شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

(وزعم يونس ـ وفي بعض النسخ عيسى ـ أنه سمع الفرزدق ينشد :

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشابي

شغارة تقذ الفصيل برجلها

فطّارة لقوادم الأبكار (١)

جعله شتما كأنه حين ذكر الحلب صار من يخاطب عنده عالما بذلك ، ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان جائزا عربيا).

وترتيب الأبيات في شعره بين البيت الأول والثاني :

كنّا نحاذر أن تضيع لقاحنا

ولها إذا سمعت دعاء يسار (٢)

شغارة : تبول كما يشغر الكلب ببوله ، تقذ الفصيل برجلها إذا دنا من أمه وهي تحلب تضربه برجلها من خلف مثل الرمح فتدقّ عنقه ، والفطر : الحلب بالسبابة والوسطى وتستعين بطرف الإبهام ، والخلفان : المقدمان من الضرع ، هما القادمان ، والجمع : قوادم ، والأبكار تحلب قطرا لأنه لا يمكن حلبها صبا لأن أخلافهن صغار قصار والأبكار جمع بكر ، أوّل ما تلد ، ويسار : اسم راع إذا سمعت دعاءه ولهت إليه صبابة به ، رماها بالربية.

وقال :

(طليق الله لم يمنن عليه

أبو داود وابن أبي كثير

ولا الحجاج عيني بنت ماء

تقلّب طرفها حذر الصقور) (٣)

الشاهد : في نصب عيني بنت ماء ، على الشتم ، وبنت ماء : طائر.

أما قول حسان بن ثابت :

حار بن كعب ألا أحلام تزجركم

عنّي وأنتم من الجوف الجماخير

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم

جسم البغال وأحلام العصافير (٤)

فلم يرد أن يجعله شتما ، ولكنه أراد أن يعدّد صفاتهم ويفسرها ، فكأنه قال : أمّا أجسامهم فكذا ، وأمّا أحلامهم فكذا.

__________________

(١) البيتان للفرزدق ديوانه / ٤٥ ، شرح شواهد المغني / ١٧٤.

(٢) المصدر السابق.

(٣) نسبهما الجاحظ في البيان والتبيين ١ / ٣٨٦ إلى إمام بن أقرم النميري سيبويه ١ / ٢٥٤.

(٤) ديوان حسان بن ثابت ٢١٣ / ٢١٤ ، المقتضب ٤ / ٢٣٣.

٤٠١

قال الخليل : لو جعله شتما فنصبه على الفعل كان جائزا).

قال أبو سعيد : لم يجعل جسم البغال شتما ، لأن عظم الأجسام ليس بشتم ولا ذمّ ، وإنما ذمهم بأنهم ليس لهم من الأحلام ما يشاكل عظم أجسامهم ، وإنما قال الخليل : لو جعله شتما فنصبه جاز ، لأن عظم الأجسام مع قلة العقول ذم أبلغ من ذمّ صغر العقل مع صغر الجسم.

(وقد يجوز أن تنصب ما كان صفة على معنى الفعل ولا تريد مدحا ولا ذما ولا شتما مما ذكرت لك.

قال الشاعر :

وما غرّني حوز الرّزاميّ محصنا

عواشيها بالجو وهو خصيب (١)

ومحصن : اسم الرّزامي محصنا ، فنصبه على (أعني) ، وهو فعل يظهر لأنه لم يرد أكثر من أن يعرفه بعينه ، ولم يرد افتخارا ولا ذما ولا مدحا ، وكذلك سمع هذا البيت من أفواه العرب وزعموا أنّ اسمه محصن.

قال : ومن هذا الترحّم ، والترحّم أن يكون بالمسكين والبائس ونحوه ، ولا يكون بكل صفة ، ولا كل اسم ، ولكن يترحم بما ترحمت به العرب).

قال أبو سعيد : مذهب الترحم على غيره منهاج التعظيم والشتم ، وذلك أن الاسم الذي يعظم به ، والاسم الذي يشتم به شيء قد وجب للمعظم والمشتوم ، وشهرا وعرفا به قبل التعظيم والشتم ، فيذكره المعظم أو الشاتم على جهة الرفع منه والثناء ، أو على جهة الوضع منه والذم ، والترحم إنما هو رقة وتحنّن يلحق الذاكر على المذكور في حال ذكره إياه ، رقة عليه وتحننا.

وإعرابه على ما أسوقه من كلامه.

قال : (وزعم الخليل أنه يقول : مررت به على المسكين ، على البدل ، وفيه معنى الترحم ، وبدله كبدل : مررت به أخيك).

وقال :

 (فأصبحت بقرقرى كوانسا

فلا تلمه أن ينام البائسا (٢)

__________________

(١) سيبويه ١ / ٢٥٤.

(٢) سيبويه ١ / ٢٥٥ ، ينسب إلى العجاج في الرجز.

٤٠٢

وكان الخليل يقول : إن شئت رفعته من وجهين ، فقلت : مررت به البائس ، كأنه لمّا قال : مررت به ، قال المسكين : هو كما يقال مبتدئا : المسكين هو والبائس أنت).

فهذا أحد وجهي الرفع جعل المسكين مبتدأ وخبره هو المضمرة ، وجعلهما على كلامين ، كأنّ قائلا قال :

من هو؟ فقال : المسكين هو الوجه الآخر من وجهي الرفع أن تجعل المسكين ابتداء وخبره : مررت به ، وقد أتى به فيما بعد.

قال : (وإن شاء ، مررت به المسكين فنصب كما قال :

بنا تميما يكشف الضّباب (١)

وفيه معنى الترحم كما كان في قوله رحمة الله عليه ، معنى رحمه‌الله) يريد أنّ نصب المسكين بإضمار شيء من ألفاظ الرحمة له ، كأنه قال : ارحم المسكين أو ما أشبهه ، كما أنّ قوله : (بنا تميما تنصب تميما بإضمار شيء يوجب الاختصاص والفخر).

وقوله : (رحمه‌الله) ، يريد قول القائل : رحمة الله على زيد ، وهو مبتدأ وخبر فيه معنى رحمه‌الله الذي يراد به الدعاء ، وكذلك إذا نصبت المسكين ففيه معنى المبتدإ والخبر إذا رفعت المسكين ، والنصب والرفع واحد.

وذكر عن يونس : مررت به المسكين ، على : مررت به مسكينا ، ورد عليه : بأنّ الحال لا تدخلها الألف واللام ، ولو جاز هذا لجاز : مررت بعبد الله الظريف ، تريد :

ظريفا. وقد ذكرنا من مذهب يونس وغيره قبل هذا ، أنّه قد تذكر الألف واللام ويراد طرحهما. وربما أرادوا الألف واللام فيما ليستا فيه. وبينا فساد ذلك.

ويجوز نصب المسكين على أحسن من الحال ، كأنه قال :

لقيت المسكين ، لأنه إذا قال : مررت بعبد الله ، فهو عمل كأنه أظهر عملا ، وكأن الذين حملوه على هذا إنما حملوه فرارا من أن يصفوا المضمر ، فكان حملهم إياه على الفعل أحسن.

(وزعم الخليل أنه يقول : إنه المسكين أحمق على الإضمار الذي جاز في :

__________________

(١) رجز لرؤبة بن العجاج ديوانه / ١٦٩ ، الخزانة ١ : ٤١٢ ، ابن يعيش ٢ : ١٨.

٤٠٣

مررت ، كأنه قال : إنه هو المسكين أحمق ، وهو ضعيف ، وجاز هذا أن يكون فصلا بين الاسم والخبر ، لأن فيه معنى المنصوب الذي أجريته مجرى : إنّا تميما ذاهبون).

قال أبو سعيد : الهاء في (إنه) اسم إنّ ، وأحمق : خبره ، وهو المقدرة مع المسكين : ابتداء وخبر ، وهي جملة قد فصلت بين الاسم والخبر.

ويسمي النحويون هذا وما جرى مجراه : الاعتراض ، وجوزوا ذلك لأن فيه اختصاصا للأول وشبهه الخليل ب (إنّا تميما) للاختصاص فيه ، وهو مع ذلك ضعيف.

ولو قال : إنه المسكين أحمق على الاختصاص والإيضاح ، كان جائزا على معنى : أعني المسكين.

(وإذا قلت : بي المسكين ، كان الأمر ، أو بك المسكين مررت ، فلا يحسن فيه البدل لأنك إذا عنيت المخاطب أو نفسك فلا يجوز أن تكون لا تدري من تعني ، لأنك لست تحدّث عن غائب ، ولكنك تنصبه على قولك :

بنا تميما ، وإن شئت رفعته على ما رفعت عليه ما قبله ، فهذا المعنى يجري على هذين الوجهين والمعنى واحد ، كما اختلف اللفظان في أشياء كثيرة والمعنى واحد).

قال أبو سعيد : لم يجز البدل في المتكلم والمخاطب ، لأنّ الأسماء الظاهرة لا تقع مواقع أسمائها ، لا تقول : قمت زيد ، ولا ذهبت عمرو ، على البدل ، لأنك لا تقول : قام زيد ، وذهب عمرو ، وأنت تريد المتكلم والمخاطب ، ولذلك لا تقول : بالمسكين كان الأمر ، وأنت تريد المخاطب أو المتكلم.

قال : (وأمّا يونس فزعم أنه ليس ترفع شيئا من الترحم على إضمار شيء يرفع ، ولكنه إن قال : ضربته ، لم يقل أبدا إلا المسكين ، يحمله على الفعل ، وإن قال : ضرباني ، قال : المسكينان ، يحمله أيضا على الفعل ، وكذلك : مررت به المسكين ، يحمل الرفع على الرفع ، والجر على الجر ، والنصب على النصب).

وزعم أن الرفع الذي ذكرناه خطأ وهو قول الخليل وابن أبي إسحق.

وإنما رأى يونس ذلك خطأ لأنه يحتاج إلى إضمار وحذف ، فإذا كان إيضاحه وبيانه يستغني عن إضمار وحذف ، كان حمله على ما حضر من الكلام أولى.

وقد ذكرنا ما نصبه يونس مما فيه الألف واللام على الحال. والخليل وابن أبي إسحق ذهبا إلى أن الرفع في باب التعظيم وباب الشتم قد جاء وهو كثير ، وحملا

٤٠٤

هذا عليه.

وقال أبو العباس محمد بن يزيد : أختار قول الخليل وابن أبي إسحق ، وأجيز قول يونس في الموضع الذي نحتاج فيه إلى الإيضاح نحو إضمار الغائب ، والله أعلم.

هذا باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبنيّ على ما هو قبله من

الأسماء المبهمة

(والأسماء المبهمة : هذا ، وهذان ، وهذه ، وهاتان ، وهؤلاء ، وذلك ، وذانك ، وتلك ، وتانك ، وتيك ، وأولئك ، وهو ، وهي ، وهما ، وهن ، وما أشبه ذلك من هذه الأسماء ، وما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني على الأسماء غير المبهمة.

فأمّا المبني على الأسماء المبهمة ، فقولك : هذا عبد الله منطلقا ، وهؤلاء قومك منطلقين ، وهذا عبد الله ذاهبا ، وهذا عبد الله معروفا.

ف (هذا) : اسم مبتدأ ليبنى عليه ما بعده ، وهو : عبد الله ، ولم يكن ليكون هذا كلاما حتى يبنى عليه أو يبنى هو على ما قبله ، فالمبتدأ مسند ، والمبني عليه مسند إليه ، فقد عمل هذا فيما بعده مما يعمل الجارّ والفعل فيما بعده ، والمعنى أنك تريد أن تنبهه له منطلقا ، لا تريد أن تعرّفه عبد الله ، لأنك ظننت أنه يجهله ، فكأنك قلت : انظر إليه منطلقا ، ف (منطلق) : حال صار فيها عبد الله ، وحال بين منطلق وهذا ، كما حال بين راكب والفعل حين قلت : جاء عبد الله راكبا ، صار جاء ل (عبد الله) وصار الراكب حالا ، فكذلك هذا ، وذاك بمنزلة هذا ، إلا أنك إذا قلت : هذا فأنت تنبّه لشيء بحضرتك ، وإذا قلت : ذاك فأنت تنبّه لشيء متراخ ، وهؤلاء بمنزلة هذا ، وأولئك بمنزلة ذاك ، وتلك بمنزلة ذاك ، وكذلك هذه الأسماء المبهمة التي توصف بالأسماء التي فيها الألف واللام).

قال أبو سعيد : ترجم الباب بما ضمنه من الأسماء المبهمة ، وفصّلها ، ومثّلها ، ووصل بها ما ليس مبهم من الأسماء المضمرة وهو ، وهي ، وهما ، وهم ، وهن ، وإنما خلطها بالمبهمة لقرب الشبه بينهما ، ولأنه بني عليها مسائل في الباب ، وعلى أنّ أبا العباس المبرد قال :

علامات الإضمار كلها مبهمة ، والمبهم على ضربين :

٤٠٥

فمنه ما يقع مضمرا ، ومنه ما يقع غير مضمر.

وإنما صارت كلها مبهمة من قبل أنّ هو وأخواتها ، وهذا وأخواتها تقع على كل شيء ولا تفصل شيئا من شيء من الموات والحيوان وغيره.

وأمّا النصب في : هذا عبد الله منطلقا ، وما ذكره معه فعلى الحال ، والعامل فيه أحذ شيئين :

إمّا التنبيه وإمّا الإشارة.

فأمّا التنبيه فهو ب (هاء) ، وأمّا الإشارة فهي ب (ذا) ، فإذا أعملت التنبيه فالتقدير : انظر إليه منطلقا ، وأمّا إذا أعلمت الإشارة فالتقدير : أشير إليه منطلقا ، والمقصد أنك أردت أن تنبه المخاطب ل (عبد الله) في حال انطلاقه ، ولا بد من ذكر منطلقا ، لأن الفائدة به تنعقد ، ولم ترد أن تعرّفه إياه وأنت تقدر أنه يجهله ، كما تقول : هذا عبد الله ، إذا أردت هذا المعنى.

فإن قال قائل : إذا استغنى الابتداء بخبره في قولك : هذا ، فما الذي يضطر إلى ذكر ما ليس بابتداء ولا خبر ، وإنما هو حال والحال مستغنى عنها؟

قيل له : قد يتصل بالاسم والخبر ما ليس باسم ولا خبر ، ولا يتم الكلام إلا به كقوله عزوجل : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(١) ، لو حذفنا (له) وليس هو باسم ولا خبر ، لبطل الكلام ، ولو قلنا : ما في الدنيا رجل يبغضك ، لكان يبغضك في موضع الصفة لرجل ، ورجل مبتدأ ، وفي الدنيا خبره ، وإنما الاعتماد على نفي البغض ، وإنما ذكرت رجلا ليعتمد يبغضك عليه في تصحيح اللفظ ، لأنه لو قال : ما في الدنيا يبغضك ، لم يجز ، ولو قال : ما في الدنيا مبغض لك ، لقبح حيث حذفت الموصوف في موضع يحتاج فيه إلى اسم ، والأصل في ذلك : عبد الله منطلق ، عبد الله : مبتدأ ، ومنطلق : خبره ، ثم اتفق لك قرب عبد الله منك وأردت أن تنبه المخاطب عليه ، فأدخلت هذا للتقريب والتنبيه ، وهو اسم فلا بد له من موقع في الكلام ولإصلاح اللفظ ، وهو أول الكلام ، فرفع هذا بالابتداء وجعل عبد الله خبره ، فاكتفي به ونصب منطلقا على الحال على ما شرحناه.

ولا يستغنى عن منطلق لأنه خبر في المعنى ، كما لا يستغنى عن الرجل في قولك : يا

__________________

(١) سورة الإخلاص ، الآية : ٤.

٤٠٦

أيها الرجل ، وإن كان صفة لأيّها ، لأن الرجل هو المقصود بالنداء في الأصل.

والكوفيون يسمون هذا (التقريب) وفيه وفي أمثاله كلام يطول.

والإشارة بذاك إلى الشيء المتراخي كالإشارة بهذا إلى ما قرب.

وأما قوله : (المبتدأ مسند والمبني عليه مسند إليه) ، فقد ذكرنا فيه في أول الكتاب وجوها ، هذا واحد منها.

قال : (وأمّا هو فعلامة مضمر وهو مبتدأ ، وحال ما بعده كحاله بعد هذا ، وذلك قولك : هو زيد معروفا ، فصار المعروف حالا ، وذلك أنك ذكرت للمخاطب إنسانا كان يجهله أو ظننت أنه يجهله ، وكأنك قلت : انتبه أو الزمه معروفا ، فصار حالا ، كما كان المنطلق حالا حين قلت : هذا زيد منطلقا ، والمعنى أنك أردت أن توضح أن المذكور زيد حين قلت : معروفا ، ولا يجوز أن تذكر في هذا الموضع إلا ما أشبه المعروف ، لأنه يعرّف ويؤكّد ، فلو ذكر هاهنا الانطلاق كان غير جائز ، لأن الانطلاق لا يوضح أنه زيد ولا يؤكده.

ومعنى قوله : معروفا لا شكّ فيه وليس ذا في منطلق.

وكذلك : هو الحقّ بيّنا ومعلوما ، لأنّ ذا مما يوضح ويؤكّد به الحق ، وكذلك : هي ، وهما ، وهم ، وهنّ ، وأنا ، وأنت ، وأنت.

قال ابن دارة :

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للنّاس من عار (١)

قال أبو سعيد : اعلم أن النصب في : هذا زيد منطلقا ، على غير وجه النصب في قولنا : هو زيد معروفا.

ويبين ذلك لك أنك لا تقول : هو زيد منطلقا ، فعلمت أن النصب فيهما مختلف.

أمّا النصب في : هذا عبد الله منطلقا ، فقد ذكرناه.

أمّا نصب : هو زيد معروفا ، فعلى جهة التوكيد لما ذكرته ، وخبّرت به ، وذلك أنك إذا قلت : هو زيد ، فقد خبّرت بخبر يجوز أن يكون حقا ، ويجوز أن يكون باطلا ، وظاهر الإخبار يوجب أن المخبر يحقق ما خبّر به ، فإذا قال : هو زيد معروفا ، فكأنه قال : لا

__________________

(١) الخزانة ١ / ٥٥٣ ، سيبويه ١ / ٢٥٧.

٤٠٧

شكّ فيه ، وكأنه قال : أحقّ ذلك ، والعامل فيه أحقّ وما أشبهه ، وليس في هو ولا في زيد معنى فعل يعمل في (معروفا) ، ولكن الجملة دلّت على أحقّ وأعرف أو نحو ذلك.

ومن أجل ذلك لم يجز أن تقول : هو زيد منطلقا ، لأنه لو صحّ له انطلاقه لم يكن فيه دلالة على صدقه فيما قاله ، كما أوجب قوله : معروفا له نسبي ، أنه أنبّه.

وكل ما أوردت من الحال مما فيه توكيد للإخبار جاز ، (كقولك : هو عبد الله ، وأنا عبد الله فاخرا أو موعدا ، أي أعرفني كما كنت تعرفني ، وبما كان يبلغك عني ، ثم تفسر الحال التي تعلمه عليها أو تبلغه ، فيقول : أنا عبد الله كريما جوادا ، وهو عبد الله شجاعا بطلا) ، وهذه الصفات وما جانسها مما يكون مدحا في الإنسان يعرف بها ، جوز أن تأتي مؤكدة للخبر ، لأنها أشياء يعرف بها فذكرها مؤكد لذاته.

فأمّا منطلقا وقاعدا وما أشبه ذلك مما لا يعتد به الإنسان في مدح ولاذم ، فلا يكون تحقيقا للإخبار.

ومن ذلك قولك : (إني عبد الله ، إذا صغرت نفسك لربك ، ثم تفسر حال العبد فتقول : أكلا كما يأكل العبد) ، فأكلك كما يأكل العبد قد حقق أنك عبد الله ، فعلى هذا المعنى ونحوه يصح ذلك ويفسد.

قال : (وإذا ذكرت شيئا من هذه الأشياء التي هي علامة للمضمر ، فإنه محال أن يظهر بعدها الأسماء وإذا كنت تخبر عن عمل أو صفة غير عمل ولا تريد أن تعرّفه بأنّه زيد أو عمرو) ، يعني : أنك إذا أردت أن تخبر عن الضمير بعمل أو صفة غير عمل ، قلت : أنا منطلق ، وهو ذاهب ، وأنا معروف ، وهو شجاع ، وأنا كريم ، وما أشبه ذلك ، ولم يجز أن تقول : أنا زيد كريم ، ولا هو عمرو شجاع ، فتجعل زيدا بيانا ل (أنا) ، وعمرا بيانا ل (هو) ، لأنهما مستغنيان عن إنسان ، وإنما تقول : أنا زيد ، وهو عمرو ، إذا كنت تعرّف من يجهل أنّك زيد وأنه عمرو ، ثم تأتي بعده الحال التي هي حقيق له على نحو ما ذكرناه.

قال سيبويه : (ولو أن رجلا من إخوانك ومعرفتك أراد أن يخبرك عن نفسه ، أو عن غيره بأمر فقال : أنا عبد الله منطلقا ، وهو زيد منطلقا ، كان محالا لأنه إنما يريد أن يخبرك بالانطلاق ، ولم تقل هو ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية ، لأنّ هو وأنا علامتان للمضمر وإنما يضمر إذا علم أنّك قد عرفت من يعني) وقد بيّنا هذا.

ثم قال : (إلا أن رجلا لو كان خلف حائط أو في موضع تجهله فيه فقلت : من

٤٠٨

أنت؟ فقال : أنا زيد منطلقا في حاجتك ، كان حسنا).

وإنما استحسنه سيبويه في هذا الموضع لأنه كان عهده منطلقا في حاجته من قبل أن يقول له : من أنت؟ ، فصار ما عهده به بمنزلة شيء ثبت له في نفسه كشجاع وبطل وكريم ، فنصبه كنصب : أنا عبد الله كريما ، وهو عبد الله شجاعا بطلا.

قال : (وأمّا ما ينتصب لأنه خبر لمبنيّ على اسم غير مبهم ، فقولك : أخوك عبد الله معروفا ، هذا يجوز فيه جميع ما جاز في الاسم الذي بعد هو وأخواتها ، ويحال فيه ما يحال في الأسماء المضمرة).

قال أبو سعيد : أخوك عبد الله معروفا ، جائز كما يجوز : أنا عبد الله معروفا ، وأخوك عبد الله منطلقا ، لا يجوز ، أنا عبد الله منطلقا ، لأن أخوك إذا كان للنسب فليس هو فيه معنى فعل ينتقل فيكون أخاه في حال دون حال ، فلو قلت : أخوك عبد الله منطلقا ، فكأنه أخوه في حال انطلاقه دون غيرها وقد علم أن (أخوة) النسب لا تنتقل ، ولو قلت : أخوك عبد الله منطلقا ، وأنت تريد به المؤاخاة والمصادقة قد جاز لأنها تنتقل ، وإنما جاز : أخوك عبد الله معروفا وما جرى مجراه مما يحقق به الإخبار ، كما جاز لأنها تنتقل ، وإنما جاز : أخوك عبد الله معروفا وما جرى مجراه مما يحقق به الإخبار ، كما جاز : أنا عبد الله معروفا ، لأنه توكيد للخبر والعامل فيه أحقّ ذلك وما أشبهه.

وتوكيد الجملة ب (أحقّ) ونظائره كتوكيدها باليمين إذا قلت : أخوك عبد الله وأنا عبد الله والله ، وإنما هي جملة يؤكّد بها جملة.

وكان أبو إسحاق الزجاج يقول في قوله : أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ، يجعل الخبر نائبا عن مسمى ويجعل فيه ذكرا من الأول ، ويجعل العامل في (معروفا) هو خبر الاسم الموضع موضع الاسم.

والقول عندي هو الأول ، والله أعلم.

هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة

(وذلك قولك : هذان رجلان وعبد الله منطلقين) ، نصبت منطلقين على الحال ، والعامل فيه التثنية ، لأنك لمّا عطفت عبد الله عليهما وقد وقع عليهما التثنية لحقه التثنية وصار كأنك قلت : هذا عبد الله منطلقا ، ولا يجوز أن تكون النكرة صفة لعبد الله ، (وإن شئت قلت : هذان رجلان وعبد الله منطلقان) ، فجعلت منطلقان نعتا لرجلان ، (وتقول :

٤٠٩

هؤلاء ناس وعبد الله منطلقين ، إذا خلطتهم).

وإذا كان للأول قلت : هؤلاء ناس وعبد الله منطلقون ، وتقول : (هذه ناقة وفصيلها راتعين) ، على قول من جعل فصيلها معرفة ، وهو أفصح اللغتين ، ومن جعلها نكرة وهي أردأهما ، قال : (راتعان ، وهذا على قول من قال : كل شاة وسخلتها ، تريد : كل شاة وسخلة لها بدرهم.

(ومن قال : كل شاة وسخلتها ، فجعلها بمنزلة : كل رجل وعبد الله منطلقا ، لم يقل في الراتعين إلا بالنصب ، لأنه إنما يريد حينئذ المعرفة ، ولا يريد أن يدخل السخلة في كل) وجميع الباب مفهوم وأكثره قد مضى تفسيره فيما قبل. والله أعلم بالصواب.

هذا باب ما يجوز فيه الرفع ممّا ينتصب في المعرفة

قال أبو سعيد : هذا الباب إلى آخره في رفع منطلق من (قولك : هذا عبد الله منطلق).

وقد ذكرناه منصوبا في باب قبل هذا وقد شرحناه.

وذكر رفعه في هذا الباب ، وحكاه عن يونس وأبي الخطاب ، عمن يوثق به من العرب وأفرد الباب به ورفعه من أربعة أوجه ، أظنني ذكرتها فيما مضى وأعيدها هاهنا للاحتياط.

ذكر عن الخليل وجهين ، منها :

أحدهما : (أنك حين قلت : هذا عبد الله ، أضمرت هذا أو هو ، كأنك قلت : هذا منطلق أو هو منطلق.

والوجه الآخر : أن تجعلهما جميعا خبرا ل (هذا) كقولك : هذا حلو حامض ، لا تريد أن تنقض الحلاوة ، ولكنك تزعم أنه جمع الطعمين ، قال الله تعالى : (كَلَّا إِنَّها لَظى * نَزَّاعَةً لِلشَّوى)(١) ، وزعموا أنها في قراءة ابن مسعود : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً)(٢) ، وقال الراجز :

__________________

(١) سورة المعارج ، الآيتان : ١٥ ، ١٦.

(٢) سورة هود ، الآية : ٧٢.

٤١٠

من يك ذا بتّ فهذا بتّي

مقيّظ مصيف مشتىّ (١)

سمعناه ممن يروي هذا الشعر من العرب يرفعه

والوجهان الآخران من الرفع :

أحدهما : أن يجعل عبد الله معطوفا على هذا كالوصف ، وهو عطف البيان فيصير كأنه قال : عبد الله منطلق ، فيكون ـ أيضا ـ بدلا من هذا في هذا الوجه.

والوجه الثاني : أن يكون منطلق بدلا من زيد فيكون التقدير : هذا منطلق ، وتقديره : هذا زيد رجل منطلق ، فيبدل رجل من زيد ثم تحذف الموصوف وتقيم الصفة مقامه ، فيصير : هذا منطلق ، وهو بدل نكرة من معرفة ، كما قال تعالى : (بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ.)(٢)

فهذه أربعة أوجه في الرفع.

قال : (وأمّا قول الأخطل :

ولقد أبيت من الفتاة بمنزل

فأبيت لا حرج ولا محروم (٣)

فزعم الخليل : أن هذا ليس على إضمار (أنا) ولو جاز على إضمار (أنا) لجاز : كان عبد الله لا مسلم ولا صالح ، على إضمار (هو).

ولكنه فيما زعم الخليل على قوله : (فأبيت) بمنزلة الذي يقال له : لا حرج ولا محروم ، ويقويه في ذلك قوله :

على حين أن كانت عقيل وشائظ

وكانت كلاب خامري أمّ عامر (٤)

هجا هذا الشاعر عقيلا وكلابا ، فأمّا عقيل فجعلهم وشائظ واحدهم : وشظ ، والوشظ : الخسيس ، والوشيظ : الزائد في القوم الملزّق بهم.

قال جرير يهجو التّيم :

يخزى الوشيظ إذا قال الصّميم لهم

عدّوا الحصى ثم قيسوا بالمقاييس (٥)

__________________

(١) البيت ينسب لرؤبة بن العجاج ملحقات ديوانه / ١٨٩ ابن يعيش ١ / ٢٥٨.

(٢) سورة العلق ، الآيتان : ١٥ ، ١٦.

(٣) ديوان الأخطل / ٨٤ ، سيبويه ١ / ٢٥٩.

(٤) في سيبويه ٢ / ٨٥ ونسبه للربيع الأسدي.

(٥) ديوان جرير / ٢٥٠.

٤١١

والصميم : الصحيح النسب.

وأمّا كلاب فجعلهم حمقى ، وذلك أنّ أمّ عامر هي الضّبع ، والعرب تستحمقها وتذكر من حمقاتها أنها يقال لها : خامري أم عامر ، أي : ادخلي الخمر فتدخل جحرها فيصطادونها ، ويكون التقدير في البيت : وكانت كلاب يقال لها : خامري أمّ عامر ، كأنه قال : وكانت كلاب من حماقتها كضبع يقال لها : خامري أم عامر ، فهذا كله تأييد لقول الخليل ، ويؤيّد أيضا ـ قوله :

(كذبتم وبيت الله لا تنكحونها

بني شاب قرناها تصرّ وتحلب (١)

أي بني من يقال له ذلك). لأنه يجعله كأنه حكاية لما كان يتكلم به قبل ذلك ، فكأنه حكى اللفظ كما كان.

قال سيبويه : (وقد زعم بعضهم أنّ رفعه على النفي كأنه قال : فأبيت لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا به).

قال : (وهذا التفسير كأنه أسهل).

وإنما صار عنده أسهل لأنّ المحذوف خبر حرج وهو ظرف ، وحذف الخبر في النفي كثير كقولنا : لا حول ولا قوة إلا بالله ، أي : لا حول لنا ولا قوة لنا.

وقد قال بعض النحويين : لا أنا حرج ، ولا أنا محروم ، فيحذف المبتدأ ، وقد ذكر حذفه في مواضع.

هذا باب ما يرتفع فيه الخبر لأنّه مبنيّ على مبتدإ

(وتنصب فيه الخبر لأنه حال لمعروف مبنيّ على مبتدإ. فأما الرفع فقولك : هذا الرجل منطلق).

هذا : مبتدأ ، والرجل : صفته وليس على معهود ، ومنطلق : خبره.

وهذا مع الاسم بمنزلة اسم واحد (كأنك قلت :

هذا منطلق.

قال النابغة :

توهمت آيات لها فعرفتها

لستّة أعوام وذا العام سابع (٢)

__________________

(١) المقتضب ٤ / ٩ ، سيبويه ١ / ٢٥٩.

(٢) ديوان النابغة / ٥٠.

٤١٢

كأنه قال : وذا سابع.

وأمّا النصب فقولك : هذا الرجل منطلقا.

جعلت الرجل مبنيا على هذا ، وجعلت الخبر حالا له قد صار فيها فصار كقولك : هذا عبد الله منطلقا ، والرجل هاهنا معهود ، وإنما يريد في هذا الموضع أن تذكر المخاطب برجل قد عرفه قبل ذلك ، وهو في الرفع لا يريد أن يذكّره بأحد ، إنما أشار فقال : هذا منطلق) ، وقد ذكرنا في صفات المبهمة أنها توصف بما فيه الألف واللام على غير عهد.

قال : (فكأنّ ما ينتصب من أخبار المعرفة ينتصب على أنه حال مفعول فيها ، لأن المبتدأ يعمل فيما يكون بعده ويكون فيه معنى التنبيه والتعريف ، ويحول بين الخبر وبين الاسم المبتدإ كما يحول الفاعل بين الفعل والخبر).

يريد أن الحال في قولك : هذا الرجل منطلقا ، وهذا عبد الله منطلقا ، مفعول فيها لأن المعنى : انتبه له في هذه الحال.

وقوله : (لأن المبتدأ يعمل فيما بعده) ، معناه : يرفع ما بعده من الخبر وقد ذكرنا فيه قولين :

أحدهما : أنه يرفع الخبر.

والآخر : أن الابتداء يرفع المبتدأ.

والمبتدأ والابتداء يرفعان الخبر ، والظاهر من كلامه في هذا الموضع أن المبتدأ هو العامل ، وقد يجوز أن يريد بالمبتدإ إذا كان إشارة عمل فيما بعده ، نحو : هذا وما جرى مجراه ، وقد ذكرنا عمل هذا فيما بعده ، وعمل المبتدإ فيما بعده كعمل الفعل فيما بعده من حيث كانا عاملين ، وإنما أراد أن يريك حالين في منطلق من المبتدإ ومن الفعل ، تقول : هذا منطلق ، فيرتفع منطلق بأنه خبر هذا ويعمل فيه هذا ، ثم يدخل الرجل أو عبد الله بعد هذا خبرا لهذا فيحول بين منطلق وبين هذا ، أن يكون منطلق خبرا له ، فيصير حالا كما تقول في الفعل : ذهب منطلق ، فيرتفع منطلق ، وبين منطلق أن يرتفع بالفعل ، ثم تقول : ذهب زيد منطلقا ، فيحول زيد بين ذهب وبين منطلقا أن يرتفع به ليصير حالا قد ثبت فيها وصار فيها كما أن الظرف موضع قد صيّر فيه بالنية ، وإن لم تذكر فعلا وذلك أنك إذا قلت : فيها زيد ، فكأنك قلت : استقر فيها زيد ، وإن لم تذكر فعلا وهنا أفصح سيبويه

٤١٣

بنصب الظرف ب (استقر) ثم شبّه نصب الظروف بنصب عشرين بما بعده من اسم النوع المميّز.

وإنما نصب عشرون اسم النوع لأنه ليس من صفته ، فيكون بمنزلة : هذه عشرون جياد ، ورأيت عشرين جيادا ، ومررت بعشرين جياد ، ولا هو عطف عليه ، فيكون بمنزلة : هذه عشرون ورجل ، ورأيت عشرين ورجلا ، ومررت بعشرين ورجل ، فشبّه عشرون رجلا بضارب زيدا قال : (وأمّا : (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً)(١) ، فإن الحق لا يكون صفة ل (هو) من قبل أن هو لا يوصف لأنه مضمر ولا يوصف المضمر بالمظهر أبدا ، فمن ثمّ لم يكن في هو الرفع) ، يعني : لم يكن في هو الحق مصدق ، على أن يجعل هو مبتدأ ، والحق نعت له ، ومصدقا خبرا ، كما تقول : هذا الرجل منطلق ، بأن تجعل الرجل نعت هذا ، ومنطلق خبره ، فلمّا لم يجز أن يوصف هو فيجعل الحق صفة ، وجب رفع الحق بخبر هو ، ونصب مصدقا على الحال. والله أعلم.

هذا باب ما ينتصب فيه الخبر لأنه خبر لمعروف يرتفع

على الابتداء

(قدمته أو أخرته.

وذلك قولك : فيها عبد الله قائما ، وعبد الله فيها قائما. ف (عبد الله) ارتفع بالابتداء ، لأن الذي ذكرت قبله وبعده ليس به ، وإنما هو موضع له ، ولكنه يجري مجرى الاسم المبني على ما قبله.

ألا ترى أنك لو قلت : فيها عبد الله ، حسن السكوت وكان كلاما مستقيما ، كما حسن واستغنى في قوله : هذا عبد الله ، وتقول : عبد الله فيها ، فيصير كقولك : عبد الله أخوك ، إلا أن عبد الله يرتفع مقدما كان أو مؤخرا بالابتداء ، ويدلك على ذلك أنك تقول : إن فيها زيدا).

قال أبو سعيد : مذهب سيبويه أن الاسم يرتفع بالابتداء أخرت الظرف أو قدمته.

وقال الكوفيون : إذا تقدم الظرف ارتفع الاسم بضمير له مرفوع في الظرف

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ٣١.

٤١٤

المتأخر ، فكان من حجة سيبويه في ذلك أنا إذا أدخلنا إنّ ، نصبنا الاسم وإن كان قبله ظرف كقولنا : في الدار زيدا.

فلو كان في الدار يرفع زيدا قبل دخول إنّ لما غيرتها إنّ عن العمل. كما أنّا لو قلنا : إن يقوم زيدا ، لم يجز أن تبطل عمل (يقوم) ، بل يقال : إن يقوم زيد ، على معنى إنه يقوم زيد ، كذلك : إن في الدار زيد ، على معنى : أنه في الدار زيد.

فلّما كانت العرب تنصب ذلك مع تقديم الظروف ، علمنا أن ارتفاعه بالابتداء ، وهذا في القرآن وسائر الكلام أكثر من أن يحصى ، قال الله تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً)(١) ، و (إِنَّ لَنا لَأَجْراً)(٢) ، وما أشبهه.

ومما يدل على بطلان ما قالوه ، إجماعهم على جواز : في داره زيد ، فإن كان زيد مرفوعا بالظرف فلا يجوز إضماره قبل الذكر ، وليس النية التأخير وإنما يجوّز سيبويه وأصحابه : في داره زيد ، لأن النية :

زيد في داره ، فإن قلت : في الدار زيد قائم ، وعندك عمرو مقيم ، فلك في الظرف وجهان :

أحدهما : أن تجعله خبرا للاسم وتنصب الصفة على الحال ، فتقول : في الدار زيد قائما ، وعندك عمرو مقيما ، ويكون العامل الناصب لعند استقر المقدّر وناب عند : عن استقر ، والعامل في الحال هو الظرف النائب عن استقر.

والوجه الآخر : أن تجعل خبر الاسم الصفة وترفعها ، وتجعل العامل في الظرف الصفة ، كقولك : عندك عمرو مقيم ، الناصب ل (عند) هو مقيم ، وإنما تضمر استقر إذا كان الظرف في موضع الخبر أو الصفة أو الحال ، فأمّا الخبر فقولك : زيد خلفك ، وخلفك زيد ، وكان زيد خلفك ، وأنّ زيدا خلفك.

والصفة : مررت برجل عندك ، والحال : مررت بزيد عندك.

وسيبويه يسمي الظرف إذا لم يكن خبرا ملغى لأنّه يتم الكلام بإلغائه وإسقاطه ، وذلك قوله :

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ١٢.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١١٣.

٤١٥

(وإن شئت ألغيت فيها ، فقلت : فيها عبد الله قائم) ، جعل قائم هو الخبر ، وجعل فيها لغوا.

(قال النابغة :

فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة

من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع (١)

ف (ناقع) خبر السم ، و (في) لغو.

(وقال الهذلي :

لا درّ درّي إن أطعمت نازلهم

قرف الحتىّ وعندي البرّ مكنوز (٢)

كأنك قلت : البرّ مكنوز عندي ، وعبد الله قائم فيها. فإذا نصبت القائم ، ف (فيها) قد حالت بين المبتدإ والقائم ، واستغنى به وحمل المبتدأ حين لم يكن القائم مبنيا عليه عمل هذا زيد قائما ، وإنما يجعل فيها إذا رفعت القائم مستقرا للقيام وموضعا له).

ومن كلام سيبويه : حتى كان للفظ موضع من كلام ثم دخل شيء صيّر له موقع الأول ، وصار للأول موقع غير موقعه الأول أن هذا الداخل قد حال بين الذي تغير موقعه وبين اللفظ الذي وقع الداخل منه موقع الأول ، فمنه ما قد مضى ومنه هذا ، وتمثيله أنك إذا قلت : عبد الله قائم ، فقائم خبر عبد الله ، فإن أدخلت فيها وبقّيت قائم على رفعه فإن فيها ما حالت بين شيئين وهي : مستقر للقيام ، وموضع له قدمتها على عبد الله أو وسطتها بين عبد الله وبين قائم أو أخرتها إلى آخر الكلام ، وإن جعلت فيها خبرا ل (عبد الله) فقد أوقعتها موقع قائم ، وقد بطل أن يكون (قائم) خبرا ل (عبد الله) لأنّ فيها قد حالت بينه وبين عبد الله أن يكون خبرا له ، وصار ل (قائم) موقع آخر من الكلام فاعتبر ذلك في جميع ما يقول سيبويه فيه أنه قد حال بينه وبين كذا إن شاء الله تعالى.

ولو قال قائل : في الدار زيد قائم ، لم يجز له أن يسكت على قوله : في الدار زيد ، كما لو قال : عبد الله زيد ضارب ، لم يجز له أن يسكت على : عبد الله زيد.

واستدل سيبويه ـ أيضا ـ على أن عبد الله لا يرتفع بالظرف إذا تقدم ؛ أنّا نقول : في

__________________

(١) ديوان النابغة / ٥١ ، شرح شواهد المغني / ٣٠٥.

(٢) البيت للمتنخل الهذلي ديوان الهذليين ٢ / ١٥ ، البيان والتبيين ١ / ١٧.

٤١٦

الدار زيد قائم ، فيرتفع بغير الظرف بإجماع النحويين.

البصريون يقولون :

يرتفع بالابتداء.

والكوفيون يقولون : يرتفع ب (قائم) ، وقائم ب (زيد) ، فلو كان فيها يحدث الرفع فيما بعدها لأحدثتها متى تقدمت ، ولم يلغ كما لا يلغى الفعل إذا تقدم الفاعل.

ثم احتج بحجة أخرى فقال : (ولو كان عبد الله يرتفع ب (فيها) لارتفع بقولك : بك عبد الله مأخوذ) ، ولا خلاف بينهم أن عبد الله لا يرتفع ب (بك) ، وكأن قائلا قال لسيبويه : إن بك لا تشبه فيها ، لأن عبد الله لا يتم الكلام به ، وفيها عبد الله يتم الكلام به ، فأجاب عن هذا بأن العامل الذي يتم به الكلام والعامل الذي لا يتم به الكلام سواء لا يتغير ، ألا ترى أنّ كان عبد الله لا يكون كلاما ، وضرب عبد الله كلام ، وعملهما واحد.

(ومما جاء في الشعر مرفوعا ، قوله :

لا سافر النّيّ مدخول ولا هبح

عاري العظام عليه الودع منظوم (١)

فجميع ما يكون ظرفا تلغيه إن شئت).

أي : جميع ما يكون خبرا للاسم ، وظرفا تلغيه إذا جئت بخبر سواه على ما مضى من الكلام.

قال : (ومثل قولك : فيها عبد الله قائما ، هو لك خالصا ، وهو لك خالص) ، بمنزلة : عبد الله فيها قائم ، فإذا نصبت ف (لك) خبر ، وهو في التقديم بمنزلة : أهبه لك خالصا على نحو ما تقرر استقر وشبيهه ، وإن قلت : خالص جعلته خبر هو ، وجعلت لك من صلة خالص كأنك قلت : خلص لك.

قال : (وقد قرئ هذا الحرف على وجهين :

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٢) ، بالرفع والنصب).

قال أبو سعيد : هي عند سيبويه مبتدأ وللذين آمنوا : خبر ، وخالصة : منصوب على

__________________

(١) البيت لتميم بن مقبل ديوانه / ٢٦٩.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٣٢.

٤١٧

الحال ، والعامل فيها اللام على تقدير : استقر وما أشبه ذلك كقولنا : عبد الله في الدار قائما.

فإن قال قائل : الحال مستصحبة فكيف تكون خالصة في يوم القيامة والتي هي لهم في الحياة الدنيا؟

قيل له : الحال على كل حال مستصحبة ، وقد يكون الملفوظ به من الحال متأخرا بتقدير شيء مستصحب ، كقوله تعالى : (طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ)(١) ، وقد علم أن الخلود إنما هو إقامتهم فيها الدائمة ، وليس ذلك في حال دخولهم ، وتقديره : ادخلوها مقدرين الخلود أو مستوحين الخلود ، وقيل في قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ)(٢) وليس في حال الدخول حلق ولا تقصير ، وإنما هو شيء يقع بعد الدخول ، وإنما يقع مثل هذا فيما علم ووثق به.

ولو قيل للإنسان : ادخل الدار ، فقال : وما أصنع فيها؟ لجاز أن يقال : ادخلها آكلا فيها شاربا على معنى مقدّرا ذلك ومستوحيا.

قال : (وبعض العرب يقول : هو لك الجماء الغفير ، فيرفع كما يرفع الخالص) وينصب.

فيقال : هو لك الجماء الغفير ، ف (هو) مبتدأ ، ولك : خبره ، والجماء الغفير : حال ، وقد مضى شرحها. (والنصب أكثر لأن الجماء الغفير بمنزلة المصدر ، فكأنه قال : هو لك خلوصا) ، وخلوصا في معنى خالصا ، لأن المصدر يكون في موضع الحال ، (فهذا تمثيل ولا يتكلم به ، ومما جاء في الشعر قد انتصب خبره وهو مقدم قبل الظرف ، قوله :

إنّ لكم أصل البلاد وفرعها

فالخير فيكم ثابتا مبذولا (٣)

وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقول : أتكلم بهذا وأنت هاهنا قاعدا.

قال : ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه أمر ، قول العرب : هو رجل صدق معلوما

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٧٣.

(٢) سورة الفتح ، الآية : ٢٧.

(٣) سيبويه ١ / ٢٦٢.

٤١٨

ذاك ، وهو رجل صدق معروفا ذاك ، وهو رجل صدق بيّنا ذاك ، كأنه قال : هذا رجل صدق معروفا صلاحه ، فصار حالا وقع فيه أمر لأنك إذا قلت : هو رجل صدق ، فقد خبرت بأمر ثم جعلت ذلك المرفوع على هذه الحال ، ولو رفعت كان جائزا على أن تجعله صفة ، كأنك قلت : هو رجل معروف صلاحه.

ومثل ذلك : مررت برجل حسنة أمّه كريما أبوها). ولا يجوز أن تقول : كريم أبوها بالجر ، لأنك إذا جررت فهو نعت لرجل ، وليس فيه ما يعود إلى الرجل ، وإذا نصبت فهو حال كرم أبيها.

(زعم الخليل : أنه أخبر عن الحسن أنه وجب لها في هذه الحال ، وهو كقولك : مررت برجل ذاهبة فرسه مكسورا سرجها.

والأول كقولك : هو رجل صدق معروفا صدقه ، وإن شئت قلت : معروف ذاك ، ومعلوم ذاك ، على قولك : ذاك معروف ، وذاك معلوم. سمعته من الخليل) ، وقد أتى التفسير على ذلك كلّه.

هذا باب من المعرفة يكون فيه الاسم الخاص

شائعا في الأمة

ليس واحد منها أولى به من الآخر ، ولا يتوهّم به واحد دون آخر له اسم غيره ؛ نحو قولك للأسد : أبو الحارث ، وأسامة ، وللثعلب : ثعالة ، وأبو الحصين ، وسمسم ، وللذئب : دألان ، وأبو جعدة ، وللضبع : أمّ عامر (١) وحضاجر (٢) ، وجعار (٣) ، وجيأل ، وأم عنثل ، وقتام (٤).

وقد ذكر سيبويه : أم رعم ، وأم خثّور ، وأم خنّوز ، وأم رمال ، وأم رشم (٥) ، وأم جعور ، وأم الهنبر (٦) ،وأم نوفل (٧) ،ويقال للضّبان:قثم. ومن ذلك للغراب :ابن بريح.

قال أبو سعيد : قد تكلمت العرب بأسماء كثيرة معارف مفردة ، ومن الكنى بالآباء

__________________

(١) أم عامر : الضبع.

(٢) الحضجر : العظيم البطن ، ثم سمي به الضبع.

(٣) لكثرة جعارها.

(٤) غبار.

(٥) الرشم : سواد في وجه الضبع.

(٦) الهنبر : هي الحمارة الأهلية.

(٧) ذكر الضباع.

٤١٩

والأمهات والبنين والبنات لا يتسع كتابنا هذا لاستقصاء ذكرها.

فنذكر شيئا من كلّ باب لنعلم اتساع العرب في هذا النحو.

فمن الكنى بالآباء ، قال الأصمعيّ (١) : يقال للذئب : أبو جعادة.

وقال أبو عبيدة (٢) : يقال للذئب : أبو غسلة ، وأبو مزقة (٣). وقال أبو زياد (٤) : يقال للذئب : أبو ثمامة. ويقال للأبيض : أبو الجون ، وللأسود : أبو البيضاء ، ويدعى الأعمى : أبا البصير. وقال الأصمعيّ : يدعى القرد : أبا قيس.

قال : ويقال لطائر فيه ألوان من سواد وبياض يتغيّر في النّهار ألوانا : أبو براقش ، وأنشد :

يغدو عليك مرجّلين

كأنهم لم يفعلوا

كأبي براقش كلّ لون

لونهذا يتخيّل (٥)

ومن الكنى بالأمّهات ، يقال للداهية : أم حبوكر ، وأم ناز ، وأم حشاف ، وأم الرّبيق ، وأمّ اللهيم.

ويقال للأمر الذي لا منفذ له : أمّ صبّور ، وأنشدوا :

أوقعه الله لسوء سعيه

في أم صبّور فأودى ونشب (٦)

ومن كنى الخمر : أمّ ليلى (٧) ، وأم حنين ، وأمّ زنبق ، وأمّ الخلّ. قال مرداس بن خذام الكاهليّ :

رميت بأم الخلّ حبة قلبه

فلم ينتعش منها ثلاث ليال

__________________

(١) هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي أحد أئمة العلم باللغة والشعر ولد وتوفي بالبصرة (١٢٢ ـ ٢١٦ ه‍). نزهة الألباء ١٥ ، جمهرة أنساب العرب ٢٣٤.

(٢) معمر بن المثنى التيمي ولد وتوفي بالبصرة (١١٠ ـ ٢٠٩ ه‍) وقال عنه الجاحظ : لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. طبقات النحويين واللغويين ١٩٢ ، بغية الوعاة ٣٩٥.

(٣) لأن لونه يشبه لون المزقة ، والمزقة : الطائفة من اللبن.

(٤) يزيد بن عبد الله كان من سكان بادية العراق ودخل بغداد في أيام المهدي العباسي ، خزانة الأدب ٣ / ١١٨.

(٥) البيتان لعقيبة بن هبرة الأسدي وهو شاعر مخضرم توفي سنة ٥٧ ه‍ ، الخزانة ١ / ٣٤٣.

(٦) البيت منسوب لأبي الغريب النصري. اللسان (صبر).

(٧) كنية للخمر السوداء ، وليلى : نشوة الخمر.

٤٢٠