شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

ويدلك على أنه نكرة أنك تصف به النكرة ، تقول ، هذا رجل حسبك من رجل ، فهو بمنزلة : مثلك وضاربك إذا أردت النكرة ، ومما يوصف به كلّ ، قول ابن أحمر :

ولهت عليه كلّ معصفة

هو جاء ليس للبها زبر (١)

سمعناه ممن يروونه من العرب.

ومن قال : هذا أول فارس مقبلا ، من قبل أنه لا يستطيع أن يقول : هذا أوّل الفارس ، فيدخل عليه الألف واللام فصار عنده بمنزلة المعرفة ، فلا ينبغي أن يصفه بالنكرة ، وينبغي له أن يزعم أن درهما في قولك : عشرون درهما معرفة ، فليس هذا بشيء ، وإنما أرادوا من الفرسان ، فحذفوا الكلام استخفافا ، وجعلوا هذا يجزئهم من ذلك ، وقد يجوز نصبه على نصب : هذا رجل منطلقا ، وهو قول عيسى بن عمر وزعم الخليل أن هذا جائز ، ونصبه كنصبه في المعرفة ، جعله حالا ولم يجعله وصفا.

ومثل ذلك : مررت برجل قائما ، إذا جعلت المرور به في حال قيامه. وقد يجوز على هذا : فيها رجل قائما ، وهو قول الخليل.

ومثل ذلك : عليه مائة بيضا ، والرفع الوجه ، وعليه مائة عينا ، والرفع الوجه.

وزعم يونس أن ناسا من العرب يقولون : مررت قائما بماء قعدّه رجل ، والجر الوجه. وإنما كان النصب هنا بعيدا من قبل أن هذا يكون من صفة الأول ، فكرهوا أن يجعلوه حالا كما كرهوا أن يجعلوا الطويل والأخ حالا حين قالوا :

هذا زيد الطويل ، وهذا عمرو أخوك.

فألزموا صفة النكرة النكرة ، كما ألزموا صفة المعرفة المعرفة ، وأرادوا أن يجعلوا حال النكرة فيما يكون من اسمها ، معنى ما يكون صفة لها".

قال أبو سعيد :

الحال من المعرفة كالحال من النكرة فيما يوجبه العامل ، غير أن الحال من النكرة تنوب عن معناها الصفة ، والصفة مشاكلة للفظ الأول ، فيكون أولى من الحال المخالفة للفظ الأول ، وذلك قولك : جاءني رجل راكب. في حالة مجيئه ، ولست تريد بيان رجل في

__________________

(١) ديوانه ٨٧ ، واللسان (زبر) ، والزبر : الإحكام.

٤٤١

حال إخبارك ، وإذا قلت : جاءني رجل راكبا ، فذلك المعنى تريد ، فكرهوا العدول عن لفظ مشاكل للفظ الأول إلى لفظ يخالفه لغير خلاف في المعنى ، فلذلك آثروا الصفة في النكرة على الحال.

وأما المعرفة فإن فائدة الحال فيها غير فائدة الصفة ؛ لأنك إذا قلت : جاءني زيد أمس الراكب ، فالراكب صفة لزيد في حال إخبارك ؛ لأنّ زيدا معرفة تحتاج إلى أن يعرفه المخاطب في حال إخبارك ، فإذا قلت : جاءني أمس راكبا ، فالركوب في حال مجيئه لا في حال إخبارك.

وجعل سيبويه أول فارس مقبلا في باب الحال كقولك : هذا رجل منطلقا لتحقق تنكير أول فارس ؛ إذ محله في الإعراب والحال الذي بعده كمحل رجل من هذا رجل.

قال : " واعلم أن ما كان صفة للمعرفة لا يكون حالا ينتصب انتصاب النكرة ، وذلك أنه لا يحسن لك أن تقول : هذا زيد الطويل ، ولا هذا زيد أخاك ، من قبل أنه من قال هذا فينبغي أن يجعله صفة للنكرة ، فيقول هذا رجل أخوك.

ومثل هذا في القبح : هذا زيد أسود الناس ، وهذا زيد سيّد الناس.

حدثنا بذلك يونس عن أبي عمرو.

ولو حسن أن يكون هذا خبرا للمعرفة لجاز أن يكون خبرا للنكرة ، فتقول : هذا رجل سيّد الناس ، من قبل أنّ نصب هذا رجل منطلقا ، فينبغي لما كان حالا للمعرفة أن يكون حالا للنكرة. فليس هكذا ، ولكن ما كان صفة للنكرة جاز أن يكون حالا للنكرة ، ولا يجوز للمعرفة أن تكون حالا كما تكون النكرة فتلتبس بالنكرة. ولو جاز ذلك لقلت : هذا أخوك عبد الله ، إذا كان عبد الله اسمه الذي يعرف به. وهذا كلام خبيث يوضع في غير موضعه".

قال أبو سعيد : ذكر الصفات للمعارف أنها لا تكون أحوالا للمعارف ، وهذا مسلّم إذ كنّا لا نقول : جاءني زيد الراكب على الحال ، ولا أعلم أحدا يخالفه في ذلك ، ولأن الحال ـ أيضا ـ مشبهة للتمييز ؛ لأنّا إذا قلنا : جاءني زيد ، احتمل أحوالا شتى جاء فيها ، كما أنّا إذا قلنا : عشرون ، احتمل أن يكون بعدها أنواع كثيرة ، فإذا جئت بنوع منها نكّرته ونصبته ، فقلت : درهما ، أو ثوبا ، وكذلك إذا جئت ببعض الأحوال المبهمة نصبته ونكّرته فقلت : جاءني زيد راكبا أو ماشيا أو مسرعا أو مبطئا أو ضاحكا أو باكيا ،

٤٤٢

ثم ألزم من يلتزم أن تكون الحال معرفة أن يجعل حال النكرة معرفة ؛ لأنه لا فرق بين حال المعرفة والنكرة فتقول : هذا رجل سيد الناس ، وهذا كله من سيبويه تشنيع وتقبيح لهذا القول ، ثم ألزمه أن يقول : هذا أخوك عبد الله ؛ لأنه قد يكون الاسم للعلم عطف البيان ، ويجري ما قبله مجرى النعت ، فألزمه نصبه. ومن أصحابنا من قال : غلط في الكتاب وإن معناه إذا عبد الله ليس اسمه الذي يعرف به ، ثم ذكر مواضع المعرفة فقال : إنما تكون للمعرفة مبنيا عليها ، يعني مبتدأ أو مبنية على اسم يعني خبرا لمبتدإ ، أو لكان ونحوها ، أو غيره من الكلام الذي جرى بالاستئناف له ، أو بنصبه على إضمار ، وقد دخل هذا في أقسامه الأول. فهذا أمر النكرة وأمر المعرفة ، فأجره كما أجروه وضع كل شيء موضعه.

هذا باب ما ينتصب خبره لأنّه معرفة وهي معرفة لا توصف ولا

تكون وصفا

" وذلك قولك : مررت بكلّ قائما ، وببعض جالسا. وإنّما خروجهما من أن تكونا وصفين أو موصوفين ، أنه لا يحسن لك أن تقول : مررت بكلّ الصالحين ولا ببعض الصالحين ، قبح الوصف حين حذفوا ما أضافوا إليه ؛ لأنّه مخالف لما يضاف ، شاذ منه ، فلم يجر في الوصف مجراه ، كما أنّهم حين قالوا : يا الله ، فأضافوا ما فيه الألف واللام ، لم يصلوا ألفها وأثبتوها وصار معرفة ؛ لأنّه مضاف إلى معرفة ، كأنك قلت : مررت بكلّهم ببعضهم ، ولكنك حذفت ذلك المضاف إليه ، فجاز ذلك كما جاز : لاه أبوك ، تريد لله أبوك ، حذفوا الألف واللامين. وليس هذا طريقة الكلام ، ولا سبيله ؛ لأنهم ليس من كلامهم أن يضمروا الجارّ".

قال أبو سعيد : مررت بكلّ قائما ، ومررت ببعض قائما وببعض جالسا ، لا يتكلم به مبتدأ ، وإنما يتكلم به إذا جرى ذكر قوم فتقول : مررت بكلّ أي : مررت بكلهم ، ومررت ببعض ، أي ببعضهم ، فيستغنى بما جرى من الكلام ومعرفة الخطاب بما يوصف به أيضا ؛ لأنهم لما أقاموه مقام الضمير ، والضمير لا يوصف إذا لم يكن تحلية ولا فيه معنى تحلية ، ولم يصفوا به. ولا يقال : مررت بالزيدين كلّ ، كما لا يقال : مررت بكل الصالحين ، وأما تشبيه سيبويه ذلك في الشذوذ بقولهم : يا الله ، حين نادوا ما فيه الألف واللام ، وقطعوا ألف الوصل منه ، فإن الذي دعاه إلى ذلك مع خروجه عن القياس المستمر

٤٤٣

في كلامهم ، أن الألف واللام لا يفارقان اسم الله ، على ما فيه من الخلاف في أصل الاسم قبل دخول الألف واللام ، وبالخلق أجمعين الفاقة الشديدة إلى نداء الله عزوجل ودعائه بهذا الاسم ؛ لأنه أشهر أسمائه وأكثرها دورا على ألسنتهم ، فلما اضطرهم الأمر إلى ندائه ، خالفوا بلفظ لفظه لفظ ما ينادى مما فيه الألف واللام للتعريف ، فقطعوا الألف فصار في اللفظ كأن الألف واللام فيه أصليان.

ومن الحذف الشاذ ـ أيضا ـ قولهم : لاه أبوك ، يريد : لله أبوك ، فحذفوا منه لامين ، وقد كانوا حذفوا منه الألف الوصل.

واللامان المحذوفان عند سيبويه : لام الجر واللام التي بعدها.

وقال محمد بن يزيد : لام الجر هي هذه اللام المبقّاة ، وكانت أولى بالتبقية عنده لأنها دخلت لمعنى ، وفتحت لام الجر ؛ لأن لام الجر في الأصل مفتوحة ، والصواب عندنا ما قاله سيبويه ؛ لأنّا رأيناهم قد حذفوا حروف الجر إذا دخلت على (إن) و (أن) ، مخففة ومشددة نحو قولك :

رغبت أن أصحبك ، وأيقنت أن زيدا خارج ، وتقديره : في أن أصحبك ، وأيقنت بأن زيدا خارج ، ولا يجوز حذفها من المصدر إذا قلت : رغبت في صحبتك ، وأيقنت بخروجك ، والأجود أن (أن) في موضع جرّ ، وقد روي أن رؤبة إذا قيل له : كيف أصبحت؟

قال : خير ، يريد : بخير.

وروي من قول بعض العرب : مررت برجل صالح وأن طالح ، وفيه من الاحتجاجات والمناقضات ما لا يحتمل الكتاب ذكره.

وجملة الأمر أن قول سيبويه : إذا حذف من الكلمة ما قاله ، فالباقي منها هو اللفظ الموجود من غير تغيير.

وعلى قول المبرد : تبقى اللام المكسورة وتغيّر ، وليس على التغيير دليل يجب التسليم له.

ومن الحذف : لا عليك ، أي : لا بأس ، أو لا ضرر عليك ، أو نحو ذلك.

وقال : ما فيهم بفضلك في شيء ، يريد : أحد بفضلك. قد قال الله : (وَإِنْ مِنْ

٤٤٤

أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ)(١) ومعناه : أحد.

قال الراجز :

لو قلت ما في قومها لم تيثم

يفضلها في حسب وميسم (٢)

والشواذ في كلامهم كثير.

قال : ولا يكونان وصفا ، كما لا يكونان موصوفين ، يعني : كل ، وبعض. قال : وإنما يوضعان في الابتداء ، أو يبنيان على اسم بالابتداء ، نحو قوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(٣) ، فأمّا جميع فيجري مجرى رجل ونحوه في هذا الموضع.

قال الله عزوجل :

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٤)

وقال : ائتهم والقوم جميع ، أي : مجتمعون.

قال المفسر : لفظ جميع : لفظ واحد ، ومعناه : جمع ، مثل : قوم ، وجماعة.

قال : وزعم الخليل أنه يستضعف أن يكون كلّهم مبنيا على اسم أو غير اسم ، ولكن يكون مبتدأ ، أو يكون كلّهم صفة.

فقلت : لم استضعف أن يكون مبنيا؟

فقال : لأنّ موضعه في الكلام أن يعمّ به غيره من الأسماء بعد ما يذكر فيكون كلّهم صفة أو مبتدأ.

قال المفسر : الأغلب في كلهم أن يجري مجرى أجمعين ؛ لأنه يعم به بأجمعين ؛ لأن معناه معنى أجمعين ، اتسع في لفظه فأضيف إلى الكنى ، والظاهر ، والمعرفة ، والنكرة ، كقولنا : كل القوم ، وكل رجل ، وجعل نعتا على معنى المبالغة والكمال ، لا على معنى العموم ، كقولنا : رأيت الرجل كل الرجل ، ورأيت رجلا كل رجل ، وأكلت شاة كلّ شاة ، على معنى : رأيت الرجل الكامل ، واستحسنوا الابتداء به بهذا التصرف والإضافة ؛ لأن أول الكلام الابتداء ثم تدخل عليه العوامل.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٥٩.

(٢) الرجز لحكيم بن معية في خزانة الأدب ٥ / ٩٢ ، وبدون نسبة في تاج العروس (أثم).

(٣) سورة النمل ، الآية : ٨٧.

(٤) سورة يس ، الآية : ٣٢.

٤٤٥

ولأن الابتداء ب (كلهم) بعد كلام يجري مجرى التوكيد ، كقولك ، إن قومك كلهم ذاهب ، ويجوز أن تدخل عليها العوامل كلها ، وإن كان فيها بعض الضعف من حيث دخل عليها الابتداء ، وكلاهما ، وكلتاهما ، وكلهن تجري مجرى كلهم.

وأما جميعهم فقد يجوز على وجهين : يوصف به المضمر كما يوصف ب (كلهم) ويجري في الوصف مجراه ، ويكون في سائر ذلك بمنزل : عامتهم ، وجماعتهم ، يبدأ ويبنى على غيره ؛ لأنه يكون نكرة وتدخله الألف واللام ، وأمّا كل شيء ، وكل رجل ، فإنما يبنيان على غيرهما ؛ لأنه لا يوصف بهما.

والذي ذكرت قول الخليل ، ورأينا العرب توافقه بعد ما سمعناه منه.

هذا باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة

" وذلك قولك : هذا راقود خلا ، وعليه نحي سمنا ، وإن شئت قلت : راقود خلّ ، وراقود من خلّ ، وإنما قرئت إلى النصب في هذا الباب كما قرئت إلى الرفع في قولك : بصحيفة طين خاتمها ؛ لأنّ الطين اسم وليس صفة ممّا يوصف به ، ولكنه جوهر يضاف إليه ما كان منه. فهكذا مجرى هذا ، وما أشبهه.

ومن قال : مررت بصحيفة طين خاتمها ، قال : هذا راقود خل ، وهذا صفة خز ، وهذا قبيح أجري على غير وجهه ، ولكنّه حسن أن يبنى على المبدأ ويكون حالا ، والحال قولك : هذه جبّتك خزّا ، والمبنيّ على المبتدأ قولك : جبّتك خزّ ، ولا يكون صفة فيشبه الأسماء التي أخذت من الفعل وما أشبهها ، ولكنّهم جعلوه يلي ما ينصب ويرفع وما يجرّ ، فأجروه كما أجروه وإنما فعلوا به ما يفعل بالأسماء ، والحال مفعول فيها ، والمبنيّ على المبتدأ بمنزلة ما رفع بالفعل ، والجارّ بتلك المنزلة يجري في الاسم مجرى الناصب والرافع".

قال أبو سعيد : راقود ونحي مقدار ، ينتصب بعدهما إذا نوّنتهما ، كما ينتصب بعد أحد عشر وعشرين إذا قلت : أحد عشر درهما ، وعشرون ثوبا ، وإن أضفتهما فبمنزلة مائة درهم ، وألف ثوب ولم يذكر سيبويه نصبه من أي وجه ، إلا أن القياس يوجب ما ذكرته ، ومثله : لي ملؤه عسلا ، يعني : الإناء عسلا ، وعندي رطل زيتا ، وتقديره : لي ما يملأ الإناء من العسل ، ولي ما يملأ الرطل من الزيت ، وكذلك القول في عشرين درهما ، إلّا أنهم اقتصروا وردّوه من تعريف الجنس إلى واحد منه منكور ، للدلالة على الجنس. فسموه

٤٤٦

تمييزا. وجعل سيبويه" هذه جبتك خزّا" حالا ؛ لأن الجبة ليست بمقدار يقدر به الخز ، فيجري مجرى راقود ونحي الإناء وعشرين. وقال أبو العباس محمد بن يزيد : خطأ أن يكون حالا ، إنما هو تمييز ، وقد مضى الكلام فيما يجعله سيبويه من الأجناس أحوالا ، ويفرّق بينه وبين الحال والصفة وسائر ما في الباب مفهوم.

هذا باب ما ينتصب لأنّه ليس من اسم ما قبله ولا هو هو

" وذلك قولك : هذا ابن عميّ دنيّا ، وهو جاري بيت بيت. فهذه أحوال قد وقع فيها في كل واحد شيء وانتصب ؛ لأنّ هذا الكلام قد عمل فيها كما عمل الرجل في العلم حين قلت : عشرون درهما ؛ لأن الدرهم ليس من اسم العشرين ولا هو هو"

قال أبو سعيد : الذي يريده سيبويه الاسم الذي له اسمان أحدهما هو الآخر ولو غيرنا عن كلّ واحد منهما بالآخر كان له اسما ، والذي هو من اسمه أن يكون محمولا على إعرابه ، وذلك النعت وما كان من الحال من أسمائه الفاعلين كقولنا : هذا زيد ذاهبا ، فهو هو لأن زيدا هو ذاهب ، وذاهب هو زيد ، وما كان مصدرا لم تقل هو هو ؛ كقولك : هو ابن عمي دنيّا ، دنيّا مصدر في الأصل ، ولا تخبر عنه ولا يكون خبرا ، وأصل دنيّا دنوا ؛ لأنه من دنا يدنو ، فقلبوا الواو ياء ؛ لأن بينهما وبين الكسرة نونا ساكنة وهو خفيّة ، ودنيّا ليس بمتمكن ؛ لأنه لا يقال : هذا ابن عمى دنيّ ، ولا : مررت بابن عمّ دنيّ ، ودنيّا في معنى دانيا منصوبا على الحال ، والعامل فيه معنى ابن عمي ، كأنه قال : يناسبني دانيا.

وأما قوله : " هو جاري بيت بيت" فمعناه : هو جاري ملاصقا ، وبيت بيت جعلا اسما واحدا ، ووضعا في موضع مصدر ، وذلك المصدر في موضع الحال ، " وهذا درهم وزنا" يكون وزنا مصدرا بمعنى : وزن وزنا ، وحالا بمعنى موزونا ، والذي ساق عليه الكلام أن يكون في موضع الحال ، وكذلك : هذا حسيب جدا وهذا عربيّ حسبه ، وتقديره : اكتفاء بمعنى : كافيا.

حدّثني بذلك أبو الخطاب عن من يثق به من العرب. جعله بمنزلة الدّني والوزن ، كأنه قال : هو عربيّ اكتفاء. فهذا تمثيل ولا يتكلم به ، ولزمته الإضافة كما لزمته جهده وطاقته.

وما لم يضف من ذا ولم تدخله الألف واللام ، فهو بمنزلة ما تضيفه ولم تدخله الألف واللام فيما ذكرنا من المصادر ، نحو : لقيته كفاحا ، وأتيته جهارا.

٤٤٧

ومثل ذلك : هذا عشرون مرارا. وكأنه قال تكريرا وتضعيفا في معي مضافة ومكررة ، فهذا غير مضاف. و" هذه عشرون أضعافها" وهي مضافة مثل : جهده وطاقته ومعناه : مضاعفة.

قال : " ومثل ذلك : هذا درهم سواء ، كأنه قال : هذا درهم استواء. فهذا تمثل وإن لم يتكلم به ، كما قال الله تعالى :

(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ)(١)

وقد قرأها ناس" في أربعة أيام سواء" قال الخليل : جعلوه بمنزلة أيام مستويات.

وتقول : هذا درهم سواء ، كأنك قلت : هذا درهم تام. قال : (وهذا شيء ينتصب على أنّه ليس من اسم الأول ولا هو هو) وذلك قولك :

هذا عربيّ محضا ، وهذا عربيّ قلبا.

فمحضا وقلبا ليسا بالعربي لأنهما مصدران ، ولا جريا على عربيّ في نعته وإعرابه ، فصار بمنزلة دنيّا وما أشبهه من المصادر وغيرها ، والرفع فيه وجه الكلام. وزعم يونس ذلك وذلك قولك : هذا عربيّ محض وهذا عربيّ قلب".

قال أبو سعيد : وإنما صار الرفع الوجه ؛ لأنه كثر في كلامهم أن يجروا محض وقلب مجرى عدل ، وأنت تقول : هذا رجل عدل في معنى عادل ، وكذلك محض في معنى ماحض ؛ لأنه يقال : محض يمحض وامتحضت أنا ، ومعناه : خالص. ولم يستعمل الفعل من قلب ما استعمل من محض.

قال أبو العباس محمد بن يزيد : قلبا ، معناه : قد تقلّب في العرب أي : دائر في أنسابها وهما مصدران صادفا الحال.

قال أبو سعيد : ويجوز أن يكون أخذ من قلب قلبا ، كأنه فتّش ونقي من العيب.

وأما عربيّ قحّ فلم يستعمل إلا صفة ؛ لأنه اسم ليس مصدر ، وليس له فعل يتصرّف.

قال : " ومما ينتصب لأنه ليس من اسم الأول ولا هو هو ، قولك : هذه مائة

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ١٠.

٤٤٨

وزن سبعة ، ونقد الناس ، وهذه مائة ضرب الأمير ، وهذا ثوب نسج اليمن ، كأنه قال نسجا وضربا ووزنا. وإن شئت قلت : وزن سبعة.

قال الخليل : إذا جعلت وزن سبعة مصدرا نصبت ، وإن جعلته اسما وصفت به. يعني بقوله : اسما تجعله في معنى موزون فتجريه مجرى موزون ، ومنه الخلق يكون مصدرا ، ويكون المخلوق ، والحلب يكون مصدرا ويكون معنى المحلوب ، والضرب في الدرهم بمعنى المضروب كما تقول : رجل رضى بمعنى مرضيّ ، وامرأة عدل بمعنى عادلة ، ويوم غم. فيصير هذا الكلام صفة.

قال : استقبح أن أقول هذه ضرب الأمير ، فأجعل الضرب صفة فيكون نكرة وصفت بمعرفة ، ولكن أرفعه على الابتداء ، كأنّه قيل له : ما هي؟ فقال : ضرب الأمير. فإن قلت : ضرب أمير حسنت الصفة ؛ لأنّ النكرة توصف بالنكرة".

قال أبو سعيد : إذا قلت : هذه مائة نقد الناس ، وهذه مائة ضرب الأمير ، وهذا ثوب نسج اليمن ، فنصبها على المصدر لا على الحال ؛ لأنها معارف ، كأنه قال : نقدت نقد الناس ، وضربت ضرب الأمير ، ونسجت نسج اليمن.

قال : " واعلم أنّ جميع ما ينتصب في هذا الباب ينتصب على أنّه ليس من اسم الأول ولا هو هو. والدليل على ذلك أنك لو ابتدأت اسما لم تستطع أن تبني عليه شيئا ممّا انتصب في هذا الباب ؛ لأنه جرى في كلام العرب أنّه ليس منه ولا هو هو. لو قلت : هذا ابن عمي دني والعربيّ جدّ ، لم يجز ، نعلم أنه ليس هو هو ؛ لأن ما هو هو ، لا يمتنع أن يكون خبرا له. وإذا لم يكن خبرا له ، فهو من الصفة أبعد فصار ليس منه ؛ لأن ما كان صفة فهو اسمه ، وبيّن أنه كان خبرا لمبتدأ ما لا يكون صفة كقولك : خاتمك فضّة ولا يكون صفة".

قال أبو سعيد : الذي يعني به فيما يقول أنّه منه ما كان نعتا له جاريا عليه ، وما ليس منه ليس بنعت له جار عليه ، وقد عبر عنه بعض أصحابنا بأنه ما كان تماما له فيدخل فيه النعت والصلة ، وأما ما هو هو فما صيغ لذاته من أسماء الفاعلين نحو : زيد الطويل ، وزيد ذاهب.

وبيّن أنّ دنيّا وجدّا في قولك : هذا ابن عمى دنيّا ، وهذا حسيب جدّا ، دنيّ وجدّ ليسا بنعتين ، فيكون من اسم الأول ، ولا هما الأول لأنهما مصدران ، والأول ليس بمصدر

٤٤٩

ولم يكونا نعتين للأول لأنّهما غير متمكنين ، ولا يخبر بهما عن الأول. لا يقال : هذا دنيّ جدّ ، وإذا لم يخبر بهما فهما من النعت بهما أبعد ؛ لأنه قد يخبر بما لا ينعت به ؛ لأنك تقول : خاتمك فضة ولا تقول : مررت بخاتم فضة.

قال : " اعلم أن الشيء قد يوصف بالشيء الذي هو هو. وهو من اسمه ، وذلك قولك : هذا زيد الطويل ، ويكون هو هو وليس من اسمه كقولك : هذا زيد ذاهبا. ويوصف بالشيء الذي ليس به ولا من اسمه ، كقولك : هذا درهم وزنا ، لا يكون إلّا نصبا. قال أبو العباس : أزنه وزنا".

قال أبو سعيد : إن قال قائل : أليس قد تقدم في الباب بأن الوزن يكون اسما ومعناه : موزون ، فلم لا يكون هذا درهم وزن؟ قيل له : هذا جائز إذا أراد هذا المعنى ، وإنما ذكر سيبويه ما يوصف به وليس من اسمه ، أي ليس بنعت جار على المنعوت ، ولو رفع كان من اسمه ، وأدخل فيما يوصف به الحال والمصدر ، إنما ذهب في ذلك إلى ما يتعلق عليه ، ويبيّن به ، ولم يذهب إلى الصفة التي هي نعت ، والله أعلم.

هذا باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده

أو يبنى عليه ما قبله

" وذلك قولك : هذا قائما رجل ، وفيها قائما رجل ، وهو قائما رجل ، ولما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم وقبح أن تقول : فيها قائم ، فتضع الصفة موضع الاسم ، كما قبح : مررت بقائم ، وأتاني قائم. جعلت قائما حالا ، وكان المبنيّ على الكلام الأوّل ما بعده. ولو حسن أن تقول : فيها قائم ، لجاز فيها قائم رجل ، لا على الصفة ، ولكنّه كأنه لمّا قال فيها قائم ، قيل له : من هو؟ وما هو؟ فقال : رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضعفه.

وحمل هذا النصب على جواز فيها رجل قائما ، وصار حين أخّر وجه الكلام فرارا من القبح. قال ذو الرمّة :

وتحت العوالي والقنا مستظلة

ظباء أعارتها العيون الجآذر (١)

__________________

(١) ديوانه ٢ / ١٠٢٤.

٤٥٠

وقال آخر :

وبالجسم منّي بيّنا لو علمته شحوب

وإن تستشهدي العين تشهد (١)

وقال كثير :

لعزّة موحشا طلل قديم (٢)

وهذا كلام أكثر ما يكون في الشعر ، وأقل ما يكون في الكلام".

قال أبو سعيد : جملة هذا الباب أن يكون اسم منكور له صفة تجري عليه ، ويجوز نصب صفته على الحال ، والعامل في الحال شيء متقدم لذلك المنكور ، ثم تتقدم صفة ذلك المنكور عليه لضرورة عرضت لشاعر إلى تقديم تلك الصفة ، فيكون لفظ الاختيار في لفظ تلك الصفة أن تحمل على الحال ، مثال ذلك : هذا رجل قائم ، وفى الدار رجل قائم ، هذا مبتدأ ، ورجل خبره ، وقائم نعت رجل. وفي الدار رجل قائم ، رجل مبتدأ ، وفى الدار خبر مقدم ، وقائم نعت رجل ، ويجوز نصب قائم في المسألتين جميعا ، وأمّا في هذا رجل قائما ، فالعامل فيه التنبيه أو الإشارة ، وأمّا في الدار رجل قائما ، فالعامل فيه الظرف ، والاختيار الصفة ، فلما احتاج إلى تقديم مستظلة على ظباء وقد كان قبل تقديمها تقديره : " وتحت العوالي في القنا ظباء مستظلة" على الاختيار ، ومستظلة على الجواز ، ثم احتاج إلى تقديمها على ظباء ، فلم يصلح أن ترتفع على الصفة لشيء بعدها ؛ لأن الصفة لا تكون إلا بعد الموصوف ، وكانت الحال تتقدم وتتأخر ، نصبت على الحال ، وعامل الحال قد تقدم ، وكذلك قوله :

" وبالجسم مني بيّنا لو علمته شحوب" أصله : وبالجسم منيّ شحوب بيّن على الصفة ، وبينا على الحال ، والعامل فيه الظرف الذي ناب عنه وبالجسم ، فلما تقدم بطلت الصفة وبقي النصب على الحال ، وكذلك ، لعزة موحشا على الصفة ، وكان يجوز موحشا طلل قديم ، أصله : لعزة طلل قديم موحش على الصفة ، وكان يجوز موحشا على الحال ، والعامل فيه لعزة ، فلمّا قدمت نصبته على الحال ، ولم يكن يحسن أن تقول : فيها قائم ؛

__________________

(١) البيت بلا نسبة في معجم الشواهد النحوية ٢٧٨ ، وشرح الأشموني ٢ / ٧٥.

(٢) هذا صدر بيت وعجزه :

عفاه كل أسحم مستديم

البيت في ملحق ديوانه ٥٣٦.

٤٥١

لأن قائما صفة لا يحسن وضعها في موضع الأسماء ، ولو حسن أن تقول فيها قائم لجعلت رجلا بدلا منه ، أو يكون رفعه على الاستئناف ، وكأنك قلت : هو رجل على سؤال من قال : من هو؟

قال : " وهذا كلام أكثر ما يكون في الشعر وأقل ما يكون في الكلام" يعني أن طلب وزن الشعر ربما يضطر الشاعر إلى التقديم ، فيخرج إلى تقديم الصفة التي ذكرنا على الموصوف ، وإذا قدّمت الصفة على الظرف بطل النصب. لا تقول : قائما فيها رجل ، وقد ذكرنا أن العامل في الحال إذا كان ظرفا أو إشارة أو تنبيها لم يتقدم الحال عليه ، لا تقول : زيد قائما في الدار ، ولا قائما زيد في الدار ، ولا قائما في الدار زيد ، ولا قائما هذا زيد ، وإنما يتقدم الحال على العامل إذا كان العامل فيها فعلا ، كقولك : راكبا مرّ زيد ، وراكبا مرّ الرجل ؛ لأن الظروف والإشارة لا تتصرف كتصرف الفعل ، فضعف عملها في ما قبلها ، وإن كانت قد أنزلت منزلة الفعل في كونها خبرا للاسم ، ووقع في النسخ وهو قائما رجل ، فهو عندي سهو تناسخه الناس ولم يعتقد ، ونصبه إن جاز بشيء متأول بعيد ، كأن قائلا قال : على أي حال زيد رجل؟ يريد من الرّجلة والشهامة ، فقال المجيب : هو قائما رجل ؛ أي إذا كان قائما ، كما يقال : هذا يسرا أطيب منه نحرا.

قال سيبويه : " ومن ثمّ صار مررت قائما برجل لا يجوز ؛ لأنّه صار قبل العامل في الاسم ، وليس بفعل والعامل الباء ولو حسن هذا لحسن قائما هذا رجل"

قال أبو سعيد : إذا عمل في الاسم الذي الحال منه عامل لا يجوز تقديمه عليه ، نحو حروف الجر ، لم يجز تقديم الحال على عامله. لا تقول : مرّ زيد قائمة بهند ؛ لأن هندا لا يجوز تقديمها على الباء ، والحال تابعة للاسم ، فلم يجز تقديمها عليه ، وإن كان العامل فيها الفعل ، ورأيت أبا الحسن بن كيسان يجيز في القياس مررت قائمة بهند.

قال سيبويه : " فإن قال قائل : أقول مررت ب (قائما) رجل ، فيكون الحال بعد حرف الجر ، فهذا أقبح وأخبث للفصل بين الجار والمجرور ، ومن ثمّ أسقط ربّ قائما رجل. فهذا كلام قبيح ضعيف ، فاعرف قبحه ، فإنّ إعرابه يسير. ولو استحسنّاه لقلنا : هو بمنزلة فيها قائما رجل ، ولكنّ معرفة قبحه أمثل من إعرابه.

وأمّا بك مأخوذ زيد ، فإنّه لا يكون إلّا رفعا ، من قبل أنّ بك لا يكون مستقرا للرجل ، وعلى ذلك أنه لا يستغنى عليه السكوت. ولو نصبت هذا لنصبت اليوم

٤٥٢

منطلق زيد ، واليوم قائم زيد.

وإنما ارتفع هذا لأنه بمنزلة بك مأخوذ زيد. وتأخير الخبر في الابتداء أقوى ؛ لأنه عامل فيه.

ومثل ذلك : عليك نازل زيد ؛ لأنك لو قلت : عليك زيد ، وأنت تريد النزول ، لم يكن كلاما.

وتقول : عليك أميرا زيد ؛ لأنك لو قلت : عليك زيد وأنت تريد الإمرة كان حسنا. وهذا قليل في الكلام ، كثير في الشعر ؛ لأنه ليس بفعل. وكلّما تقدّم كان أضعف له وأبعد ، فمن ثمّ لم يقولوا : قائما فيها رجل ، ولم يحسن حسن : فيها قائما رجل"

قال أبو سعيد : الظروف على ضربين أحدهما : أسماء الزمان والآخر أسماء المكان ، فأمّا أسماء الزمان فإنها تكون ظروفا للمصادر وأخبارا لها كقولنا : القتال يوم الجمعة ، ورحلنا يوم الخميس. ولا تكون ظروفا للجثث وأخبارا لها ، لا تقول : زيد يوم الجمعة ، وتسكت حتى تقوّيه بخبر لزيد كقولنا : اليوم منطلق زيد ، واليوم قائم زيد ، والفرق بين ظروف الزمان والمكان ، أن ظروف الزمان إنّما هي أشياء تحدث وتنقضي ، ولا يثبت شيء منها ، وما وجد من الزمان فهو مشتمل على كل موجود ، والجثث كلها موجودة. فإذا جعلنا ظرف الزمان ظرفا لبعض الجثث ، وقد علم أنه قد اشتمل على الجثث كلها ، فلا فائدة فيه ؛ لأنّا إذا قلنا : زيد اليوم ، وقد علم أنّ اليوم قد اشتمل عليه وعلى غيره ، فلا فائدة فيه ، وأمّا المصادر فإنها غير موجودة ، وتحدث في أوقات. فإذا جعل ظرف الزمان لشيء من المصادر ، فإنّما تدلّ على حدوث ذلك المصدر في ذلك الزمان ، وفيه فائدة يجوز أن لا يعلمها المخاطب.

وأمّا ظروف المكان فإنها تكون أخبارا ، فأي مكان جعلته مستقرا لشيء يكون فيه ، جاز أن يكون ظرفا له وخبرا. فما كان منها مخوضا أدخلت عليه (في) أو ما يقوم مقامها ، كقولنا : زيد في الدار ، وفي السوق ، وأخوك على الجبل ، وعلى السور. وما اتصل من حروف الجر بالأسماء غير الأماكن فهو صلة لفعل أو خبر اسم ، ولا يجوز حذف ما هو في صلته ، كقولك : زيد راغب في عمرو ، وأخوك نازل عليك ، وزيد يرغب فيك ، وينزل عليك ، وزيد يؤخذ بك ، وزيد مأخوذ بك ، ولا يجوز أن تقول : زيد فيك ، وأنت زيد راغب ، ولا زيد عليك ، وأنت زيد نازل ، ولا زيد بك وأنت زيد مأخوذ ؛ لأن هذه

٤٥٣

الحروف قد يتعلق عليها أخبار كثيرة مختلفة المعاني ، فإذا حذفت لم يدر أيّها يراد. ألا ترى أنك إذا قلت : زيد بك ، احتمل وجوها كثيرة نحو : زيد بك يستعين ، وزيد بك يتحمّل ، وزيد بك مأخوذ ، وما أشبه ذلك ، وكذلك : زيد فيك ؛ جاز أن تعني : راغب وزاهد. وكذلك إذا قلت : زيد عليك ، جاز أن يكون عليك يعتمد وعليك ينزل ، وعليك يثني ، ونحو ذلك فإذا قلت : زيد بك وأنت تريد (مأخوذ) أو زيد عليك وأنت تريد (نازل) ، ثم حذفت مأخوذا ونازلا بطل الكلام ، لأنهما خبران لا بدّ منهما ، وإنما جاز أن تقول : زيد في الدار أو في السوق أو ما أشبه ذلك من الأماكن ؛ لأن هذه الأشياء محالّ لزيد ، وأن القصد فيها أنه قد استقرّ فيها أو حلّها ، ولا يذهب الوهم في قولك : زيد في الدار أو في السوق ، أنه يرغب في الدار أو يزهد فيها لما قد عرف بالعادة من أن القصد إلى حلوله فيها. فصار قولك : (في الدار) خبرا يتم الكلام به ، وإذا تم الكلام بظرف وصار خبرا ، جاز نصب ما بعده من الصفات على الحال ؛ ولهذا جاز نصب : عليك أميرا زيد ، ولا يجوز : عليك نازلا زيد. وقوله في آخر الباب : " وهذا قليل في الكلام كثير في الشعر" يريد تقديم الحال على الاسم الذي منه الحال إذا كان العامل ظرفا ليس بكثير في الكلام ، والكثير أن يكون الحال بعد الظرف والاسم جميعا ، ألا ترى أنك لا تكاد تجد في كلام العرب : إنّ في الدار قائما زيدا ، وإن زيدا في الدار قائما. والذي وجد في القرآن قد تقدمت فيه الأسماء على الأحوال ، كقوله عزوجل : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ)(١) و (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ* فاكِهِينَ)(٢) والله أعلم.

هذا باب ما يثنّى فيه المستقر توكيدا وليست تثنيته بالتي

تمنع الرفع حاله قبل التثنية

ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنّى

" وذلك قولك : فيها زيد قائما فيها. فإنما انتصب قائم باستغناء زيد ب (فيها) الأول. وإن زعمت أنّه ينتصب بالآخر فكأنك قلت : زيد قائما فيها ، فإن هذا كقولك : قد ثبت زيد أميرا قد ثبت ، فأعدت قد ثبت توكيدا ، وقد عمل الأوّل في زيد وفي

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ١٥ ، ١٦.

(٢) سورة الطور ، الآية : ١٧ ، ١٨.

٤٥٤

الأمير.

ومثله في التوكيد والتثنية : لقيت عمرا عمرا

فإن أردت أن تلغي فيها قلت : زيد قائم فيها ، كأنه قال : زيد قائم فيها فيها ، فيصير بمنزلة قولك : فيك زيد راغب فيك.

وتقول في النكرة : في دارك رجل قائم فيها ، فيجري قائم على الصفة. وإن شئت قلت : فيها رجل قائما فيها ، على الجواز ، كما يجوز : فيها رجل قائما. وإن شئت قلت : أخوك في الدار ساكن فيها ، فتجعل فيها صفة للساكن. ولو كانت التثنية تنصب لنصبت في قولك : عليك زيد حريص عليك ، ونحو هذا مما لا يستغنى به. وإن قلت : قد جاء (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها)(١) فهو مثل (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ)(٢) وفى آية أخرى (فاكِهِينَ)".

قال أبو سعيد : جعل سيبويه تثنية الظروف وهى تكريرها بمنزلة ما لم يقع فيه تكرير في حكم اللفظ ، وجعل التكرير توكيدا للأول لا يغير شيئا من حكمه فيما يكون خبرا وما لا يكون خبرا ، أمّا ما يكون خبرا فقولك : في الدار زيد قائما فيها ، إن شئت رفعت قائم ، وإن شئت نصبت ، كما كان ذلك قبل التكرير والتثنية ، فأمّا ما لا يكون خبرا فقولك : عليك زيد حريص عليك ، لا يجوز إلّا الرفع في حريص كما كان ذلك قبل التكرير ؛ لأن عليك ليس بخبر ولا يستغني به الكلام. وقال الكوفيون : ما كان من الظروف يكون خبرا ويسمونه : الظرف التام ، فإنك إذا كررته وجب النصب في الصفة ، وإن لم تكرره فأنت مخير إن شئت نصبت ، وإن شئت رفعت ، واحتجوا في المكرر بقوله عزوجل : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) وقوله عزوجل : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها)(٣) وذكروا أنّه لم يجئ شيء مما فيه تكرير من نحو هذا مرفوعا ، وما ليس فيه تكرير قد جاء بالرفع والنصب. ومما يحتجّ به لهم ، أن الظرف التام إذا نصبنا الصفة فالأول من الظرفين خبر الاسم ، وهو الذي ترفعه والثاني

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ١٠٨.

(٢) سورة الذاريات ، الآية : ١٥ ، ١٦.

(٣) سورة الحشر ، الآية : ١٧.

٤٥٥

ظرف للحال إذا قلت : في الدار زيد قائما فيها ، ففيها في صلة قائم ، وفي الدار ليست في صلته ، وإذا رفعت فقلت : قائم فيها ، ففيها في صلته ، ولا فائدة في الثانية لنيابة الأولى عنها. فإذا كان الظرف ناقصا فالضرورة تعود إلى رفع الصفة ، وحمل الكلام على التكرير والتوكيد. ومن حجة سيبويه أن هذه التثنية والتكرير قد أتى في القرآن وسائر الكلام ، قال الله تعالى في الأعراف : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ)(١) وفى هود : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٢) وهم الثانية تثنية وتوكيد ؛ لأنّ تقديره : وهم كافرون بالآخرة ، وإذا جاز قيل : زيد راغب فيك ، ودخول فيك الثانية وخروجها سواء في إعراب ما فيه ، فمثله قولك : في الدار زيد قائم فيها ، وأمّا قولهم إنه ما جاء في القرآن الرفع فيما كرر فيه المستقر ، فليس كل كلام جار صحيح جاء في القرآن ، ألا ترى أنه ما جاء في القرآن : ما زيد قائم ، ولا خلاف في أنه جيّد صحيح.

هذا باب الابتداء

" فالمبتدأ كلّ اسم ابتدئ ليبنى عليه كلام ، والمبتدأ والمبنيّ عليه رفع. فالابتداء لا يكون إلا بمبنيّ عليه. فالمبتدأ الأول والمبنيّ عليه ما بعده فهو مسند ومسند إليه.

واعلم أنّ المبتدأ لا بّد له من أن يكون المبنيّ عليه شيئا هو هو ، أو يكون في مكان أو زمان. وهذه الثلاثة يذكر كلّ واحد منها بعد ما يبتدأ.

فأمّا الذي يبنى عليه شيء هو هو فإنّ المبنيّ عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء ، وذلك قولك : عبد الله منطلق ؛ ارتفع عبد الله لأنه ذكر ليبنى عليه المنطلق ، وارتفع المنطلق لأنّ المبنيّ على المبتدأ بمنزلته".

قال أبو سعيد : قد ذكرنا الابتداء ما هو ، والمبتدأ والخبر وما يرتفع به كلّ واحد منهما ، وأنا أعيده هنا لأنّه أولى فأقول : إنّ الابتداء هو تعرية الاسم من العوامل اللفظية ، ليخبر عنه. وهذه التعرية عاملة فيه ؛ لأن العوامل في الإعراب بمنزلة العلامات الدّالة على ما يجب من الإعراب ، والتعرية قد تكون علامة في بعض الأماكن ، كثوبين أبيضين

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤٥.

(٢) سورة هود ، الآية : ١٩ ، سورة يوسف ، الآية : ٣٧.

٤٥٦

متشابهين لرجلين إذا يعلم أحدهما على ثوبه وترك الآخر العلامة ، كان تعريته من العلامة علامة له. فأمّا المبتدأ فالابتداء يرفعه ، وأمّا خبر المبتدأ فمن أصحابنا من يقول : إن الابتداء يرفع الاسم والخبر جميعا ، وقال أبو العباس محمد بن يزيد : إن الابتداء يرفع المبتدأ ، والمبتدأ والابتداء يرفعان الخبر.

ولسيبويه فيه عبارات مختلفة مشتبهة يوهم بعضها أن الخبر يرفعه المبتدأ ، وذلك قوله : " فإن المبني عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء ، يعني يرتفع بالمبتدأ" ويوهم بعضهم أن الابتداء يرفع المبتدأ والخبر لقوله : " وارتفع المنطلق" وهو يعني خبر الابتداء ؛ لأنّ المبنيّ على المبتدأ بمنزلته.

وفيه وجه حسن آخر ليس في شيء مما ذكرته في غير هذا الموضع ولا رأيته لأحد ، وهو أن التعرية الموجبة للرفع قد وقعت على المبتدأ والخبر ؛ لأنّ الخبر ـ أيضا ـ لم يدخل عليه عامل لفظيّ ؛ لأنّ الاسم المبتدأ ليس بعامل ، فكان في كل واحد منهما تعرية ، ويدلّك على ذلك أن أصحابنا لا خلاف بينهم أن خبر المبتدأ قد يتقدم عليه ويرتفع بما كان يرتفع به ، وقد علمنا أن العامل الضعيف لا يعمل فيما قبله ، والابتداء والمبتدأ ليس بأقوى من إنّ وأخواتها ، وأخبارها لا تتقدم عليها وإنما جاز تقديم خبر المبتدأ لأنّ فيه من التعرية مثل ما في المبتدأ ، ويقوّي هذا قول سيبويه : " لأن المبنيّ على المبتدأ بمنزلته" وعلى نحو هذا سوى الكوفيون بين الابتداء والخبر ، فجعلوا كل واحد منهما رافعا للآخر ، أيّهما تقدّم رفع الذي بعده ، وأيّهما تأخر رفع الذي قبله. قال : وزعم الخليل أنه يستقبح أن يقول : قائم زيد وذاكر ، إذا لم يجعل قائما مقدّما مبنيا على المبتدأ ، كما يؤخّر ويقدّم فيقول : ضرب زيدا عمرو ، وعمرو على ضرب مرتفع ، وكان الحدّ أن يكون الابتداء مقدما ، ويكون زيد مؤخّرا ، وكذلك هذا الحدّ فيه أن يكون الابتداء فيه مقدما. وهذا عربي جيّد ، وذلك قولك : تميمي أنا ، ومشنوء من يشنؤك ، وأرجل عبد الله ، وخذ صنعتك.

يريد أنّ قولك : قائم زيد قبيح إن أردت أن تجعل قائم هو المبتدأ ، وزيد خبره أو فاعله ، وليس بقبيح أن تجعل قائم خبرا مقدما ، والنية فيه التأخير كما تقول : ضرب زيدا عمرو ، والنية تأخير زيد الذي هو مفعول ، وتقديم عمرو الذي هو فاعل ، وذلك قولك : تميميّ أنا ، ومشنوء من يشنؤك أرجل عبد الله ، وخذ صنّعتك؟ ، وقال بعد تقديم

٤٥٧

خبر المبتدأ عليه نحو قائم زيد ، وتميمي أنا ، ومشنوء من يشنؤك. فإذا لم يريدوا هذا المعنى وأرادوا أن يجعلوه فعلا كقولك : يقوم زيد ، وقام زيد قبح ؛ لأنه اسم. وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف أو جرى على اسم قد عمل فيه ؛ كما أنه لا يكون مفعولا في ضارب حتى يكون محمولا على غيره فتقول : هذا ضارب زيدا وأنا ضارب زيدا. ولا يكون : ضارب زيدا على قولك : ضربت زيدا ، وضربت عمرا. فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجري مجرى الفعل المبتدأ ، وليكون بين الاسم والفعل فصل وإن كان موافقا له في مواضع كثيرة ؛ فقد يوافق الشيء ثم يخالفه ؛ لأنه ليس مثله. وقد كتبت ذلك فيما مضى ، وستراه فيما يستقبل ، إن شاء الله تعالى".

قال أبو سعيد : إذا نقلت الفعل إلى اسم الفاعل ورفعت الفاعل به ولم يكن قبله ما يعتمد عليه ، قبح ؛ وذلك أنه يلزمك أن تقول مكان قام زيد وقام الزيدان. قائم زيد ، وقائم الزيدان ، وقائم الزيدون ، والذى قبّحه فساد اللفظ لا فساد المعنى ، وذلك أنك إذا قلت : قائم الزيدان ، وقائم الزيدون ، رفعت قائم بالابتداء ، والزيدان فاعل من تمام قائم ، فيكون مبتدأ بغير خبر. ولو جاز هذا لجاز أن تردّ : يضرب زيدا إلى ضارب زيدا ، وزيد في صلته ، ولا يكون له خبر. والذى يجيزه زعم أن الفاعل يسد مسد الخبر ، وقائل هذا يحتاج إلى برهان على ما ادعاه ، وإنما يرتفع الفاعل باسم الفاعل ، وينتصب به المفعول ، إذا كان معتمدا على شيء يكون خبرا له أو صفة أو حالا أو صلة ، كقولك : كان زيد قائما أبوه ، ومررت برجل ضارب أبوه زيدا ، وهذا زيد ضاربا أبوه أخاك ، ومررت بالضارب أخاك.

وقد نسب أبو العباس محمد بن يزيد سيبويه إلى الغلط في قسمته خبر المبتدأ في هذا الباب إلى شيء هو هو ، أو يكون في مكان أو زمان ، ولم يأت بالجمل التى تكون أخبارا كنحو : زيد ضربته ، وزيد أبوه قائم ، وزيد إن تأته يأتك.

قال أبو سعيد : أحسب سيبويه جعل ما فيه ذكره ممّا يتبين في التثنية والجمع من حيز ما هو هو ، واقتصر على ذلك لأنه مفهوم لا يشكل. والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب.

٤٥٨

هذا باب ما يقع موقع الاسم المبتدأ ويسد مسده

" لأنّه مستقرّ لما بعده وموضوع ، والذي عمل فيما بعده حتّى رفعه هو الذي عمل فيه حين كان قبله ؛ ولكن كلّ واحد منهما لا يستغنى به عن صاحبه ، فلما جمعا استغناء عليهما السكوت ، حتّى صارا في الاستغناء كقولك : هذا عبد الله. وذلك قولك : فيها عبد الله. ومثله : ثمّ زيد ، وما هذا عمرو ، وأين زيد ، وكيف عمرو ، وما أشبه ذلك. بمعنى أين : في أي مكان ، وكيف : على أي حال. وهذا لا يكون إلّا مبدوءا به قبل الاسم ؛ لأنها من حروف الاستفهام ، فشبّهت بهل وألف الاستفهام ؛ لأنهن يستغنين عن ألف الاستفهام ، ولا يكون كذا إلّا استفهاما".

قال أبو سعيد : جملة هذا الباب أن المبتدأ الذي خبره ظرف من مكان أو زمان ، إذا تقدم الاسم الظرف فرفع الاسم على ما كان وهو متأخر ، كقولك : فيها زيد ؛ لأنك تقول : إنّ فيها زيدا ، كما تقول : إنّ زيدا فيها. وقد تكرر هذا في مواضع. ويقوّي ذلك أنّا نقول : أين زيد؟ وكيف عمرو؟ وأين وكيف لا يكونان اسمين ، وإنما هما خبران لا غير ، والدليل على ذلك أنك لو قلت : أين يجبني أو كيف يسرني؟ لم يجز كجواز من يجبني وما يسرني ؛ لأن من وما اسمان يخبر عنهما ، وليس أين وكيف كذلك ، وتقديم أين وكيف لم يجعلهما اسمين ، وكذلك تقديم فيها وما أشبهه ، غير أن أين وكيف يلزمهما التقديم بسبب الاستفهام. والله أعلم.

هذا باب من الابتداء يضمر فيه ما يبنى على الابتداء

وذلك قولك : لو لا عبد الله لكان كذا وكذا. أما لكان كذا أو كذا ، فحديث معلق بحديث لو لا ، وأما عبد الله فإنه من حديث (لو لا) وارتفع بالابتداء كما يرتفع بالابتداء بعد ألف الاستفهام كقولك : أزيد أخوك؟ إنما رفعته على ما رفعت زيد أخوك ، غير أن ذلك استخبار وهذا خبر ، وكأن المبني عليه في الإضمار كان في مكان كذا وكذا ، وكأنه قال : لو لا عبد الله كان بذلك المكان ، ولو لا القتال كان في زمان كذا وكذا ، ولكن هذا حذف حين كثر استعمالهم إيّاه في الكلام".

قال أبو سعيد : لو لا وجوابها جملتان إحداهما جواب للأخرى ، والذي ربط إحداهما بالأخرى لو لا ، ومثلها (إن) و (لو) يدخلان على جملتين مباينة إحداهما للأخرى ، كقولنا : قدم زيد وخرج عمرو ، لا يتعلق قدوم زيد بخروج عمرو ، فإذا أدخلنا لو ربطت إحدى الجملتين بالأخرى ، وعلقتها بها على المعنى الذي توجبه (لو) والذي توجبه (إن) الجواب

٤٥٩

يمتنع لامتناع الشرط ، فإذا قلت لو قدم زيد لخرج عمرو ، فخروج عمرو لم يقع من أجل أن قدوم زيد لم يقع ، ودخلت لو على جملتين مبنيتين على فعل واحد وفاعل ، وكذلك الباب فيه نحو : لو جئتني لأكرمتك ، وما أشبه ذلك ، وأما (لو لا) فتدخل على جملتين ؛ إحداهما مبتدأ وخبر ، والأخرى فعل وفاعل ، فتربط إحداهما بالأخرى ، ويكون الذي يليها مبتدأ وخبرا ، ويكون الجواب فعلا ، واحتاجت إلى اللام كاحتياج (لو) إلى اللام في جوابها ، والأصل زيد بالبصرة وخرج عمرو ، وزيد أمير وذهب عمرو ، فلا تتعلق إحدى الجملتين بالأخرى ، فإذا أدخلت (لو لا) علقت إحداهما بالأخرى ، فصارت الأولى شرطا والأخرى جوابا ، فقلت : لو لا زيد لذهب عمرو ولو لا زيد لخرج عمرو ، وحذفت الخبر حين كثر استعمالهم وفهم المعنى ، ومعنى لو لا أن الثاني يمتنع بامتناع الأول ، وربما جاء بعد (لو لا) مكان الابتداء والخبر الفعل لاستوائهما في المعنى ، ألا ترى أن قولك زيد قائم وقام زيد بمعنى واحد.

قال الشاعر وهو الجموح أخو بني ظافر بن سليم بن منصور :

قالت أمامة لما جئت زائرها

هلا رميت ببعض الأسهم السود

لا درّ درّك إني قد رميتهم

لو لا حددت ولا عذري لمحدود (١)

أي لو لا الحد والحرمان.

وقال الفراء والكوفيون : لو لا ترفع ما بعدها إذا قلت لو لا زيد لعاقبتك ، زيد ترفعه لو لا لانعقاد الفائدة به ومعه ، واللام جواب لو لا.

وحكى عن غيره أن لو لا ترفع لنيابتها عن الفعل ، لو لا زيد لعاقبتك ، أي لو لم يمنعني زيد من عقابك لعاقبتك. وقد رد الفراء هذا القول على قائله ، واحتج عليهم بحجتين ؛ إحداهما : أن أحدا لا يقع بعدها واحد يعريها بالجحود ، والأخرى : أنه لا يعطف على الاسم بعدها ، لا تقول : لو لا أخوك ولا أبوك لعاقبتك ، ففي امتناعهما من ذلك دليل على أن الجحد قد زايلها.

قال أبو سعيد : والصحيح ما قاله سيبويه ، والدليل على ذلك أنه قد وقع بعد (لو لا) الاسم والفعل ، نحو البيت الذي أنشدناه :

__________________

(١) البيتان في ابن يعيش ١ / ٩٥ ، ٨ / ١٤٦ ، الخزانة ١ / ٧٩ ، المخصص ١٥ / ١٩٠.

٤٦٠