شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

جرى ذكره ، ولو أظهر ذلك الضمير لم يقع فيه خلاف ، وجواز الصفة وحسن القلب فيه كقولنا :

مررت برجل معه صقر صائد بصقر ، ومررت برجل معه جبّة لابس غير جبّة ، وكذلك : مررت برجل حسن الوجه جميل الوجه.

فإذا أظهر الكناية جاز قلبه ولم يقع بينهم خلاف في جوازه ، ولا فرق في التحصيل من أن يكون مضافا إلى ظاهر أو مكنىّ في صحة معنى الصفة ، ألا ترى أنك تقول :

مررت برجل ملازمك ومكرمك ، وما أشبه ذلك ، كما تقول : مررت برجل ملازم زيد ومكرم عمرو ، وما أشبه ذلك ، ثم ألزمهم في نصبهم لقبح القلب أن ينصبوا المعرفة في قولهم : مررت بعبد الله معه بازك الصائد به ، ولا وجه لنصب الصائد إلا على هذه الحال ، ولا تجوز الحال فيما فيه الألف واللام من نحو الصائد وما أشبهه.

وقال في بعض ما نصبوه مما لا يحسن فيه القلب أن نصبه على الحال تجوز إذا حمل على الضمير الذي ذكرناه وفسرناه ، وبعضه يجوز وليس بوجه الكلام لأن المتكلم لا يريد الوجه الذي تصبح به الحال كقوله : مررت برجل حسن الوجه جميله ، إذا نصبنا جميله على الحال أنه حسن وجهه في حال جماله ، وليس ذلك بالمقصود من كلام الناس وإن أراده مريد فهذا إعرابه.

(ونحو ذلك ممّا الوصف فيه أحسن : هذا رجل عاقل لبيب ، لم تجعل الآخر حالا وقع فيه الأول ولكنه أثنى عليه) بعاقل ولبيب (وجعلهما شرعا سواء فيه وسوى بينهما في الإجراء على الاسم ، والنصب فيه جائز على ما ذكر فيه) ، فيقول : هذا رجل عاقل لبيبا ، وتقديره :

يعقل في حال لبّه (وإنما ضعف لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال ، ولكنه أراد أنهما ثابتان ولم يكن واحد منهما قبل صاحبه كما تقول : هذا رجل سائر راكبا دابة) ، وحسن سائر راكبا ، لأن تقديره : يسير راكبا ، وهو كلام حسن جيد مفيد.

(وقد يجوز في سعة الكلام) : هذا رجل عاقل لبيبا ، وحسن الوجه جميله على التقدير الذي ذكرناه.

قال : (ولا ينقض المعنى في أنهما شرع سواء فيه ، وسترى هذا النحو في كلامهم) ونحو هذا في كلامهم قول قائلهم : قم قائما ، وقد علم أن وقوع القيام في حال ما هو

٣٨١

قائم ، وقال الله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(١) وقد علم أنه رسول في حال الإرسال.

قال : (فأما القلب فباطل لو كان ذلك لكان الحدّ والوجه في قولهم : مررت بامرأة آخذة عبدها فضاربته ، النصب ، لأن القلب لا يصلح ، ولقلت : مررت برجل عاقلة أمّة لبيبة ، لأنه لا يصلح أن تقدم لبيبة فتضمر فيها الأم ، ثم تقول : عاقلة أمه ، وسمعناهم يقولون : هذه شاة ذات حمل مثقلة به ، قال الشاعر وهو حسان بن ثابت :

ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم

وفينا نبيّ عنده الوحي واضعه (٢)

ومما يبطل القلب قولهم : زيد أخو عبد الله مجنون به ، إذا جعلت الأخ صفة ، والجنون من زيد بأخيه لأنه لا يستقيم : زيد مجنون به أخو عبد الله ، وتقول : مررت برجل معه كيس مختوم عليه ، الرفع الوجه لأنه صفة الكيس ، والنصب جائز على قوله : فيها رجل قائما ، وهذا رجل ذاهبا).

قال أبو سعيد : ألزمهم بقبح القلب نصب خبر المبتدإ في : زيد أخو عبد الله مجنون به ، وذلك أن زيدا مبتدأ ، وأخو عبد الله صفته ، ومجنون به خبره ، والهاء تعود إلى عبد الله ، ولو قيل : زيد مجنون به أخو عبد الله ، لم يجز.

قال أبو سعيد : قد ذكرنا من الاحتجاج لبطلان اعتبار القلب ما فيه مقنع وكثّر سيبويه المسائل في ذلك تشنيعا على قائله وتقبيحا له ، وقد طعن في استشهاده بالبيت ، والذي قاله صحيح على ما أذكره.

جعل سيبويه الهاء في واضعه ضمير الوحي ، وفي واضعه ضمير فاعل للرسول ، وقوله : عنده الوحي صفة لرسول ، وواضعه صفة أخرى ، ومعناه : مفشيه وذاكره ، لأنهم ظنوا أنه يخفي ما دبروه فيبلغوا إرادتهم ، فأفشاه الوحي فبطل ، ولا يحسن القلب فيه لأن الهاء في واضعه ضمير الوحي ، فإن قلب فقيل :

وفينا رسول واضعه عنده الوحي ، فقد قدّم ضمير الوحي وهو الهاء في واضعه ، ومعنى الوحي في البيت هو ما بيّنه الله بالوحي من صنيع القوم ، والذي كشفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٧٩.

(٢) ديوان حسان بن ثابت / ٢٧١ ، سيبويه ١ / ٢٤٢.

٣٨٢

بالوحي ، وكشفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه ، وليس بحقيقة الإيحاء ، فهذا طريق واضح واحتجاج صحيح من سيبويه والذي ردّ على سيبويه ذهب إلى الظاهر من الوحي الذي هو نزول الملك عليه ، وليس ذلك ممّا يضعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل هذا القائل الهاء في واضعه للذي صنعتم كأنه قال : وفينا رسول الله عنده الوحي مبين ما صنعتم ، ولو قدم واضعه على هذا التأويل ، فقال : وفينا رسول واضعه ، لجاز لأن الهاء ترجع إلى الصنيع ، وقد تقدم ذكره في واضعه معنى آخر ، وهو أن يكون من قولنا :

وضعت الشيء ، أي : وضعت منه وأسقطته ، فيكون وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصنعهم إسقاطه وإبطاله. وفيه وجه آخر :

أن يكون الوحي مبتدأ ، وواضعه : خبره ، وعنده : ظرف لواضعه ، أو تقدير الكلام. وفينا رسول الوحي واضع ما صنعتم عنده.

قال : (فاعلم أنك إذا نصبت في هذا الباب ، فقلت : مررت برجل معه صقر صائدا غدا ، فالنصب على حاله ، لأنّ هذا ليس بابتداء ولا يشبه فيها (عبد الله قائم غدا) لأن الظروف تلغى حتى يكون المتكلم كأنه لم يذكرها في هذا الموضع ، فإذا صار مجرورا أو عاملا فيه فعل أو مبتدأ لم يلغه لأنه ليس يرفعه الابتداء.

وفي الظروف إذا قلت فيها : أخواك قائمان. ترفعه بالابتداء).

قال أبو سعيد : في هذا الفصل من كلام سيبويه ما يختلف في معناه ، والذي أقوله :

إن سيبويه أراد أن إلغاء الظرف ورفع ما بعده على الابتداء والخبر لا يجوز في هذا الموضع ، كما يجوز في المبتدإ الذي ليس قبله شيء كقولك مبتدئا : معك زيد قائما وقائم بالرفع والنصب ، فإن نصبته جعلت معك خبر زيد ، وجعلت زيدا مبتدأ ، ونصبت قائما على الحال ، وإن رفعت قائما ألغيت معك وقدّرت زيد قائم ، وقائم رفع لأنه خبر ، وكذلك فيها عبد الله قائم ، يجوز إلغاء فيها ورفع قائم فيكون التقدير : عبد الله قائم ، ولا يجوز الإلغاء إذا اتصل الظرف بما يكون نعتا له أو خبرا أو حالا إذا كان مع الظرف الضمير العائد إلى الأول ، وذلك قولك في نعت المجرور : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، وفي المنصوب الذي يعمل فيه : رأيت رجلا معه صقر صائدا به غدا ، وفي المبتدإ : زيد معه صقر صائدا به غدا.

وهذا معنى قوله : (فإذا صار مجرورا أو عاملا فيه فعل أو مبتدأ لم تلغه) ، وإلغاؤه

٣٨٣

أنك لو حذفت معه لم يعد إلى المنصوب شيء من نعته ، ولا إلى المبتدإ شيء من خبره ، لأن قولك : معه صقر : جملة ، فإذا كانت في موضع نعت أو خبر أو حال لم يكن بدّ من عائد يعود إليه ، والعائد هو : الهاء في (معه) ، وإذا كان الكلام مبتدأ ليس قبله شيء فليس يمتنع من إسقاط الظرف مانع ، كقولك : فيها عبد الله قائم غدا ، وفيها أخواك قائمان لا يخل بالكلام إسقاط الظرف وإلغاؤه.

وقد ظن من فسّر الكتاب : أن سيبويه يرفع الاسم بالظرف لا بالابتداء ، فيكون (صقر) مرفوعا معه ، ويتأول قوله : (لأنه ليس يرفعه الابتداء) ، والذي عندنا من مذهب سيبويه في هذا الموضع وفي غيره أن الاسم تقدم أو تأخر يرتفع بالابتداء ، كقولك : خلفك زيد ، وعندك مال ، لأنك إذا قلت : إن عندك مالا ، نصبته ب (إنّ) والذي تنصبه إنّ هو الذي يرفعه الابتداء.

وأما قول سيبويه : (لأنه ليس يرفعه الابتداء) ، ترجع الهاء في (لأنه) إلى أول الكلام ، وإنما يريد ، لأن الهاء المجرورة في (معه) فاعرف ذلك إن شاء الله.

قال أبو سعيد : وفيما يرد من كلام سيبويه ما يحتاج إلى تبيين أصول تسهله ، فمن ذلك : أن اسم الفاعل إذا جرى على من هو له صفة أو حالا أو خبرا أو صلة ، لم يحتج إلى إظهار فاعله ، وكان الفاعل مضمرا فيه منونا وإن جرى على غير من هو له احتجت إلى إظهار فاعله كقولك في الصفة : مررت برجل معه امرأة ضاربها.

فضاربها : مخفوضا ، صفة لرجل ولا تحتاج إلى شيء بعده فإن قلت : ضاربها بالرفع احتجت أن تقول : ضاربها هو ، لأنك إذا رفعت فهو صفة للمرأة وفعل للرجل ، فجعلت ، ضاربه صفة لغير من هو فاعله فاحتجت إلى إظهار الفاعل ، وإن قلت : مررت برجل معه امرأة ضاربته لم يحتج إلى إظهار شيء بعده ، لأن ضاربته صفة لها وفعل لها ، وإن قلت : ضاربته بالخفض فجعلتها نعتا للرجل احتجت إلى أن تقول : ضاربته هي ، فتظهر اسم الفاعل فتقول : ضاربته هي ، ولو جعلت مكان اسم الفاعل فعلا ، لم تحتج إلى إظهار شيء وتكتفي بالضمير الذي فيه ، ويكون صفة لغير من هو له ، تقول : مررت برجل معه امرأة تضربه ، ومررت برجل معه امرأة يضربها.

فتجعل تضربه ويضربها صفة لمن شئت منهما ولا تحتاج إلى إظهار اسم الفاعل المستكن في الفعل ألا ترى أنك تقول : مررت برجل تضربه ، فيكون تضربه في موضع

٣٨٤

الصفة له ، والفاعل المخاطب.

ولو قلت : مررت برجل ضاربه ، لم يجز حتى تقول :

أنت ، ولو قلت : مررت برجل يضربك ، ورددته إلى اسم الفاعل لقلت : مررت برجل ضاربك ، ولم تحتج إلى إظهار الفاعل.

قال سيبويه : (وتقول : مررت برجل معه امرأة ضاربته) ، فهذا بمنزلة : مررت برجل معه كيس مختوم عليه ، فهذا جرى على من هو له ، فإن قلت : ضاربها ، جررت صفة لرجل ونصبت حالا من الهاء ، وإن شئت قلت : ضاربها هو ، فيكون (هو) توكيدا للضمير الذي في ضاربها ، ويجوز أن يكون منفصلا فاعلا للضرب ، كقولك : مررت بامرأة ضاربها زيد ، وإن شئت جررت وجئت ب (هو) توكيدا ، فقلت : برجل معه امرأة ضاربها هو.

قال : (ومثل قولك : ضاربها هو قولك : مررت برجل معه امرأة ضاربها ، هو قولك : مررت برجل معه امرأة ضاربها أبوه ، إذا جعلت الأب مثل زيد) ، يعني يكون ضاربها هو متبدأ وخبرا في موضع نعت المرأة ، وكذلك إذا قلت : ضاربها أبوه ، ولو جعلت مكان أبوه زيدا جاز أيضا ، فقلت : مررت برجل معه امرأة ضاربها زيد مبتدأ وخبر في موضع نعت المرأة ، والعائد من المرأة إلى الجملة (الهاء) في ضاربها ، وذكر أبوه فهو كذكر الأجنبي الذي هو زيد ، فإن جعلت الجملة صفة لرجل لم يكن بد من عائد إليه ، فقلت : مررت برجل معه امرأة ضاربها هو أو ضاربها أبوه ، ولم يجز : ضاربها زيد ، لأنه لا شيء فيه يرجع إلى رجل ، ويجوز أن تجعل الاسم جاريا على ما هو صفته وترفع ما بعده به ، كقولك : مررت برجل معه امرأة ضاربها أبوه أو هو ، ولا يجوز أن نصف ما ليس فيه ما يعود إلى الموصوف ، ولا حالا مما ليس فيه ما يعود إليه لو قلت : مررت برجل ضاربها زيد ، أو مررت بعبد الله ضاربها خالد ، لم يجز لأنه ليس فيه ما يعود إلى الأول ، وإذا قلت : يا ذا الجارية الواطئها زيد ، تنصب الواطئها ، لم يجز لأنه صفة للجارية ، والضمير يعود إليها.

فإن قلت : يا ذا الجارية الواطئها أبوه ، جاز للضمير العائد في أبوه إلى المنادى ، وإذا قلت : يا ذا الجارية الواطئها ، نصبت صفة للمنادى ، والتقدير : يا ذا الجارية الذي وطئها فإن جعلت : الواطئها بمعنى التي جعلتها صفة للجارية وخفضتهما ، وجئت باسم الفاعل فقلت : الواطئها هو ، لأنّ واطئ ليس من فعل التي ، وقد وصلتها به فأظهرت اسم الفاعل ،

٣٨٥

ولا يجوز حذف هو ، كما لا يجوز حذف أبوه وزيد ، إذا قلت : يا ذا الجارية الواطئها أبوه ، ويا ذا الجارية الواطئها زيد ، ولو جئت بالذي ووصلتها بفعل استغنيت عن إظهار الضمير فقلت : يا ذا الجارية التي وطئها إذا كان الوطء لزيد ، وقد جرى ذكره ، ويا ذا الجارية التي وطئها ، وإنما جاز ذلك في الفعل ولم يجز في اسم الفاعل لأنّ صيغة الفعل تدل على فاعله ، ويقع فيه الضمير الدالّ عليه لفظا ، واسم الفاعل ضميره في النية وليست له علامة ، ألا ترى أنّا نقول : زيد تضربه ، فنعلم أن الفاعل هو المخاطب ، وكذلك : زيد أضربه ، الضارب هو المتكلم للصيغة الدالة عليه ، ولو قيل : زيد ضاربه ، يريد ذلك المعنى ، لم يستقم ولم يدلك على المراد.

قال : (ولو جاز هذا) يعني : (يا ذا الجارية الواطئها ، وأنت تريد هو وتحذفها وما أشبهه مما ذكرناه لجاز : مررت بالرجل الآخذه ، تريد : أنت ، ولجاز : مررت بجاريتك راضيا عنها ، تريد : أنت ، ولو قلت : مررت بجارية رضيت عنها ، أو مررت بجاريتك قد رضيت عنها ، كان جيدا لأنك تضمر في الفعل وتكون فيه علامة الإضمار) ، وقد مضى الفصل بين الاسم والفعل.

وأهل الكوفة يجيزون حذف الفاعل من اسم الفاعل في مثل ما ذكرنا إذا كان له ذكر في أول الكلام كقولك : يدك باسطها ، يريد : باسطها أنت ، ولذكر الكاف في أوله جاز حذفها ، وقد أنشدوا :

وإن امرؤ أسرى إليك ودونه

من الأرض موماة وبيداء سملق

لمحقوقة أن تستجيبي لصوته

وأن تعلمي أن المعار موفّق (١)

قالوا : أراد لمحقوقة أنت ، وحذف أنت لذكرها في إليك.

قال المفسر : والذي عندنا لمحقوقة استجابتك لصوته مبتدأ وخبر ، وهي في موضع خبر (أن) في العائد إلى اسم أنّ من الجملة الهاء ، في لصوته ، ولا يجوز حذف الفاعل بوجه ، وقد مضى الاحتجاج لذلك.

(وأمّا ربّ رجل وأخيه منطلقين ، ففيهما قبح حتى تقول : وأخ له ، فالمنطلقان عندنا مجروران من قبل أن قوله : وأخيه في موضع نكرة ، لأن المعنى إنما هو وأخ له.

__________________

(١) البيتان للأعشى ديوانه / ١٤٩ ، الخزانة ١ / ٥٥١ ، ٢ / ٤١٠.

٣٨٦

فإن قلت : أمضافة إلى معرفة أم إلى نكرة؟

فإنك قائل : إلى معرفة ولكنّها أجريت مجرى النكرة ، كما أنّ مثلك مضافة إلى معرفة وهي توصف بها النكرة وتقع مواقعها ، ألا ترى أنك تقول : ربّ مثلك ، ويدلك على أنها نكرة أنه لا يجوز لك أن تقول : ربّ رجل وزيد ، ولا يجوز لك أن تقول : ربّ أخيه ، حتى يكون قد ذكرت قبل ذلك نكرة.

ومثل ذلك قول بعض العرب : كلّ شاة وسخلتها ، أي : وسخلة لها ، ولا يجوز حتى تذكر قبلها نكرة فيعلم أنّك لا تريد شيئا بعينه ، وأنك تريد شيئا من أمة كل واحد منهم رجل وضممت إليه شيئا من أمة كلهم ، يقال له :

أخ ، ولو قلت : وأخيه تريد به شيئا بعينه كان محالا ، وقال الشاعر :

أي فتى هيجاء أنت وجارها

إذا ما رجال بالرجال استقلّت) (١)

 وجارها جر عطف على فتى ، ومعناه : أيّ فتى هيجاء أنت ، وأي جار هيجاء أنت ، وجارها : نكرة لأنّ أيّ إذا أضيفت إلى واحد لم يكن إلا نكرة لأنه في معنى الجنس ، كقولك : أيّ رجل زيد ، ولا تقل : أيّ غلامك زيد ، فجارها وإن كان مضافا إلى ضمير هيجاء نكرة مجرورة بإضافة أيّ إليه في التقدير ، ولا يجوز أن يكون رفعا لأنه إذا رفع فهو على أحد وجهين :

إمّا أن يكون عطفا على أنت ، أو عطفا على أيّ.

فإن كان عطفا على أنت صار غير أنت ، وصار شريك أنت في المدح ، وكأنه قال :أيّ فتى هيجاء أنت وزيد ، وتكون الهاء في جارها ضمير مؤنث غير هيجاء ، كأنه قال : أنت وجار هند وما أشبهها ، وإن قدّر أنت وجار الهيجاء ، فجار الهيجاء ليس برجل يعرف ، وليس قصد الشاعر إلى هذا وإن كان عطف ، وجارها على أيّ كان الكلام بإعادة حرف الاستفهام واحتاج أن تقول : أيّ رجل عندك ، وأزيد عندك؟ ومتى قال : وجارها لم يكن فيه أي : جارها الذي هو التعجب ، قال الأعشى :

وكم دون بينك من صفصف

ودكداك رمل وأعقادها

__________________

(١) البيت منسوب لكثير عزة ، سيبويه ١ / ٢٤٤.

٣٨٧

ووضع سقاء وإحقابه

وحلّ حلوس وإغمادها (١)

وفيها حجة لربّ رجل وأخيه ، لأن قولك : من صفصف لا يليه إلا نكرة ، كما أنّ ربّ لا يليه إلا نكرة ، وأعقادها : معطوف على صفصف كعطف أخيه على رجل ، وكذلك أغمادها : معطوف على ما قبلها ، ولا تكون إلا نكرة ، والذي ذكره من ذلك كلام العرب ، وهذه الأبيات شواهده ولم تصر نكرة إلا على الوجه الذي ذكره من تقدّمه ، تكون في موضع لا تقع فيه إلا نكرة ، وعطف شيء مضاف إلى ضميرها عليها ولا تتجاوز ذلك.

(كما أن أجمعين لا يجوز في الكلام إلا وصفا ، وكما أنّ أيّا تكون في النداء كقوله : يا هذا ، ولا يجوز إلا موصوفا وليس هذا حال الوصف والموصوف في الكلام ، كما أنه ليس حال النكرة كحال الذي ذكرت لك).

وهذه أشياء شاذة ذكرها سيبويه ليؤنس بشذوذ ربّ رجل وأخيه ، وما جرى مجراه ثم استضعف ذلك لخروجه على القياس وقلته.

فقال : (وهذا على جوازه ، وكلام العرب به ضعيف).

هذا باب ينصب فيه الاسم لأنه لا سبيل له إلى أن يكون صفة

(وذلك قولك : هذا رجل معه رجل قائمين ، فهذا ينتصب لأن الهاء التي في معه معرفة ، فأشرك بينهما وكأنه قال : معه امرأة قائمين ، ومثله : مررت برجل مع امرأة ملتزمين ، فله ضمير إضمار في (مع) كما كان له إضمار في معه ، إلا أن المضمر في معه علم ، وليس له في مع امرأة علم إلا بالنية ، ويدلك على أنه مضمر والنية قولك : مررت بقوم مع فلان أجمعون).

قال أبو سعيد : جملة هذا الباب أن يتقدّم اسمان أو أسماء قد أعربت بإعراب مختلف أو إعراب واحد من جهتين مختلفتين ، فلا يمكن جمع صفاتها أو تثنيتها بلفظ واحد محمول على الإعراب الأول ، فحمل على شيء يجتمعان فيه ممّا يصحّ اجتماعهما على ما أسوقه وأبيّنه إن شاء الله.

__________________

(١) ديوان الأعشى / ٥٤.

٣٨٨

وأما قوله : (هذا رجل) ، فرجل مرفوع لأنه خبر مبتدإ ، وخبره معه ، فرفعاها من جهتين مختلفتين فلا يصحّ أن يكون : قائمان نعتا لهما ، لأن قائمان لفظ واحد لا يصلح أن يكون رفعا بنعت الابتداء وخبر المبتدإ ، فحمل على : معه رجل ، ونصب على الحال ، والاسمان اللذان منهما الحال :

أحدهما : الهاء في معه ، والآخر : رجل.

وقد تكون الحال من اسمين مختلفي الإعراب ، كقولك :

ضرب زيد عمرا قائمين ، قال الشاعر عنترة :

متى ما تلقني فردين ترجف

روانف إليتيك وتستطارا (١)

وفردين : حال من اسم الفاعل والمفعول في (تلقني)

ومثله :

تعلقت ليلى وهي ذات مؤصد

ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا

إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم (٢)

فصغيرين : حال من التاء في تعلقت ، وهي في موضع رفع ، ومن ليلى وهي في موضع نصب ، والهاء في معه ورجل تأويلهما تأويل فاعلين أو فاعل ومفعول ، لأنك إذا قلت : مع عمرو زيد ، فتأويله : اجتمعا أو جامع زيد عمرا ، ثم تكون الحال منهما على هذا التأويل أو يحمله على هذا ، فيكون على التنبيه فتقدير أتيت لهما قائمين أو الإشارة بمعنى : أسير إليهما قائمين.

وكذلك : مررت برجل مع امرأة في قولنا : مع امرأة ، ضمير مرفوع لرجل في النية لا علم له في اللفظ ، كما أنّ في قولنا : معه امرأة فيه ضمير مجرور وهو الهاء ، والمعنى : في الاجتماع واحد ، ومثل هذا الضمير قولك : مررت بقوم مع فلان أجمعون ، في مع فلان : ضمير مرفوع من قوم ، أجمعون توكيد له ، والنصب في قائمين كالنصب فيهما لو ابتدأت فقلت : معه امرأة قائمين أو معك أو مع زيد.

(ومما لا تجوز فيه الصفة : فوق الدار رجل ، وقد جئتكم برجل آخر) ، لأن

__________________

(١) ديوان عنترة / ١٠٨ ، الخزانة ٢ / ٢٠٠.

(٢) البيتان للمجنون ديوانه / ١٨٦ ، خزانة الأدب ٤ / ٢٣٠.

٣٨٩

إعرابهما مختلف ولا يحسن أن تنصب هذا على الحال كما نصبت قائمين ، وإن كان ليس فيه الألف واللام ، لأن المنصوب بالحال لا بد له من عامل واحد مقدّر في نصبه ، وليس في قولك : في الدار رجل وقد جئتك برجل آخر ، شيء يقع عليهما من تنبيه أو إشارة أو اجتماع.

ويقول : (فيما اختلف إعرابه ، فلم يمكن اجتماع صفة الاسمين : اصنع ما سرّ أخاك ، وأحبّ أبوك الرجلان الصالحان على الابتداء ، وتنصبه على المدح والتعظيم كقول الخرنق في قصيدة" :

لا يبعدن قومي الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكل معترك

والطّيبون معاقد الأزر (١))

 وقال بعض أصحابنا : الرفع أحسن وأكثر في كل شيء كان تعظيما لأنك إذا أثنيت على قوم فإنما تقول : هم كذا.

(وأما الألف واللام فلا تكونان حالا البتة ، لو قلت : مررت بزيد القائم ، كان قبيحا لا يجوز إذا أردت قائما ، وإن شئت نصبته على المدح ، وذلك قولك : اصنع ما ساء أباك وكره أخوك الفاسقين الخبيثين ، وإن شاء ابتدأ ، ولا سبيل إلى الصفة في هذا ولا في قولك : عندي غلام وقد أتيت بجارية فارهين ، لأنك لا تستطيع أن تجعل فارهين صفة للأول ولا للآخر ولا سبيل إلى أن يكون بعض الاسم جرا وبعضه رفعا ، فلما كان كذلك صار بمنزلة : ما كان معه معرفة من النكرات لأنه لا سبيل إلى وصف هذا ، كما أنه لا سبيل إلى وصف ذلك ، فجعل نصبا كأنه قال : عندي عبد الله ، وقد أتيت بزيد فارهين ، جعل الفارهين ينتصبان على : النازلين بكل معترك.

وفرّوا من الإحالة في : عندي غلام ، وقد أتيت بجارية إلى النصب ، كما فروا إليه في قولهم : فيها قائما رجل).

يريد لما لم يكن صفة غلام وجارية بفارهين لاختلاف إعرابهما ، فروا إلى نصب فارهين على المدح ، كما هربوا إلى نصب قائما على الحال من قولهم : فيها قائما رجل ، لما لم يمكن أن يجعل قائم صفة لرجل لتقدمه عليه.

__________________

(١) البيتان للخرنق بنت هفان ، الخزانة ٢ / ٣٠١ ، الدرر اللوامع ٢ / ١٥٠.

٣٩٠

قال : (واعلم أنه لا يجوز أن تصف المعرفة والنكرة ، كما لا يجوز وصف المختلفين ، وذلك قولك : هذه ناقة وفصيلها الراتعان ، فهذا محال لأن الراتعين لا يكونان صفة للفصيل ولا للناقة ، ولا تستطيع أن تجعل بعضها معرفة وبعضها نكرة ، وهذا قول الخليل.

وزعم الخليل أن الجرين والرفعين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجر والرفع وذلك قولك : هذا رجل ، وفي الدار آخر كريمين ، لأنهما لم يرتفعا من وجه آخر وقبّحه بقوله : هذا لابن إنسانين عندنا كراما ، فقال الجر هاهنا مختلف ولم يشرك الآخر فيما جرّ الأول ، ومثل ذلك : هذه جارية أخوي ابنين لفلان كراما ، لأن أخوي ابنين اسم واحد ، والمضاف إليه الآخر منتهاه ، ولم يشرك الآخر بشيء من حروف الإشراك فيما جر الاسم الأول ، ومثل ذلك : هذا فرس أخو ابنيك العقلاء الحكماء ، لأن هذا في المعرفة مثل ذاك النكرة ، فلا يكون الكرام والعقلاء صفة للأخوين والابنين ، ولا يجوز أن يجرى وصفا لما انجرّ من وجهين ، كما لم يجز فيما اختلف إعرابه.

ومما لا تجري الصفة عليه : هذان أخواك ، وقد تولى أبواك الرجال الصالحون ، إلا أن ترفعه على الابتداء وتنصبه على المدح والتعظيم).

قال أبو سعيد : اختلاف الرفعين والجرين منع من جمع الصفتين ، لأن الصفة تتبع الموصوف في الإعراب ، فيكون الإعراب الحاصل في الموصوف وفي الصفة متعلقا بالعامل الذي عمل في الموصوف ، فلو جمع الصفتان بلفظ واحد فجعلتا للمرفوعين المتقدمين أو المجرورين ، صار لفظ الصفتين وهو واحد معلقا برافعين أو جارّين ، فلذلك لم يصلح : هذا رجل في الدار آخر كريمان ، لأن الرجل رفع بخبر الابتداء ، وآخر مرفوع بالابتداء ، وهما عاملان مختلفان لا يحمل كريمان عليهما ، ورفع كريمين على الابتداء فهما عاملان مختلفان لا يحمل كريمان عليهما ، وكذلك تقول : هذا لابن إنسانين عندنا كراما ، على المدح ولم تقل : كرام على الصفة ، لأن ابن مجرور باللام ، وإنسانين مجروران بإضافة ابن إليهما ، فهذان عاملان مختلفان ، لا يصلح حمل كرام عليهما ، وهو لفظ واحد ، وكذلك : هذا فرس أخوي ابنيك العقلاء ، لو خفضنا العقلاء وجعلناها صفة للأخوين والابنين كان فاسدا ، لأن ابنيك من تمام الأخوين ، وليس أخواك من تمام أنفسهما ، والصفة داخلة فيما دخل فيه الموصوف ، فيكون العقلاء من تمام الأخوين من حيث كان صفة للابنين وغير تمام

٣٩١

لهما من حيث كان صفة للأخوين فيتناقض.

قال : (وسألت الخليل عن : مررت بزيد وأتاني أخواه أنفسهما ، فقال : الرفع على هما صاحباي أنفسهما ، والنصب على أعينهما ولا مدح فيه لأنه ليس مما يمدح به.

قال : وتقول : هذا رجل وتلك امرأة منطلقان ، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان ، لأنهما ارتفعا من وجه واحد ، وهما اسمان بنيا على مبتدأين.

وانطلق عبد الله ، ومضى أخوك الصالحان ، لأنهما ارتفعا بفعلين ، وذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحكيمان).

قال أبو سعيد : لا خلاف بين أصحابنا أنّ الفعلين إذا اتفق معناهما جاز أن يوصف فاعلاهما بلفظ واحد ، كقولك : مضى زيد وانطلق عمرو الصالحان ، وجلس أخوك وقعد أبوك الكريمان ، وإذا اختلف معناهما فمذهب الخليل وسيبويه في الفعلين المختلفين والمتفقين واحد ، فأجازا : ذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحكيمان ، وكان المبرد والزجاج وكثير من المتأخرين يأبون جواز ذلك إلا في المتفقين.

والحجّة للخليل وسيبويه : أن مذهب عمل الفعل والفاعل مذهب واحد وإن اختلف معنى اللفظين ، وممّا يدل على ذلك ، أنك تقول : اختلف زيد وعمرو الصالحان ، ومعنى اختلف واحد منهما فعل فعلا مخالفا لفعل الآخر ، وتقول : فعل زيد وعمرو فعليهما وعملا عمليهما وإن كانا مختلفين لأن اللفظ الواحد من الفعل يجوز أن يقع على مختلفين ، وتردّ الفعلان إلى فعل واحد يكون الاسمان فاعليه ، فإذا قلت : أذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الصالحان الحكيمان؟ فكأنّا قلنا : فعل أخوك وعمرو هذين الفعلين الصالحان ، والذي لا يجيز هذا ويجيز : ذهب زيد وانطلق عمرو الصالحان ، يلزمه نحو ما قدرناه ، لأن ذهب ارتفع به زيد وحده ، وانطلق ارتفع به عمرو وحده ، ولا يجوز أن يكون الصالحان يرتفع بالفعلين أو يتعلق بهما ، وهو لفظ واحد.

فإن قال قائل : نسقط الفعل الثاني في التقدير ونجعله مؤكدا للأول وكانّا قلنا : ذهب زيد وعمرو الصالحان ، قيل له : فإذا رفعتهما بالأول بقي انطلق بلا فاعل ، وهذا فاسد في مذهب البصريين ، وكان أقيس ممّا قالوه : أن لا يجاز ذلك وتجتمع الصفتان وأحد عاملي الاسم غير الآخر ، لأن الصفة إذا حملناها على أحد العاملين لم يجز ، لأن الموصوف واحد ، وإذا حملناها عليهما لم يجز لأنها ترتفع بشيئين ، وإنما جاز : هذا رجل ، وتلك

٣٩٢

امرأة منطلقان ، فتجعل منطلقين نعتا للرجل والمرأة لأنهما خبر مبتدأين مشار إليهما وإن كانت إحدى الإشارتين أقرب من الأخرى كفاعلي الفعلين المختلفين.

قال : (واعلم أنه لا يجوز من عبد الله ، وهذا زيد الرجلين الصالحين ، رفعت أو نصبت لأنك لا تثني إلا على من أثبته وعلمته ، ولا يجوز أن تخلط من تعلم بمن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة ، وإنما الصفة علم فيمن قد علمته).

لأن عبد الله لست تعرفه ، وإنما تسأل عنه لتعرفه ، فإذا نعتّه فسؤالك عنه عن نعته ، وزيد تعرفه وتعرف نعته ، فإذا ثنيت الصفتين بلفظ واحد ، فأنت لا تعرفه من حيث كان نعتا لعبد الله ، وتعرفه من حيث كان نعتا لزيد ، فيصير لفظ واحد معروفا مجهولا. والله أعلم.

هذا باب ما ينتصب لأنه حال صار فيها المسئول والمسئول عنه

(وذلك قولك : ما شأنك قائما ، وما شأن زيد قائما ، وما لأخيك قائما. فهذا حال قد صار فيه وانتصب بقولك : ما شأنك قائما ، كما ينتصب قائما في قولك : هذا عبد الله قائما بما قبله ، وسنبين هذا في موضعه إن شاء الله تعالى ، وفيه معنى : لم قمت؟ يعني : ما شأنك ومالك ، قال الله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)(١) ومثل ذلك : من ذا قائما بالباب؟ أي : من ذا الذي هو قائم بالباب. هذا المعنى تريد.

وامّا العامل فيه فبمنزلة : هذا عبد الله ، لأنّ من مبتدأ قد بني عليه اسم ، وكذلك : لمن الدار مفتوحا بابها؟ وأما قولهم : من ذا خير منك؟ فهو على قوله : من ذا الذي هو خير منك؟ لأنك لم ترد أن تشير أو تومئ إلى إنسان قد استبان لك فعله على المسئول فيعلمكه ، ولكنك أردت : من ذا الذي هو أفضل منك ، فإن أومأت إلى إنسان قد استبان لك فضله عليه فأردت أن يعلمكه نصبت ، كما قلت : من ذا قائما؟ كأنك قلت : إنما أريد أن أسألك عن هذا الذي قد صار في حال قد فضلك بها ، ونصبه كنصب : ما شأنك قائما).

__________________

(١) سورة المدثر ، الآية : ٤٩.

٣٩٣

قال أبو سعيد : قوله : (قائما) شيء قد عرفه المتكلّم من المسئول ، وهو الكاف في شأنك ، والمسئول عنه وهو زيد ، فسأل عن شأنه في هذه الحال.

وقوله : (ما شأنك؟) ما : مبتدأ ، وشأنك : خبر في هذه الحال ، وإن شئت : شأنك المبتدأ وما خبر مقدم ، والناصب ل (قائما) شأنك ، ومعناه : ما تصنع وما تلابس في هذه الحال ، وقد يكون فيه إنكار لقيامه ، والمسألة عن السبب الذي أداه إليه ، فكأنه قال : لم قمت؟ ، وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون قوله عزوجل : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)(١) كأنه أنكر إعراضهم فوبخهم على السبب الذي أدّاه إلى الإعراض ، فأخرجه مخرج الاستفهام في اللفظ ، وتأويل ما لهم تأويل ما شأنك ، كأنه قال : ما تصنعون؟ ومن ذا قائما بالباب؟ أي : من ذا الذي هو قائم بالباب ، هذا المعنى يريد : من مبتدأة ، وذا خبره ، أو يكون ذا : مبتدأ ، ومن : خبر مقدم ، وقائما : منصوب على الحال ، والعامل فيه (ذا) بمعنى الإشارة ، كأنه سأل عمّن عرف قيامه ولم يعرفه.

ولمن الدار مفتوحا بابها؟ الدار : مبتدأ ، ولمن : الخبر ، وفي اللام معنى الملك ، كأنه قال : من يملك الدار مفتوحا بابها؟

وأما قولهم : من ذا خير منك؟ فيجوز أن تكون ، من : مبتدأ ، وذا : خبره ، وخير منك : بدل منه ، فكأنه قال : من خير منك ، ويجوز أن يكون ذا بمعنى الذي ، ويكون تقديره : من ذا الذي هو خير منك.

وأكثر ما يستعمل هذا على إنكار أن يكون أحد خيرا منه ، كقولك : من ذا أرفع من الخليفة؟ والغرض : ما أجد أرفع منه ، ولم يرد أن يشير أو يومئ إلى إنسان قد استبان لك فضله ، فتسأل عنه في حال استبانة فضله لك ، ولو أردت ذلك نصبته كما نصبت : من ذا قائما بعد أن عرفت قيامه ، ولم تعرفه : والله أعلم بالصواب.

هذا باب ما ينتصب على التعظيم والمدح

(وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول وإن شئت قطعته وابتدأته

وذلك قولك : الحمد لله الحميد ، والملك لله أهل الملك. ولو ابتدأته فرفعت كان حسنا ، كما قال الأخطل :

__________________

(١) سورة المدثر ، الآية : ٤٩.

٣٩٤

نفسي فداء أمير المؤمنين إذا

أبدى النّواجذ يوم باسل ذكر

الخائض الغمر والميمون طائره

خليفة الله يستسقى به المطر (١))

قال أبو سعيد : هذا الباب في التعظيم والمدح ، والباب الذي في الشتم والتقبيح يجريان مجرى واحدا ، والإعراب فيهما على طريق واحد ، وفي كل واحد منهما ثلاثة أوجه :

إمّا الصفة واتباع الثاني الأول ، وإن كان قصدك فيه المدح والثناء كنحو ما يذكر من تكبير صفات الله تعالى على جهة المدح له والثناء عليه.

وإمّا أن تنصبه بإضمار أذكر.

وإمّا أن تستأنفه فترفعه بإضمار الابتداء.

والذي يصيره مدحا وثناء أو شتما وتقبيحا ، قصد المتكلم به إلى ذلك ، وربما قصد الإنسان بقوله : فلان فاضل شجاع إلى الهزء به ، ويتبين ذلك في لفظه من محاوره ، وهذا معروف في عادات كلام الناس ، وقد ذكرناه مفصلا قبل هذا الباب ، وأنا أسوق كلامه في البابين ، وما احتمل زيادة زدت ، والله المعين ، وأنشد في الاستئناف قول مهلهل :

ولقد خبطن بيوت يشكر خبطة

أخوالنا وهم بنو الأعمام (٢)

فاستأنف أخوالنا على معنى : هم أخوالنا ، ولو خفضه على النعت ليشكر لجاز.

وقوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ)(٣).

في المقيمين وجهان :

أحدهما : أن يكون منصوبا على المدح والثناء.

والآخر : أن يكون مجرورا بالعطف على ما ، فيكون معناه :

ويصدّقون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة أي : بمذاهبهم وبدينهم ، والمؤتون الزكاة مبتدأ مستأنف أو عطف على الراسخين.

__________________

(١) ديوان الأخطل / ١٠٣.

(٢) سيبويه ١ / ٢٢٥ ، ٢٤٨.

(٣) سورة النساء ، الآية : ١٦٢.

٣٩٥

وأمّا قوله عزوجل : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)(١) إلى قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ)(٢) ، " فالموفون بعهدهم" يحتمل وجهين :

يحتمل أن يكون مدحا ، ويكون التقدير : وهم الموفون بعهدهم فإذا كان كذلك ، كان نصب الصابرين على وجهين :

أحدهما : العطف على ذوي القربى.

والآخر : أن يكون على المدح بإضمار (أذكر).

والوجه الآخر من رفع الموفون : أن يكون عطفا على من آمن بالله ، فإذا ارتفع بذلك كان نصب الصابرين على المدح لا غير ، ولا يجوز أن ينصب بالعطف على ذوي القربى ، لأن ذوي القربى في صلة من آمن بالله ، لأنّ (آتى) معطوف على آمن ، ولا يجوز أن يعطف الموفون على (من) إلا بعد تمام صلته فيصير (والصابرين) منقطعا عن الصلة ، وأنشد قول الخرنق في رفع المدح ونصبه ، وهو :

لا يبعدن قومي الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكل معترك

والطيبون معاقد الأزر (٣)

ومثله في الرفع والنصب قول أبي خياط العكلي :

وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم

إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحدا

والقائلون لمن دار نخلّيها (٤)

 (وزعم يونس : أن العرب من يقول : النازلون بكل معترك والطيبين ، فهذا مثل : والصابرين ، ومن العرب من يقول : الطاعنون في القائلين ، فنصبه كنصب الطيبين إلا أنّ هذا شتم لهم وذم ، كما أن الطيبين مدح لهم وتعظيم ، وإن شئت أجريت هذا كله على الاسم الأول ، وإن شئت ابتدأته جميعا فكان مرفوعا على الابتداء.

كل هذا جائز في ذين البيتين وما أشبههما ، كل ذلك واسع.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٧٧.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٧٧.

(٣) البيتان سبق تخريجهما.

(٤) الخزانة ٢ / ٣٠١.

٣٩٦

وزعم يونس أنه سمع ذا الرّمة ينشد هذا البيت نصبا وهو للأخطل :

لقد حملت قيس بن عيلان حربها

على مستقلّ للنوائب والحرب)

أخاها إذا كانت عضوضا سما لها

على كل حال من ذلول ومن صعب (١)

الشاهد : نصب أخاها ، وهو المستقلّ المجرور.

(وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدّث الناس ولا من تخاطبه بأمر جهلوه ، ولكنهم عملوا من ذلك ما قد علمت ، فجعلته تعظيما وثناء ، ونصبه على الفعل كأنه قال : اذكر أهل ذاك ، واذكر المقيمين ، ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره. وهذا شبيه بقوله : إنّا بني فلان نفعل كذا ، لأنه لا يريد أن يخبر من لا يدري أنه من بني فلان ، ولكنه ذكر مراتبها افتخارا وابتهاء ، إلا أن هذا يجري على حرف النداء ، وستراه في باب النداء إن شاء الله).

نصب بني فلان كنصب ما يمدح على المدح ، وسأشرحه في بابه بما أتم من هذا إن شاء الله.

وترك إظهار الناصب له كترك إظهار الناصب في باب النداء ، ومن هذا الباب في النكرة قول أمية بن أبي عائذ :

ويأوي إلى نسوة عطّل

وشعثا مراضيع مثل السّعالي (٢)

الشاهد في نصب شعثا.

كأنه حيث قال : إلى نسوة عطل ، صرن عنده ممن علم أنّهنّ شعث ، ولكنه ذكر ذلك تشنيعا لهنّ وتشويها.

(قال الخليل : كأنه قال : اذكرهنّ شعثا ، إلا أن هذا فعل لا يستعمل إظهاره ، وإن شئت جررت على الصفة. وزعم يونس : أن ذلك أكثر ، كقولك : مررت بزيد أخيك وصاحبك ، وكقول الراجز :

بأعين منها مليحات النّقب

شكل التّجار وحلال المكتسب (٣)

__________________

(١) ملحقات ديوان الأخطل / ٦٢٢.

(٢) الخزانة ١ / ٧١٤ ، ٢ / ٣٠١ ـ معاني الفراء ١ / ٣٢٥.

(٣) البيت لابن المعتز سيبويه ١ / ٢٥٠.

٣٩٧

قال : كذلك سمعناه من العرب.

الشاهد : في شكل التجار ، وهو صفة لنكرة ، وهو في مذهب : قيد الأوابد ، ومعناه : موافقة التجار في الزي ومشاكلتهم فيه ، فكأنه قال : مشاكلة التجار ، وقوله : وحلال المكتسب ، أي : ليس فيهن تبرّج وتكشّف يحرم ، ولكن خفر وحياء وتستر ، وذلك : حلال المكتسب.

وقال مالك بن خويلد الخناعيّ :

يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيد

في حومة الموت رزّام وفرّاس

يحمي الصّريمة أحذان الرّجال له

صيد ومجترئ بالليل همّاس (١))

قال أبو سعيد : وروى هذا الشعر أيضا لأبي ذؤيب ووقع في البيت الأول من هذين البيتين غلط في كتاب سيبويه ، لأن قوله : ذو حيد ، وعل ، ورزّام ، وفرّاس : أسد ، والصواب الذي حملته الرواة :

يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيد

بمشمخرّ بهذا الظيّان والآس

ذو حيد ، وعل ، ومشمخرّ : جبل ، والظيّا : ياسمين البرّ.

وروى أبو العباس المبرد : ذو حيد بفتح الحاء والياء ، وجعله مصدرا بمنزلة العوج والأود. والذي رواه أبو العباس : ثعلب حيد بكسر الحاء ، وكذلك رواه أبو سعيد السكري في شعر الهذليين ، وفسره جمع حيدة بعد هذا البيت بأبيات في القصيدة :

يا ميّ لا يعجز الأيّام مبترك

في حومة الموت رزّام وفرّاس

يحمي الصّريمة أحدان الرجال له

صيد ومجرئ بالليل همّاس

ومما حمل على الابتداء قوله :

(فتى الناس لا يخفى عليهم مكانه

وضرغامة إن همّ بالحرب أوقعا (٢)

وقال الآخر :

إذا لقي الأعداء كان خلاتهم

وكلب على الأذنين والجار نابح (٣)

__________________

(١) البيتان لمالك بن خويلد الهذليين ٣ / ٣ ، ابن يعيش ٦ / ٣٢.

(٢) سيبويه ١ / ٢٥١.

(٣) في الكتاب ٢ / ٦٨ بلا نسبة.

٣٩٨

قال : كذا سمعناهما من الشاعرين اللذين قالاهما.

قال : واعلم أنه ليس كل موضع يجوز فيه التعظيم ، ولا كل صفة يحسن أن يعظّم بها ، لو قلت : مررت بعبد الله أخيك صاحب الثياب أو البّزاز ، لم يكن هذا مما يعظم به الرجل عند الناس ، ولا يفخم له ، ولها الموضع الذي لا يجوز فيه العظيم ، فإن تذكر رجلا ليس بنبيه عند الناس ولا معروف بالتعظيم ، ثم تعظمه كما تعظم النبيه ، وذلك قولك : مررت بعبد الله الصالح ، فإن قلت : مررت بقومك الكرام الصالحين ثم قلت : المطعمين في المحل ، جاز لأنه إذا وصفهم صاروا بمنزلة من قد عرف منهم ذلك ، وجاز له أن يجعلهم كأنهم قد علموا فاستحسن من ذا ما استحسنت العرب ، وأجزه كما أجازته ، وليس كل شيء من الكلام يكون تعظيما لله عزوجل يكون لغيره من المخلوقين لو قلت : الحمد لزيد ، تريد العظمة لم يجز وقد يجوز أن تقول : مررت بقومك الكرام ، إذا جعلت المخاطب كأنه قد عرفهم ، كما قال : مررت برجل زيد ، فتنزله منزلة من قال له : من هو وإن لم يتكلم به.

فكذلك هذا تنزله هذه المنزلة وإن كان لم تعرفهم).

قال أبو سعيد : يحتاج التعظيم إلى اجتماع معنيين في المعظّم :

أحدهما : أن يكون المعنى الذي عظّم به فيه مدح وثناء ورفعة.

والآخر : أن يكون المعظّم قد عرفه المخاطب وشهر عنده ما عظّم به أو يتقدم من كلام المتكلم ما يتقرر به عند المخاطب حال مدح وثناء وتشريف في المذكور يصح أن يورد بعدها التعظيم ، وهذا معنى ما ذكره سيبويه : (مررت بقومك الكرام ، ثم قلت : المطعمين في المحل) ، وتقول : مررت بعبد الله الكريم الفاضل ، على التعظيم لمّا قدمت ذكر الكريم صار كأنه قد عرف وشهر ، فتدبر ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا باب ما يجري من الشتم مجرى

التعظيم وما أشبهه

(وذلك : أتاني زيد الفاسق الخبيث ، لم يرد أن يكرره ، ولا يعرفك شيئا تنكره ، ولكنه شتمه بذلك.

٣٩٩

وبلغنا أن بعضهم قرأ هذا الحرف نصبا : في (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)(١) ، لم يجعل الحمالة خبرا للمرأة ، ولكنه كأنه قال : اذكر حمالة الحطب شتما لها ، وإن كان فعلا لا يستعمل إظهاره وقال عروة الصعاليك.

سقوني الخمر ثم تكنّفوني

عداة الله من كذب وزور (٢)

إنما شتمهم بشيء قد ثبت عند المخاطبين ، قال النابغة :

لعمري وما عمري عليّ بهيّن

لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع

أقارع عوف لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تجادع (٣)

وزعم يونس أنك إن شئت رفعت البيتين جميعا على الابتداء ، تضمر في نفسك شيئا لو أظهرته لم يكن ما بعده إلا رفعا ومثل ذلك قال الشاعر :

متى تر عيني مالك وجرانه

وجنبيه تعلم أنّه غير ثائر

حضجر كأمّ التوأمين توكأت

على مرفقيها مستهلة عاشر (٤))

والذي يضمر في الرفع هو وهم أو ما أشبه ذلك مما يوجب رفع الظاهر وقد مضى نحو هذا في المدح والتعظيم.

قال : (وزعموا ، أبا عمرو كان ينشد هذا البيت نصبا ، والشعر لرجل معروف من أزاد السراة :

قبّح من يزني بعو

ف من ذوات الخمر

الآكل الأشلاء لا

يحفل ضوء القمر (٥))

الآكل نصب على الذم والشتم ، بمعنى أذكر يعني به عوفا المخفوض في البيت الأول ، والأشلاء جمع شلاء وهي المشيمة ، وهي مستقذرة ، وذلك مثل يريد : أن الرجل يأتي الأمور القبيحة لا يحفل ولا يبالي ظهورها عليه ، وإن شاء جعله صفة فجرّه على الاسم ، فقال : الآكل لأنه نعت عوف.

__________________

(١) سورة المسد ، الآية : ٤.

(٢) ديوان عروة / ٨٩ ، الخصائص لابن جني ٢ / ٤٣٣.

(٣) ديوان النابغة / ٥٣ ، الخزانة ١ / ٤٢٦.

(٤) سيبويه ١ / ٢٥٣ ، ابن يعيش ١ / ٣٦.

(٥) سيبويه ١ / ٢٥٣.

٤٠٠