شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

الباب ، وأنا أفسر جملة هذا الباب مع ذكر قول يونس.

قال سيبويه : (ومثل" خمستهم" في الكلام قول الشاعر ، وهو الشّمّاخ :

أتتني سليم قضّها بقضيضها

تمسّح حولي بالبقيع سبالها (١)

قال أبو سعيد : هذا البيت في النّسخ منسوب إلى الشماخ ، وهو لأخيه مزرّد والنحويّون يروونه في الاستشهاد منصوب اللام من سبالها ، وهي مرفوعة أولها في شعره :

أتتني خفاف قضّها بقضيضها

تمسّح حولي بالبقيع سبالها

يقولون لي احلف قلت لست بحالف

أخادعهم عنها لعلّي أنالها

ففرّجت غمّ الموت عني بحلفة

كظهر الجواد يردّ عنها جلالها (٢)

وقد استعمل" قضّها بقضيضها" على وجهين :

منهم من ينصبه على كلّ حال ؛ فيكون بمنزلة المصدر المضاف المجعول في موضع الحال كقولك : مررت به وحده وفعلته جهدك وطاقتك.

ومنهم من يجعله تابعا لما قبله في الإعراب فيجريه مجرى كلّهم ، فيقول : أتتني سليم قضّها بقضيضها ، ورأيت سليما قضّها بقضيضها ، ومعناها : أجمعين ، أو كلهم ، وهو مأخوذ من القضّ وهو الكسر ، وقد يستعمل الكسر في معنى الوقوع على الشيء بسرعة ، كما يقال : عقاب كاسر ، وكأن معنى قضّهم : انقضّ بعضهم على بعض وتجمعوا.

هذا باب ما يجعل من الأسماء مصدرا كالمصدر الذي فيه الألف

واللام نحو : العراك

(وهو قولك : مررت بهم الجمّاء الغفير ، والناس فيها الجمّاء الغفير ، فهذا ينتصب كانتصاب العراك.

__________________

(١) البيت للشماخ بن ضرار ، وقيل : لأخيه مزرد : ديوانه ٢٩٠ وروايته :

وجاءت سليم قضها بقضيضها

تمسح حولي بالبقيع سبالها

يقولون لي : احلف قلت لست بحالف

أخادعهم عنها لكيما أنالها

ففرجت كرب النفس عني بحلفة

كما شقت الشقراء عنها جلالها

شرح المفصل ٢ : ٦٣ ؛ التكملة ٥ : ٣٨٧ ؛ تاج العروس (قضض).

(٢) المصدر السابق.

٢٦١

وزعم الخليل أنهم أدخلوا الألف واللام في هذا الحرف وتكلموا به على نيّة ما يدخله الألف واللام ، وهذا يجعل مثل قولهم : مررت بهم قاطبة ، ومررت بهم طرّا ، أي جميعا ، إلا أنّ هذا نكرة لا تدخله الألف واللام كما أنه ليس كل مصدر بمنزلة العراك ، كأنه قال : مررت بهم جمعا لهم ، فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به ، فصار طرّا وقاطبة بمنزلة سبحان في بابه لا يتصرّف كما كان طرّا وقاطبة لا يتصرفان ، ولا يكونان معرفة ، وهما في موضع المصدر ، ولو كانا في موضع الصفة لجريا على الاسم ولبنيا على الابتداء ولم يوجد هذا في الصفة ، وقد رأينا المصادر قد صنع بها هذا).

قال أبو سعيد : اعلم أنّ الجمّاء : هو اسم ، والغفير : نعت لها ، وهو بمنزلة قولك ـ في المعنى ـ : الجمّ الكثير ، لأنّه يراد به : الكثرة ، والغفير يراد به : أنّهم قد غطّوا الأرض من كثرتهم ، من قولنا : غفرت الشيء ، أي : غطيته ، ومنه : المغفر ؛ الذي يوضع على الرأس لأنه يغطيه ، ونصبه في قولك : مررت بهم الجمّاء الغفير على الحال ، وقد تقدّم القول أن الحال إذا كانت اسما غير مصدر لم يكن بالألف واللام ، فأحوج ذلك سيبويه والخليل أن جعلا" الجمّاء الغفير" في موضع المصدر كالعراك ، كأنّك قلت : مررت بهم الجموم الغفر ، على معنى : مررت بهم جامين غافرين للأرض ، ولم يذكر أصحابنا أنهما يستعملان في غير الحال ، وذكر غيرهم شعرا فيه الجمّاء الغفير مرفوع ، وهو قول الأعشى :

صغيرهم وشيخهم سواء

هم الجمّاء في اللّؤم الغفير (١)

وأما قولهم : مررت بهم قاطبة ، ومررت بهم طرّا ؛ فعلى مذهب الخليل وسيبويه جميعا هما في موضع مصدرين ، وإن كانا اسمين ، وذلك أن قاطبة وإن كان لفظها لفظ الصفات كقولنا : ذاهبة ، وقائمة ، وطرّا وإن كان لفظها لفظ صغرا وشهيا وما أشبه ذلك فإنه لا يجوز حملها إلا على المصدر ، وذلك أنّا رأينا المصادر قد يخرجن عن التمكن ؛ فلذلك حمل سيبويه" قاطبة" و" طرّا" على المصدر ، وصار بمنزلة مصدر استعمل في

__________________

(١) ورد البيت في الأصل هكذا :

صغيرهم وكبيرهم وشيخهم سواء

هم الجمّاء وفي اللوم الغفير

والذي أثبتناه هو الصواب ، كي يستقيم الوزن. ولم نعثر عليه في ديوان الأعشى ، والبيت منسوب للراعي النميري ، عبيد الله بن حصين بن معاوية.

٢٦٢

موضع الحال ، ولم يتجاوز ذلك الموضع ، كما لم يتجاوز ما ذكرناه من المصادر في موضعه ، وفيما ذكرنا خلاف من يونس يذكره سيبويه في الباب الذي يليه ونشرحه إن شاء الله.

هذا باب ما ينتصب لأنه حال وقع فيه الأمر وهو اسم

(وذلك قولك : مررت بهم جميعا وعامّة وجماعة ، كأنك قلت مررت بهم قياما).

قال سيبويه : (وإنما فرقنا بين هذا الباب والباب الأول لأنّ الجميع والعامة اسمان متصرفان ، تقول : كيف عامتكم؟ ، وهؤلاء قوم جميع ، فإذا كان الاسم حالا يكون فيه الأمر لم تدخله الألف واللام ولم يضف).

قال أبو سعيد : ـ رحمه‌الله ـ اعلم أنك إذا قلت : مررت بهم جميعا فله وجهان :

أحدهما : أن تريد مررت بهم وهم مجتمعون ؛ كما قال الله عزوجل : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ)(١).

والآخر أن تريد مررت بهم فجمعتهم بمروري ، وإن كانوا متفرقين في مواضع ، فإن أردت الوجه الأول فهو حال لا وجه له غيره.

وإن أردت الوجه الثاني جاز أن يكون في موضع مصدر بإضمار فعل آخر كأنه قال : جمعتهم جمعا في مروري.

وإن صيرناه حالا فعلى نحو قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(٢) وقولهم :

قم قائما ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى.

وعامة وجماعة بمنزلة جميع ، ولا يجوز أن تقول : مررت بهم الجميع والعامة والجماعة ، ولا مررت بهم جميعهم وجماعتهم ، كما لا يجوز ضربته القائم تريد قائما ، ولا ضربتهم قائمهم تريد قائمين ، وإنما جاز مررت بهم خمستهم ؛ لأنه على مذهب الخليل وسيبويه يجعل خمستهم بمنزلة المصدر كقولهم طاقته وجهده ، والجمّاء الغفير بمنزلة العراك وطرّا وقاطبة حين لم يكونا موصوفين بمنزلة الجمع ؛ لأنّ القطب في الأصل هو : ضمّ الشيء ، تقول : قطبت الشيء أي : ضممته وجمعته ، والطّرّ : مأخوذ من أطرار الطريق

__________________

(١) سورة القمر ، الآية : ٤٤.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٧٩.

٢٦٣

وهي : جوانبه ، وصار طرّا وقاطبة في معنى جمعا ، وصار نصبها كنصب مررت بهم جمعا ، ورأيته مكافحة وفجاءة.

قال سيبويه : (فجعلت هذه يعني الجمّاء الغفير بمنزلة المصادر المعروفة البيّنة ، يعني : العراك وما جرى مجراه ، كما جعلوا عليك ورويدك كالفعل المستعمل ، وكما جعلوا لبّيك ، وسبحان بمنزلة سقيا وحمدا ، وهذا تفسير الخليل.

ومعنى قولهم : جعلهم عليك ، ورويدك كالفعل المستعمل فإنّ عليك زيدا بمنزلة خذ زيدا ، ورويدك كقولك : أمهل زيدا ، وكجعلهم لبيك وسبحان وإن كانا غير متصرفين بمنزلة حمدا وسقيا في النصب ، وتقدير ناصب ينصبها).

وقد حكي عن المازنيّ أنه قال : يقال طررت القوم إذا مررت بهم جميعا ، وإذا صح هذا لم يوجب تمكّن" طرّا" لا يكون مأخوذا من لفظ" طرّ" كما أخذ" سبّح" من لفظ" سبحان" ، وهلل من قولك : لا إله إلا الله.

قال : (وزعم يونس أنّ" وحده" بمنزلة عنده وأن" خمستهم" و" الجمّاء الغفير" و" قضّهم" بمنزلة قولك : جميعا وعامّة ، وكذلك طرّا وقاطبة عنده بمنزلة وحده ، وجعل المضافة منه بمنزلة" كلّمته فاه إلى فيّ" ، وليس مثله لأن الآخر هو الأول عند يونس ، وفاه إلى فيّ ههنا غير الأول ، وأما طرّا وقاطبة فأشبه ذلك لأنّه جيّد أن يكون حالا غير أن المصدر نكرة ، والذي نأخذ به الأول).

قال أبو سعيد : مذهب يونس أن الجمّاء الغفير اسم ؛ لأنّه موضع المصدر وأن الألف واللام في نية الطرح ، وقد ردّ هذا سيبويه بأنّ" فاه إلى في" غير الأول ، و" وحده" عند يونس هو الأوّل ، ومعنى ذلك أن يونس يجعل" وحده" إذا قلت : " مررت به وحده" بمنزلة متوحّدا ومنفردا ، ويجعل المرور به ، وكذلك إذا قلت : لقيته وحده جعلت" وحده" بمعنى منفردا وجعلته الملقيّ ، وتقول : " كلّمته فاه إلى فيّ" معناه معنى المشافهة ، وذلك وجه آخر.

قال يونس : " مررت به وحده" ، معناه على حياله في موضع الظّرف ، وإذا كان الظرف صفة أو حالا قدّر فيه مستقرّ ناصب للظرف ، ومستقر هو الأول.

وأما مذهب سيبويه في" وحده" فالذي قال المبرّد : إنه يحتمل أن يكون الفاعل والمفعول به ، أما كونه للمفعول به فهو أن تقول : مررت به وحده أي : منفردا في مكانه

٢٦٤

لم يكن معه غيره.

والآخر : أن تجعل قصدك إليه دون غيره ؛ فتقول : مررت به وحده أي : لم أعتمد غيره في مروري.

وكان الزجّاج يذهب إلى أنّ وحده مصدر هو للفاعل دون المفعول فإذا قلت : مررت به وحده ، كأنك قلت : أفردته إفرادا ، ثم إنّ سيبويه جعل يونس في جعله طرّا وقاطبة اسمين لا مصدرين أعذر منه في الجمّاء الغفير لأنّهما نكرات وهما اسمان ، غير أنه لا يقول بقوله من أجل أنه لو كانا اسمين لجاز أن يستعملا متمكنين ؛ لأن هذا مثل التي تستعمل أحوالا.

(وأما كلّهم وجميعهم وأجمعون وعامّتهم وأنفسهم فلا تكون أبدا إلا صفة).

قال أبو سعيد : يعني توكيدا لما قبله وجاريا عليه.

وتقول : " هو نسيج وحده" فهو مدح ، وأصله أنّ الثوب إذا كان مرتفعا لا ينسج على منواله معه غيره ، فكأنه قال نسيج إفراده ، ويقال : هذا للرجل إذا أفرد بالفضل.

وأما" عيير وحده" و" جحيش وحده" فهو تصغير عير وهو : الحمار وجحش وهو : ولد الحمار ، ويذمّ بهذا الرّجل ، وهو الذي ينفرد فيما يخصّه بفعله ولا يخالط أحدا في رأي ولا معونة ولا يدخل في معونة أحد ، ومعناه : أنه ينفرد بخدمة نفسه ، وقد يقال : جحيش نفسه وعيير نفسه على ذلك المعنى.

هذا باب ما ينتصب من المصادر توكيدا لما قبله

(وذلك قولك : هذا عبد الله حقّا ، وهذا عبد الله الحقّ لا الباطل ، وهذا زيد غير ما تقول.

وزعم الخليل أنّ قوله : " هذا القول لا قولك" ، إنّما نصبه كنصب" غير ما تقول" ؛ لأنّ" لا قولك" في ذلك المعنّى. ألا ترى أنّك تقول : هذا القول لا ما تقول ، فهذا في موضع نصب ، فإذا قلت لا قولك فهو في موضع لا ما تقول).

قال أبو سعيد : حقّا وما بعده مصادر ، والناصب لها فعل قبلها يؤكد الجملة ، وذلك الفعل أحقّ أو ما جرى مجراه ، وذلك أنك إذا قلت هذا عبد الله جاز أن يكون كلامك قد جرى على يقين منك وتحقيق ، وجاز أن يكون على شكّ ، ويجوز أن يكون حقّا معرفة ونكرة لأنه ليس بحال ، وإذا قلت : الحقّ لا الباطل ؛ فالباطل عطف على الحق بلا كما

٢٦٥

تقول : رأيت زيدا لا عمرا ، وإذا قلت : هذا زيد حقّا لا باطلا ، وإن شئت : هذا زيد أقول غير ما تقول ، إذ قد عرف أن قول المخاطب باطل فكأنه قال : أقول الحقّ ، وإذا قال : هذا القول لا قولك فكأنه قال : هذا القول لا أقول قولك إذ كان باطلا.

(ومثله في الاستفهام : أجدّك لا تفعل كذا وكذا؟ وأصله من الجدّ ، كأنه قال : أجدّا ، غير أنه لا يستعمل إلا مضافا).

حتى يعلم من صاحب الجد ، ولا يجوز أن تترك الإضافة في قولك : هذا القول لا قولك ، أو غير قولك لم يكن ما نفيته بلفظ على البطلان ، ولو نعتّه بشيء يدلّ على أنه باطل لجاز لو قلت : هذا القول غير قولك باطلا ، أو قيل : كذب ضعيف أو نحو ذلك ممّا يدلّ على قوّة ضده وصحته لجاز وكان فيه توكيد ، والمبتغى من ذلك أن تحصل الفائدة للتوكيد.

(ومن ذلك أيضا : قولك : قد قعد البتّة ، ولا يستعمل إلا معرفة بالألف واللام ، كما أن جهدك وأجدّك لا يستعملان إلا معرفة بالإضافة) كما لزم بعض ما مضى من المصادر التعريف ، كقولك : سبحان الله ، ولبيك وسعديك ، وعمرك الله وقعدك.

(وأمّا الحقّ والباطل فيكونان معرفة بالألف واللام ونكرة ؛ لأنهما لم ينزلا منزلة ما لم يتمكّن من المصادر).

وفي نسخة الزجّاج : منزلة ما لم يتمكن من المضاف كسبحان وسعديك.

فقال الزجاج : إذا قلت : " هذا زيد حقّا" ، " وهذا زيد غير" قيل : باطل ، لم يجز تقديم حقّا ، لا تقول حقّا هذا زيد ؛ فإن ذكرت بعض هذا الكلام فوسّطته وقلت : زيد حقّا أخوك ، وزيد قائما أخوك ، وطولت بالفرق بين" زيد حقا أخوك وزيد قائما أخوك" على الحال ، فقيل له أنت لا تجيز : زيد قائما أخوك إذا أردت به الصّداقة لا غير ؛ لأنه غير متمكّن فلم أجزت : زيد حقا أخوك؟ فقال : إنما امتنعت تقديم الحال لأنّ العامل فيه أخوك وليس بعامل قويّ ، فإذا قلت : " حقّا" فالعامل فيه أحقّ وهو فعل مضمر ، فإذا ذكرت بعض الكلام فعلم أنّي فيه : إما متيقّن وإما شاك جاز أن أضمر اللّفظ الذي يدلّ على أحد المتوهمين منّي.

قال أبو سعيد : لم يذكر سيبويه بطلان تقديم حقّا ، بل قد قال في الاستفهام : أجدّك لا تفعل كذا وكذا؟ كأنه قال : أحقّا لا تفعل كذا ، فقد تقدّم" أحقّا" و" أجدّك" على الجملة

٢٦٦

التي بعدها ، ولم يورد الزجّاج هذا على نفسه ، ولعل المجيب عنه يقول : إن ألف الاستفهام لمّا كانت طالبة للفعل وفي الجملة تقدير فعل قدّم ، وفي ذلك نظر والله الموفق.

هذا باب ما يكون المصدر فيه توكيدا لنفسه نصبا

(وذلك قولك : له عليّ ألف درهم عرفا ، ومثل ذلك قول الشاعر وهو الأحوص :

أصبحت أمنحك الصدود وإنّني

قسما إليك مع الصدود لأميل (١)

وإنما صار توكيدا لنفسه ؛ لأنه حين قال : له عليّ فقد أقرّ واعترف ، وحين قال : لأميل ، علم أنه قد حلف ولكنّه قال عرفا وقسما توكيدا ، كما أنه إذا قال : سير عليه ؛ فقد علم أنه كان" سير : ثم قال : سيرا توكيدا).

قال أبو سعيد : الفرق بين هذا الباب والباب الذي قبله في جعله الباب الأول توكيدا لما قبله ، وجعله هذا الباب توكيدا لنفسه أن الباب الأول إذا قال : هذا عبد الله حقّا ، أنّ قوله : هذا عبد الله من قبل أن تذكر حقّا يجوز أن يظنّ أن ما قاله حقّ وأن يظن أن ما قاله باطل فتأتي ب (حقّا) لتجعل الجملة مقصورة على أحد الوجهين المحتملين عند السامعين ، وقوله : له عليّ ألف درهم اعتراف حقا كان أو باطلا فصار هذا تأكيدا لنفسه ، لأنه توكيد اعترف الذي هو معنى الكلام الظاهر هو لفظ اختصاص جعل الآخر عامّا ، وإنما قال قسما ؛ لأن التقدير : وإنني إليك مع الصدود لأميل ، ظاهر هذا قسم كما أن ظاهر" له عليّ ألف درهم" اعتراف ، فتدخل الألف واللام في هذا التوكيد كدخولهما في هذه المصادر المتمكنة التي تكون بدلا من اللفظ بالفعل كدخولهما في الأمر نحو : الضّرب زيدا ، والنهي نحو" الحذر" كقولك : إنما أنت السير السير ، والاستفهام كقولك : القيام وقد قعد الناس؟ (وتجوز إضافة المصدر المؤكد فى هذا الباب ، والإضافة فيه بمنزلة الألف واللام ؛ كقوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ)(٢)) الشاهد فيه : صنع الله ، لأن ما قبله صنع لله في الحقيقة ، وكذلك قوله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ

__________________

(١) ديوانه : ١٦٦ ؛ الأغاني ٢١ : ١٠٨ ؛ خزانة الأدب ٨ : ١٧٧ ، ٩ : ١٦٢.

(٢) سورة النمل ، الآية : ٨٨.

٢٦٧

وَعْدَهُ)(١) ؛ لأن ما قبله وعد من الله.

(وقال تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)(٢) ، لأن أحسن كلّ شيء في معنى : خلقه حسنا ، فأكّد بخلقه ، وقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ)(٣) وقوله (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ؛) بمنزلة فرض الله عليكم ، وتحريم الله عليكم ؛ لأن الابتداء تحريم المذكورات من النساء في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ)(٤) إلى قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) بينها وبين زوجها ، فهذه شريعة شرعها الله تعالى لهم ، وكتاب كتبه عليهم ، على معنى : فرض ألزمهم إيّاه.

وقال الكسائي : " كتاب الله" منصوب بعليكم ، كأنه قال : " عليكم كتاب الله ، وأكثر النحويين يدفعون هذا ، لأن الإغراء بهذه الحروف ليس لها قوّة الفعل ، ولا يحسن أن تقول : زيدا دونك ، وزيدا عليك ، كما تقول : زيدا خذ ، وإنما تعلّق في جواز هذا بقول الشاعر :

يا أيّها المائح دلوي دونكا

إنّي رأيت النّاس يحمدونكا (٥)

وليس في هذا حجّة ، لأنه يجوز أن يكون دلوي في موضع رفع كأنه قال : دلوي عندك ، كما تقول : دلو زيد بقربك استدعاء لملئها ، وإن لم يكن ذلك في لفظ الفعل ، وهو حمله على أنه في موضع نصب ، وأن العامل فيها دونكا ، وقد يجوز عند بعض النحويين أن يكون العامل فيها مضمرا كأنه قال : املأ دلوي ، والدليل على أن هذا يجوز أنه لو قال : يا أيها المائح دلوي ، ولم يزد على ذلك لجاز ؛ لأنّ الحال التي هم فيها تدل عليه.

ومن ذلك قولهم : الله أكبر دعوة الحقّ ؛ لأن قولك : الله أكبر ، إنما هو دعاء إلى الحقّ وإلى أن يكون السامع ينثني إلى جملة القائلين بالتوحيد ، وإلى القوم الذين شعارهم" الله أكبر" فيكون هذا دعوة الحقّ يتداعون بها ، كأنه قال : دعوا دعاء الحق ، وادعوا دعاء الحقّ ، وقال رؤبة :

__________________

(١) سورة الروم ، الآيات ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦.

(٢) سورة السجدة ، الآية : ٧.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٢٤.

(٤) سورة النساء ، الآية : ٢٣.

(٥) سبق تخريجه.

٢٦٨

إنّ نزارا أصبحت نزارا

دعوة أبرار دعوا أبرارا (١)

ومعناه : أنّ نزارا وهو أبو ربيعة ومضر لمّا وقع بين ربيعة ومضر تباين وحرب بالبصرة ، وعادت ربيعة صالحت مضر كأنّ نزارا تفرّقت ثم اجتمعت فقال : أصبحت نزارا ، أي : مجتمعة الأولاد إذا دعا بعضهم بعضا إلى النّصرة قال : يال نزار ، وفي حال التباين والعداوة والحرب ، كان المضريّ يقول منهم : يال مضر ، ويقول الربعيّ : يال ربيعة ؛ لأن أحد الفريقين ما كان ينصر الآخر ، فصار قوله : " أصبحت نزارا" بمنزلة قوله : دعا بعضهم بعضا بهذا اللفظ ، ثم جاء بالمصدر وهو" دعوة أبرار" على ذلك ، وإنّما أضاف المصدر لأن إضافته تبين الفاعل من المفعول به ، فلو قال : وهي تمرّ مرّ السّحاب صنعا ، أو أحسن كلّ شيء خلقا ، أو وعدا ، وكتابا ، لم يكن فيه البيان التامّ.

وقال بعضهم : (صِبْغَةَ اللهِ)(٢) منصوبة على الأمر ، وقال بعضهم : بل توكيد والصبغة : الدين ، والذي يقول توكيد حمله على ما يوجبه هذا الباب ؛ لأنّ قبله أشياء من أمر الدين وشريعة الإسلام.

(وقد يجوز الرفع في ذلك كلّه على أن تضمر شيئا هو المظهر ، كأنه قال : ذاك وعد الله ، وصبغة الله ، وهو دعوة الحقّ على هذا ونحوه رفعه).

ومن ذلك : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ)(٣) أي ذلك بلاغ.

قال سيبويه : (ومثل ذلك قول الراعي :

دابت إلى أن ينبت الظلّ بعد ما

تقاصر حتى كاد في الآل يمصح

وجيف المطايا ثم قلت لصحبتي

ولم ينزلوا أبردتم فتروّحوا (٤)

فنصب وجيف المطايا نحو ما مضى في الباب ؛ لأن دأبت قد دلّ على أنّه معنى

__________________

(١) قائله : رؤبة بن العجاج : شرح المفصل ١ : ١١٧ (بلا نسبة) ؛ هارون ١ : ٣٨٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٣٨.

(٣) سورة الأحقاف ، الآية : ٣٥ والآية مكتوبة في الأصل هكذا" كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، بلاغ" وهو خطأ ، والصحيح ما أثبتناه.

(٤) البيتان ينسبان إلى الراعي النميري : الإنصاف ١ : ٢٣١.

٢٦٩

سرت ، وأكثر ما يستعمل ذلك في السير الشديد الدائم فصار بمنزلة قوله أو جفت ، وجعل قوله : وجيف المطايا توكيدا لأوجفت الذي هو في ضميره.

قال : (واعلم أنّ نصب هذا الباب المؤكّد به العامّ منه ، يعني هذا زيد حقّا ، وما أكّد به نفسه يعني : له علي ألف درهم عرفا ينتصب على إضمار فعل غير كلامك الأول ؛ لأنّه ليس في معنى كيف ولا لم).

يعني ليس بحال ولا" لم" يعني ليس بمفعول له ؛ لأن الحال جواب كيف ، والمفعول له جواب لم كأنه قال : أحقّ حقّا وأتجدّ جدّك ، ولا أقول قولك ، وكتب الله كتابا ، ولا يظهر الفعل كما لم يظهر في باب سقيا لك وحمدا.

هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال

صار فيه المذكور

(وذلك قولك : أمّا سمنا فسمين ، وأمّا علما فعالم ، وأمّا نبلا فنبيل.

وزعم الخليل أنه بمنزلة قولك : أنت الرجل علما ودينا ، وأنت الرجل فقها وأدبا ، أي : أنت الرجل الكامل في هذه الحال ، وعمل فيه ما قبله وما بعده ، ولم يحسن في هذا الوجه الألف واللام ، كما لم يحسن فيما كان حالا ، وكان في موضع فاعل حالا).

قال أبو سعيد : يعني المصدر ، وكذلك هذا ، فانتصب المصدر ؛ لأنه حال مصير فيها.

(ومن ذلك قولك : أمّا علما فلا علم عنده ، وأما علما فلا علم ، وتضمر له لأنك إنما تعني رجلا.

وقد يرفع هذا في لغة بني تميم ، والنصب في لغتها أحسن ، فإذا دخلت الألف واللام رفعت ؛ لأنه يمتنع من أن يكون حالا).

قال أبو سعيد : هذا الباب فيه صعوبة ، ونقل كلام النحويين من البصريين والكوفيين ؛ ولذلك قال الزجّاج : هذا الباب لم يفهمه أحد إلا الخليل وسيبويه ، ومعناه : أن رجلا يدّعي أو يدّعى له أشياء فيعترف له ببعضها فيدخل" أمّا" على ذلك ، كأنّ قائلا قال : أنا عالم ، وأنا ديّن ، وأنا شريف ، فأنكر السامع بعض ما قال ، وعرف بعضا فقال :

٢٧٠

مهما تذكر فأنت الرجل لعلم ، وحذف ونصب ، وكذا إذا قال : هذا الفرس سمين جواد ، قيل له مهما تذكر فهو سمين من أجل سمن أو لسمن فيه.

ورأيت ثعلبا ذكر هذا الباب من كلام سيبويه ، فساق كلامه ثم اعترض بسؤالات من غير إنكار فقال : من أين قال ما قاله؟ ولم يرد عليّ ذا شيئا يحصّل ، وحكى الفراء أشياء لم ينصرها.

وأنا أسوق ما قاله ، وما قاله الكسائي والأحمر وذلك شيء يسير نزر ، ثم اختار أبو العباس ثعلب بعد ذلك نحو مذهب البصريين الذي يرتّبونه ويتكلّمون عليه فقال : القياس وكلام العرب أن تكون أمّا جزاء حذفت الأفعال معها وبقيت الأسماء فعرّبت بما يكون بعد الفاء ؛ لأن العرب تكتفي بما ظهر ممّا ترك فإذا جاءوا بما يدلّ على أنه جزاء أعملوا الأوائل بحقّ الجزاء فقالوا : أما العقل فعاقل ؛ كقولك : إن ذكرت العقل فهو عاقل ، فجاز حذف ما بعد فاء الخبر ونصبت الأوّل بتعليقه بلفظ الجرّ الأول ، فإذا ظهر له ما يعمل فيه اكتفوا باللفظ الظاهر من هذا المعنى ، وإدخالهم اليمين وإنّ وأخواتها دليل على استئناف الفاء بالجزاء ، فإذا كان الجزاءان قد تباينا في الإعراب علمت أن الأوّل قد أعمل وأن الثاني قد أهمل وجاء الجزاء على بابه ، فهذا القياس في ذلك ، هذا كلام ثعلب.

قال أبو سعيد : وأنا أسوق من ذلك ما ينساق عليه كلام سيبويه وأذكر ما فيه خلاف بين النحويين البصريين منه ومذهب الكوفيين.

وأمّا الأصل الذي يسوق عليه سيبويه كلامه في ذلك : أنّ" أمّا" في الأصل قد نابت عن شرط الجزاء والفاء وما بعدها جواب ، والشّرط الذي نابت عنه" أمّا" يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن تحذف جميعه وتقدّم اسم ما بعد الفاء من اسم أو ظرف أو شرط فيكون تقديم ذلك على الفاء ، والمراد أن يكون بعدها عوض من المحذوف ، وأما الاسم فقولك : أمّا زيد فضربت ، وأما زيدا فلا تضرب ، وأما زيد فخارج ، والتقدير : مهما يكن من شيء فزيد خارج ، فلمّا حذفت الشرط وما يتصل به قدّمت اسما من الجواب فكان عوضا منه ، ولو كان بعد الفاء اسمان لم يجز إلا تقديم واحد منهما كقولك : أمّا زيد طعامه فلا تأكل ، لا يجوز تقديم الطعام مع تقديم زيد ، لأنّ الأصل أن لا يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها ، وإنّما يقدّم اسم واحد ليكون عوضا مما حذف ، وإذا استغنت" أمّا" بذلك الاسم

٢٧١

عادت الفاء إلى حكمها ، فلم يجز تقديم ما بعدها عليها ، ولو قلت : أمّا طعام زيد فلا تأكل ولم تقدّم زيدا جاز ، وحقّه أن تقدم ما تقديره أنّه يلي الفاء.

وأما تقديم الظرف الذي حقّه أن يكون بعد الفاء ؛ فقولك : أمّا يوم الجمعة فلا تخرج فيه ، وتقديره : مهما يكن من شيء فيوم الجمعة لا تخرج فيه.

وأما الشرط فقولك : أمّا إن جاءك زيد فأكرمه ؛ لأنّ التقدير : مهما يكن من شيء فإن جاءك زيد فأكرمه ، قال الله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)(١) والتقدير : مهما يكن من شيء فإن كان من المقربين فروح وريحان أي : فله روح وريحان ، فهذا تمثيل ما تقدم مما بعد الفاء.

وأمّا ما يكون قبل الفاء جزاء من الشّرط المحذوف بعضه المبقيّ بعضه فقولك : أمّا علما فلا علم عند زيد ؛ فالعلم منصوب بما دلّ عليه" أمّا" وتقديره : مهما يذكر زيد علما ، أي : من أجل علم وبعلم فلا علم عنده.

ولا يجوز أن يكون العامل في" علما" ما بعد الفاء ؛ لأنه لا يعمل فيها قبله. ألا ترى أنك لو قلت : " لا علم عند زيد ، لم يحسن أن تقول : عند زيد لا علم ، وأصحابنا في ذلك مختلفون على مذهبين :

فالمازني يجيز : أمّا زيدا فأنا ضارب ، ولا يجيز : أمّا زيدا فأنا رجل ضارب ، وذلك أنك لو نزعت أمّا والفاء فقلت : أنا ضارب زيدا لجاز تقديم زيد على أنا ؛ ولقلت : زيدا أنا ضارب ، ولا يجوز : زيدا أنا رجل ضارب ؛ لأن ضاربا نعت لرجل ، وضارب في موضعه فلا يجوز تقديمه على ما قبل المنعوت ، كما لا يجوز أن تقدّم ما عمل فيه النعت على المنعوت ، وهذا أصل البصريين ، وسيمر بك في موضعه.

وكان المازنيّ يقول : إن الذي يجوز فيه تقديمه على الفاء هو الذي يجوز أن يلي الفاء ويقدّم عليها ، وما لم يجز أن يلي الفاء لم يجز تقديمه على الفاء ، فلا يجوز أن يقال : مهما يكن من شيء فزيدا أنا رجل ، وعلى هذا القياس أيضا لا يجوز : أمّا زيدا فإنّي ضارب ؛ لأنّك لا تقول : زيدا إنّي ضارب ؛ لأن خبر إنّ لا يعمل فيما قبله ، وأجاز أن

__________________

(١) الآيتان ٨٨ ، ٨٩ من سورة الواقعة ، وبداية الآية ٨٨ جاءت مكتوبة في الأصل هكذا : " وأمّ" وهو خطأ ، والصحيح ما أثبتناه.

٢٧٢

تقول : أمّا اليوم فإنك راجل على أن تنصب اليوم بما في أمّا من معنى مهما ، كأنه قال : مهما يكن من شيء فإنك راجل.

وكان أبو العبّاس المبرّد يجيز تقديم ذلك ، وذكر أنّ" أمّا" موضوعة على التقديم إليها ما بعد الفاء ، وردّ على المازنيّ ما قاله.

وذكر أن جواز ذلك مذهب سيبويه ؛ لأن سيبويه قال : أجهد رأيك أنّك ذاهب ، فنصب جهدا على الظرف ، كأنّه قال : في جهد رأيك ذهابك والناصب لجهد استقرّ ، وقال : لا يكون إلا ظرفا ، وقال : أمّا جهد رأي فإنّك ذاهب فكسر إنّ لما أدخل أمّا وقال : لأنك لم تضطر إلى أن تجعله ظرفا كما اضطررت في الأول.

قال أبو سعيد : وتفسير ذلك أن قولك : أجهد رأيك أنك ذاهب ، لا يجوز أن تنصب" جهد رأيك" بما بعد أنّ ، وهو ذاهب ؛ لأن خبر أنّ لا يعمل فيما قبل أنّ ، فاضطرّ إلى أن يجعل أنّ وما بعدها مصدرا في موضع ابتداء ، ويجعل أجهد رأيك ظرفا له ، كما تقول : خلفك زيد على تقدير استقرار ، وأمّا جهد رأيك فإنك ذاهب فقال : فيه نصبت جهد بالفعل لا بالظرف ، فقوله بالفعل يعني : بذاهب في مفهوم اللفظ.

والظاهر من هذا الكلام أن سيبويه نصب ما قبل الفاء بخبر" إنّ" الذي لا يجوز تقديمه على" أنّ" في غير" أمّا".

قال أبو سعيد : يحتمل عندي أن يكون سيبويه ما أراد بهذا الذي قاله أبو العباس ، وإنما أراد أن يفصل بين قولك : جهد رأيي أنك ذاهب وبين أمّا جهد رأيي فإنك ذاهب ، بأن جهد رأى في الأول هو ظرف ب" أنّ" ؛ وما بعدها خبر لها لأنّها في معنى المصدر ، ولا طريق إلى نصبه غير الظرف وإذا أدخل" أمّا" فإنه يجوز أن ينصب بما في" أمّا" من معنى فعل الشرط المحذوف ، ولا يكون على ما قال أبو العباس.

وأما الفرّاء فأجاز نصب بعض ذلك بما بعد الفاء ولم يجز تقديم بعض فيما أجاز تقديمه ، أمّا عبد الله فإني ضاربه ، فقال بالرفع والنصب ، وقال : إنما جاز النّصب لأن الفاء كأنها لحدوثها أحدثت" أنّ" لأنها من حروف الاستئناف وما بعد الفاء مستأنف ، ولو ألغيت" أمّا" و" الفاء" لم يجز ذلك ، فقولك : " عبد الله إنّي ضارب" خطأ ، ومثل ذلك" ليت" و" لعل" و" كأنّ".

ويشبه أن يكون مذهب الفراء في ذلك أن هذه الحروف كأنها جلبت من أجل الفاء

٢٧٣

لأنّ الفاء تدخل على كلام مستأنف ، وهذه الحروف تدخل على مبتدإ وخبر فلم يجعله مما قال الفراء ؛ فكذلك قولك : أمّا عبد الله فلأضربنّه ، وجه الكلام الرفع لمكان اللام لأنّه لا ينصب ما بعدها ما قبلها ، فهذا احتجاج لاختياره الرفع فمفهوم كلامه أنّ النصب يجوز ، وليس بالوجه.

ومما أجاز : أمّا عبد الله فما أعرفني به ، أو ما أزورني له ، رفعت ونصبت وخلقة التعجّب أن لا يقع ما بعده على ما قبله ، لو حذفت" أمّا" و" الفاء" لا تقول : " عبد الله ما أضربني له" إلا أنّ النصب جاز حين دخلت" أمّا" و" الفاء" كما جاز في" أنّ" و" ليت" و" لعلّ".

قال أبو سعيد" : لأن التعجّب في الأصل خبر عن فعل إذا قلت : ما أظرف زيدا وما أضربه ، فمعناه : زيد ظريف جدّا وضارب جدّا ضربا كثيرا ، ولو جئت بهذا اللفظ نصبت به ما قبله.

وقال الفرّاء إنه سمع الكسائي أنشد من هذا البيت :

" أما قريشا فأنا أفضلها"

أي : أنا منها ، وأنا أفضلها ، والرفع في هذا أقوى ، وكذلك : أمّا عبد الله فإنّي أفضل منه.

قال أبو سعيد : وكأنّ هذا محمول على معناه ، لأنّ قوله : إنّي أفضلها : أنا أفضلها.

من فضلت أفضل ، وكذا معنى : فإني أفضل منه ، أي : أنا أفضله.

قال الفرّاء : ومما لا يجوز فيه إلا الرفع : أمّا القميص فأن تلبس خير لك ، قال : وذلك أنّ" أن" التي مع تلبس لم تكتسبهما الفاء إنما هي بمعنى اسم ، كأنّك قلت : أن تلبس القميص خير لك.

قال أبو سعيد : يعني أنه لا سبيل إلى إسقاط" أن" في التقدير ، فلم يصلح أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، لأنها وما بعدها بمنزلة اسم.

ومما لا يجوز عنده إلا رفعه : أمّا عبده فما أعطيته قليلا ولا كثيرا ؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها ، أما عبد الله فما أظرفه لا يجوز إلا بالرفع ، والفصل بين هذا وبين أما عبد الله فما أعرفني به بالرفع والنصب أنّ العائد إلى عبد الله وهو الهاء في به وموضعه نصب بوقوع المعرفة عليه لا بالتعجّب ، والمعنى : فأنا أعرفه ، والهاء في ما أظرفه ، وإن كانت في

٢٧٤

اللفظ منصوبة فهي مرفوعة في المعنى ؛ لأنّ معنى ما أظرف زيدا : زيد ظريف جدّا ؛ فهو مرفوع بالمعنى.

وفصل الفراء بين : أمّا زيدا فقد ضربت زيدا ، وأمّا زيدا فقد ضربته ، فقوّى النصب في إعادته زيدا مظهرا على إعادته مكنيّا ؛ لأنك إذا أعدته ظاهرا فكأنك لم تقصد قصد الكلام الأوّل ، وإذا أعدته مكنيّا فقد قصدت الأوّل فصار بمنزلة : زيد ضربته.

وأجاز : أما زيدا فقد قام زيد ، ولم يجز : أمّا زيدا فقد قام ، لأنّه إذا قال : فقد قام زيد فقد اعتمد في الأوّل أن تعمل فيه الجملة الأولى المقدّرة ، وتقديره : مهما تذكر زيدا فقد قام زيد ، وإذا قال : فقد قام فهو محتاج إلى الأول فصار بمنزلة قولك : زيد قد قام.

وكان هشام بن معاوية (١) يجيز : فيك لأرغبنّ ، وعليك لأنزلنّ ، أو منك لآخذنّ ؛ فهذه الحروف في صلة ما بعد اللام.

ولا يجوز بإجماع الكوفيين : زيدا لأضربنّ ، ولا طعامك لآكلنّ.

وفصل هشام بين هذا وبين ما أجازه في الحروف أنّ الحروف لا يبين الإعراب فيها ؛ ولأنّ الظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في غيرها.

وينبغي على مذهب الفرّاء أن يجوز : أمّا زيدا فلأضربنّ ، وقد أجازه في أمّا.

قال أبو سعيد : وعندي أنه حمله على مذهب" أنّ" في اختصاص أمّا بتقديمها ما بعد الفاء عليها.

عدنا إلى كلام سيبويه في ترجمة للباب.

فقوله : باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور ظاهرا يوجب أن قوله : أمّا سمنا فسمين وكذلك علما ونبلا أنّ سمنا وعلما ونبلا تنتصب على الحال ، وكذلك أنت الرجل علما ودينا وفقها وأدبا.

وقال في هذا الباب : إنّ هذا مذهب بني تميم دون أهل الحجاز ، وذلك أنّ بني تميم إذا أدخلوا الألف واللام على المصدر ، يعني : سمنا وعلما لم يجروه مجرى الأوّل ؛ فدلّ هذا عنده على أن الحجازيين يذهبون في نصبه أنه مفعول له ، والمفعول له يكون نكرة

__________________

(١) هو هشام بن معاوية الضرير النحوي صاحب الكسائي له مؤلفات كثيرة منها الحدود ، القياس توفي ٢٠٩ ه‍ معجم الأدباء ١٩ : ٢٩٢ بغية الوعاة ٢ : ٣٢٨.

٢٧٥

ومعرفة ، تقول : فعلته مخافة الشّرّ ، ومخافة ، وأن بني تميم يذهبون به مذهب الحال لأن الحال لا تكون إلا نكرة ، فإذا قالوا : أما العلم فإنك عالم به ، رفعوا العلم بالابتداء وكان التقدير : مهما يكن من شيء فالعلم أنا عالم ، ويقدّرون أمّا النبل فهو نبيل ، أي نبيل به حتّى يكون فيه ، أي : في الجملة ما يعود إلى الأوّل.

وأما إذا قالوا : أمّا العلم فأنا عالم به ، فإن جعلت الأوّل غير الثاني نصبت الأوّل ، فالتقدير : أما العلم فأنا عالم بزيد ، ونصبته على المصدر كأنّك قلت : مهما يكن من شيء فأنا عالم بزيد العلم ، ثمّ قدمت العلم منصوبا على المصدر.

وقوله : إن العلم الأوّل غير العلم الثاني ، فإنه يريد أنّ الإنسان قد يقول : فلان عالم بالفقه أو بالنّحو ، فتكون منزلة الفقه من العلوم وإن كان عالما بمنزلة زيد في قولك : هو عالم بزيد علما ، والعلم غير زيد ، جاز أن يقول : هو عالم بالفقه علما ، والعلم غير الفقه ، ويكون المعنى فيه بعلمه وعلاجه فيصير قوله : أمّا العلم فأنا عالم بالفقه ، أي : أعلمه علما ، كما تقول : أعلم زيدا علما ، وقوله بعد ذكره : أمّا سمنا فسمين ، وعمل ما قبله فيما بعده فإنه يعني بما قبله : ما تتضمنه الجملة التي تدلّ عليها أمّا ، كأنه قال : مهما يذكر زيد سمنا فهو سمين ، لأنه قد عمل في سمين فنصبه.

وقوله : وعلى هذا الباب فأجر جميع ما أجريته نكرة حالا إذا أدخلت فيه الألف واللام فإنه يريد أن يكون مفعولا له إذا أدخلت الألف واللام فيه على مذهب أهل الحجاز ، وإذا رفعته على مذهب بني تميم بالابتداء أو نصبته على مذهب الحجازيين.

فأمّا إنشاده :

ألا ليت شعري هل إلى أمّ معقل

سبيل فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا (١)

فإنّ الصبر منصوب بما قبله من التقدير كأنّه قال : مهما ترم الصبر أو تذكر الصبر فلا صبر ، وليس بعده ما يعمل فيه.

وبنو تميم يقولون : أمّا الصبر عنها فلا صبر ؛ كما قالوا : أمّا العلم فعالم على إضمار الهاء كأنه قال : فهو عالم به.

__________________

(١) ينسب إلى ابن ميادة : خزانة الأدب ١ : ٤٥٢ ؛ مغني اللبيب ٥ : ٥٩٢ ؛ الأغاني ٢ : ٢١٨ ، ٢٨٤ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ١٨٠.

٢٧٦

وعلى مذهب الحجازيين يكون الصبر مفعولا ، كأنّه قال : مهما تذكر الشيء للصبر عنها فلا صبرا وحذفت اللام ونصبت.

وأمّا احتجاج سيبويه لمذهب بني تميم في إضمار العائد وحذفه في قولك : أما العلم فعالم على تقدير : " عالم به" ، وقوله تعالى : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(١) في موضع النعت ليوم ، فلا بدّ في هذه الجملة من عائد إلى اليوم.

فمذهب سيبويه والفراء أن العائد هو فيه.

وكان الكسائي يجعل العائد هاء ، كأنه قال : لا تجزيه ، وقال الهاء تحذف من صلة الذي ، فإذا اتصلت بحرف جرّ لم تحذف من الصلة ، تقول : زيدا الذي ضربت ، تريد :

الذي ضربته ، ولا تقول : زيدا الذي تكلمت اليوم ، ولا تقول : الذي نزلت ، تريد عليه ، وتكلّمت فيه ، والفصل بين الظرف وغيره أنهم قد أجازوا : تكلمت اليوم ، تريد : تكلمت فيه.

ولم يجيزوا : تكلمت زيدا ، تريد في زيد ، فعلمنا أنّ حذف حرف الجرّ مع ظروف الزمان والمكان جائز وإن لم يجز في غيرها.

وأنشد سيبويه قول عبد الرحمن بن حسان :

ألا ياليل ويحك نبّئينا

فأمّا الجود منك فليس جود (٢)

فهذا تقوية للغة بني تميم ، أي : ليس لنا منك جود ؛ فالجود : مبتدأ ولا بدّ من عائد إليه مما بعده ، وتقديره : فأما الجود فليس لنا جود به ، أو من أجله أو غيره من التقدير.

وقوله : (وممّا ينتصب من الصفات حالا كما انتصب المصدر الذي يوضع موضعه ، ولا يكون إلا حالا).

وقوله : (أمّا صديقا مصافيا فليس بصديق مصاف ، وأمّا ظاهرا فليس بظاهر ، وأمّا عالما فليس بعالم فهذا نصب ؛ لأنه جعله كائنا في حال علم وخارجا من حال الظهور ومصاف ، والرفع لا يجوز هاهنا ؛ لأنك قد أضمرت صاحب الصفة).

فإنه يريد أنّ صديقا مصافيا حال وقد أضمرت الذي منه الحال ، وكأن التقدير : أمّا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٤٨.

(٢) البيت لعبد الرحمن بن حسان : ديوانه : ٢١ ؛ وبلا نسبة في الدرر ٢ : ٦٤ ؛ همع الهوامع ١ : ١١٦.

٢٧٧

صديقا مصافيا فليس بصديق مصاف.

وقال المبرّد : العامل في" صديق مصاف" التقدير الذي دلّت عليه" أمّا" كأنه قال : مهما يذكر زيد صديقا مصافيا فليس بصديق ، وليس يعمل فيه قولك : بصديق ، لأنّ ما بعد الباء عنده لا يعمل فيما قبلها.

وغيره من أصحابنا أجاز فأعمل ما بعد الباء فيما قبلها ؛ لأن الباء ههنا زائدة ودخولها كخروجها.

واعلم أنّ قولك : " بزيد" أن الباء حرف فلا يتقدّم معمولها إذ ليست للحروف قوّة الفعل كما لا تقول : راكبا مررت بزيد ؛ لأنّ ما في صلة الباء لا يتقدّم عليها.

ومن أجاز إعمال ما بعد الباء في" أمّا" فرّق بين الباء التي تدخل للجحد التي تعدّي الفعل بالزيادة التي ذكر.

واعلم أنّ قولك : أمّا صديقا مصافيا ، مفارق لقولك : أمّا العلم فعالم ؛ لأنه لمّا لم يضمر شيئا هو العلم رفعت بالابتداء ، وأنت قد أضمرت زيدا في قولك : أمّا صديقا مصافيا ، وإنما طرحت زيدا بعد أن عرف وجرى ذكره ؛ فلذلك أضمرته ، وإذا قلت : أمّا الصديق المصافي فليس بصديق مصاف ، فليس إلا الرفع ، لأنه لما كان بالألف واللام لم يكن حالا فرفعته بالابتداء.

ومعنى قول سيبويه : لأنك قد أضمرت صاحب الصفة ، أي : أضمرت زيدا الذي هو صديق ، ويعني بالصفة الحال ، والصفة ههنا هي الموصوف الذي هو زيد ، وليست بمنزلة المصدر الذي هو غيره نحو العلم.

والحجازيون لا يقولون : أمّا الصديق المصافي فليس بصديق بنصب الصديق ، كما قالوا : أمّا النبل فنبيل ؛ لأن الصديق ليس بمصدر فيكون مفعولا له كالنّبل الذي هو مصدر نصب لأنه مفعول له ، ويكون جوابا لمن قال : لمه؟ ألا تراك تقول : صاحبك صاحب النبل والشّرف وصاحبك الصديق المصافي ، يعني للصديق.

وقول سيبويه : (وإذا قلت : وأمّا الضرب فضارب فهذا ينتصب على وجهين : على أن يكون الضرب مفعولا كقولك : أمّا عبد الله فأنا ضارب فيكون مصدرا مؤكّدا ، وقد يجوز نصب الضرب من وجه ثالث وهو المفعول له في لغة أهل الحجاز).

قال أبو سعيد : والصواب عندي في هذا الباب وما ذكرنا من خلاف النحويين ألّا

٢٧٨

تقدّم ما بعد الفاء على الفاء إلى جانب" أمّا" إلا ما يجوز تقديمه حتى تلي الفاء.

ومن أجاز تقديم بعضه من أجل ما قد منعوا بعضا فأجاز الكسائي والفراء : أما زيدا فإنّي ضارب ، وزيد منصوب بضارب ، ولم يجيزوا : أما القميص فأن تلبس خير لك ، والقميص منصوب بليس ؛ لأنّ ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها.

ولم يجز المبرّد : أمّا درهما فعندى عشرون ؛ لأن درهما منصوب بعشرين ، ولا يعمل عشرون فيما قبلها ، وإذا لم يكن حضور" أمّا" يجوز تقديم ما لا يجوز تقديمه من هذه الأشياء التي يجيزونها وجب أن يمنعوا : أمّا زيدا فإنّي ضارب ، على أن تنصب زيدا بضارب ؛ لأنّه لا يجوز : زيدا إنّي ضارب ، فينبغي أن لا يجوّز" أمّا" فإن جاز من أجل" أمّا" وجب جواز الباقي لحضورها ، ويجوز عندي : أمّا اليوم فإنّي قائم ، وأمّا خلفك فإني جالس ، تنصب اليوم وخلفك بمعنى : " أمّا" ؛ لأنّ معناهما : مهما يكن من شيء.

والظروف تعمل المعاني فيها. ألا ترى أنك تقول : زيد غلامك اليوم ، وزيد أخو عمرو في السفر ، بمعنى : زيد يملكه اليوم ، ويؤاخيه في السفر ، وتقديمه أيضا جائز على هذا المعنى ، تقول : زيد اليوم غلامك ، وزيد في السفر أخو عمرو ، ولو قلت زيد أخ عمرا تريد : يؤاخي عمرا لم يجز ؛ لأنّ عمرا ونحوه لا يعمل فيه إلا الفعل ، أو ما جرى مجراه من الأسماء.

هذا باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه

في جميع اللّغات

(وزعم يونس أنه قول أبي عمرو ، وذلك قولك : أمّا العبيد فذو عبيد ، وأمّا العبد فذو عبد وأما عبدان فذو عبدين ، وإنما اختير فيه الرفع لأن ما ذكرت في هذا الباب أسماء ، والأسماء لا تجري جري المصادر ، ألا ترى أنك تقول : هو الرّجل علما وعقلا ، أي : يعلم ويعقل ، ولا تقول : هو الرجل خيلا وإبلا).

قال أبو سعيد : قوله : أمّا العبيد فذو عبيد ؛ فرفع العبيد هو الوجه ، لأن العبد ليس بمصدر فيقدّر له فعل من لفظه ينصبه على ما تقدّم في المصادر فوجب رفعه بالابتداء ، وما بعده يكون خبرا له ، والعائد إليه محذوف تقديره : أمّا العبيد فأنت منهم ، أو فيهم ، أو نحو هذا ذو عبيد.

وذكر سيبويه في الباب عن بعض العرب : (أنهم ينصبون هذا فيقولون : أمّا العبيد

٢٧٩

فذو عبيد ، وأمّا العبد فذو عبد ، يجرونه مجرى المصدر سواء ، وهو قليل خبيث ، وذلك أنهم شبهوه بالمصدر ، كما شبّهوا الجمّاء الغفير وخمستهم بالمصدر ، وكأنّ هؤلاء أجازوا : هو الرجل عبيدا ودراهم ، أي : للعبيد والدراهم ، وهذا لا يتكلّم به ، وإنما وجهه وصوابه الرفع ، وهو قول العرب وأبي عمرو ويونس ، ولا أعلم الخليل خالفهما).

وكان المبرّد لا يجيز النصب ولا يرى له وجها ، وكان سيبويه يجيز النصب على ضعفه إلا أن يكون العبيد بغير أعيانهم ليلحق بالمصادر المبهمة ، فلو قال : أمّا العبيد الذين عندك أو الذين في دارك ، أو هؤلاء العبيد ، لم يجز النّصب.

وكان الزجّاج يتأوّل في نصب العبيد تقدير الملك ، والملك مصدر ، كأنه قال : أمّا ملك العبيد ، كما تقول : أمّا ضرب زيد فأنا ضاربه.

قال أبو سعيد : والذي عندي : أن جعل العبيد ، وهو اسم ، مكان التعبيد وهو مصدر ، والعرب قد استعملت العبيد في تصريف الفعل من العبد ، قال رؤبة :

والناس عندي كثمام التّمّي

يرضون بالتّعبيد والتأمّي (١)

فعلى هذا يجعل العبيد مكان التعبيد ، كما جعل الشراب وهو اسم للمشروب في موضع المصدر ؛ فقالوا : شربت شرابا ، بمعنى شربت شربا ، وقالوا : أعطيته عطاء ؛ بمعنى : إعطاء ، والعطاء : اسم للشيء الذي يعطى ؛ فعلى هذا يكون النصب ، ولا يجوز : هو الرجل خيلا وإبلا ، كما جاز هو الرجل علما وعقلا ؛ لأن علما وعقلا في موضع الحال ، أو المفعول له على أحد التقديرات.

وعلى كلا الوجهين لا يجوز : هو الرجل خيلا وإبلا ؛ لأن خيلا وإبلا ليسا بمصدرين فيكونا في موضع الحال كما تكون المصادر أحوالا ، ولا مفعولا له ؛ لأنّ المفعول له أيضا مصدر ، والعامل في الحال أو المفعول له إذا قلت : أنت الرجل علما ، فكأنه قال : أنت العالم علما ، ثم تقيم الرجل مقام العالم ، ولا يجوز : أنت الرجل خيلا ؛ إذ لا يمكن أن يشتقّ من لفظ الخيل اسم فاعل يكون الرجل في موضعه فينصب الخيل.

فإذا قلت : أمّا النّصرة فلا نصرة لك ، وأما الحارث فلا حارث لك ، وأمّا أبوك فلا

__________________

(١) قائله : رؤبة بن العجاج : ديوانه : ١٤٣.

٢٨٠