شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وقوله : أنت وشأنك.

إنما يريد به الحال ، فإن حملته على فعل فإنما تحمله على شيء ماض أو مستقبل لم يدلّ عليه دليل.

ومما أنشده عن أبي الخطاب عن بعض العرب من النصب في" ما" :

أتوعدني بقومك يا بن حجل

أشابات يخالون العبادا

بما جمّعت من حضن وعمرو

وما حضن وعمرو والجيادا (١)

على معنى : وما كان حضن.

وأنشد سيبويه ما قوّى به ما ذكره من أنّه يعطف على شيء يقدر وإن لم يلفظ به ، وشيء يعطف على ما كان يجوز استعماله في موضع المعطوف عليه ، قول صرمة الأنصاري :

بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (٢)

وقال الأخوص اليربوعيّ :

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلّا ببين غرابها (٣)

وإنما خفض سابق وناعب وليس قبلهما مخفوض ، لأنه يجوز أن تقول : لست بمدرك ما مضى ، وليسوا بمصلحين ، فتقع الباء فيهما ويكثر في موضعهما من خبر ليس الباء ، فحملها في الخفض على ما كان يستعمل ، ومثل ذلك قول عامر الطائيّ :

فلم أر مثلها خباسة واحد

ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله (٤)

أراد : كدت أن أفعله ، فحذف أن ضرورة ، وغير سيبويه يقول :

__________________

(١) البيت لشقيق بن جزء : هارون ١ : ٣٠٤ ؛ تاج العروس (حضن).

(٢) البيت لزهير بن أبي سلمى ، ديوانه : ٢٨٧ ؛ خزانة الأدب ٨ : ٤٩٢ ، ٤٩٦ ، ٥٥٢ ؛ ٩ : ١٠٠ ، ١٠٢ ، ١٠٤ ؛ شرح شواهد المغني ١ : ٢٨٢ ؛ شرح المفصل ٢ : ٥٢ ، ٧ : ٥٦ ؛ الخصائص ٢ : ٣٥٣ ، ٤٢٤ ؛ الأشباه والنظائر ٢ : ٣٤٧.

(٣) شرح المفصل ٢ : ٥٢ ، ٥ : ٦٨ ، ٧ : ٥٧ ؛ مغني اللبيب ٢ : ١٧٤ ، ٥ : ٤٨٧ ؛ خزانة الأدب ٢ : ١٤٠ ، ٤ : ١٥٨ ، ١٦٠ ، ١٦٤ ؛ الخصائص ٢ : ٣٥٦.

(٤) ينسب إلى : عامر بن جوين الطائي ، ملحق ديوان امرئ القيس ٤٧١ ؛ الأغاني ٩ : ٩٥.

٢٠١

إنهم أرادوا بعد ما كدت أفعلها ، والعرب قد تحذف في الوقف الألف التي بعد الهاء في المؤنث وتلقي فتحة الهاء على ما قبلها.

ويروى في مثل هذا : أن بعض العرب قتل رجلا يقال له : مرقمة ، وقد سامه وآخر ، أن يبتلعا جردان الحمار في خبر طويل ، فامتنعا فقتل مرقمة ، فقال الآخر : " طاح مرقمة" :

فقال القائل : وأنت إن لم تلقمه ، يريد تلقمها ، فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الميم ، وهذا يخرّج في مذهب البصريين على طرح النون الخفيفة ، كأنه قال :

تلقمنه ، فحذف النون وبقيت الميم مفتوحة كما قال :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّوط قونس الفرس (١)

أراد : اضربن عنك الهموم ، وحذف النون.

هذا باب منه يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام إذا حمل

آخره على أوله

(وذلك قولك : مالك وزيدا وما شأنك وعمرا).

وإنّما نصبوا عمرا لأن عمرا هو شريك الكاف في المعنى ولم يصح العطف عليه ، لأن الكاف ضمير مخفوض ، ولا يجوز عطف الظّاهر المخفوض على المكنيّ ، ولم يصلح أيضا رفعه ؛ لأنك لو رفعته كنت عاطفا له على الشأن ، وليس عمرو بشريك للشأن ولا أردت أن تجمع بينهما فحمل الكلام على المعنى ، فجعل ما شأنك ومالك بمنزلة ما تصنع فصار كأنك قلت ما صنعت وزيدا ، (قال الشاعر :

فما لك والتلدّد حول نجد

وقد غصّت تهامة بالرّجال (٢)

وقال الآخر :

فما لكم والفرط لا تقربونه

وقد خلته أدنى مردّ لعاقل (٣)

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) البيت لمسكين الدارمي : ديوانه ٦٦ ورواية الديوان :

أتوعدني وأنت بذات عرق

وقد غصت تهامة بالرجال

خزانة الأدب ٣ : ١٤٢.

(٣) البيت ينسب إلى : عبد مناف بن ربع الجربيّ الهذلي.

شرح أشعار الهذليين ٢ : ٦٨٦.

٢٠٢

واستدل سيبويه (على أنه لا يحسن عطف عمرو على الشأن بأنك لو قلت : ما شأنك وما عبد الله ، لم يكن كحسن" ما جرم وما ذاك السويق" لأنّك توهم أنّ الشأن هو الذي يلتبس بزيد ، ومن أراد ذلك فهو ملغز تارك لكلام الناس الذي يسبق إلى أفئدتهم).

وإذا أضفت الشأن إلى ظاهر حسن الكلام كقولك ما شأن عبد الله وأخيه ، وما شأن زيد وأمة الله يشتمها ، ويكون يشتمها في موضع نصب على الحال ، فإن شئت جعلته حالا من الأوّل وإن شئت جعلته حالا من الثاني.

وقد سمع من العرب : " ما شأن قيس والبرّ تسرقه" أراد بقيس القبيلة.

وقد مثّل سيبويه ما شأنك وملابسة زيدا وملابستك زيدا ، ولا يخرج ذلك عن معنى ما صنعت وزيدا ، وما تصنع وزيدا ؛ لأنّ ذلك ملابسة ، وكيف ما عبّر عنه إذا أدّى المعنى جاز ، ولو نصب مع الظاهر جاز ، فقال : ما شأن عبد الله وزيدا ، لأنّ الملابسة مع الظاهر كالملابسة مع المكنيّ في المعنى ، ومن نصب قال : ما لزيد وأخاه ، كأنه قال : ما كان شأن زيد وأخاه ، ومن ثمّ قالوا : حسبك وزيدا ، لأنّ معناه : كفاك ، كأنّه قال : كفاك وزيدا وكأنّه قال : حسبك وبحسب زيدا درهم ، وكذلك : كفيك وقطك في معنى حسبك ، تقول : قطك وزيدا درهم ، وكفيك وزيدا درهم ، قال الشّاعر :

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد (١)

كأنه قال : يكفيك ويكفي الضّحّاك.

قال : وأما ويلا له وزيدا ، وويله وأباه فالنّصب على معنى الفعل الذي نصبه ، وعنده أنّ الفعل الذي نصبه كأنّه قال : ألزمه الله ويلا ، فعطف زيدا والأب على ذلك المعنى ، كأنه قال : وألزم زيدا وألزم أباه ، وكذلك لو رفع ويلا فقال : ويل له وأباه ، لأنّ معناه وإن كان رفعا معنى الفعل ، كما أن حسبك وزيدا معناه معنى يكفيك ، ومعنى ويل له كمعنى ويله إذا نصبت فتقديره الزم موجود.

__________________

(*) البيت في ذيل الأمالي : لجرير ١٤٠ ، وليس في ديوانه.

خزانة الأدب ٧ : ٥٨١ (بلا نسبة) ؛ شرح شواهد الإيضاح ٣٧٤ ؛ شرح شواهد المغني ٢ : ٩٠٠.

٢٠٣

قال : ولا يجوز أن تقول : هذا لك وأباك ، لأنه لم يتقدم استفهام ولا فعل ولا حرف فيه معنى فعل ، وإنّما يجرّ هذا في ضرورة الشّعر ، لأن الذي يقول : مررت بك وزيدا لا يقول : هذا لك وزيدا ؛ لأن الفعل عامل قويّ ظهر وموضع حرف الجرّ نصب فيحمل الثّاني في النّصب على معنى الفعل كأنّه قال : لقيتك وأباك ، ولا يقال : هذا لك وأباك ، لأنّه لا فعل ههنا.

هذا باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل

غير المستعمل إظهاره

(وذلك قولك : سقيا لك ، ورعيا وخيبة لك ، ودفرا ، وجدعا ، وعقرا ، وبؤسا ، وأفّة ، وتفّة ، وبعدا ، وسحقا ، ومن ذلك أيضا قولك : تعسا ، وتبّا ، وجوعا ، ونوعا) ، وذكر سيبويه جودا وجوسا في معنى : جوعا ومعنى نوعا : عطشا ، وفي الناس من يقول : هو إتباع ، قال الشاعر :

" والأسل النّياعا" ، (١) أي : العطاشا ، ونحو قول ابن ميادة :

تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي

بجارية بهرا لهم بعدها بهرا (٢)

ومعنى بهرا : قهرا ، أي : قهروا قهرا ، وغلبوا غلبا ، كقولك : بهرني الشيء ، ومنه القمر الباهر إذا تم ضوءه وغلب ، كأنك قلت : سقاك الله سقيا ، ورعاك رعيا ، وخيبك الله خيبة ، فهذا وما أشبهه ينتصب على الفعل المضمر ، وجعلوا المصدر بدلا من اللفظ بذلك الفعل ، ومعنى قولنا : بدل من ذلك الفعل أنهم استغنوا بذكره عن إظهاره كما قالوا : الحذر الحذر أي : احذر الحذر ، ولم يذكروا احذر ، وبعض هذه المصادر لا يستعمل الفعل المأخوذ منه ، وبعض يستعمل ، فمما لم يستعمل قولهم : بهرا كأنك قلت : بهرك الله إذا دعا عليه ، وهذا

__________________

(١) قائله القطامي :

لعمر بن شهاب ما أقاموا

صدور الخيل والأسل النياعا

ملحق ديوان القطامي ٢١٤ ، أدب مكاتب ٤٧.

(٢) البيت لابن ميادة : ديوانه : ١٣٥ ؛ أساس البلاغة (بهر) ؛ الأغاني ٢ : ٢٣٧ ، الإنصاف ١ : ٢٤١ واللسان (فقد) ؛ المقاصد النحوية ١ : ٥٢٤ ؛ وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٦٧ ؛ وليزيد بن مفرغ في ملحق ديوانه ٢٤٣.

٢٠٤

تمثيل ولا يتكلم به ، وكذلك لا يتكلم بالفعل من جوسا وجودا في معنى : جوعا.

قال سيبويه : (ومما يدلّك أيضا أنه على الفعل نصب أنك لم تذكر شيئا من هذه المصادر لتبني عليه كلامك ، كما تبني على عبد الله إذا ابتدأته ، وأنك لم تجعله مبنيا على اسم مضمر في نيتك ، ولكنه في دعائك له أو عليه).

يعني : أن هذه المصادر لم يذكرها الذاكر ليخبر عنها بشيء كما يخبر عن زيد إذا قال : زيد قائم ، أو عبد الله قائم ، وهذا معنى قوله : لتبني عليه كلامك كما تبني على عبد الله ، يعني : تبني عليه خبرا ، ولم تجعل هذه المصادر أيضا خبرا لابتداء محذوف فترفعها ، وهذا معنى قوله : إنك لم تجعله مبنيا على اسم مضمر يعني : خبرا لاسم مضمر وإنما هو دعاء منك لإنسان كقولك : سقيا ورعيا ، أو دعاء عليه كقولك : تعسا وتبّا وجدعا ، وتركوا الفعل استغناء بعلم المخاطب ، وربما جاءوا به توكيدا فقالوا : سقاك الله سقيا كما أكدوا قولك : مرحبا بقولهم : بك ، ولو قالوا : مرحبا لكان المعنى مفهوما ، وربما رفعوا ذلك والمعنى واحد ، كما يقول : سلام عليكم وإنما تريد معنى سلّم الله عليك ، ولكنه يخرجه فخرج ما قد ثبت.

وقال أبو زبيد يصف أسدا :

أقام وأقوى ذات يوم وخيبة

لأوّل من يلقى وشرّ ميسّر (١)

أراد : أقام الأسد وأقوى : لم يأكل شيئا ، الإقواء : فناء الزاد وعدم الأكل ، وخيبة لأول من يلقاه الأسد الذي قد أقوى وجاع ، وهذا ليس بدعاء ، ولكن أجراه سيبويه مجرى الدعاء عليه ؛ لأنه لم يكن بعد وإنما يتوقع ، كما أنّ المدعوّ به لم يوجد في حال الدعاء.

(ومثله في الرفع بيت سمعناه ممن يوثق بعربيته يرويه لقومه :

عذيرك من مولى إذا نمت لم ينم

يقول الخنا أو تعتريك زنابره (٢)

فرفع عذيرك والأكثر نصبه وقد ذكرناه ، والذي يرفعه يجعله مبتدأ ويضمر خبرا ، كأنه قال : إنما عذرك إياي من مولى هذا أمره).

وزنابره يعني : ذكره إياه بالسوء وغيبته.

__________________

(١) البيت لأبي زبيد الطائي : البيت سبق تخريجه.

(٢) بلا نسبة في هارون ١ : ٣١٣.

٢٠٥

قال : (ومثله قول الشاعر ، وهو حسان :

أهاجيتم حسّان عند ذكائه

فغيّ لأولاد الحماس طويل (١)

 فهذا دعاء من حسان لأنه هجا رهط النجاشي ، ورفع كما يرفع ـ رحمة الله عليه ـ وفيه معنى الدعاء.

هذا باب ما أجري من الأسماء مجرى المصادر

التي يدعى بها

(وذلك قولك : تربا ، وجندلا ، وما أشبه هذا. فإن أدخلت" لك" فقلت : تربا لك ، فإن تفسيرها هاهنا كتفسيرها في الباب الأول).

قال أبو سعيد : اعلم أن هذا الباب يدعى فيه بجواهر لا أفعال منها نحو التراب والترب والجندل ، وهو : الصخر ، وقوله فاها لفيك ، وفاها إنما هو اسم للفم وليس لشيء من ذلك فعل يصير مصدرا له ، ولكنهم أجروه في الدعاء مجرى المصادر التي قبل هذا الباب وقدّروا الفعل الناصب لها ما قاله سيبويه.

قال : (كأنهم قالوا : ألزمك الله ، وأطعمك الله تربا وجندلا ، وما أشبه هذا من الفعل ، واختزل الفعل هاهنا ، يعني : حذف ، لأنهم جعلوه بدلا من قولهم تربت يداك).

فعبّر عنه سيبويه بفعل قد صرف من التراب ، وقد رفعه بعض العرب ، والرفع فيه أقوى من الرفع في المصادر في الباب الذي قبله ، قال الشاعر :

فترب لأفواه الوشاة وجندل (٢)

فترب مبتدأ والخبر لأفواه الوشاة ، وفيه معنى المنصوب في الدعاء كما كان في قولك" سلام عليكم" معنى الدعاء.

قال : (فمثله قول العرب" فاها لفيك". وإنما يريد" فا" الداهية ، فجعل" فاها" منصوبا بمنزلة تربا لفيك ، وإنما يخصّون في مثل هذا الفم لأن أكثر المتآلف فيما يأكله

__________________

(١) البيت لحسان بن ثابت : ورواية الديوان :

هيجتم ...

غيّ لمن ولد الحماس طويل

ديوانه : ١٨٧ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٠٥.

(٢) عجز بيت وصدره (لقد ألب الواشون ألبا لبيتهم) شروح سقط الزند : ق ٣.

٢٠٦

الإنسان أو يشربه من السم وغيره.

قال : وصار" فاها" بدلا من اللفظ بقولك : دهاك الله وإنما جعله بدلا من هذا تقريبا ؛ لأنه فم الداهية في التقدير ، فذكر الفعل المتصرف من الداهية والفعل المقدر في هذا ونحوه ليس بشيء معين لا يتجاوز ، قال أبو سدرة الأسدي :

تحسّب هوّاس وأيقن أنني

بها مفتد من واحد لا أغامره

فقلت لها فاها لفيك فإنّها

قلوص امرئ قاريك ما أنت حاذره (١)

يصف الأسد ، والهوّاس من أسماء الأسد ، وتحسّب : تحسّس ، يقال : فلان يتحسّب الأخبار ، أي : يتحسّس ، ويجوز أن يكون تحسّب في معنى : حسبته فتحسّب ، مثل : كفيته فاكتفى).

قال أبو سعيد : والذي أحفظ في هذا" وأيقن أنني" معناه : أنه عرض لناقة له فحكى عن الأسد أنه توهم أنني أدع الناقة وأفتدي بها من لقاء الأسد ، وواجه هو الأسد و" لا أغامره" : ولا أقاتله ، لا أرد معه غمرات الحرب ، وتكون تحسّب من المحسبة ، وأنني : مفعول المحسبة ، وتكون الرواية : " وأقبل معطوفا على تحسّب" يكون التقدير : تحسب هوّاس أنني مفتد بها من واحد لا أغامره وأقبل ، كما تقول : حسب زيد أنني قائم وأقبل ، ولو قلت : حسب زيد وأقبل بأنني قائم لجاز ، كما تقول : ضربت وضربني زيدا على معنى : ضربت زيدا وضربني ، " فقلت له" : يعني الأسد" فاها لفيك : دعاء عليه بإصابة الداهية له وهو على وجه التهدد ، " فإنها قلوص امرئ" يعني الناقة التي أراد أخذها الأسد ، قال : والدليل على أنه يريد بها الداهية ما أنشده سيبويه :

وداهية من دواهي المنو

ن تحسّبها الناس لا فا لها (٢)

" لا فا لها" في موضع خبر المحسبة ، كما تقول : حسبت زيدا لا غلام له ، وإنما ذكر هذا تعظيما لأمرها ، أي : لا يدري الناس كيف يأتونها ويتوصلون إلى دفعها.

__________________

(١) خزانة الأدب ٢ : ١١٦ ، ١١٨ ، ورواية البيت الثاني في الخزانة : (له) بدلا من (لها) ؛ شرح المفصل ١ : ١٢٢.

(٢) خزانة الأدب ٢ : ١١٧ ؛ تاج العروس (فوه).

٢٠٧

هذا باب ما أجري مجرى المصادر المدعوّ بها من الصفات

(وذلك قولك : هنيئا مريئا ، وليس في الباب غير هذين الحرفين صفة دعائها ، وذلك أنّ هنيئا مريئا صفتان ، لأنك تقول : هذا شيء هنيء مريء كما تقول : هذا جميل صحيح ، وما أشبه ذلك من الصفات على فعيل فدعي بهما للإنسان وليستا بمصدرين ، ولا هما من أسماء الجواهر كالتراب والجندل).

فأفرد لهما بابا آخر ، ويكون التقدير في نصبهما كأنه قال : ثبت لك ذلك هنيئا مريئا ، وذلك لشيء تراه عنده مما يأكله وممّا يستمتع به أو يناله من الخير ، فاختزل الفعل وجعل بدلا من اللفظ بقولهم هنأك ، ويدل على ذلك أنّه قد يظهر" هنأك" في الدّعاء.

قال الأخطل :

إلى إمام تغادينا فواضله

أظفره الله فليهنئ له الظّفر (١)

فدعا له بيهنئ ، والظفر فاعله ، وصار" يهنئ له الظفر" كقوله : هنيئا له الظّفر ، وصار اختزال الفعل وحذفه في هنيئا كحذفه في قولهم : الحذر ، والتقدير : احذر الحذر ، فإذا قلت : هنيئا له الظّفر ، فالتقدير : ثبت هنيئا له الظفر ، فيكون الظفر مرفوعا بالفعل المقدّر ، ومثله :

هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم

وللعزب المسكين ما يتلمّس (٢)

كأنّه قال : ثبت هنيئا ، إذا ظهر الفعل ارتفع به الاسم ، كقولك هنأه الظّفر وليهنئ له الظّفر وما أشبه ذلك.

هذا باب ما أجري من المصادر المضافة مجرى

المصادر المفردة المدعوّ بها

(وإنّما أضيف ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللام إذا قلت : سقيا لك ؛ لتبيّن من تعني ، وذلك قولك : ويحك ، وويلك ، وويسك ، وويبك ، ولا يجوز سقيك).

ذكر سيبويه هذه الأشياء على نحو استعمال العرب لها ، ولم يجز سقيك لأنّ العرب لم تدع به ، وإنّما وجب لزوم استعمال العرب إيّاها لأنّها أشياء قد حذف منها

__________________

(١) ديوان الأخطل ١٦٧ : شرح أبيات سيبويه ١ : ١٧٢ ؛ شرح المفصل ١ : ١٢٣.

(٢) بلا نسبة في : شرح أبيات سيبويه ١ : ١٣٣.

٢٠٨

الفعل وجعلت بدلا من اللفظ بالفعل على مذهب أرادوه من الدّعاء ، فلا يجوز تجاوزه ؛ لأنّ الإضمار والحذف اللازم وإقامة المصادر مقام الأفعال حتّى لا تظهر الأفعال معها ليس بقياس مستمرّ فيتجاوز فيه الموضع الّذي لزموه.

قال : (ومثله عددتك ، وكلتك ، ووزنتك ، ولا تقول : وهبتك ، لأنّهم لم يعدّوه ، ولكن وهبت لك).

وكان المبرد يقول : إنّما قالوا : عددتك ، ووزنتك ، وكلتك في معنى : عددت لك ، وكلت لك ، ووزنت لك ، لأنّه لا يشكل ، ولم يقولوا : وهبتك في معنى : وهبت لك ، لأنّه يجوز أن يهبه ، فإذا زال الإشكال زال ، وهو أن يقول : وهبتك الغلام ، أي : وهبت لك ، وإنّما ذكر سيبويه كلام العرب أنّهم يحذفون حرف الخفض في عددتك ووزنتك وكلتك وإن لم يذكر المعدود والمكيل والموزون ، كما قال عزوجل (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(١).

ولا يجوز مثل ذلك في وهبتك ، لأنّ ما كان أصله متعدّيا بحرف لم يجز حذفه ، وإن لم يكن ليس إلا فيما حذفته العرب ، ألا ترى أنه لا يجوز مررتك ولا رغبتك على معنى : رغبت فيك ، وحكى أبو عمرو الشّيباني (٢) عن بعض العرب : انطلق معي أهبك نبلا ، يريد أهب لك نبلا وهذا يؤيد قول أبي العبّاس.

قال سيبويه : (وهذا حرف لا يتكلّم به مفردا إلا أن يكون معطوفا على ويلك ، وهو قولك : ويلك وعولك).

وهذا كالإتباع الذي لا يؤتى به إلا بعد شيء يتقدمه ، نحو : أجمعين وأكتعين ، فإن قال قائل : عولك لا يجري مجرى الإتباع لأمرين :

أحدهما : أن فيه الواو ، والإتباع المعروف لا يكون بعد واو.

والآخر : أن عولك معنى معروف ، لأنّه من عال يعول ، كما تقول جاز يجوز ، والعول هو : البكاء ، والحزن معروف.

__________________

(١) سورة المطففين ، الآية : ٣.

(٢) إسحاق بن مراد أبو عمرو الشيباني الكوفي يعرف بأبي عمرو والأحمر وليس من شيبان بل أدب أولادا منهم فنسب إليهم كان راوية أهل بغداد واسع العلم باللغة والشعر له النوادر ـ النوادر الكبير أشعار القبائل. الفهرست : ٦٨ ، معجم الأدباء ٦ : ٧٧ ، تهذيب اللغة ١ : ٦.

٢٠٩

قيل له : إنّما أراد سيبويه أنّه لا يستعمل في الدّعاء وإن كان معقول المعنى إلا عطفا ولم يرد باب الإتباع الّذي هو بمنزلة أجمعين وأكتعين.

قال أبو سعيد : وقد اعترض في مواضع من كلام سيبويه في هذا الباب منها : أنّه قال : وإنّما أضيفت يعني أضيفت ويلك ، وويسك ، وويبك ، ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللّام إذا قلت : سقيا لك ومن قوله إنّ لك منصوبة بأعني ، وإنّما جاز بعد سقيا لتبين الدّعاء لمن هو ، وإذا أضاف كان من كلام واحد.

وقد يردّ عليه فيقال : اللام بمعنى أعني وليست الإضافة كذلك فلم جعله بمنزلته؟ فيقال : ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللام ولم يرد سيبويه أنه مثله في العامل وإنما أراد أنه مثله في بيان من عني به.

وقد ردّ على سيبويه بعض الكوفيين فرقه بين الإضافة واللام.

وزعم الكوفي أن الإضافة واللام جميعا من كلام واحد كقولك : غلام زيد ، وغلام لزيد.

والوجه ما قاله سيبويه ، لأنا إذا رددناه إلى الذي هو" سقاك الله سقيا" لم يقل فيه لك ، ومذهب البصريين وسيبويه أنّ ويلك وويسك اتّصل بهن كلّهنّ كاف المخاطب ، وأصل الكلمات ويح وويل وويس.

وقال الفرّاء : أصلها كلها وي ، فأما ويلك فهي : وي زيدت عليها لام الجرّ ، فإذا كان بعدها مكنيّ كانت اللام مفتوحة ، كقولك : ويلك ، وويله ، وإن كان بعدها ظاهر جاز فتح اللام وكسرها ، وذكر أنّه ينشد :

يا زبرقان أخا بني خلف

ما أنت ويل أبيك والفخر (١)

بكسر اللّام وفتحها ، فالّذين كسروا اللّام تركوها على أصلها ، والّذين فتحوا اللّام جعلوها مخلوطة بوي كما قالت العرب : يا آل تيم ثمّ أفردت هذه اللّام فخلطت بيا كأنّها منها ، قال الفرّاء : أنشدت :

فخير نحن عند النّاس منهم

إذا الدّاعي المثوّب قال يالا (٢)

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) البيت لزهير بن مسعود الضبي : الخصائص ١ : ٢٧٧ ؛ خزانة الأدب ٢ : ٦.

٢١٠

ثم كثر الكلام فأدخلوا لها لاما أخرى ، يعني ويل لك ، وويح لك ، وذكر أن ويسا ، وويحا هما كنايتان عن الويل والويح ، لأنّ الويل كلمة شتم معروفة مصرّحة ، وقد استعملتها العرب حتّى صارت تعجّبا ، يقولها أحدهم لمن يحبّ ولمن يبغض ، وكنّوا بالويس عنها ، ولذلك قال بعض العلماء : الويس : رحمة ، كما كنّوا عن غيرها فقالوا : قاتله الله ، ثم استعظموا ذلك فقالوا : قاتعه الله ، وكاتعه الله ، كما قالوا : جوعا ثم كنوا عنها فقالوا : جوسا له ، وجودا وترابا له ومعناه : الجوع.

قال أبو سعيد : لو كان القول على ما قال الفرّاء لما قيل : ويل لزيد فتضمّ اللام وتنوّن وتدخل لاما أخرى.

فإن قال قائل : لمّا كثر الكلام توهّموا أنّها من الأصل.

قيل له : قد أقررت أنّ الذي أدخل اللّام الثانية أدخلها على أنّ اللام من الأصل توهّما وغلطا ، وبعيد أن نتوهّم كلّ هذا الغلط ونستعمله ، وإنّما الغلط يجوز على بعض ويجيء شاذا.

وأيضا لو كان الأمر على إدخال لام أخرى لكان ينبغي أن تترك هذه على كسرتها أو فتحتها فيقال : ويللزيد أو يللزيد وويللك وهذا بيّن واضح.

هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في

غير الدّعاء

(من ذلك قولك حمدا وشكرا لا كفرا وعجبا ، وأفعل ذاك وكرامة ومسرّة ونعمة عين ، وحبّا ونعام عين ، ونعمى عين ، ولا أفعل ذاك ولا كيدا ولا همّا ، ولأفعلنّ ذاك رغما وهوانا).

وهذا الباب الفعل المضمر فيه العامل في هذه المصادر إخبار يخبر المتكلم فيه عن نفسه وليس بدعاء على أحد ، ولكنّه قد ضارع الدعاء ؛ لأن المضمر فعل مستقبل فأشبه الدّعاء لاستقباله ، كأنّه قال : أحمد الله حمدا ، وأشكر الله شكرا ، وأعجب عجبا ، وأكرمك كرامة ، وأسرّك مسرّة ، وإذا قال : ولا كيدا ولا هما ، فمعناه : ولا أكاد كيدا ، ولا أهمّ هما به تبعيدا لما نفى أن يفعل.

وقوله : لأفعلنّ ذلك رغما وهوانا أي : أرغمك بفعله رغما ، وأهينك هوانا به ، والرّغم : لصوق الأنف بالتّراب ، وإنما يراد به الذّلّ ، وحذف الفعل المقدّر في هذا كحذفه

٢١١

في الدّعاء.

قال : (وقد جاء بعض هذا رفعا يبتدأ ثمّ يبنى عليه.

وزعم يونس أنّ رؤبة بن العجّاج كان ينشد هذا البيت رفعا ، وهو لبعض مذحج :

عجب لتلك قضيّة وإقامتي

فيكم على تلك القضيّة أعجب (١)

إذا رفع عجب كأنّه قال : أمري عجب ، وإنما هذا البيت يتلو قضيّة غير مرضيّة يتعجّب فيها ، والذي قبله :

أمن السّوية أن إذا أخصبتم

وأمنتم فأنا البعيد الأجنب

وإذا تكون شديدة أدعى لها

وإذا يحاس الحيس أدعى جندب

هذا لعمركم الصغار بعينه

لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب (٢)

ثم قال : " عجبا لتلك قضيّة" ... البيت.

قال : (وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقال له : كيف أصبحت؟ فيقول : حمدا لله وثناء عليه ، كأنه قال : أمري وشأني ، ولو نصب فقال : حمدا لله وثناء عليه كان على الفعل ، ومن المرفوع قوله :

فقالت حنان ما أتى بك ههنا

أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف (٣)

كأنها قالت : أمرنا حنان ولم ترد تحنن ، ولو أرادته لقالت : حنانا كما قال الشاعر :

تحنّن عليّ هداك المليك

فإنّ لكلّ مقام مقالا (٤)

 (ومثل الرفع قول الله عزوجل : (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ)(٥).

لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليموا عليه ، ولكنهم قيل لهم : لم

__________________

(١) شرح المفصل ١ : ١١٤ ، وفيه منسوب ل (رؤبة بن العجاج) ؛ قطر الندى ٣٢١.

(٢) الأبيات لابن أحمر الكناني ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٢ : ١١٠ ؛ كتاب اللامات : ١٠٦ ؛ اللسان (حيس).

(٣) ينسب لمنذر بن درهم الكلبي : الخزانة ٢ : ١١٢ ؛ شرح المفصل ١ : ١١٨ ؛ الصاحبي ٢٥٠.

(٤) البيت للحطيئة : ديوانه : ٧٢ ؛ تلخيص الشواهد ٢٠٦ ؛ همع الهوامع ١ : ١٨٩ ، الدرر ٣ : ٦٤.

(٥) سورة الأعراف ، الآية : ١٦٤.

٢١٢

تعظون؟

فقالوا : معذرتنا إياهم معذرة إلى ربّكم.

ولو قال رجل لرجل : معذرة إلى الله وإليكم من كذا وكذا ، يريد اعتذارا ، لنصب ومثله قول الشّاعر :

يشكو إليّ جملي طول السّرى

صبر جميل فكلانا مبتلى (١)

والنصب أجود وأكثر لأنه يأمره بالصّبر.

ومثل الرّفع قول الله عزوجل (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٢).

فنصب صبر في البيت أجود ؛ لأن الجمل كان شاكيا لطول السّرى فأمره صاحبه بالصّبر ، والذي في الآية إخبار يعقوب عليه‌السلام بصبر حاصل فيه ، أو تخبرنا بأنه سيكون فيه عند فقدان يوسف عليه‌السلام لأنه قال (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٣). أي فأمري صبر جميل ، والمضمر الذي يكون بعده مرفوع كالمضمر الذي بعده منصوب في ترك إظهاره لأنّ المعنيين متقاربان.

هذا باب ـ أيضا ـ من المصادر ينتصب على إضمار الفعل

المتروك إظهاره

(ولكنها مصادر وضعت موضعا واحدا لا يتصرف في كلام تصرّف ما ذكرنا من المصادر ، وتصرّفها أنها تقع في موضع الجر والرفع وتدخلها الألف واللام.

وذلك قولك : سبحان الله ، ومعاذ الله وريحانه ، وعمرك الله إلّا فعلت ، وقعدك الله إلّا فعلت ، كأنّه حيث قال : سبحان الله قال تسبيحا ، وحيث قال : وريحانه قال واسترزاقا ، لأنّ معنى الرّيحان : الرزق ، فنصب هذا على معنى أسّبح الله تسبيحا ، وأسترزق الله استرزاقا ، فهذا بمنزلة سبحان الله وريحانه.

وخزل الفعل هنا لأنّه بدل من اللّفظ بقوله أسبّحك وأسترزقك ، وكأنه حيث

__________________

(١) رجز منسوب ل (ملبد بن حرملة) : تهذيب إصلاح المنطق ٣٦١ ، ٥٣٩ ؛ تاج العروس (شكى).

(٢) سورة يوسف ، الآية : ١٨.

(٣) سورة يوسف ، الآية : ١٨.

٢١٣

قال معاذ الله قال عياذا بالله فانتصب على أعوذ بالله عياذا ، ولكنّهم لم يظهروا الفعل ههنا كما لم يظهروا في الذي قبله.

وكأنه حين قال : عمرك الله وقعدك الله قال : عمّرتك الله ، بمنزلة نشدتك الله ، فصار عمرك منصوبة بعمّرتك كأنك قلت : عمّرتك عمرا ونشدتك نشدا ، ولكنهم خزلوا الفعل لأنهم جعلوه بدلا من اللّفظ به ، قال الشاعر :

عمّرتك الله إلّا ما ذكرت لنا

هل كنت جارتنا أيّام ذي سلم (١)

وقعدك يجري هذا المجرى وإن لم يكن له فعل ، كأن قولك عمرك الله ، وقعدك الله بمنزلة نشدك الله ولكن زعم الخليل أن هذا تمثيل يمثّل به ، قال الشاعر :

عمّرتك الله الجليل فإنّني

ألوي عليك لو أنّ لبّك يهتدي (٢)

والمصدر النّشدان والنّشدة).

قال أبو سعيد : أمّا سبحان فهو مصدر فعل لا يستعمل كأنه قال : سبّح سبحانا ، كما تقول : كفر كفرانا ، وشكر شكرانا ، ومعناه معنى التبرئة والبراءة ، ولم يتمكن في مواضع المصادر ؛ لأنه لا يأتي إلا مصدرا منصوبا مضافا وغير مضاف ، وإذا لم يضف ترك صرفه ، فقيل : سبحان من زيد ، أي : براءة من زيد ، كما قال :

أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر (٣)

وإنّما منع الصّرف لأنه معرفة وفي آخره ألف ونون زائدتان مثل : عثمان ونحوه.

فأما قولهم : سبّح يسبّح فهو فعل ورد على سبحان بعد أن ذكر وعرف ، ومعنى سبّح زيد ، أي : قال : سبحان الله ، كما تقول : بسمل إذا قال : بسم الله ، وقد يجيء في الشعر سبحان منونا كقول أمية :

سبحانه ثم سبحانا نعوذ به

وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد (٤)

__________________

(١) البيت للأحوص : ديوانه : ١٩٩ ؛ خزانة الأدب ٢ : ١٣ ، ١٤.

(٢) المقتضب ٢ : ٣٢٩ ؛ خزانة الأدب ٢ : ١٥ ، ٣ : ١٣٢.

(٣) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس : ديوانه : ١٤٣ ؛ أساس البلاغة ١ : ٤١٨ ؛ الخصائص ٢ : ٤٣٧ ؛ خزانة الأدب ١ : ١٨٥ ، ٧ : ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، ٢٣٨.

(٤) البيت لأمية بن أبي الصلت : ديوانه : ٣٠ ، خزانة الأدب ٣ : ٣٨٨ ، ٧ : ٢٣٤ ، ٢٣٦ ، ٢٣٨ ، ٢٤٣.

٢١٤

وفيه وجهان : يجوز أن يكون نكرة فيصرفه ، ويجوز أن يكون صرفه للضرورة.

وروى الرّياشيّ : " ثم سبحانا يعود له" بالدال غير معجمة ، أي : يعاود مرّة بعد مرّة.

وأمّا معاذ الله فإنه يستعمل منصوبا كما ذكر سيبويه مضافا ، والعياذ الذي هو في معناه يستعمل منصوبا ومرفوعا ومجرورا بالألف واللام ، فيقال : العياذ بالله وألجأ إلى العياذ بالله.

وأما ريحانه : ففيه معنى الاسترزاق ، فإذا دعوت به كان مضافا ، وقد أدخله سيبويه في جملة ما لا يتمكن من المصادر ، ولا ينصرف ، ولا يدخله الرّفع والجر والألف واللام ، وقد ذكر في معنى قوله تعالى : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ)(١) ، أنه الرزق وهو مخفوض بالألف واللام ، قال النّمر بن تولب :

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء درر (٢)

فرفع ، ولعل سيبويه أراد إذا ذكر ريحانه مع سبحانه كان غير متمكّن كسبحان.

وأما عمرك الله فهو مصدر ونصبه على تقدير فعل ، وقد يقدر ذلك الفعل على غير وجه.

منهم من يقدر أسألك بعمرك الله وبتعميرك الله ، أي : وصفك الله بالبقاء ، وهو مأخوذ من العمر ، والعمر في معنى البقاء ، العرب تقول : لعمرك الله فيحلف ببقاء الله ، وقال :

إذا رضيت عليّ بنو قشير

لعمر الله أعجبني رضاها (٣)

ومنهم من يقدر أنشدك بعمر الله فيجعل المضمر أنشدك ، وهم يستعملون أنشدك في هذا المعنى ، فيقولون : أنشدك بالله ، وإذا حذف الباء وصل الفعل ، ويصرفون منه الفعل فيقولون عمّرتك الله على معنى ذكّرتك الله وسألتك به ، قال الشاعر :

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ١٢.

(٢) ينسب إلى النمر بن تولب : شواهد تفسير الطبري ١ : ٥٢٣ ، ٢ : ١٩٤ ؛ اللسان وتاج العروس (روح).

(٣) ينسب ل : القحيف العقيلي : خزانة الأدب ١٠ : ١٣٢ ؛ الخصائص ٢ : ٣١٣ ، ٣٩١ ؛ أدب الكاتب : ٥٠٧ ؛ الإنصاف ٢ : ٦٣٠.

٢١٥

عمّرتك الله إلا ما ذكرت لنا

هل كنت جارتنا أيّام ذي سلم (١)

وقال آخر :

عمّرتك الله الجليل فإنّني

ألوي عليك لو أنّ لبّك يهتدي (٢)

وأمّا نصب اسم الله تعالى فلأنه منصوب مفعول المصدر. فكأنّه قال : أسألك بتذكيرك الله أو بوصفك الله تعالى بالبقاء.

وأجاز الأخفش (٣) رفعه على أن الفاعل للتذكير هو الله تعالى ، كأنه قال : أسألك بما ذكّرك الله تعالى به ، وقعدك بمعنى : عمرك ، وفيه لغتان :

قعدك الله ، وقعيدك الله ، قال الشاعر :

فقعدك ألّا تسمعيني ملامة

ولا تنكئي قرح الفؤاد فتيجعا (٤)

وتقديره : أسألك بقعدك وبقعيدك الله ، ومعناه بوصف الله تعالى بالثبات والدوام ، مأخوذ من القواعد التي هي الأصول لما يثبت ويبقى ، ولم يتصرف منه فعل فيقال : قعّدتك الله كما قيل : عمّرتك الله ، لأن العمر معروف في كلام العرب ، وهي كثيرة الاستعمال له في اليمين ، فلذلك تصرّف وكثرت مواضعه.

وأما جواب عمرك الله ، وقعدك الله ، ونشدتك الله ؛ فإنها تكون بخمسة أشياء : بالاستفهام ، والأمر ، والنهي ، وأن ، وإلّا ، ولمّا.

والأصل في ذلك : نشدتك الله ومعناه : سألتك به ، وطلبت منك به ؛ لأنه يقال : نشد الرجل الضالة إذا طلبها ، كما قال :

" أنشد والباغي يحبّ الوجدان"

أي : أطلب الضّالة والطّالب يحبّ الإصابة ، وجعل عمرك الله وقعدك الله في معنى الطلب والسؤال كنشدتك الله ، فكان جوابها كلّها ما ذكرت لك ، لأن الأمر والنهي

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) سعيد بن مسعدة المجاشعي المعروف بالأخفش الأوسط سكن البصرة قرأ النحو على سيبويه وكان معتزليا توفي ٢١٥ ه‍ ، الفهرست : ٥٢ ، معجم الأدباء ١١ ، ٣٣٤.

(٤) خزانة الأدب ٢ : ٢٠ ، ١٠ : ٥٤ ، ٥٦ ؛ تاج العروس (قعد) ؛ جمهرة أشعار العرب ١٤٢ ، وجميعهم يرويه ب (قعيدك).

٢١٦

والاستفهام كلّها بمعنى السؤال والاستدعاء ، وكذلك" أن" لأنه في صلة الطلب بقولك : نشدتك الله أن تقوم ، وكذلك نشدتك الله لا تقم ، قال الشاعر في الأمر :

عمرك الله ساعة حدّثينا

ودعينا من ذكر ما يؤذينا (١)

وقال الآخر في الاستفهام :

عمرك الله أما تعرفني

أنا حرّاث المنايا في الفزع (٢)

لأنّه في معنى الطلب والمسألة ، وعمّرتك الله إلّا فعلت كذا وكذا ، كما تقول : بالله إلّا فعلت كذا وكذا.

ومثل ما ينصب ذلك قولك للرجل : سلاما أي : سلاما منك.

وعلى هذا قوله عزوجل : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(٣). معناه : براءة منكم ، لأنّ هذه الآية في سورة الفرقان ، وهي مكية ، والسّلام في سورة النّساء وهي مدنيّة ولم يؤمر المسلمون بمكّة أن يسلموا على المشركين ، وإنما هذا على معنى : براءة منكم وتسلّما ، لا خير بيننا وبينكم ولا شرّ ، ومنه قول أمّية :

سلامك ربّنا في كلّ فجر

بريئا ما تغنّثك الذّموم (٤)

أي : تنزيها من السّوء ، ومعنى ما تغنّثك أي : تلزّق بك صفة الذم.

وكان أبو ربيعة يقول : إذا لقيت فلانا فقل سلاما ، ومعناه : براءة منك.

قال : (فكل هذا ينتصب انتصاب حمدا وشكرا ، إلا أن هذا يتصرّف وذاك لا يتصرّف).

قال : (ونظير سبحان الله من المصادر في البناء والمجرى لا في المعنى" غفران" لأن بعض العرب يقول : غفرانك لا كفرانك ، يريد : استغفارا لا كفرا).

وجعل فيما لا يتمكن لأنه لا يستعمل على هذا إلّا منصوبا مضافا ، وكذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً)(٥). أي : حرما محرّما ، ومعناه : وتقول الملائكة :

__________________

(١) البيت لعمرو بن أحمد الباهلي ، المحتسب ١ : ١٠٠.

(٢) همع الهوامع ٢ : ٤٥ ؛ الدرر ٤ : ٢٥٢.

(٣) سورة الفرقان ، الآية : ٦٣.

(٤) البيت لأمية بن أبي الصلت : ديوانه : ٥٤ ، تاج العروس (غنث).

(٥) سورة الفرقان ، الآية : ٢٢.

٢١٧

حجرا محجورا ، أي : حراما عليهم الغفران والجنّة ونحوه من التقدير على معنى : حرّم الله ذلك تحريما ، أو جعل الله ذلك محرّما عليهم.

(ويقول الرجل للرّجل : أتفعل كذا وكذا ، فيقول : حجرا وبراءة).

وكل ذلك يؤول إلى معنى المنع ؛ لأن الحجر مأخوذ من البناء الذي يحجّر به ليمنع من وصول ما يصل إلى ما وراءه.

(ومن العرب من يرفع" سلام" إذا أراد معنى المبارأة كما رفعوا" حنان" ، سمعنا بعض العرب يقول لرجل : لا تكونن منّي في شيء إلا سلام بسلام ، أي : أمري وأمرك المبارأة المتاركة ، وتركوا لفظ ما يرفع كما تركوا فيه لفظ ما ينصب).

وقد مضى نحوه.

قال : (وأما سبّوحا قدّوسا ربّ الملائكة والرّوح فعلى شيء يخطر على باله أو يذكره ذاكر فقال : سبّوحا أي ذكرت سبّوحا ، كما تقول : أهل ذلك ، إذا سمعت رجلا يذكر رجلا بثناء أو ذمّ كأنك قلت : ذكرت أهل ذاك ، واذكر أهل ذاك ونحوه مما يليق به ، وخذلوا الفعل النّاصب لسبحان لأن المصدر صار بدلا منه).

(ومن العرب من يرفع فيقول : سبّوح قدّوس على إضمار" هو" سبوح) ونحوه مما مضى.

قال : (وممّا ينتصب فيه المصدر على إضمار الفعل المتروك إظهاره ولكنه في معنى التعجّب قولك : كرما ، وصلفا ، كأنه يقول : أكرمك الله كرما ، وأدام الله لك كرما ، وألزمك صلفا ، وفيه معنى التعجّب فيصير بدلا من قولك : أكرم به وأصلف ، وقال أبو مرهب : " كرما وطول أنف" أي أكرم بك وأطول بأنفك).

لأنّه أراد به التعجّب ، وأضمرت الفعل النّاصب كما انتصب مرحبا بما ذكر قبل.

هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدآت

مبنيّا عليها ما بعدها

وما أشبه المصادر من الأسماء والصفات

(وذلك قولك : الحمد لله والعجب لك ، والويل لك ، والتّراب لك ، والخيبة له ، وإنّما استحبّوا الرّفع فيه لأنّه صار معرفة فقوي في الابتداء بمنزلة عبد الله والرجل

٢١٨

والذي تعلم ، لأنّ الابتداء إنّما هو خبر).

قال أبو سعيد : يعني هذه المصادر التي ذكرها اختارت العرب فيها الرّفع ؛ لأنّهم جعلوها كالشيء اللّازم الواجب فأخبروا عنها ، وجعلوها مبتدأة وجعلوا ما بعدها خبرها وصار بمنزلة قولك : الغلام لزيد ، ثم وصل ذلك من جهة الابتداء فقال : وإذا اجتمع معرفة ونكرة فأحسنه أن يبتدأ بالأعرف وهو وجه الكلام ، ومعنى يبتدأ بالأعرف أن تجعله هو المبتدأ المخبر عنه وإن أخّر في اللفظ ، وكذلك لو وقع بعد كان وإنّ فالوجه : أن تجعل الأعرف هو الاسم كقولك : كان زيد منطلقا ، وكان منطلقا زيد ، ولم يحسن أن تقول : كان منطلق زيدا ؛ لأنّك إنما تخبر عمّن يعرفه المخاطب بما لا يعرفه من شأنه حتّى يعرفه فيساويك فيه وفي خبره.

وفائدة الإفادة من المتكلم للمخاطب في الخبر ، ولو جعل الاسم نكرة والخبر معرفة والاسم لا يستفيده المخاطب لم يصر المخاطب بمنزلة المتكلم في معرفة ما أفاده إياه.

قال : (ولو قلت : رجل ذاهب ، لم يحسن ، لأنه لا فائدة فيه ، فإن قرنته بشيء يقرّبه من المعرفة وتقع به فائدة جاز ؛ فتقول : راكب من بني فلان سائر ، وتبيع الدّار فتقول : حدّ منها كذا وحدّ منها كذا ، فأصل الابتداء للمعرفة فإذا أدخل فيه الألف واللام حسن الابتداء).

يعني أنّ الذي حسّن الابتداء في : " الحمد لله ، والعجب والويل لزيد" دخول الألف واللام فيه ، وإذا نكّر ضعف الابتداء بالنكرة إلا أن يكون في المنكور المبتدأ به معنى المنصوب كنحو ما ذكرنا ، وقولهم : سلام عليكم ، وويل لزيد ، وخيبة لزيد ؛ لأن هذه أشياء يدعى بها ويجوز فيها النّصب ، فإذا رفع وذهب به مذهب الدعاء جرى مجرى المنصوب في حسنه وإن كان الابتداء بنكرة ، وقد مضى نحو هذا.

قال سيبويه : (وليس كلّ حرف يصنع به كذلك ، كما أنه ليس كلّ حرف تدخل فيه الألف واللّام من هذا الباب ، لو قلت : السقي لك والرعي لك لم يجز).

قال أبو سعيد : اعتماد سيبويه في هذا ونحوه على استعمال العرب فيما استعملته على وجه لم يجاوزه ولم يجز غيره قياسا ، وما استعملته على وجهين أو أكثر جاز من ذلك ما استعملوه ، ولم تستعمل العرب السقي لك ، والرعي لك ، فلم يجزه ، وأجازه الجرميّ والمبرّد ، وقد ذكرنا الاحتجاج لذلك فيما مضي.

٢١٩

(والحمد وإن ابتدأته فمعناه معنى المنصوب).

وهو إخبار فإذا نصب فمعناه أحمد الله حمدا يخبر عن نفسه بما يفعله من ذلك ، وإذا رفع فكأنه قال : أمري وشأني ومقصودي فيما أفعله الحمد لله.

ثم ذكر سيبويه أشياء قد ابتدأت العرب بالنكرة فيها وجّه لها وجها ، وذلك قولك : شيء ما جاء بك ، " وشرّ أهرّ ذا ناب" ، فذكر أنه حسن ذلك لأن معناه : ما جاء بك إلّا شيء ، وما أهرّ ذا ناب إلّا شرّ ، فالابتداء في هذا محمول على معنى الفاعل وجرى مثلا فاحتمل.

ومعنى شرّ أهرّ ذا ناب معناه : كأنهم سمعوا هرير كلب في وقت لا يهرّ في مثله إلا بسوء ، ولم يكن غرضهم الإخبار عن شرّ ، وإنما يريدون أن الكلب أهره شرّ ، وكذلك قولهم : شيء ما جاء بك ، يقوله الرجل لرجل جاءه ومجيئه غير معهود في ذلك الوقت ، ما جاء بك إلا شيء حادث لا يعهد مثله.

ومما يجري مجرى هذا ولم يذكره سيبويه : " شرّ ما جاءك إلى مخة عرقوب" ، وشرّ ما أشاءك إلى مخة عرقوب ، أي : ألجأك إلى أكل مخة عرقوب ، وهو لا خير فيه ، شرّ يعني : جوعا وضرورة شديدة.

ثم قال : (وقد ابتدئ المنكور في الكلام على غير الوجه الذي ذكروا على غير ما فيه معنى المنصوب وهو قولهم : " أمت في حجر لا فيك").

ومعناه : اعوجاج في حجر لا فيك فحمله سيبويه على أنّه إخبار محض وأن ذلك جاز لأنه مثله.

وقال المبّرد : أرادوا به معنى الدعاء فهو في مذهب المنصوب كأنهم قالوا : جعل الله في حجر أمتا لا فيك.

ومما جاء من نحو هذا ولم يذكره سيبويه قول العرب : " عبد صريخه أمة" ، و" ذليل عاذ بقرملة" ، ويقال هذا إذا استعان الرجل بضعيف لا نصرة له ، ومعنى : صريخه : مغيثه ، والقرملة : شجرة على ساق لا تكنّ ولا تظلّ ، ولو تأوّل متأوّل هذا أن ذلك إنما جاز لأن في تعجّبا ، وقد يجوز أن يقال : عجب لذلك ، وقد مضى ذكر جوازه ، وعبد صريخه أمة وذليل استعان بقرملة من العجب يحسن ذلك حملا على العجب.

وقد رأيت بعض النحويين يذكر أنّ كلّ نكرة مبتدإ بها من هذا النحو ، ففيه معنى

٢٢٠