شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

قال سيبويه : (ومن النعت : مررت برجل لا قائم ولا قاعد).

قال أبو سعيد : أصل هذا : مررت برجل قائم أو قاعد ، فإذا أردت نفي الصفة ، قلت : مررت برجل لا قائم ولا قاعد ، فلم تخل بين الصفة والموصوف ، ووقع الجحة بها ، وعطفت الثانية على الأول بالواو ، وكان الأصل : مررت برجل غير قائم ، وغير قاعد.

وأعربت غير إعراب رجل لأنها نعت ، وغير اسم معرب ، وجعل مكانها لا ، وهي حرف لا يعرب ، فجعل إعراب غير فيما بعد لا.

قال سيبويه : (ومنه مررت برجل راكع لا ساجد ، لإخراج الشك ، أو أراد أن يؤكد العلم فيهما).

قال أبو سعيد : لا ها هنا للعطف ، كقولك :

قام زيد لا عمرو ، وهو لإخراج الثاني مما دخل الأول فيه ، ومعنى قوله : (لإخراج الشك) ، يعني :

الشك في أنه ساجد أو تأكيد العلم بركوعه وعدم سجوده ، ثم قال سيبويه : (ومنه : مررت برجل رجل صدق). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : أمّا قوله : (وكذلك السوء ليس بمعنى سؤته).

فأراد أن يعلمك أنه ليس بفعل فعله الرجل ، فيكون نعتا له ، والسوء هاهنا بمعنى الفساد والرداءة ، وليس من ساءني يسؤني ، والصدق بمعنى الجودة والصلاح ، فإذا قال : مررت بحمار سوء ، فقد قال : بحمار ذي رداءة ، وإذا قال : بحمار صدق ، فقد قال : بحمار ذي جودة ، ثم قال سيبويه : (ومنه مررت برجلين مسلم وكافر). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أنك إذا ذكرت اسمين مثنيين ، أو أسماء مجموعة منصوبة أو مخفوضة ، ثم جئت بعدها بنعتها معرفا ، فإنه على وجهين ، أحدهما :

أن يكون عدة النعت المفرق ، كعدة المنعوت.

والضرب الآخر : أن تكون عدة النعت المفرق أقل من عدة المنعوت ، فإذا كانت العدة في المنعوت والنعت المفرق واحدة ، وهو ما ذكره سيبويه في هذا الموضع فإن لك أن تجري النعت على لفظ المنعوت من وجهين ، ولك أن ترفع النعت ، وذكر في رفعه وجها ، وذلك قولهم : مررت برجلين مسلم وكافر ، بخفض مسلم وكافر من وجهين ، أحدهما :

٣٢١

أن يجعل النعت وتعريفه كجمعه ، فيصير مسلم وكافر كقولك : مسلمين أو كافرين ، ومن حيث جاز أن يفرق الاسم. ويجمع النعت في قولك : مررت برجل وامرأة وحمار قيام ، جاز أن تجمع الاسم ، ويفرق نعته ، فتقول : مررت برجل قائم وقاعد ونائم.

والوجه الثاني : أن يجريه على الأول مبدلا منه ، كأنه قال : مررت بمسلم وكافر ولم تذكر رجلين. وفسّر سيبويه خفضه على البدل بقوله : (كأنه أجاب من قال : بأي ضرب مررت) ، وإنما قدّر هذا ، لأن البدل في التقدير كأنه هو الملفوظ المتصل بالفعل ، وقد رفع مسلم وكافر على جواب من قال : ما هما؟

فكان التقدير : هما مسلم وكافر ، فيكون مسلم وكافر خبرهما ، وقد قدّر سيبويه في غير هذا الموضع الرفع على التبعيض ، ومعناه :

أحدهما مسلم والآخر كافر ، وهذا الوجه من الرفع هو الذي يستعمله النحويون في ألفاظهم كثيرا.

وأمّا إذا كان النعت المفرق أقل في اللفظ من المنعوت ، فالرفع لا غير ، وذلك قولك : بثلاثة نفر مسلم وكافر.

وإنما وجب الرفع في هذا لأنه لما نقص وجب تقدير التبعيض ضرورة ، كأنه قال :

مررت بثلاثة نفر بعضهم مسلم ، وبعضهم كافر ، لأن بعض الثلاثة جائز أن يكون اثنين ، ولا يجوز في هذا الوجه الذي قدره سيبويه غير الرفع ، لأن ذاك مبتدأ وخبر يؤتى به على تمام العدة ، وقد يعيدون الاسم توكيدا ، ويقولون : مررت برجلين رجل مسلم ورجل كافر.

وتقدير الإعراب فيه واحد ، وإعادة الاسم فيه توكيد.

قال سيبويه : (ومما جاء في الشعر قد جمع فيه الاسم وفرق النعت ، وصار مجرورا. قول الباهلي :

بكيت وما بكا رجل كبير

على ربعين مسلوب وبال (١)

كذا سمعنا العرب تنشده ، والقوافي مجرورة).

قال أبو سعيد : قد اعترض في قوله : والقوافي مجرورة فقيل : بال مرفوع مجرور بلفظ

__________________

(١) في معجم هارون ١ / ٣١٥ : الباهلي أو ابن ميادة مغني اللبيب ٣٥٦ (٢٦٢).

٣٢٢

واحد لأنه كقاض ورام في بنات الياء ، فكيف احتج بخفض القوافي؟ وهذا لا يلزمه ، وإنما اعتمد على ما سمعه من العرب في خفض مسلوب.

وقوى ذلك أن مبنى القافية على الجر ، والشاعر المقتدر يبني القافية على موجب الإعراب رفعا أو نصبا أو جرا ، ثم يجري باقي القصيدة على تقدير ذلك الإعراب ، وإن لم يظهر ذلك الإعراب ولم يلفظ به حتى لو أطلقت كانت بحسب موجب الإعراب كما قال الحطيئة :

شاقتك أظعان للبلى يوم ناظرة بواكر

في الآل ترفعهاالحدأة فكأنها سحق مواقر(١)

جمع موقرة وهي الحاملة.

وهذه القصيدة موقوفة ، ولو أطلقت أبياتها لكانت مرفوعة كلها.

وقال الكميت :

قف بالديار وقوف زائر

تأنىّ إنك غير صاغر

ما ذا عليك من الوقوف

بهامد الطللين داثر (٢)

وهذه القصيدة موقوفة ، ولو أطلقت أبياتها كلها كانت مخفوضة. وللكميت قصيدة أخرى أولها :

يا دار هل بحولك أهل ممن يرج إليه سائل

يادار كنت محلة فيك التآلف والتواصل(٣)

وهذه القصيدة موقوفة ، ولو أطلقت كانت الأبيات كلها مرفوعة.

قال : (ومنه أيضا : مررت بثلاثة نفر : رجلين مسلمين ، ورجل كافر ، جمعت الاسم وفصلت العدة ، ثم نعتّه وفسّرته ، وإن شئت أجريته مجرى الأول في البدل والابتداء ، قال العجاج :

خوّى على مستويات خمس

كركرة وثفنات ملس (٤)

__________________

(١) ديوان الحطيئة : ١٦٥ قصيدة رقم ٤٠.

(٢) ديوانه ١ / ٢٢٣ ـ العيني ٨ / ٤٠١.

(٣) غير موجود في ديوانه.

(٤) ديوانه : ٣٥٨.

٣٢٣

فهذا يكون على وجهين :

على البدل وعلى الصفة).

ومثل ما يجيء في هذا الباب على الابتداء وعلى الصفة ، قوله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ)(١).

ومن الناس من يجر ، والجر على وجهين :

الصفة والبدل ، ومثله قول كثير عزة :

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزمان فشلّت (٢)

قال سيبويه : (فأما مررت برجل صالح فليس فيه إلا الصفة).

قال أبو سعيد : إنما قال : (ليس فيه إلا الصفة) لأن الرفع والصفة الجائزان في قولك :

مررت برجل راكع وساجد على الصفة ، ومسلم وكافر على خبر مبتدإ ، لا يكون مثله في قولك : مررت برجل راكع وساجد ، كأنه أجاب من قال : ما هو؟ وقد ذكر سيبويه قبل هذا.

قال سيبويه : (وإذا جئت بالنعت بلفظ واحد فإن الرفع الذي يوجبه النعت يبطل ، ويجري النعت على الاسم ، تقول : مررت بثلاثة رجال مسلمين ، لا يحسن فيه إلا الجر ، لأنك جعلت الكلام اسما واحدا حتى صار كأنك قلت : مررت بقائم ، ومررت برجال مسلمين ، وهذا قول يونس). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : فإنه يريد أن الاسم الواحد وإن كان له خبر معطوف عليه خبره ، فإنه لا يجوز فيه التبعيض ، كما أن صفات الواحد لا يجوز فيها التبعيض ، وإنما يجوز التبعيض في الخبر إذا كان الاسم مثنى أو مجموعا كقولك : كان أخواك راكع وساجد ، على معنى أحدهما راكع ، والآخر ساجد ، وكان أخوتك راكع وساجد على معنى بعضهم راكع ، وبعضهم ساجد ، وكذلك إن فرقت الأسماء وجمعت النعت لم يكن فيه تبعيض ، تقول :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٣.

(٢) ديوانه : ١ / ٤٦ ـ الخزانة : ٢ / ٣٧٦.

٣٢٤

مررت برجل وامرأة وحمار قيام ، وكذلك لو كانت الأسماء معرفة ، وجاء حال منهم مجموع بلفظ واحد ، لم يكن فيه تبعيض وكان نصبا كقولك : مررت بأخيك ، وعبد الله ، وزيد قياما ، ولا تقل : قيام ، ولو قلت : مررت بأخويك قائما وقاعدا ، جاز فيه النصب والرفع على التبعيض.

قال سيبويه : (وتقول : مررت برجل أسد شدة وجرأة). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : قولهم : مررت برجل أسد ضعيف لأن أسد اسم نوع ، ولا يوصف بالأنواع ولا بالجواهر ، وإنما الوصف بالتحلية فاحتجن لذلك إلى تقدير مثل في الوصف ، فقدرت مثل الأسد ، لأن مثل بمعنى مماثل وهو مأخوذ من فعل.

والأسماء الجارية على الفعل هي للصفات في الأصل ، فإذا قلت : مررت بزيد أسد شدة لم يقبح.

قال سيبويه محتجا لهذا : (وقد يكون خبرا ما لا يكون صفة) ، وقد ذكرنا من قول سيبويه : (هذا مالك درهما ، وهذا خاتمك حديدا) على الحال ، ولا يحسن : مررت بحديد خاتم وفضة درهم على الصفة.

قال أبو سعيد : والذي عندي : أن جواز أسد في الصفة والحال واحد ، وذلك أنك لست تريد في الحال إذا قلت : مررت بزيد أسدا شخص الأسد الذي هو السبع ، وإنما تريد شديدا.

وإذا كان أسد في الحال بمعنى شديد ، كان في الصفة مثله لأن مرجعه إلى معنى شديد ، وشديد صفة ، فإذا قلت : هذا خاتمك حديدا وهذا مالك درهما ، فإنما تريد نفس الحديد والدرهم.

قال سيبويه : (ومنه أيضا : ما مررت برجل صالح بل طالح ، أبدلت الصفة الأخيرة من الصفة الأولى). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : قد استعمله سيبويه في هذا الموضع وقبله بأسطر ، لفظ البدل على غير ما اعتاده النحويون ، لأن البدل في كلامهم هو : أن يقدر سقوط ما قبله ، ويقام الثاني مقامه ، ولو قدرنا هذا في هذا الموضع لما صح الكلام ، لأنه قال في الأول : ما مررت برجل كريم بل لئيم ، ولو أطرحنا كريما ، وجعلنا مكانه لئيم ، صار تقديره : ما مررت برجل لئيم ، وليس هذا بمراد ، فيكون معنى الكلام أنك أبدلت الإيجاب من النفي على ما

٣٢٥

يصح من اللفظ والمعنى ، فيصير التقدير : ما مررت برجل كريم بل مررت برجل لئيم ، وكذلك : ما مررت برجل صالح ولكن مررت برجل صالح ، فالأول من الكلامين غير معمول به ، والثاني هو المعتمد عليه.

فأبدل كلاما معتمدا عليه من كلام مطرح ، وهو معنى البدل.

وقال سيبويه : (إن بل ، ولا ، ولكن تشرك بين النعتين فيجريان على المنعوت كما أشركت بينهما الواو والفاء وثم وأو ، وما أشبه ذلك). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أن بل ، ولا ، ولكن حروف العطف تشرك بين الأول والثاني في الإعراب على اختلاف معانيهما ، وأما (بل) فإنها إذا أتت بعد كلام موجب فالأغلب عليها تحقيق الثاني ، والإضراب عن الأول ، ويكون الكلام غلطا من المتكلم به سبق إليه لسانه ، أو رأى ذكره ، ثم رأى ذكر غيره كما يذكر الذاكر الشيء على غير وجه الإبطال له ، ولكن يرى أنه مضى وتقضّى وقته والحاجة إلى ذكره ، وأن ما بعده أولى بالتذكر فيقول : كان كذا وكذا بل كذا ، تقول :

كان كذا ثم تقول : دع ذا أو خذ ذا الشيء الآخر.

قال زهير :

دع وعد القول في هرم

خير الكهول وسيد الحضر (١)

ولم يرد زهير إبطال ما قبله من الكلام ، وقال العجاج بعد أشياء ذكرها لم يرد إبطالها :

دع ذا وبهج حسبا مبهجا

فخما وسير مطلقا مروجا (٢)

فأما (لا بل) فإن (لا) تأتي لتوكيد إبطال ما قبلها ، وفصل سيبويه بين (بل) و (لكن) فقال في (بل) : (مررت برجل صالح بل طالح) ، على أنه نسى أو غلط فتدارك كلامه ، ولم يجز : مررت برجل صالح ولكن طالح ، على تدارك النسيان ، إنما جئت بها بعد النفي ، كقولك : ما مررت برجل صالح لكن طالح ، وأمّا لكن فإنها إذا أتت بعد منفى جاز أن يكون ما بعدها عطفا كقولك : ما زرت زيدا ولكن عمرا ، وما مررت بزيد لكن

__________________

(١) ديوانه : ٢٧.

(٢) ديوانه : ٢٩٥.

٣٢٦

عمرو ، وما خرج زيد لكن عمرو.

وليس يكون بها عطف إلا على هذا فوجب لما بعدها ما نفي عما قبلها ، كما أن لا تنفى عما بعدها ما وجب لما قبلها ، فهي نقيضها.

قال أبو العباس : الفرق بين (لكن) و (بل) أن (بل) لا يتكلم بها إلا غالط إذا قلت : رأيت زيدا بل عمرا ، كأنك قلت :

ما رأيت زيدا بل ما رأيت عمرا ، أضربت عن الأول واعتمدت في الجحد على الثاني. قال أبو العباس : وقد تكون بمعنى لكن في قولك :

ما رأيت زيدا بل عمرا ، أي :

بل رأيت عمرا ، فمعناه : لكن عمرا.

ويجوز أن تعني : بل ما رأيت عمرا إذا أردت إبطال الأول.

والجيد أن تحمله على : رأيت ، لأنها أقرب إليه فيكون المعنى : بل رأيت عمرا.

ويجوز الرفع بعد هذه الحروف.

وتكون عاطفة جملة على جملة ، ويكون الرفع على إضمار (مبتدأ) يكون الذي ظهر خبره.

ثم قال سيبويه : (تقول : ما مررت برجل مسلم ، فكيف رجل راغب في الصدق بمنزلة :

فأين راغب؟ وزعم يونس أن الجر خطأ ، لأن (أين) ونحوها يبتدأ بهن ، ولا يضمر بعدهن شيء).

قال أبو سعيد : يريد : أنهن لا يجرين مجرى حروف العطف التي يعمل فيما بعدهن عامل الاسم الذي قبلهن ، وهذا لا يجوز في حروف الاستفهام لأنهن لا يعمل ما قبلهن فيما بعدهن.

لا تقول : رأيت زيدا فأين عمر أو فهل بشرا.

فإذا قلت : كيف رجل راغب في الصدقة؟ فرجل : مبتدأ ، وراغب : نعته ، وكيف : خبره.

وأين راغب في الصدقة؟ فراغب : مبتدأ ، وأين : خبره.

و (لكن) و (بل) لا يكونان مبتدأين فيشبّهن بحروف العطف إذ كنّ لا يبتدأ بهن.

٣٢٧

وذكر أبو بكر مبرمان غير ذكر قوله : ولا يضمر بعدهن شيء ، أن التي يضمر بعدهما ما كان فيه معنى التخصيص ، كقولك : جئتك بدرهم ، فتقول : هلّا دينارا.

قال سيبويه :

(ومما جرى نعتا على غير وجه الكلام : هذا جحر ضبّ خرب). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : كلام سيبويه في هذا الفصل بيّن ، واحتجاجه فيه قوي ، وخلافه للخليل فيه مفهوم أيضا وأصل (لكن) العطف لأنها تدخل لإيجاب نفي عما قبلها لما بعدها لتصير حال ما بعدها مخالفة لما قبلها.

وقد استعملت للعطف في الحال التي ذكرنا.

وتدخل الواو عليها في تلك الحال ، فيصير العطف للواو ، ويكون دخول (لكن) بمعنى : التدارك للمعنى ، كقولهم : ما رأيت زيدا ولكن عمرا ، وما مررت بزيد ولكن عمرو.

ورأيت بعض النحويين من البصريين قال في :

هذا جحر ضب خرب ، قولا شرحته وقويته بما يحتمله. زعم هذا النحوي : أن المعنى هذا جحر ضب خرب : الجحر ، والذي يقوي هذا أنّا إذا قلنا : خرب الجحر ، صار من باب : حسن الوجه.

وفي خرب ضمير الجحر مرفوع لأن التقدير :

كان خرب جحره ، ومثله ما قاله النحويون :

مررت برجل حسن الأبوين لا قبيحين ، والتقدير :

لا قبيح الأبوين ، وأصله : لا قبيح أبواه ، ثم جعل في : قبيح ضميرا لأبوين ، فثني لذلك وأجري على الأول فخفض واكتفي بضمير الأبوين ، ولم يعد ظاهرهما لما تقدم لهما من الذكر ولا يشبهه عندي قوله :

 ... وجيد بطن واد

هموز الناب ... (١)

على هذه العلة لأنّا إذا خفضنا (هموز) فهو محمول على (بطن واد) ، وليس هموز

__________________

(١) البيت للحطيئة في ديوانه ص ١٣٨ والخصائص ٢ / ٣٧٢ ، وهو

فإذا إياكم وحية بطن واد

هموز الناب ليس لكم بسيّ

٣٢٨

بمضاف إلى شيء يصححه إضافته في التقدير ، فما كان تقديره إضافة (خرب الجحر) يوجب تصحيح الخفض.

ومثله : مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين ، فعطف قاعدين على قائم ، لأن معناه : قائم أبواه لا قاعدا أبواه ، ثم أضمر الأبوين فثنّي الضمير.

هذا باب ما أشرك بين الاسمين فجريا عليه

كما أشرك بينهما في النعت فجريا على المنعوت

(وذلك قولك : مررت برجل وحمار قبل.

قالوا وأشركت بينهما في الباء ، فجريا عليهما ، ولم تجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه يكون أولى بها من الحمار.

كأنك قلت : مررت بهما). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : هذا باب ساق سيبويه فيه حروف العطف ، فبدأ بالواو لأنها أقوى حروف العطف ، لأنها تعطف بها في الإيجاب والجحد ، وفي كل ضرب من الفعل ، تقول في الجحد : ما قام زيد وعمرو.

وفي الإيجاب : قام زيد وعمرو.

وتقول فيما تنفرد به الواو من ضروب الفعل ، وهو ما كان يقتضي من الفعل اثنين فصاعدا ، تقول :

اختصم زيد وعمرو ، تشاتم بكر وخالد.

ولو قلت : اختصم زيد وعمرو ، أو ثم عمرو.

واختصم زيد أو عمرو ، أو اختصم زيد لا عمرو ، ولم يجز هذا كله ، لأن هذه الحروف إنما تعطف بها على فاعل واحد في الفعل الذي يكتفي بفاعل واحد ، كقولك : قام زيد ، فإذا كان الفعل لا يكتفي ، لم يكن بد من واو وذلك في : اختصم وبابه لأنك لا تقول : اختصم زيد ، إذا كان الاختصام لا يكون من واحد.

ولو قلت : اختصم الزيدان أو العمران ، جاز لأنك قد جئت للفعل بما اكتفى به ، ثم عطفت بالفاء وغيرها على ما هو مكتف ، ولو قلت : اختصم الزيدان فعمرو ، لم يجز حتى تضم إلى عمرو اسما آخر بالواو ، فتقول :

اختصم الزيدان فعمرو وخالد ، لأن الفاء ليس لها الجمع ، إنما لها التوالي ، وهي

٣٢٩

بمنزلة عامل آخر.

فإذا كان الفعل المعطوف عليه يقتضي فاعلين مثل : اختصم ونحوه ، لم يجز أن يعطف عليه بالفاء اسما مفردا ، لأنه لا يكون من واحد ، ويجوز بالواو لأنها تشرك الواحد مع من تقدمه.

واعلم أن حروف العطف عملها الاشتراك بين الثاني والأول في الإعراب.

وتختلف معانيها ، فأمّا الواو : فإنها مع إشراكها بينهما في الإعراب تشرك بينهما في المعنى حتى يكون الثاني داخلا فيما دخل الأول فيه من المعنى المذكور للأول في الجمع والتفريق.

فالجمع : مررت بزيد وعمرو ، وقد مررت بأحدهما في وقت ، وانقطع مرورك ثم مررت بالآخر بعد حين.

وهذا الذي يسميه سيبويه : (مرورين).

وأجمع النحويون واللغويون من البصريين والكوفيين أن الواو لا توجب تقدم ، وما تقدم لفظه.

قال الله تعالى في قصة واحدة في البقرة :

(وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ)(١).

وقال في الأعراف :

(وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)(٢) فأما الفاء فإنها وضعت للاتصال ، ودخول الثاني فيما دخل فيه الأول متصلة به ، كقولك : ضربت زيدا فبكى ، وأعطيته فاستغنى وضربت زيدا فعمرا ، ودخلت الكوفة فالبصرة.

فالثاني بعد الأول وهو متصل به ، وداخل في معناه ، فزيد داخل في الضرب ، والبصرة داخلة في الدخول مثل الكوفة ، ومعنى ذلك : أنه لم يقطع سيره الذي دخل به الكوفة حتى وصله بالسير الذي دخل به البصرة ، لم تحدث بينهما مهلة ولا فتور.

وأمّا (ثم) فسبيلها سبيل الفاء في أن الثاني داخل في معنى الأول ، وأنه بعده إلا أن

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٥٨.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٦١.

٣٣٠

بين الثاني والأول مهلة.

ولذلك قال سيبويه :

(مررت برجل أو امرأة أشركت بينهما أو في الإعراب ، وأثبت المرور لأحدهما دون الآخر).

وأما (لا) فهي تنفي عن الثاني ما وجب للأول ، كقولك : مررت برجل لا امرأة أوجبت المرور للأول ، ونفيته عن الثاني ، وفصلت بينهما عند من التبسا عليه ، فلم يدر بأيهما مررت.

وهذه الحروف لازمة للعطف ، وقد استعمل غيرها في العطف مما ليس بلازم كلزومها ، وقد ذكر في موضعه.

وقد جاء بعض هذه الحروف على غير الوضع الذي ذكرناه في الظاهر وفيه تأويل يرده إلى أصله ، وخلاف بين الناس.

قال الله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا)(١) ، فقال قائل :

كيف يحيى الناس بعد الهلاك على موضع الفاء من اتصال الثاني بالأول ومجيئه بعده؟

فالجواب : أن دخول الفاء في هذا الموضع ونحوه ، يجري مجرى الفاء في جواب الشرط ، وجواب الشرط قد يكون متأخرا في الكلام ومتقدما في العامل ، كقول القائل :

من يظهر منه الفعل المحكم فهو عالم به ، ومن يقتصد في نفقته فهو عاقل.

ومعلوم أن العلم بالفعل المحكم قبل ظهوره ، وعقل المقتصد قبل الاقتصاد ، وإنما تقدير ذلك من يظهر منه الفعل المحكم فيحكم له أنه عالم به.

وكذلك لو جعلناه خبرا فقلنا : زيد فقد ظهر منه الفعل المحكم ، فهو عالم به أو فهو محكوم له بالعلم بعد ظهور ذلك ، فكذلك قوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً)(٢) ، أي لما أهلكها الله تعالى ، حكم بأن البأس جاءها بياتا أو بالنهار ونحو هذا في القرآن والكلام.

قال الله تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ)(٣) والخطاب لليهود بعد قتل أسلافهم

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٩١.

٣٣١

للأنبياء على معنى :

لم ترضون بذلك وقد قال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها)(١) إلى قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ)(٢) الآية؟

ومعلوم أنه لا يشترط في الآخرة شروط الثواب والعقاب. وعن هذا جوابان :

أحدهما : أن معنى : فمن يعمل ، أي : من يظهر ذلك اليوم في صحيفته خير أو شر ير مكافأته.

والآخر : أن معنى فمن يعمل في الدنيا ويكون كون الفاء بعد ذكر ما ذكره في الآخرة على معنى أن ما يكونه الله تعالى في الآخرة من الشدائد التي ذكرها توجب أنه من عمل في الدنيا خيرا أو شرا يراه كما يقول القائل :

الآخرة دار المجازاة ، فمن يعمل خيرا يره ، ولم يرد خيرا مستأنفا دون ما عمله العاملون ، قال الشاعر في نحو ما ذكرنا :

إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن

عارا عليك وبعض قتل عار (٣)

وقال آخر :

إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب (٤)

والخطاب لمقتولين بعد قتلهما على معنى :

أن يفجروا بقتلك ، وقد يكون ذلك ـ أيضا ـ على مذهب الإرادة ، فيكون التقدير : وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كما قال تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(٥) والقيام بعد غسل الوجه ، والمعنى : إذا أردتم القيام للصلاة. وقال الفراء : وربما أتى في الكلام سابقا إذا كان في الكلام دليل السبق ، فإذا عدم الدليل لم يجز ، وذكر قول الله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا)(٦) ، فذكر

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآية : ١.

(٢) سورة الزلزلة ، الآية : ٦.

(٣) البيت لثابت قطنة كما في البيان والتبيين ١ / ٢٩٣ ، المغني ١ / ٣٥ ، ١٥٤ ، والخزانة ٩ / ٧٦.

(٤) البيت لربيعة بن أبي ذؤاب. دلائل الإعجاز / ١٦٦.

(٥) سورة المائدة ، الآية : ٦.

(٦) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

٣٣٢

عن قرية جاءها البأس قبل الهلاك ، كما قالوا في قوله :

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)(١) ، ثم خلقكم منها.

وقد قيل : خلقكم من نفس وحدها ، ثم جعل الزوج منها بعد التوحيد ، فأفادت (واحدة) هذا المعنى.

قال : والأجود في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ)(٢) أن يريد أصلكم الذي هو آدم.

كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً)(٣) معناه : خلق أصلكم الذي هو آدم من طين.

وقال الفراء في قوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا)(٤) : إذا كان الشيئان يقعان في حال واحدة ، نسقت بأيهما شئت على الآخر بالفاء ، كقولك : أعطيتني فأحسنت ، وأحسنت فأعطيتني لا فرق بين الكلامين ، لأن الإحسان والإعطاء فيهما واحد.

قال أبو سعيد : وهذا شبه الذي بدأت به في تفسير الآية ، لأنا متى جعلنا أحدهما شرطا،جاز أن يجعل الآخر جوابا ، فدخل الفاء من حيث جاز أن يكون جوابا،كقولك :

إن أعطيت أحسنت ، وإن أحسنت أعطيت ، وإن تعط فأنت محسن ، وإن تحسن فأنت معط.

وقال غير الفراء في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)(٥) :

معناه : ثم كان قد استوى على العرش قبل أن يخلق السموات والأرض ، وهذا يشبه الجواب الذي حكاه الفراء في قوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا)(٦) وقالوا فيها جواب آخر على جعل (ثم) للتقديم ، تقديره : هو الذي استوى على العرش ثم خلق السموات والأرض ، كما قال تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٧) ومن هذا ـ أيضا ـ ما ادعاه

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٦.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١١.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٢.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

(٥) سورة الحديد ، الآية : ٤.

(٦) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

(٧) سورة النمل ، الآية : ٢٨.

٣٣٣

ناس يزعمون أن الله تعالى خلق السموات قبل الأرض ، وأن قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ)(١) لم يجب ب (ثم) تأخير خلق السماء منه ومنهم مقاتل بن سليمان ، ومنه دعوى من يدعي أن (ثم) لا توجب تأخير ما بعدها من قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)(٢) وقد علم أن الاهتداء يتأخر عن التوبة والإيمان والعمل الصالح ، وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)(٣) وليست التوبة متأخرة عن الاستغفار.

قال أبو سعيد : هذا كله يخرج على الموضع الصحيح في (ثم) من تأخيرها ما بعدها عما قبلها بتأويل يشهد به كلام العرب ، أما قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)(٤) ، فإن الاستواء بمعنى الاستيلاء كان ، أو بمعنى غيره لا يصح إلا على الموجودات بعد خلقه إياها ، والعرش داخل في خلق السموات والأرض ، ثم صرفها ودبرها كيف شاء قاهرا لها. وقال الفراء : (ثم) تدل على تأخير الخبر في كلام المخبر على أنه متأخر في أصل البنية فتقديره في التلخيص : هو الذي خلق السموات والأرض ، ثم اسمعوا إذا الخبر الأخير الذي ذكر لكم بعد الخبر الأول ، وهو أنه استوى على العرش ، ف (ثم) أوجبت تأخير كلام بعد كلام ، وإفادة بعد إفادة. ومثله من كلام العرب أن الإنسان يعدّد إحسانه فيقول : فعلت بك اليوم وأعطيتك ، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر ، وأما قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٥) فليس التولي : الانصراف عنهم ، وإنما معناه : تنحّ عنهم بعد إلقاء الكتاب إليه ، بحيث يكون عنك بمرأى ومسمع ، فانظر ما ذا يرجعون من جواب الكتاب.

وأما خلق الله الأرض قبل السماء على ظاهر قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ)(٦) ، فهو الصحيح الذي أقول به ، وهو المأثور عن ابن عباس ، ومجاهد ،

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ١١.

(٢) سورة طه ، الآية : ٨٢.

(٣) سورة هود ، الآية : ٩٠.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ٥٤ ـ ويونس : ٣ ـ والرعد : ٢ ـ والفرقان : ٥٩ ـ والسجدة : ٤ ـ والحديد : ٤.

(٥) سورة النمل ، الآية : ٢٨.

(٦) سورة فصلت ، الآية : ١١.

٣٣٤

وغيرهما من أئمة التفسير.

فأما قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)(١) ففيه قولان : أحدهما ، أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوّة ، ثم دحيت بعد ما ذكره الله تعالى من أمر السماء.

والقول الآخر ، أن تكون (بعد) بمعنى (مع) ، ومع تكون بمعنى بعد ، فأما (بعد) بمعنى (مع) فقوله تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ)(٢) أي : مع ذلك.

وقال الشاعر :

فقلت لها فيئي إليك فإنني

حرام وإني بعد ذاك لبيب (٣)

فمعنى بعد ذاك ، أي : مع ذاك ، واللبيب هاهنا : الملبي ، والتلبية مع الإحرام فأما (مع) بمعنى (بعد) فقوله تعالى : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)(٤) ، معناه : أن بعد العسر يسرا ، وقوله تعالى : (وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)(٥) فمعنى ذلك : ثم داموا على التوبة ، ومعنى ثم اهتدى : ثم دام وثبت على ذلك.

وقد ظهر من كلام سيبويه العامل في الاسم الأول والثاني واحد ، وهو الجار الذي جر الأول بقوله : (في كل واحد من الواو ، والفاء ، وثم ، وأو ، فلا أشركت بين الاسم الأول والثاني في الباء ، والباء عاملة في الاسمين) ، والدليل على ذلك أن الاسمين إذا أمكن تثنيتهما ، والأسماء إذا أمكن جمعها لم يحتج إلى الواو ، وفي قولك : مررت برجلين ، ومررت برجال ، وقام الزيدان والزيدون ، وإنما يحتاج إلى حرف العطف لمعارض يحوج إلى تفريق الاسمين أو الأسماء لاختلافهما أو لاختلاف أحوالهما ، وذكر سيبويه في هذا الباب كيف نفي الموجب ، ومما ذكر أنك إذا قلت : مررت بزيد وعمرو وجاز أن يكون مرور واحد وقع عليهما في حال واحدة ، ويجوز أن يكون مرّ بهما مرورين في حالين.

وإذا كان المرور بهما واحدا ، فنفيه أن يقول : ما مررت بهما ، وإذا كان في مرورين قلت : ما مررت بزيد ، وما مررت بعمرو.

__________________

(١) سورة النازعات ، الآية : ٣٠.

(٢) سورة القلم ، الآية : ١٣.

(٣) البيت في الخزانة ١ / ٢٧٠ ، شروح سقط الزند / ١١٤٣.

(٤) سورة الشرح ، الآية : ٦.

(٥) سورة طه ، الآية : ٨٢.

٣٣٥

قال المازني ردا على سيبويه :

(نفي هذا وإن أراد مرورين ما مررت بزيد وعمرو).

قال : والذي قال سيبويه خطأ ، قال : ولو قال مررت بزيد ومررت بعمرو كان نفيه : ما مررت بزيد ، وما مررت بعمرو.

قال أبو سعيد : وما قال سيبويه أصح وأجود ، وذلك أن الثاني مكذّب للمثبت فيما ثبّته وخبّر به.

فإذا كان الذي خبّر به مرورين كل واحد منهما وقع بأحد الرجلين ، وقال : ما مررت بهما.

احتمل أن تريد : وما مررت بهما بمرور واحد ، فلا يكون مكذّبا ، وإذا قال : ما مررت بزيد ، وما مررت بعمرو ، فقد كشف التكذيب له وأبطل التأويل.

قال سيبويه : (وجواب" أو" أن نفيت الاسمين).

يعني : إذا قلت : مررت بزيد أو عمرو ، وما مررت بواحد منهما.

(وإن أثبت أحدهما ، فقلت : ما مررت بفلان).

وقال المازني : إذا قلت : ما مررت بواحد منهما ، فهو جواب" أو" في المعنى ، وجوابها في اللفظ : ما مررت بزيد أو عمرو والحدّ ما قاله سيبويه لأن النافي إذا قال : ما مررت بزيد أو عمرو ، فالظاهر أنه نفى مروره بأحدهما ، والمثبت إنما أثبت مروره بأحدهما فلم يثبت مروره بالآخر.

فيجوز أن يكون الذي نفاه النافي هو الذي لم يثبته المثبت فلا يكون تكذيبا.

هذا باب البدل والمبدل منه

(والبدل يشرك المبدل منه في الجر وذلك قولك : مررت برجل حمار ، فهو على وجه محال ، وعلى وجه حسن). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : قد مضى هذا الضرب من البدل مشروحا في باب البدل ، وقد ذكر أشياء فيها حروف العطف فسماها بدلا ، وتلك الحروف : بل ، ولا بل ، ولكن ، وأو.

ولو قال عقيب الأول ، ومثل ذلك قولك :

لا بل حمار ، تريد : مررت برجل لا بل حمار.

قال : (ومن ذلك : مررت برجل بل حمار وهو على تفسير : مررت برجل حمار.

٣٣٦

ومن ذلك : ما مررت برجل ، ولكن حمار ، وأبدلت الآخر من الأول وجعلته مكانه).

وقال في الباب : (ومن المبدل ـ أيضا ـ قولك : قد مررت برجل أو امرأة ، إنما ابتدأ بيقين ، ثم جعل مكانه شكا أبدله منه ، فصار الادعاء فيهما سواء) ، واعتمد على أن ابتداء الكلام إذا كان يوجب أمرا ثم جاء بما يبطله ، ويوجب الثاني نحو : بل ، ولا بل ، فهو بدل شبيه بدل الغلط الذي بدأ به ، وهو في معناه ، وجعل لكن كذلك لأنه أوجب وحقق إبطال الأول.

و (بل) و (لكن) إذا كان قبلهما جحد فهما في المعنى سواء كقولك : ما مررت برجل بل عمرو ، وما مررت بزيد لكن عمرو ، وجعل أو من الباب ، لأنك بدأت بالأول على لفظ اليقين ثم شككت فيه ، والتشكيك فيه كالإبطال له ، ولهذا شبه (أو) ب (لكن) حين قال في (أو) (ابتداء بيقين ثم جعل مكانه شكا) ، فهو شبيه بقوله : ما مررت بزيد ولكن عمرو ، ابتدأ بنفي ثم جعل مكانه يقينا.

فإن قال قائل : فهلا جعل قولك : مررت بزيد لا عمرو من هذا ؛ لأنه نفي بعد الإيجاب بمنزلة التوكيد للإيجاب المتقدم ، كما أن قولك : هذا زيد لا شك فيه ، كقولك : هذا زيد حقا ، فقولك : مررت بزيد لا عمرو ، كقولك : مررت بزيد حقا.

فأما قول سيبويه : (وقد يكون فيه الرفع على أن يذكر الرجل) ، وذكر الفصل.

قال المفسر : وجعل سيبويه رفعه بإضمار اسم مكنيّ يكون الظاهر خبره ، ويكون ذلك المكني على ضربين :

أحدهما : أن يكون قد جرى ذكره فيضمر الاسم الذي ذكره.

والآخر : أن تعرف المعنى فيضمر ذلك المعنى وإن لم يجر ذكره.

فأما ما جرى ذكره فأضمر : فهو الكلام المعروف وهو تمثيله برجل يذكر فيقول : أنت قد مررت به ، وقد مررت برجل بل هو حمار ، ويكون هو الرجل المذكور.

وأما الذي أضمر ولم يذكر ، فقولك : ما مررت ببغل ولكن حمار ، تريد : ولكن هو حمار ، معناه : لكن الذي مررت به حمار لأن قولك : ما مررت ببغل قد دلّ عليه فكني لدلالة الكلام عليه ، وجعل الأقوى في الكناية ما جرى ذكره لقرب المكني بالذكر وإضمار الذي لم يجز ذكره عربي جلي. لأن معناه ما مررت بشيء هو بغل فجاز هذا ، وإن لم يجز ذكره كما جاز في المنعوت الذي جرى ذكره نحو : ما مررت برجل صالح بل طالح ،

٣٣٧

أي : بل هو طالح ، والضمير لرجل ، وقوله تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)(١) رفع عباد على الوجهين المتقدمين ، أحدهما : أنهم كانوا ذكروا الملائكة ، واتخاذ الله ـ تعالى ـ إياهم أولادا ، فنزه نفسه عن ذلك فقال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)(٢) ، أي : بل هم عباد ، و (هم) إضمار شيء جرى ذكره في كلام القوم فلذلك أضمر.

الوجه الآخر : بتقدير : بل الذين قالوا اتخذهم الله ولدا عباد مكرمون من غير ذكر جرى لهم.

قال سيبويه : (وأما قولهم : أمررت برجل أم امرأة؟ إذا أردت معنى أيهما مررت به ، فإن (أم) تشرك بينهما كما أشركت (أو)).

فإنه يعني أن (أم) للعطف وللإشراك بين الأول والثاني في الإعراب ، وليست من حروف البدل التي تقدم ذكرها.

ثم قال سيبويه : (وأما مررت برجل فكيف امرأة ، فزعم يونس أن الجر خطأ ، وقال : هو بمنزلة أين). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : مذهب البصريين أن العطف لا يجوز بشيء من حروف الاستفهام ، فأمّا الكوفيون فقد أجازوا النسق وهو العطف ب (أين وكيف وألا وهلّا).

وألزم سيبويه من أجاز النسق بأين وكيف بلم وبكم ، فقال : (ينبغي أن يجيز ما مررت بعبد الله فلم أخيه؟ وما لقيت زيدا فلم أبا عمرو ، تريد : مررت بأخيه ، وبكم لقيت أبا عمرو). وهم لا يلتزمون ذلك.

والمنصوب والمرفوع في البدل والشركة كالمجرور.

هذا باب مجرى نعت النكرة عليها

(والمعرفة خمسة أشياء). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أن التعريف معلق بمعرفة المخاطب دون المتكلم. وقد يذكر المتكلم ما يعرفه هو ولا يعرفه هو ، فيكون منكورا ، كقول الرجل لمخاطبه : في دار الرجل بستان ، وعندي صديق لي ، وهو لا يعرف الرجل بعينه والبستان ، ويجوز أن يكون

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٦.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٦.

٣٣٨

المتكلم أيضا لا يعرف ، كقول الرجل لمخاطبه : أنا في طلب غلام أشتريه ، ومنزل أكتريه ، ولا يكون قصده شيئا بعينه ، فإذا نادى المتكلم شيئا تعرّف بقصده إياه ووقع اليد عليه بعينه ، كقولك : يا رجل ، ويا غلام وسنقف على ذلك في باب البدل إن شاء الله ، وهذه المعارف كلها قد توصف كلها إلّا الإضمار وحده ، ولا يوصف إلّا بمعارف ، كما أن النكرات لا توصف إلّا بالنكرات ، وقد جرت مجرى النعت على المنعوت في بابه إلا نعت المبهم ، فإن نعته يخالف نعت غيره ، وذلك أنه ينعت بأسماء الأجناس ، كقولك : مررت بهذا الرجل ، ودخلت هذا البستان ، وجاءني ذلك الرجل ، وأولئك القوم ، ونحو ذلك ، وإنما نعت المبهم بأسماء الأجناس لأن طريق نعته على غير طريق نعت غيره ، وذلك أن غير المبهم يحتاج إلى النعت إذا شاركه غيره في لفظه فبان من غيره بذكر شيء يكون فيه تحلّى به دون غيره مما يحلى به ، والمبهم إنما دخل وصلة لخروج ما فيه الألف واللام عن العهد إلى الحضور ، وذلك أن الألف واللام يدخلان للعهد ، كرجل وغلام عهده أو لابساه في بعض الأمر ، فقال أحدهما : ما فعل الرجل أو الثوب أو الفرس.

وقد يكون الشيء بحضرة اثنين لم يكن بينهما فيه عهد ، فيريد أحدهما الإخبار عنه معرفا له ، فلا يمكنه الإخبار عنه لعدم العهد بينه وبين مخاطبه فيه ، فيأتي بأسماء الإشارة فيتوصل بها وينتقل من تعريف العهد إلى تعريف الإشارة مثال هذا ، فإن قيل له : أما تقول ابتداء من غير تقدم : البس هذا الثوب ، واشتر هذا الغلام ، فلا يحتاج المخاطب إلى عهد يعرف به الرجل كاحتياجه إليه في قوله : ما فعل الرجل؟ واشتر الغلام والبس الثوب وقد تكون الإشارة غير متوصل بها إلى ما فيه الألف واللام ، كقولك : جاءني هذا ، ورأيت هذا ، ونظير ذلك قولهم : يا أيها الرجل.

جعلوا (أيها) وصلة إلى نداء الرجل لأنه لو لم يتوصل بها لم يكن نداء ما فيه الألف واللام ، ويجوز أن ينادي هذا كما ينادى (زيد) ، فإذا جعلته وصلة لما فيه الألف واللام قلت : يا هذا الرجل ، وإن لم يجعل وصلة قلت : يا هذا كما تقول : يا زيد ، وكما تستغني به إذا قلت : مررت بهذا ، والأصل في نعت هذا أن ينعت بالأسماء لما ذكرناه أنه وصلة إلى ذكر الاسم الذي فيه الألف واللام.

وقد يجوز أن ينعت بالصفة التي فيها الألف واللام من حيث جاز أن تنقل الصفة التي فيها الألف واللام من تعريف العهد إلى تعريف الحضرة والإشارة ، وذلك أنك تقول :

٣٣٩

مررت بالظريف ، فتكون الألف واللام في الظريف للعهد.

تقول : مررت بهذا الظريف ، فيصير للإشارة ، ولو لا ما ذكرنا من التوصل بهذا إلى ما فيه الألف واللام لما احتاجت إلى صفة لأنها ليست باسم ثابت لما وقع عليه ثم شركه غيره ، فيحتاج إلى فصل بينهما بالنعت ، ولما كان طريق نعت هذا والأصل فيه ما ذكرنا ، خالف حكمه حكم نعت غير المبهم في أن المبهم لا يوصف بالمضاف ولا يفصل بينه وبين نعته ، تقول في غير المبهم : مررت بزيد غلام عمرو وبزيد ذي المال ، وتقول : مررت بزيد اليوم الظريف ، ولا تقول : مررت بهذا اليوم الرجل.

فأمّا منع النعت المبهم بالمضاف ، فلأن المبهم دخل لينقل ما فيه الألف واللام من تعريف العهد إلى تعريف الإشارة والمضاف تعريفه بالمضاف إليه ولا يتغير.

وأمّا منع الفصل بينه وبين النعت ، فلأن المبهم لما أحدث تعريفا لنعته صار كجزء في التعريف للألف واللام ، ولا يفصل بين الألف واللام وبين ما اتصلا به وأشبه ـ أيضا ـ ب (أيها الرجل) ، فلا يفصل بينهما وقد قال سيبويه : (أنت لا تقول : مررت بهذين الطويل والقصير ، نعتا لهذين) ، وهو معنى قوله : تجعله من الاسم الأول ، وإنما لم يجز ذلك لما ذكرنا من فساد الفصل بين المبهم ونعته ، لأن القصير لم يل الإشارة لفصل الطويل بينه وبين الإشارة.

وحكى أبو بكر مبرمان عن بعض أهل النظر ، قال : إنما لم أقل : مررت بهذين : الطويل والقصير ، لأن الإشارة تذهب ، وذلك أنك إذا قلت : بهذين الطويلين ، فالإشارة واحدة ، وإذا عطفت فالمعطوف يذهب بالإشارة ، وهذا تعرفه بالقلب إذا قدرت.

قال سيبويه : (اعلم أن العلم الخاص من الأسماء يوصف بثلاثة أشياء).

وذكر الفصل.

قال الشيخ رحمه‌الله : قوله : (يوصف بالمضاف إلى مثله) يريد إلى مثله في أنه معرفة ، لا في أنه علم ، لأن العلم يوصف بالمضاف إلى الضمير وإلى سائر المعارف ، كقولك :

مررت بزيد غلامك ، وغلام عمرو ، وغلام الرجل ، وغلام هذا ، ونحو ذلك.

ثم قال سيبويه : (والمضاف إلى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء). وذكره.

قال أبو سعيد : مذهب سيبويه أن نعت المعرفة إذا كان أخص من المنعوت لم يجز ،

٣٤٠