شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

عجب أو دعاء.

قال سيبويه : (ومن العرب من ينصب بالألف واللّام ، ومن ذلك : الحمد لله ، ينصبها عامّة من بني تميم وكثير من العرب ، وسمعنا العرب الموثوق بهم يقولون : التّراب لك ؛ فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة ، كأنك قلت : حمدا وعجبا ثم جئت ب" لك" لتبين من تعني ولم تجعله مبنيا عليه فتبتدئه).

وقد مضى تفسير هذا.

هذا باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من

المصادر والأسماء

وما في هذا الباب من كلام سيبويه قد مضى شرحه في تضاعيف الأبواب المتقدّمة له ، وأنا أسوق كلام سيبويه إلى آخر الباب إلّا الشيء اليسير الذي يحتاج إلى تفسير.

قال : (وذلك قولك : سلام عليك ، ولبّيك وخير بين يديك ، والمراد في قوله : خير بين يديك ، وويل لك ، وويح لك ، وويس له ، وويلة لك ، وعولة وخير لك ، وشرّ لك ، و (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(١) ؛ فهذه الحروف كلّها مبتدأة مبنيّ عليها ما بعدها ، والمعنى فيهنّ : ابتدأت شيئا قد ثبت عندك ولست تعمل في حال حديثك في إثباتها وتزجيتها وفيها ذلك المعنى ، كما أن" حسبك" فيه معنى النهي ، وكما أن قولك : " رحمة الله عليه" في معنى : رحمه‌الله ، فهذا المعنى فيها ، ولم تجعل بمنزلة الحروف التي إذ ذكرتها كنت في حال ذكرك إياها تعمل في إثباتها وتزجيتها ، كما أنهم لم يجعلوا" سقيا ورعيا" بمنزلة هذه الحروف ؛ فإنما نجريها كما أجرتها العرب ونضعها في المواضع التي وضعن فيها ، ولا تدخلنّ ما لم يدخلوا من الحروف. ألا ترى أنك لو قلت : طعاما لك أو شرابا لك أو مالا لك تريد معنى سقيا لك أو معنى المرفوع الذي فيه معنى الدعاء لم يجز ، لأنه لم يستعمل هذا الكلام كما استعمل ما قبله ، فهذا يدلّك ويبصّرك أنّه ينبغي لك أن تجرى هذه الحروف كما أجرتها العرب ، وأن تعني ما عنوا بها ؛ فكما لم يجز أن يكون كلّ حرف بمنزلة المنصوب الذي أنت في حال ذكرك

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٨٩.

٢٢١

إيّاه تعمل في إثباته ، ولا بمنزلة المرفوع المبتدإ الذي فيه معنى الفعل ، كذلك لم يجز أن تجعل المرفوع الذي فيه معنى الفعل بمنزلة المنصوب الذي أنت في حال ذكرك إياه تعمل في إثباته وتزجيته ، ولم يجز لك أن تجعل المنصوب بمنزلة المرفوع لأن العرب إنما أجرت الحروف على وجهين.

ومثل المرفوع : (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(١). يعني أنّ طوبي وإن لم يتبين فيها الإعراب فهي في موضع رفع ؛ لأن المعطوف عليها وهو حسن مآب رفع ، وأما قوله عزوجل : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٢). و (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)(٣). فإنّه لا ينبغي أن تقول إنه دعاء عليهم ؛ لأن الكلام واللفظ بذلك قبيح ، ولكن العرب إنما كلّموا بكلامهم ، وجاء القرآن على لغتهم وما يعنون ؛ فكأنه ـ والله أعلم ـ قيل لهم ويل للمطففين ، وويل يومئذ للمكذبين ، أي : هؤلاء ممن وجب لهم هذا القول ، لأنّ هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشّرّ والهلكة ، فقيل : هؤلاء ممن دخل في الهلكة ووجب لهم هذا.

ومثل ذلك : قوله عزوجل : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٤). فالعلم قد أتى من وراء ما يكون ولكن اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلماه.

ومثله : (قاتَلَهُمُ اللهُ)(٥). وإنما أجري هذا على كلام العرب وبه نزل القرآن).

قال أبو سعيد : قد يعبّر عن بعض أفعال الله عزوجل ممّا جاء في القرآن وغيره بما لو حمل على حقيقة اللغة لم يجز أن يوصف بذلك ، من ذلك قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى)(٦). وقوله جلّ وعزّ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٢٩.

(٢) سورة المرسلات ، الآية : ١٥.

(٣) سورة المطففين ، الآية : ١.

(٤) سورة طه ، الآية : ٤٤.

(٥) سورة التوبة ، الآية : ٣٠ ـ سورة المنافقون ، الآية : ٤.

(٦) سورة الحجرات ، الآية : ٣.

٢٢٢

مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)(١). والامتحان والبلوى فيما يتعارفه النّاس إنما هو في معنى : التجربة ، وهو من الله عزوجل على وجه الأمر لهم أو إيراد بعض أفعاله عليهم مما يظهر للناس ثبات المفعول به والصبر على طاعة الله تعالى أو خلاف ذلك.

وكذلك ما جاء في القرآن من" لعلّ" قد جعل بمعنى" كي" ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢).

ونظائر ذلك مما أتى فيه لعلّ بعد أمر أمر به إنما هو على معنى" كي يكون ذلك" ؛ أي : أمرناكم بهذا الأمر ليكون ذلك ؛ فالشيء الذي جعل الأمر سببا له يجوز ألّا يكون ، ولا يخرج الأمر أن يكون وقع مقصودا به لذلك المعنى ؛ ألا ترى أنّ القائل قد يقول : مدحت الأمير ليعطيني ، وكي يعطيني ولعله يعطيني ، وإن لم يعطه فالقصد لم يتغيّر أن يكون واقعا لذلك المعنى.

وكذلك ما في القرآن مما يتعارفه الناس في كلامهم دعاء إذا وقع من الله عزوجل فهو من طريق اللفظ على ما قد تعارفه الناس ، وهو من الله عزوجل واجب ، لأن القائل إذا قال : قاتلك الله ، ولعنك الله ، فإنما يريد أن يوقع الله ذلك بالذي دعا عليه ، فإذا قاله الله عزوجل فهو على طريق أنه يوقعه ، وكذلك القول في قوله عزوجل : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٣). و (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)(٤). لأن القائل من الناس يذكره على جهة الدعاء عليهم ، والله عزوجل يذكره على طريق وجوب ذلك لهم ، لأنه هو المدعوّ المستدعى منه ذلك.

قال : (وتقول : ويل لك ويل طويل ، وإن شئت جعلته بدلا من المبتدإ الأوّل ، وإن شئت جعلته صفة له ، وإن شئت قلت : ويل لك ويلا طويلا تجعل الأخير غير مبدل ولا موصوف به ولكن تجعله دائما).

يعني : تجعل ويلا طويلا في معنى الحال ؛ كأنّه قال : ويل لك دائما.

قال : (ومن هذا الباب : فداء لك أبي وأمي ، وحمي لك أبي ، ووقاء لك أميّ ، ولا

__________________

(١) سورة محمد ، الآية : ٣١.

(٢) سورة الحج ، الآية : ٧٧.

(٣) سورة المرسلات ، الآية : ١٥.

(٤) سورة المطففين ، الآية : ١.

٢٢٣

يقال : عولة لك ، إلّا أن يكون قبلها ويلة لك ، ولا تقول : عول لك حتى تقول : عول ، لأنّ ذا يتبع ذا ، كما أنّ ينوءك يتبع يسوءك ولا يكون ينوءك مبتدأ.

واعلم أنّ بعض العرب تقول : ويلا لك ، وويلة لك ، وعولة تجريه مجرى خيبة ، من ذلك قول جرير :

كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها

فويلا لتيم من سرابيلها الخضر (١)

ويقول الرجل : يا ويلاه ؛ فيقول الآخر : نعم ويلا كيلا ، كأنه يقول : لك الذي دعوت به ويلا كيلا ، وهذا شبيه بقولهم : ويل له ويلا كيلا ، وربّما قالوا : ويل كيل).

يعني أن الذي قال : نعم ويلا كيلا يضمر مبتدأ وخبرا ، ويجعل ويلا كيلا في موضع الحال ؛ لأنه لو أظهر وقال : لك الويل ويلا كيلا كان" الويل" مبتدأ و" لك" خبر ، وويلا كيلا في معنى كثيرا ، ثم جعل نعم دليلا على الإضمار ، لأن نعم تحقيق لكلام يتكلم به ، وذلك الكلام الذي تحقيقه نعم هو قولهم : لك الويل وما أشبهه.

وقوله : (وإن شاء جعله على قوله : جدعا وعقرا).

أي : إن شاء نصب ويلا كيلا بإضمار فعل فجعله كأنه مصدر له ، لأن" جدعا وعقرا" على معنى : جدعك الله جدعا ، وعقرك عقرا ، فهو بإضمار فعل ، وتجعل ويلا كذلك بإضمار فعل.

هذا باب منه استكرهه النحويون ، وهو قبيح

فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعته العرب

(وذلك قولك : ويح لك وتبّ ، وتبّا وويحا).

أما قوله : استكرهه النحويون يعني أنهم جمعوا في الدّعاء بين شيئين لا تجمع العرب بينهما ، وقاسوا كلام العرب ، والشيئان :

أحدهما : ويل وويح لك وما جرى مجراه مما ترفعه العرب في الأكثر من كلامهم.

والآخر : تبّا لك وويل ، إذا أفردوه رفعوه وأتوا له بخبر وهو اللام ، فإذا جمعوا بينهما فقدّموا الذي يستحقّ الرفع وثنّوا بالذي يستحقّ النّصب حملا على المرفوع فيقولون : ويل لك وتبّ.

__________________

(١) البيت لجرير : ديوانه : ١٥٩ ؛ شواهد القرطبي ٣ : ٤٨ ؛ شرح المفصل ١ : ١٢١.

٢٢٤

وسيبويه يختار أن يقول : " ويل لك وتبّا" وكذلك" ويل لك وتبّا لك" لأن تبّا إن أفردته عن ذلك أو ذكرت بعده لك فإنه ينتصب مصدرا لفعل مضمر ، ولك تبيين ، كما يقول لك بعد سقيا لك ، فهي مستغنية عن لك فتجريه على ما أجرته عليه العرب.

وإذا قدمت المنصوب ثم جئت بما يرفعونه فقلت تبّا له وويحا ، فإنهم ينصبونه على الفعل حملا على تبّا.

وسيبويه لا يخالفهم في ذلك إلا أنه استقبحه ؛ لأنه مستقبح استكراه النحويين لذلك ، غير أنه رأى متى ما قرن بينهما أن ينصب ويحا فقال : ولا بد ل" ويح" مع قبحها من أن تحمل على" تبّ" لأنها إن ابتدئت لم تحسن حتّى يبنى عليها الكلام ، يعني : حتى يؤتى له بالخبر ؛ لأنّ العرب لا تقول : " ويح" ولا" ويل" إلا مع خبرهما وإن نصبت فقد بنيتها على شيء ينصبها مع قبحها كما جاء" تبّا" وما أشبه ذلك ، فإذا قلت : " تبّا" له ، و" ويح" له ؛ فجئت ل" ويح" بخبر وهو اللام حسن الرّفع في" ويح" ، وإن نصبت تبّا وليس بينهما خلاف ، ولا يختلف النحويون في نصب" التبّ" إذا كان معه" له".

وقد قدمت المرفوع إذا قلت ويح ويح له وتبّا له.

قال سيبويه : (فهذا يدلّك على النصب في" تبّا").

يعني إذا لما تكن معه" له" أحسن ، لأن" له" لا تعمل في" التبّ" ما عملت في" ويح" لأنه خبر ل" ويح" وليس بخبر في" تبّ" وإنما هو تبيين.

هذا باب ما ينتصب فيه المصدر كان فيه الألف واللام

أو لم يكن فيه على إضمار الفعل المتروك إظهاره ؛

لأنه يصير في الإخبار والاستفهام بدلا من اللفظ

بالفعل ، كما كان" الحذر" بدلا من احذر في الأمر

(وذلك قولك ما أنت إلا سيرا ، وإنّما أنت سيرا سيرا ، وما أنت إلا الضّرب الضّرب ، وما أنت إلا قتلا قتلا ، فكأنه قال في هذا كلّه ما أنت إلا تفعل فعلا).

قال أبو سعيد : إنما يقال هذا ونحوه لمن يكثر منه ذلك الفعل ويواصله ، واستغنى عن إظهار الفعل بدلالة المصدر عليه ، وكذلك في الإخبار عن الغائب إذا قلت : زيد سيرا سيرا ، وليتك سيرا سيرا ، إذا أخبرت عنه بمثل ذلك المعنى ، وكذلك إذا قلت : أنت الدهر

٢٢٥

سيرا ، وكان عبد الله الدّهر سيرا سيرا ، وأنت مذ اليوم سيرا سيرا ، وذلك كله إذا أخبرت بشيء متّصل بعضه ببعض في أي الأحوال كان ، وإن رفعت قلت : إنّما أنت سير ، على معنى : إنما أنت صاحب سير ؛ وحذفت الصّاحب وأقمت السّير مقامه.

فإن قلت : ما أنت إلا شرب الإبل ، وما أنت إلا ضرب النّاس ، جاز في ضرب الناس التنوين ؛ فتقول : ما أنت إلا ضربا الناس ، ولا تقول : ما أنت إلا شربا الإبل ، لأن شرب الإبل ليس من فعلك ، ولم ترد : ما أنت إلا شرب الإبل وإنما هو تشبيه ، والفعل الذي يشبّه به محذوف ، تقديره : ما أنت إلا تشرب شربا مثل شرب الإبل ، والمثل في موضوع النعت لشربا فحذفت الشرب وأقمت المثل مقامه (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١). وهذا الحذف وإن كثر فهو مطرد في القياس في كلام العرب مفهوم.

وإذا قلت : ما أنت إلا ضربا النّاس فنوّنته ؛ فالمعنى : ما أنت إلا تضرب الناس ؛ لأنّ فعلك واقع بهم ، ونظير ذلك من المصادر المنصوبة : قوله عزوجل (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)(٢). على معنى : إما تمنّون منّا وإما تفادون فداء.

وقال جرير :

ألم تعلم مسرّحي القوافي

فلا عيّا بهنّ ولا اجتلابا (٣)

تقديره : فلا أعيى بهن عيّا ولا أجتلبهنّ ، أي : لا أسرق من غيري ، كأنّ قائلا قال : هو عيّا بهن ، واجتلابا لهن على معنى : يعيى بهن عيا ، ويجتلبهنّ اجتلابا ، فنفى على ذلك التقدير بإدخال لا.

(ومثله قولك : ألم تعلم يا فلان مسيري فإتعابا وطردا).

والمسرّح بمنزلة مشترى ، والفاء في قوله ، فإتعابا وطردا بمنزلة الفاء في قوله : " فلا عيّا بهن ولا اجتلابا".

وإنما أراد أني إذا سرحت القوافي اتّصل بتسريحي لها إلا عيّا ولا أجتلب ؛ فلذلك أدخل الفاء.

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٢) سورة محمد ، الآية : ٤.

(٣) البيت لجرير : ديوانه : ٥٦ ؛ الخصائص ١ : ٣٦٨ ، ٣ : ٢٩٧.

٢٢٦

وكذلك يتّصل الإتعاب بالمسير ، فلذلك أدخل الفاء.

قال سيبويه : (وإن شئت رفعت هذا كلّه فجعلت الآخر هو الأوّل ، فجاز على سعة الكلام. كقول الخنساء :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار (١)

على معنى : فإنما هي صاحب إقبال وإدبار ؛ فجعل إقبال وإدبار في موضع مقبلة ومدبرة على سعة الكلام ، كقولك : نهارك صائم وليلك قائم).

قال أبو سعيد : فجعل النّهار صائما ، والنحويّون يقدّرون مثل هذا على تقديرين : أحدهما : أن يقدّروا مضافا إلى المصدر وهو الاسم الأوّل ، ويحذفون كما يحذفون في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢). كأنه قال : صاحب إقبال وصاحب إدبار ، وصاحب نهارك صائم ، وصاحب ليلك قائم فيحذفون المضاف.

والوجه الثاني : أن يكون المصدر في موضع اسم الفاعل من غير إضافة فيكون إقبال في موضع مقبلة ، والنهار صائم مجازا كما قال عزوجل (وَالنَّهارَ مُبْصِراً)(٣). وكما قال :

" أمّا النّهار ففي قيد وسلسلة" (٤)

وكما قال تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(٥).

ومثله قولهم : رجل عدل ، وماء غور ، ودرهم ضرب ، على معنى : رجل عادل ، ودرهم مضروب ، وماء غائر.

وكان الزجّاج يأبى إلا الوجه الأول.

ومما يقوّي الوجه الثاني أن نقول : رجل ضخم وعبل ، وليسا بمصدرين لضخم وعبل ، وقد جعلا في موضع اسم الفاعل ، ومصدرهما : عبل عبالة ، وضخم ضخما.

__________________

(١) البيت للخنساء : ديوانها : ٧٢ ؛ الخصائص ٢ : ٢٠٥ ؛ شواهد القرطبي ٢ : ٩٨.

(٢) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٣) سورة يونس ، الآية : ٦٧.

(٤) هذا صدر بيت منسوب للجرنفش بن زيد الطائي في شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٣٧. وعجزه :

والليل في قعر منحوت من الساج

(٥) سورة النبأ ، الآية : ٣٣.

٢٢٧

ومما يشبه هذا قول متمّم :

لعمري وما دهري بتأبين هالك

ولا جزع ممّا أصاب فأوجعا (١)

أي : فدهر تأبين هالك ، وجعل الدّهر هو التأبين مجازا.

(ومما ينتصب في الاستفهام من هذا الباب قولهم : أقياما يا فلان والناس قعود ، وأجلوسا والناس يعدون فلا يريد أن يخبر أنّه يجلس ولا أنّه قد جلس ، وانقضى جلوسه ، ولكنّه يخبر أنّه في تلك الحال في حال جلوس).

وهذا الكلام يقوله الإنسان عند فعل يشاهده ممّا ينكر عليه من أجل شيء آخر ، كأنّه إذا قال : أقياما والناس قعود فقد أنكر عليه القيام من أجل قعود النّاس ، وأنكر الجلوس من أجل فرارهم توبيخا له على ذلك.

ومثله : أصبى وأنت شيخ ، ومثله : " ... أطربا وأنت قنّسريّ ...".

وهو : المسنّ في هذا الموضع ، إنكارا للطرب مع هذه الحال ، (ومثله : قول بعض العرب وهو يعزى إلى عامر بن الطفيل :

" أغدّة كغدّة البعير

وموتا في بيت سلولية" (٢)

واجتماعهما يزيد في المكروه فهو يجري مجرى التوبيخ ، وإن لم يكن توبيخا وإنما قاله عامر ، لمّا أصابته الغدّة ، وهي داء إذا أصاب البعير لم يلبّثه حتّى يموت ، وكان قد أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وأربد بن ربيعة العامريّ أخو لبيد ليغتالاه ، فأطلعه الله عزوجل عليهما ؛ فقال : " اللهمّ أكفني عامرا وأربد" فأصابت أربد صاعقة ، وأصابت عامرا الغدّة ، ومثله :

أعبدا حلّ في شعبي غريبا

ألؤما لا أبا لك واغترابا (٣)

الشاهد في قوله : ألؤما لا أبا لك ، وبّخه على ما يأتيه من اللؤم مع غربته على نحو ما تقدّم ، كأنّه قال : أتلؤم لؤما وتغرب اغترابا (إن لم تستفهم وأخبرت جاز كقولك : سيرا سيرا ، عنيت نفسك أو غيرك ؛ كأنك رأيت رجلا في حال سير أو كنت في حال سير ، أو ذكر رجل بسير أو ذكرت أنت بسير ، وجرى كلام يحسن بناء هذا عليه كما

__________________

(١) خزانة الأدب ٢ : ٢٧.

(٢) يضرب كمثل لاجتماع نوعين من الشر ، اللسان (غدد).

(٣) البيت لجرير : ديوانه ٥٦ ، الأغاني ٨ : ٢١ ؛ خزانة الأدب ٢ : ١٨٣.

٢٢٨

حسن في الاستفهام. لأنّك إنما تقول : أطربا وأسيرا ، إذا رأيت ذلك من الحال أو ظننته في ، وعلى هذا يجري هذا الباب إذا كان خبرا أو استفهاما ، وإذا رأيت رجلا في حال سير أو ظننته فيه فأثبتّ ذلك له.

وكذلك أنت في الاستفهام إذا قلت : أأنت سيرا. ومعنى هذا الباب أنّه فعل متّصل في حال ذكرك إيّاه استفهمت أو أخبرت ، وأنّك في حال ذكرك شيئا من هذا الباب تعمل وفي تثبيته لك أو لغيرك.

ومثل ما تنصبه في هذا الباب وأنت تعني نفسك قول الشّاعر :

سماع الله والعلماء أنّي

أعوذ بحقو خالك يا ابن عمرو (١))

كأنه قال : أسمع الله هذا ، كما تقول : أشهد الله بهذا على نفسي ، وسماع الله بمنزلة إسماع الله كأنه قال : أسمع الله إسماعا ، كما تقول : ما أنت إلا ضربا النّاس إذا نوّنت ، وإن لم تنوّن قلت : إلا ضرب الناس ، ولو نوّن في سماع الله لقال : سماعا الله والعلماء ، بمعنى : إسماعا الله ، كما تقول أعطيته عطاء على معنى : أعطيته إعطاء.

هذا باب ما ينتصب من الأسماء الّتي أخذت من الأفعال

انتصاب الفعل ، استفهم أو لم يستفهم

(وذلك قولك : أقائما وقد قعد الناس ، وأقاعدا وقد سار الركب ، وكذلك إن أردت هذا المعنى ولم تستفهم تقول : قاعدا قد علم الله وقد سار الركب ، وقائما قد علم الله وقد قعد الناس).

قال أبو سعيد : هذا الباب مثل ما مضى في الباب الذي قبله من قولك : أقياما والناس قعود ، وأطربا وأنت قنّسريّ ، غير أنّ الباب الأوّل بمصدر وهذا باسم الفاعل ، وقدّره سيبويه أن العامل فيه مثل الفعل الذي يعمل في المصدر ، فقال : وكأنّه يقوله أتقوم قائما ، وأتقعد قاعدا ، ولكنّه حذفه استغناء ، وهذا ينكره بعض الناس لأنّ لفظ الفعل لا يكاد يعمل في اسم الفاعل الذي من لفظه ، وإذا جاء ذلك صرف إلى أنّه مصدر لاسم الفاعل كقولهم : قائما تريد قياما ، هكذا قال أبو العبّاس المبرّد ، ويلزمه على قوله إذا كان

__________________

(١) شرح أبيات سيبويه للنحاس ١٧٥ ؛ وهو بلا نسبة في اللسان (سمع ـ حقا).

٢٢٩

العامل في قائما أيقوم ، وفي قاعدا أيقعد أن يكون قائما في معنى قياما ، وقاعدا في معنى قعودا.

والقول عندي ما قاله سيبويه ؛ لأنّه قد تكون الحال توكيدا كما يكون المصدر توكيدا ، وإن كان الفعل قد دلّ عليه قول الله عزوجل (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(١).

ولا يجوز إضمار الفعل الدالّ على الحال إلّا أن تكون الحال المشاهدة تدل عليه ، ولا يجوز أن يقول إنسان ـ مبتدئا من غير حال تدل ـ : " قائما يا زيد" كما تقول : يجوز" قياما يا زيد" لأنّ المصدر مأخوذ من لفظ الفعل فهو دال على فعل معيّن دون غيره.

وإذا قال قائما يا زيد ، لم يدلّ على فعل محصور لأنّه يجوز أن يقول : اثبت قائما ، وتكلم قائما ، واضحك قائما ، وما أشبه ذلك مما لا يحصر ، وإنّما جاز أن يقول : أقائما وقد قعد النّاس ، لما شوهد منه من القيام والتعمّل له.

قال سيبويه : " (ومثل ذلك قوله : عائذا بالله من شرّها ؛ كأنه رأى شيئا يتّقى فصار عند نفسه في حال استعاذة حتّى صار بمنزلة الذي رآه في حال قيام وقعود .... فقال : عائذا بالله ؛ كأنه قال : أعوذ بالله عائذا).

وإذا ذكرت شيئا من هذا الباب فالفعل متّصل في حال ذكرك إيّاه وأنت تعمل في تثبيته كما كان ذلك في الباب الذي قبله.

(وقال الشاعر ، وهو عبد الله بن الحارث السهمي ، من الصحابة :

ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا

وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني (٢)

كما قال في المصدر عياذا بك ، ومثله :

أراك جمعت مسألة وحرصا

وعند الحقّ زحّارا أنانا (٣))

قال أبو سعيد : زحّارا فعّال من زحر يزحر زحرا ، وأنان في معنى : أنين ، كما يقال : نهيق ونهاق في باب الأصوات ، لأن الزحير صوت.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٧٩.

(٢) البيت ينسب إلى : عبد الله بن الحارث السهمي : شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٤٧٥ ؛ شرح المفصل ١ : ١٢٣ ؛ تاج العروس واللسان (عوذ).

(٣) البيت ينسب إلى : المغيرة بن حبناء : تهذيب إصلاح المنطق ٢٨٠ ؛ تاج العروس واللسان (زحر).

٢٣٠

قال سيبويه : (كأنه قال : زحيرا ، وأنينا ، والأولى عندي أن نجعل أنانا مصدرا للفعل الذي يعمل في زحّار ، أو لزحّار نفسه فيكون التقدير : تزحر أنينا ، لأنّ يزحر ويئنّ يتقاربان ؛ فهو مثل قولك : تبسّمت وميض البرق ، وإنما اخترت هذا لأنّه لا واو في قولك زحّارا أنانا).

هذا باب ما أجرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الفعل

مجرى الأسماء التي أخذت من الفعل

(وذلك قولك : أتميميّا مرّة وقيسيّا أخرى ، وإنّما هذا أنّك رأيت رجلا في حال تلوّن وتنقّل ، فقلت : أتميميّا مرّة وقيسيا أخرى ؛ كأنك تقول : أتتحوّل تميميّا مرّة وقيسيّا أخرى.

فأنت في هذه الحال تعمل في تثبيت هذا له ، وهو عندك في تلك الحال في تلوّن وتنقّل ، وليس تسأله مسترشدا عن أمر هو جاهل به لتفهّمه إيّاه وتخبره عنه ولكنّك وبخته بذلك).

قال أبو سعيد : وهذا الباب مثل الذي قبله إلّا أنّ الاسم الذي نصبه ليس بمأخوذ من فعل فأحوج إلى تقدير فعل ليس من لفظه مما شاهده من حاله.

قال سيبويه : (وحدّثنا بعض العرب : أنّ رجلا من بني أسد قال يوم جبلة واستقبله بعير أعور فتطيّر ـ فقال : يا بني أسد ، أعور وذا ناب!

فلم يرد أن يسترشدهم ليخبروه عن عوره وصحّته ، ولكنّه نبّههم كأنّه قال : أتستقبلون أعور وذا ناب!

فالاستقبال في حال تنبيهه إيّاهم كان واقعا ، كما كان التلوّن والتنقّل عندك ثابتين في الحال الأولى ، وأراد أن يثّبّت لهم الأعور ليحذروه).

قال أبو سعيد : يوم جبلة : يوم لبني عامر على بني أسد وذبيان ، وتطيّر هذا الأسديّ على قومه من استقبالهم هذا البعير الأعور فحقّق محذوره وهزموا وقتل منهم.

والفعل الناصب الأعور وذا ناب أتستقبلون ، وكأنّ ذلك في الحال المشاهدة.

قال سيبويه : (ومثل ذلك : قول الشاعر :

٢٣١

أفي السّلم أعيارا جفاء وغلظة

وفي الحرب أشباه النّساء العوارك) (١)

هجاهم بما شاهدهم عليه من التنقّل والتلون بكونهم في حال السّلم مثل الحمير من جفوتهم وغلظتهم على الأهل ، وفي الحرب مثل النساء الحيّض من اللّين والانقباض توبيخا لهم ، لأنهم في الحالين على طريق الذم.

(وقال آخر :

أفي الولائم أولادا لواحدة

وفي العيادة أولادا لعلّات) (٢)

وهذا أيضا ذمّ لهم مشبّه بالأول ، لأنه وصفهم بالنّهم والتواصل من أجل الطعام ، فإذا كانوا في الولائم كانوا متآلفين كأنهم إخوة بنو أمّ واحدة ، وفي قضاء حقوق بعضهم لبعض متقاطعين متهاجرين ، كأنهم أولاد علات.

(وأمّا قول جرير :

أعبدا حلّ في شعبي غريبا

ألؤما لا أبا لك واغترابا (٣)

فيكون نصب عبدا على وجهين : على النداء ، وعلى أنّه في حال افتخار واجتراء قد شاهده عليه ، فقال : أعبدا ، أي : اتفتخر عبدا ، كما قال : أتميميا.

فإن أخبرت في هذا الباب على هذا الحد نصبت أيضا كما نصبت في حال الخبر في الاسم الذي أخذ من الفعل ، وذلك قولك : أتميميّا قد علم الله مرّة وقيسيّا أخرى ؛ فلم يرد أن يخبر القوم بأمر قد جهلوه ؛ ولكنه أراد أن يشتمه بذلك ، وصار بدلا من اللفظ بقولهم : اتتتمّم مرّة وتتقيّس أخرى!.

وأتمضون وقد استقبلكم هذا ، أتنقلون وتلوّنون ، فصار هذا هكذا ؛ كما كان تربا وجندلا بدلا من الفعل ، وقد مثّل هذا الفعل الذي جعل هذا بدلا منه).

وكان في نسخة أبي بكر محمّد بن عليّ مبرمان (٤) بدلا من تربت وجندلت وفي

__________________

(١) البيت منسوب لهند بنت عتبة في السيرة النبوية لابن هشام ـ ج ٢ ق ١ ص ٦٥٦ ؛ خزانة الأدب ٣ : ٢٦٣ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٥٢.

(٢) بدون نسبة في : شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٥٣ ؛ المقتضب ٣ : ٢٦٥.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) هو محمد بن علي بن إسماعيل النحوي العسكري البصري أخذ من السيرافي ، له مؤلفات منها : كتاب علل النحو ، وكتاب شكر النعم ، الفهرست ٦٠ ، معجم الأدباء ١٨ : ٢٥٤.

٢٣٢

غيرها : تربت وجندلت على ما لم يسمّ فاعله.

قال سيبويه : " (ولو مثّلت ما نصبت عليه الأعيار).

يعني في البيت الذي مضى : أفي السّلم أعيارا ، وأعور في قوله يعني : أعور وذا ناب لتدلّ على النصب في البدل (لقلت : أتعيّرون وأتعوّرون إذا أوضحت معناها لأنك إنما تجريه مجرى ماله فعل من لفظه ، وقد يجرى مجرى الفعل ويعمل عمله).

قال أبو سعيد : يعني أنّهم لمّا جعلوا في السّلم أعيارا ، وأعور وذا ناب مجرى قولهم : أقائما وقد قعد النّاس ، والأعيار والأعور ليس بمأخوذ من فعل يجري عليه ، وقائما مأخوذ من فعل ، وقد أضمر ناصبه على لفظ الفعل الذي أخذ منه ، كان الأحسن في الأعيار والأعور أن يقدر فعل من لفظه ، وإن كان لا يستعمل ؛ إذ قد يجري مثله في الكلام على طريق التشبيه. ألا ترى أنّا نقول : قد ترجّلت المرأة ، إذا تشبّهت بالرجال ؛ فهذا التقدير أحسن في مثل هذا.

قال : (وأما قوله عزوجل (بَلى قادِرِينَ)(١). كأنه قال : بلى نجمعها قادرين).

وإنّما قدّرها سيبويه بنجمعها لقوله تعالى قبله (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ)(٢). وتسوية بنانه أن يضمّ بعضها إلى بعض ولا تكون متفرقة ، والبنان : الأصابع.

وذكر الفرّاء هذا المعنى ، وقدّم قبله معنى آخر فيه وفي نظائره ، وهو أن ينصبه بإضمار الفعل المذكور قبله وهو يحسب ؛ كأنه قال : أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى فليحسبنا قادرين.

ومثله من الكلام : أتحسب أن لن أزورك ، بلى سريعا إن شاء الله ، كأنّه قال : بلى فاحسبني زائرك ، وقال قوم من النحويين : إنّ" قادرين" ينتصب لوقوعه موقع نقدر لأنّ معناه بلى نقدر على أن نسوي بنانه ، وهذا باطل ، لأنّه ليس من نواصب الاسم وقوعه مواقع الفعل. ألا ترى أنّك تقول : أتقوم يا زيد ، فإذا رددته إلى الاسم قلت : أقائم أنت يا زيد.

__________________

(١) سورة القيامة ، الآية : ٤.

(٢) سورة القيامة ، الآيتان : ٣ ، ٤.

٢٣٣

قال : (وأما قوله ، وهو الفرزدق :

ألم ترني عاهدت ربّي وأنّني

لبين رتاج قائما ومقام

على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما

ولا خارجا من فيّ زور كلام (١)

قال سيبويه : (أراد ولا تخرج فيّ ما استقبل كأنّه قال : ولا تخرج خروجا. ألا تراه ذكر عاهدت في البيت الذي قبله).

قال : (ولو حملته على أنّه نفى شيئا هو فيه ولم يرد أن يحمل على عاهدت لجاز ، وإلى هذا الوجه كان يذهب عيسى بن عمر فيما نرى ؛ لأنه لم يكن يحمله على عاهدت).

قال أبو سعيد : فسّر أبو العباس وأبو إسحاق الزجاج في هذين البيتين قول سيبويه وقول عيسى بن عمر :

فإما قول سيبويه فإنه جعل لا أشتم جواب يمين إمّا أن يكون جواب حلفة كأنه قال : عاهدت ربي على أن أقسمت ، وعلى أن حلفت لا أشتم الدّهر مسلما ، أو يكون عاهدت بمعنى : أقسمت ، كأنّه قال : ألم ترني أقسمت.

ويكون خارجا في معنى ويكون التقدير : ولا يخرج خروجا عطفا على أشتم ، وجعل خارجا في معنى خروجا.

قال أبو العبّاس : ومثله : قم قائما ، أي : قم قياما ، ومثله من المصادر : العاقبة والعافية ، فهو على لفظ فاعل.

وفسّرا قول عيسى إنّ خارجا حال ، وإذا كان حالا فهو عطف على ما قبله ، وإذا كان كذلك وجب أن يجعل الفعل في موضع الحال ؛ فكأنه قال : لا شاتما مسلما ولا خارجا من فيّ زور كلام ، والفعل المستقبل يكون في موضع الحال كقولك : جاءني زيد يضحك ، أي : ضاحكا.

وجعلا العامل في الحال على مذهب عيسى بن عمر عاهدت ؛ كأنه قال : عاهدت ربي لا شاتما الدهر مسلما ، فالمعنى : موجبا على نفسي ذلك ومقدّرا ألا أفعله ، فهذا معنى

__________________

(١) البيتان للفرزدق :

ديوانه ٢ : ٢١٢ ، شرح المفصل ٢ : ٥٩ ؛ ٦ : ٥٠ ؛ مغني اللبيب ٥ : ١٣٤.

٢٣٤

تفسير أبي العباس وأبي إسحاق الزجاج.

وكلام سيبويه الذي حكاه عن عيسى يخالفه لأنّه قال ـ يعني عيسى بن عمر ـ : لم يكن يحمله على عاهدت.

ومعنى قول سيبويه لو حملته على أنّه نفى شيئا هو فيه ، أي : نفي الحال وهو قوله : لا أشتم ، ولا خارجا ، فإذا لم يكن العامل في الحال" عاهدت" على ما حكاه سيبويه عن عيسى كان نصبه على أحد وجهين :

إما أن يكون المفعول الثاني من ترني كأنه قال : ألم ترني لا شاتما مسلما ولا خارجا من فيّ زور كلام ، فهذا وجه ذكره أبو بكر مبرمان.

قال أبو سعيد : ما يعجبني هذا ؛ لأنّ" عاهدت" في موضع المفعول الثاني فقد تمّ المفعولان بعاهدت.

وأجود منه أن يكون على حلفة ؛ كأنّه قال : على أن حلفت لا شاتما ولا خارجا ، والمصدر وهو" حلفة" يعمل عمل الفعل.

وكان الفرّاء يذهب مذهب عيسى بن عمر وينصب خارجا على الحال ، ويجعل لا أشتم في موضع نصب ؛ كأنه قال : لا شاتما مسلما و" لا خارجا" عطف عليه.

وبعض النحويين ينصب خارجا لوقوعه موقع يخرج على ما تقدّم ، وقد ذكرنا الحجّة.

وإذا قلت ما أنت قائم ولا قاعد ، وأنت تميميّ مرة وقيسيّ أخرى ، وإني عائذ بالله ارتفع.

قال أبو سعيد : مذهب سيبويه ـ ولا أعلم له مخالفا ـ أنك إذا قلت : ما زيد إلا سائر أو قائم أو قاعد لم يجز فيه غير الرّفع ، ولو كان بدل سائر وقائم مصدر لجاز النصب ، كقولك : ما أنت إلا سيرا ، وما أنت إلا قياما ؛ لأنّ السير والقيام يدلان على يسير ويقوم.

ولقد تأوّل بعض المتقدمين في النحو على مذهب الكوفيين ممن أدركته رواية رويت عن عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ فيما رواه هو في قوله تعالى (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)(١).

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨

٢٣٥

بنصب عصبة ، وزعم أنّ عصبة تنتصب كما تقول العرب : إنّما العامريّ عمته ؛ فجعل عصبة بمنزلة المصدر.

ورددت أنا ذلك فقلت : إنما يجوز هذا في المصادر دون الأسماء لأنك تقول : أنت سيرا ، ولا تقول : أنت سائرا ، ولا خلاف في ذلك ، وعصبة هي اسم لا مصدر ، والتأوّل على الرواية غير صحيح ؛ لأنّ الذي في أصل النسخة ، ونحن عصبة ، ولم يقل نصب أيش ، وقد تكلمت على هذا في غير هذا الموضع.

قال سيبويه : " (ولو قال : هو أعور وذو ناب لرفع ...).

وكذلك إذا قلت : أنت تميميّ مرّة وقيسيّ أخرى ، وإني عائذ بالله ، ليس في ذلك غير الرّفع ؛ لأنه قدّم الاسم ، وجاء بعده بخبر هو هو ، فلم يجز غير الابتداء والخبر ، وإنما يجوز النصب إذا قال : أتميميّا بغير أنت ، وقال عائذا بغير إني ، أو قال : أعور وذا ناب بغير هو فتفهّم ذلك إن شاء الله ، وكذلك لو أضمرت أنت والاسم الذي يكون المذكور هو هو لرفع وكان بمنزلة المظهر.

هذا باب ما يجري من المصادر مثّنى منتصبا على إضمار الفعل

المتروك إظهاره

(وذلك قولك : حنانيك ؛ كأنه قال : تحنّنا بعد تحنّن ، ولكنّهم حذفوا الفعل ؛ لأنه صار بدلا منه. ولا يكون هذا مثنّى إلا في حال إضافة ، كما لم يكن سبحان الله ، ومعاذ الله إلا مضافا ؛ فحنانيك لا يتصرّف كما لم يتصرف سبحان وما أشبهه ، قال الشاعر ، وهو طرفة :

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض (١)

وزعم الخليل أنّ معنى التثنية أنّه أراد تحنّنا بعد تحنّن ؛ كأنّه قال : كلما كنت في رحمة وخير منك فلا ينقطعنّ ذلك وليكن موصولا بآخر من رحمتك.

ومثل ذلك : قولك : لبيك وسعديك ، وسمعنا من العرب من يقول :

سبحان الله وحنانيه ، كأنّه قال : سبحان الله واسترحاما كما قال : سبحان الله

__________________

(١) البيت لطرفة بن العبد :

ديوانه ٤ ، شرح المفصل ١ : ١١٨ ، المقتضب ٣ : ٢٢٤.

٢٣٦

وريحانه ، يريد : واسترزاقه.

وأمّا لبيك وسعديك فانتصب كانتصاب سبحان الله ، وهو أيضا بمنزلة قولك : أمرت سمعا وطاعة ، إلا أنّ لبيّك لا يتصرّف كما أنّ سبحان الله ، وعمرك الله ، وقعدك الله لا يتصرف).

قال أبو سعيد : اعلم أنّ التثنية في هذا الباب الغرض فيها التكثير ، وأنّه شيء يعود مرة بعد أخرى ولا يراد بها اثنان فقط من المعنى الذي يذكر.

فالدليل على التكثير بلفظ التثنية أنك تقول : ادخلوا الأوّل فالأول ؛ فإنما غرضك أن يدخل كلّ وجئت بالأوّل فالأوّل حتّى تعلم أنه شيء بعد شيء.

وتقول : جاءني رجلا رجلا على هذا المعنى ولا تحتاج إلى تكريره أكثر من مرّة واحدة فتعلم به أنه شيء لا يقتصر به على الأول ، وأنّ ذلك المعنى يعود بعد الأوّل ويكثر فتكتفي بذلك اللّفظ ، وهذا المثنى كله غير متصرّف ، ومعنى قولنا غير متصرّف أن لا يكون إلا مصدرا منصوبا أو اسما في موضع الحال كما يكون المصدر في موضع الحال ، وإنّما لم يتمكّن إذا ثنّيت لأنه دخله بالتثنية لفظا معنى التكثير لا معنى التثنية ، ودخل هذا اللفظ لهذا المعنى في موضع المصدر فقط ، قال : فلم يتصرّفوا فيه ، وبعضه يوحّد فيتصرّف كما قال الله تعالى في توحيده (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا)(١) وقال الشاعر :

فقالت حنان ما أتى بك ههنا

أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف (٢)

فرفع لمّا أفرد لأنّه لم يدخله معنى غير الذي يوجبه اللّفظ وهو أصل الاسم الموضوع.

ولبيك وسعديك تثنية ولا يفرد واحد منهما لما ذكرته لك من معنى التكثير ، ولبيك مأخوذ من قولنا ألبّ بالمكان إذا أقام به ، وألبّ على كذا وكذا إذا أقام عليه ولم يفارقه.

قال سيبويه : (حدّثنا أبو الخطّاب أنّه يقال للرجل المداوم على الشيء لا يقلع عنه ولا يفارقه قد ألبّ على كذا وكذا).

__________________

(١) سورة مريم ، الآية : ١٣.

(٢) سبق تخريجه.

٢٣٧

وسعديك مأخوذ من المساعدة والمتابعة ، فإذا قال الإنسان لبّيك وسعديك فكأنه قال : دواما على طاعتك وإقامة عليها مرّة بعد مرة وكذلك سعديك ، أي : مساعدة لك بعد مساعدة ، ومتابعة بعد متابعة ، وإنما يعبّر عن هذه الأشياء باللفظ الذي يقرب معناه منه فيمثّل به ويطلب له الاشتقاق وما يقدّر فيه من الفعل لو أتى به آت لم يحسن ولم يك واقعا ذلك الموقع كما وقع سقيا مكان سقاك الله ، ورعيا مكان رعاك الله ؛ فهذا الذي أحوج سيبويه وغيره إلى تطلّب التّقديرات المقرّبة للمعنى وليوقف على وجه النصب ؛ فقال سيبويه مرّة : (كأنه إذا قال الرجل للرّجل : يا فلان ، فقال : لبيك وسعديك ، فقد قال : قربا منك ومتابعة لك ، فهذا تمثيل ، وإن كان لا يستعمل في الكلام كما كان براءة الله تمثيل سبحان الله وإن لم يستعمل ذلك استعمال سبحان الله).

وقال مرّة : (وكذلك إذا قال : لبّيك وسعديك يعني بذلك الله تعالى ، فكأنه قال : لا أنأى عنك يا ربّ في شيء تأمرني به ، فإذا فعل ذلك فقد تقرّب إلى الله عزوجل بهواه).

يعني بإرادته وقصده.

(وأما قوله وسعديك فكأنّه يقول : أنا متابع أمرك وأولياءك غير مخالف ، فإذا فعل ذلك فقد تابع وطاوع ، وإنّما حملنا على تفسير معنى لبيك وسعديك لنوضح به وجه نصبهما لأنّهما ليسا بمنزلة سقيا وحمدا وما أشبه ذلك.

ألا ترى أنّك تقول للسائل في تفسير سقيا وحمدا إنما هو سقاك الله سقيا وأحمد الله حمدا ، فحمدا بدل من أحمد ، وسقيا بدل من سقاه الله ، ولا تستطيع أن تقول : ألبّك لبّا ، ولا أسعدك سعدا.

ولا تقول : سعد بدل من أسعد ، ولا لبّ من ألبّ ، فلمّا لم يكن ذلك التمييز له شيء من غير لفظه معناه كبراءة حين ذكرتها لتبيّن معنى سبحان الله ، والتمست للبّيك وسعديك غير اللّفظ الذي اشتقّا منه إذ لم يكونا فيه بمنزلة الحمد والسقي في فعليهما ، ولا يتصرفان تصرّفهما ، ومعناهما : القرب والمتابعة فمثّلت بهما النصب في سعديك ولبيك كما مثّلت النصب في سبحان الله ببراءة الله).

وممّا يقوّي إفراد حنان أنّ الفعل في حنان قد يستعمل فيقال : تحنّن أي : ارحم ، قال الشاعر :

٢٣٨

تحنّن عليّ هداك المليك

فإنّ لكلّ مقام مقالا (١)

فهذا مما تلحقه بباب (الحمد لله) وجواز التّصرّف فيه والرفع.

ومما يجري مصدرا مثنّى : حذاريك كأنه قال : حذرا بعد حذر ولا يستعمل حذرا مفردا ، ولا يرفع حذاريك ؛ لأنّه صيغت هذه البنية لتوضع غير متمكّنة كحنانيك ولبيك وسعديك فلم تستعمل إلا مصدرا منصوبا ، ومن ذلك دواليك ، وقال عبد بني الحسحاس :

إذا شقّ برد شقّ بالبرد مثله

دواليك حتّى ليس للبرد لابس (٢)

وهذا من فعل العرب في الجاهلية إذا أراد رجل أن يعقد مودّة مع امرأة شق كلّ واحد منهما ثوب الآخر ليؤكد المودّة.

ودواليك : مأخوذ من المداولة من شقّ كلّ واحد منهما ثوب الآخر وهو في موضع الحال ، كأنّه قال متداولين متعاقبين للفعل الذي فعلاه.

ومن التثنية : هذاذيك ، مأخوذ من هذّه يهذّه هذّا ، ومعناه : السّرعة في القراءة ، وفي الضرب ، قال الراجز :

ضربا هذاذيك وطعنا وخضا (٣)

كأنه يقول : هذّا عد هذّ من كلّ وجه ، ومثل ذلك قولهم : حواليك بمعنى : حولك ، يقال : حولك وحوالك ، وقد يقال : حواليك وحوليك إنما يريدون الإحاطة من كل وجه.

ويقسّمون الجهات التي تحيط به إلى جهتين كما يقال : أحاطوا به من جانبيه ، ولا يراد أنّ جانبا من جوانبه قد خلا ، وأنشد سيبويه قول الراجز :

أهدموا بيتك لا أبا لكا

وزعموا أنّك لا أخا لكا

وأنا أمشي الدّألى حوالكا (٤)

فوحّد حوالك :

__________________

(١) البيت للحطيئة : ديوانه : ٧٢ ؛ المقتضب ٣ : ٢٢٤ ؛ تلخيص الشواهد ٢٠٦.

(٢) ديوانه : ١٦ ، الخصائص ٣ : ٤٧ ؛ شرح المفصل ١ : ١١٩.

(٣) الراجز : العجاج : ديوانه : ٢٦ ؛ خزانة الأدب ٢ : ١٠٦.

(٤) المعاني الكبير : ٦٥٠ ؛ الحيوان ٦ : ١٢٨ (وقد نسبه إلى أبي زياد الكلابي الأعرابي).

٢٣٩

وزعم الجرميّ (١) عن أبي عبيدة أنّ هذا قول العرب ، يعني هذه الأبيات تحكيها العرب عن الضّبّ أنه قال للحسل وهو ولده حيث كانت الأشياء تتكلم ، وهذا من قول الحشو منهم أو على وجه التمثيل أو ضرب المثل ، كما يحكى عن الفرس وغيرهم أشياء عن ألسنة الطير والسباع والوحش ، وقد أحاط علم الحاكي أن ذلك على وجه الأمثال والتحرّز من مثل ذلك المعنى على نحو ما أراده المتمثّل.

وأنشد غير سيبويه في تثنية حوال قول كعب بن زهير :

يسعى الوشاة حواليها وقولهم

إنّك يا ابن أبي سلمى لمقتول (٢)

وفي تثنية حول قول آخر :

يا إبلي ما ذامه فتأبيه

ماء رواء ونصيّ حوليه (٣)

وقال امرؤ القيس في جمع حول :

فقالت سباك الله إنّك فاضحي

ألست ترى السّمّار والناس أحوالي (٤)

وزعم يونس أنّ لبيك اسم واحد غير مثنى ، وأنّ الياء التي فيه كالياء التي في عليك ولديك ، وكان الخليل وسيبويه يخالفانه.

وأنشد سيبويه :

دعوت لما نابني مسورا

فلبّى فلبّى يدي مسور (٥)

فجعل لبّى يدي بالياء في لبّى كالياء في يدي مسور وهى تثنية يد والياء في قولك رأيت ثوبي زيد وهذا روايته ، وإنشاده عن العرب بهذا اللفظ فلو كان بمنزلة قولك : عليك ولديك ثم أضيف إلى ظاهر لكان بالألف. ألا ترى أنّك تقول : على زيد مال ، ولدى زيد خير ، فلا يكون إلا بالألف في اللفظ.

__________________

(١) هو صالح أبو عمر بن إسحاق الجرمي إمام في النحو ناظر الفراء ببغداد أخذ عن الأخفش والأصمعي توفي ٢٢٥ ه‍ الفهرست ٥٦ ، معجم الأدباء ١٢ : ٥.

(٢) البيت لكعب بن زهير : ديوانه ٢١.

(٣) الراجز : الزفيان السعدى : ديوانه ١٠٠ ؛ الخصائص ١ : ٣٣٣ ، نوادر أبي زيد : ٩٧.

(٤) البيت لامرئ القيس : ديوانه : ٣١.

(٥) ينسب لرجل من بنى أسد : شرح ابن عقيل ٣ : ٥٣ ؛ خزانة الأدب ٢ : ٩٣ ، شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٥١.

٢٤٠