شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وكأن يونس قدّر أنه لو أضيف إلى اسم ظاهر لكان يقال : لبّى زيد كما تقول لدى زيد ، وما حكاه سيبويه عن العرب أولى.

قال : وبعض العرب يقول : لبّ لبّ ، وفي نسخة أبي بكر مبرمان تقول : لبّ مرّة واحدة فيجره يعني فيكسره ، يجريه مجرى أمس وغاق يعني أنّه تثنية ، ويجعله صوتا معرفة مثل غاق وما أشبه ذلك ؛ كأنّه يحكي أصوات الملبّين.

وقد ذكرت أنّ سيبويه فصل بين الناصب لهذه الأشياء التي ذكرها مما لا يتمكّن ولا يستعمل فيها الفعل وليست بمصادر معروفة وبين سقيا ورعيا وما جرى مجراه ومثلت ذلك.

ومما يجري مجراه قوله : أفّة وتفّة ، إذا سئلت عنهما مثّلتهما بقولك أنتنا لقرب معناها منه وليس من (أفّة وتفّة) فعل ، وإنما تردّه إلى انتنا لأنه مصدر معروف.

وكذلك تمثيلك بهرا بنتنا ، ودفرا بنتنا ، لأنّه لا يستعمل من" دفرا" فعل ، فجئت بمصدر فعل مستعمل وهو قولك : نتن نتنا ، هذا قول سيبويه في بهرا ولم يزد على أن مثّله ب" نتنا".

ويقال في الكلام : بهرني الشيء إذا غلبني ، كما تقول : بهر القمر الكواكب أي : غطّاها وأذهب ضوءها ، وأنشدوا :

حتّى بهرت فما تخفى على أحد

إلا على أحد لا يعرف القمر (١)

يقال : بهرا في معنى عجبا ، وفسّر بيت عمر بن أبي ربيعة على ذلك ، وهو :

ثم قالوا تحبّها قلت بهرا

عدد القطر والحصى والتّراب (٢)

ويقال : بهر فلان فلانا إذا دعا عليه بسوء ، ولم أر أحدا فسّر ذلك المدعوّ به إلا سيبويه في قوله : نتنا ، وقال ابن ميّادة :

تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي

بجارية بهرا لها بعدها بهرا (٣)

فإن قال قائل : ذكرتم أنّ : سبحان ، وأفّة ، وتفّة ، ولبّيك ، ليس لها أفعال مستعملة

__________________

(١) البيت لذي الرمة : ديوانه : ٣٢.

(٢) البيت لعمر بن أبي ربيعة : ديوانه : ٢٠ ، ٦٠ ، الخصائص ٢ : ٢٨٣ ، شرح المفصل ١ : ١٢١ ؛ مغني اللبيب ١ : ٧٧.

(٣) ينسب إلى : ابن ميادة : الأغاني ٢ : ٢٧ ؛ الإنصاف ١ : ٢٤١ ؛ تهذيب إصلاح المنطق : ٣٢٧.

٢٤١

تنصبها ، والعرب تقول : سبّح ، ولبّى ، وأفّف.

قيل له : أمّا قولهم : سبّح ، ولبّى ، وأفّف ، معناه : قال : سبحان الله ، ولبّيك ، وأفّة فبنيت هذه الأفعال من هذه الألفاظ بعد استعمالها ، كما يقال : دعدع الرجل بغنمه إذا قال لها : داع داع ، وهو تصويت بها كما قال :

فانعق ودعدعا بالبهائم (١)

كقوله : بأبأ الرجل بفلان ، إذا قال له : بأبي أنت ، قال الراجز :

وأن تبأبآن وأن تفدّين (٢)

وقولهم : هلّل الرجل إذا قال : لا إله إلا الله ، وحوقل إذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وبسمل إذا قال : بسم الله ، وقد علمنا أنّ لا إله إلا الله ليس بفعل ولا بمصدر لفعل ، وإن كنا نأخذ منه فعلا ، وكذلك سائر ما ذكرناه فاعرفه إن شاء الله.

هذا باب ما ينتصب فيه المصدر المشبّه به على إضمار

الفعل المتروك إظهاره

(وذلك قولك : مررت به فإذا له صوت صوت حمار ، ومررت به فإذا له صراخ صراخ الثكلى ، قال النابغة الذبيانّي :

مقذوفة بدخيس النّحض بازلها

له صريف صريف القعو بالمسد (٣)

وقال آخر :

لها بعد إسناد الكليم وهدئه

ورنّة من يبكي إذا كان باكيا

هدير هدير الثور ينفض رأسه

يذبّ بروقيه الكلاب الضّواريا (٤)

يصف طعنة لها خرير مما يجري من دمها ؛ فقال : لها بعد إسناد الكليم ، وهدئه هدو فيه أو هو المطعون ، وإسناده أن يسند ، وهدؤه وهديه : هدوءه وبكاء من يبكي عليه هدير

__________________

(١) كتاب سيبويه ١ : ٢٨٨ ، وهو من الخمسين التي لا يعرف قائلهم.

(٢) الإنصاف ١ : ٢٨٢ (بلا نسبة) ؛ اللسان (بأبأ).

(٣) البيت للنابغة الذبيايى : ديوانه ١٦ ؛ شواهد القرطبي ١ : ٦٥٩ ؛ تهذيب إصلاح المنطق : ٥١٠.

(٤) البيت للنابغة الجعدي : ديوانه ١٧ ، ١٨ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ١٠٥.

٢٤٢

مثل هدير الثور وهو خواره إذا قاتل الكلاب ، وانتصاب هذا على ما أذكره ، ثم أسوق كلام سيبويه.

قال أبو سعيد : يجوز أن يكون انتصابه بفعل يدلّ عليه له صوت ؛ لأن له صوت يدلّ على أنّه يصوّت وينوب عنه ؛ فكأنه قال : مررت برجل فإذا هو يصوت صوت حمار ، ويكون" صوت حمار" على هذا التقدير منصوبا بالمصدر إن شئت ، وإن شئت على أنه حال ، وفي كلا الأمرين في صوت حمار معنى التشبيه ، فإن كان على المصدر فتقديره : مررت به فإذا هو يصوّت تصويتا مثل صوت الحمار ، ويحذف كما قد ذكر حذف ذلك في غير موضع.

وإن كان حالا فتقديره : فإذا هو يصوّت مشبها صوت حمار ومخرجا مثل صوت حمار ، أو ممثّلا صوت حمار.

ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل ، ويكون ذلك الفعل على وجهين :

يجوز أن يكون من لفظ الصّوت.

ويجوز أن يكون من غير لفظه.

فإن كان من لفظه فتقديره : فإذا له صوت يصوّت صوت حمار ، فيكون نصب" صوت حمار" على هذا التقدير بالمصدر إن شئت ، وإن شئت بالحال جميعا.

وإن كان الفعل الذي تقدّره من غير لفظه نصبت صوت حمار على الحال لا على المصدر ، فيكون تقديره : مررت به فإذا له صوت يخرجه مشبها صوت حمار ويمثّله مشبّها صوت حمار أو ما جرى هذا المجرى.

قال سيبويه : (وإنما انتصب هذا لأنك مررت به في حال تصويت ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأول ولا بدلا منه).

يعني أنك لم ترد أن تجعله نعتا ولا بدلا منه فترفع ، وستقف عليه وعلى رفعه في موضعه إن شاء الله تعالى.

قال : (ولكنك لما قلت : له صوت علم أنّه قد كان ثمّ عمل فصار قولك : له صوت بمنزلة قولك : فإذا هو يصوّت ؛ فحملت الثاني على المعنى ، وهذا يشبّه في

٢٤٣

النّصب لا في المعنى ، يقول الله عزوجل : (جاعل اللّيل (١) سكنا والشّمس والقمر حسبانا (٢)) يعني أن جاعل اللّيل سكنا في معنى : جعل الليل سكنا ، فعطف الشمس والقمر على معنى جعل.

قال : (وإذا أردت الحال فكأنّه توهّم بعد قوله : له صوت يصوّته صوت حمار ، أو يبديه أو يخرجه صوت حمار ، ولكنّه حذف هذا لأنّه صار له صوت بدلا منه ، فإذا قال : مررت به فإذا هو يصوّت صوت حمار فعلى الفعل غير الحال وعلى الحال ، وقد مضى ذكر الوجهين ، وإذا قال : يصوّت صوت حمار فعلى إضمارك فعلا بعد الفعل المظهر).

وقد كشفت هذا وبيّنته.

قال : (ومثل هذا : مررت به فإذا له ... دقّ" دقّك بالمنحاز حبّ الفلفل")

والمنحاز : الهاون ، يريد أنّك كما قلت : له صوت صوت حمار انتصب على أنّه مثال أو حال يخرج عليه الفعل ، وأنّك إذا أظهرت الفعل الذي لا يكون المصدر بدلا منه احتجت إلى فعل آخر فتضمره ؛ فمن ذلك قول الشاعر :

إذا رأتني سقطت أبصارها

دأب بكار شايحت بكارها (٣)

قال أبو سعيد : اعلم أن مذهب سيبويه أنه إذا جاء بالمصدر بفعل ليس من حروفه كان بإضمار فعل من لفظ ذلك المصدر ، فمن أجل هذا استدلّ على إضمار فعل بعد قوله : له صوت بهذا الشعر لأن قوله : دأب بكار منصوب وليس قبله فعل من لفظه فأضمر دأبت دأب بكار ، وتدأب دأب بكار ، والذي قبله : سقطت أبصارها ، كأنّه قال : أداموا النظر إليّ ، والدأب : الدوام ، فكان في" سقطت أبصارها" بالنظر إليه ما دلّ على أنّها دأبت فأدامت ويكون" دأب بكار" على الحال وعلى المصدر.

__________________

(١) وهي قراءة لغير عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، والأعمش (الميسر في القراءات الأربعة عشر) ص ١٤٠.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٩٦.

(٣) البيت لغيلان بن حريث : شرح أبيات سيبويه للنحاس : (إذا رأوني) ١٨١ ؛ المقتضب ٣ : ٢٠٤.

٢٤٤

وكان أبو العباس يردّ هذا من قول سيبويه ويقول : إنّه يجوز أن يجيء المصدر من فعل ليس من حروفه إذا كان في معناه.

وقد ذكر المازني في قولهم : تبسّمت وميض البرق" قولين للنحويين في نصب وميض البرق :

أحدهما : مثل قول سيبويه ؛ أنهم يضمرون فعلا ، كأنهم قالوا : أومضت" وميض البرق".

والثاني : أنّ" تبسّمت" قد ناب عن أو مضت وميض البرق ؛ فكأنه قال : تبسمت تبسّما مثل وميض البرق.

قال أبو سعيد : والذي عندي أنّه يجوز أن ينتصب المصدر بالفعل الذي هو من غير لفظه كقولنا : قعد زيد جلوسا حسنا ، وقعد زيد جلوس عمرو ، تريد قعودا مثل جلوس عمرو ، وفى ذلك دليلان :

أحدهما : ما لا يختلف فيه أهل اللغة أنه قد يجيء المصدر من لفظ الفعل المتروك وليس بمبنيّ من بنية الفعل ، فلا يكون بينه وبين الذي هو من بنيته فرق كقول الله تعالى : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)(١) ومصدر تبتّل من بنية بتل ، إنما تبتيل مصدر تبتّل تبتيلا ، ومثل هذا في الكلام : تحاور القوم احتوارا ، واحتوروا تحاورا ، ولا فرق بينهما ، ويقال : افتقر فقرا ، ولا يستعمل من فقر فعل غير افتقر وإن كان ينبغي أن يكون فقر مصدر فقر فاستغني عنه بافتقر ، وقال الشاعر :

وقد تطوّيت انطواء الحضب (٢)

يريد : تطوّي الحضب لأنّ المعنى في تطوّى وانطوى واحد ؛ فأغنى بنية مصدر أحدهما عن الآخر إذ لا فرق بين المصدرين ، كما لا فرق بين الفعلين.

والدليل الآخر : أنا إذا قلنا قعد زيد جلوس عمرو ، فالتقدير : قعد زيد جلوسا مثل جلوس عمرو ثم حذف المنعوت والمضاف.

وقولنا : مثل جلوس عمرو معنى صحيح معقول صحّته فإذا حذف مثل وصل الفعل

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ٨.

(٢) البيت لرؤبة بن العجاج : ديوانه : ١٦ ، شرح المفصل ١ : ١١٢ ؛ تاج العروس (طوى).

٢٤٥

إلى المصدر الذي هو الجلوس فصار منصوبا بقعد وعلى هذا قوله : سقطت أبصارها دأب بكار ، أي : سقطت سقوطا مثل دأب بكار ، قولهم : تبسّمت وميض البرق تبسّما مثل وميض البرق ، ثم وقع الحذف الذي أدّى إلى انتصاب وميض.

قال سيبويه : (فمما لا يكون حالا ويكون على الفعل المضمر قول رؤبة :

لوّحها من بعد بدن وسنق

تضميرك السّابق يطوى للسّبق (١)

أراد أنّك نصبت تضميرك بإضمار ضمّرها تضميرك السّابق ، وقد دلّ على ذلك لوّحها ، لأنّ معنى لوّحها : غيّرها ، وضمرها في معناه ، ونصبه على أنّه مصدر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا عنده على الحال ؛ لأنّه مضاف إلى الكاف متعرّف به ، ولا تكون الحال معرفة ، وكذا الباب في كل مصدر مضاف إلى معرفة ألا يكون حالا ، فلو كان مكانه تضمير فرس سابق أو تضمير رجل فرسا سابقا جاز أن يكون حالا ، وأنشد سيبويه في نحو هذا المعنى قول العجّاج :

ناج طواه الأين ممّا وجفا

طيّ الليالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتى احقوقفا (٢)

فسماوة عند سيبويه مصدر ولا فعل من لفظه فصار بمنزلة لوّحها تضميرك ، وسقطت دأب بكار.

وكان المازني يردّ هذا ويقول : إن طيّ الليالي منصوب بطواه ، كأنّه قال : طواه طيا مثل طيّ الليالي ، ويجعل سماوة الهلال مفعول طيّ ، كأنّه قال : كما طوى الليالي سماوة الهلال ، وسماوة الشيء : شخصه ، والليالي تطوي القمر وتضمّره حتّى يصير هلالا ويصير بمنزلة قول جرير :

وطوى القياد مع الطّراد بطونها

طيّ التّجار بحضر موت برودا (٣)

فجعل" سماوة" مثل : " برودا" ، واحقوقف على هذا التفسير للهلال ، ومعناه :

__________________

(١) البيت لرؤبة بن العجاج : ديوانه ١٠٤ ؛ خزانة الأدب ١ : ٨٧.

(٢) البيت للعجاج : ديوانه : ٨٤ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٠٩.

(٣) البيت لجرير : ديوانه : ١٣١ ، ط : بيروت (شرح مهدي ناصر).

٢٤٦

تقوّس.

وأما ما يوجبه كلام سيبويه فتكون سماوة منصوبة بإضمار فعل ؛ كأنه قال : سما سماوة الهلال إذا أضمر من لفظه ، وإن أضمر من غير لفظه ، فكأنه قال : صيّره سماوة الهلال.

وكان أبو إسحاق الزجّاج يردّ على المازنيّ ما ذكرنا من قوله إنه لو كان سماوة يعمل فيه طيّ الليالي لكان حقّ الكلام أن يقول : سماوة القمر ، لأنّ الليالي تنقص القمر حتى يصير هلالا ، ولا يقال : إنّ الليالي تنقص الهلال.

وللمحتجّ عن أبي عثمان أن يقول : قد ينسب الفعل إلى الاسم في منتهاه وإن كان الفعل قد وقع قبل ذلك.

من ذلك قول القائل : نسجت الثوب ، والثوب لا ينسج إنّما ينسج الغزل فإذا انتهى صار ثوبا ، وعلى ذلك يتأوّل قول العجاج :

والشوق شاج للعيون الجذّل (١)

وإنما جذلت العيون واسترخت أجفانها من البكاء الذي أوجبه الشوق ، ومثله لرؤبة :

والسبّ تخريق الأديم الألحن (٢)

وإنما صار أديما ألحن بالنسب فسماه بما يوجبه الفعل بعد تقضّيه ، ومثله قول جرير في تأويل بعضهم :

لما أتى خبر الزبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع (٣)

وكان حقه أن يقول : والجبال الشواهق ، لأن الجبال الخشّع التي قد تضاءلت وتطأطأت فسمّاها بالاسم الذي توجبه المصيبة.

واحقوقف يجوز أن يكون للجمل الناجي الذي طواه الأين ، ويجوز أن يكون

__________________

(١) ديوان العجاج ٤٥ ، وروايته :

ما بال جاري دمعك المهلل

والشوق شاج للعيون الجذل

(٢) البيت لرؤبة بن العجاج : ديوانه : ١٦٠ ؛ تاج العروس (لحن).

(٣) البيت لجرير : ديوانه : ٩١٣ ؛ خزانة الأدب ٤ : ٢١٨ ؛ الخصائص ٢ : ٤٢٠.

٢٤٧

للهلال.

قال سيبويه : (وقد يجوز أن تضمر فعلا آخر كما أضمرت بعد" له صوت" يدلّك على ذلك أنّك إذا أظهرت فعلا لا يجوز أن يكون المصدر مفعولا عليه صار بمنزلة له صوت ، وذلك قوله وهو لأبي كبير :

ما إن يمسّ الأرض إلا منكب

منه وحرف الساق طيّ المحمل (١)

يريد أنّ طيّ المحمل قد نصب وليس قبله فعل من لفظه ولا معناه ، لأنّ ما إن يمسّ الأرض إذا ركّبت" ما" مع" إن يمسّ" لم يكن فعلا ولكن معناه معنى طوي فقادت الضرورة إلى أن يضمر فعل ليس من اللفظ.

وجعل سيبويه هذا دليلا على ما ذكره من إضمار فعل غير المذكور ، وقد يدخل في : (صوت حمار) ، " : إنّما أنت شرب الإبل" ، و" إنما أنت سيرا سيرا" ؛ لأنّه لا بدّ له من إضمار فعل فيكون المصدر محمولا على ذلك.

قال أبو سعيد : ذكر سيبويه لمثل هذا تقوية لإضمار فعل فيما خالف مصدره لفظ الفعل المذكور ، وإن قدّرنا المصدر منصوبا على أنّه مصدر فكأنه جواب لمن قال : أيّ فعل فعل إذا كان على الحال فكأنه جواب لمن قال على أيّ حال وقع ، وإذا كان معرفة لم يكن حالا ، وقد تقدم الكلام في هذا ، وقد يجوز الرفع في ذلك بقوله : له صوت صوت حمار ، وله خوار خوار ثور ، إذا جعلته صفة للأوّل ولم ترد فعلا ولا إضماره.

وإن كان معرفة لم يجز أن يكون صفة للنكرة كما لم يكن حالا ، لا تقول : له صوت صوت الحمار ، وخوار خوار الثور إذا أردت الصفة ، وإنما يجوز ذلك في البدل.

قال سيبويه : (وزعم الخليل أنّه يجوز أن تقول : له صوت صوت الحمار على الصفة ؛ لأنّه تشبيه فمن ثم جاز وحسن أن تصف به النكرة).

وتفسير مذهب الخليل أنّ معناه : له صوت مثل صوت الحمار ، ومثل وإن كان مضافا إلى معرفة فهو نكرة فلذلك جاز عنده الصفة.

(وزعم الخليل أنّه يجوز أن يقول الرجل : هذا رجل أخو زيد على الصفة إذا

__________________

(١) ينسب لأبي كبير الهذلي (عامر بن الحليس) : ديوان الهذليين ق ٢ : ٩٣ ؛ الإنصاف ١ : ٢٣٠ ؛ الخصائص ٢ : ٣١١.

٢٤٨

أردت مثل أخي زيد).

واستضعفه سيبويه فقال : (ولو جاز هذا لقلت : هذا قصير الطويل تريد مثل الطويل).

ولجاز أن تقول : جاءني زيد أخاك ، تريد مثل أخيك ، ومثل البزاز ، وهذا يقبح جدّا ، كما قبح أن يكون حالا إلا في شعر أو ضرورة.

قال : (وهو في الصفة أقبح لأنّك تنقض ما تكلّمت به).

يريد أنّ الصفة والموصوف كشيء واحد ، فلا يجوز أن يكون أحدهما معرفة والآخر نكرة ، والحال مع الذي منه الحال ليسا كشيء واحد فصار في الصفة أقبح.

هذا باب ما يختار فيه الرفع

(وذلك قولك : له علم علم الفقهاء ، وله رأي رأي الأصلاء.

وإنّما كان الرفع في هذا الوجه لأن هذه خصال يذكرها في الرجل كالحلم والعقل والفضل ، ولم ترد أنك مررت برجل في حال تعلّم ولا تفهّم ، ولكنك أردت أن تذكر الرجل بفضل فيه ، وأن تجعل ذلك خصلة قد استكملها ، كقولك : له حسب حسب الصالحين).

قال أبو سعيد : إنّما يرفع الثاني على أحد وجهين :

إما أن يكون بدلا من الأول ؛ كأنه قال : له علم الفقهاء ، وله حسب الصالحين ، أو على إضمار هو وما أشبهه ، كأنه قال : علم هو علم الفقهاء ، وكان الاختيار فيه للرّفع ؛ لأنه شيء قد ثبت فيه فصار بمنزلة اليد والرّجل. ألا ترى أنّك لو قلت : له رأس رأس البقر ، وله رجل رجل الفيل ويد يد الحمار وما أشبهه لم يكن فيه إلا الرّفع.

وإنما فرّق بين هذا الباب والباب الأول لأن الباب الأول شيء لم يثبت وإنما يعالج عمله لأنه إذا قال : له صوت صوت حمار ؛ فهو شيء يعالجه في الوقت.

وإذا قلت : مررت به فإذا له صوت صوت حمار ، فتصويته إنما كان في وقت مرورك به ؛ فوجب من أجل ذلك إضمار فعل ينصب.

(ويدلّك على ذلك ويكشفه قولهم : له شرف وله دين وله فهم).

ولا يراد بذلك أنه يتشرّف ويتديّن ويتفهّم من غير أن يكون استقرت هذه الأشياء.

(ولو أرادوا أن يخبروا أنه يدخل نفسه في الدين ولم يستكمل أن يقال له : ديّن

٢٤٩

لقالوا : يتديّن وليس له دين ، وكذلك يتشرّف وليس له شرف ، ويتفهّم وليس له فهم ، قال : فلما كان هذا اللفظ الذي استكمل ما كان غير علاج بعد النصب).

قال أبو سعيد : يعني أن قولهم : له علم علم الفقهاء ، وحسب حسب الصالحين ، وفهم فهم الأدباء ، يقال ذلك لمن فيه فهم مستقر فبعد النصب فيه في قولنا : أمرّ به فإذا له صوت صوت حمار ؛ إنما هو معالجة للصوت وإخراجه.

ولو أراد بقوله علم تعلّم وتفهّم وتعاط له لجاز النصب ، وصار بمنزلة له صوت صوت حمار ، إلا أن المفهوم من كلام الناس وما جرت به عادتهم أنّ ذلك مدح للمذكور ، حصل له بما استقرّ فيه من العلم والفهم وغير ذلك.

هذا باب ما يختار فيه الرفع إذا ذكرت المصدر الذي

يكون علاجا

وذلك إذا كان الآخر هو الأول

وذلك نحو قولك : (له صوت صوت حسن ؛ لأنك إنما أردت الوصف ، فكأنك قلت : له صوت حسن ، وإنما كرّرت الصوت توكيدا ، ولم ترد أن تحمله على الفعل)

ومثل هذا : مررت برجل رجل صالح ، وعنده ثوب ثوب حسن ، فيعيدون الاسم فينعتونه بالنّعت الذي يكون للأول.

(ومثل ذلك : له صوت أيّما صوت ، وله صوت مثل صوت الحمار ، لأن أيّ والمثل صفة أبدا ، فإذا قلت : أيّما صوت ، فكأنك قلت : له صوت حسن جدّا ، وهذا صوت شبيه بذلك ، فأيّ ومثل فيهما الأول ، الرفع فيهما أحسن ؛ لأنّك ذكرت اسما يحسن أن يكون هذا الكلام منه ؛ فلمّا كان منه حمل عليه ، كقولك : هذا رجل مثلك ، وهذا رجل حسن ، وهذا رجل أيّما رجل).

قال أبو سعيد : معنى قول سيبويه : يعني هو هو ، وهو يستعمله في بعض كلامه ، يريد أن قولك : له صوت إنّما هو الأوّل ، وصوت مثل صوت الحمار ، مثل : هو الأوّل.

وأراد أن يفرّق بين هذا وبين قوله : له صوت صوت حمار ؛ لأنّ صوت حمار ليس بالصوت الأوّل ، ولم يظهر لفظ مثل فيختار فيه الرفع.

وإذا قلت : له صوت صوت حمار فيقول سيبويه : (إنّما جاز رفعه على سعة الكلام

٢٥٠

كما جاز لك أن تقول : ما أنت إلا سير).

قال أبو سعيد : يريد أن جوازه على إضمار" مثل" كإضمارك في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) على معنى أهل القرية ، وكإضمارك وما أنت إلا سير ، أي إلا صاحب سير.

فمن اختار : ما أنت إلا سيرا ، اختار له صوت صوت حمار ، ومن اختار الرفع في ذلك اختار الرفع في هذا.

(ولو قلت : له صوت أيّما صوت ، وله صوت مثل صوت الحمار ، أو له صوت صوتا حسنا جاز ، وإنما جاز هذا على الحال ، أو على المصدر بإضمار فعل ؛ لأنّ في قوله : له صوت دلالة على التصويت ، فأجاز الخليل النصب لهذا المعنى ، ويقوّي ذلك أنّ يونس وعيسى جميعا زعما أن رؤبة بن العجاج كان ينشد هذا البيت :

فيها ازدهاف أيّما ازدهاف

وفي كتاب أبي بكر مبرمان مفسّر في الحاشية ؛ الازدهاف : العجلة ، وليس كذلك ، قال رؤبة يخاطب أباه ويعاتبه في قصيدة فيها :

أقحمتني في النفنف النّفناف

في هول مهوى هوّة الرصّاف (٢)

قولك أقوالا مع التّحلاف

فيها ازدهاف أيّما ازدهاف

وفسّر الازدهاف : الشّدّة والأذى ، وحقيقته : استطارة القلب أو العقل من شدة الجزع أو الحزن.

قال الشاعر :

ترتاع من نفرتي حتّى تخيّلها

جون السّراة تولّى وهو مزدهف (٣)

وقالت امرأة من العرب :

بل من أحسّ بنيّ اللذين هما

قلبي وعقلي فعقلي اليوم مزدهف (٤)

__________________

(١) الآية سبق تخريجها.

(٢) البيتان لرؤبة بن العجاج : ديوانه : ١٠٠ ؛ خزانة الأدب ٢ : ٤٣ ؛ شرح المفصل ١٠ : ٤٩.

(٣) غير منسوب ، تاج العروس (زهف).

(٤) البيت ينسب لأم حكيم بنت قارظ بن خالد الكنانية ، وقيل : هي عائشة بنت عبد المدان :

٢٥١

ونصب أيّما على تقدير تزدهف أيّما ازدهاف ، لأنّ له ازدهاف قد دلّ على ذلك وصار بدلا من اللفظ بالفعل.

هذا باب ما الرفع فيه الوجه

(وذلك قولك : هذا صوت صوت حمار لأنك لم تذكر فاعلا لأنّ الآخر هو الأول حيث قلت : " هذا" ، فالصوت هو" هذا" ثم قلت : صوت حمار ؛ لأنك لم تشبّه وجعلته هو صوت الحمار لمّا سمعت نهاقا ، فلا شك في رفعه وإن شبّهت أيضا فهو رفع ؛ لأنك لم تذكر فاعلا يفعله وإنما ذكرت ابتداءه كما تبتدئ الأسماء فقلت" هذا" ثمّ بنيت عليه شيئا هو هو فصار كقولك هذا رجل رجل حرب).

وليس هذا كقولك : له صوت ؛ لأنّ اللام دخلت على فاعل الصوت ، كأنك قلت : لزيد صوت ، ودل ذلك على أنه يصوّت أو قد صوّت ، وقولك : هذا صوت صوت حمار ، كقولك : هذا رأس رأس حمار ، وهذا رجل أخو حرب إذا أردت الشبه ؛ لأنه قام مقام مثل وهو مرفوع.

(ومن ذلك : عليه نوح نوح الحمام والاختيار فيه الرفع ؛ لأنك لم تذكر الفاعل للنوع فتدل بذكره على الفعل فتنصب).

قال أبو سعيد : الفرق بين" هذا" وبين" له صوت" أن الذي له الصوت فاعل الصوت ، والذي عليه النّوح ليس بفاعل للنّوح.

وقولك : نوح الحمام ليس بصفة لنوح ، لأنه معرفة ونوح نكرة ، وإنما هو بدل ، أو على إضمار هو ، وقد مضى نحو هذا.

وإذا قلت لهنّ نوح نوح الحمام وأنت تعني النوائح كان الوجه النصب ؛ لأنّهنّ الفاعلات ، كما كان في قولك له صوت صوت الحمار ، وإنما قولك عليه نوح أنه موضع للنّوح الذي ناحه غيره.

قال سيبويه : (ولو نصبت لكان وجها ؛ لأنّه إذا قال : هذا صوت وهذا نوح فقد أحاط العلم أن مع الصوت والنّوح فاعلين فتجعله على المعنى) كما قال :

__________________

الأغاني ١٦ : ٢٧١ ؛ تاج العروس (زهف).

٢٥٢

قد سالم الحيات منه القدما

الأفعوان والشّجاع الشّجعما (١)

قال أبو سعيد : الشاهد : أنّه رفع الحيّات بسالم ، ونصب القدم لأنّه مفعول سالم ، والأفعوان وما بعده هنّ الحيات فنصبها وحقّها الرفع بالبدل من الحيات فحمل نصبهنّ على المعنى ، وذلك أن سالم وباب فاعل حقّه أن يكون من اثنين كلّ واحد منهما يفعل بصاحبه مثل الذي يفعله صاحبه به ، فلما قال : سالم الحيات القدم دلّ على أن القدم مسالمتها فأضمر مسالمة القدم للأفعوان ؛ فكأنه قال : سالمت القدم الأفعوان.

وكان الفرّاء ينشد" الحيّات" منصوبا بكسر التاء ويجعل القدم تثنية ، أراد : القدمان وحذف النون للضرورة كما قال :

أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا

قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا (٢)

وقال تأبّط شرّا :

هما خطّتا إمّا إسار ومنّة

وإمّا دم والقتل بالحرّ أجدر (٣)

أراد" خطّتان" ، ورأيت من روى : " هما خطتا إما إسار ومنّة" بخفض إسار ويجعل خطتا مضافا إلى إسار.

ومما حمل على المعنى قوله :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح (٤)

رفع يزيد بما لم يسمّ فاعله ، ثم رفع ضارعا على المعنى ؛ لأنه لما قال : ليبك علم أنّ باكيا يبكيه فأضمر ليبكه ضارع ، ومثله في بعض القراءات :

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(٥) كأنه قال : زيّنه

__________________

(١) البيت للعجاج : ديوانه ٨٩ ؛ خزانة الأدب ١٠ : ٢٤٠ ، ١١ : ٤١١.

(٢) البيت للأخطل : ديوانه : ٣٨٧ ؛ المقتضب ٤ : ١٤٦ ؛ شرح المفصل ٣ : ١٥٤ ، ١٥٥ ؛ المنصف ١ : ٦٧.

(٣) البيت سبق تخريجه.

(٤) البيت للأخطل : ديوانه : ٤٤ ؛ خزانة الأدب ٣ : ١٨٥ ، ٨ : ٢١٠ ، شرح المفصل ٣ : ١٥٤ ، ١٥٥.

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ١٣٧. وهي قراءة ابن عامر ، انظر : الميسر في القراءات الأربعة عشر ، ص : ١٤٥.

٢٥٣

شركاؤهم ، وبعض يروي ليبك يزيد ضارع ، فينصب" يزيد" ولا شاهد في هذا.

هذا باب ما لا يكون فيه الرفع

(وذلك قولك : له يد يد الثور ، وله رأس رأس الحمار ؛ لأنّ هذا الاسم فلا يتوهّم أن الرجل يصنع يدا أو رجلا وليس بفعل وقد مضى هذا في خلال ما أمليناه).

هذا باب آخر لا يكون فيه إلّا الرفع

(وذلك قولك : صوته صوت حمار ، وتلويحه تضميرك السابق ، ووجدي به وجد ثكلى).

وإنما وجب الرفع لأن قولك صوته مبتدأ لا بدّ له من خبر ، وصوت حمار خبره على معنى : مثل صوت حمار فوجب رفعه ، قال الشاعر :

وجدي بها وجد المضلّ بعيره

بنخلة لم تعطف عليه العواطف (١)

وكذلك لو قلت : مررت به فصوته صوت حمار.

قال سيبويه : (فإن قال : فإذا صوته يريد الوجه الذي يسكت عليه دخله النصب ، لأنه يضمر بعده ما يستغنى به).

قال أبو سعيد : يريد أنّ" إذا" هذه وهي التي تكون للمفاجأة إذا كان بعدها مبتدأ جاز أن يسكت عليها ولا يؤتى لها بخبر كقولك : خرجت فإذا زيد ، ويجوز أن يؤتى بخبرها فيقال : خرجت فإذا زيد قائم.

فإذا قال : صوته صوت حمار وهو يريد الوجه الذي تأتي فيه بالخبر فقد وجب رفع الثاني كما يرفع في قولك : صوته صوت حمار.

وإن قدّر الاستغناء عنه كان منصوبا على الحال أو بإضمار فعل على نحو ما مضى.

هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه عذر لوقوع الأمر

(فانتصب لأنه موقوع له ، ولأنه تفسير لما قبله ؛ وليس بصفة لما قبله ولا منه فانتصب كما انتصب" الدّرهم" في قولك : عشرون درهما.

وذلك قولك : فعلت ذلك حذار الشرّ ، وفعلت ذاك مخافة فلان ، وادخار فلان ،

__________________

(١) البيت لمزاحم العقيلي : شرح أبيات سيبويه ١ : ٣٢ ؛ تاج العروس (عطف).

٢٥٤

قال الشاعر وهو حاتم :

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره

وأعرض عن شتم اللئيم تكرّما (١)

وقال النابغة :

وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع

يخال به راعي الحمولة طائرا

حذارا على أن لا تصاب مقادتي

ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا (٢)

وقال الحارث بن هشام :

فصفحت عنهم والأحبة فيهم

طمعا لهم بعقاب يوم مفسد (٣)

وقال العجّاج :

يركب كلّ عاقر جمهور

مخافة وزعل المحبور

والهول من تهوّل الهبور (٤)

وفعلت ذاك أجل كذا وكذا ، فهذا كله ينتصب ؛ لأنه مفعول له كأنه قيل له : لم فعلت كذا وكذا فقال : لكذا وكذا لمّا طرح اللام عمل فيه كما عمل في" دأب بكار" ما قبله حين طرحت مثل وكان حالا تعني دأب بكار).

قال أبو سعيد : اعلم أنّ المصدر المفعول له إنّما هو السبب الذي له يقع ما قبله وهو جواب لقائل قال له : لم فعلت كذا؟ فيقول : لكذا وكذا ، كرجل قال لرجل : لم خرجت من منزلك؟ فقال : لابتغاء رزق الله ، أو قال له : لم تركت السوق؟ فقال للخوف من زيد ولحذار الشرّ.

__________________

(١) البيت لحاتم الطائي : ديوانه ٢٥ ؛ خزانة الأدب ٣ : ١٥ ، ١٢٢ ؛ شرح المفصل ٢ : ٥٤.

(٢) البيتان للنابغة الذبياني : الديوان ٦٩ ؛ شرح المفصل ٢ : ٥٤ ؛ شرح قطر الندى : ١٧٢.

(٣) البيت للحارث بن هشام : شرح أبيات سيبويه ١ : ٣٦ ؛ شرح المفصل ٢ : ٥٤.

(٤) البيت للعجاج : ديوانه : ٢٨ ؛ خزانة الأدب ٣ : ١١٤ ، ١١٦.

والهبور : جمع هبر ، بالفتح ، وهو ما اطمأن من الأرض وحوله مرتفع ، وفي رواية أخرى : القبور.

٢٥٥

وبعض النحويين يقدّره ب" لو لا" ومعناه : لو لا حذار الشرّ ما تركت السوق ، ولو لا ابتغاء رزق الله ما خرجت من البيت ، وذلك على ضربين :

أحدهما : أن تفعل الفعل تجذب به فعلا آخر ، كقولك : احتملتك لاجتذاب مودّتك ، ولاستدامة مسالمتك ، فهو معنى تجذبه باحتماله.

والوجه الآخر : أن تدفع بالفعل الأول معنى حاصلا ، وتجذب به معنى آخر كقولك : فعلت ذاك حذار شرّ زيد ؛ كأنّ الحذار معنى حاصل تزيله بفعل ذلك الشيء ، وتجذب ضده من الأمر.

ويجوز أن يكون هذا المصدر معرفة ونكرة ؛ لأنه ليس بحال فيحتاج فيه إلى لزوم النكرة.

فأما المعرفة : فقولك ذلك لابتغاء الخير وللخوف من زيد.

وأمّا النكرة : فقولك لابتغاء الخير ، ولخوف من زيد ، ويجوز حذف اللام ونصب الذي بعدها كقولك : قلته ابتغاء الخير ، وحذارا من شرّ ، والناصب للمصدر الفعل المذكور لا غير ، والدليل على ذلك : أن قائلا لو قال : فعلت هذا الفعل لزيد لكانت اللام في صلة الفعل المذكور لا غير ، ولم تكن بنا حاجة إلى طلب فعل آخر ، فإذا ألقيت اللام وهي في موضع نصب بالفعل وصل الفعل إليه فنصبه ، وتدخل" من" في معنى اللام لأنه يجوز أن تقول : خرجت من أجل ابتغاء الخير ، واحتملت من أجل خوف الشّر ، ومعناهما واحد ، وعلى ذلك قوله عزوجل : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)(١) أي لحذر الموت ، أو من أجل حذر الموت.

ولو قال قائل : فعلت هذا لزيد ، أو من أجل زيد لم يجز حذف اللام ، ونصب زيد ؛ لأنه يقع في ذلك لبس ، وإنما جاز في المصادر لزوال اللبس ، ولأنه جواب لم ، ولا يحسن أن تقول : لم خرجت؟ فيقول : لزيد ؛ لأن موضعه على شيء يطلب حدوثه وليس زيد من ذلك.

وقد أنكر النحويون أن يقام" حذار الشرّ" و" ابتغاء الخير" مقام الفاعل فلم يجيزوا أن يقال : سير بزيد حذار الشّرّ ، ولا سير به ابتغاء الرّزق.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩.

٢٥٦

وقد أجازوا : سير بزيد يوم الجمعة ، وسير به فرسخان ، والفصل بينهما أن الظروف قد توسعت فيها العرب ، فأقاموها مقام الفاعلين والمفعولين فقالوا : ليلك نائم ونهارك بطّال ، قال الله عزوجل : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(١) فلمّا كان ذلك في الظروف أقاموها مقام الفاعل على السعة ولم يتّسع في المفعول له هذا الاتساع فيخرج عن بابه بإقامته مقام الفاعل.

قال سيبويه : (وحسن في هذا الألف واللام ؛ يعني المفعول له ؛ لأنه ليس بحال فيكون في موضع فاعل ، ولا يشبّه بما مضى من المصادر في الأمر والنهي وغيرهما ؛ لأنه ليس موضع ابتداء ولا موضعا يبنى على مبتدإ ، فمن ثمّ خالف باب" رحمة الله عليه"). يعني خالف باب" رحمة الله عليه" وسائر المصادر التي يجوز فيها الرفع والنصب مما تقدّم ذكره فلم يجز في المفعول له غير النصب.

يعني أن المصادر التي تنصب في أوّل الكلام قد ترفع ـ أيضا ـ بالابتداء وبخبر الابتداء ، نحو : صبر جميل ، وطاعة ، وقول معروف.

هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال وقع فيه الأمر فانتصب لأنّه

موقع فيه الأمر

(وذلك قولك : قتلته صبرا ، ولقيته كفاحا ، ولقيته فجاءة ، ومفاجأة ولقيته عيانا ، وكلمته مشافهة ، وأتيته ركضا وعدوا ومشيا ، وأخذت ذلك عنه سماعا وسمعا ، وليس كلّ مصدر ـ وإن كان في القياس مثل ما مضى من هذا الباب ـ يوضع هذا الموضع ؛ لأن المصدر هنا في موضع فاعل إذا كان حالا. ألا ترى أنه لا يحسن أتانا سرعة ، ولا أتانا رجلة ، كما أنه ليس كلّ مصدر يستعمل في باب سقيا وحمدا).

قال أبو سعيد ـ رحمه‌الله ـ : اعلم أنّ مذهب سيبويه في : أتيت زيدا مشيا وركضا وعدوا ، وما ذكره معه أن المصدر في موضع الحال كأنّه قال : أتيته ماشيا وراكضا وعاديا ، وكذلك : قتلته صبرا أي : قتلته مصبورا ، ولقيته مفاجئا ومكافحا ومعاتبا ، وكلمته مشافها ، وأخذت ذلك عنه سماعا إذا كان الحال من الفاء ، وإن كان من الهاء فصابرا ، وليس ذلك بقياس مطّرد وإنما يستعمل فيما استعملته العرب ، لأنه شيء وضع في موضع غيره كما أن

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية : ٣٣.

٢٥٧

باب سقيا لا يطّرد فيه القياس ، فيقال طعاما وشرابا ، وقد ذكر هذا فيما تقدم.

وكان أبو العباس يجيز هذا في كلّ شيء دلّ عليه الفعل فأجاز أن تقول : أتانا سرعة ، وأتانا رجلة ، ولا تقول : أتانا ضربا ولا أتانا ضحكا ، لأن الضرب والضحك ليس من ضروب الإتيان والسرعة ، والرّجلة من ضروب الإتيان ، لأنّ الآتي ينقسم إتيانه إلى سرعة أو إبطاء أو توسّط ، وتنقسم إلى رجلة وركوب ، ولا ينقسم إلى الضرب والضحك.

وكان يقول : إنّ نصبك مشيا إنما هو بالفعل المقدّر كأنه قال : أتانا يمشي مشيا ، وكان يدّعي أنّ هذا القياس قول النحويين.

وكان الزجاج يذهب إلى تصحيح مذهب سيبويه وهو الصواب ؛ لأن قول القائل : أتانا زيد مشيا يصح أن يكون جوابا لقائل قال : كيف أتاكم زيد؟ وكذلك : كيف لقيت زيدا؟ فتقول : فجاءة ، إنما تقع للحال ؛ فكأنه قال مفاجئا ، ولو كان على ما قال المبرّد : إنّ الناصب للمصدر الفعل المضمر وأن ذلك الفعل المضمر في موضع الحال لجاز أن تقول : أتانا زيد المشي ، وهو لا يجيز هذا ، وعلى قياسه يلزمه ذلك ؛ لأنه يكون تقديره : أتانا زيد يمشي المشي ، والفعل يتعدّى إلى المصدر المحض الذي ليس فيه معنى الحال معرّفا ومنكّرا.

قال أبو سعيد ـ رحمه‌الله ـ : والذي عندي أنه يجوز أن تنصب مشيا وفجاءة على المصدر من غير الوجه الذي ذكره أبو العباس ، وهو أن تجعل" أتى" في معنى : مضى إليّ ، ويكون" مشيا" مصدرا له ، وكذلك لقيته فجاءة ، كأنه قال فاجأته مفاجأة على نحو ما تقدّم من المصدر الذي من غير لفظ الفعل المذكور ، كقولهم : تبسّمت وميض البرق ، وما أشبه ذلك.

فإن قال قائل : فهل تجيز أن تقول جاءني زيد المشي ، ولقيته الفجاءة إذا كان المصدر لا يمنع عمل الفعل فيه ، وإن كان معرفة؟

قيل له : لا يجوز هذا لأنّ هذا المصدر لا يجوز استعماله في كل مكان على ما حكاه سيبويه من أنّه لا يقال : أتانا سرعة ، وإنما هو شيء استعمل في غير موضعه فلم يتجاوز فيه ما استعملوه ، ومثل ذلك قول الشاعر ، وهو زهير :

٢٥٨

فلأيا بلأي ما حملنا غلامنا

على ظهر محبوك ظماء مفاصله (١)

فالتقدير فيه : فلأيا بلأى حملنا ، وما زائدة ، ولأيا : بطاء وجهدا ، فكأنه قال : مجهودين حملنا وليدنا ، ومبطئين حملنا وليدنا ، ويقال : التأت عليه الحاجة إذا أبطأت ، قال الراجز :

ومنهل وردته التقاطا (٢)

أي : فجاءة ، وهو من الأول.

وهذا باب ما جاء منه في الألف واللام

(وذلك قولك : أرسلها العراك ، وقال لبيد :

فأرسلها العراك ولم يذدها

ولم يشفق على نغص الدّخال (٣)

ويروى : نغص الدّخال ، فنصب العراك وهو مصدر عارك يعارك معاركة وعراكا إذا زاحم ، وجعل العراك في موضع الحال وهو معرفة ، وذلك شاذّ ، وإنما يجوز مثل هذا لأنه مصدر ولو كان اسم فاعل ما جاز ، لم تقل العرب أرسلها المعارك ، ولا مثل جاء زيد القائم ، وإنما وضعوا بعض المصادر للمعارف في موضع الحال فمنها مصادر بالألف واللام ، ومنها مصادر مضافة إلى معارف.

فأما ما كان بالألف واللام فالعراك ، ومثله قول أوس بن حجر :

فأوردها التقريب والشدّ منهلا

قطاه معيد كرّة الورد عاطف (٤)

أراد : فأوردها تقريبا وشدّا في معنى مقرّبا وشادّا ، ومثله :

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى : ديوانه ١٣٣ ؛ شواهد القرطبي ٣ : ١٠٢.

(٢) ينسب إلى نقادة الأسدي ، ويروى لرجل من بني مازن : شواهد القرطبي ١ : ٣٩١ ؛ تهذيب إصلاح المنطق ١٨٣ ، ٢٤٧ ؛ تاج العروس (لقط).

(٣) البيت للبيد بن ربيعة : ديوانه : ٨٦ ؛ خزانة الأدب ٣ : ١٩٣ ؛ مغني اللبيب ٢ : ٣١٤ ؛ شرح ابن عقيل ١ : ٤٤٧.

(٤) البيت لأوس بن حجر : ديوانه : ٦٩.

٢٥٩

مدّت عليه الملك أطنابها

كأس رنوناة وطرف طمر (١)

ومعنى البيت : أنه وصف ملكا دائم الشرب فقال : مدّت عليه ، يعني : على الملك كأس ، رنوناة أطنابها في معنى : الملك مملّكا الملك ؛ فجعل الملك في معنى الحال ، وتقديره : مملّكا.

وأما ما جاء منه مضافا معرفة فقولك : طلبته جهدك وطاقتك ، وفعلته جهدي وطاقتي ، وهو في موضع الحال ؛ لأن معناه : مجتهدا ، ولا يستعمل هذا إلا مضافا ، لا تقول ، فعلته طاقة ولا جهدا وقد مضى من المصادر أن منها ما لا يستعمل إلا مضافا ، نحو : معاذ الله ، وعمرك الله.

قال : (ومثله : فعله رأي عيني وسمع أذني ، قال ذاك وإن قلت : سمعا جاز) لأنّه قد استعمل مضافا وغير مضاف.

هذا باب ما جعل من الأسماء مصدرا كالمضاف في

الباب الذي يليه

(وذلك قولك : مررت به وحده ، ومررت بهم وحدهم ، ومررت برجل وحده ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز : مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم ، وكذلك إلى العشرة.

وزعم الخليل أنهّ إذا نصب ثلاثتهم فكأنّه يقول : مررت بهؤلاء فقط لم أجاوزهم. كما أنه إذا قال : وحده فإنما يريد : مررت به فقط لم أجاوزه.

وأمّا بنو تميم فيجرونه على الاسم الأول إن كان جرّا فجرّ ، وإن كان نصبا فنصب وإن كان رفعا فرفع.

وزعم الخليل أن الذين يجرّونه كأنّهم يريدون أن يعمّوا كقولك : مررت بهم كلّهم أي لم أدع منهم أحدا.

وزعم الخليل حين مثّل نصب وحدهم وخمستهم أنه كقولك : مررت بهم أفرادهم ، أي إفرادا لهم ، فهذا تمثيل وإن لم يستعمل في الكلام)

قال أبو سعيد ـ رحمه‌الله ـ : ليونس قول في" وحده" يأتي في الباب الثالث من هذا

__________________

(١) بدون نسبة : الخصائص ٢ : ٢٤ ؛ المقاييس ٢ : ٤٤٣ (وقد نسبه إلى عمرو بن أحمر).

٢٦٠