شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

كاتساع خلف وقدام لأنها لم تقع على موضع يتسع ، وإنما وقعت على موضع يقرب ، وعرفت بما أضيفت إليه ، وقد ذكر أصحابنا في الظروف بدل ولم يذكروا مثل ، وذكره الكوفيون وأجازوا : زيد مثلك نحو زيد دونك أي : في المنزلة ، وكذا هو مثلك في المنزلة واحتج لهم بقوله :

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر (١)

على أن مثلهم ظرف ، كقولك : فوقهم ودونهم.

قال سيبويه : (وهذه حروف تجري مجرى خلفك ، ولكنا عزلناها لتفسير معانيها ، لأنها غرائب فمن ذلك حرفان ذكرناهما في الباب الأول لم نفسر معناهما ، وهما صددك ومعناه : القصد ، وسقبك ومعناه : القرب ، ومنه قول العرب : هو وزن الجبل ، أي ناحية منه ، وهم زنة الجبل أي : حذاءه. ومن ذلك قول العرب : قرابتك أي : قربك ، يعني المكان ، وهم قرابتك في العلم أي : قريبا منك في العلم ، فصار هذا بمنزلة قول العرب : هو حذاءه وإزاءه وحواليه بنو فلان ، وقومك أقطار البلاد).

قال أبو سعيد : هذه التي ذكرناها من الظروف جهات أجريت مجرى خلف وقدام ، واستعملوا حول على التوحيد وعلى التثنية والجمع ، فقالوا : حوله وحوليه وأحواله وحواله وحواليه ، وهي جانبيه وجنباته ، وهم قطريه وأقطاره ، وذلك كله يصح ، ومنه البيت الذي أنشده لأبي حيّة :

إذا ما تغشاه على الرحل ينثني

مساليه عنه من وراء ومقدم (٢)

ومسالاه عطفاه ، فصار بمنزلة : جنبي فطيمة ، ويقال : زيد جنب الدار وجانب الدار ، أي : ما قرب منها.

قال أبو سعيد : وأنا أذكر جملة من الظروف في بعضها خلاف بين الكوفيين والبصريين وفي بعضها وفاق لينكشف مذهب الظروف عند النحويين اتفق الكوفيون والبصريون أن خلفك وقدام عمرو ونحو هذا من أسماء الأماكن العامة هي ظروف ، واختلفوا فيها إذا أفردت ، فرأى البصريون أنها ظروف ومنع من ذلك الكوفيون ، فقالوا :

__________________

(١) البيت للفرزدق : ديوانه : ٢٢٣ ، خزانة الأدب : ٢ / ١٣٠.

(٢) البيت لأبي حية النمري : سيبويه ١ / ٢٠٥ ، معجم هارون ١ / ٣٥٩.

٣٠١

إذا أفردت صارت اسما ، فأجاز البصريون : زيد خلفا وقداما على الظرف ، وقال الكوفيون : زيد خلف بمعنى متأخر وقدام بمعنى متقدم ، وما ذا قلت : قام زيد خلفا ، وذهب قداما فنصبه عند البصريين على الظرف كما ينتصب لو قلت : ذهب قدامك وقام خلفك ، وعند الكوفيين أن تقديره تقدير الاسم الذي هو حال ، كأنه قال : قام متأخرا ، وذهب متقدما ، فإذا قلت : قام مكانا طيبا ، فالبصريون يجعلون مكانا ظرفا ، والكوفيون يقولون : إنه ناب عن قولك : فرحا ومغتبطا ، وزعم الكوفيون أن الظرف ، ويسمونه المحل ، يحتاج إلى الإضافة لأنه يكون خبرا عن الاسم كما يكون الفعل خبرا عن الاسم لو قلت : ذهب زيد ، فلما كان الفعل يحتاج إلى فاعل ويتصل به أشياء يطلبها الفعل من المصدر والمكان والزمان والمفعول ألزموا المحل الإضافة ليسد المضاف إليه مسد ما يطلبه الفعل ويدل عليه ، وقال البصريون : إنما الإضافة لتعيين الجهة والتعريف ، والأصل هو التنكير وإنما التعريف داخل عليه ، وأجمع البصريون والكوفيون : أن الوقت يرفع وينصب إذا كان خبرا لمرفوع ابتدأ في حال تعريف الوقت وتنكيره ، فالتعريف نحو قولك : القتال يوم الجمعة واليوم ، وإن شئت قلت : اليوم يوم الجمعة ، وأمّا التنكير فقولك : رحيلنا غدا وغد ، كما قال النابغة :

زعم البوارح أن رحلتنا غدا

وبذاك خبّرنا الغراب الأسود (١)

ويروى غد ، فإذا رفعت الخبر صار التقدير في الأول أن يكون الوقت مضافا إليه ومحذوفا منه ، كأنك قلت : وقت القتال اليوم ، وإذا نصبت فبإضمار فعل ، كأنك قلت : القتال يقع اليوم أو وقع ، وعلى هذا : زيارتنا عشيّ وعشيا ورواح ورواحا ، فإذا كان الفعل مستغرقا للوقت كله ، فإن البصريين يجيزون نصبه على الظرف ، كما يجيزونه في غير المستغرق لجميع الوقت ويدخلون عليه في.

والكوفيون لا يجيزون فيه النصب ويجعلونه خبرا هو الأول ، ولا يدخلون في.

فقول البصريين : صيامك يوم الخميس ، ويوم نصب ورفع ، والصوم يستوعب اليوم ، وجوز في قوله : (صمت في يوم الخميس) ، ومذهب الكوفيين رفع اليوم ، ولا يجيزون نصبه ، ولا يدخلون في لأنها عندهم توجب التبعيض ، والصوم يستوعب اليوم ، والصحيح

__________________

(١) ديوانه : ٢٧ ، الخصائص لابن جني ١ / ٢٤٠.

٣٠٢

قول البصريين لأن في لا يمتنع دخولها على زمان الفعل وإن قلّ ، ألا ترى أنك تقول : قد سار في بعض النهار ، ولم يسر فيه كله فالجزاء الذي وقع فيه السير واستوعبه قد دخلت عليه في ، وتقول : تكلمت في القوم أجمعين فتدخل في على القوم وقد استوعبهم الكلام ، فكذلك لم تدخل في على اليوم ، وإن استوعبه الكلام ، وقد منع الكوفيون أن يقال : زيد خلفك أشد المنع ، واحتالوا لما جاء في الشعر ما فيه تعسف حين قال بعضهم في قوله :

إلا جبرئيل أمامها (١)

إنّ ذلك إنما جاز ، لأن جبريل لعظم خلقه يملك الأمام كله ، وهذا خطأ ، لأن الأمام لا نهاية له ، فلا يجوز أن يملأه شيء ، وهكذا سائر الجهات ، وأجازوا ذلك في أخبار الأماكن ، فقالوا : داري خلفك ، ومنزلي أمامك ، وعلى هذا [التأويل] حمل ثعلب قول لبيد :

خلفها وأمامها (٢)

هذا باب ما شبّه من الأماكن المختصة

(بالمكان غير المختص شبّهت به إذا كانت تقع على الأماكن).

قال أبو سعيد : هذا الباب ينقسم قسمين :

أحدهما : يراد به تعيين المنزلة بعد أو قرب.

والآخر : يراد به تقدير البعد والقرب.

فما أريد به تعيين الموضع وذكر المحل من قرب أو بعد ، وإن النصب يجوز فيه على الظرف ، والرفع على خبر الأول تشبيها ، والأكثر فيه النصب.

ويدلّك على ذلك أنك تدخل الباء عليه فتقول :

هو مني بمنزلة ، كأنه قال : هو مني استقر بمنزلة ، والباء وفي بمعنى واحد ، كما تقول : هو بالبصرة ، وفي البصرة. فأما قولهم : هو مني مزجر الكلب ، فلمن كان مباعدا مهانا.

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

٣٠٣

وأما قول الشاعر :

فوردن والعيّوق مقعد رابئ وال

ضّرباء خلف النّجم لا يتتلّع (١)

فإنه يصف حمرا وردت الماء ليلا وقد ارتفع العيّوق والثّريا في وسط السماء ، سحرا في آخر الليل وذلك أثناء شدة الحر ، ومثل موقع الثريا من العيوق ، والعيوق إذا ارتفع وتوسط السماء صار مع الثريا كالمشرف عليها ، فشبّه ذلك المقعد بمقعد رابي الضّربا ، وهو الأمين المشرف على الذين يضربون بالقداح كيلا يخونوا وهو علامتهم ، وأراد بالنجم الثريا ، فإذا نصب فالناصب : استقر كما ذكرنا في الظروف ، وإذا رفعت فقلت : هو مقعد القابلة ، جعلته بمنزلة قولك : هو قريب كمقعد القابلة ، وكذلك إن قلت : هو مناط الثريا ، كأنك قلت : هو بعيد كمناط الثريا ، وجاز أن تكون هذه الأشياء ظروفا ، لأنهم قد اتسعوا فيما هو من الأماكن أخص من هذه ، فجعلوه ظروفا ونصبوه.

فقالوا : ذهبت الشام،ودخلت البيت ، تشبيها بالأماكن المحيطة مثل : خلف وقدام.

ثم قال سيبويه : (وليس يجوز هذا في كل شيء ، لو قلت : هو مني مجلسك أو متكأ زيد أو مربط الفرس لم يجز). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : فإن سيبويه منع أن يقاس على مناط الثريا ونحوه مما استعملوه ظرفا غيره من الأماكن نحو : مربط الفرس إلا أن تظهر المكان ، فتقول : هو مني مكان مربط الفرس ، فيجوز ، وأنشد سيبويه بيت ابن هرمة :

 .............

 ..... أم هم درج السّيول (٢)

فألحقوا درج السيول بمناط الثريا ، واستعملوه ظرفا ، ورفعه جائز كما ذكرنا في مناط الثريا ونحوه.

وقد ذكر يونس : أن من العرب من يقول : زيد خلفك يجعله هو الخلف ، وقد ظهر أن سيبويه يجيز : زيد خلفك ، إذا جعلته هو الخلف ، ولم يشرط ضرورة شاعر ، وهو قول المازني ، فكان الجرمي لا يجيزه إلا في ضرورة الشعر. والكوفيون يمنعونه أشد المنع ، وقد

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. ديوان الهذليين ١ / ٦ ، ابن يعيش ١ / ٤١.

(٢) البيت لابن هرمة في ديوانه ص ١٨١ ، الخزانة ١ / ٤٢٤ ، سيبويه ١ / ٢٨٤.

وهو جزء من البيت

أنصب للمنية تعتريهم

رجالي أم هم درج السيول

٣٠٤

تقدم قولنا فيه.

وأما ما يقصد فيه تقدير القرب والبعد على وجه المساحة ، فقولك : هو مني فرسخان ، وهو مني عدوة الفرس ، ودعوة الرجل ، وهو مني يومان ، وهو مني فوت اليد.

فإن هذا لا يستعمل فيه إلا الرفع ، ويفارق الباب الأول لأن معنى هذا أنه يخبرك أن بينه وبينه فرسخين ، ويومين ، ومعنى فوت اليد : أن يمدّ يده إليه فلا يناله ، ويريد به تقريب ما بينهما ، فجرى على الكلام الأول كأنه هو توسّعا كما قالوا : أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة ، وإلا فتقديره إذا قلت : هو مني فرسخان ، أي بعده مني مسيرة فرسخين فيجوز وكما يجوز وفي يوم الجمعة حين قالوا : أخطب أيامه يوم الجمعة ، واليوم لا يخطب ، فجعلوه خطيبا ، وكما قالوا : أمّا النهار ففي قيد وسلسلة. وإنما يريد : المقيد في النهار ، فأجرى اللفظ على النهار ، فأما قوله :

(وقول العرب أنت مني براء ومسمع). وذكر الفصل.

فإنه يريد أنهم رفعوه ، جعلوه الأول كما قالوا : زيد مني قريب ، ومن العرب من ينصب فيقول مرأى ومسمعا فجعله ظرفا لأنهم قالوا : بمرأى ومسمع ، فدخلت عليه الباء ، صار غير الاسم الأول فإذا صار غيره ولا يأتيه نصب ، نصب على الظرف كما تقول : أنت مني مكان زيد أو أنت مكان زيد.

قال سيبويه : (واعلم أن هذه الظروف بعضها أشد تمكنا من بعض في أن تكون أسماء كالقصد والنّحو والقبل والناحية).

وإنّا قد ذكرنا تمكن هذه الأسماء وأنها أقرب إلى الأسماء المتمكنة من الخلف والأمام.

قال سيبويه : (وأمّا الخلف والأمام والتحت والفوق ، فتكون أسماء ، وكينونة تلك أكثر وأجرى في كلامهم).

فإنه يعني : أن القصد والنحو والقبل والناحية ، أكثر في الأسماء من الخلف والأمام ، وقد ذكر سيبويه في الباب قبل هذا : (أن دونك لا يرتفع أبدا) ، وقد ذكره هاهنا فيما أجاز رفعه بما يكون أسماء غير ظروف ، والأقيس أن يكون بمنزلة الخلف والأمام ، وهو قول النحويين إلّا من احتج لسيبويه أنه فوق بين دونك ظرفا ، وبينه إذا كان بمعنى : وضيعك ، وكذا مرأى ومسمعا كونهما أسماء أكثر ، ومع ذلك فإنهم جعلوه اسما خاصا

٣٠٥

بمنزلة : المتكأ والمجلس ، وهما لا يجعلان ظرفا ، وإنما نصب بعضهم : مرأى ومسمعا لأنهم لما أدخلوا على بمرأى علم أنهم جعلوه غير زيد ، فإذا نزعوا الباء فهي أيضا غيره فنصبوه كما نصبوا الظرف الذي هو للاسم الأول ، ومن رفعه فإنما يجعله الاسم الأول ، فيجازى به.

وأما قوله : (وزعم يونس أن من العرب من يقول : هو مني مزجر الكلب). وذكر الفصل ، وأنشد :

وأنت مكانك من وائل

مكان القراد من است الجمل (١)

وقوله : (وتقول : داري خلف داره فرسخا) ، فإنه يريد أنك تنصب فرسخا على التمييز لأنه أريد به التقدير ، فصار كقولك : ما في السماء قدر راحة سحابا لأنه لما قال : داري خلف دارك أبهم فلم يدر ما قدر ، فقال : فرسخا وذراعا وميلا.

وقوله : (كان هذا الكلام شيء منون) ، يعني : خلف دارك ، وهو بمنزلة عشرين ، كأنه قال : داري عشرون ذراعا ، وقوله : (كأنه منون يعمل فيما ليس من اسمه ، ولا هو هو).

فإنه يعني بالمنوّن : عشرين عمل في الدرهم ، وليس الدرهم هو العشرين ولا هو من اسم العشرين ، لأن العشرين ليست مضافة إليه ، وما هو من اسمه فهو مضاف إليه وذلك قولك : زيد أفضلهم رجلا.

وقوله : (وإن شئت قلت : داري خلف دارك فرسخان). وذكر الفصل.

فإنه يريد أنك تجعل فرسخين خبرا وتلغي الظرف ، كما تخبر عن زيد ب (قائم) وتلغي فيها فتقول : زيد قائم فيها ، وإن دخلت (من) فأبو عمرو يرفع ، ويجعل من خلف دارك كقولك : من إذا قلت : يقدمني ، وغيره يجعل من مع خلف بمنزلة خلف فينصب ويرفع كما تقول : داري خلف دارك فرسخان وفرسخين لأنك تقول : أنت من خلفي ، ومعناه : أنت خلفي لا فرق بينهما.

وقوله : (وتقول : أنت مني فرسخين) ، أي أنت مني ما دمنا سائرين فرسخين ، يجعل أنت مبتدأ ، ومني خبره ، وفرسخين ظرف ، ومعنى مني أي من أصحابي وأشياعي

__________________

(١) البيت للأخطل : ديوانه / ٣٣٥ ، الخزانة ١ / ٢٢٠.

٣٠٦

كما قال الله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)(١) أي : من أصحابه وجيرانه ، ولا ينتظم معنى ذلك إلا بما قدّره سيبويه لأن ضميره من أصحابه في صحبته إياه في مقدار هذه المسافة ، واعلم أن ظروف الزمان تكون أخبارا للمصادر ، ولا تكون أخبارا للجثث ، وأما ظروف المكان فتكون أخبارا للمصادر والجثث ، وإنما كانت ظروف المكان كذلك لأن الجثة الموجودة قد تكون في بعض الأمكنة دون بعض مع وجودها ، أعني الأماكن.

ألا ترى أنك إذا قلت : زيد خلفك علم أنه ليس قدّامه ولا تحته ولا فوقه ويمنته ويسرته مع وجود هذه الأماكن ، ففي إفراد الجثة بمكان فائدة. وأما ظروف الزمان فإنما يوجد منها شيء بعد شيء ووقت بعد وقت ، وما وجد منها فليس شيء من الموجودات أولى به من شيء فلو قلت : زيد الساعة أو يوم الأحد لجعلت ل (زيد) في هذا اليوم حالا ليست لعمرو ، وليس كذلك لأن زيدا وعمرا وغيرهما من الموجودات تتساوى في الوصف بالوجود في هذا اليوم ، وأما المصادر فهي أشياء حادثة معروفة بالأفعال في المضي والاستقبال.

فإذا قلنا : القتال يوم الجمعة ، وإنّا نريد الدلالة على حدوثه في هذا اليوم ، كأنّا قلنا : القتال يحدث يوم الجمعة.

قال سيبويه : (وتقول الهلال الليلة).

كأنه يجعل الليلة ظرفا للهلال والهلال جثة لأنه جزء من القمر. فهو جثة كأنه في استهلاله أو تصوره لهذه الصورة الليلة ، فإن رفعت فقلت : القتال يوم الجمعة ، والهلال الليلة جاز على معنى : قتال يوم الجمعة ، والهلال الليلة ثم تحذف ، وقد أجاز سيبويه اليوم الجمعة ، واليوم السبت بنصب اليوم ، ولم يجز في الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس إلا الرفع ، وإنما ذاك لأن الجمعة بمعنى الاجتماع ، والسبت بمعنى الراحة ، فهما مصدران يقعان في اليوم بمنزلة قولك : اليوم القتال ، فأما اليوم الأحد فبمنزلة اليوم الأول ، والاثنين بمنزلة الثاني ، والثلاثاء والأربعاء والخميس بمنزلة الثالث والرابع والخميس ، وليس ذلك بمعنى : يقع في اليوم ، كالاجتماع والراحة ، وأجاز الفراء وهشام النصب في جميع ذلك ، فإذا رفع جعل الثاني هو الأول ، وإذا نصب فعلى معنى الآن الأحد

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٣٦.

٣٠٧

والاثنين ، لأن : الآن أعم من الأحد ، فيجعل الأحد واقعا عليه كما تقول : في هذا الوقت : هذا اليوم.

وقد كان سيبويه يقول : (إن قوله : اليوم يومك) ، المعنى : اليوم شأنك الذي ينسب إليك ، وتذكر به ونحوه من المعاني فأما اليوم الأحد فبمنزلة : اليوم عشرون في الشهر وخمسة ونحوه ، لأنه ليس بشيء في الشهر ، ومما يجوز فيه الرفع والنصب : النيروز ، واليوم المهرجان ، واليوم الفطر ، واليوم الأضحى ، ورفعه على ما ذكرنا.

قال سيبويه : (وتقول : عهدي به حديثا وقريبا). وذكر الفصل.

فإنه يريد : أنك إذا جعلت قريبا وحديثا للزمان فكأنك قلت : عهدي يزيد في زمان قريب ، وزمان حديث ، ويجوز : عهدي به قريب وحديث ، يجعل قريبا وحديثا هو العهد ويرتفع لأنه خبر مبتدأ.

قال سيبويه : (وتقول عهدي به قائما ، وعلمي به ذا مال تنصب على أنه حال). وذكر الفصل.

قال : قد ذكرنا فيما تقدم الحال التي هي في موضع خبر المصدر بإضمار : إذ كان ، وإذا كان.

وأجاز الزجاج : قائما ضربي زيدا ، على تقديم الحال ، كما يجوز : اليوم القتال ، فكأنك قلت : إذ كان قائما ضربي زيدا يقع ، كما أنّا إذا قلنا : اليوم القتال ، فتقدير اليوم : القتال يقع.

قال سيبويه : (واعلم أن ظروف الدهر أشدّ تمكنا في الأسماء ، لأنها تكون فاعلة ومفعولة ، تقول : أهلكت الليل والنهار ، واستوفيت أيامك ، فأجري الدهر هذا المجرى ، فأجر الأشياء كما أجروها).

قال أبو سعيد : كان المبرد يخطّئ سيبويه في هذا ، لأنه ذكر في أول الكتاب : أن ظروف المكان أقرب إلى الأناسيّ ، لأن لها جثثا وأسماء تعرف بها كما تعرف الأناسيّ.

تقول : خلفك واسع ، ومكانك أحبّ إليّ من مكان زيد. فصوّب الزجاج من أجل أن ظروف الزمان يقلّ فيها ما لا يتمكن ؛ ألا ترى أن (سحر) إذا نكّر تمكن.

قال أبو سعيد : وهذا ضعيف لأن في ظروف الزمان ما لا يتمكن أكثر مما في ظروف المكان ، لأن فيها : قبل ، وبعد ، وبعيدات بين ، وذات مرة وذا صباح ، ونحو هذا.

٣٠٨

ورد أبي العباس على سيبويه ضعيف ، لأن ظروف الزمان أقوى في الاسمية ، وذاك أن الفعل لفظ مبني على الزمان الماضي وغيره ، كما أنه مبني من لفظ حروف المصادر وليس كذلك المكان.

فأسماء الزمان بمنزلة المصادر ، والمصادر متمكنة كسائر الأسماء في وقوع الفعل منها وبها ، والزمان تشبيها. ويدل على هذا أنه يكثر في كلام العرب العبارة عن الزمان بألفاظ المصادر ، والخبر عن المصادر بألفاظ الزمان حتى كأنها شيء واحد.

تقول : آتيك صلاة العصر ، ومقدم الحاج ، فتعبر عن الزمان بلفظ المصدر ، وتقول : قيامك يوم الخميس ، ورحيلنا يوم الجمعة ، فتخبر عن المصادر بألفاظ الزمان ، قال الله تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ)(١) وهذا كثير مطرد ، وليس للمكان هذا.

وعلى أن اللفظ العام لظروف الزمان هو الوقت والزمان والدهر ، وكل واحد متمكن ، ثم ينقسم هذا إلى : الليل والنهار ، وهما متمكنان قويان في التمكن ، ثم ينقسمان إلى الساعات ، وهي قوية التمكن ، وليس كذلك المكان ، لأن الاسم العام له هو المكان ، ثم ينقسم إلى الجهات الست. نحو : خلف وقدام ، ونحوهما وهي ضعيفة التمكن. فأما ما حكاه المبرد من كلام سيبويه ، أن ظروف المكان أقرب إلى الأناسيّ لا تكون ظروفا ، وجميع ألفاظ الزمان تكون ظرفا ، وجملة الزمان أنه إذا استعمل ظرفا ، قوي في الظرفية ، فإذا استعمل اسما قوي في الاسمية.

هذا باب الجر

(والجر إنما يكون في كل اسم مضاف إليه).

قال أبو سعيد : جعل سيبويه المجرور بحرف أو بإضافة اسم إليه كله مضافا ثم قسم ذلك فقال :

(إن المضاف إليه ينجر بثلاثة أشياء :

بشيء ليس باسم ولا ظرف). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أن الجر يكون بشيئين :

أحدهما : دخول حرف ليس باسم ولا ظرف.

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية : ١٢.

٣٠٩

والآخر : بإضافة اسم إلى اسم.

فأما الحروف الجارة التي لا مذهب لها غير الحروف :

فالباء ، واللام ، ومن ، وفي ، ورب ، وإلى ، وواو القسم ، وتاؤه ، وحتى.

وقد تخرج إلى تأويل آخر في بعض المواضع ولها باب مفرد ، فإن للجر حروفا سوى هذه تكون حروفا في حال وأسماء في حال ، وهي :

على ، ومن ، وكاف التشبيه ، ومنذ ، ومذ.

وإنما كانت كذلك لأنها تدخل عليها حروف الجر ، كما قال :

غدت من عليه .......

 ......... (١)

بتأويل من فوقه ، ومن عن يمينه ، بتأويل من ناحية يمينه ، وتجعل الكاف بمعنى : مثل ، كما قال : علي كالخنيف السحق ، يعني : علي مثل الخنيف (٢).

ومنذ ، ومذ يخفض بهما ، فيكونان حرفي خفض ، وقد يرفع ما بعدهما فيجعلان اسمين بمعنى : وقت وأمد. وللجر حرفان سوى ذلك تكون حرفين وفعلين وهما :

خلا ، وحاشا في الاستثناء ، لأنهما يخفض بهما فيكونان حرفي خفض ، وينصب ما بعدهما فيكونان فعلين.

وقد ذكر الأخفش : أن عدا يخفض بها ، وينصب بها ، فإن صح ذلك فهو حرف ثالث.

وأما إضافة الاسم إلى الاسم فعلى ثلاثة أقسام :

أحدهما : أسماء هي ظروف مضافة إلى ما بعدها من مصادر وغيرها ، ذكرها النحويون فيما يجر لغلبة الجر عليها. وأسماء أخر تضاف في حال ، وليست الإضافة بغالبة عليها ، وهي أكثر الأسماء.

فأما الظروف فهي :

__________________

(١) البيت لمزاحم العقيلي في نوادر أبي زيد ص ١٦٣ ، شرح شواهد المغني ١ / ٤٢٥ الخزانة ١٠ / ١٤٧ ، ١٥٠. وهو :

غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها

تصل وعن قيض بزيزاء مجهل

(٢) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص ٢٨٣.

على كالخنيف السحق يدعو به الصدى

له صدد ورد التراب دفين

٣١٠

بين ، وسواء ، ولدن ، ولدى ، وعند ، وعلى ، وأسفل ، وخلف ، وقدّام ، ووراء ، وأمام ، وتجاه ، وقباله ، وحذاء ، وحذه ، وإزاء ، وتلقاء ، وتحت ، وفوق ، ووسط ، وقبل ، وبعد ، ومع ، وعلى ، وعن فيمن جعلهما اسمين ، وغير ذلك من الظروف التي تقدم ذكرها قبل هذا الباب.

وأما الأسماء التي تغلب الإضافة عليها ، فهي :

مثل ، ومثل في معنى : بدل وبدل ، في معنى : وسط ونحوه سنيّ ، وقرن فالقرن في القتال ، والقرن في السن ، ولدن ، وخدن ، وشبه ، وشبه ، ومرة وحين ، وبيد في معنى : غير وبيد ، ومساوه بمعنى : قدره ، وكذلك قيد ، وقيدي.

وباب وسبحان ومعاذ وعياذ وأنّى وبعض وكل ، وذو داره ، وذوا ، وذواتا ، وذووا ، وذوات ، وأولو ، وأولات ، وقد ، وقط بمعنى : حسب. وفيها أسماء تغلب عليها الإضافة وقد ينصب ما بعدها وهي مصادر غير متمكنة ، وهي :

بله ، وبيد ، ورويد ، ومعانيها متقاربة فإذا خفضت بها قدرت إضافتها ، وإذا نصبت قدرت التنوين فيها ، ولم يقدر الإضافة.

وقد نصب ب (لدن) ولد ، والوجه الإضافة ، وقد ذكره سيبويه في مواضع من الكتاب.

وأما الأسماء التي تضاف في حال وليست الإضافة بالغالبة عليها ، فنحو :

غلام زيد ، وجار عمرو ، وخاتم حديد ، وثوب خزّ ، وهي أكثر من أن تحصى.

والإضافة تكون على معنى أحد الحرفين من حروف الجر ، وهما :

من ، واللام.

فمن إذا كانت الإضافة على معناها تبعيض كقولك : هذا ثوب خز ، وخاتم حديد ، أي : ثوب من خز ، وخاتم من حديد ، وما كان على معنى اللام فإضافته على وجه الاستحقاق ، كقولك : هذه دار زيد ، ودار لزيد ، ورب السموات والأرض ، ورب العالمين ، وخلق الله ، وأرض الله وسماؤه وعرشه ، فهم عباد له ، وخلق له ، وأرض له ، فالعباد مستحقون أن يكونوا عبادا ، وهو مستحق لعبوديتهم.

وربما أوهمتك الإضافة الخروج عن هذين الوجهين ، فإذا رددتها إلى أصول ما وضعت له رأيتها لازمة لأحد الحرفين كقولك : أفضلهم زيد أي : الفاضل منهم زيد ،

٣١١

وبعض القوم أي شيء منهم ، ويكون تماما لهم ومكملا ، فأما قوله :

(وأما الباء وما أشبهها فليست بظروف). وذكر الفصل.

فإنه سيبويه بيّن معاني حروف الجر ، فقال :

(إن الباء ونحوها ليست ظروفا ولا أسماء ولكنها يضاف بها إلى الاسم ما قبله أو بعده ، فإذا قلت : يا بكر فإنما أردت أن تجعل ما يعمل في المنادى إلى بكر باللام).

ومعنى هذا : أن حروف الجر تصرف الفعل التي هي صلته إلى الاسم المجرور بها.

ومعنى إضافتها إلى الفعل : ضمها إياه واتصاله إلى الاسم كقولك : رغبت في زيد ، وقمت إلى عمرو.

ففي أوصلت إلى زيد الرغبة ، وإلى أوصلت القيام إلى عمرو ، وما كان بتأويل الفعل فهو بمنزلة قولك : يا لبكر ، بمنزلة أدعو أو أريد ، ولهذا نصبت المنادى ، فاللام أوصلت هذا المعنى إلى بكر وأضافته إليه ، وهكذا : مررت بزيد ، الباء أوصلت المرور إلى زيد ، وكذلك : أنت كعبد الله ، أضفت الشبه بالكاف إلى عبد الله ، وكذلك : أخذت من عبد الله ، أضفت الأخذ بمن إلى عبد الله ، وإذا قلت : منذ زمان ، أضفت الأمد إلى وقت من الزمان.

وأنت في الدار ، أضفت كينونته في الدار إلى الدار ب (في) ، وتقديره : الاستقرار الذي يقدر ، وما جرى مجراه وبمنزلته وإذا قلت : فيك خصلة جميلة ، أضفت إليه الجمال ب (في) ، وإذا قلت : رب رجل يقول ذاك ، أضفت القول إلى الرجل ب (رب) ، وإذا قلت : بالله وتالله وو الله ، أضفت الحلف إلى الله تعالى بهذه الحروف ، كما أضفت النداء بالله لأن التقدير : أحلف بالله ، والواو والتاء بدلان ، وهكذا رويته عن فلان ، أضفت إليه الرواية بعن.

هذا باب يجري النعت على المنعوت

(والشريك على الشريك والبدل على المبدل منه ، وما أشبه ذلك : فأما النعت الذي جرى على المنعوت فقولك : مررت برجل ظريف ، فقد صار النعت مجرورا مثل المنعوت). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : معنى النعت : أنه اختصاص نفس المنعوت وإخراج له من إبهام ، وعموم إلى ما هو أخص منه ، فالنكرات المنعوتة يخرجها النعت من نوع إلى نوع أخص

٣١٢

منه ، وأما المعارف فيخرجها النعت من شخص مشترك الاسم عند وقوع اللبس فيه إلى أن يزول اللبس عنه ، أما النكرة فقولك :

مررت برجل ظريف ، لو اقتصرت على رجل وحده لكان الرجل وحده من جملة الرجال كلهم ، ونوعه الذي هو منهم الرجال على العموم ، فلما نعته بظريف صار من جملة الرجال الظراف ، وهو أقل من الرجال بإطلاق ، وكلما زدت في النعت كان النوع أخص لو قلت : مررت برجل ظريف صيرفيّ ، صار من جملة الرجال الظراف الصيارفة ، وهم أقل من الرجال الظراف فقط ، ولم يطلب في غير الصيارفة.

وهكذا لو قلت : مررت برجل ظريف صيرفي أعور ، كان أخص مما قبله ، ولم تطلب في غير العور من الصيارفة ، وعلى هذا الوجه يكون خروجه من الأعم إلى الأخص. فأما المعرفة فقد أفرده سيبويه بباب.

وأنا أذكر هناك وهذا الباب مفرد بنعت النكرات ، وإنما صار النعت تابعا للمنعوت في إعرابه لأنهما كشيء واحد ، فصار ما يلحق الاسم يلحق بنعته ، وإنما صارا كشيء واحد من قبل أنك إذا قلت : مررت برجل ظريف فهو من الرجال الظرفاء الذين كل واحد منهم ظريف ، فالرجال الظرفاء جملة لرجل ظريف ، كما أن الرجال جملة لرجل وصار رجل ظريف جزءا للرجال الظرفاء ، كما أن رجلا جزء للرجال ، ولما كان النعت اختصاصا للمنعوت وجب أن يكون ذلك الاختصاص ، بأن يجعل له حالا يعري منها بعض ما يشاركه في الاسم ويكون ذلك على وجوه منها :

أن ينعت بخلقة لا تكون لبعض من يشاركه ، كالطويل والقصير ، وحسن وقبيح ، وأسود وأبيض.

ومنها أن ينعته بما يشهر به من فعل لازم حسن أو قبيح ، كعاقل وظريف ، وشريف وعالم وفقيه.

وربما كان حرفة مكسبا كبزّاز ، وعطار ، وتمّار ، وكاتب. وربما كان نسبا إلى أب أو حي أو بلد ، أو غيره نحو :

قرشي ، وعربي ، وعجمي ، وكوفي ، وبصري.

وما يخصّ به لا يوجد في بعض ما يشاركه.

وقد ينعت الاسم النكرة بمصادر وضعت موضع أسماء الفاعلين ، وبأسماء مضافة لا

٣١٣

اشتقاق لها ، يراد بها المبالغة.

فأما الاسم المضاف :

فقولك : مررت برجل أيّما رجل ، وبرجلين أيّما رجلين ، وبرجال أيّما رجال ، ورأيت رجلا أيّما رجل ، وجاءني رجل أيّما رجل.

فأيّ : غير مشتق من معنى ، وإنما يضاف إلى الاسم الأول المبالغة في مدحه بما يوجبه ذلك الاسم.

وأما المصادر التي ينعت بها ، فقولك :

مررت برجل حسبك من رجل ، وبرجل هدّك من رجل ، وبرجل ما شئت من رجل ، وبرجل شرعك من رجل ، وبامرأة هدك من امرأة.

وهذا كله بمعنى واحد.

أما حسبك فهو مصدر في موضع يحسب. تقول :

أحسبني الشيء ، أي كفاني.

وهمك وشرعك وهدّك ، في معنى : هذا ، وإن لم يستعمل منه فعل ، وهي في معنى أسماء الفاعلين مضافة للحال لا للماضي ، فلذلك نعتّ بها النكرة فصار قولك : مررت برجل هدّك وشرعك ، بمنزلة : ضاربك.

ومثل ذلك : مررت برجل كفئك من رجل.

فهذا وما ذكرناه قبل مصادر نعت بها ، ولذلك لم تثن ولم تجمع ، كما تقول : مررت برجل عدل ، وبرجلين عدل ، وبرجال عدل ، وامرأة عدل.

وقد يستعمل بعض هذا على لفظ الفعل ، فيقال :

مررت برجل هدك ، وبرجلين هداك ، وبرجال هدوك ، وبامرأة هدتك ، وبامرأتين هدتاك ، وبنسوة هددنك ، وكذلك :

مررت برجل كفاك من رجل ، ورجلين كفياك من رجلين ، وبرجال كفوك ، وبامرأة كفتك ، وبامرأتين كفتاك ، وبنسوة كفينك.

فأما قول سيبويه : (وما كان منه يجري فيه الإعراب فصار نعتا لأوله جرى على أوله بأمر).

يعني : أن ما كان مصدرا يلحقه الإعراب إلا الأسماء مع المنعوت في إعرابه ، وما

٣١٤

كان فعلا ماضيا ، فهو على لفظ الفعل الماضي ، وأما قوله :

(مررت برجل غيرك) فغيرك نعت يفصل بين من نعتّه بغير ، وبين من أضفته إليه حتى لا يكون مثله أو لا يكون مر باثنين) ، وذكر الفصل.

فإنه يعني : أن القائل إذا قال : مررت برجل ، جاز أن يكون المخاطب ذلك الرجل ، فإذا قال غيرك ، صار غيره فغيره : نعت لمن مررت ، وهو مضاف إلى الكاف ، فقد فصلت بين الممرور به وبين المخاطب ، ومعنى قوله :

(أو يكون مرّ باثنين) ، لأنه لو قال : مررت بغيرك ، جاز أن يكون مرّ باثنين ، فقال : برجل غيرك لئلا يتوهم بإسقاط المنعوت ، أنه مرّ باثنين أو جماعة ، ثم ذكر سيبويه : (مررت حسن الوجه) ، وقد مرّ ذلك في باب الصفة المشبهة باسم الفاعل.

قال : (ومما يكون نعتا للنكرة وهو مضاف إلى معرفة قول امرئ القيس :

بمنجرد قيد الأوابد لاحه

طراد الهوادي كلّ شأو مغرّب (١)

ومنه أيضا :

(مررت على ناقة عبر الهواجر)

قال أبو سعيد : معنى قيد الأوابد ، أي : مقيد الوحش. والأوابد : الوحش الذي يصاد ، وهذا الوحش إذا صادها لم تنج منه ، فكأنه قيدها ، ومعنى عبر الهواجر ، أي : عابرة للهواجر يعبّرها السير إلى حيث يكون قصدها حينا.

والهواجر : جمع الهاجرة ، وهي نصف النهار ، والسير يصعب فيها ، وأراد بذلك قوتها على السير في هذا الوقت ، ثم قال سيبويه :

(ومما يكون مضافا إلى معرفة ، ويكون نعتا للنكرة :

الأسماء التي أخذت من الفعل وأريد بها معنى التنوين). فإنه يريد به : أن الأسماء المأخوذة من الفعل وإن أضيفت بمعنى : سيفعل أو يفعل ، فإضافتها تخفيف ، وهي بمعناها نكرة غير مضافة ، والنكرات ينعت بها نحو :

مررت برجل ضاربه رجل.

فهو بمعنى : يضربه في الحال ، ويعني : سيضرب ، وقوله : (ومثله : هذا عارض

__________________

(١) ديوانه : ٤٦.

٣١٥

ممطرنا ، فالرفع هاهنا كالجر ، وكل مضاف إلى نكرة إذا كان واصفا لنكرة ، فهو إن كان وصفا أو موصوفا أو خبرا أو مبتدأ ، فهو بمنزلة النكرة المفردة ، وأما بيت جرير :

 ... كأنها

لدى فرس مستقبل الريح صائم (١).

كأنه قال : لذي فرس مستقبل صائم ، فإنه جعل صائما نعتا لمستقبل الريح.

قال أبو سعيد : يجوز أن يكون صائم نعت للفرس ، كأنه قال : فرس صائم مستقبل الريح ، وأنشد بيت المرّار :

(سلّ الهموم لكلّ معطي رأسه

ناج مخالط صهبة متعيّس

مغتال أحبله مبين عنقه

في منكب زين المطيّ عرندس (٢)

فالشاهد : أنه نعت معطي رأسه بما تنعت به النكرة المفردة. فأما قول ذي الرّمة :

(سرت تخبط الظلماء من جانبي قسا

وحب بها من خابط الليل زائر (٣))

فالشاهد : أنه نعت خابط الليل بزائر.

وأما قول جرير :

(يا ربّ غابطنا (٤))

وقول أبي محجن :

(يا ربّ مثلك في النساء (٥))

والشاهد : أن مثلك في البيتين يكونان نكرتين لدخول رب عليهما ، ورب لا تدخل إلا على نكرة.

وقوله : (ومن ذلك قول العرب : لي عشرون مثلك ، ومائة مثله ، فأجروه مجرى

__________________

(١) ديوانه : ٥٥٤ ، مجالس ثعلب : ٧١.

(٢) سيبويه ١ / ٨٥ ، ٦٠ ، المحتسب لابن جني ١ / ١٨٤.

(٣) ديوانه : ٢٤١.

(٤) البيت :

يا رب غابطنا لو كان يعرفكم

لاقى مباعدة منكم وحرمانا

ديوانه : ٥٩٥ ـ الدرر اللوامع ٢ / ٥٦.

(٥) البيت :

يا رب مثلك في النساء غريرة

بيضاء قد متعتها بطلاق

وهو غير موجود في ديوانه ـ سيبويه ١ / ٢١٢ ، ٣٥٠ ـ ابن يعيش ٢ / ١٢٦.

٣١٦

عشرون درهما ، ومائة درهم) ، وذكر الفصل.

فإن سيبويه قد أجاز في : عشرون مثله ، وهو لا يجيز عشرون أيّما رجل ، والفراء لا يجيز عشرون أيّما رجل ، ولا عشرون مثله ، ولا عشرون غيرك.

والصحيح قول سيبويه.

وفي جواز عشرون مثله وجهان :

أحدهما : أن يكون مثل بمعنى : مماثل ، ومعناه : معقول ، فإذا كان كذلك لم تعرفه الإضافة لما تقدر فيه من معنى التنوين ، ولهذا قال سيبويه :

(كأنه حذف منه التنوين في قولك : مثل زيد ، أو قيد الأوابد) ، وجائز أن يكون التنوين في قولك :

مثل زيد ، وقيد الأوابد ، وجائز أن يكون التنكير من أجل أن إضافته لم تحضره لكثرة وجوه المماثلة ، كما أن غيرك لم تحضره الإضافة لأن من لم يكن هو إياك ، فهو غيرك ، فيكون منكورا.

هذا وإن لم تقدر فيه التنوين ، فيصير بمنزلة :

ضارب رجل ، وقد دخل عليه رب ، وهي لا تعمل إلا في نكرة ، كما لا تعمل عشرون إلا في نكرة ، فنصبه على التمييز.

والوجه الثاني : أن سيبويه حكى أن من (قول العرب : لي عشرون مثلك) ، فقوله دليل على بطلان قياس ما خالفه.

فأما : أيّما رجل ، وأيّ رجل ، فليس لفظه بمأخوذ من معنى معقول ، وإنما يصح إلى شيء يصح معناه به ، كما يضاف ذو إلى شيء يصح معناه به ، تقول :

مررت برجل أي رجل ، وبرجل أيّما رجل.

كما تقول :

مررت برجل ذي مال ، ويتأوّل ذو بمعنى صاحب ، وصاحب : معنى معقول مأخوذ من فعل ثم يتمكن ، صاحب مال بإضافته إلى كناية المال ، ولا يتمكن ذو.

تقول : المال زيد صاحبه ، ولا تقول : المال زيد ذوه.

وكذلك تقول : مررت برجل أي رجل ، كما تقول : مررت برجل كامل ، ولا تقول : مررت بأي رجل ، ولا عندي عشرون أي رجل ، وأنت تقول : مررت بكامل من

٣١٧

الرجال ، وعندي عشرون كاملا من الرجال.

وقاس (يونس) : عشرون غيره على عشرون مثله ، والمسموع هو : عشرون مثله ، ولم يخالف أحد من البصريين في ذلك يونس ، واستدل يونس والخليل على تنكر مائة درهم بقوله : مائة ألف درهم ، وفصل بين صفتيها بقوله : نظرت إلى مائة درهم ، وإلى مائة الدرهم الرديئة.

وقوله : (وزعم يونس والخليل أن الصفات المضافات إلى المعرفة التي صارت للنكرة يجوز فيهن كلهن أن يكنّ معرفة) ، وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أن المعرفة تشارك النكرة في موضعين ، يصير لفظ المعرفة كلفظ النكرة في موضعين وأصلهما التعريف ، وإنما دخلهما التنكير على تأويل أذكره.

وإنما يكون التنكير والتعريف فيهما على قصد المتكلم ، وذلك في الأسماء الأعلام التي لا ألف ولا لاما فيها ، وفي الأسماء المضافة التي يمكن فيها التنوين أو تقديره ، تقول في الأعلام : جاءني زيد ، وزيد آخر ، ومررت بعثمان وعثمان آخر ، وما كل إبراهيم أبا إسحاق.

وإنما صار الاسم العلم أصله التعريف لأنه الاسم الذي يقصد به المسمى شخصا لتبينه بذلك الاسم من سائر الشخوص ، كالرجل سمى ابنه : زيدا أو غيره لتعرف باسمه من غيره ، وهذا أصله.

ثم سمى غيره بمثل اسمه فترادف ذلك الاسم على شخوص كثيرة ، وكل شخص منها سمي به لاختصاصه ، ثم صار بالمشاركة عاما ، فأشبه أسماء الأنواع :

كرجل وفرس ونحوه مما هو لجماعة كل واحد منهم له ذلك الاسم ، فإن أورده المتكلم قاصدا إلى واحد بعينه عنده أن المخاطب يعرفه ، فهو معرفة.

وإن أفرده على أنه واحد من جماعة لا يعرفه المخاطب ، فهو نكرة ، ولذلك جاز دخول الألف واللام عليه في الشعر تشبيها بالرجل والفرس.

قال أبو النجم :

باعد أم العمر من أسيرها

حرّاس أبواب على قصورها (١)

__________________

(١) مغني اللبيب وشرح شواهده / ٥٢ (٦٠) ، الإنصاف : ٣١٧.

٣١٨

وقال آخر :

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

سديدا بأحناء الخلافة كاهله (١)

كأنه نكّر (يزيد) ثم أدخل عليه الألف واللام كإدخالها على الفرس والرجل.

وزعم الفراء وغيره من الكوفيين : أن دخول الألف واللام على اليزيد ونحوه للمدح والتعظيم ، وليس في أصل العربية دخول الألف واللام للمدح والتعظيم ، وإن كان يراد بذلك المدح والتعظيم فلا بد من تنكير الاسم في تقدير اللفظ ليكون دخولهما للتعريف.

فأما ما أضيف إلى معرفة ، فإنه إن كانت النية فيه التنوين وأضيف طلبا للتخفيف ، فهو على تنكيره وإن كانت النية غير التنوين وإضافة تحضره ، فهو معرفة والأصل في إضافة الاسم إلى معرفة أن يتعرف لأن اللفظ يوجب له ذلك باختصاصه إلى ما أضيف إليه ، فمن ذلك ما ذكره سيبويه من قوله :

(مررت برجل حسبك به من رجل) إلى آخر الفصل الذي نحن فيه في تفسيره ، وهو صفات من مضافات إلى معارف وهن نكرات قد بيّن أمرها ، وقد حكى عن يونس والخليل أن تلك الصفات المضافة يكون فيهن كلهن التعريف ، وطريق تعريفهن أن لا تكون النية فيهن التنوين ، ومثّل ذلك بقوله : (مررت بعبد الله ضاربك).

يجعل ضاربك بمنزلة : صاحبك ، لأن صاحبك كغلامك لا يذهب به مذهب الفعل وإن كان مأخوذا من : صحب يصحب ، لأنه قد صير بمنزلة المعروف بصحبتك.

وكذلك القول في : مثلك المعروف يشبهك ، ولذا قالوا : مررت بعبد الله شبهك ، وكان الفرق بينهما أن القائل إذا قال : مررت برجل مثلك أو شبهك ، فمعناه : رجل شابهك وماثلك في ضرب من ضروب المشابهة ، وهي كثيرة غير محصورة ، ولذا ذهب بها مذهب التنوين كأنه قال :

مررت برجل مماثل لك ، وإذا قال : شبهك أو قدم في مثلك المعروف بشبهك ، فكأنه قال : الغالب عليه شبهك حتى لا يعرف به ولا يذهب به مذهب الفعل ، كما لم

__________________

(١) منسوب لابن ميادة في معجم هارون ١ / ٢٨٧.

الخزانة ١ / ٣٢٧ ، ٣ / ٢٥٢ ـ شرح شواهد الألفية للعيني ١ / ٢٢٨ ، ٥٠٩.

٣١٩

يذهب بصاحب مذهب الفعل ، واستثني من جملة ذلك باب : حسن الوجه لأنه لا يتعرف كتعريف مثلك أو شبهك وضاربك ، وذلك أن الوجه هو ما على الحسن ، وقد نقل الفعل عنه إلى الأول ، وهذا المعنى لا يزول عنه ، فتقدير التنوين فيه قائم حتى حقّق الفعل للوجه تحقيق فعل الوجه لا يزول ، والتقدير :

مررت برجل حسن وجهه وذكر أبو العباس :

أن غير وإن أضيف إلى معرفة لا يتعرف ، لأنك إذا قلت : مررت بغيرك وكل ما ليس بالمخاطب فهو غيره ، فإضافته إلى المعرفة لم توجب تغيير شيء بعينه.

قال أبو سعيد : وأقول أنا : إن ل" غير" وجها يتعرف فيه ، وذلك أنها قد تستعمل في معنى المخالف كقولهم : الطالح غير الصالح ، والجواد غير البخيل. أي : المخالف له ، وقد يحصر أشياء متشابهة ، وأشياء أخر مخالفة لها ، فيقال للمشابهة : إنها واحدة ، ويقال للمخالفة لها : إنها غيرها.

وقد يتكلم المتكلم بشيء ثم يعيد مثله ، فيقال : هذا هو الأول ، وإن أعاد ما يخالفه.

قال : هذا غير الأول ، وقد يجوز عندي (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)(١) معرفة ، يذهب مذهب المخالف (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)(٢) لأنهم المؤمنون ، والمغضوب عليهم : الكافرون.

والفريقان مختلفان في الدين والصفة ومنه قول أبي طالب :

يا رب إمّا تخرجن طالبي

في مقنب من تلكم المقانب

فليكن المغلوب غير الغالب

فليكن المسلوب غير السالب (٣)

ثم قال سيبويه : (ومن النعت : مررت برجل إمّا قائم ، وإمّا قاعد).

قال أبو سعيد : إمّا معناها : معنى الشك وتخالف أو لأن أو حرف عطف ، وإمّا ليست بحرف عطف ، وإنما تقدم لتؤذن بالشك والتخيير ، وما جرى مجراهما ، ثم يعطف عليها بالواو وبمثلها ، فيقال : إمّا زيد وإمّا عمرو.

__________________

(١) سورة الفاتحة ، الآية : ٧.

(٢) سورة الفاتحة ، الآية : ٧.

(٣) البيتان غير موجودين في ديوانه.

٣٢٠