أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان
المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٠٤
فهذا أحد وجوه جعلت التي ذكرناها ، وهو الذي في معنى التخيل ، والذي هو من طريق التسمية يشبه هذا الوجه ، إلا أنه لم يذكره اكتفاء بهذا.
قال : " والرفع فيه أيضا عربي كثير".
يعني رفع" البعض" ، فتجعل ما بعده خبرا ، وتجعل الجملة في موضع المفعول الثاني ، إن كان يتعدى إلى مفعولين ، وفي موضع الحال إن كان يتعدى إلى مفعول واحد.
قال : (وتقول : " أبكيت قومك بعضهم على بعض" و" حزّنت قومك بعضهم على بعض" ، فأجريت هذا على حد الفاعل ، إذا قلت : بكى قومك بعضهم على بعض ، وحزن قومك بعضهم على بعض ، فالوجه هاهنا النصب ، لأنك إذا قلت : أحزنت قومك بعضهم على بعض ، وأبكيت قومك بعضهم على بعض ، لم ترد أبكيت قومك ، وبعضهم على بعض في عون).
أعني أمارة وولاية ، ولا أبكيتهم وبعض أجسادهم على بعض فإنما هو منقول من" بكى قومك بعضهم على بعض" ، وبعضهم بعضا وحرف الجر في موضع اسم منصوب مفعول ، فإن قلت : " حزّنت قومك بعضهم أفضل من بعض" ، فالوجه الرفع ، ويجوز فيه النصب ، وإنما حسن الرفع هاهنا واختير ؛ لأنه ليس بمنقول ؛ لأن فضل بعضهم على بعض بمعنى لم يصر فيهم بتحزينك إياهم ، ولا هو متعلق بالتحزين ، " وأبكيت قومك بعضهم على بعض" ، أنت فاعل بهم الإبكاء ومصيرهم إلى أن بكى بعضهم على بعض ، فإنما أردت حزّنت قومك وبعضهم أفضل من بعض.
ولو نصبت" بعضهم" وجعلت" أفضل" حالا جاز ، والرفع أجود على مضى من تجويد الرفع على النصب إذا استوى معناهما.
قال : " وإن كان مما يتعدى إلى مفعولين أنفذته إليه ، لأنه كأنه لم تذكر قبله شيئا".
يعني أنك إذا جعلت مكان" حزّنت قومك بعضهم" أفضل من بعض فعلا يتعدى إلى مفعولين عديته إليه كقولك : حسبت قومك بعضهم قائما وبعضهم قاعدا".
وإن كان مما يتعدى إلى مفعول واحد ، نحو حزّنت ، ورأيت من رؤية العين ، فإن شئت قلت : " حزنت قومك" وسكتّ ، وإن شئت قلت : " حزنت قومك منطلقين" فجئت بالحال ، وإن شئت قلت : " حزنت قومك بعضهم أفضل من بعض" فجئت بجملة في
موضع الحال ، وإذا كان الفعل يتعدى إلى مفعولين ، فلا يجوز حذف المفعول الثاني ، ولا حذف الجملة التي في موضع المفعول الثاني ، إذا قلت : " حسبت قومك بعضهم أفضل من بعض".
ومعنى قوله : " كأنه لم تذكر قبله شيئا".
يعني أن المفعولين لا بد منهما في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ، كما لا يستغنى عنهما لو لم يكن فعل ؛ لأن أحدهما خبر عن الآخر.
وقوله : " كأنه قال : رأيت قومك وحزّنت قومك".
يعني أن سقوط الحال في" حزنت قومك ، ورأيت قومك" من رؤية العين لا يخل بالكلام ، ولا يفسده.
واعلم أن ما كان في هذا الباب من المصادر المضافة يجوز فيه بدل الاسم الثاني من لفظ الاسم الأول ، ومن معناه ، فإذا قلت : " عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض" فقد أبدلت" بعضهم" من لفظ" الناس".
ويجوز أن تقول : " بعضهم" فتنصب على المعنى ، كأنك قلت : عجبت من دفعك الناس بعضهم لأن الناس فيه مفعولون ، وإذا قلت : عجبت من دفع الناس بعضهم بعضا ، فبعضهم بدل على اللفظ ، ويجوز" بعضهم بعضا" ، فتحمله على موضع" الناس" ؛ لأنهم في المعنى فاعلون ، فالبدل على لفظ الأول معناه.
هذا باب من الفعل يبدل فيه الآخر
من الأول ويجري على الاسم
كما يجري أجمعون على الاسم ، وينصب أيضا بالفعل لأنه مفعول ، فالبدل أن تقول : " ضرب عبد الله ظهره وبطنه" ، و" ضرب زيد الظهر والبطن".
يعني أنك تبدل" ظهره وبطنه" من" عبد الله" و" زيد" ويجري عليه في إعرابه ؛ لأن الظهر والبطن بعض عبد الله وزيد. قال : " ومطرنا سهلنا وجبلنا" ، و" مطرنا السهل والجبل" وإن شئت كان على الاسم بمنزلة أجمعين".
يريد تبدل السهل والجبل من النون والألف بدل الاشتمال ، وإن شئت جعلته تأكيدا لا بدلا ، فيكون قولك : " ضرب عبد الله ظهره وبطنه" كقولك : ضرب أعضاؤه كلّها ، ويصير الظهر والبطن توكيدا لعبد الله ، كما يصير" أجمعون" توكيدا للقوم إذا قلت : " رأيت
القوم أجمعين" كأنه قال : " ضرب زيد" كلّه" ، وقولك : " مطرنا سهلنا وجبلنا" كقولك : " مطرت بقاعنا كلّها".
قال : " وإن شئت نصبت فقلت : ضرب زيد ظهره وبطنه ، ومطرنا السهل والجبل".
قال أبو سعيد : فتنصب هذا على أن تجعله مفعولا ثانيا ، وإن كان الضرب في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد ، فتقدر حرف الجر في الأصل ، ثم تحذفه ، فيصل الفعل ، كما قال عزوجل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)(١) أي من قومه ، فكأنك قلت : ضرب زيد على ظهره وبطنه ، فحذفت" على".
ولا يطرد هذا في الأشياء كلها ، لا تقول : " ضرب زيد يده ورجله" على ذلك التقدير كما لا يجوز" مررت زيدا" قياسا على قول الشاعر : " أمرتك الخير".
وكما لا يجوز" أخذت زيدا ثوبا" على معنى : من زيد ثوبا ، قياسا على قوله : " واختار موسى قومه".
وقد يجوز أن تنصب البطن والظهر على الظرف ، وحذف حرف الجر منه ، كأنك قلت : ضرب في ظهره وبطنه ، ولا يقال ضرب زيد يده ورجله" على الظرف ، وإنما خالف الظهر والبطن اليد والرجل ؛ لأن الظهر والبطن عامّان في الأشياء ، ألا ترى أن لكل شيء بطنا وظهرا ، أو لأكثر الأشياء فيما جرت به العادة في كلام الناس ، فأشبه الظهر والبطن المبهمات من الظروف لعمومها ، وليس اليد والرجل ، والسهل والجبل بمنزلة الظهر والبطن ؛ لأن المواضع إما أن تكون سهلا أو تكون جبلا ، فجعلت ظروفا لهذا الإبهام ، ومع هذا التشبيه الذي ذكرنا ، فالقياس فيه ألا يكون ظرفا ، ألا ترى أنّك لو قلت : " هذا الشّعر ظهر زيد أو بطن زيد" لم يجز كما تقول : " هذا خلف زيد وأمام زيد" ، وصار في الشذوذ بمنزلة" دخلت البيت" و" ذهبت الشّام".
قال : " ولم يجيزوه في غير السهل والجبل ، والظهر والبطن ، كما لم يجز دخلت عبد الله ، فجاز هذا في ذا وحده ، كما لم يجز حذف حرف الجر إلا في الأماكن".
يعني لم يقولوا : " ضرب زيد اليد والرجل" على الشذوذ كما لم يقولوا دخلت هذا
__________________
(١) سورة الأعراف ، آية : ١٥٥.
الأمر ، من حيث قالوا : " دخلت البيت".
فتركوا القياس في الظهر والبطن ، والسهل والجبل خاصة ، حين حذفوا حرف الجر ، كما تركوا القياس في" دخلت" حين حذفوا" في" من الأماكن ، فإذا استعملوا" دخلت" في غير الأماكن عادوا إلى القياس ، فقالوا : " دخلت في هذه القصة" ، و" دخل زيد في مذهب سوء" ، وكذلك إذا استعملوه في غير البطن والظهر فقالوا : " ضرب زيد على اليد والرجل" عادوا إلى القياس ثم ذكر أشياء من الشذوذ ، وترك القياس ، قد تقدم ذكرنا لها.
قال : " وزعم الخليل أنهم يقولون : مطرنا الزرع والضرع وإن شئت رفعت على وجهين : على البدل وعلى أن تتبعه الاسم".
قال أبو سعيد : " الزرع والضرع" شبيه بالسهل والجبل ؛ لأن أكثر ما يراد به المطر الزرع والمواشي ، فجاز النصب على الوجهين اللذين ذكرنا ، والرفع أيضا على الوجهين ، وكل ذلك مسموع من العرب.
قال : فإن قلت : " ضرب زيد اليد والرجل" فيجوز على بدل البعض من الكل ، ولا يجوز فيه النصب على ما ذكرنا».
قال : «وقد سمعناهم يقولون : مطرتهم ـ يعني السماء ـ ظهرا وبطنا».
فنصبه على الظرف والمفعول الثاني ، وعلى البدل أيضا.
قال : " وتقول : مطر قومك الليل والنهار" فيجوز نصب الليل والنهار على الظرف ، وعلى أنه مفعول على سعة الكلام ، ويجوز رفعه على البدل ، كأنك قلت : مطر الليل والنهار ، كما تقول : صيد عليه الليل والنهار ، فيكون على وجهين : أحدهما : مطر أصحاب الليل وأصحاب النهار ، فتحذف المضاف ، وتقيم المضاف إليه مقامه.
والآخر : أن تجعل الليل والنهار ممطورين على المجاز ، وقد مضى نحو هذا ،
وقال الشاعر في البدل :
وكأنه لهق السّراة كأنه |
|
ما حاجبيه معيّن بسواد (١) |
والشاهد فيه : بدل (الحاجبين) من الهاء التي في" كأنه" و" ما" زائدة ، والبيت الذي يتلوه :
__________________
(١) الخزانة ٢ / ٣٧٢ ، ابن يعيش ٣ / ٦٧ ، اللسان ١٧ / ١٧٧.
ملك الخورنق والسدير ودانه |
|
ما بين حمير أهلها وأوال (١) |
فأبدل" أهلها" من" حمير" وجعل" حمير" مكانا ، و" حمير" في الأصل للقبيلة ، ولكنهم لما سكنوا اليمن جعل" حمير" عبارة عن بلادها ، كأنه قال : ما بين أهل اليمن وأوال ، و" ودانه" في معنى أطاعه.
قال : (فأما قوله :
مشق الهواجر لحمهن مع السّرى |
|
حتى ذهبن كلاكلا وصدورا) (٢) |
نصب" كلاكل" و" صدور" عند سيبويه على الحال ، وجعل كلاكلا وصدورا في معنى ناحلات ، كما قال ذو الرمة :
فلم تبلغ ديار الحي حتى |
|
طرحن سخالهن وإضن آلا (٣) |
فجعل" الآل" بمعنى الناحلات ، وكان المبرد يقول : نصبها على التمييز ، لأن الكلاكل والصدور أسماء ليس فيها معنى الفعل.
قال : ومثل ذلك" ذهب زيد قدما" ، و" ذهب أخرا"
فجعل" قدما" في معنى متقدما ، و" أخرا" في معنى متأخرا ، والقدم والأخر اسمان ، ألا ترى قول الشاعر :
وعين لها حدرة بدرة |
|
شقّت مآقيهما من أخر (٤) |
وقال الشاعر :
طويل متلّ العنق أشرف كاهلا |
|
أشقّ رحيب الجوف معتدل الجرم (٥) |
فجعل كاهلا حالا في معنى عاليا ، والكاهل اسم أصل العنق ولكنه من أعاليه ، فجعله نائبا عن قولك عاليا وصاعدا قال : وكأنه قال" ذهب صعدا" في معنى صاعدا ، ومثله قوله ويقال : إنه للعمانّي الراجز :
إذا أكلت سمكا وفرضا |
|
ذهبت طولا وذهبت عرضا |
__________________
(١) سيبويه ١ / ٨١ ، واللسان (أول) ١٣ / ٤١ ونسبه إلى النابغة الجعدي.
(٢) ديوان جرير ٢٩٠ قصيدة يهجو بها الأخطل.
(٣) الخزانة ٤ / ٥٠ ، ديوان ذي الرمة ٤٣٩.
(٤) البيت لامريء القيس في ديوانه ١٦٦. الخزانة ٣ / ٢٣٨.
(٥) نسبه سيبويه إلى عمرو بن عمار النهدي ١ / ٨١.
فجعل طولا وعرضا في معنى ذاهبا في الطول وذاهبا في العرض ، وأبو العباس يجعل ذلك كلّه على التمييز.
وقوله : " ذهبت طولا وذهبت عرضا" خلاف الأبيات التي تقدمت ؛ لأن الطول والعرض مصدران ، والمصادر تستعمل أحوالا ، والأبيات التي تقدمت فيها أسماء جعلت أحوالا.
قال : " فإنما شبهه بهذا الضرب من المصادر" يعني شبه الاسم الذي جعله حالا بالمصدر.
وليس هو كقول الشاعر ، وهو عامر بن الطفيل :
فلأبغينكم قنا وعوارضا |
|
ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد |
لأن" قنا وعوارضا" مكانان ، وإنما يريد بقنا وعوارض قال أبو سعيد : حذف حرف الجر ، وشبهه بدخلت البيت ، والمعنى فلأطلبنكم بهذين المكانين ، وإنما ذكر هذه الأبيات التي جعل فيها الأسماء أحوالا ، ليريك أنها مخالفة لمطرنا السهل والجبل ، وأنها على معنى الحال.
هذا باب من اسم الفاعل
جرى مجرى الفعل المضارع في المفعول في المعنى فإذا أردت فيه من المعنى مثلما أردت في" يفعل" كان منونا نكرة ، وذلك قولك : هذا ضارب زيدا غدا.
قال أبو سعيد : قد ذكرنا في باب من الاستفهام تعدي اسم الفاعل إلى المفعول ، وجريه على فعله ، وأحكمنا ذلك بما أغنى عن إعادته ، وذكرنا أيضا جواز حذف التنوين منه ، وإضافته تخفيفا ، وقد أنشد سيبويه أبياتا في التنوين والإعمال ، وفي حذف التنوين والجر ، وزعم أن المضاف لا يتعرف في هذا الباب بما يضاف إليه ؛ لأن التنوين هو الأصل ، وهو مقدر في المضاف.
قال سيبويه : (والأصل التنوين ، لأن هذا الموضع لا يقع فيه معرفة).
يعني أن أسماء الفاعلين المضافة إلى المعارف تقع في الموضع الذي لا يقع فيه معرفة نحو قوله :
سلّ الهموم بكلّ معطي رأسه (١)
ومررت برجل ضارب زيد ، فعلم أن الأصل التنوين.
قال : " ولو كان الأصل هاهنا ترك التنوين لما دخله التنوين".
يعني أن الأصل في اسم الفاعل التنوين ، والإضافة دخلت تخفيفا ، ولو كان الأصل الإضافة لما نوّنوا ؛ لأنهم لا يزيدون على التخفيف فيثقلونه ، ويخففون الثقيل ، ولو كان الأصل ترك التنوين والإضافة ، لما كان أيضا نكرة ؛ لأنه مضاف إلى معرفة.
قال : وزعم عيسى أن بعض العرب ينشد :
فألفيته غير مستعتب |
|
ولا ذاكر الله إلا قليلا (٢) |
فحذف التنوين لاجتماع الساكنين ، ولم يحذفه للإضافة ، ولو حذفه للإضافة لقال :
" ولا ذاكر الله إلا قليلا" وهو أجود ؛ لأن تحريك التنوين لالتقاء الساكنين أجود من حذفه ؛ إذ كان حرفا يحتمل التحريك ، والذي يحذفه يشبهه بحروف المد واللين.
قال : وتقول في هذا الباب : " هذا ضارب زيد وعمرو" على العطف والإشراك ، ويجوز" ضارب زيد وعمرا" على معنى ويضرب عمرا ؛ لأن ضاربا قد دل على يضرب ، فحمله على المعنى ، ثم احتج للحمل على المعنى بقول الشاعر :
جئني بمثل بني بدر لقومهم |
|
أو مثل أسرة منظور بن سيّار (٣) |
يريد أو هات مثل أسرة ؛ لأن جئني قد دل عليه.
وقال :
أعنّي بخوّار العنان تخاله |
|
إذا راح يردي بالمدجّج أحردا |
وأبيض مصقول السّطام مهنّدا |
|
وذا حبك من نسج داود مسردا |
فحمل نصب ما في البيت الثاني على المعنى كأنه قال : " أعطني أبيض مصقول السطام".
__________________
(١) نسبه سيبويه للمرار الأسدي وهذا صدر البيت وعجزه : ناج مخالط صهبة متعيس.
(٢) الخزانة ٤ / ٥٥٤ ـ المقتضب ١ / ١٩ ، ٢ / ٣١٣. ديوان أبي الأسود ١٢٣.
(٣) قائله جرير ، سيبويه ١ / ٤٨ ، ٨٦ ـ ديوان جرير ٣١٢ ـ المقتضب ٤ / ١٥٣.
وأراد بقوله : " تخاله أحردا" يعني تخال هذا الفرس أحردا من نشاطه ومرحه وخيلائه ، والأحرد الذي في يديه استرخاء.
قال : " والنصب في الأول أقوى".
يعني النصب في" هذا ضارب زيد وعمرا" أحسن وأقوى من النصب في قوله : " جئني بمثل بني بدر" أو" مثل أسرة" و" أعنّي بخوار العنان" و" أبيض مصقولا" ، وذلك أن" ضارب زيد" أصله" ضارب زيدا" ، و" جئني بمثل بني بدر" أصله الجر بسبب الباء ، فكان النصب فيما أصله النصب أقوى من النصب فيما أصله الجر ، وهو" جئني بمثل بني بدر" وهذا هو معنى قوله : " ولم يدخل الجر على ناصب ولا رافع".
يعني حرف الجر لم يكن ناصبا ولا رافعا كما كان اسم الفاعل قبل أن يضاف قال :
" وهو على ذلك عربي جيد".
وأنشد فيه أبياتا ثم بين أن اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي لا ينّون وينصب ما بعده به ، وقد بينا ذلك ، وأجاز في الفعل الماضي : (هذا ضارب عبد الله وزيدا على معنى وضرب زيدا ثم أنشد بيتا في الحمل على المعنى وهو :
يهدي الخميس نجادا في مطالعها |
|
إمّا المصاع وإمّا ضربة رغب (١) |
فحمل" ضربة رغب" على المعنى ، وذلك أن معنى قوله : إما المصاع ، أي : إما يماصع مصاعا ، أي يضارب ويقاتل.
ولو جعل مكان ذلك إما أمره مصاع لكان مستقيما ، نائبا عن ذلك المعنى ، فحمل" وإما ضربة رغب" على ذلك المعنى ، كأنه قال : وإما أمره ضربة رغب ، وهي الواسعة.
وقال :
فلم يجدا إلا مناخ مطية |
|
جافى بها زور نبيل وكلكل (٢) |
ومفحصها عنها الحصي بجرانها |
|
ومثنى نواج لم يخنهنّ مفصل |
وسمر ظماء وا ترتهنّ بعد ما |
|
مضت هجعة من آخر الليل ذبّل |
الشاهد في الأبيات : رفع" وسمر ظماء" ، وما قبلها منصوب بقوله : " فلم يجدا" كأنه
__________________
(١) سيبويه ١ / ٨٧ ، اللسان (مصع) ١٠ / ٢١٤.
(٢) الأبيات لكعب بن زهير ديوانه ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤.
قال : فلم يجدا في هذا المكان إلا مناخ مطية وإلا مفحص هذه المطية الحصي عنها بجرانها ، وكان ينبغي أن يقول : وإلا سمرا ظماء ذبلا ، وإنما يعني بالسمر الظماء الذبل بعر هذه المطية ، كأنه قال : وبها سمر" ظماء".
وقال آخر :
بادت وغيّر آيهنّ مع البلى |
|
إلا رواكد جمرهن هباء (١) |
ومشجّج أمّا سواء قذال |
|
فبدا وغيّر ساره المعزاء |
والشاهد في رفع" مشجّج" كالبيت الأول ، والمشجج الوتد يدقه في الأرض ، وقد بدا وسط رأسه وظهر ، " وغيّر ساره" يعني باقيه ، لمعزاء وهي الأرض ذات الحصى وقيل" سار" في معنى سائر ، كما يقال" هار" في معنى هائر : و" رواكد" يريد بها الأثافي ، واستثناها من آي الدار ، لأنها لم تبل ولم تغيّر فيما قد تغيّر.
قال : (والنصب في الفصل أقوى إذا قلت : " هذا ضارب زيد فيها وعمرا" ، وكلما طال الكلام كان أقوى).
يعني أن قولك : " هذا ضارب زيد فيها وعمرا" أجود من قولك : " هذا ضارب زيد وعمرا فيها" ، وإن كان الجر فيهما أجود من النصب ، وذلك أنك إذا قلت : " هذا ضارب زيد وعمرو" فالعامل في" عمرو" الجر هو العامل في" زيد" ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فحكمه أن يكون إلى جنبه ويتصل به ، فلما فصلت بينهما بغيرهما بعد من الجار ، فقوي النصب فيه بعض القوة.
وإذا قلت : " هذا ضارب زيد فيها وعمرو" ، فهو أحسن وأجود من قولك" هذا ضارب فيها زيد" ؛ لأن الأول في المسألة الأولى قد حصل فيه المجرور الذي صار معاقبا للتنوين قبل أن يأتي الفصل بينهما بفيها ، ولم يحصل في المسألة الثانية ، ولا تجوز المسألة الثانية إلّا في الشعر كقوله :
كما خطّ الكتاب بكفّ يوما |
|
يهوديّ يقارب أو يزيل (٢) |
__________________
(١) البيتين للشماخ وقيل لذي الرمة انظر سيبويه ١ / ٨٨ ، ملحق ديوان الشماخ ٢٤٧ ، أساس البلاغة ٢ / ٣٩٣.
(٢) نسبه سيبويه إلى أبي دحية النميري ١ / ٩١ ، الخصائص ٢ / ٤٠٥ المقتضب ٤ / ٣٧٧ ، العيني ٣ / ٤٧٠ ـ ابن الشجري ٢ / ٢٥٠.
قال : ومن ذلك قوله تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً)(١).
يعني أنه فصل بين الليل وبين الشمس بسكنا فقوي النصب ، وإن كان" جاعل الليل والشمس والقمر" لكان الجر أقوى ، ويجوز أن يكون" جاعل" في معنى فعل ماض ، ويجوز أن يكون في معنى فعل مستقبل.
فإذا جعلته في معنى الفعل الماضي فتقديره" جعل" الليل ، ومعناه قدر الليل لهذا ، ونظيره : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ)(٢) وهو أظهر الوجهين ، وتنصب الشمس والقمر بإضمار فعل.
ومن جعله بمنزلة المستقبل فهو على تقدير" يجعل" ، وذلك لأنه فعل لم ينقطع ؛ لأن الليالي متصلة ، منها ما قد كان ، ومنها ما يكون ، فهو بمنزلة قولك" زيد يأكل" إذا كان في حال أكل قد تقضّى بعضه وبقي بعضه ، وكذلك" زيد يصلّي" إذا كان في صلاة تقضّى بعضها وبقي بعضها.
قال : وكذلك إن جئت باسم الفاعل الذي تعداه فعله إلى مفعولين ، وذلك قولك : " هذا معطي زيد درهما وعمرو" إذا لم تجره على الدرهم ، والنصب على ما نصب عليه ما قبله.
يعني أنك تجر" عمرا" إذا أجريته على زيد ، ولم تجره على الدرهم ، بأن تنصبه على إضمار فعل ، وذلك أن قولنا" هذا معطي زيد درهما" تنصب الدرهم فيه على إضمار فعل ؛ لأن" معطي" في معنى الفعل الماضي ، فكأنك قلت : أعطاه درهما ، فإذا نصبت عمرا فقد أجريته على الدرهم في إضمار فعل ينصب ، وقد ذكرنا أنه يجوز أن يكون اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي ينصب المفعول الثاني إذا أضيف إلى الاسم الذي يليه ؛ بالشبه الذي بين الفعل الماضي وبين الاسم الذي أوجب له البناء على الفتح ، وقولك : " هذا معطي زيد درهما وعمرا" أقوى في النصب من قولك : " هذا معطي زيد وعمرا" ؛ لفصل الدرهم بينهما.
__________________
(١) سورة الأنعام ، آية : ٩٦.
(٢) سورة يونس ، آية : ٦٧.
قال : " فإذا لم ترد بالاسم الذي تعدى فعله إلى مفعولين أن يكون الفعل قد وقع ، أجريته مجرى الفاعل الذي تعدى فعله إلى مفعول في التنوين".
يعني أنك إذا قلت : " هذا معطي زيد درهما" وأردت الحال أو الاستقبال ، لم تلزم الإضافة ، وجاز التنوين والإضافة كما جاز في قولك : " هذا ضارب زيد" و" ضارب زيدا" إذا أردت الاستقبال أو الحال ، ولا تبالي أيّهما قدمت كما لم تبال أيهما قدمت في الفعل ، فقلت : " هذا معط زيدا درهما" و" معط درهما زيدا ، " كما تقول : " يعطي درهما زيدا" ، فإن لم تنون وأضفته إلى أحدهما ، لم يجز أن تفصل بينه وبين ما أضفته إليه ، ولا يجوز" هذا معطي درهما زيد ، ولا" هذا معطي زيدا درهم" ، لأنك لا تفصل بين الجار والمجرور ؛ لأن المجرور داخل في الاسم فإذا نوّنت انفصل كانفصاله في الفعل.
ولا يجوز أيضا هذا في الشعر عند سيبويه إلا في الظروف وإنما خصّ الظروف ؛ لأنه قد يفصل بها بين شيئين لا يجوز الفصل بينهما بغيرها ، كإنّ واسمها.
وقد أجازه قوم في الشعر ، وأنشدوا :
وزججتها بمزجّة |
|
زجّ القلوص أبي مزاده (١) |
أراد زجّ أبي مزادة القلوص ، وهذا غير معروف ولا مشهور ، وهذا بيت يروى لبعض المدنيين المولدين ، ولا يعرف مثله من حيث يصح.
هذا باب ما جرى مجرى الفعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين
في اللفظ لا في المعنى
وذلك قولك : يا سارق الليلة أهل الدار.
قال أبو سعيد : أما قوله : هذا باب ما جرى مجرى الفعل الذي يتعدى فعله ، وليس للفعل فعل ، وإنما أراد مجرى الفعل الذي يتعدى في تصاريفه ، يعني في ماضيه واستقباله واسم الفاعل منه.
وقوله : " في اللفظ لا في المعنى" يعني أنك إذا قلت : يا سارق الليلة أهل الدار ، فهو بمنزلة قولك : " يا معطي زيد الدرهم" أضفته إلى أحد المفعولين ونصبت الآخر ؛ فلذلك
__________________
(١) هذا البيت من زيادات أبي الحسن الأخفش سعيد بن مسعده في حواشي كتاب سيبويه ابن يعيش ٣ / ١٩ ، الخزانة ٢ / ٢٥١ ، الخصائص ٤٠٦.
أضفت" سارق" وهو اسم فاعل إلى" الليلة" كما تضيف اسم الفاعل إلى أحد المفعولين وتنصب الآخر ، فهذا شبهه به في اللفظ.
وأما خلافه له في المعنى فلأن الليلة كانت ظرفا في الأصل ، وأهل الدار قد كان يتعدّى السّرق إليهم بحرف الجر ، وهو" من" ، فكان الأصل" سرقت في الليلة من أهل الدار" فحذفت" في" وجعلت الليلة مفعولة على السّعة وحذفت" من" فوصل الفعل إلى أهل الدار ، كما قال تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)(١) أي من قومه ، فقلت بعد الحذف : " سرقت الليلة أهل الدار".
ثم أجريت اسم الفاعل على ذلك.
قال : (فتجرى الليلة على الفعل في سعة الكلام ، كما قالوا : صيد عليه يومان ، وولد له ستّون عاما).
يعني جرت الليلة مفعولة على السّعة ، وإن كان أصلها الظرف ، كما أقيم اليومان والستون عاما مقام الفاعل في" صيد عليه" وولد له ، وإن كان اليومان لم يصادا وإنما صيدا فيهما ، والستون لم تولد ، وإنما ولد للرجل أولاد فيها.
قال : (فإن نونت فقلت : " يا سارقا الليلة أهل الدار" كان حد الكلام أن يكون أهل الدار على سارق منصوبا وتكون الليلة ظرفا ؛ لأن هذا موضع انفصال).
يعني أنك إن لم تضف" سارق" إلى" الليلة" نونته وهو منادى فهو معرفة ، وإنما يجب تنوينه وهو مفرد معرفة ، لأنك قد أعملته فيما بعده. فلم يتم آخره فيبنى ، فصار بمنزلة المضاف والنكرة ، وإن كان القصد إلى واحد بعينه ، ومثله : " يا خيرا من زيد أقبل" تنصبه ، وإن كنت تقصده بعينه ، ولا تبنيه لأن" من زيد" تمام لخبر ، وتنصب الليلة بها على الظرف ، وأهل الدار نصب لوقوع السّرق عليهم ، وإن شئت نصبت الليلة ؛ لأنها مفعول بها على سعة الكلام.
قال : ولا يجوز" يا سارق الليلة أهل الدار" إلا في شعر كراهية أن يفصلوا بين الجار والمجرور.
قال أبو سعيد : وإنما كرهوا ذلك لأن المجرور من تمام الجار ، لأنه يقوم مقام التنوين
__________________
(١) سورة الأعراف ، آية : ١٥٥.
ويعاقبه ، ولا يفصل بين الاسم وتنوينه ؛ فكرهوا الفصل بين الجار والمجرور لذلك.
قال : " فإذا كان منوّنا فهو بمنزلة الفعل الناصب تكون الأسماء فيه منفصلة".
يعني إذا نونت فقد بطلت الإضافة وصار بمنزلة الفعل. إذ كان لا إضافة في الفعل ، وعمل عمله.
قال الشماخ :
ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل |
|
طباخ ساعات الكرى زاد الكسل |
فهذا وجه الإنشاد بنصب الزاد ، وإضافة طباخ إلى ساعات ، و" المشمعل" المنكمش السريع ، وقد روي : " طباخ ساعات الكرى زاد الكسل" ، وبإضافة طباخ إلى زاد وتكون" ساعات" في موضع نصب.
وللقائل أن يقول : إذا كان سيبويه قد منع الفصل بين الجار والمجرور إلا في شعر ، وما يجوز في الشعر لا يجوز في الكلام ، إنما يكون للضرورة ، ولا ضرورة في هذا ؛ إذ كان يمكنه أن ينصب" الزاد" ويضيف" طباخ". قيل له : يجوز أن يكون الشاعر لم يجعل" ساعات" مفعولا على السعة ، فيمكنه إضافة" طباخ" إليها ، وليس عليه أن يخرجها عن الظرف إلى المفعول على السعة ، فإذا جعلها ظرفا لم يجز إضافة" الطباخ" إليها ، فيضيفه إلى" الزاد" لا محالة اضطرارا.
وقال الأخطل :
وكرّار خلف المحجرين جواده |
|
إذا لم يحام دون أنثى حليلها (١) |
فهذا هو الوجه ، وقد أنشد بعضهم :
" وكرار خلف المحجرين جواده"
فهذا على مثل التفسير الذي مضى في البيت الذي قبله إذا قال : " طباخ ساعات الكرى زاد الكسل" وهو في" كرار خلف" أحسن ؛ لأن" خلف أقل تمكنا ؛ وأضعف من ساعات.
قال : " ومما جاء في الشعر ففصل بينه وبين المجرور قول عمرو بن قميئة :
لما رأت ساتيد ما استعبرت |
|
لله درّ اليوم من لامها (٢) |
فأضاف" درّ" إلى" من" ، و" من" في موضع جر ، ونصب" اليوم" على الظرف ، ولا
__________________
(١) ديوان الأخطل ٢٤٥. خزانة الأدب ٣ / ٤٧٤.
(٢) ديوان عمرو بن قميئة ٦٢ ، الخزانة ٢ / ٢٤٧ ، المقتضب ٤ / ٣٧٧.
يجوز في هذا البيت ما جاز فيما قبله من الإضافة إلى الظرف ونصب ما بعده ، فلا يجوز" لله درّ اليوم من لامها" ، كما جاز" وكرار خلف المحجرين جواده" وذلك أن" كرار" يجري على الفعل وتنصب ، فإذا أضفناه إلى الظرف نصبنا الذي بعده به ، وصارت الإضافة بمنزلة التنوين فيه ، ولا يجوز التنوين في" درّ" لأنك لا تقول : " لله درّ زيدا" ، كما تقول : " وكرار جواده" ، فوجب إضافة" درّ" إلى" من" اضطرارا ، وإذا وجبت إضافته إليه ، وجب نصب" اليوم" ، وقال أبو حيّة النّميري :
كما خطّ الكتاب بكفّ يوما |
|
يهوديّ يقارب أو يزيل |
وهذا كالبيت الذي قبله ، ولا يجوز" بكف يوم يهوديّا" ، والجر في هذا البيت والذي قبله اضطرارا ؛ لأنه لا يجوز فيه غير الفصل بين المضاف والمضاف إليه.
قال : " ومما جاء مفصولا بينه وبين المجرور قول الأعشى :
ولا نقاتل بالعص |
|
يّ ولا نرامى بالحجاره |
إلا علالة أو بدا |
|
هة قارح نهد الجزاره (١) |
فأضفت" علالة" إلى" قارح" وأسقطت التنوين من أجل الإضافة ، وفصلت بينها وبين" قارح"" بالبداهة" ، فهذا قول" سيبويه" ، وهو أجود من الذي مضى ، من الفصل بين المضاف والمضاف إليه ، وذلك أن هذين شيئان أضيفا إلى شيء واحد ، وأقحم أحدهما على الآخر ، وهما في معنى واحد ، يتناولان المضاف إليه تناولا واحدا ، ومثله يجوز في الكلام كقولك : " مررت بخير وأفضل من ثمّ".
وكان بعض أصحابنا يتأول في هذا غير هذا التأول ، فيقول : أسقط المضاف إليه من الأول اكتفاء بالثاني ، فكأنه قال : إلا علالة قارح أو بداهة قارح ، فحذف الأول اكتفاء بالثاني.
والذي قاله سيبويه أليق ، لأن الأشبه أن تحذف الثاني اكتفاء بالأول ، لأن الأول إذا ورد فحكمه أن يوفّى حقّه من اللفظ.
ثم أنشد أبياتا على منهاج الأول منها قول ذي الرّمّة :
كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا |
|
أواخر الميس أصوات الفراريج (٢) |
__________________
(١) ديوان الأعشى : ١٥٩ ، الخزانة ١ / ٨٣ ، الخصائص ٢ / ٤٠٧.
(٢) ديوان ذي الرمة ٧٦ ، الخزانة ٢ / ١١٩ ، الخصائص ٢ / ٤٠٤.
أراد : كأنّ أصوات أواخر الميس ، ومنها قول درنا بنت عبعبة ، من بني قيس بن ثعلبة :
هما أخوا في الحرب من لا أخا له |
|
إذا خاف يوما نبوة فدعاهما (١) |
فأضاف" أخوا" إلى" من" ، وفرق بينهما بفي.
ومما يشبه قول الأعشى : " إلا علالة أو بداهة قارح" قول الفرزدق :
يا من رأى عارضا أكففه |
|
بين ذراعي وجبهة الأسد (٢) |
فأضاف" ذراعي" إلى" الأسد" وأقحم" الجبهة" ، وفيه التفسير الثاني الذي ذكرناه ، كأنه قال : بين ذراعي الأسد وجبهته ، ويروى :
يا من رأى عارضا أرقت له
قال : " أما قوله عزوجل : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(٣) فإنما جاز لأنه ليس ل" ما" معنى سوى ما كان قبل أن تجيء إلا التوكيد ، فمن ثمّ جاز ذلك إذ لم ترد بها أكثر من هذا ، وكانا حرفين ، أحدهما في الآخر عامل ، ولو كان اسما أو ظرفا أو فعلا لم يجز".
يعني أنه إنما جاز الفصل بين الباء وبين" نقضهم"" بما" لأن" ما" لا تغيّر الكلام ، ولا تزيد فيه معنى لم يكن من قبل دخولها إلا التوكيد ، فلما كانت كذلك كان دخولها كخروجها ، ولو كان الفصل بين الجار والمجرور باسم أو ظرف أو فعل ، لم يجز على الشرائط التي تقدمت ، وقد اختلف النحويون فيما إذا كانت زائدة ، فبعضهم يجعلها اسما ، وبعضهم يجعلها حرفا ، وكلا القولين محتمل ، لأنا قد رأينا الأسماء والحروف قد تجيء مزيدة ، فأما الاسم فقولك : " كان زيد هو العاقل" ، وأما الحرف فقولك : " لمّا أن قام زيد" لأن المعنى فيهما كان زيد العاقل ، ولما قام زيد.
وقوله : " كانا حرفين أحدهما في الآخر عامل".
يعني بالحرفين الباء و" نقضهم" ولم يدخل بينهما شيء يعتد به.
قال : وأما قوله : " أدخل فوه الحجر" فهذا جرى على سعة الكلام والجيد أدخل
__________________
(١) الخصائص ١ / ٩٢ ، ٢ / ٤٠٥. العيني ٣ / ٤٧٢ ، ابن يعيش ٣ / ٢١.
(٢) الخزانة ١ / ٣٦٩ ـ الخصائص ٢ / ٤٠٦ ـ ديوان الفرزدق : ٢١٥.
(٣) سورة النساء ، آية : ١٥٥ ، المائدة ، آية : ١٣.
فاه الحجر كما قال : أدخلت في رأسي القلنسوة".
يعني أنه كان الوجه وحقيقة الكلام أن يقال : " أدخل فاه الحجر" ، وذلك أن الحجر والفم مفعولان ، أحدهما فاعل بالآخر ، والحجر هو الفاعل ، لأنه الداخل الفم ، فإذا رددناه إلى ما لم يسمّ فاعله أقيم الذي كان فاعلا في المعنى مقام الفاعل ، وهو الحجر ، كما قال : " أعطي زيد درهما" ، فإذا قلت : " أدخل فوه الحجر" فقد أقمت الفم مقام الفاعل ، وهو مفعول في المعنى.
قال : " فجرى هذا على سعة الكلام" ، إذ كان لا يشكل كما قيل : أدخلت في رأسي القلنسوة. والرأس هو الداخل فيها لأنها محيطة به.
قال : " وليس مثل اليوم والليلة ؛ لأنهما ظرفان ، فهو مخالف له في هذا ، موافق له في السعة".
يعني أن اليوم والليلة لا يقامان مقام الفاعل ؛ إذ كان معهما مفعول صحيح كما تقام القلنسوة والفم ، ولا يقال : " ضرب زيدا اليوم" ، ولا" سيرت الليلة زيدا" كما يقال : " أدخلت القلنسوة رأس زيد" فهذا باب اختلافهما.
وأما اتفاقهما في سعة الكلام ، فلأن الظرف قد يقام مقام الفاعل ، وقد يضاف اسم الفاعل إليه ، ويؤتى بالمفعول من بعده كقوله :
طباخ ساعات الكرى زاد الكسل (١)
فجعل" الساعات" مفعولة على السعة ، فصارت هي والزاد مفعولين ، ثم قدمها على الزاد ، وجعلها كالمفعول الأول كما قدم القلنسوة على الرأس فجعلها كالمفعول الأول.
قال الشاعر : ـ
ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه |
|
وسائره باد إلى الشمس أجمع (٢) |
وكان الوجه أن يقول : مدخل رأسه الظّلّ ؛ وذلك لأن الرأس هو المفعول الأول.
قال : " فوجه الكلام فيه هذا ؛ كراهية الانفصال".
__________________
(١) سبق تخريجه.
(٢) من الخمسين التي لم يعرف قائلها آمالي المرتضى ١ / ٢١٦ ـ سيبويه ١ / ٩٢ بولاق ، ١ / ١٨١ هارون.
يعني وجه الكلام في هذا البيت إضافة" مدخل" إلى الظل ؛ لأنك لو لم تفعل هذا فأضفته إلى الرأس لكنت قد فصلت بينهما بالظل ، فكأن إضافته إلى الظل على السعة أحسن من الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظل.
قال : " وإذا لم يكن في الجرّ فحدّ الكلام أن يكون الناصب مبدوءا به".
يعني إذا لم تضف فالوجه أن يكون المفعول الأول هو المبدوء به ؛ لأن المفعول الأول هو الفاعل في المعنى ، وهو الناصب للمفعول الثاني قبل أن يجعل مفعولا.
وهذا الكلام من سيبويه يوهم أنا إذا قلنا : " ضرب زيد عمرا" ، أن للفاعل تأثيرا في نصب المفعول ، وإنما سماه ناصبا يريد الفاعل في المعنى ، لأنهما حيث اجتمعا في الفعل قبل النقل ، وجعله فاعلا للفعل أوجب نصب الآخر ، كما قال الله تعالى : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ)(١) ولم يكن الشيطان المخرج وإنما كان سببا لإخراج الله إياهما.
[ويجوز أن يكون معنى قول سيبويه : " يكون الناصب مبدوءا به" يريد المنصوب ، ويكون لفظ الفاعل في موضع مفعول ، كما قيل (عِيشَةٍ راضِيَةٍ)(٢) في معنى" مرضيّة" أي ذات رضا].
(هذا باب صار فيه الفاعل بمنزلة الذي فعل في المعنى وما يعمل فيه).
وذلك قولك : " هذا الضارب زيدا" ، فصار في معنى هذا الذي ضرب زيدا ، وعمل عمله ؛ لأن الألف واللام منعتا الإضافة ، وصارتا بمنزلة التنوين ، وكذلك" هذا الضارب الرجل".
قال أبو سعيد : يعني أن الألف واللام قد صارتا بمنزلة الذي ، وصار اسم الفاعل المتصل به بمعنى الفعل.
فإن قال قائل : فأنتم قد منعتم أن يعمل اسم الفاعل إذا كان في معنى فعل ماض فكيف أجزتم نصب زيد في : " هذا الضارب زيدا" وهو في معنى فعل ماض؟
قيل له : إنما جاز هذا لأنا لما جعلنا الألف واللام بمعنى الذي ، ونوينا به نية" الذي" ، ووصلناها بما توصل به الذي وإن كانت الذي اسما ، والألف واللام حرفا ، جعلنا
__________________
(١) سورة البقرة ، آية : ٣٦.
(٢) سورة الحاقة ، آية : ٢١.
اسم الفاعل المتصل بالألف واللام في مذهب الفعل ، وإن كان اسما.
ووجه ثان وهو أن الألف واللام لمّا لم يجز أن يليها لفظ الفعل ، اضطرنا ذلك إلى نقل اللفظ عن الفعل إلى الاسم ؛ ليتصل بالألف واللام ، فكأنّ الذي نقل لفظ الفعل إلى الاسم حكم أوجبته تسوية اللفظ فقط ، فبقي المعنى على حاله.
ووجه ثالث : وهو أن اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي كان حكمه أن يضاف إلى المفعول به ، كقولك : " هذا ضارب زيد" ، فلما دخلت الألف واللام فمنعت الإضافة واحتيج إلى ذكر المفعول للفائدة نصب.
وحكي عن الأخفش أنه قال : " هذا الضارب زيدا" إذا كان في معنى الفعل الماضي ، إنما ينصب كما ينصب" الحسن الوجه" وليس على نصب المفعول الصحيح ، والقول ما ذكرناه عن سيبويه للحجة التي ذكرناها.
فإن قال قائل : لم جعل سيبويه" الضارب" مفسرا بالذي ضرب ولم يفسّره بالذي يضرب؟
قيل له : من قبل أن اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي لا ينصب الاسم الذي بعده مع غير الألف واللام ، والذي في معنى المستقبل ينصب ، فإذا ذكر نصب اسم الفاعل مع الألف واللام ، في معنى الفعل الماضي ، لم يقع شك في أن المستقبل يعمل ذلك العمل ؛ لأن المستقبل أقوى عملا من الماضي ؛ ولو فسره بالمستقبل جاز أن يقول قائل : إن الماضي لا يعمل ذلك العمل. قال : " وقد قال قوم من العرب ترضى عربيّتهم : " هذا الضارب الرجل" شبّهوه بالحسن الوجه ، وإن كان ليس مثله في المعنى ولا في أحواله".
قال أبو سعيد : قد بينا أن اسم الفاعل يجوز أن يضاف إلى المفعول ، فيما ليس فيه الألف واللام ، ويجوز أن ينصب به ما بعده ، كقولنا" هذا ضارب زيد" و" ضارب زيدا" ، فإذا أدخلنا الألف واللام وجب النصب عند" سيبويه" ، ولم يجز عنده الإضافة ، وذلك أن الإضافة هي" معاقبة" للتنوين في قولك" هذا ضارب زيدا" ؛ لأنه سقط بالإضافة التنوين الذي كان في قولك" ضارب زيدا" فإذا قلت : " هذا الضارب زيدا" لم يجز إضافة الضارب إلى زيد ؛ لأنا لا نقدر على حذف شيء بالإضافة ، فتكون الإضافة معاقبة له ، فلم يجز" هذا الضارب زيد" لذلك.
فإذا قلت : " هذا الضارب الرجل" وما كان فيه الألف واللام من المفعولات جاز
جره ، وإن كان القياس النصب لما ذكرنا ، وإنما جاز الجر تشبيها بالحسن الوجه إذا كان في الوجه الألف واللام ، وإن لم يكن فيه ألف ولام لم يجز ، لأنك لا تقول : " مررت بالحسن وجه" ، كما تقول : " مررت بالحسن الوجه" بالألف واللام وهذا يحكم في بابه.
وقد أجاز سيبويه" هذا الضارب الرجل وزيد" و" هذا الضارب الرجل زيد" على عطف البيان ، وإنما جاز في الاسم الثاني الجر ، وإن لم يكن فيه ألف ولام ؛ لأنه تابع للاسم الذي قبله ، ولم يل اسم الفاعل ، وقد يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع ، ألا ترى أنك تقول : " يأيها الرجل ذو الجمّة" فتجعل" ذو الجمّة" نعتا للرجل ولا يجوز أن يقع موقعه ، وتقول : " يا زيد والرجل" ، ولا يجوز أن يقع موقع الأول ؛ لأنك لا تقول : يأيها ذو الجمّة ، " يا الرجل" وأنشد في ذلك قول المرّار الأسديّ : (١)
أنا ابن التارك البكريّ بشر |
|
عليه الطير ترقبه وقوعا (٢) |
فجعل" بشرا" عطف بيان من" البكري" ، وأجراه عليه ولا يصح أن يكون بدلا ، لأن البدل يقع موقع المبدل منه وكان أبو العباس المبرد لا يجيز الجر في الاسم الثاني عطفا كان أو بدلا ، أو عطف بيان.
وينشد البيت نصبا :
أنا ابن التارك البكريّ بشرا
والقول ما ذكرناه عن سيبويه ؛ للقياس الذي بيناه ولإنشاد العرب والنحويين البيت بالجر ، والفراء يجيز" هذا الضارب زيد"" وهذا الضارب رجل" ، ويزعم أن تأويله : هذا الذي هو ضارب زيد ، وضارب رجل ، فيلزمه" هذا الحسن وجه" ، على تقدير هذا الذي هو حسن وجه ، و" هذا الغلام زيد" على تقدير هذا الذي هو غلام زيد ، لأنه قدّر دخول الألف واللام على الاسم ، ولم ينقل الفعل عن لفظه لدخولها وصيّر ما بعد الألف واللام معها على حكاية لفظ" الذي" وهذا قول فاسد ، وأنشد سيبويه في العطف قول الأعشى :
__________________
(١) هو المراد بن سعيد الأسدي أو الفقعسي فينسب تارة إلى أسد بن خزيمة وهو جده الأعلى وتارة إلى فقعس الخزانة ٢ / ١٩٣.
(٢) الخزانة ٢ / ١٩٣ ـ العيني ٤ / ١٢١ ـ ابن يعيش ٣ / ٧٢.
الواهب المائة الهجان وعبدها |
|
عودا تزجّى خلفها أطفالها (١) |
فعطف" عبدها" على المائة الهجان ، وقال بعض المخالفين له : ليس له في هذا البيت حجة ، وإن كان" عبدها" مجرورا ؛ وذلك أنه لا خلاف أن المضاف إلى الألف واللام في هذا الباب بمنزلة ما فيه الألف واللام ، وأن قولنا : " هذا الضارب غلام الرجل" بمنزلة قولنا : " هذا الضارب الرجل" ، كما أن قولنا : " هذا الحسن وجه الأخ" بمنزلة قولنا" هذا الحسن الوجه" فلما قال : " الواهب المائة الهجان" جاز ذلك بإجماع ؛ لأن المائة فيها الألف واللام ، والهاء في" عبدها" تعود إلى المائة فصار العبد كمضاف إلى ما فيه الألف واللام ، فكأنه قال : الواهب المائة وعبد المائة ، وهذا جائز بلا خلاف ، وإنما احتج سيبويه بهذا بعد أن صح عنده بالقياس الذي ذكرناه ، جواز الجر في الاسم المعطوف ، وأنشد البيت ليرى من المثال في الاسم المعطوف ، لأنه لا حجة له في غيره.
قال سيبويه : وإذا ثنّيت أو جمعت فأثبتّ النون قلت : هذان الضاربان زيدا ، وهؤلاء الضاربون الرجل ، لا يكون فيه غير هذا ؛ لأن النون ثابتة ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ)(٢).
فهذا بيّن وقال ابن مقبل : (٣)
يا عين بكّي حنيفا رأس حيّهم |
|
الكاسرين القنا في عورة الدّبر (٤) |
" فالقنا" في موضع نصب ، و" حنيف" قبيلة ، والعورة الموضع الذي يبقى فيه العدو ، ولا يكون بينهم حاجز ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ)(٥) أي ممكنة للعدو وليس بينها وبينه حائل ، و" عورة الدبر" ما تبقى من خلف فهؤلاء يقاتلون إذا أدبر غيرهم وولى.
قال : " فإذا كففت النون جررت ، وصار الاسم داخلا في الجار ، وبدلا من النون ، لأن النون لا تعاقب الألف واللام ، ولم تدخل على الاسم بعد أن ثبتت فيه الألف
__________________
(١) الخزانة ٢ / ١٨١ ـ ديوان الأعشى ٢٩ ـ الهمع ٢ / ٤٨.
(٢) سورة النساء ، آية : ١٦٢.
(٣) هو تميم بن أبيّ بن مقبل من بني عجلان شاعر جاهلي أدرك الإسلام وأسلم عاش أكثر من مائة سنة خزانة الأدب ١ / ١١٣ الأعلام ٢ / ٧٠.
(٤) ديوان ابن مقبل ٨٢.
(٥) سورة الأحزاب ، آية : ١٣.