شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

أحدهما عليه ، ومنعت إجراء الآخر؟

الجواب : أن بينهما فرقا في المعنى يوجب أن ما أجراه على الأول قرب شبه من اسم الفاعل ، وفرقا في اللفظ دعت الضرورة فيه إلى إجرائه على الأول ، فأما فرق المعنى فإنك إذا قلت : مررت برجل خير منه أبوه أو أفضل منه زيد ، فمن يقع على المفضول والذي بعده هو الفاضل ، وأحدهما غير الآخر ، يعني رجل وليس للأول في الفضل صنع ، وإذا قلت : ما رأيت رجلا أحسن في عينيه الكحل ، والكحل هو الفاضل ، فصار الفاضل واحدا ، وصار ما اكتسب من الفضل بسبب الأول ، وذلك أنك تفضل الكحل إذا كان في عين زيد على نفسه إذا كان في عين غيره فيكون به في غير المذكور فضل ونقص ، وكذلك لو قلت : مررت برجل أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد فضل الكحل لكونه في عين الرجل على نفسه في عين زيد ، وأما الفرق في اللفظ فإنك إذا قلت : مررت برجل خير منه أبوه وأفضل منه زيد ، ف (منه) في صلة خبر ، وأفضل وأبوه وزيد : مبتدآت أو خبر مبتدأين ، ولم تفصل بين شيئين أحدهما في صلة الآخر ، ولو رفعت ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد ، فرفعت أحسن ، لكان إما مبتدأ خبره الكحل أو الكحل مبتدأ وخبره أحسن.

وقوله : (في عينه منه في عين زيد كله في صلة أحسن) ، فتفصل بين أحسن وبين ما في صلته بالكحل الذي حقه أن يكون مؤخرا عن الجميع أو مقدما على الجميع ، فإن آخرته قلت : ما رأيت رجلا أحسن في عينيه منه في عين زيد الكحل.

ففي هذا ـ أيضا ـ قبح لأنه إضمار قبل الذكر وتجعل أحسن مبتدأ ، فهو فاسد لأن هاء منه ضمير الكحل فهو مؤخر ، وإن جعلت أحسن خبرا مقدما ، جاز إن قدمت الكحل قلت : ما رأيت رجلا الكحل في عينيه أحسن منه في عينه منه في عين زيد ، جاز بلا خلاف فأدى ذلك إلى أن يقال : (ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه إلى زيد) ، في تأويل : ما رأيت رجلا مبغضا إليه الشر ، كما بغض إلى زيد ، وما رأيت رجلا عاملا في عينه الكحل كعمله في عين زيد ، وقد خففوا وحذفوا ما ليس فيه لعلم المخاطب ، وأوقعوا من على غير ما كانت تقع عليه ، فقالوا : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه ، والضمير في منه المذكور جرى ذكره ، والأصل : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد ، فحذفوا الضمير العائد إلى الكحل في منه واكتفوا بذكر الكحل ، وحذفوا

٣٦١

في عين الأخيرة اكتفاء بما تقدم من ذكر عينه ، وفصلوا بين الاسم المحتاج إلى ذكره ، ومثله : ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه ، وما من أيام أحب إلى الله تعالى فيها الصوم في عشر ذي الحجة ، والأصل : أحبّ إلى الله تعالى فيها الصوم منه إليه في عشر ذي الحجة ، وأوقعوا على عشر ذي الحجة ، وهي في الأصل : واقعة على ضمير الصوم ، فالمعنى هو المعنى الأول ، وإن وقع هذا الحذف ، وقوله :

(والهاء في منه : هو الاسم الأول) الذي كني بذكره قبل الحذف على ما قد بيناه.

وقوله :

(ولا تخبر أنك فضلت بعض الأيام على بعض).

(والهاء في الأول هي للكحل) ، يعني في منه قبل الحذف (وإنما فضلت في هذا الموضع على نفسه في غير هذا الموضع ولم يرد أن يجعله أحسن من نفسه البتة ، قال الشاعر وهو : سحيم بن وثيل :

مررت على وادي السباع ولا أرى

كوادي السباع حين يظلم واديا

أقل به ركب أتوه تئية

وأخوف إلا ما وقى الله ساريا (١)

والمعنى : أقل به الركب تئية منهم به).

والهاء به الأولى ضمير واديا ، والهاء في به التي بعد ضمير وادي السباع ، وأتوه : نعت لركب ، وتئية في معنى لبث وتمكث ، كأنه قال : ولا أرى واديا أقل به مكثا وتلبّثا به الركب إذا أتوه منهم بوادي السباع ، فحذف منهم وبه كما تقول : أنت أفضل ، ولا تقول من أحد ، وتقول : الله أكبر ، ومعناه أكبر من كل شيء ، كما تقول : لا مال ولا تذكر لك ، ولا بد من تقديره وما يشبهه ، لأن مال يحتاج إلى خبر ومثل هذا كثير.

وما جعل في النكرة المجرورة في موضع نعته رفعا بالابتداء ، فهو في المعرفة رفع في موضع الحال منه قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ)(٢) إلى قوله : (وَمَماتُهُمْ)(٣) ، وقوله : (وتقول : مررت بعبد الله خير منه أبوه ، ومن أجراه على

__________________

(١) الخزانة ٣ / ٥٢١ ، سيبويه ١ / ٢٣٣.

(٢) سورة الجاثية ، الآية : ٢١.

(٣) سورة الجاثية ، الآية : ٢١.

٣٦٢

الأول) ، يعني في النكرة فإنه ينبغي أن ينصب في المعرفة ، يعني على الحال لأن الحال كالنعت : تقول : مررت بعبد خيرا منه أبوه.

وقوله : وهي لغة رديئة وليست بمنزلة العمل نحو : ضارب وملازم ، وما ضارعه نحو حسن ، لو قلت : مررت بخير منه أبوه ، كان قبيحا ، وكذلك بأبي عشرة أبوه ، ولكن خير خلص للأول جرى عليه كأنك قلت : مررت برجل بخير منك ، حين قلت : برجل خير منك فإنه يعني : ولكنه لما انفرد به الأول جرى عليه ولم يقبح كما قبح في قوله : برجل خير منه أبوه ، ومن قال : مررت برجل أبي عشرة أبوه فشبهه بقوله : مررت برجل حسن أبوه ، فهو ينبغي له أن يقول : مررت بعبد الله أبي العشرة أبوه ، كما قال : مررت بزيد الحسن أبوه.

قال : (ومن قال : مررت بزيد أخوه عمرو لم يكن فيه إلا الرفع لأنّ هذا اسم معروف بعينه فصار بمنزلة قولك : مررت بزيد عمرو أبوه ، قال : ولو أن العشرة كانوا قوما بأعيانهم قد عرفهم المخاطب لم يكن فيه إلا الرفع لأنك لو قلت : مررت بأخيه أبوك كان محالا).

قال أبو سعيد : لأن مذهب الفعل الذي يعمل ما يجرى مجراه وهو شائع غير معين ، فإذا تعين الاسم لم يجر مجراه ، ألا ترى أنك لا تقول : مررت بأخيه أبوك ، ويجوز أن تقول : بمؤاخيه أبوك ، لأن مؤاخيه في مذهب يؤاخيه ، والعشرة إذا كانوا بأعينهم فهو بمنزلة هؤلاء إخوتك ، فإذا لم يكونوا بأعينهم فكأنّا قلنا : مررت بعبد الله المكثر الأولاد أبوه ، على أن جوازه في النكرة إذا قلنا : مررت بأبي عشرة أبوه في المعرفة إذا لم يكن شيئا بعينه يجوز على استكراه. فكيف إذا صار شيئا بعينه؟

قال : (فإن جعلت الأخ صفة للأول جرى عليه ، كأنك قلت : مررت بأخيك ، فصار الشيء بعينه نحو : زيد وعمرو وضاع أبو عشرة حسن حين لم يكن شيئا بعينه قد عرفه كمعرفتك على ضعفه واستكراهه ، واعلم أن كل شيء من العمل وما أشبهه نحو : حسن وكريم إذا دخلت على ما فيه الألف واللام جرى على المعرفة كمجراه على النكرة حين كان نكرة كقولك : مررت بزيد الحسن وجهه ، ومررت بأخيك الضاربه عمرو).

قال أبو سعيد : يصير تأويله وأخوك حسن وجهه ، وبأخيك الذي ضربه عمرو ،

٣٦٣

قال : (واعلم أن العرب يقولون : معلوجاء وقوم مشيخة ، وقوم مشيوخاء ، يجعلونه صفة بمنزلة : شيوخ ، وعلوج).

وهذا مفهوم ، وقد تركنا من كلامه شيئا دلّ عليه ما ذكرناه وأغنى عنه.

هذا باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها من الصفات

التي ليست تعمل

(نحو : الحسن والكريم ، وما أشبهه ذلك مجرى الفعل إذا أظهرت بعده الأسماء وأضمرتها ، وذلك قولك : مررت برجل حسن أبواه) ، إلى آخر الفصل.

قال أبو سعيد : مبنى هذا الباب على ما تقدم من توحيد الفعل ، وحقيقة الفعل أنه لا يثنى ولا يجمع ، ولو كان الفعل يثنى ويجمع لكان إذا فعله فاعله مرتين ثني وفاعله واحد ، فيقال : زيد قاما ، وزيد يقومان ، وإذا فعله مرارا قيل : زيد قاموا ، وزيد يقومون ، وهذا باطل لا يعقل ، فهو موحد على كل حال ، وإذا تقدم على الفاعل ظهر توحيده في اللفظ ، وأتى بعده منفصلا منه فاعله موحدا كان أو مثنى أو مجموعا ، كقولك : قام زيد ، وقام أخواك وقام أصحابك ، وإذا تقدمت الأسماء فعمل فيها الابتداء وغيره ، ثم أتي بعد هذا الفعل ، ثم لا بد للفعل من فاعل صار ضمير تلك الأسماء هو فاعل الفعل ، واتصل بالفعل كقولك : زيد قام ، والزيدان قاما ، والزيدون قاموا ، ففي قام ضمير من زيد في النية لا علامة له ، والألف في قاما ضمير الزيدين ، والواو في قاموا ضمير الزيدين.

وإنما أضمرت الأسماء في الفعل ولم تعد ظاهرة لعلتين :

إحداهما : أن الضمير أخف لفظا من الظاهر.

والأخرى : أنه قد علم أن الضمير لا يأتي مبتدأ من تقديم اسم ظاهر ، فعلم أن الضمير يعود على ما جرى ذكره من الأسماء.

وإذا ذكر بعده ظاهر جاز أن يتوهم الضمير الأول إذ الأسماء قد تشترك ألفاظها وهي شتى.

فإن قال قائل : لم لم يجعل للضمير الواحد علامة وجعل الاثنين والجماعة؟

قيل : لأنه معلوم أن الفعل لا بد له من فاعل لا يخلو من الاثنين والجماعة ، فخلوه من الاثنين والجماعة جعل لهما علامة لئلا يقع لبس ، واكتفى بما تقدم في الفعل من حاجة الفعل إلى فاعل من علامة ظاهرة.

٣٦٤

وإذا قيل : زيد قام هو ، فالضمير الذي قام في النية وهو توكيد له ، ومما يحتج لتوحيد الفعل من واحد كان أو من أكثر.

إنك تقول : أعجبني قيام القوم ، فيوحّد القيام ، وإن كان لجماعة إذ كان معناه معنى شيء واحد من الجماعة ، وكذلك : أعجبني قيام الرجلين ، وإذا كنّا نوحده للاثنين والجماعة ، وهو اسم تمكن تثنيته وجمعه فكيف إذا ثنيته على شيئين مختلفي المعنى؟

لأنك إذا قلت : قام دلت على قيام وزمان ماض غير محدد تعيينه ، فكيف يجوز أن تثنيه وأنت في الذي هو اسم يختار أن يبنى بلفظ الواحد عن جماعة؟

وقال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)(١) فوحد البغي وهو مضاف إلى جماعة ، وقال عزوجل : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)(٢) ، فأضاف القول موحد إلى جماعة ، وإذا كان الفعل لمؤنث وهو مقدم ، فالتأنيث على ضربين :

أحدهما : تأنيث حقيقي.

والآخر : غير حقيقي.

فأمّا الحقيقي فهو أنثى كل نوع من الحيوان الذي فيه ذكر وأنثى ، كالمرأة في الناس ، والناقة في الإبل ، والأتان في الحمير ، فهذه الأشياء تأنيثها حقيقي لأنه لخلق فيها تبين بها من المذكر.

فهذا الضرب إذا تقدم فعله فكان ماضيا ، وردت في آخره تاء ساكنة لعلامة التأنيث ، وإذا كان مستقبلا جعلت حرف المضارعة تاء مكان الياء بغيرها ، فقلت : قامت هند ، وخرجت المرأة ، وماتت الناقة ، وولدت الأتان.

وفي المستقبل : تقوم هند ، وتخرج المرأة ، وتلد الأتان والشاه ، وما أشبهها.

ولا يحسن إسقاط علامة التأنيث ، وأقواها في ذلك مؤنث ما يعقل.

وأما التأنيث غير الحقيقي ، فهو ما كان تأنيثه وتذكيره واقعين على ما لا خلقة فيه فاصلة بين الذكر والأنثى ، كنحو : دار ، وقدر ، وعين ، وأذن ، وفخذ ، وما أشبه ذلك فإذا تقدم الفعل في هذا الضرب فالأصل الذي رتب اللفظ له إثبات علامة التأنيث كقولنا :

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٧.

٣٦٥

بنيت دارك ، وكحلت عينك ، وأشباه ذلك ، ويجوز إسقاط علامة التأنيث كقولك : بنى دارك وكحل عينك ، وما أشبهه ذلك ، وكل تأنيث حصل في مؤنث بعلامة أو بغير علامة في جمع أو واحد من غير خلقة التأنيث التي تكون لإناث الحيوان بفرج يكون لهن ، فهو تأنيث غير حقيقي ، وإذا تقدم المؤنث الذي تأنيثه غير حقيقي ثم أتي بفعله وأضمر لم يحسن إسقاط علامة التأنيث كحسن إسقاطها إذا تقدم الفعل ، وذلك قولك : دار بنيت ، وعينك كحلت ، ولو قلت : دارك بني ، وعينك كحلت ، لم يحسن كحسن بني دارك ، وكحل عينك لأنك إذا قدمت الفعل فصلت الفاعل من الفعل وظهر لفظه الموضوع للتأنيث ، فاكتفي به وأغنى عن العلامة ، وإذا تقدم الاسم صار الفعل لضميره ، وهو مختلط بالفعل وليس في لفظه دلالة على التأنيث ، لأن ضمير الواحد والاثنين الفاعلين في الفعل الماضي في المذكر والمؤنث سواء ، فكرهوا إسقاط العلامة مع ذهاب اللفظ الموضوع للتأنيث ، وقد يجيء في الضرورة إسقاط علامة التأنيث في فعل الحيوان.

وحكى بعض الرواة عن بعض العرب : حضر القاضي اليوم امرأة ، ولم يكن قصدنا في هذا الموضع ذكر أحكام التأنيث والتذكير فنستقصيه بأكثر من هذا ، وإذا عرض منه بعد هذا شيء ذكرته في موضعه إن شاء الله تعالى ، واعلم أن بعض العرب يجعل في الفعل المقدم علامة التثنية والجمع كما جعل فيه علامة التأنيث ، فتقول : ضربوني قومك ، وضرباني أخواك ، وضربتني أخواتك ، كما قالوا : قالت فلانة ، فكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجميع علامة ، كما جعلوا للمؤنث وهي قليلة ، قال الفرزدق :

ولكن ديافيّ أبوه وأمّه

بحوران يعصرن السليط قرائبه (١)

وقال آخر :

يلومونني في اشتراء النخيل

أهلي فكلهم يعذل

وأهل الذي باع يلحونه

كما ألحى البائع الأوّل (٢)

وأنشد الفراء البيت الأول من هذين بالميم ، فقال :

يلوم ، وهي أبيات لأمية ، لو لا كراهة الإطالة لأنشدتها كلها.

__________________

(١) ديوان الفرزدق / ٥٠ ، الخزانة ٢ / ٣٨٦ ، ٣ / ٢٩٣ ، ٤ / ٥٥٤.

(٢) البيتان لأمية بن أبي الصلت ديوانه ٤٨ ، الدرر اللوامع ١ / ٢.

٣٦٦

وقال آخر في التثنية :

ألفينا عيناك عند القفا

أولى فأولى لك ذا واقيه (١)

وهذا قليل في الكلام غير مختار.

فإن قال قائل : لم صار إثبات علامة المؤنث لازما في بعض المؤنث ، وفي بعض إثباتها أكثر من تركها ، وإن لم يكن لازما ، وإثبات علامة التثنية والجمع قليل غير مختار ، وما الفصل بين ذلك؟

ففي ذلك غير جواب ، فأحد الأجوبة : أن التأنيث لازم للاسم لا يفارقه ، والتثنية والجمع قد تفارق ، لأن المثنى والمجموع إذا أفرد كل واحد منهما زالت التثنية والجمع.

والجواب الثاني : أن المذكر والمؤنث هما جنسان متباينان ، ليس أحدهما بعضا للآخر والواحد والتثنية والجمع بمنزلة شيء واحد إذ كان ترك التثنية والجمع من الواحد ، فلم يجعل بين فعلهم إذا قدّم فصل ، كما لا فصل بين الثلاثة والأربعة.

ومنزلة الواحد من الاثنين في الزيادة ، كمنزلة الثلاثة من الأربعة.

والجواب الثالث : أن علامة التثنية والجمع كضمير التثنية والجمع ، فلو قدمناه لم يعلم أهو علامة أم ضمير شيء تقدم ذكره؟ فتجنبوا أن يقولوا : قاما أخواك ، وقاموا أخوتك ، فتكون الألف في قاما أخواك ، وقاموا أخوتك ، فتكون الألف في قاما أخواك كالألف في أخواك ، فأما الواو في قاموا أخوتك ، كالواو في أخوتك قاموا.

واعلم أن الاسم الجاري على الفعل يعمل في الاسم كعمل الفعل ، ويجري على ما قبله صفة أو حالا أو خبرا ، فإذا تقدم على ما يرفعه ، كان الاختيار التوحيد كالفعل ومن يثني الفعل إذا تقدم على ما يرفعه ويجمع ، ثنى اسم الفاعل وجمع ، وما كان علامة التأنيث فيه لازمة من فعل المؤنث إذا تقدم ، فعلامة التأنيث لازمة لاسم الفاعل منه ، والأصل في اسم الفاعل الذي يعمل عمل الفعل أن يكون مما يجمع جمع السلامة ، وذلك أن الفعل هو العامل في الأصل ، واسم الفاعل محمول عليه.

وقد ذكرنا أن الفعل موحّد ويتصل به ضمير الفاعلين ، فيصير في لفظ شيء مجموع جمع السلامة ، كقولك : زيد قام ، والزيدون قاموا ، فلفظ قام لم يتغير واتصل به علامة

__________________

(١) البيت لعمرو بن ملفظ. الخزانة ٣ / ٦٣٣ ، أمالي ابن الشجري ١ / ١٣٢.

٣٦٧

الجمع ، وكذلك الزيدون قائمون ، وأخوتك خارجون ، دخلت الواو على لفظ قائم وخارج ، وقد تحمل على اسم الفاعل ما لا يجمع جمع السلامة ، وما ليس بجار على الفعل على ما ستقف عليه مما يذكر في هذا الباب لموافقة بينهما تجيز حمله عليه.

وعلى هذه الجملة التي قدمتها أو بعضها مبني على كلام سيبويه في هذا الباب ، والله يحسن توفيقنا وإرشادنا بمنّه.

قال : (فإن بدأت بالاسم قبل الصفة قلت : قومك منطلقون ، وقومك حسنون) ، جمعت منطلقون لوقوعه موقع فعل يتصل به ضمير مجموع ، (وأذاهبة جاريتان؟ وأكريمة نساؤك؟). وحدت اسم الفاعل لوقوعه موقع الفعل الموحد لتقدمه ، وإنما وحدت كريمة ، وجمعت نساؤكم لأن كريمة تجري على الفعل فتوحد في التقدم ، وتجمع في التأخير ، إذا قلت : نساؤكم كريمات ، والألف والنون للاثنين ، والواو والنون لجمع مذكر ما يعقل ، والألف والتاء لجمع المؤنث وجمع ما لا يعقل ، وقال : (أقرشيّ قومك) ، فأجراه مجرى اسم الفاعل ، وإن لم يكن اسم فاعل كأنه قال : أمتقرّش قومك ، في معنى : أيتقرّش قومك ، كما قالت العرب : تنزر الرجل ، وتقيّس ، وتمضّر ، في معنى انتسب إلى نزار ، وقيس ، ومضر ، فلهذا وحد أقرشي وقومك جمع ، فاستشهد سيبويه في توحيد الفعل المقدّم بقوله :

(أليس أكرم خلق الله قد علموا

عند الحفاظ بنو عمرو بن حنجوت) (١)

بنو عمرو ، اسم ليس ، وأكرم خلق الله : الخبر ، ولم يقل : أليسوا. وهذا طريف من الاستشهاد ، لأن توحد الفعل المتقدم في عامة كتاب الله تعالى وسائر كلام الناس ، أكثر من أن يحتاج إلى شاهد ، وبعده من كلام سيبويه ما أتى التفسير عليه إلى أن قال :

(وقال بعض العرب : قال فلانة ، وكلما طال الكلام فهو أحسن نحو قولك : حضر القاضي امرأة ، لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل ، وكأنه شيء يصير بدلا من شيء كالمعاقبة ، نحو قولك : زنادقة ، فحذف الياء لمكان الهاء ، وكما قالوا في مغتلم ، مغيلم ومغاليم ، لأن الياء صارت بدلا لمّا حذفوا التاء ، لأنه صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء كما كفاهم الجميع والاثنان حين أظهروهم عن الواو والألف ، وحذف التاء في الواحد من الحيوان قليل ، وهو في الموات كثير).

__________________

(١) البيت لمسلم بن الوليد ، سيبويه ١ / ٢٣٥.

٣٦٨

قال أبو سعيد : قد ذكر سيبويه عن العرب حذف علامة التأنيث من الحيوان مع قلته ، وكان أبو العباس محمد بن يزيد ينكر ذلك أشد الإنكار ، ويقول :

لم يوجد ذلك في قرآن ، ولا في كلام فصيح وشعر ، والذي قاله سيبويه أصحّ لأنه حكاه عن العرب ، وهو غير متهم في حكايته ، واحتج له بما لا مدفع له وقد قال جرير فيه في قوله ما يوافق حكاية سيبويه ، وهو :

لقد ولد الأخيطل أمّ سوء

على باب استها صلب وشام (١)

وليس كل لغة توجد في كتاب الله عزوجل ولا كل ما يجوز في العربية يأتي به القرآن أو الشعر ، ولأبي العباس مذاهب يجوزها لم توجد في قرآن ولا غيره ، من ذلك إجازته :

إن زيد قائما ، قياسا على : ما زيد قائما ، ولا أظن الاستشهاد عليه ممكنا في شيء من الكلام.

قال : (وهو في الموات كثير) ، يعني : حذف التاء من فعل الموات الماضي ، (ففرقوا بين الموات والحيوان كما فرقوا بين الآدميين وغيرهم) في الجمع ، (تقول : هم ذاهبون ، وهم في الدار ، ولا تقول : جمالك ذاهبون ، ولا تقول : هم في الدار ، وأنت تعني الجمال ، ولكنك تقول : هنّ ، وهي ذاهبة ، وذاهبات).

قال أبو سعيد : جعلت العرب لما يعقل في مواضع اختصاصا في اللفظ ، وفصلت بينه وبين ما لا يعقل فيه لما اختص به ما يعقل بأنه يخاطب ويخاطب ، ويأمر ، ويؤمر ، وتخبر وتخبر عنه. وما لا يعقل ليس له من ذلك إلا أنه يخبر عنه ، فجعل لما يعقل تفضيل واختصاص ، وجعل ذلك التفضيل في اللفظ للمذكر مما يعقل دون المؤنث لفصل المذكر على المؤنث ، وذلك جمعه السالم بالواو والنون ، الياء والنون ، وذلك قولك : الرجال ذاهبون ومنطلقون ، ورأيتهم ذاهبين ومنطلقين ، وجمع ضميره بالهاء والميم ، كقولك : الرجال هم في الدار ، وأخوتك هم عندنا ، وتقول للنساء في الجمع السالم : الهندات ذاهبات ومنطلقات ، وضميرهن بالهاء والنون تقول : النساء رأيتهنّ ، والنوق رأيتها ، ثم ألحق ما لا يعقل بلفظ المؤنث لنقص رتبته عن ما يعقل ، كنقص رتبة المؤنث

__________________

(١) البيت لجرير ديوانه / ٥١٥ ، ابن يعيش ٥ / ٩٢.

٣٦٩

عن المذكر.

وسمى سيبويه في هذا الفصل ما لم يكن من الحيوان مواتا وإن كان في الحقيقة ليس من الحيوان ولا من الموات لمساواته الموات في اللفظ ، فقال :

(ومما جاء في القرآن من مساواته الموات في اللفظ فقال ومما جاء في القرآن من الموات قد حذفت فيه التاء نحو قوله جلّ وعز : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ)(١)) ، والموعظة ليست من الموات في الحقيقة ، قال : (وهو في الآدميين أقل منه في سائر الحيوان).

يعني : حذف التاء من مؤنث ما يعقل من الآدميين أقل من حذفها من سائر الحيوان ، لما ذكرنا من فضلهم في الخطاب وغيره. والجن في قياس الإنس : مؤنثهم ومذكرهم.

وقال آخر في جمع التذكير ، قال : (ألا ترى أن لهم في الجميع حالا ليست لغيرهم لأنهم الأولون ، وأنهم قد فضلوا بما لم يفضل به غيرهم من العلم والعقل) وخلق الله ما يعقل لعبادته المؤدية لهم إلى منافعهم ، وخلق ما لا يعقل لمصالح ما يعقل ، فهم الأصل في الخلق والأولون.

واعلم أن الجموع المكسرة مؤنثة كلها يستوي في حكم اللفظ جميع المؤنث والمذكر وما يعقل وما لا يعقل.

وحكم اللفظ في تأنيثها حكم تأنيث الموات ، تقول :

رجل وهي الرجال ، وجمل وهي الجمال ، وعير وهي الأعيار ، فجرت هذه كلها مجرى هذه الجذوع لأنه قد خرج عن الواحد الأول الأمكن الذي يقع بالخلقة فيه الفرق بين المؤنث والمذكر ، وأجري كله مجرى الموات.

قالوا : جاء جواريك وجاء نساؤك وجاء بناتك.

فلم تلزمه التاء كما لزمت : جاءت جاريتك ، وجاءت امرأتك ، وجاءت بنتك ، لأن هذا التأنيث الحادث لجمع التكسير غير التأنيث الحقيقي الذي كان في الواحد.

قال : (وقالوا فيما لم يكسر عليه الواحد لأنه في معنى الجمع) يعني : نسوة في

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٥.

٣٧٠

قوله : (وَقالَ نِسْوَةٌ)(١) وإن لم يكن لها واحد من لفظها ، والنسوة جمع ليس لها واحد من لفظها ، وهما مشتركان في جواز إسقاط تاء التأنيث منهما لما ذكرت لك.

فنسوة حكمها حكم الجمع ، كما أن لمّا كان معناها معنى الجمع جاز أن يرد لفظها على المعنى ، فيقال :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)(٢) ، وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ)(٣) يجوز أن يكون (الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٤) بدلا من الواو في : أسروا ، وأسروا : عطف على (اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(٥) ، ويكون من لغة من قال :

قاموا إخوتك ، وأكلوني البراغيث.

(وقال الخليل : فعلى هذا المثال تجري هذه الصفات ، وكذلك شاب ، وشيخ ، وكهل ، إذا أردت : شابين وشيخين وكهلين).

(تقول : مررت برجل كهل أصحابه ، ومررت برجل شاب أبواه).

قال أبو سعيد : قد تقدم أن الصفة الجارية مجرى الفعل هي التي تجمع جمع السلامة ، كما أن الفعل يتصل به تثنية الضمير وجمعه ، فلذلك صار شاب أبواه على مذهب شابين وشيخين وكهلين ، أي مذهب : شبوا وشاخوا واكتهلوا ، وإذا تقدم الفعل وحّد ، واسم الفعل الموحد المقدم بمنزلة الفعل المقدم الموحد ، فإذا ثنيت شيئا من هذا أو جمعته فالوجه فيه أن ترفعه بالابتداء والخبر لأنك أخرجته عن مذهب بترك التوحيد ، فقلت : مررت برجل شبان أبواه كاهلون أصحابه ، تجعله بمنزلة قولك :

مررت برجل خزّ صفّته.

قال الخليل : ومن قال : أكلوني البراغيث ، أجرى هذا على أوله ، فقال : مررت برجل حسنين أبواه ، ومررت بقوم قرشيين آباؤهم.

قال أبو سعيد : لأن هذا مذهب الفعل عند أهل هذه اللغة.

قال سيبويه : (وكذلك نحو : أعور وأحمر ، تقول : مررت برجل أعور أبواه ،

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٣٠.

(٢) سورة يونس ، الآية : ٤٢.

(٣) سورة الأنبياء ، الآية : ٣.

(٤) سورة الأنبياء ، الآية : ٣.

(٥) سورة الأنبياء ، الآية : ٢.

٣٧١

وأحمر أبواه ، فإن ثنيت قلت : مررت برجل أحمران أبواه ، وتجعله اسما. ومن قال : أكلوني البراغيث ، قلت : على حد قوله : مررت برجل أعورين أبواه ، وتقول : مررت برجل أعور آباؤه ، كأنك تكلمت به على حد : أعورين وإن لم يتكلم به كما توهموا في : هلكى ومرضى وموتى ، إنه فعل بهم فجاؤوا به على مثال : جرحى وقتلى ، ولا يقال : هلك ولا مرض ولا موت.

وقال الشاعر : وهو النابغة الجعدي :

ولا يشعر الرّمح الأصمّ كعوبه

بثروة رهط الأبلج المتظلّم (١)

 وقال الكوفيون : مررت برجل أعور أبوه ، ومررت برجل زرقاء عينه فتجرى أعور وزرقاء على إعراب ما قبله ، ويرفع ما بعده. وتأولوا : مررت برجل زرقاء عينه مزرقة عينه ، وزرقة عينه ، ولا يجوز عندهم أن يرفع بلفظ الواحد من ذلك اثنان ، لا يقول : مررت برجل أعور أبواه ، ولا مررت برجل زرقاء أمتاه.

فإن ثنيت أعور ، وزرقاء ، جاز فيه الاستئناف وإجراؤه على الأول ، وترفع ما بعده به ، يقولون : مررت برجل أعوران أبواه ، ومررت برجل زرقاوان عيناه ، وإن ثنيت : أعورين أبواه ، وزرقاوين عيناه.

ولهم في نحو هذا مسائل كثيرة : كرهنا إطالة الكتاب بذكرها إلا أن إجازتهم : مررت برجل زرقاء عينه ، على مزرقة عينه ، ومررت برجل أعور أبواه ، فوجب عليهم توحيد الأول مع تثنية الثاني على ما قال سيبويه ، لأنهم إذا جعلوا زرقاء في معنى مزرقة ونائبة عنها ، ورفعوا العين بها فلا بد من أن يكون أعور أبواه بمعنى : معور أبوه وترفع الأب به ، ولا ضمير فيه ، فإذا ثنيت ما بعده وقد جعلته نائبا عن اسم الفاعل جاز أن تثني وتوحد وتثني ما بعده إذا جاز أن يكون ذلك في اسم الفاعل كقولك : مررت برجل معور أبواه ، ومزرقة عيناه.

وإنما رفع سيبويه ب (أعور) على معنى معور ، وجرى في التثنية والجمع على ذلك المذهب موحدا.

ومن قال : مررت برجل أعور آباؤه على معنى معور آباؤه ، غير أن معورا يجمع

__________________

(١) ديوان النابغة الجعدي / ١٤٤ ، السبع الطوال / ٣٤٧.

٣٧٢

جمع السلامة ، فيقال : معور ومعورون. وأعور ، لا يجمع جمع السلامة ، وناب ما يجري على الأول أن يجمع جمع السلامة.

فقال سيبويه : (إن أعور إن كان لا يجمع جمع السلامة ، فقد أجروا واحده على الأول على تأويل المعور إذا رفع به واحد ، وكذلك إذا رفع به اثنان أو جماعة).

ومعنى قول سيبويه : وتقول : مررت برجل أعور آباؤه كأنك تكلمت به على حد أعورين ، ولم يتكلم به كما توهموا في هلكى ومرضى وموتى أنه فعل بهم أن ما كان من الجمع على (فعيل) إنما يكون لما كان مبنيا على فعل ما لم يسمّ فاعله ، والاسم منه (فعيل) كقولهم : جريح وقد جرح ، وصريع وقد صرع ، وقتيل وقد قتل ، والجمع : جرحى ، وصرعى ، وقتلى.

ثم قالوا : في جمع أشياء ليس اسمها على فعيل ولا الفعل منه على فعل منها : هالك وهلكى ، ففعله : هلك ، ومرضى الفعل منه : مرض على لفظ ما سمي فاعله.

وكذلك موتى ومات يموت ، وليس مما لم يسم فاعله واسمه : ميّت على فعيل ، فتقدير : أعورين وإن لم يتكلم به كتقدير : هلك فهو هليك ، ومرض فهو مريض حتى يصح أن يكون جمعه : هلكى ومرضى وإن لم يتكلم به.

وقال الكوفيون في قوله : الأصم كعوبه ، فوحد الأصم به وجمع الكعوب لأن الكعوب جرى مجرى الواحد ، لأن مثاله مثال الواحد ، كما أن الصعود والنزول وما أشبه ذلك ، وهذا لا يبطل به ما احتج لأنّا لو أجرينا كعوبا مجرى الواحد لأن له مثالا في الواحد ، لجاز أن تقول : كعوبها أصم ، وهذا لا يقوله أحد ، فلا بدّ من حمل الأصم على معنى اسم الفاعل ، كأنّا قلنا : الصلب كعوبه ، أو الشديد وإذا ثنينا أعور ونحوه ، فالاختيار عند سيبويه الرفع على الابتداء والخبر ، فيقال : مررت برجل أحمران أبواه ، إلا في قول من قال : أكلوني البراغيث ، وضرباني أخواك ، فإنه يقول : أحمرين أبواه ، ويجري أحمرين مجرى محمّرين ، ويجري محمرين مجرى محمّران وأحسن من قولك : مررت برجل أعورين أبواه ، ومررت برجل أعور آباؤه ، أن تقول : مررت برجل صمّ قومه ، ومررت برجل حسان قومه ، وعور قومه وذلك أن هذا جمع مكسّر لا يجري مجرى الفعل المجموع اللفظ فيكون بمنزلة : حسنين قومه على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، فإذا لم يجر مجرى الفعل المجموع صار حكمه حكم الواحد فاجتمع فيه لفظ الجمع وحكم الواحد ، فكأنه نقل من

٣٧٣

لفظ واحد إلى لفظ آخر يكون الواحد يحرسه أن تلحقه زيادة التثنية أو الجمع كالزيادة التي لحقت في : قرشيّ في الاثنين والجميع ، فلهذا صار : مررت برجل حسان قومه أحسن من : مررت برجل قرشيين قومه ، فصار الوجه : قرشيون قومه ، والذي يجري مجرى الفعل ما دخله الألف واللام والنون في التثنية ، والواو والنون في الجمع ولم تغيره نحو قولك : حسن وحسنان ، فالتثنية لم تغير بناءه ، وتقول : حسنون ، فالواو والنون لم تغير الواحد فصار هذا بمنزلة : قالا وقالوا ، لأن الألف والواو لم تغير الفعل ، وأمّا : حسان وعور فإنه اسم كسّر عليه الواحد فجاء مبنيا على مثال بناء الواحد ، وخرج من بناء إلى بناء آخر لا تلحقه في آخره زيادة كالزيادة التي لحقت في قول في الاثنين والجميع ، فهذا والجميع له بناء بني عليه كما بني الواحد على مثاله فأجرى مجرى الواحد.

ومما يدل على أن هذا الجمع ليس كالفعل أنه ليس شيء من الفعل إذا كان للجمع على غير بنائه إذا كان للواحد ، فمن ثم صار : حسان وما أشبهه بمنزلة الاسم الواحد نحو : مررت برجل جنب أصحابه ، ومررت برجل صرورة قومه ، واللفظ واحد ، والمعنى أنه جمع ، يعني أن حسان وإن كان جمع حسن فمذهبه في الباب مذهب جنب وصرورة اللذين يقعان للواحد والجميع وليستا مكسرتين لأن حسان على غير لفظ الواحد المزيد عليه علم الجميع. وفي بعض النسخ في الكتاب فصل أذكر أنه ليس من كلام سيبويه وأنه شرح ، وقد أتى على معناه تفسيرنا وهو :

واعلم أن ما كان يجمع بغير الواو والنون نحو : حسن وحسان فإن الأجود فيه أن تقول : مررت بزيد حسان قومه ، وما كان يجمع بالواو والنون نحو : منطلق ومنطلقين ، فإن الأجود فيه أن يجعل بمنزلة الفعل المقدم فتقول : مررت برجل منطلق قومه.

إلى هنا قال أبو العباس محمد بن يزيد : أختار في كل ما جمع بالواو والنون ، الإجراء على الأول.

وأمّا ما كسّر فإني أختار فيه أن أجريه مجرى باب خير منه فأقول : مررت برجل عور قومه ، بالابتداء والخبر ، وكذلك حسان وكرام.

وقال أبو إسحق الزجاج : الجيد قول سيبويه في قولك :

مررت برجل عور قومه بالجر لأنه قد كان يجوز : برجل منطلقين آباؤه ، فإذا جاز في الذي فيه علامة الجمع كان الاختيار في الجمع الذي ليس يلحقه ما يلحق الفعل ، وهذا

٣٧٤

قياس يستمر في العربية وقد مضى فيه قبل هذا الفصل من الشرح ما فيه مقنع إن شاء الله.

قال : (واعلم أنه من قال : ذهب نساؤك ، قال : إنه لذاهب نساؤك ، ومن قال : جاءه موعظة ، قال : أجائيّ موعظة ، يعني يذهب الهاء من اسم الفاعل كما أذهب التاء من الفعل ، وقرأ أبو عمرو : " خاشعا أبصارهم" ، وقال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي :

بعيد الغزاة فما إن يزا

ل مضطمرا طرتاه طليخا (١)

وقال الفرزدق :

وكنّا ورثناه على عهد تبّع

طويلا سواريه شديدا دعائمه (٢)

وقال الفرزدق أيضا :

قرنبي يحكّ قفا مقرف

لئيم مآثره قعدد (٣)

وقال الآخر وهو أبو زبيد الطائي :

مستجن بها الرّياح فما يج

تابها في الظّلام كل هجود (٤)

وقال رجل من بني أسد :

فلاقى ابن أنثى يبتغي مثل ما ابتغى

من القوم مسقى السّمام حدائده (٥)

وقال آخر وهو الكميت بن معروف :

وما زلت محمولا عليّ ضغينة

ومضطلع الأظغان مذ أنا يافع (٦)

وهذه كلها شاهد في تذكير اسم الفاعل ، وفاعله مؤنث.

قال : وهذا في الشعر أكثر من أن أحصيه لك.

ومن قال : أذاهب فلانة ، قال : أذاهب فلانة وأحاضر القاضي امرأة ، وقد يجوز في الشعر : موعظة جاءنا كأنه اكتفى بذكر الموعظة عن التاء).

قال أبو سعيد : قد ذكرت أن علامة التأنيث المضمر وإن لم تكن حقيقي التأنيث

__________________

(١) ديوان الهذليين ١ / ١٣٥ ، الخصائص ٢ / ٤١٣.

(٢) ديوان الفرزدق / ٧٦٥.

(٣) ديوان الفرزدق / ٢٠٥.

(٤) ديوان أبو زبيد الطائي / ٥٤ ، المقتضب ٤ / ٢٥٠.

(٥) البيت لأشعث بن معروف سيبويه ١ / ٣٢٩.

(٦) سيبويه ١ / ٢٣٩ ، العيني ٣ / ٣٢٤.

٣٧٥

لازمة ، لأن الذي يذكر فعل المؤنث يكتفي بما يظهر من تأنيث الاسم الظاهر ، فإذا كني عنه فقد بطل لفظ ظاهره الدالّ على التأنيث فلا بد من تأنيث الضمير للدلالة على حكم الاسم المضمر من تأنيث أو تذكير ، فإذا ذكّره الشاعر ، فإنما هو ضرورة فيحمل الاسم المؤنث على اسم آخر له مذكر ينوب منابه كما قال الأعشى :

فإمّا ترى لمتى بدّلت

فإنّ الحوادث أودى بها (١)

فيجعل الحوادث بمعنى الحدثان.

فإن قال قائل : فلو قال : أودت بها لا تزن ، فما أحوجه إلى تأويل الحدثان؟

قيل له : أحوجه إلى ذلك أن القصيدة مردفة بألف ، ولو أتى بتاء التأنيث لم يستقم أن يكون البيت من القصيدة ، وأول القصيدة :

ألم تنه نفسك عمّا بها

بلى عادها بعض أطرابها (٢)

وقد روي : فإن الحوادث تعني بها ، وعلى هذه الراوية ما فيه ضرورة ، وقال عامر بن جوين الطائي :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٣)

على تأويل ولا مكان ، وقد روي : ولا أرض أبقلت ابقالها بتخفيف همزة (ابقالها) ولا حجة فيه على هذا الإنشاد ، وقال آخر ، وهو الطفيل الغنوي : (٤)

إذ هي أحوى من الربعيّ حاجبه

والعين بالأثمد الحاري مكحول

فذهب بالعين مذهب الطرف ، كأنه قال : والطرف بالاثمد مكحول.

(وزعم الخليل : " أن السماء منفطر به" ، كقولك : معضّل للقطاة ، ومرضع للتي بها رضاع).

وهذا من باب امرأة حامل وحائض ، لأنه يختص به الأنثى ، وقد شرح في غير هذا الموضع ، فذهب منفطر ذات انفطار ومنفطرة على الفعل والعمل كقولك :

انفطرت فهي منفطرة ، وانشقت فهي منشقة وإذا قلت : مرضعة فهي على

__________________

(١) ديوان الأعشى / ١٢٠ ، الخزانة ٤ / ٥٧٨.

(٢) الخزانة ١ / ٢١ ، ٣ / ٣٣٠ ، شواهد المغني ٣١٩.

(٣) يروى : الحيري.

(٤) ديوان الطفيل الغنوي / ٢٩ ، ابن يعيش ١٠ / ١٨.

٣٧٦

أرضعت ، وعلى ترضع. وأمّا قوله : ((وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(١) ، و (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)(٢) ، و (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ)(٣) فزعم أنه بمنزلة ما يعقل ويسمع لما ذكرهم بالسجود ، وصار النمل بتلك المنزلة حين حدثت عنه كما تحدّث عن الأناسى ، وكذلك في فلك يسبحون ، لأنها جعلت في طاعتها ، وفي أنه لا ينبغي لأحد أن يقول :

مطرنا بنوء كذا ، ولا ينبغي لأحد أن يعيد شيئا منها بمنزلة ما يعقل من المخلوقين ، ويبصر الأمور.

قال النابغة الجعديّ :

شربت بها والديك يدعو صباحه

إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا (٤)

وكان القياس بنات نعش واحدها ابن ، لأن ما لا يعقل من المذكر يجمع في جمع السلامة والتكسير ، كالمؤنث ألا ترى أنك تقول : حمّام وحمّامات ، وسرادق وسرادقات ، وتقول : جمل بارك ، وجمال بوارك ، ولا تقل رجل بارك ، ورجال بوارك ، وحمل بنو نعش على ما يعقل لما كان دورها على مقدار لا يتغير ، فكأنها تقدر ذاك الدور وتعقله.

قال : (فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تؤمن وتطيع وتفهم الكلام وتعيد بمنزلة الآدميين.

قال : وسألت الخليل عن ما أحسن وجوههما ، فقال : لأن الاثنين جمع ، وهذا بمنزلة قول الاثنين ، نحو : دخلنا ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفردا وبين ما يكون شيئا من شيء).

المنفرد نحو : ثوب ودار وفرس إذا ثنّي هذا الضرب ، فالوجه لفظ التثنية كقولك : ثوبان وداران وفرسان.

والذي هو شيء من شيء نحو : وجه ورأس وبطن وظهر وقلب ، وهو من حيوان

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة يوسف ، الآية : ٤.

(٣) سورة النمل ، الآية : ١٨.

(٤) ديوان النابغة الجعدي / ٤ ، الخزانة ٣ / ٤٢١.

٣٧٧

له هذه الأعضاء ، فإذا ثنوها فالاختيار لفظ الجمع في تثنيتها ، كقولك في تثنية وجه أوجه ووجوه.

قال الله عزوجل : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)(١) ، وإنما صار هكذا لأن في البدن أعضاء كثيرة مثناة وهي أكثر البدن ، وإذا ضمّ ما في بدن واحد من المثنى إلى مثله صار جمعا لأنه يصير أربعة ، والواحد المضموم إلى مثله من آخر محمول على الاثنين ، فلذلك اختير الجمع.

ووجه آخر فرقوا بين ما في البدن منه واحد وما في البدن منه اثنان إذا ضموا أحد الاثنين إلى مثله من آخر يكون مثنى وإذا ضموا الواحد إلى مثله يكون جمعا للفرق ، وهذا هو الاختيار ، وقد يجمع الذي يختار تثنيته ويثنى الذي يختار جمعه. قال الراجز وهو خطام المجاشعيّ :

ظهراهما مثل ظهور الترسين (٢)

فثنى وجمع.

(وذكر يونس أن رؤبة كان يقول :

ما أحسن رأسيهما

وقالوا : وضعا رحالهما ، يريد : رحلي الراحلتين).

وحدّ الكلام وضعا : رحلي الراحلتين ، وربّما وجدوا ما يصفونه إلى الاثنين والجمع ، وأمنوا اللبس بدلالة المضاف إليه ، قال الشاعر :

كأنه وجه تركيين قد غضبا

مستهدف لطعان غير تذبيب (٣)

واحتج في لفظ الجمع الذي يراد به التثنية بقوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ)(٤) ، فذكر خصمين وهما اثنان ، وقبلها قالوا.

قال أبو سعيد : وليس في هذا حجة لأن الخصم يقع على جماعة ، والخصمين تقع

__________________

(١) سورة التحريم ، الآية : ٤.

(٢) الخزانة ٣ / ٣٧٤ ، المخصص ٩ / ٧.

(٣) البيت للفرزدق الخزانة ٣ / ٣٦٩ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٢١.

(٤) سورة ص ، الآيتان : ٢١ ، ٢٢.

٣٧٨

على جماعتين ، قال الله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ)(١) ، والحجة في قوله : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ)(٢) ، ولعل سيبويه أراد ذلك ، والله أعلم.

هذا باب إجراء الصفة على الاسم فيه

بعض المواضع أحسن

(وقد يستوي فيه إجراء الصفة على الاسم وأن تجعله خبرا فتنصبه.

فأمّا ما استويا فيه فقوله : مررت برجل معه صقر صائد به ، إن جعلته وصفا وإن لم تحمله على الرجل وحملته على الاسم المضمر المعروف ، نصبته.

فقلت : مررت برجل معه صقر صائدا به.

كأنه قال : معه ، ناب (صائدا به) حين لم يود أن يحمله على الأول ، كما تقول : أتيت على رجل مررت به قائم. إن حملته على الرجل وإن حملته على مررت به ، نصبته. كأنك قلت : مررت به قائما).

قال أبو سعيد : إذا قلت : مررت برجل معه صقر صائد به ، فقولنا : معه صقر : جملة في موضع الصفة ل (رجل) صقر مبتدأ ، ومعه خبر مقدم ، كما تقول : في الدار زيد.

وصائد به : صفة أخرى ، كما تقول : مررت برجل ضاحك.

وأصله : مررت برجل معه صقر صائد بصقر.

ولكن لما تقدم ذكر الصقر أوجب أن يكنى عنه إذا عاد ذكره.

فهاتان صفتان لرجل ، فإن لم تحمل صائدا على رجل ، وحملته على الهاء التي في معه ، وهو الاسم المضمر المعروف الذي عناه سيبويه ، نصبته ، وصار بمنزلة قولك : مررت برجل مع أبيه صقر صائدا به ، ومررت برجل مع جاريته صقر صائدة به ، ومررت برجل مع غلاميه صقر صائدين به.

إذا جعلت الصيد للاسم المتصل ب (مع) ، لم يكن سبيل إلى النعت ، لأنه لا تنعت معرفة بنكرة ، فنصب على الحال ، هذا في معنى قوله : تجعله خبرا.

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ١٩.

(٢) سورة ص ، الآية : ٢٣.

٣٧٩

يعني : حالا فنصبته ، ومعنى قول سيبويه : (كأنه قال معه ناب صائدا) ، يعني : لو ابتدأ فقال : مع زيد أو معك أو معه لشيء قد جرى ذكره ، صقر صائدا به ، لم يكن بدّ من نصب (صائدا) لأنه لا يمكن صفة الأول المعرفة به.

وإذا نصبت صائدا على الحال ، فهو من الجملة التي هي صفة ، فيصير للأول صفة واحد ، ثم ذكر نظائر لم تقدم مما تجوز فيه الحال وغيره.

فقال : (ومثله : نحن قوم ننطلق عامدون إلى بلد كذا وكذا ، إن جعلته وصفا.

وإن لم تجعله وصفا نصبت ، كأنه قال : نحن ننطلق عامدين ، ومنه : مررت برجل معه باز قابض على آخر ، ومررت برجل معه جبة لابس غيرها.

وإن جعلته على الإضمار الذي في معه ، نصبت ، وكذلك : مررت برجل عنده صقر صائد بباز) ، وإن جعلته على الوصف ، فهو هكذا.

وإن حملته على ما في عنده من الإضمار ، نصبت ، كأنك قلت : عنده صقر صائدا بباز ، يعني كأنك بدأت فقلت : عنده صقر صائدا بباز لرجل جرى ذكره ، كما تقول :

عنده صقر صائدا بباز ، وكذلك : مررت برجل معه الفرس راكبا برذونا ، يعني قلت : مبتدئا معه ، على ما مضى من شرح مثله فهذا لا يكون فيه وصف ولا يكون إلا خبرا يريد حالا.

قال : (ولو كان هذا على القلب كما يقول النحويون ، لفسد كلام كثير ولكان الوجه : مررت برجل حسن الوجه جميله ، لأنك لا تقول : مررت بجميله حسن الوجه ، ولقال : مررت بعبد الله معه بازك الصائد به ، فنصب ، فهذا لا يكون فيه إلا الوصف لأنه لا يجوز أن تجعل المعرفة حالا يقع فيه شيء ، ولم تقل : جميله لأنك لم ترد أن تقول : إنه حسن الوجه في هذه الحال ، ولا أنه حسن وجهه جميلا وجهه ، في هذه الحال : حسن وجهه ، فلم يرد هذا المعنى ، ولكنه أراد أن يقول : هذا رجل جميل الوجه ، كما يقال : هذا رجل حسن الوجه ، فهذا الغالب في كلام الناس.

وإن أردت الوجه الآخر فنصبت ، فهو جائز لا بأس به ، وإن كان ليست له قوة الوصف في هذا ، فهذا الذي الوصف فيه أحسن وأقوى).

قال أبو سعيد : هذا الذي ذكره سيبويه عن النحويين من نصب ما لا يحسن فيه القلب ، أصله صفة مضافة إلى ضمير شيء جرى ذكره أو صفة متعلقة ، فضمير شيء

٣٨٠