب جم بلابله (١)

وتقول : إن اليوم زيدا منطلق ، إذا أردت أن تجعل زيدا اسم إنّ ومنطلق الخبر واليوم ظرف المنطلق ، فإن نصبت اليوم ب (إن) قلت : إن اليوم زيد منطلق فيه ، وقد تكون الجملة خبر اليوم والعائد إليه الهاء في (فيه).

وقال أبو سعيد : وتجوز حذف (فيه) منه ، فتقول إن اليوم زيد منطلق ، وأنت تريد : فيه. كما قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(٢) والمعنى لا تجزى فيه ، وحذف هذا جائز في الظروف ، وتقول إن زيدا لفيها قائما ، وإن شئت ألغيت (لفيها) كأنك قلت إن زيدا لقائم فيها.

وقال أبو سعيد : هذه اللام تدخل بعد تمام الاسم والخبر ، فإذا دخلت على الخبر جاز أن يكون الذي يلاصقها الخبر ، ويجوز ذلك أن يكون مثبتا في صلة الخبر مقدما عليه

__________________

(١) البيت بلا نسبة في الكتاب ١ / ٢٨٠ ، والدرر ١ / ١١٣ ، شواهد المغني ٣٢٧.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٤٨.

٤٦٤

والخبر بعده ، فأما ملاصقتها الخبر فقولك : إن زيدا لقائم في الدار ، وإن زيدا لضارب عمرا ، وإن زيدا لفي الدار قائما ، والخبر لفي الدار ، وأما ملاصقتها ما في صلة الخبر والخبر بعده ، فقولك : إن زيدا لفيها قائم ، وإنه إليك مأخوذ. قال أبو زبيد الطائي :

إنّ أمرا خصّني عمدا مودّته

على التّنائي لعندي غير مكفور (١)

(غير مكفور) هو الخبر ، و (عندي) من تمامه مقدم عليه ، فإن قلت إن زيدا فيها لقائم لم يجز غير الرفع في قائم ؛ لأنّا لو نصبناه صار الخبر (فيها) والاسم (زيد) وقد تم الاسم والخبر فلا تتأخر اللام عنهما.

قال أبو سعيد : قد ذكرنا في غير هذا الموضع أن هذه اللام كان حقها أن تكون صدر الكلام ، فإذا اجتمعت هي وإن فهي أولى بالتقدمة ، وذلك أن (إن) عاملة واللام غير عاملة بل هي مانعة العمل ما قبلها فيما بعدها ، فلو رتبت (إن) على التقدم لمنعتها اللام من النصب ، وإذا رتبت اللام على التقدم لم يبطل عمل (إنّ) ، فإذا دخلت اللام على (إن) اجتمع حرفا توكيد وهما جميعا يكونان للتوكيد ، وجواب اليمين ، فأخروا اللام وهم ينوون تقديمها على (إن) وحقها أن تدخل على الاسم إذا صار بينه وبين (إن) فاصل ، كقولك إن في الدار لزيدا ، فإذا لصق الاسم بأنّ أدخلوها على الخبر ، ولا رتبة لشيء سوى الاسم والخبر ؛ لأن ما سواهما لغو لا يعتد به ؛ فلذلك لم يجز إنّ زيدا فيها لقائما ، ولو جاز هذا لجاز إن زيدا ضارب لعمرا. ولو جاز دخول اللام متأخرة عن رتبتها على غير الترتيب الذي ذكرناه لجاز زيد فيها لقائما في لام الابتداء ؛ لأنّا نقول : لزيد فيها قائما في لام الابتداء. ولفيها زيد قائما.

وكان أبو العباس محمد بن يزيد لا يرى أن يعيد اللام مرتين ؛ لأنهما لام واحدة ، ولا يجيز : إن زيدا لفي الدار قائم ، ولا يكرر اللام إذا كان المعنى واحدا. وأجاز أبو إسحاق الزجاج : إن زيدا لفي الدار لقائم ، واحتج بقوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ)(٢) قال : وهو عندي بمنزلة مررت بالقوم كلهم أجمعين ، وليس في الآية حجة لأبي إسحاق ؛ لأن اللام في لمّا لام (إن) واللام في ليوفينهم لام يمين ، وليست اللام في

__________________

(١) ديوانه ٧٨ ، الإنصاف ٤٠٤ ، ابن يعيش ٨ / ٦٥.

(٢) سورة هود ، الآية : ١١١.

٤٦٥

ليوفينهم لام (إن) وإنما هي بمنزلة يمين مستأنفة. وقول أبي العباس في هذا أقوى.

وروى الخليل أن ناسا يقولون إن بك زيد مأخوذ على حذف الهاء من أنه بك زيد مأخوذ ، وشبهه بما يجوز في الشعر ؛ نحو قوله وهو ابن صريم اليشكري :

ويوما توافينا بوجه مقسم

كأن ظبية تعطوا إلى وارق السلم (١)

أي كأنها ظبية. وقال الآخر :

ووجه مشرق النحر

كأن ثدياه حقان (٢)

لأنه لا يحسن هاهنا إلا الإضمار. وزعم الخليل أن هذا يشبه قول من قال وهو الفرزدق :

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي

ولكن زنجيّ عظيم المشافر (٣)

والنصب أكثر في كلام العرب ، كأنه قال ولكن زنجيّا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي.

قال أبو سعيد : من نصب حذف الخبر ، وهو لا يعرف قرابتي ، فإنما صار النصب أكثر وأولى ؛ لأن إظهار ما هو الأصل المبني أولى إذا فهم المحذوف ، ومن رفع حذف الاسم ويكون تقديره : ولكنك زنجي ، وجاز الوجهان كما يجوز في باب الابتداء حذف الاسم مرّة وحذف الخبر مرّة ، وقد مضى نحوه ومثله ب الحذف قوله :

فلو كنت ضفاطا ولكن طالبا

أناخ قليلا فوق ظهر سبيل (٤)

أي ولكن طالبا منيخا أنا ، فالنصب أجود ؛ لأنه لو أراد إضمارا لخفف ، ولجعل المضمر مبتدأ ؛ كقولك : ما أنت صالحا ولكن طالح ، ورفعه على قوله : ولكن زنجي ، والضفاط الذي يحمل طعامه إلى مكان فيبيعه ، وقال الراجز :

يا أيها المجحدل الضفاط

كيف تراهن بذي أراط (٥)

__________________

(١) البيت في الكتاب ١ / ٢٨١ ، ابن يعيش ٨ / ٨٣ ، المغني للبغدادي ١٥٨ ، الدرر ١ / ١٢١.

(٢) الكتاب ١ / ٢٨١ ، ابن يعيش ٨ / ٨٢.

(٣) في ديوانه ٤٨١ ، الكتاب ١ / ٢٨٢ ، ابن يعيش ٨ / ٨٢.

(٤) البيت في الكتاب ١ / ٢٨٢ ، اللسان (ضفط). ونسبه ابن السيرافي إلى الأخضر بن هبيرة الضبي ٢ / ١٦.

(٥) لم يستدل له على قائل ، وورد الشطر الثاني في اللسان (أرط).

٤٦٦

والمجحدل الذي يكري إبله ، والمجحدل الذي قد ملأ قربته أيضا ، ويقال للذي يبل الجلد إذا كان يابسا قد ضفّطه يضفّطه ضفاطة.

وأخبرنا أبو بكر بن دريد (١) أن الضفاطة لعاب الدف. قال : وأما قول الأعشى :

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (٢)

فإن هذا على إضمار الهاء ، لم يحذفوا لأن يكون الحذف يدخله في حروف الابتداء بمنزلة إن ولكنّ ، ولكنهم حذفوا كما حذفوا الإضمار ، وجعلوا الحذف علما لحذف الإضمار في (إنّ) كما فعلوا ذلك في (كأنّ).

قال أبو سعيد : (أنّ) المفتوحة المشددة إذا خففت ووليها ما يقوم بنفسه من مبتدإ وخبر وفعل وفاعل ، أو نحو ذلك ، فإنّ اسمها محذوف ، وجعلوا الحذف علما لحذف الإضمار في (إن) كما فعلوا ذلك في (كأنّ) وليست بمنزلة (إن) المكسورة و (لكن) المشددة ؛ لأن (إن) المكسورة و (لكنّ) يدخلان على المبتدإ فينصبانه ، ولا يغيران معنى المبتدإ ، فإذا خفضت أو أبطل عملها صار الاسم بعدهما مرفوعا بالابتداء ولا يحتاج فيهما إلى تقدير اسم لهما محذوف ؛ كقول الله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣) وقوله عزوجل : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ)(٤) كأنه قال : وكل جميع لدينا محضرون ، والله يشهد بما أنزل إليك ، وليست أنّ المفتوحة كذلك ؛ لأنها في صلة شيء قبلها ، ولا يبتدأ بها ، وليس الاسم بعدها في موضع مبتدإ ، فتسقط هي في التقدير. ألا ترى أن قوله عزوجل : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى)(٥) لو أسقطت (أنّ) لم يصلح : علم سيكون منكم مرضى. وكذلك قوله :

 ... قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل

__________________

(١) أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي ، اكتسبت مدرسة البصرة شهرتها منه ، توفي بها عام ٣٢١ ه‍ ، الجمهرة ٣ / ٣٠.

(٢) رواية البيت في ديوانه : أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل.

والبيت في ابن يعيش ٨ / ٧٤ ، والكتاب ١ / ٢٨٢ ، والدرر ١ / ١١٩.

(٣) سورة يس ، الآية : ٣٢.

(٤) سورة النساء ، الآية : ١٦٦.

(٥) سورة المزمل ، الآية ٢٠.

٤٦٧

لو أسقطت (أن) لم يرفع كل من يحفى وينتعل ، وكأن كذلك لما تضمنته من معنى التشبيه ، والكاف داخلة على (أن) وليس كذلك (إن) المكسورة ؛ ولكن لأنهما لا يقع عليهما شيء قبلهما ، وقال : وأما ليتما زيد منطلق ، فإن الإلغاء فيه حسن ، وقد كان رؤبة بن العجاج ينشد هذا البيت رفعا ، وهو قول النابغة الذبياني :

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا ونصفه فقد (١)

فرفعه على وجهين : على أن يكون بمنزلة قول من قال : ما بعوضة أو يكون بمنزلة قولك : إنما زيد منطلق.

قال أبو سعيد : أحد وجهي الرفع أن تجعل (ما) بمنزلة (الذي) كأنه قال فيا ليت الذي هو هذا الحمام لنا ، وكذلك مثلا الذي هو بعوضة ، والوجه الآخر أن تجعل (ما) كافة للعامل مثل : إنما زيد منطلق ، وليست باسم ، و (لعلّما) بمنزلة (كأنما). وقال ابن كراع العكليّ :

تحلل وعالج ذات نفسك وانظرن

أبا جعل لعلّما أنت حالم (٢)

وجعل (ما) كافة يغير معناها ؛ لأنك إذا قلت إنما زيد البزاز تقلل أمره وكأنك تسلبه ما يدعى له غير البز ، وليس الأمر في سائر الحروف كذلك ، ولم تعمل (إنما) فيما بعدها ؛ لأن ما أبطلت عملها ، ونظيرها من الفعل أرى إذا جعلت لغوا في المواضع التي يلغى فيها أظن وأحسب ونحوهما ونطير (إنما) في إبطال عمل (إن) قول المرار الفقعسي :

أعلاقة أمّ الوليد بعد ما

أفنان رأسك كالثغام المخلس (٣)

فأبطلت ما إضافة (بعد) إلى (أفنان) فصار بعد ما بمنزلة حيث وإذ ، فهما ظرفان تفسرهما الجمل بعدهما ، واعلم أنّ (إنّ) إذا خففت كان لها مذهبان ؛ أحدهما : أن يبطل عملها ويليها الاسم والفعل جميعا وتلزمهما اللام فرقا بين إن إذا كانت للجحد بمعنى ما وبين (إن) إذا كانت للإيجاب والتحقيق ، وذلك قولك في الإيجاب : إن زيد لذاهب وإن عمرو لخير منك ، ومثله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(٤) إنما هي لعليها و (وَإِنْ كُلٌ

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ٨ / ٥٨ ، الكتاب ، ١ / ٢٨٢.

(٢) البيت في الكتاب ١ / ٢٨٣ ، وابن يعيش ٨ / ٥٨.

(٣) البيت في الكتاب ١ / ٢٨٣ ، المقتضب ٢ / ٥٤ ، وشواهد المغني ٢٤٦ ، تاج العروس (فنن).

(٤) سورة الطارق ، الآية : ٤.

٤٦٨

لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(١) إنما هي لجميع ، وما لغو في الآيتين. وقال في دخولها على الفعل : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(٢) و (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ)(٣) والمذهب الآخر في (إنّ) إذا خففت أن لا يبطل عملها وتكون بمنزلة فعل سقط بعض حروفه وبقي عمله ، كقولك : لم يك زيد منطلقا ، ولم أنل زيدا ، ومثله قراءة أهل المدينة (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود : ١١] كما قالوا : كأن ثدييه حقان.

قال : وحدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول إن عمرا لمنطلق ، وإذا عملت لم يلزمها دخول اللام ؛ لأنها كالمشددة وزال اللبس بينها وبين (إن) التي بمعنى (ما) ولم يلها الفعل ، ويجوز أن تقول إن زيدا منطلق وإن كلا قائم ، والأكثر في المخففة أن يبطل عملها ؛ لأنها كانت تعمل بلفظها ، وفتح آخرها ، وقد بطل اللفظ الذي كانت تعمل به ، والفعل يعمل بمعناه وإن نقص لفظه ، وقد جاء التخفيف والإعمال في المفتوحة وأنشدوا :

فلو أنك في يوم الرخاء سألتني

فراقك لم أنجل وأنت صديق (٤)

وليس هذا بالجيد ولا بالكثير كالمكسورة.

هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة

لإضمارك ما يكون مستقرا لها ، وموضعها لو أظهرته وليس هذا المضمر بنفس المظهر ، وذلك إنّ مالا وإنّ ولدا وإنّ عددا ؛ أي أن لهم مالا ، فالذي أضمرت لهم. ويقول الرجل للرجل هل لكم أحد؟ إن الناس عليكم ، فيقول : إن زيدا وإنّ عمرا أي إن لنا.

وقال الأعشى :

أن محلا وإن مرتحلا

وإن في السفر إذ مضى مهلا (٥)

قال أبو سعيد : ويروى إنّ للسفر ما مضى ، ومعناه إن لنا محلا يعني في الدنيا إذا

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٣٢.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ١٠٢.

(٣) سورة الشعراء ، الآية : ١٨٦.

(٤) البيت في ابن يعيش بلا نسبة ٨ / ٧٣ ، والهمع ١ / ١٤٣ ، شرح شواهد المغني للسيوطي ٣٩.

(٥) البيت في ابن يعيش ١ / ١٠٤ ، والكتاب ١ / ٢٨٣ ، والمقتضب ٤ / ١٣٠.

٤٦٩

عشنا وإنّ لنا مرتحلا إلى الآخرة إذا فنينا. ويقال إنّ في الدنيا محلا ومرتحلا إلى الآخرة إذا فنينا ، والسفر : المسافرون يعني به من مات.

وقال أبو عمرو مهلا مهلة لمن بقي بعدهم ؛ أي يستعد ويصلح من شأنه. وقال أبو عبيدة : إنّ مقيما وإنّ مسافرا ، وإن في السفر إذ مضى مهلا. قال ذهابا لا يرجعون ، وقيل إن للسفر : يريد من قدم لآخرته فاز وظفر ، والمهل : السبق. والذي عند سيبويه أنّ الخبر محذوف ، وهو مستقر كنحو ما قدرناه وذكرناه.

وقال الفراء : إنما تحذف مثل هذا إذا كررت (إن) لتعرف أن أحدهما مخالف للآخر عند من يظنه غير مخالف. ويحكى أنّ أعرابيّا قيل له الذبابة الفارة ، فقال : إن الذبابة وإنّ الفارة. قال : وتقديره إن الذبابة ذبابة وإن الفارة فارة ، ومعناها إنّ هذه مخالفة لهذه. والخلاف الذي بين الاسمين يدل على الخبر. قال والفائدة أن المحل خلاف المرتحل ، وأنشد أصحابنا في الواحد الذي لا مخالف معه قول الأخطل :

خلا إنّ حيّا من قريش تفضلوا

على الناس أو أنّ الأكارم نهشلا (١)

وقد اطرد الحذف في (لا) كقولنا لا حول ولا قوة إلّا بالله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. والتقدير : لا حول لنا ولا قوة. والفراء قائل بهذا الحرف. فهذا شاهد لذلك.

وذكر سيبويه من المحذوف : إن غيرها إبلا وشاة ، اسم إنّ (غيرها) والخبر (لنا) وهو محذوف. وإبلا وشاة منصوب على التمييز أو الحال ؛ كقوله : ما في الناس مثله فارسا. ومثل ذلك قول الشاعر :

يا ليت أيام الصبى رواجعا (٢)

تقديره : يا ليت لنا أيام الصبى ، أو يا ليت أيام الصبى أقبلت رواجعا ، ورواجعا منصوب على الحال ، وهو كقوله : ألا ماء باردا ، ومعناه ألا ماء لنا باردا. وتقول إن قريبا منك زيدا إذا جعلت قريبا منك موضعا ، أي أن في مكان قريب منك زيدا ، وإذا جعلت الأول هو الآخر قلت إن قريبا منك زيدا. أردت من القرابة أو القرب كأنك قلت : إن رجلا قريبا منك زيد ، وهو مستعمل ؛ لأنه قد قربته من المعرفة بدخول منك ، ومثله : إنّ بعيدا منك زيد ، يريد أن رجلا بعيدا منك زيد. إما في بعد النسب أو بعد المذهب

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ١ / ١٠٤ ، والخصائص ٢ / ٣٧٤ ، المقتضب ٤ / ١٣١ ، وتاج العروس (نهشل).

(٢) الرجز لرؤبة في ابن يعيش ١ / ١٠٤ ، والكتاب ١ / ٢٨٤.

٤٧٠

والأخلاق أو بعد المكان. والوجه إذا أردت هذا أن تقول إنّ زيدا قريب منك أو بعيد ؛ لأنه اجتمع معرفة ونكرة ، فالأولى أن يكون الاسم هو المعرفة. وقال امرؤ القيس :

وإنّ شفاء عبرة مهراقة

فهل عند رسم دارس من معول (١)

فهذا أحسن لأنهما نكرة.

قال : " وإن شئت قلت إنّ بعيدا منك زيدا ، وقلما يكون بعيدا منك ظرفا ، وإنما قلت لأنك لا تقول إنّ بعدك زيدا ، وتقول إن قربك زيدا ، فالدنو أشد تمكنا في الظروف من البعد".

قال أبو سعيد : إنما صار الدنو أشد تمكنا ؛ لأن الظروف موضوعة على القرب أو على أن تكون ابتداؤها من قرب ، فأما الموضوع على القرب ف (عند) و (لدن) وما كان في معناهما كقولك زيد عندك. وأما ما لا يكون ابتداءه من قرب فالجهات المحيطة بالأشياء كخلف وقدام ويمنة ويسرة وفوق وتحت ؛ لأنّا إذا قلنا زيد خلف عمرو فهو مطلوب خلفه من أقرب ما يليه إلى ما لا نهاية له ، والبعد لا نهاية له ، ولا حدّ لأوله معلوم ؛ كعلم حدود الجهات الست ، ويقوى ويكشفه أنّا إذا قلنا قربك زيد طلبه المخاطب فيما قرب منه ، وذلك ممكن مفهوم ، كما تقول عندك زيد ، وإذا قلنا خلفك زيد ابتداء بما يليه من خلفه واستقراه طلبا له. وإذا قلنا بعدك زيد لم يكن ذاك فيه.

قال : " وزعم يونس أن العرب تقول إنّ بدلك زيدا أي أنّ مكانك زيدا ، والدليل على هذا قول العرب هذا لك بدل هذا ؛ أي هذا لك مكان هذا ، وإن جعلت البدل بمنزلة البديل قلت إنّ بدلك زيد أي إنّ بديلك زيد".

لأنّ البدل يستعمل في موضع مكان والبديل هو الإنسان.

قال : " وتقول إنّ ألفا في دراهمك بيض ، وإن في دراهمك ألفا بيض ، فهذا يجري مجرى النكرة في (كان) و (ليس) ؛ لأن المخاطب يحتاج إلى أن تعلمه هذا ، كما يحتاج إلى أن تعلمه في قولك : ما كان أحد فيها خيرا منك ، وإن شئت جعلت فيها مستقرا وجعلت البيض صفة".

يعني أن النكرة قد تكون اسم إن إذا كانت فيها فائدة ، كما كانت اسم (كان) و (ليس) ويجوز : أن في دراهمك ألفا بيضا ، إذا جعلت في دراهمك هي الخبر.

__________________

(١) البيت في ديوانه ٩٠ ، والكتاب ١ / ٢٨٤.

٤٧١

قال : " واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام هاهنا مثله في باب كان ، ومثل ذلك قولك : إنّ أسدا في الطريق رابضا ، وإنّ بالطريق أسد رابض ، وإن شئت جعلت بالطريق مستقرا ثم وصفته بالرابض ، فهذا يجري هاهنا مجرى ما ذكرت لك من النكرة في باب كان".

قال أبو سعيد وهذا كله مفهوم.

هذا باب ما يكون محمولا على إن

فيشاركه فيه الاسم الذي وليها ، ويكون محمولا على الابتداء ، فأما ما حمل على الابتداء فقولك : إن زيدا ظريف وعمرو ، وإن زيدا منطلق وسعيد ، فعمرو وسعيد يرتفعان على وجهين ؛ فأحد الوجهين حسن والآخر ضعيف ، فأما الوجه الحسن فأن يكون محمولا على الابتداء ؛ لأن معنى إن زيدا منطلق معنى زيد منطلق ، وإن دخلت توكيدا ، كأنه قال زيد منطلق وعمرو في الدار. وفي القرآن مثله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)(١) وأما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولا على الاسم المضمر في المنطلق والظريف ، فإن أردت ذلك فأحسنه أن تقول : منطلق هو وعمرو ، وإن زيدا ظريف هو وعمرو ، وإن شئت جعلت الكلام على الأول ، فقلت إن زيدا منطلق ، وعمرا ظريف ، فجعلته على قوله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ)(٢) وقد رفعه قوم على قولك لو ضربت عبد الله وزيد قائم ؛ أي لو ضربت عبد الله وزيد في هذه الحال كأنه قال عزوجل : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر بعد أمده ما نفدت كلمات الله.

وإنما أحوج سيبويه إلى أن يفسر رفع البحر بالحال ؛ لأن حمل رفع البحر على موضع (أنّ) لا يحسن ؛ لأنّ (لو) لا يليها الابتداء ، وقال رؤبة :

إنّ الربيع الجود والخريفا

يدا أبي العباس والصيوفا (٣)

قال أبو سعيد : فأما حمل المعطوف على الابتداء فهو كلام جيد قويّ ، وذلك أنّا لو

__________________

(١) سورة التوبة ، من الآية : ٣.

(٢) سورة لقمان ، من الآية : ٢٧.

(٣) ديوانه ١٧٩ ، والمقتضب ٤ / ١١١ ، والتصريح ١ / ٢٢٦.

٤٧٢

جئنا بمبتدإ وخبر بعد اسم إنّ وخبره وجعلنا جملة معطوفة على جملة لكان كلاما جيدا.

لا ضعف فيه كقولنا : إن زيدا مقيم ، وعمرو خارج ، كأننا قلنا زيد خارج وعمرو مقيم ، فإذا كان خبر أحدهما مثل خبر الآخر اكتفي بأحد الخبرين ، كقولنا زيد مقيم وعمرو ، وإن زيدا مقيم وعمرو ، فيعلم أن خبر الثاني مثل خبر الأول ويطرح اكتفاء بالأول ، وأما استشهاده بالقرآن : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) فهو في الظاهر وهم منه ومن كل من استشهد به من النحويين ؛ لأنهم يردون الاسم على موضع (إنّ) على أنها مكسورة ، والذي في القرآن (أن) مفتوحة لأنه قال تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)(١) ورفع رسوله على وجهين جيدين ؛ أحدهما : أنّ أذان إعلام. يقول : ولو قيل وأذان من الله ورسوله إلى الناس : الله بريء من المشركين ورسوله ، أو إن الله بريء من المشركين ورسوله لكان جيدا ؛ لأن معناه : وقول من الله ورسوله : الله بريء أو إن الله بريء من المشركين ، والوجه الآخر أن تعطف ورسوله على الضمير الذي في بريء ، ويكون ذلك حسنا لفصل (من المشركين) بينهما ، كما حسن العطف في قوله : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا)(٢) للفصل ب (لا) وقد ذكر هذا في غير هذا الموضع.

قال : " و (لكنّ) المثقلة في جميع الكلام بمنزلة (إنّ) وإذا قلت إن فيها زيدا وعمرو ، جرى عمرو بعد (فيها) مجراه بعد الظرف ؛ لأن (فيها) في موضع الظرف ، وفيها إضمار ، ألا ترى أنك تقول إن قومك أجمعون وإن قومك فيها كلهم ، كما تقول إن قومك عرب أجمعون ، وفيها اسم مضمر مرفوع كالذي يكون في الفعل إذا قلت : إن قومك ينطلقون أجمعون. قال جرير :

إنّ الخلافة والنبوة فيهم

والمكرمات وسادة أطهار (٣)

فإذا قلت إنّ زيدا فيها وإن زيدا يقول ذاك ، ثم قلت نفسه فالنصب أحسن ، وإن أردت حمله على المضمر فعلى هو نفسه ، وإذا قلت إنّ زيدا منطلق لا عمرو فتفسيره كتفسيره مع الواو ، وإذا نصبت فتفسيره كتفسيره مع الواو ؛ وذلك قولك : إنّ زيدا منطلق لا عمرا".

__________________

(١) سورة التوبة ، من الآية : ٣.

(٢) سورة الأنعام ، من الآية ١٤٨.

(٣) البيت غير موجود في ديوان جرير ، وهو من شواهد العيني ٢ / ٢٦٣ ، وابن يعيش ٨ / ٦٦.

٤٧٣

قال أبو سعيد : اعترض أبو العباس على سيبويه في قوله ، و (لكنّ) المثقلة في جميع الكلام بمنزلة (إنّ) فقال نحن ندخل اللام في خبر (إنّ) ولا ندخلها في خبر (لكن) لا تقول لكن زيدا لقائم ، كما تقول إنّ زيدا لقائم ، والذي أراده سيبويه أن (لكن) بمنزلة (إن) في العطف الذي ساق الكلام عليه. وسياقه للكلام يدل على إرادته ، وإنما لم تدخل اللام على (لكن) ؛ لأنها لاستدراك شيء مما قبلها ، ولا تقع في أول الكلام و (إنّ) تدخل في أول الكلام ، واللام تقدر قبلها ، فخالفت (لكنّ) (إنّ) في دخول اللام لهذا المعنى ، ومما يتضمنه الظرف من الضمير الذي يؤكد ب (كلهم) و (أجمعين) شيء مفهوم وقد ذكرناه في مواضع ؛ لأن في الظرف معنى استقر الذي هو فعله ونفسه ، إذا كان توكيدا للاسم الظاهر المنصوب فهو جيد لا يحتاج إلى غيرها ، وإذا كان توكيدا للضمير المرفوع فهو يحتاج إلى تقدمة ضمير قبل النفس ، كقولك إنّ زيدا فيها نفسه ، وأما بيت جرير فالشاهد فيه رفع المكرمات وسادة أطهار ، على أن زيدا فيها وعمرو.

قال : " واعلم أنّ لعل وكأن وليت كلهن يجوز فيهن جميع ما جاء في (إنّ) إلا أنه لا يرفع بعدهن شيء على الابتداء ، ومن ثم اختار للناس : ليت زيدا منطلق وعمرا ، وضعف عندهم أن يحملوا عمرا على المضمر حتى يقولوا هو ، ولم تكن (ليت) واجبة ولا (لعل) ولا (كأن) فقبح عندهم أن يدخلوا الكلام الواجب في موضع التمني ، فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس على معناه و (لكنّ) بمنزلة (إنّ) وتقول إنّ زيدا فيها لا بل عمرو ، وإن شئت نصبت. و (لا بل) تجري مجرى (الواو) و (لا) ".

قال أبو سعيد : حمل المعطوف على هذه الحروف على الابتداء يغير المعنى الذي أحدثته هذه الحروف من التمني والتشبيه والترجي ؛ فلذلك لم يحملوه على الابتداء ، ألا ترى أنّا لو قلنا ليت زيدا منطلق وعمرو مقيم على عطف جملة على جملة كان عمرو مقيم خارجا عن التمني ، ولك أن تعطف الاسم على الضمير الذي في الخبر إذا أكّدته إذ كان ما بعده عوضا من التأكيد ، ولا نخرج عن معنى الأول ؛ كقولك ليت زيدا خارج هو وعمرو.

هذا باب تستوي فيه هذه الحروف الخمسة

وذلك قولك إنّ زيدا منطلق العاقل اللبيب ، فالعاقل اللبيب يرتفع على وجهين ؛ على الاسم المضمر في منطلق ، كأنه بدل منه ، فيصير كقولك مررت به زيد ، إذا أردت جواب بمن مررت ، فكأنه قيل له من ينطلق فقال زيد ، وإن شاء رفعه على

٤٧٤

مررت به وزيد إذا كان جواب من هو؟ فقال : العاقل اللبيب ، وإن شاء نصبه على الاسم الأول المنصوب. وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(١) (علام الغيوب) ".

قال أبو سعيد : رفع العاقل اللبيب على البدل من الضمير في منطلق ، وعلى إضمار هو ، ويجوز ذلك في (ليت ولعل وكأن) على الوجهين ؛ كقولك : ليت زيدا منطلق العاقل اللبيب. وأما الآية فيجوز فيها الرفع من هذين الوجهين.

وقال بعض النحويين يجوز الرفع فيها بالنعت ل (ربي) على موضع (إنّ) من الابتداء ، كأنه قال : ربي علام الغيوب يقذف بالحق. والنصب على وجهين ؛ على النعت ل (ربي) وعلى المدح بإضمار اذكر ونحوه.

هذا باب ينتصب فيه الخبر بعد الحروف الخمسة

انتصابه إذا كان ما قبله مبنيّا على الابتداء ؛ لأن المعنى واحد في أنه حال وأن ما قبله قد عمل فيه ومنعه الاسم الذي قبله أن يكون محمولا على (إنّ) وذلك قولك إن هذا عبد الله منطلقا. وقال تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً)(٢) وقد قرأها بعض الناس : (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) حمل أمتكم على هذه ؛ كأنه قال إن هذه كلها أمة واحدة ، وتقول إنّ هذا الرجل منطلق ، ويجوز في المنطلق ما جاز فيه حين قلت هذا الرجل منطلق ، إلا أن الرجل هنا يكون خبرا للمنصوب وصفة له ، وهو في تلك الحال يكون صفة لمبتدإ وخبرا له ، وكذلك إذا قلت ليت هذا زيد خارجا ، ولعل هذا زيد ذاهبا ، وكأن هذا بشر منطلقا ، إلّا أنّ معنى (إنّ ولكن) واجبتان كمعنى هذا عبد الله منطلقا ، وأنت في (ليت) تتمناه في الحال ، وفي (كأن) تشبهه إنسانا في حال ذهابه ، كما تمنيته إنسانا في حال قيامه ، فإذا قلت لعل فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهاب ، فلعل وأخواتها قد عملن فيما بعدهن عملين : الرفع والنصب ، كما أنك حين قلت ليس هذا عمرا وكان هذا بشرا ، عملتا عملين ؛ رفعتا ونصبتا ، كما قلت ضرب هذا زيدا ، فزيد انتصب بضرب ، وهذا ارتفع بضرب ، ثم قلت : أليس هذا زيدا منطلقا فانتصب المنطلق ؛ لأنه حال وقع فيه الأمر فانتصب كما انتصب في (إنّ) وصار بمنزلة

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية ٤٨.

(٢) سورة الأنبياء ، من الآية ٩٢.

٤٧٥

المفعول الذي تعدى إليه فعل الفاعل بعد ما تعدى إلى مفعول قبله ، وصار كقولك : ضرب عبد الله زيدا قائما في التقدير ، وليس مثله في المعنى".

قال أبو سعيد : دخول (إنّ ولكنّ) على هذا عبد الله منطلقا لم يغير النصب الذي تعمله هذا في (منطلقا) ؛ لأنهما ينصبان الاسم ويرفعان الخبر ، كما كان الابتداء يرفعهما ، وعمل هذا بتأويل الإشارة وللتنبيه غير مختلف.

وأما (ليت ولعل وكأن) فإنهن يجرين مجرى (إنّ ولكنّ) في نصب (منطلقا) على ما كان في الابتداء قبل دخولهن ، ويجوز أن يعملن النصب في (منطلقا ـ قائما) بما فيهن من معاني الأفعال ، فإذا قلت ليت هذا زيد قائما جاز أن يكون قائما منتصبا بهذا ، وجاز أن يكون منتصبا ب (ليت) كأنك قلت أتمناه في هذه الحال ، وإذا قلت لعل هذا زيد منطلقا ، كأنك قلت أترجاه منطلقا ، وإذا قلت كأن هذا زيد منطلقا ، كأنك شبهته في هذه الحال ، وقد جعلهن سيبويه يعملن بعملين : نصب الاسم ورفع الخبر ك (ليس وكان) في رفع الاسم ونصب الخبر ، فإذا نصبت (ليت ولعل وكأن) الحال بعد عملهن في الاسم كان بمنزلة ما يرفع الفاعل وينصب المفعول من الأفعال ، ثم تنصب الحال.

ولو قلت إنّ زيدا أخوك قائما في البيت ، أو أتى زيد قائما لم يجز ؛ وكذلك (لكنّ) كما لم يجز ذلك في الابتداء ، ولو قلت ليت زيدا أخوك قائما ، أو ليتني زيد قائما ، أو كأني زيد قائما ، أو لعلّي زيد قائما جاز لما فيهن من معنى الفعل.

قال : " وتقول إنّ الذي في الدار أخوك قائما ، كأنه قال من الذي في الدار فقال إنّ الذي في الدار أخوك قائما ، فهو يجري في (إن ولكن) في الحسن والقبح مجراه في الابتداء ، وإن قبح في الابتداء أن يذكر المنطلق قبح هاهنا ، وإن حسن أن يذكر المنطلق حسن هاهنا ، وإن قبح أن يذكر الأخ في الابتداء قبح هاهنا ؛ لأن المعنى واحد ، وهو من كلام واجب ، وأما في (ليت وكأن ولعل) فتجري مجرى الأول ، ومن قال إن هذا أخاك منطلق قال إنّ الذي رأيت أخاك ذاهب ، ولا يكون الأخ صفة للذي ؛ لأن أخاك أخص من الذي ، ولا يكون له صفة ، من قبل أن زيدا لا يكون صفة لشيء".

قال أبو سعيد : أما قوله إنّ الذي في الدار أخوك قائما ، فعلى هذا الظاهر لا يجوز إذا أردت به أخوة النسب ؛ لأنك إذا نصبت قائما ب (أخوك) لم يجز كما لا يجوز زيد أخوك قائما في النسب ، وإن نصبت قائما بالظرف على تقدير إن الذي في الدار قائما

٤٧٦

أخوك صار قائما في صلة الذي ولم يجز أن تفصل بين الصلة والموصول ب (أخوك) وهو خبر ، وإن جعلت أخوك في معنى المؤاخاة والمصادقة وجعلته هو العامل في قائما جاز ، وإن حملته على مثل قولك أنا زيد منطلقا في حاجتك ، إذا كان قد عهده قائما قبل هذه الحال جاز كما يجوز مثله في الابتداء ، وربما جاء في الشعر بما يظهر في لفظه الفصل بين الصلة فيحمله النحويون على غير الفصل ، وقد يتخرج على غير الذي قالوه ، فمن ذلك قول الأخطل :

إنّ العرارة والنبوح لدارم

والمستخفّ أخوهم الأثقالا (١)

على نصب المستخف باسم إنّ وعلى رفعه بالابتداء والاستئناف ، فأسهل وجوهه في المعنى أن يكون المستخفّ بمعنى الذي استخف ، والأثقال مفعول المستخف ، وأخوهم خبره ، وفي المستخف ضمير فاعل يعود إلى الألف واللام فيه ، وهم في (أخوهم) تعود إلى دارم ؛ لأنهم قبيلة ، فجعلوا الأثقال خارجا عن الصلة ومنصوبا بفعل مضمر بعد (أخوهم) ، كأنه قال : والمستخف أخوهم ، ثم أضمر يستخف ، وقال بعض النحويين في المستخف ضمير يجعل أخوهم بدلا منه ، وكلّ قدر الألف واللام بتقدير الذي ، وأخوهم واحد ، وأسهل من ذلك عندي أن نجعل الألف واللام في المستخف بتقدير الذين ، وهم في أخوهم تعود إلى الألف واللّام ، وأخوهم فاعل المستخف والأثقال مفعول به ، والمعنى : وإنّ لدارم القوم الذين يستخف بعضهم الأثقال ؛ أي فيهم قبيلة بعضها الأثقال ، ومنه قول الكميت :

كذلك تلك وكالناظرات

صواحبها ما يرى المسحل (٢)

شبه ناقته بعير آتن ، وشبه صواحب ناقته من الإبل بآتن العير ، وتقديره كذلك العير ناقته ، وهي المشار إليها بتلك ، وصواحبها كالناظرات ما يرى المسحل ، وما يرى المسحل مفعول الناظرات ، وصواحبها مبتدأ ، وفصل بين الناظرات وما عملت فيه بصواحبها ، ومعنى الناظرات المنتظرات ما يعمل المسحل وهو العير ، فيعملن مثله بجعل الموصول قد تم بالناظرات وبجعل ما يرى المسحل خارجا من الصلة ، محمولا على فعل دل عليه ما تقدم ، و (ما يرى) ليس بمنصوب بالناظرات ، ولكنه كأنه قال : وصواحبها كالناظرات ، ثم أضمر ينظرن لدلالة الناظرات عليه.

__________________

(١) ديوانه ٥١ ، واللسان (عرر) ، وتاج العروس (نبح).

(٢) البيت في ديوانه ٢ / ٣٥ ، والخصائص ٢ / ٤٠٤.

٤٧٧

قال : " وسألت الخليل عن قول الأسدي :

إنّ بها أكتل أو رزاما

خويربين ينقفان الهاما

فزعم أن خويربين نصب على الشتم كما انتصب (حمالة الحطب) على الشتم و (النازلين بكل معترك) على التعظيم".

قال أبو سعيد : وقد مضى الكلام في نصب الشتم والتعظيم في بابهما ، وقد أنشد سيبويه في هذا الموضع أبياتا فيها ما ينتصب على الشتم ، وفيها ما ينتصب على الشتم والتعظيم من النكرات ، وأنا أذكر الأبيات وتفسيرها قد انطوى فيما ذكرته في باب الشتم والتعظيم وقبل هذين البيتين :

ائت الطريق واجتنب أرماما

إن بها أكتل أو رزاما

خويربين ينقفان الهاما

لم يدعا لسارح مقاما (١)

أكتل ورزاما لصان كانا يقطعان الطريق ينقفان هام من يمر بهما. وقال الشاعر :

أمن عمل الجراف أمس وظلمه

وعدوانه أعتبتمونا براسم

أميري عداء إن حبسنا عليهما

بهائم مال أوديا بالبهائم (٢)

أميري عداء لا يصلح بدلهما من الجراف وراسم ، وهما الأميران الظالمان العاديان ؛ لأن الجراف مجرور بإضافة عمل إليه ، وراسم مجرور بالباء ، وهي في صلة أعتبتمونا ولا تعلق للجراف به ، فدعت الضرورة إلى نصب أميري عداء على الشتم ، ومما ينتصب على المدح والتعظيم قول الفرزدق :

ولكنني استبقيت أعراض مازن

وأيامها من مستنير ومظلم

أناسا بثغر لا تزال رماحهم

شوارع من غير العشيرة في الدم (٣)

ومما ينتصب لأنه عظيم الأمر قول عمرو بن شأس الأسدي :

__________________

(١) الرجز لرجل من بني أسد في الأشموني ٣ / ١٠٧ ، والمخصص ١٢ / ٢٩٤ ، والمقتضب ٤ / ٣١٥ ، واللسان (كتل). وأرمام : جبل في ديار باهلة. وخويربين تثنية خويرب تصغير خارب وهو اللص ، والنقف : كسر الهامة حتى تخرج دماغه.

(٢) البيتان في اللسان وتاج العروس (جرف) منسوبان لعبد الرحمن بن جهيم من بني أسد ، الكتاب ١ / ٢٣٨.

(٣) في ديوانه ص ٨٢١ ، والرواية فيه :

لأيامها ...

أناس بثغر ما تزال ...

٤٧٨

ولم أر ليلى بعد يوم تعرضت

لنا بين أثواب الطراف من الأدم

كلابية وبرية حبترية

نأتك وخانت بالمواعيد والذمم

أناسا عدى علقت فيهم وليتني

طلبت الهوى في رأس ذي زلق أشم (١)

وقول الآخر :

ضننت بنفسي حقبة ثم أصبحت

لبنت عطاء بينها وجميعها

ضبابية مرية حابسية

منيخا بنعت الصيدلين وضيعها (٢)

قال : " وكل هذا سمعناه ممن يرويه من العرب نصبا ، ومما يدلك على أن هذا ينتصب على التعظيم والمدح أنك لو حملت الكلام على أن تجعله حالا لما بنيته على الاسم الأول كان ضعيفا ، وليس هاهنا تعريف ولا تنبيه ، ولا أراد أن يوقع شيئا في حال لقبحه ولضعف المعنى".

لأنه لم يرد أن ليلي في حال ما هي كلابية وبرية حبترية ؛ لأنها أنساب لا تتغير ، وكذلك قوله ضبابية مرية حابسية ، فيحمل ذلك على تعظيم ، شأنها بهذه الأشياء الرفيعة الشريفة عندها.

قال : " وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول :

أنا ابن سعد أكرم السعدينا (٣)

بنصبه على الفخر. قال الخليل : إنّ من أفضلهم كان زيدا على إلغاء كان"

كأنه قال : إنّ من أفضلهم زيدا كان ؛ أي كان ذلك ، وإنما قيل زائدة أنها ليس لها اسم ولا خبر في الكلام المذكور على مثل قول الشاعر :

سراة بني أبي بكر تسامي

على كان المسومة العراب (٤)

وعلى مثل ما حكي من كلام بعض العرب ولدت فاطمة بنت الحرشب الكملة من بني عبس لم يوجد كان مثلهم ، ومعناه لم يوجد مثلهم وأدخل الخليل في ذلك قول الفرزدق :

__________________

(١) البيتان في الكتاب ١ / ٢٨٨.

(٢) البيتان في الكتاب ١ / ٢٨٩ ، والبيت الثاني في اللسان (صدل). ضبابية نسبها إلى الضباب وهم حي من بني عامر ، ومرة وحابس حيان منهم.

(٣) ديوانه ٩١ ، وابن يعيش ١ / ٤٧ ، والكتاب ١ / ٢٨٩.

(٤) البيت بلا نسبة في ابن يعيش ٧ / ٩٩ ، والهمع ١ / ١٢٠ ، والدرر ١ / ٨٩.

٤٧٩

وكيف إذا رأيت ديار قوم

وجيران لنا كانوا كرام (١)

ورد بذلك أبو العباس محمد بن يزيد وزعم أن (كانوا) لها اسم وخبر واسمها الواو التي فيها وخبرها لنا التي قبلها ، كأنه قال : وجيران كانوا لنا ، والأظهر كلام الخليل ولنا من صلة جيران ، وكانوا دخولها غير مغير للكلام ، كأنه قال : وجيران لنا كرام ، وأدخل كانوا وجعل فيها ضمير الجيران ، كما يجعل في كان الموحدة ضمير ما جرى ذكره في معنى كان الأمر وخلق ، ولا تدخل شيئا من الكلام في اسم لها ولا خبر.

قال سيبويه : " إن من أفضلهم كان رجلا يقبح لأنك لو قلت : إن من خيارهم رجلا ثم سكتّ كان قبيحا حتى تعرفه بشيء أو تقول : رجلا من أمره كذا وكذا ، وقال إنّ فيها كان زيد على قولك إنه فيها كان زيد ، وإلا فإنه لا يجوز أن يحمل الكلام على إنّ".

لأنه لا بد لها من اسم ، فإذا لم يكن بعدها اسم فلا بد من إضمار الهاء ليكون اسما.

وقال : " إنّ أفضلهم كان زيد وإنّ زيدا ضربت على قوله إنه زيدا ضربت ، وأنه كان أفضلهم زيد ، وهذا قبيح وفيه ضعف وهو في الشعر جائز ، ويجوز أيضا على قوله إن زيدا ضربته وإنّ أفضلهم كأنه زيد فتنصبه على إنّ وفيه قبح ، كما كان في إنّ".

قال أبو سعيد : هذه المسائل كلها فيها حذف ما يقبح حذفه ؛ لأن قوله إن أفضلهم كان زيد ، إن نصبت أفضلهم بأن فخبر كان محذوف وتقديره إن أفضلهم كأنه زيد ، وإن نصبته بخبر كان فالهاء من إن محذوفة ، والجملة خبرها ، وتقديره أنه وهما جميعا قبيح يجوز في الشعر ، وإن زيدا ضربت ، إن نصبت زيدا بضربت فالهاء محذوفة من إن ، كأنه قال إنه زيدا ضربت ، وإن نصبت زيدا ب (إن) فالهاء محذوفة من ضربت ، كقولك زيدا ضربت في معنى ضربته ، وقد مضى الكلام في حذفها.

قال : " وسألت الخليل عن قوله تعالى : (وَيْكَأَنَّ اللهَ)(٢) فزعم أنها وي مفصولة من كأن ، والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم ، أو نبهوا فقيل لهم أما بشبه أن يكون ذا عندكم هكذا. والله أعلم. فأما المفسرون فقالوا : ألم تر أن الله. وقال زيد بن عمرو بن نفيل :

سألتاني الطلاق أن رأتاني

قل مالي قد جئتماني بنكر

__________________

(١) البيت في ديوانه ٨٣٥ ، والمقتضب ٤ / ١١٦ ، والكتاب ١ / ٢٨٩.

(٢) سورة القصص ، من الآية ٨٢.

٤٨٠