شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

أبا لك ، فليس في هذا كلّه إلا الرفع ، ولا يجوز نصبه على مذهب من نصب العبيد ؛ لأن هذه أشياء معلومة فلا يجوز حملها على المصدر المبهم ، ويحتمل قولك : أما أبوك فلا أبا لك معنيين :

أحدها : أن تجعل أباه غير فاعل به ما يفعله الآباء من النصرة له والبرّ به.

وإمّا أن تكون حال عرضت لأبيه أعجزته عن ذلك ، وهكذا قولهم : أمّا النصرة فلا نصرة لك ، إمّا أن يكون منع منها ومن منافعها ، أو تغيرت هي في نفسها فبطل منافعها.

وقوله : (وسمعنا من العرب من يقول : أمّا ابن مزنيّة ؛ فأنا ابن مزنيّة ؛ كأنه قال : أما ابن مزنيّة فأنا ذاك ، فجعل الآخر الأول كما كان قائلا ذلك في الألف واللام : أما ابن المزنيّة فأنا ابن المزنيّة ، وإن شئت نصبته على الحال كما قلت : أمّا صديقا فأنت صديق ، فإنه يريد : أنك إن شئت جعلته مبتدأ وخبرا ، كأنه قال : أما ابن مزنيّة فأنا هو ، وأنا ذاك ، وإن شئت نصبته حالا على التفسير المتقدم).

وقوله : (وأمّا قول الناس للرجل : أمّا أن يكون عالما فهو عالم وأما أن يعلم شيئا فهو عالم ، فقد يجوز أن تقول : أمّا أن لا يكون يعلم فهو يعلم وأنت تريد أن يكون ، كما جاءت : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(١) في معنى لأن يعلم أهل الكتاب. فهذا يشبه أن يكون بمنزلة المصدر ، لأنّ أن مع الفعل الذي يكون صلة بمنزلة المصدر ، كأنّك قلت : أمّا علما وأمّا كينونة علم فأنت عالم. ألا ترى أنّك تقول : أنت الرجل أن تنازل أو أن تخاصم ، كأنّك قلت نزالا وخصومة ، وأنت تريد المصدر الذي في قوله فعل ذاك مخافة ذاك. ألا ترى أنك تقول : سكتّ عنه أن أجترّ مودّته ، كما تقول : اجترار مودّته. ولا تقع أن وصلتها حالا يكون الأوّل في حال وقوعه ، لأنّها إنما تذكر لما لم يقع بعد. فمن ثم أجريت مجرى المصدر الأوّل الذي هو جواب لمه؟).

فإنه يريد : أنك إذا أدخلت أن بعد أمّا فهي وما بعدها مصدر لا تكون في معنى الحال ، ولا مصدرا يعمل فيه الفعل الذي هو من لفظه ، كعمل ضربت في ضربا إذا قلت ضربت ضربا ؛ لأن أن لا تدخل على هذين لأنهما للمستقبل ؛ لكون الفعل الذي بعدها مستقبلا بل يكون مفعولا له ، كقولك : كلمت زيدا لأن أجترّ مودته ، وفعلت ذلك مخافة

__________________

(١) سورة الحديد ، الآية : ٢٩.

٢٨١

الشّرّ ، ويحسن في هذا دخول لا زائدة ، فيقول : أمّا أن لا يكون وأنت تريد ما يكون ؛ لأن الفعل إذا قصد به كون شيء ، فقد قصد به نفي ضده. ألا تراك لو قلت : فعلت هذا الأمر لغضبك ، تريد : فعلته من أجل ما أخشاه من غضبك ، أو لأن يقع غضبك ، كان كلاما صحيحا.

فإذا قلت فعلت هذا لأن لا تغضب ، لم يخرج عن هذا المعنى ، وفي القرآن : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(١) ، لأن التقدير : يبين الله لكم الضلال المتوهّم منكم لو لم يبيّن ، وهذا الوجه أحبّ إليّ من قول من قال : كراهة أن تضلّوا ، وكذلك قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(٢) إن لم تجعل (لا) زائدة لم تكن الضرورة داعية إلى زيادتها ، لأنّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(٣) ، أي : يفعل بكم هذه الأشياء ليبين جهل أهل الكتاب ، وأنهم لا يعلمون أنّ ما يؤتيكم الله من فضله في ذلك لا يقدرون على تغييره وإزالته عنكم ؛ فعلى هذا لا يحتاج إلى زيادة (لا).

هذا باب ما ينتصب من الأسماء التي ليست بصفة

ولا مصادر لأنه حال

يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول فيه

(وذلك قولك : كلمته فاه إلى فيّ ، وبايعته يدا بيد ، كأنه قال : بايعته نقدا ، وكلمته مشافهة ، أي في هذه الحال).

قال أبو سعيد : اختلف الناس في ما نصب فاه ، فأصحابنا يقولون : إن الناصب :

كلمته ، وإنه لا إضمار فيه ، وجعلوه نائبا عن : مشافهة التي معناها : مشافها ، وجعلوه من الشاذ المحمول على غيره ، لأنه معرفة ، وأنه اسم غير صفة ، فصار بمنزلة قولك : الجمّاء الغفير ، ورجع عوده على بدئه. وقد ذكرنا شرح ذلك.

والكوفيون ينصبون : فاه بإضمار : جاعلا.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٧٦.

(٢) سورة الحديد ، الآية : ٢٩.

(٣) سورة الحديد ، الآيتان : ٢٨ ، ٢٩.

٢٨٢

كأنه قال : كلمته جاعلا فاه إلى في ، ولو كان على ما قالوا من إضمار : جاعل ما كان فيه شذوذ ، ولجاز أن يقال : كلمته وجهه إلى وجهي ، وعينه إلى عيني ، ولم يقل هذا أحد فدلّ على أنه شاذ ، كما قال أصحابنا فلذلك لم يقس عليه ، وأكثر أصحابنا أجاز تقديم فاه منصوبا لما كان العامل فيه : كلمته ، وهو فعل ومعمول ، كقولك : قائما ضحك زيد ، وضحك زيد قائما.

ولهذا أجاز المازني والمبرد : شحما تفقأت ، ولم يجيزا : زيد ثوبا أنظف منك ، تريد : زيد أنظف منك ثوبا ، لاختلاف العاملين. ومن أصحابنا من زعم أن مذهب سيبويه يمنع أن يقال : فاه إلى فيّ كلمته ، لأن هذا كلام في غير موضعه ، وقد منع سيبويه : جاء زيد سرعة قياسا على جاءني زيد مشيا ، لأن مشيا بمعنى : ماشيا ، ليس بقياس يطرد في نظائره ، فإذا منع القياس في هذا كان في تقديم فاه أولى.

والكوفيون يمنعون تقديمه ـ أيضا ـ مع قولهم : إن العامل فيه : جاعل ، ويلزمهم جوازه لأن جاعلا لا يمنع من العمل فيما قبله.

قال سيبويه : (وبعض العرب يقول : كلمته فوه إلى في ، كأنه قال : كلمته وفوه إلى في ، أي كلمته ، وهذه حاله).

قال أبو سعيد : من رفع فالتقدير : كلمته أي : كلمته وهذه حاله ، ومن نصب فليس على تقدير الواو ألا تراك تقول : كلمت زيدا قائما ، وكلمت زيدا وهو قائم إذا أتيت بالواو في موضع الحال لم يكن ما بعدها إلا مبتدأ وخبر ، فأما بايعته يدا بيد فلا يجوز بايعته يد بيد ولا بايعته ويد بيد ، وليس إلا النصب لأنك لو رفعت كان التقدير : بايعته ويده في يدي ، وليس هذا هو الغرض بل معنى قولهم : بايعته يدا بيد ، أي : بايعته بالنقد والتعجيل سواء كان منه قريبا أو بعيدا ، وإذا قال كلمته فوه إلى في فإنما تريد أن تخبر عن قربه منه وأنه مشافهة وليس بينهما أحد ، ومثله من المصادر مما تلزمه الإضافة ويجوز فيما بعده الابتداء وأن يكون حالا قولهم : رجع فلان عوده على بدئه ، كأنه قال :

أتاني فلان عودا على بدء ، غير أنه لا يستعمل مفردا في الكلام وإنما قدرناه مفردا ليبين ، ومن قال كلمته فوه إلى في ، أجاز الرفع في قوله قال : رجع فلان عوده على بدئه ، كأنه قال : أتاني فلان عودا على بدء ، غير أنه لا يستعمل مفردا وإنما قدرناه مفردا ، والمعنى : رجع فلان وعوده على بدئه ، والمعنى لم يتغير.

٢٨٣

قال سيبويه : (ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه الفعل بعت الشاء شاة ودرهما ، وقامرته درهما في درهم ، وبعت داري ذراعا بدرهم ، وبعت البرّ قفيزين بدرهم ، وأخذت منه زكاة ماله درهما لكل أربعين درهما ، وبينت له حسابه بابا بابا ، وتصدقت بمالي درهما).

قال أبو سعيد : هذه هي الأسماء المنصوبة هي حالات جعلت في موضع مسعرا ، فإذا قال : بعت الشاء شاة بدرهمين ، فالمعنى : بعت الشاء مسعرا على شاة بدرهم ، وجعلت الواو في معنى الباء فبطل خفض الدرهم وعطف على شاة ، فاقترن الدرهم والشاة فعطفت أحدهما على الآخر ، وإن كانت الشاة مثمنا والدرهم ثمنا ، وأما قامرته درهما في درهم فالمعنى : قامرته هذا الضرب من القمار ، والتقدير : قامرته بادلا درهما في درهم ، ثم جعل درهما في موضع الحال ، وهكذا بعته داري ذراعا بدرهم ، وبعت البر قفيزين بدرهم ، على معنى مسعرا بهذا السعر ، وأخذت منه زكاة ماله درهما لكل أربعين درهما ، فإنه قال : أخذت زكاة ماله فارضا أو مقدرا هذا الفرض ، والتقدير : وبينت له حسابه بابا بابا أي : مصنفا ومبوبا وتصدقت بمالي درهما درهما ، أي مفرقا هذا التفريق فأما صاحب الحال في هذا فإن الذي منه الحال في : بعت الشاء شاة ، ودرهما هو الشاء ، وأما في قامرته فيجوز أن يكون من الهاء ، ويجوز أن يكون منهما لأنهما بمعنى واحد ، ألا تراك تقول : تقامرنا درهما في درهم فتكون الحال من الاثنين ، أي : تقامرنا متقامرين هذا الضرب من القمار ، وقد يقول القائل : ضربت زيدا قائمين والمعنى : أنهما جميعا قائمان ومن بعت داري من الدار ومن بعت البر من البر ، وأما أخذت زكاة ماله فيجوز أن يكون من التاء ويجوز التقدير : فارضا هذا الفرض ويجوز أن يكون من الزكاة فتكون مفروضة هذا الفرض ، وأما بينت حسابه بابا بابا فيجوز أن يكون من التاء على معنى : مصنفا ومبوبا ، ومن تصدقت بمالي ، يجوز أن يكون من المال فيكون مفرقا ومن التاء فيكون مفرقا هذا الضرب من التصريف وقوله (فأما قول الناس :

كان البرقفيزين وكان السمن منوين ، فإنما استغنوا هاهنا عن ذكر الدرهم لما في صدورهم من علمه ، ولأن الدرهم هو الذي يسعر عليه) قال المفسر : فإنه يريد أنهم قد حذفوا الثمن في هذا لما عرف بعادة الناس في ذلك ؛ لأنهم قد اعتادوا الابتياع بثمن بعينه ، دراهم أو دنانير فتركوا ذكره اكتفاء بمعرفته ، كما يقال لنا : الخبز عشرة ، أي : عشرة

٢٨٤

أرطال بدرهم ، والكرّ بثلاثين ، يراد : الكرّ من الحنطة ، وبينت حسابه بابا بابا لأن الحذف هناك يغير المعنى ، وهذا غير مغيّر لما عرف مكانه.

وقوله : (وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول بعت الشاء شاة ودرهم ، وإنما تريد : شاة بدرهم) ، فإنه يريد أن شاة بدرهم ابتداء وخبر ، والجملة في موضع الحال ، والتقدير : شاة منه ودرهم مقرونان ، كما يقال : كل رجل وضيعته بمعنى : مع ضيعته وكذلك شاة منه مع درهم ، لأن الواو في معنى مع ، فصح معنى الكلام بذلك ، فلما رفع الدرهم وعطف على الشاة قدّر خبرا.

لا يخرج عن معنى (مع) ، وهو ومقرونان ونحوه ، وعلى هذا يجوز في قول الخليل : بعت الدار ذراع ودرهم ، وتكون الجملة في موضع الحال ، كأنه قال : بعت الدار مسعّرة هذا السعر.

قال : (وزعم الخليل أنه يجوز بعت داري الذراعان بدرهم ، وبعت البر القفيزان بدرهم) ، ولا يجوز بعت داري الذراعين بدرهم ، ولا بعت البرّ القفيزين بدرهم ، لأنه في موضع الحال ، ولا يجوز أن تكون بالألف واللام.

وقوله : (كلمته فاه إلى فيّ) شاذ لا يقاس عليه ، وإنما جعل بمنزلة المصدر الذي يكون حالا وهو معرفة نحو : أرسلها العراك ، وفعلت ذاك طاقتي. (وليس كل مصدر في هذا الباب تدخله الألف واللام ويكون معرفة بالإضافة) ، فيصير حالا ، فالأسماء المعارف أبعد أن تكون حالا من المصادر ، ألا ترى أنك تقول : لقيته قائما وقاعدا ، ولا تقول : لقيته القائم والقاعد ، فلذلك لم يجز أن تقول : بعت البر القفيزين بدرهم ولا بعت الدار الذراعين بدرهم لأنك تجعله في موضع مسعر وفيه الألف واللام ، وإنما جاز : الذراعان بدرهم ، والقفيزان بدرهم لأنه مبتدأ وخبر في موضع الحال ، والعائد إلى الأول ضمير محذوف كأنه قال : الذراعان منها والقفيزان منه بدرهم ، كما تقول : لقيت زيدا أبوه قائم ، فتكون الجملة في موضع الحال ل (زيد). ومثله : بعت الثوب ربح الدرهم درهم ، فربح : مبتدأ ، ودرهم : خبره ، والجملة في موضع الحال ، كأنه قال : ربح الدرهم فيه درهم.

وقوله : (قال الخليل : لا يجوز : ربحت الدرهم درهما حتى تقول : ربحت في الدرهم درهما أو الدرهم وكذلك وجدنا العرب تقول قال : (ولا يجوز حذف الجار إلا فيما استعملت العرب حذفه ، ألا ترى أنك لا تقول : مررت أخاك ، تريد : بأخيك) ولا

٢٨٥

رغبت زيدا وأنت تعني : رغبت في زيد ، ولا تكلمت زيدا ، وأنت تعني : تكلمت في زيد ، ولا نزل زيدا ، وأنت تعني : نزل علي زيد لأن هذا ليس من صفة الكلام فإنه يريد أنه ليس بمنزلة بايعته يدا بيد ، الذي هو من صفة البيع ، لأنه يعطي بيد ويأخذ بيد ، ولا تقول : كلمته يدا بيد لأنه لا علقة للكلام في ذلك.

وقوله : (قال الخليل : إن شئت جعلت رجعت عودك على بدئك مفعولا ، ولا بمنزلة قولك : رجعت المال على زيد ، ورددت المال عليك ، كأنه قال : ثنيت عودي على بدئي) ، فإنه يريد أن قوله رجع زيد عوده على بدئه ، يكون عوده بدأ نصبا يرجع على أنه مفعول به ، كما تقول : رجعت زيدا ، أي : رددته ، كما قال تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ)(١) ، أي : ردك الله ، وكذلك إن قدرته على : ثنيت عودي على بدئي فهو مفعول به لأن معناه : عطفت ، ولا يكون حينئذ في موضع الحال.

هذا باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه حال

(يقع فيه السعر وإن لم يلفظ بالفعل ، وذكر الباب). قال أبو سعيد : إذا قلت لك : الشاء شاة بدرهم ، فالشاء : مبتدأ ، ولك : خبر مقدم ، وشاة بدرهم : حال.

كأنك قلت : وجب لك الشاء مسعرا بهذا السعر ، ولو اكتفيت بقولك : لك الشاء ، وسكت ، جاز لتمام الاسم والخبر.

وقوله : (إن شئت ألغيت لك). يعني : لم يجعلها خبرا ، فتقول على هذا : لك الشاء شاة بدرهم ، فتكون الشاء : مبتدأ ، وشاة : مبتدأ ثانيا ، وبدرهم : خبرها ، والتقدير : شاة منها بدرهم ، كأنك قلت : الشاء شاة منها لك بدرهم.

هذا باب ما يختار فيه الرفع والنصب

لقبحه أن يكون صفة

(وذلك قولك : مررت ببرّ قبل قفيز بدرهم ، وسمعنا العرب الموثوق بهم ينصبونه ، وسمعناهم يقولون : العجب من برّ مررنا به قبل قفيزا بدرهم) ، وذكر الباب.

قال أبو سعيد : يريد أن يقبّح أن يجعل قفيزا نعتا للبرّ ، فتقول : مررت ببرّ قفيز منه

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٨٣.

٢٨٦

بدرهم ؛ لأن القفيز ليس بحلية ولا وصفا ، وإنما هو مكيال ، فإما أن تجعله مبتدأ وما بعده خبر ، وتكون هذه الجملة في موضع خبر أو حال أو نعت.

فالخبر قولك : البر قفيز منه بدرهم ، والحال : مررت ببرّك قفيز منه بدرهم ، فجملة المبتدأ والخبر في موضع الحال من برّك ، والنعت : مررت ببر قفيز منه بدرهم : مبتدأ وخبر في موضع النعت ، كقولك : مررت برجل أبوه قائم ، وتنصب قفيزا على الحال ولا تكون جملة ، والاختيار إذا كان الذي قبله نكرة أن لا تنصب ، ولكن تجعل جملة في موضع الحال.

ولهذا قالوا : (العجب من برّ مررنا به قبل قفيزا بدرهم) حملوه على الهاء في به ، وهي معرفة ، وحسن أن يكون حالا ، ولم يحسن أن يكون صفة لأنهم قد يجعلون الجواهر أحوالا.

يقولون : هذا مالك درهما ، وهذا خاتمك حديدا ، ولا يحسن أن تجعله صفة ، فتقول : مررت بخاتم حديد ، ولا مررت بمال درهم ، لأن الحال خبر ، والخبر يكون بالاسم وغيره ، والصفة لا تكون إلا لتحلية.

هذا باب ما تنتصب فيه الصفة لأنه حال

(وقع فيه الأمر وفيه الألف واللام شبهوه بما يشبّه من الأسماء بالمصادر نحو قولك : فاه إلى فيّ ، وليس بالفاعل ولا المفعول) وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : حق الصفة أن تكون تحلية في الموصوف في حال الإخبار عنه إذا كان معرفة كقولك : العاقل والأحمق ، والبصري واليمني ، والقائم والقاعد ، لأن هذه أشياء حاصلة في المحلّى لها ، فإذا قيل : ليدخل العاقل ، فالعاقل معروف في وقت الأمر ، ولا يجوز أن تقول : ليدخل الأول إلا أن يكون اسما لواحد قد استحقه ، هذا هو القياس.

وقد اتسعوا في مثل هذا فأمروا بالفعل الذي يستحق فاعله به صفة ما ، وأوقعوا تلك الصفة عليه قبل وقوعه منه على معنى ما تكون فيه فيقولون : ليدخل الأول ، ومعناه : ليدخل رجل من القوم إذا دخل صار الأول فهذا المفروض فيه ، فسموه بالأول قبل استحقاقه على هذا المعنى ، ومن أجل هذا المعنى جاز أن تجعل الأول فالأول حالا ، لأنه ليس بصفة مستقرة كالعامل وأنها نصبت أولا في ترتيب الفعل إذا سبق فيه فأشبه النكرات.

٢٨٧

وقال المبرد : إنما أدخلوا الألف واللام في قولهم : ادخلوا الأول فالأول ، كأن القائل قال : أعرفكم إذا دخلتم ، وإذا قالوا : ادخلوا أولا فأولا ، وليس يعرف ترتيبهم إذا دخلوا على ذلك فصار منكورا.

وحكى سيبويه : (أن عيسى بن عمر كان يقول : ادخلوا الأول فالأول) على البدل من الواو (لأن معناه : ليدخل) الأول فالأول ، ولم يجز ذلك سيبويه لأن لفظ الأمر للمواجه ، لا يجوز أن يعرّى من ضمير ، وإذا أبدل الظاهر منه فكأنه لا ضمير فيه ، ألا ترى أنه لا يجوز : ادخلا الزيدان ، ولا ادخلوا غلمان زيد ، فتبدل من ضمير الاثنين والجماعة المخاطبين لأنا لا نقول : ادخل غلمان زيد ، فإذا أبدلنا فقد أبطلت الواو.

ولم يفسر سيبويه علته بل جوزه على وجه من وجوه ما يحمل على المعنى ، وهو قولهم :

ليبك يزيد ضارع لخصومة (١)

ومثال هذا من الكلام أن تقول ومختبط مما تطيح الطوائح : ضرب زيد عمرو ، ومعناه : أن عمرا ضرب زيدا ، خبرت عن زيد بالضرب الواقع به ، ولم تسم الفاعل ؛ أردت أن تبتدئ الفاعل ، فقلت : عمرو على معنى : ضربه عمرو فهو على كلام ثان ، فعلى هذا ، قال الشاعر :

ليبك يزيد ...

كأنه حث على البكاء عليه حين مات لما فات من منافعه ، ولم يذكر الباكي ، ثم قال : ضارع لخصومة ، أي : ليبكه من كان يعينه ويأخذ بيده فحمل ضارعا على معنى : ليبك إذا كان يبكي يدل على باك ، فكذلك ادخلوا فيه معنى : ليدخل القوم ، ولو قال : ليدخل القوم الأول فالأول لجاز بلا خوف لأنه أمر للغائب يجوز أن يليه الظاهر ، ويكون بدلا من المضمر الذي فيه :

قال سيبويه : (فإذا قلت : ادخلوا الأول والآخر والصغير والكبير رفعت ، فليس معنى رفع هذا على البدل ، وإنما هو على التوكيد كقوله : ادخلوا كلكم لأن معناه

__________________

(١) البيت لنهشل بن حرى في الخزانة ١ / ١٤٧ ، والشعر والشعراء ولابن نهيك النهشلي في ابن يعيش ١ / ٨٠.

٢٨٨

معنى : كلهم). وذكر الباب.

قال أبو سعيد : إذا قلت : ادخلوا الأول والآخر ، والصغير والكبير فرفعت ، ليس رفع هذا على البدل ، إنما هو على التوكيد كقولك : ادخلوا كلكم ، ولا يقع مثل هذا في الفاء لأنه لا يجوز أن تقول : مررت بزيد أخيك صاحبك ، وصاحبك نعت لزيد ، إنما تقول : مررت بزيد أخيك وصاحبك كقول الشاعر :

ويأوي إلى نسوة عطّل

وشعث مراضيع مثل السّعالى (١)

فعطف شعثا على عطل ، وهما جميعا نعتان لنسوة ، وكذلك تقول : مررت بزيد الفقيه والبزاز ، ولا يحسن أن تقول : فالبزاز ، ولو قلت : عطّل فشعث ـ أيضا ـ لم يحسن.

هذا باب ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال تقع

فيها الأمور

(وذلك قولك : هذا بسرا أطيب منه تمرا ، فإن شئت جعلته : حينا قد مضى ، وإن شئت جعلته : حينا مستقبلا غير أنه لا بد على دليل على المضي منه والاستقبال).

قال أبو سعيد : الباب إنما يأتي لتفضيل شيء في زمن من أزمانه على نفسه في سائر الأزمان ، فيجوز أن يكون الزمان الذي فضل فيه ماضيا ، وأن يكون مستقبلا غير أنه لا بد من دليل على المعنى منه ، والاستقبال بحسب ما يفضل من ذلك ، فإن كان زمانا ماضيا أضمرت أن ، وإن كان مستقبلا أضمرت إذ ، فإذا قلت : هذا بسرا أطيب منه تمرا ، وكانت الإشارة إليه في حال ما هو تمر أو رطب ، فالتفضيل لما مضى والتقدير لهذا : إن كان بسرا أطيب منه إذ كان تمرا فهذا مبتدأ ، وخبره أطيب منه ، وبسرا وتمرا جميعا حالان من المشار إليه في زمانين ، والعامل في الحال (كان) ، وفي كان ضمير من المبتدإ.

وقوله : (مررت برجل أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون).

فأخبث الأول حال من الرجل ، وأخبث الثاني نعت له في موضع خفض ، إلا أنه لا ينصرف ، وأخبث الثالث في موضع الحال من كان منك ، والتقدير : مررت برجل إذا كان أخبث ما يكون ، أو إذا كان أخبث ما يكون إذا كنت أخبث ما تكون ، ولو رددت هذا

__________________

(١) البيت منسوب لأمية بن أبي عائذ ، خزانة الأدب ١ / ١٤٧ ٢ / ٣٠١ ، ديوان الهذليين ٢ / ١٨٤.

٢٨٩

إلى ما يبين فيه الإعراب لقلت : مررت برجل شر ما يكون شر منك شر ما تكون ، وكذلك : مررت برجل خير ما يكون خير منك خير ما تكون ، وهو أخبث منك إذا كنت أخبث منك إذا كنت أخبث ما تكون.

وهذا كله على التقدير الذي ذكرته لك ، ونصبه على الحال ، والعامل كان ، وإن شئت فقلت مررت برجل خير ما يكون أي : خير أحواله ، وخير منك خير ، والتقدير : خير أحواله خير من أحوالك وهذا كلام على المجاز والمستعمل أن تقول : زيد خير منك ، أو حال زيد خير من أحوالك فتخبر عن الأول بما يشاكله ، وإنما جاز أن تقول : خير أحواله خير منك على نحو مجاز قولهم : نهارك صائم وليلك قائم ، وإنما معناه : صاحب نهارك ، وصاحب ليلك ، والمخاطب هو صاحب الليل والنهار ، ثم قال سيبويه :

(وتقول : البرّ أرخص ما يكون قفيزان ، أي البرّ : أرخص أحواله التي يكون عليها قفيزان) ، وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : البرّ : مبتدأ ، وأرخص ما يكون : مبتدأ ثان ، وقفيزان : خبر المبتدأ الثاني ، والجملة : خبر للبرّ ، والعائد إليه محذوف ، تقديره : أرخص ما يكون منه ومعناه : أرخصه قفيزان ، والحذف في هذه الأشياء مطرد ، وقد مضى نحوه ، فأما البيت الذي أنشده سيبويه وهو :

الحرب أوّل ما تكون فتيّة

تسعى ببزّتها لكلّ جهول (١)

ففيه ثلاثة أوجه : وجه يرفع فيه : أول ، وفتية.

والثاني : نصب أول ورفع فتية.

والثالث : رفع أول ونصب فتية.

فمن رفع أول وفتية وأنت تكون ، فإنه جعل الحرب مبتدأ وأول مبتدأ ثان ، وفتية خبر أول وكان حقه أن يكون أول فتى ، لأنه خبر أول ، وأول مذكر ، ولكنه حمله على المعنى ، وأنث لأن المعنى أول أحوالها ، نحو قولك : بعض أحوالها ، فأنث المضاف لتأنيث المضاف إليه ، كقولهم :

__________________

(١) البيت لعمرو بن معديكرب شرح ديوان الحماسة للمرزوقي / ٢٥٢ ، ٣٦٨ ، وشروح سقط الزند / ١٦٧٨.

٢٩٠

ذهبت بعض أصابعه

إذا بعض السنين تعرفتنا

ومن نصب أول ورفع فتية ، جعل فتية خبر الحرب ، وجعل أول : ظرفا له ، كأنه قال : الحرب فتية في أول ما تكون ، وحذف في ، وأما من رفع أول ونصب فتية على الحال ، فكأنه قال : الحرب أول ما تكون إذا كانت فتية.

ويجوز فيه وجه رابع ، وهو نصب أول وفتية ويجعل الحرب مبتدأ ، ويجعل خبرها : تسعى ، ويجعل أول ظرفا ، ينصبه ب (تسعى) ، وتكون فتية خبر تكون. قال سيبويه : (وأما عبد الله أحسن ما يكون قائما ، فلا يكون فيه إلا النصب لأنه لا يجوز لك أن يجعل أحسن أحواله قائما على وجه من الوجوه).

قال أبو سعيد : كان الأخفش يجيز رفع قائم ، وأجازه المبرد كان التقدير إذا قلت : أحسن ما يكون ، فقد قلت : أحسن أحواله ، وأحسن أحواله هو عبد الله ويكون قائما خبرا له ، وعلى مذهب سيبويه إذا قلت : أحسن ما يكون ، فمعناه : أحسن أحواله ، وأحواله ليست إياه ، وقائم هو عبد الله ، ولا يجوز أن يكون خبرا لأحسن ، وهذا اختيار الزجاج ، وهو عندي الصحيح ولأنا إذا قلنا : زيد أحسن أحواله قائم لم يجز لأن قائما ليس من أفعاله ، فإن قيل : فقد قال : عبد الله أحسن صفاته قائم فما تنكر أن يكون مصدر الفعل ، وإذا كان كذلك صار بمنزلة : أحسن أفعاله وصفاته : قائم ، وقاعد ، ونائم ، ونحو ذلك ، وقائم بعض صفاته وكان المبرد لا يجيز : عبد الله أحسن ما يكون القيام. ونصب قائما عند سيبويه على معنى : عبد الله أحسن ما يكون إذا كان قائما على ما ذكرنا في أول الباب ، والعامل في إذا ، وإذ فيما تقدم من قوله :

هذا بسرا أطيب منه تمرا أطيب.

وإنما جاز أن يعمل فيها أطيب وإن كان أطيب لا يتصرف ولا يعمل فيما قبله من الحال والمصدر ، لأن ما يعمل في الظروف قد يكون ضعيفا متأخرا. يعمل بمعناه.

ألا ترى أنك تقول : زيد الساعة في الدار ، ولا تقول : زيد قائما في الدار ، وتقول : زيد الساعة أخوك تريد به الصداقة ، ولا تقول : زيد قائما أخوك ، وإن أردنا به الصداقة.

وتقول : زيدا أخوك أخوّة مؤكدة ، ولا تقول : زيد أخوة مؤكدة أخوك ، فأطيب في قلة تمكنه وعمله ، بمنزلة أخوك في قلة تمكنه وعمله في التأويل بلفظ الفعل وبالجري مجراه وحملنا قولنا : بسرا في النصب على إضمار ظرف من الزمان وكان أولى الظروف

٢٩١

بذلك إذ وإذا اللذين يتضمنان ما مضى وما يستقبل من الزمان إذ كان التفضيل الواقع في ذلك يكون للماضي والمستقبل ، ووصلا بكان لأنها موضوعة للعبارة عن الزمان والذي بعده من الحال منصوب بكان والذي عمل فيه أطيب هو الظرفان" إذ" ، و" إذا" على ما ذكرنا من عمل ما يعمل من غير المتمكن في الظرف المتقدم وكان بمعنى وقع.

قال سيبويه : (وتقول : عبد الله أخطب ما يكون يوم الجمعة والبداوة أطيب ما يكون شهري ربيع). وذكر الباب.

قال أبو سعيد : نصب يوم الجمعة وشهري ربيع على الظرف ومن رفع يوم الجمعة وشهري ربيع ، فلأن أخطب ما يكون بمنزلة المصدر ، وقد يخبر عن المصادر بالظرف من الزمان ، ثم يجوز في ظروف الزمان إذا كان معرفة أو ما جرى مجراه نصب الظروف ورفعه ، فمن نصب قال : القتال يوم الجمعة ، كما تقول : زيد خلفك ، والناصب تقديره : القتال كائن يوم الجمعة ، ومن رفع فالتقدير : وقت القتال يوم الجمعة ، وذلك مطرد.

وأما إذا كان ظرف الزمان نكرة مؤقتا ، فإن أكثر كلام العرب الرفع كقولك : سيرنا يومان ، ومقامنا شهران ، قال الله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)(١) ، وقال عزوجل : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها)(٢) فهذا أكثر كلام العرب ، وجاز : أخطب أيامه يوم الجمعة ، على سعة الكلام ، وكأنه قال : أطيب الأزمنة البداوة شهرا ربيع وأخطب الأيام التي يكون عبد الله فيها خطيبا يوم الجمعة ، ومثله في السعة قول الله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(٣) وهما لا يمكران وإنما يمكر فيهما ، وقوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً)(٤) ، والنهار لا يبصر وإنما يبصر فيه.

وقوله : آتيك يوم الجمعة أبطؤه فترفع أبطؤه على معنى : ذلك أبطؤه ، وتضمر الخبر أي : ذلك أبطؤه ، على ذلك التفسير ، ويوم السبت أبطؤه ، فتجعل أبطؤه خبر يوم السبت ، وأعطيته درهما أو درهمين أكثر ما أعطيته وأكثر ، فإنه يريد أنك إذا نصبت أكثر ، فإن شئت جعلته مفعولا به بدلا من الدرهمين ، وإن شئت نصبته على الحال ، كأنه قال : أو

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٧.

(٢) سورة سبأ ، الآية : ٣٣.

(٣) سورة سبأ ، الآية : ٣٣.

(٤) سورة يونس ، الآية : ٦٧ ـ والنمل ، الآية : ٨٦ ـ وغافر ، الآية : ٦١.

٢٩٢

درهمين في حال كثرته ، لأنه أكثر ما دونه ففيه لهذا تأويل كثير.

ولك أن تقول : أعطيته درهما أو درهمان أكثر ما أعطيته ، قلت : آتيك يوم الجمعة أو يوم السبت أبطؤه. يكون درهمان : مبتدأ ، وأكثر : خبرا ، وإنما جاز أن يكون أكثر ما أعطيته : نصبا على الحال ، وهو مضاف إلى (ما) لأن ما يجوز أن يكون نكرة فلا يتعرّف أكثر بالإضافة إليها ، كما قال :

ربّما تكره النفوس من الأمر

له فرجة كحلّ العقال (١)

فأدخل عليه ربّ.

هذا باب ما ينتصب من الأماكن والوقت

(وذلك لأنها ظروف توقع فيها الأشياء وتكون فيها فانتصبت لأنه موقوع فيها ، ويكون فيها ، وعمل فيها ما قبلها.

كما أن العلم إذا قلت : أنت الرجل علما ، عمل فيه ما قبله).

قال أبو سعيد : ولا أعلم خلافا بين البصريين ، أنك إذا قلت : زيد خلفك وكذلك سائر ما يجعل الظروف خبرا له أنه منصوب بتقدير فعل هو استقر أو وقع أو حدث أو كان أو نحو ذلك ، وقال الكوفيون : إذا قلت : زيد خلفك ، فلم ينتصب" خلفك" بإضمار فعل ، ولا بتقديره وإنما ينتصب بالخلاف الأول ، ولأنّا نقول : زيد أخوك ، فيكون الأخ هو زيد ، وكل واحد منهما يرفع الآخر ، وإذا قلت : زيد خلفك ، كان خلفك مخالفا ، لزيد لأنه ليس هو فنصبناه بالخلاف ، وهذا فاسد من وجوه :

أحدها : أنه لو كان الخلاف يوجب النصب لوجب أن ينتصب الأول لأنه مخالف للثاني كما خالفه الثاني ، وعلى أنهم يزعمون أن الأول رفع بعائد يعود إليه من خلفك ، وذلك العائد في موضع رفع ، فإذا ارتفع العائد فلا بد من رافع ، فإذا كان في خلفك ما يرفع العائد وجب أن يكون ذلك الرافع هو الذي نصب خلفك ، ومذهب البصريين : أنا إذا قلنا : زيد استقر خلفك أن في استقر ضميرا مرفوعا باستقر هو فاعله ، وخلفك منصوب به.

__________________

(١) البيت ينسب إلى : أمية بن أبي الصلت خزانة الأدب ٢ / ٥٤١ ، ٤ / ١٩٤ ، ديوان أمية : ٥٠ مغني اللبيب : ٢٩٧.

٢٩٣

وفي كلام سيبويه : ما ظاهره ملبس لأنه جعل ما قبل الظروف هو العامل ، فيجيء على هذا إذا قلت : هو خلفك أن يكون الناصب لخلفك هو أم زيد إذا قلت : زيدا خلفك.

ومراد سيبويه على ما ينتظم من مذهبه أن الذي ظهر دلّ على المحذوف ، فناب عنه إذ كان المحذوف لا يسمع ولا يظهر فجعل ما ناب منه عاملا لبيانه ، وإنما مثله بقوله : أنت الرجل علما ، وعشرون درهما لأن الرجل إنما ينصب علما إذ كان بتقدير كامل ونحوه مما هو بمعنى الفعل ، وكذلك عشرون درهما يقدر نصبه على مذهب ضاربين زيدا ونحوه من التقدير ، وكذلك زيد خلفك بمعنى استقر فكان اشتراكها في نصب ما بعدها لاشتراك جميعها في تقدير ناصب لما بعدها من طريق المعنى والتشبيه.

قال سيبويه : (ومن ذلك : هو ناحية من الدار). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : إن المكان ينقسم قسمين ، أحدهما : يكون ظرفا ، والآخر لا يكون ظرفا.

ومعنى الظرف أن يكون الفعل لا يتعدى إلى المفعول به ويتعدى إليه بتقدير في فهذا لا يسوغ في كل مكان ، ألا تراك تقول : قمت قدّامك وجلست مكانا عاليا ، ولا تقول : قعدت السوق ، ولا قمت السطح ، حتى تقول : في السطح ، وفي السوق من حيث يكون المكان ظرفا اطرد فيه حذف في.

فما يكون ظرفا من هذه الأماكن ، فإن كان هذا الاسم يقع على مكان ولا يختص مكانا دون مكان ، وما لا يكون ظرفا فإنه يختص مكانا دون مكان ، فيما لا يختص خلف وقدّام ويسرة ويمنة ، وميل وفرسخ.

وما كان من أسماء الأماكن مطلقا ومشتقا من فعل لا يخلو من مكان ، فالمطلق هو المكان لأنه واقع على الأمكنة كلها ، والمشتق هو المذهب والمتطرق والمجلس ، وما كان منسوبا إلى وجهة معروفة نحو الشرقي والشمالي ، والجنوبي ، ويجري مجرى المكان في عموم الموضع لأنك تقول : قمت موضعا أو ذهبت موضعا ، فلا يختص موضعا دون موضع ، ويجري أيضا في باب العموم مصادر أفعال جعلت بمنزلة أسماء الأماكن المأخوذة من الفعل كقولك : هو قصدك ، ومشيت قصدك فيجري مجرى المذهب والمنزل والمجلس ، وكذلك حلّة الغور بمنزلة المذهب ، ألا تراك تقول : قمت محل فلان ، وحللت محل فلان ، وغير هذا مما سيمرّ بك أو يمر بك نظيره.

٢٩٤

وأما ما لا يكون ظرفا إلا أن يجيء منه شيء شاذ ، فما كان من الأماكن مخصوصا لا يقع اسمه على مكان ، وذلك نحو الدار والمسجد والسوق والسطح والحمام والبيت ونحو ذلك لو قلت : زيد البيت ، أو أنت الحمام لم يجز ، ولو قلت : أنت يمنة أو قدّام زيد ، أو أنت مكانا طيبا كان جائزا مستمرا.

واعلم أن الظروف تنقسم قسمين :

أحدهما متمكن ، والآخر غير متمكن.

فالتمكن هو الذي يستعمل ظرفا وغير ظرف.

ومعنى غير ظرف : أنه تدخل عليه العوامل الخافضة والرافعة كسائر الأسماء ، وذلك نحو الموضع والمكان ، وإذا استعملت المكان ظرفا قلت : زيد مكانا طيبا وزيد مكانك ، وإذا استعملت غير ظرف قلت : هذا مكانك ، وأقمت مكانك ، ونظرت إلى مكانك.

وأما الظرف غير المتمكن فهو الذي لا يدخله الرفع ولا حروف الجر ، إلا من في بعضها ، وذلك نحو : عند وقبل وبعد ، فتقول : زيد عندك وزيد قبلك وعمر بعدك.

ولا يجوز أن تقول : طاب عندك ، ولا قيم عندك ، ولا قمت في عندك ولا قبلك ، ولا سير بعدك.

والظروف المتمكنة بعضها أمكن من بعض لأن فيها ما لا يحسن أن تجعله متمكنا ويرفع إلا في ضرورة شعر أو مستنكرة من الكلام ونقل ذلك فيه قبل الرفع في خلف وقدّام ووراء وأمام وفوق وتحت ، فإن هذه الجهات المحيطة بالأشياء كثر استعمالهم لها ظروفا وهي مبهمة ، فربما استعملوها أسماء وترى ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

وأما قول سيبويه بعد أن ذكر المبتدأ الذي بعده الظروف خبرا له :

(فهذا كله انتصب على ما هو فيه وفي غيره ، وصار بمنزلة النون التي تعمل فيما بعدها نحو : العشرين ، ونحو قولك : خير منك عملا ، فصار هو خلفك وزيد خلفك بمنزلة ذلك ، والعامل في خلف الذي هو موضع له ، والذي هو في موضع خبره) ، قال المفسر فإن بعض هذه العبارة إيهام لمذهب الكوفيين ، وفي بعضها ما يوهم أن المبتدأ هو الذي ينصب الظرف ، وحقيقة نصبه ما قدمناه من تقدير استقر ونحوه فأما إيهام مذهب الكوفيين فقوله إنا ننصب الظرف بالخلاف للأول ، وقوله : على ما فيه.

فما للظرف وهو المبتدأ والهاء المتصلة ب (في) عائدة إلى ما وهي للظرف ، وهو

٢٩٥

الثاني عبارة عن الظرف والهاء في غيره عبارة عن المبتدإ.

فأما قوله : (وصار بمنزلة النون) ، يعني صار المبتدأ بمنزلة النون ، وهو عشرون ، وخير منك في عملها فيما بعدها ، لأن عشرين تنصب درهما إذا جاء بعدها ، وخير منك ينصب عملا.

فظاهر هذا أن المبتدأ نصب الظرف الذي بعده ، ثم حقق هذا بقوله : فصار هو خلفك ، وزيد خلفك بمنزلة ذلك ، يعني بمنزلة العشرين ، وخير منك في نصبهما ما بعدهما.

وقوله : (والعامل في خلف الذي هو موضع له) ف (هو) الذي يرجع إلى خلف ، والهاء في (له) ترجع إلى الذي ، فكأنه قال : والعامل في خلف الاسم الذي الخلف موضع له ، وذلك الاسم هو المبتدأ الذي هو في موضع خبره ، وظاهر هذا كله : أن المبتدأ ينصب الظرف ، فكما يرفع الخبر إذا كان هو هو نحو قولك :

زيد أخوك ، والأخ قد عمل فيه الأول فارتفع به ، يعني أخوك قد عمل فيه زيد ، فارتفع ، وقوله : (وبه استغنى الكلام وهو ينفصل منه) ، أي : ليس بنعت له ، فهذا ما يقتضيه اللفظ ظاهرا ، ويجوز أن يكون سيبويه جعل المبتدأ لمّا كان الفعل لا يظهر وكان ذكره نائبا عن ذكر الفعل ، أقامه مقام الفعل في العمل لمّا ناب عن ذكره وأغنى عنه فنسب العمل إليه. ويجوز أن يكون نسب العمل في الظرف إلى المبتدإ لأن فاعل استقر هو المبتدأ ، فالمضمر هو المظهر وملابسته للفعل المضمر جاز أن يعبّر عنه أنه العامل فيه.

ومما يقوي أن الناصب للظرف الفعل المقدر الذي فيه ضمير المبتدإ ، لأن الاسم لا يرتبط باسم هو غيره إلا بضمير يعود إليه ، ألا ترى أنه لا يجوز : زيد عمرو قائم ، حتى تقول : إليه ونحو هذا ، فلما كان الظرف غيره احتاج إلى شيء تربطه به ، فكان الفعل المقدر الذي ينصب الظرف ، وفيه ضمير الاسم.

وأما الكوفيون فإنهم يجعلون في الظرف عائدا ، والظرف اسم لا يحتمل الضمير إلا بتقدير الفعل ، أو تأويله.

قال سيبويه : (ومن ذلك قول العرب : هو موضعه وهو مكانه) ، والموضع والمكان ظرفان متمكنان ، وكذلك (هذا مكان هذا ، وهذا رجل مكانك).

قال أبو سعيد : هذا يكون على معنيين كلاهما ظرف ، أحدهما : أن يراد المكان

٢٩٦

الذي يكون فيه ، والآخر : أن يراد البدل منه في صنعة أو ولاية.

فتقول : زيد مكان عمرو ، بمعنى أنه في الموضع الذي فيه عمرو ، والآخر أن تريد : أنه بدل عمرو في عمله أو ولايته ، ويجوز أن يدخل عليه حرف الجر ، فيقول : هذا في مكانك ، ومعي رجل مكان فلان ، أي : معي رجل يكون بدلا منه يعني غناءه ، (ومثله هو صددك وسقبك) ، فمعنى : صددك ، قصدك ، ومعنى سقبك : قربك. ثم قال سيبويه : (واعلم أن هذه الأشياء كلها قد تكون أسماء غير ظروف بمنزلة : زيد وعمرو وسمعنا من العرب من يقول : دارك ذات اليمين) ، وذكر الفصل.

فإنه يريد : أن الظروف نحو : خلف وأمام ، وذات اليمين ، وإن كانت ظروفا ، فإنها قد تكون أسماء ، وقد تتفاضل في التمكن ، وسأذكر في آخر الباب جملة من ذلك ، فأما قول الشاعر :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها (١)

فإن في غدت ضمير الوحشية ، وهي بقرة جرى ذكرها وكلا الفرجين موضعه رفع بالابتداء ، وكلا وما بعده إلى آخر البيت : جملة في موضع الحال ، والأصل أن تقول : فغدت تحسب أن كلا الفرجين مولى المخافة ، فقدم كلا قبل أنّ ، وأضمر في أن ، فالهاء تعود إلى كلا ، ومولى المخالفة هو خبر أن ، ومعناه : صاحب المخافة وخلفها وأمامها بدل من كلا.

ومعنى البيت :

أن هذه الوحشة غدت تحسب أن كلا طريقيها في العدو وفيها ما يريبها وتخاف منه ، والطريقان هما : خلف وأمام ، ثم قال سيبويه :

(ومن ذلك أيضا هو سواك ، وهذا رجل سواك ، فهذا بمنزلة مكانك إذا جعلته بدلا ، ولا يكون اسما إلا في شعر فإن بعض العرب لما اضطر في الشعر جعله بمنزلة غير ، قال الشاعر وهو رجل من الأنصار :

ولا ينطق الفحشاء من كان منهم

إذا جلبوا منّا ولا من سوائنا (٢)

وقال الأعشى :

__________________

(١) البيت للبيد : ديوانه : ٣١١ ، ابن يعيش ٢ / ٤٤ ، ١٢٩.

(٢) البيت ل (المرار بن سلامة العجلي) خزانة الأدب ٢ / ٦٠ شرح الأشموني ٢ / ١٥٨.

٢٩٧

تجانف عن جلّ اليمامة ناقتي

وما عدلت عن قبلها لسوائكا (١)

وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : (ومثل ذلك أنت كعبد الله ، كأنه يقول أنت في حال كعبد الله ، فأجري مجرى بعبد الله ، إلا أن ناسا إذا اضطرّوا في الشعر جعلوها بمنزلة مثل ، قال الراجز :

فصيّروا مثل كعصف مأكول (٢).

وقال :

وصاليات ككما يؤثفين (٣)

وذكر الفصل.

مثّل سيبويه ، سواء غير متمكن لما استعمله الشاعر متمكنا في ضرورة الشعر بالكاف التي هي حرف قد وضعها الشاعر في موضع مثل اسما لأنها للتشبيه ، كما أن مثلا للتشبيه قد دخل عليها ما يدخل على مثل من العوامل ، وأضاف مثل إلى الكاف في : كعصف ، لأنه قدر مثل عصف ، وأدخل عليها الكاف ، وقوله : ككما يؤثفين الكاف الأولى حرف ، والثانية اسم بمعنى مثل ، فصارت الكاف في الضرورة في حكم مثل ، كما صار سوى في حكم غير في التمكن ، ثم بيّن سيبويه أن سوى والكاف جميعا بمنزلة الظروف ، لأنك تقول : مررت بمن سواك ، ونزلت على من سواك ، ومررت بالذي كزيد ، فصار كقولك : بمن عندك ، وبالذي عندك ، وهو غير متمكن ، ولو قلت : بمن فاضل أو بالذي صالح ، كان قبيحا ، لأن فاضلا وصالحا ، اسمان متمكنان فلا يحسن حتى تقول : بمن هو فاضل ، وبالذي هو صالح ، ولا يحسن أيضا أن تقول : مررت بمن مثل زيد ، وبمن غير زيد ، ولا بالذي مثل زيد : ولا بالذي غير زيد ، لأنها أسماء متمكنة غير ظرف فلا بد من ذكر العائد الذي يعود إلى الذي ، ومن.

وقد أجاز الكوفيون : زيد مثل عمرو ، ويجعلون مثل ظرفا ، كما تقول : زيد دون

__________________

(١) ديوانه : ٩٥ / خزانة الأدب ٢ / ٥٩.

(٢) الخزانة ٤ / ٢٧٠ وينسب إلى رؤبة.

(٣) الخزانة ١ / ٣٦٧ ، ٢ / ٣٥٣ ، ٤ / ٥٧٣ ، شرح شواهد المغني : ١٧٢ وهو ينسب لخطام المجاشعي.

٢٩٨

عمرو وفوق عمرو.

قال : (وتقول : كيف أنت إذا أقبل قبلك ، ونحي نحوك ، كأنه قال : أنت إذا أريدت ناحيتك) ، فإنه جعل قبلا ونحوا وناحية أسماء ، وأقامها مقام الفاعل ، وكذلك قوله : (كيف أنت إذا أقبل النقب الرّكاب) ، لأن الركاب : اسم للإبل ، وقد أقامه مقام الفاعل في أقبل ، ونصب النقب وهو طريق في الجبل ، فشبه قبلك ونحوك وناحيتك بالركاب في إقامته مقام الفاعل ، فإن كانت هذه الأسماء تكون ظرفا في حال ، والركاب لا تكون ظرفا.

وقوله : (وزعم الخليل أن النصب جيد إذا جعله ظرفا ، وهو بمنزلة قول العرب : هو قريب منك ، وقريبا منك ، أي : مكانا قريبا منك ، وحدثنا يونس : أن العرب تقول : هل قريبا منك أحد ، كقولك : هل قربك أحد؟) فإن سأل سائل كيف حسن رفع هذه الظروف ، ولم يحسن رفع خلف وقدام ونحوها إلّا في شعر؟

قيل له : لأن هذه الجهات المحيطة قد كثر استعمالها ظرفا ، فقويت في الظرفية أكثر من قوة غيرها من أسماء الجهات ، فكذلك بعد الرفع منها ، وقوله :

(وأما دونك فإنه لا يرفع أبدا) ، وذكر الفصل.

قال أبو سعيد وذكر سيبويه" دون" في معنيين ، أحدهما : أن تكون ظرفا ولا يجوز فيه غير النصب ، وإنما يستعمل في معنى المكان تشبيها ، فيقال : زيد دون عمرو في العلم والشرف ونحوه ، كأن هذه المناقب منازل يعلو بعضها بعضا ، كالأماكن التي بعضها أعلى من بعض ، ثم جعل بعض الناس في موضع من الشرف أو من العلم ، وجعل غيره أسفل من موضعه.

وقد أنشد في كتاب سيبويه بيتان ليسا من الكتاب في رفع دون ، أحدهما :

أراها يحسن الآل مرة

فتبدو وأخرى يكتسي الآل دونها (١)

أنشده ناقصا.

والآخر :

وعيرا تحمي دونها ما وراءها

ولا يحيطها الدهر إلا المخاطر (٢)

__________________

(١) البيت لذي الرمة في ديوانه ص ١٧٨٦.

(٢) البيت ينسب لموسى بن جابر ، الدرر اللوامع ١ / ١٨٢ ، همع الهوامع ١ / ٢١٣.

٢٩٩

وليس البيتان بمعروفين وأمّا الموضع الآخر ل (دون) فأن تكون بمعنى : حقير أو مسترذل ، فقال : هذا دونك ، أي : هذا حقيرك ومسترذل. كما تقول : ثوب دون ، إذا كان رديئا ، وجائز أن يكون دون الذي في المرتبة والمنزلة المستعمل ظرفا محمولا على هذا الرفع ، لأنك إذا جعلته في مكان أسفل من مكانه على التمثيل صار بمنزلة أسفل وتحت ، وهما يجوز رفعهما على التنكير على أن أسفل اسم متمكن إذا كان نقيض أعلى ، تقول : هذا أسفل الحائط وهذا أعلاه ، كما تقول : هذا رأسه وهذا آخره.

قال سيبويه : (وليس كل موضع يحسن أن يكون ظرفا). وذكر الفصل.

فإنه يريد أنهم لا يقولون : هو جوف الدار وخارجها كما تقول : هو خلفك لأن خلف للأماكن التي تلي الأسماء من أقطارها إلى غير نهاية ، لأن خلفك وقدامك وأقطارك كلها لا غاية لها ، وجوف الدار وخارجها بمنزلة البطن والظهر ، لأنه جزء من الدار وجزء من حدودها ، وكما لا تكون الدار ظرفا ، فكذلك أجزاؤها ، فإن لم ترد هذا وأردت الجهة كان ظرفا ، فقلت : زيد ناحية الدار ، أي جهة الدار وقصد الدار ، وكذلك هو ناحية من الدار ، لأن هذا ليس بجزء من الدار ، بل هو جهة غير الدار.

ثم بيّن سيبويه أن ما كان من المجرور ، فهو خارج عن الظرف كما يخرج المرفوع عن الظرف أنك تقول : زيد وسط الدار بتسكين السين ، فيكون ظرفا ، ثم تقول : هو في وسط بتحريك السين ، فيصير اسما كقولك : ضربت وسطه ، وقطعت وسطه ، فهذا بيّن من فصلهم بينهما في بنية اللفظ ، وقوله : (واعلم أن الظروف بعضها أشد تمكنا من بعض في الأسماء نحو : القبل والقصد والناحية) ، وذكر الفصل.

قال المفسر : فإنه يعني أن القبل والقصد والناحية استعملت في الأسماء أكثر من استعمال الخلف والأمام والتحت ، فلذلك كثر الرفع وقوي وتمكن في الخلف استعماله ظرفا ، وقل في الاسم ، وقد جاء من ذلك ما تقدم ذكره في الكلام والشعر ، فالكلام قولك : خلفك أوسع من قدّامك وأمامك أضيق ونحوه ، وأنشدوا لحسان :

 نصرنا فما تلقى لنا من كتيبة

يد الدهر إلا جبرئيل أمامها (١)

ومما يقوي النحو والقبل في الاسمية إذا قلت : نحي نحوك ، وأقبل قبلك أنها لا تتسع

__________________

(١) البيت منسوب لكعب بن مالك في معجم هارون ديوانه : ٢٧١ ، الخزانة ١ / ١٩٩.

٣٠٠