شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وقال الكسائي : معناه انتهوا يكن الانتهاء خيرا لكم ، فأنكره الفراء وقال قولا قريبا فيه وفي أمثاله ، فقال في قوله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.) أنّ خيرا متصلا بالأمر ، واستدل على ذلك أنّا نقول : اتق الله هو خير لك ، تريد : الاتقاء خير لك ، فإذا حذفنا" هو" الذي يرتفع به خير وصل الفعل إليه فنصبه.

ويكشف قول الفراء أنا نقدر" خير" تقدير مصدر فعل الأمر الذي هو في الكلام ، كأنه قال : انتهوا انتهاء خيرا لكم ، وآمنوا إيمانا خيرا لكم ، واتق الله اتقاء خيرا لك.

قال : ولا يجوز أن تقول : " اتق الله محسنا" ونحن نريد أن : " اتق الله تكن محسنا" ، ولا تقول : " انصرنا أخانا" ، ونحن نريد : تكن أخانا ، وهذا رد صحيح ، وذكر أن هذا الحرف لم يأت إلا فيما كان على باب أفعل ، نحو : خير لك.

وأفعل وما أشبهه ، وقول الخليل أقوى لأنه قد جاء هذا فيما ليس بمصدر ، وهو قولهم :

وراءك أوسع لك ، وأوسع مكان.

وأنشد سيبويه في نحو ذلك قول عمر بن أبي ربيعة :

فواعديه سرحتي مالك

أو الرّبا بينهما أسهلا (١)

قدّر أنه : أراد : ائت أسهل ، لأنه لما قال : واعديه ، دلّ على أنها تقول : ائت مكان كذا وكذا.

وأسهل على وجهين :

أحدهما : مكانا سهلا ليس فيه رمل ليس بخشن ، ونحو ذلك.

والآخر : أن يكون أسهل مكانا يعنيه بين سرحتي مالك والربا.

قال سيبويه : (فإنما ذكرت لك ذلك لأمثّل الأول به ، لأنه قد كثر في كلامهم حتى صار بمنزلة المثل ، فحذف كحذفهم : " ما رأيت كاليوم رجلا").

__________________

(١) بيت لعمر بن أبي ربيعة : ديوانه : ٤٧٤ ، وروايته :

وواعديه ...

أو الربى دونهما منزلا

وفي رواية الأغاني :

سلمي عديه ...

 ... دونهما منزلا

خزانة الأدب ١ : ٢٨٠ ، ٢ : ١٢٠.

١٨١

قال أبو سعيد : يريد : أي ذكرت هذا المحذوف منه الفعل المذكور خيرا وهو من قولك :

" هذا ولا زعماتك" ، إلى الموضع الذي انتهينا إليه ليمثل باب إياك وما اتصل به ، وقولهم : ما رأيت كاليوم رجلا ، تقديره : ما رأيت كرجل أراه اليوم رجلا.

قال : ومثل ذلك قول القطامي :

فكرّت تبتغيه فصادفته

على دمه ومصرعه السّباعا (١)

ومثله أيضا :

لن تراها ولو تأمّلت إلّا

ولها في مفارق الرّأس طيبا (٢)

وإنما نصب هذا لأنه حين قال :

فصادفته ، وقال : لن تراها فقد علم أنّ السباع والطّيب قد دخلا في الرؤية والمصادفة ، وأنهما قد اشتملا على ما بعدهما في المعنى ، ومثل ذلك قول عمرو بن قميئة :

تذكّرت أرضا بها أهلها

أخوالها فيها وأعمامها

لمّا رأت ساتيدما استعبرت

لله درّ ـ اليوم ـ من لامها (٣)

وقال : إن الأخوال والأعمام قد دخلوا في التذكر ، قال : ومثل ذلك فيما زعم الخليل :

إذا تغنّى الحمام الورق هيّجني

ولو تغرّبت عنها أمّ عمّار (٤)

قال الخليل : لما قال : هيجني ، عرف أنه قد كان تذكر لتذكره الحمام وتهيجه إياه ،

__________________

(١) البيت للقطامي :

ديوانه ٨١ ، وروايته :

فكرت بعد فيقتها إليه

فألقت عند مربضه السباعا

الخصائص ٢ : ٤٢٨ (بلا نسبة).

(٢) البيت ينسب لعبيد الله بن قيس الرقيات ملحق ديوانه ١٧٦ ؛ الخصائص ٢ : ٤٣١ ؛ شرح المفصل ١ : ١٢٥ ؛ مغني اللبيب ١ : ٣٦٤ ؛ المقتضب ٣ : ٢٨٤.

(٣) البيتان لعمرو بن قميئة : خزانة الأدب ٢ : ١٤٧ ، ٤ : ٤٠٦ ؛ الخصائص ٢ : ٤٢٩ (بلا نسبة) ؛ معجم البلدان ٣ : ٦ (ترجمة : ساتيدما).

(٤) البيت للنابغة الذبياني :

ديوانه : ٢٠٣ ؛ جمهرة أشعار العرب ١٨٩.

١٨٢

فألقى ذلك الذي عرف منه على أم عمار ، كأنه قال : هيجني فذكرني أم عمار).

قال أبو سعيد رحمه‌الله :

وقد ردّ بعض هذه الأبيات أبو العباس المبرد ، وذكر في قوله : في مفارق الرأس طيبا ، وإضمار رأيت إنما هو محمول على تراها.

قال : فلما لم يتم الكلام لم يحمل على معناه ، وكذلك قوله :

فكرّت تبتغيه فصادفته

لم يتم ما قصده لأنه أراد : فصادفته على حال ما.

فتمام الكلام المقصود ذكر الحال ، فلم يجز أن يحمل النصب على إضمار معنى اللفظ الأول.

وقد ردّ هذا الزجاج وذكر أن القصد في قوله : فصادفته ، إنما هو إلى الولد ؛ لأن الوحشية طلبت ولدها ، فصادفته وصادفت على دمه السباع ، فلما كان المعنى يدل على هذا واحتاج الشاعر إلى إيقاع المصادفة على الولد المطلوب ، أضمر للسباع الفعل الذي دل عليه أول الكلام ، كأنه قال : فصادفته ، صادفت السّباع على دمه ومصرعه ، وقوله : " لن تراها ولو تأملت" ، إنما يصفها بأن الطيب لا يفارقها ، وقد علم ذلك من مقصده فجاز استغناؤه باللفظ الأول عن إعادة الفعل ، فأضمر : إلا رأيت لها ، وأنشد البيت الأول على ما يقع فيه خلاف ، وهو :

فكرّت تبتغيه فوافقته

على دمه ومصرعه السّباعا

وأما ما ذكره أبو العباس من عطف الشيء على المعنى بعد تمام الأول ، فله مواضع تختلف. ألا ترى أن قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)(١).

جمع على معنى (من) ، ولم يتم الكلام ، وكذلك : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً)(٢).

أتت على المعنى ، وللكلام في هذا مواضع أخر.

(ومن الباب قول الخليل ، وهو قول أبي عمرو (٣) :

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٤٢.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٣١.

(٣) زبان بن العلاء بن عمار أبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة خزاعي من مازن ولد بالحجاز سكن البصرة توفي ١٥٤ ه‍. الفهرست ٢٨ ، طبقات القراء ١ : ٢٨٨.

١٨٣

ألا رجل إمّا زيدا وإمّا عمرا.

لأنه حين قال : ألا رجل فهو متمن شيئا ليسأله ويريده ، فكأنه قال :

اللهم اجعله زيدا أو عمرا ، وإن شاء أظهره فيه ، ومثله :

قد سالم الحيات منه القدما

الأفعوان والشّجاع الشّجعما

وذات قرنين ضموزا ضرزما) (١)

قال أبو سعيد : ضموز : ساكنة ، الضّرزم : المسنّة ، وذلك أخبث الحيات ، والأفعوان وما بعده حيات.

والحيات الأولى مرفوعة ، وإنما حمل الأفعوان على المعنى ، وذلك أنه يصف رجلا بخشونة قدميه وصلابتهما ، وأن الحيات لا يعملن فيهما وأنها قد سالمتها ، وإذا سالمت الحيات القدم ، فالقدم ـ أيضا ـ قد سالمت الحيات ، فكأنه قال : سالمت القدم الأفعوان.

وحكي عن الفراء أنه قال : القدما : بمعنى القدمان ، وهي رفع وروى : " قد سالم الحيات ـ بكسر التاء ـ منه القدما".

(وحذف النون من القدمان ، كما قال :

هما خطتا إما إسار ومنّة)

قال المفسر : ويروى :

هما خطتا إما إسار ومنة

وإذا روى كذلك فليس للفراء فيه حجة ، لأنه قد أضاف خطتا إلى إسار ومنة ، كأنه قال :

هما خطّتا إسار ومنّة

وإما دم والقتل بالحرّ أجدر (٢)

__________________

(١) البيت للعجاج ديوانه : ٨٩ ، خزانة الأدب ١٠ : ٢٤٠ ، ١١ : ٤١١.

(٢) البيت لتأبط شرا :

ديوانه ٨٩ ؛ الخصائص ٢ : ٤٠٧ ؛ خزانة الأدب ٧ : ٤٩٩ ؛ مغني اللبيب ٦ : ٥٠١ ، ٧٢٧.

١٨٤

وأنشد سيبويه لأوس :

تواهق رجلاها يداها ورأسه

لها قتب خلف الحقيبة رادف (١)

وكان وجه الكلام : تواهق رجلاها يديها.

فحمله على المعنى لأنه إذا واهقت الرجلان اليدين ، فقد واهقت اليدان الرجلين على مثل ما مر البيت الأول ، وأنشد :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطوائح (٢)

رفع يزيد بما لم يسمّ فاعله ، ثم جاء بالفاعل وهو ضارع ، فرفعه ؛ لأن الفعل الذي لم يسم فاعله يدل على أنّ له فاعلا ، قال : ليبكه ضارع.

ومن الناس من يروي : ليبك يزيد ضارع ، فيجعل يزيد منصوبا ، وضارع فاعل يبك على ما سمي فاعله ، وذكر بعض أصحابنا أن الرواية هي الأولى وأن هذا تغيير النحويين.

وقال : ومثل ليبك يزيد قراءة بعضهم (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(٣).

قال سيبويه : (رفع شركاؤهم على ما رفع عليه ضارع ، كأنه قال : زينه شركاؤهم ، وهي الشياطين الدعاة لهم إلى ذلك ، وأنشد :

وجدنا الصّالحين لهم جزاء

وجنّات وعينا سلسبيلا (٤)

لأن الوجدان مشتمل في المعنى على الجزاء.

فحمل الآخر على المعنى ، ولو نصب الجزاء كما نصب السباع لجاز).

وإذا رفع الجزاء فهو مرفوع بالابتداء ، ولهم : خبره ، والجملة في موضع الحال من وجدنا.

__________________

(١) البيت لأوس بن حجر :

الديوان : ٧٣ ، وروايته : تواهق رجلاها يديه ؛ الخصائص ٢ : ٤٢٧ (بلا نسبة) ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ١٨٢.

(٢) سبق تخريجه ، وهو منسوب ل (نهشل بن حري بن حمزة النهشلي).

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ١٣٧.

(٤) ينسب إلى : عبد العزيز بن زرارة الكلابي :

المقتضب ٣ : ٢٨٤ ؛ شواهد القرطبي ٣ : ٩٢.

١٨٥

ويحتمل أن يكون في موضع المفعول الثاني ، ولكن كلام سيبويه وقوله : (ولأن الوجدان ...) دليل على أن وجدنا بمعنى أصبنا ، وهو يتعدى إلى مفعول واحد ، وقد دخل الجزاء وإن كان مبتدأ في معنى الوجدان ، فأضمر وجدنا بعد ذلك ، ونصب جنات لأنه في المعنى عطف على جزاء ، كأنه قال : وجدنا لهم جنات ، وإن نصبت جزاء فتقديره : وجدنا لهم جزاء وجنات ، وقال الشاعر :

أسقى الإله عدوات الوادي

وجوفه كلّ ملث غادي

كلّ أجشّ حالك السّواد (١)

رفع كلّ الأخير ، ونصب الذي قبله لأنه حمله على سقاها كل أجش ، لأن في قوله : أسقى الإله كل ملث غاد دليلا على سقاها كل أجش ، لأنه إذا أسقاها الله السحاب ، سقاها السحاب ، وكل أجش من صفة السحاب ، وهو شبيه ب" ليبك يزيد ضارع".

قال : (ولا يجوز أن تقول : ينتهي خيرا له ، ولا انتهى خيرا له).

وإنما يجوز هذا في الأمر ، لأن الآمر إنما يسوق المأمور إلى أمر يحدثه ، فله قوة في الإضمار وحكم ليس لغيره (وقد يجوز أن تقول : ألا رجل إما زيد وإما عمرو ، كأنه قيل له : من هذا المتمنّى؟ فقال : زيد أو عمرو).

هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في

غير الأمر والنهي

(وذلك قولك : أخذته بدرهم فصاعدا ، وأخذته بدرهم فزائدا ، حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه ، ولأنهم أمنوا أن يكون على الباء لو قلت :

أخذته بصاعد ، كان قبيحا ، لأنه صفة ولا يكون في موضع اسم ، كأنه قال : أخذته بدرهم ، فزاد الثمن صاعدا ، ولا يجوز أن تقول : وصاعد لأنّك لا تريد أن تخبّر أنّ الدرهم مع صاعد ثمن لشيء كقولك : بدرهم وزيادة ، ولكنّك أخبرت بأدنى الثمن فجعلته أولا ثم قروت شيئا بعد شيء لأثمان شتّى ، فالواو لم ترد فيها هذا المعنى ، ولم

__________________

(١) الأبيات لرؤبة بن العجاج : ملحق ديوانه ١٧٣ ، الخصائص ٢ : ٤٢٧.

١٨٦

تلزم الواو الشيئين أن يكون أحدهما بعد الآخر.

ألا ترى أنّك إذا قلت : مررت بزيد وعمرو ، لم يكن في هذا دليل أنّك مررت بعمرو بعد زيد.

وصاعد بدل من زاد ويزيد.

وثم بمنزلة الفاء ، تقول : ثم صاعدا إلّا أنّ الفاء أكثر في كلامهم).

قال أبو سعيد ـ رحمه‌الله ـ : أمّا قوله : أخذته بدرهم فصاعدا ، كأنه متاع قد اشتري بأثمان مختلفة أدناها : درهم. فإذا قال : أخذت كلّ ثوب منها بدرهم فصاعدا ، كان أدنى الثمن درهما ، ثم يزيد عليه ، فالتقدير : أخذت كلّ ثوب منها بدرهم ، فزاد الثمن صاعدا ، فصار بعضها بدرهم وقيراط ، وبعضها بدرهم ودانق ، وهذا معنى قوله : ثم قروت شيئا بعد شيء لأنه مأخوذ من : قروت الأرض ، إذا أنبتّ قطعة منها بعد قطعة على جهة التتبّع لشيء فيها ، ومنه قولهم : الاستقراء للكتب وللمعاني ، واستقرأت الكتب والمعاني على جهة التتبع لها ، والفكر فيها ، ولا يحسن أن تقول :

أخذته بدرهم فصاعد ، من جهتين :

إحداهما : أنّ صاعدا نعت ، ولا يحسن أن تعطف على الدرهم إلّا المنعوت.

والجهة الأخرى : أنّ الثمن لا يعطف بعضه على بعض بالفاء ، لا تقول : أخذت الثوب بدرهم فدانق ، ولا اشتريت الدار بمائة درهم فخمسة دراهم ، لأن الثمن تقع جملته عوضا عن المبيع ، فليس يتقدم بعضه على بعض ، وإنما يعطف بالواو لأنها للجمع ، تقول : اشتريته بمائة وخمسة ، ونحو ذلك ، وإنما هو على ما فسّرته لك ، أنّك أخذت بعضه ، ثم زاد الثمن في بعض ، وتقديره : فزاد الثمن صاعدا ، ينتصب على الحال ، وبدرهم فزائدا ، على تقدير : فصعد الثمن زائدا.

وفرّع أصحابنا على هذا فقالوا : يجوز أن تقول : مررت بزيد وخالد ، وبزيد وخالدا ، عطفا على موضع الباء ، فإن قلت : مررت بزيد وخالدا ، وأنت تريد : وأكرمت خالدا ، لم يجز لأنّ إخراجه عن الباء ، ومعناها لا يجوز إلّا بدليل عليه أو ضرورة تقود إليه ، ولا يحسن الواو في هذا لأنّ الأثمان المذكورة إنّما يتلو بعضها بعضا ، والواو لا تدل على ترتيب الفعل ، فلم تجز فيه إلّا الفاء وثمّ ، وهما الدليلان على الترتيب ، والفاء أكثر في كلام العرب لاتصالها بما قبلها ، وثمّ فيها مهلة.

١٨٧

قال سيبويه : (ومما ينتصب في غير الأمر والنهي على الفعل المتروك إظهاره ، قولك : يا عبد الله ، والنداء كله.

فأمّا : يا زيد ، فله علّة ستراها في باب النداء إن شاء الله تعالى).

قال أبو سعيد رحمه‌الله : المنصوب من المنادى ، يقدّر نصبه بفعل ينوب عنه حرف النداء ، وهو : يا ، كأنه قال : أدعو عبد الله ، وأنادي عبد الله ، وأريد عبد الله ، والمفرد هو المضموم مبني لعلة قد ذكرت ، تعاد في باب النداء إن شاء الله تعالى.

واستدلّ سيبويه على أنّ النداء على الفعل قولهم : يا إيّاك ، إنما قلت : يا إياك ، أعني.

وهذا الذي ذكره سيبويه يقوّي ما ذكرناه ؛ أنّ" إياك" مضاف لأنّا رأينا العرب إذا كنّوا عن المنادي قالوا :

يا أنت ، ويا إياك ، فأنت : مفرد لم ينصب كما لم ينصب : يا زيد ، وإيّاك : مضاف نصب كما نصب : يا عبد الله ، أنشد أبو زيد :

يا مرّ يا ابن واقع يا أنتا

أنت الذي طلّقت عام جعتا

حتّى إذا اصطبحت واغتبقتا

أقبلت معتادا لما تركتا

قد أحسن الله وقد أسأتا (١)

قال سيبويه : (ومن ذلك قول العرب : من أنت زيدا ، وزعم يونس أنه على قوله : من أنت تذكر زيدا ، ولكنّه كثر في كلامهم واستغنوا عن إظهاره بأنه قد علم أنّ زيدا ليس خبرا ولا مبنيا على مبتدإ ، ولا بدّ من أن يكون على الفعل كأنه قال : من أنت معرّفا ذا الاسم ، ولم يحمل زيدا على من ولا أنت ، ولا يكون من أنت زيدا إلّا جوابا ، كأنه قال : أنا زيد ، قال : فمن أنت ذاكرا زيدا ، وبعضهم يرفع ، وذلك قليل ، كأنه قال : من أنت كلامك أو ذكرك زيد. وإنّما قلّ لأنّ إعمالهم الفعل أحسن من أن يكون خبرا لمصدر ليس به ، ولكنّه يجوز على سعة الكلام وصار كالمثل الجاري حتى إنهم يسألون الرجل عن غيره فيقول القائل منهم : من أنت زيدا ، كأنه يكلم الذي يقول : أنا زيد ،

__________________

(١) الأبيات سبق تخريجها وهي منسوبة إلى الأحوص ، وسالم بن دارة.

١٨٨

أي : أنت عندي بمنزلة زيد الذي قال : أنا زيد ، فقيل له : من أنت زيدا كما تقول للرجل : " أطرّي فإنك ناعلة" و" أحمقي" أي أنت عندي بمنزلة التي يقال لها ذلك. سمعنا رجلا منهم يذكر رجلا فقال لرجل ساكت لم يذكر ذلك الرجل من أنت فلانا).

قال أبو سعيد رحمه‌الله : أصل هذا أنّ رجلا غير معروف بفضل كأنه يسمّى بزيد ، وكان زيد مشهورا بشجاعة وضرب من ضروب الفضل التي يذكر بها الرجل ، فلما تسمّى الرجل المجهول بزيد الذي هو معروف بالفضل دفع عن ذلك وأنكر عليه ، فقيل له : من أنت زيدا على جهة الإنكار ، أي من أنت ذاكرا زيدا ومعرّفا هذا الاسم.

وقد يجوز الرفع ، والنصب أقوى ، لأنك إذا رفعته تقديره : كلامك زيد ، وذكرك زيد ، على معنى : كلامك ذكر زيد ، وكلامك اسم زيد ؛ فيكون على سعة الكلام كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١).

فكان النصب أحسن من أن تجعله خبرا لمصدر. وقد يجوز لمن ليس اسمه بزيد" من أنت زيدا" على المثل الجاري كما قالوا : " أطرّي فإنك ناعلة" ، و" الصيف ضيّعت اللبن" (٢) ، و" أحمقي" فتخاطب الرجل بهذا وإن كان اللفظ للمؤنث ؛ لأن أصل ما جرى به المثل التأنيث ، وإنما يقال للذكر ذلك على معنى : أنت عندي بمنزلة التي يقال لها.

أما وقد ذكرنا تفسير هذه الأمثال في موضع آخر ، وقد يجوز أن تذكر غير زيد باسمه ، كأنّ رجلا ذكر عمرا وذكر ملابسة بينه وبينه ، أو سؤالا عنه ، وكأنّ منزلة عمرو ترتفع عند بكر أن يسأل عنه مثل هذا الرجل السائل فقال له : من أنت عمرا ، كأنّ في سؤاله عن عمرو ما يتشرّف به أو يكسب به حالا فيها فخر.

يقال : من أنت سائلا عن ذلك أو مفتخرا به.

وأمّا ما حكاه من قول القائل لرجل سأله لم يذكر ذلك الرجل : من أنت فلانا ، فيجوز أن يكون على معنى التعريض بالرجل الذي ذكره أنه ليس بموضع أن يذكره.

(ومن ذلك قول العرب : إمّا أنت منطلقا انطلقت معك ، وإمّا زيد ذاهبا ذهبت معه ، قال الشاعر :

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٢) يضرب مثلا للرجل يضيع الأمر ثم يريد استدراكه جمهرة الأمثال ١ : ٥٧٥ ، ٣٢٤.

١٨٩

أبا خراشة إمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع (١)

فإنما هي (أن) ضمّت إليها (ما) للتوكيد ، ولزمت كراهية أن يجحفوا بها لتكون عوضا من ذهاب الفعل كما كانت الهاء والألف في : الزنادقة واليماني ، ومثل : إن في لزوم ما قولهم : إمّا لا ، فألزموها ما عوضا.

وهذا أحرى أن يلزموا فيه إذ كانوا يقولون : آثرا ما ، فيلزمون" ما" شبّهوها بما يلزم من النونات في : لأفعلنّ ، واللام في : إن كان ليفعل.

فإن كان ليس مثل وإنما هو شاذّ كنحو ما شبّه بما ليس مثله ، فلما كان قبيحا عندهم أن يذكروا الاسم بعد أن ، ويبتدئونه بعدها ، كقبح : " كي عبد الله يقول ذلك" حملوه على الفعل حتى صار كأنّهم قالوا : " إذ صرت منطلقا فأنا أنطلق معك" ، لأنها في معنى : إذ ، وإذ في معناها ـ أيضا ـ في هذا الموضع ، إلا أنّ إذ لا يحذف معها الفعل ، وإمّا لا يذكر بعدها الفعل لأنه من المضمر المتروك إظهاره حتى صار ساقطا بمنزلة تركهم ذلك في النداء ، وفي" من أنت زيدا" ، فإن أظهرت الفعل قلت : " إمّا كنت منطلقا انطلقت" ، إنما تريد إن كنت منطلقا انطلقت.

فحذف الفعل لا يجوز ههنا ، كما لم يجز إظهاره ؛ لأنّ" أمّا" كثرت في كلامهم واستعملت حتى صار كالمثل المستعمل ، وليس كلّ حرف هكذا).

قال أبو سعيد رحمه‌الله : أمّا أنت منطلقا ، اختلف فيه الكوفيون والبصريون مع إجماعهم على حذف الفعل.

فقال الكوفيون : هو بمعنى إن ، وعندهم أنّ" أن" المفتوحة فيها معنى" إن" التي للمجازاة ، وعلى ذلك يحملون : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)(٢). ويحتجون بأنها تقرأ : " إن تضلّ". بكسر" إن" والمعنى عندهم سواء.

وأما البصريّون : فالتقدير عندهم : " لأن كنت أنت منطلقا أنطلق معك" ، أي : لهذا المعنى الذي كان منك في الماضي : أنطلق معك ، ولذلك شبهها سيبويه ب" بإذ" وجعلهما

__________________

(١) الخصائص ٢ : ٣٨٣ ؛ خزانة الأدب ٤ : ١٣ ، ١٤ ، ١٧ ؛ ٥ : ٤٤٥ ؛ ٦ : ٥٣٢ ؛ ١١ : ٦٢ ؛ مغني اللبيب ١ : ٢٢١ ، ٣٧٥ ؛ ٥ : ٢٩٥ ؛ شرح شذور الذهب ٢٣٧ ؛ الإنصاف ٧١.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٨٢.

١٩٠

كشيء واحد لاشتراكهما في المضيّ ، وإذا ولى" أن" الفعل الماضي فهو ماض لا غير ، كما إذا وليها المستقبل ، فهو للاستقبال لا غير ، لأجل أنّ الثاني استحقّ بالأول جاز دخول الفاء في الجواب في قوله :

فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع

وجعلوا لزوم" ما" عوضا من حذف الفعل ، فلا يحسن ذكر الفعل بعدها لحصول الغرض.

وكان المبرّد يجيز ذكر الفعل بعدها ويجعلها زائدة كزيادتها في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(١).

وليس على ما قال دليل لأنّها زائدة في هذا الموضع ، ثم لزمت عوضا ولم تستعمل إلا على ذلك ، وحسن حذف الفعل لإحاطة العلم بأنّ" أن" هذه الخفيفة لا يقع بعدها الاسم مبتدأ ، فكان ذلك بمنزلة فعل محذوف لحضور الدلالة عليه.

وأمّا قوله كالعوض في : الزنادقة واليماني. فأصل الزنادقة : الزناديق ، واليماني : يمنيّ ، والألف في الزنادقة عوض من الياء ، والألف في اليماني عوض من إحدى (ياءي) النسب ، ونستقصي ذلك في غير هذا الموضع.

ومثل" أن" في لزوم" ما" قولهم : " إمّا لي".

والأصل فيه : أن الرجل قد يمتنع من أشياء يلزمه أن يفعلها ويسومه إياها سائم فيمتنع منها ، فيقنع منه بالبعض فيقال : " إمّا لي فافعل هذا" على معنى إن كنت لا تفعل غيره فافعل هذا ، ثم زيدت" ما" كما تزاد في حروف الجر ، ثم حذف الفعل لكثرة هذا في كلامهم ، وصار" إمّا" مع" لا" كالشيء الواحد عندهم ، فأجازوا فيها الإمالة ، ولو انفردت" لا" لم تجز فيها الإمالة.

وقولهم : " أثرا ما" ، يلزمونه" ما" فلا يكادون يحذفونها منه ، ومعناها في قولك : آثرا أن تفعل كذا في معنى : أثر ، وهو يريد : أفعل هذا أول شيء ، ويقولون : آثر ذي أثير ، ومنه قوله :

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٥٥. سورة المائدة ، الآية : ١٣.

١٩١

فقالت ما تشاء ، فقلت ألهو

إلى الإصباح آثر ذي أثير (١)

أي أوّل ما يؤثر ويقدّم في الفعل.

وقد ذكرنا لزوم النون في لأفعلنّ ، واللام في إن كان ليفعل في موضعه ، وسائر ما ذكر من المحذوفات.

قال : وإن جئت بالفعل كسرت" إن" لأنك تريد إن كنت منطلقا انطلقت ، ولا يمتنع عند المبرد وغيره إذا حذفت (ما) وأتيت بالفعل أن تفتح وتكسر فتقول :

إن كنت منطلقا وأن كنت منطلقا انطلقت ، وقال :

إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلا

فالله يكلأ ما تأتي وما تذر (٢)

كسرت هذا لحضور الفعل ، وهو الأجود ، ولا يمتنع عند أبي العباس وغيره إذا حذفت" ما" وأتيت بالفعل أن تفتح وتكسر ، فتقول :

إن كنت منطلقا ، وأن كنت منطلقا ، فإن كسرت فهو المعنى الظاهر في الشرط ، وإن فتحت فالمعنى :

لأن كنت منطلقا ، أي : لانطلاقك ، وقد ذكرنا" أن" و" إن" في موضعهما.

قال : ومن ذلك قولهم : مرحبا وأهلا وسهلا ، وإن تأتني فأهل الليل وأهل النهار.

وتقدير الناصب فيه : أتيت مرحبا وأهلا ، وإن تأتني فتأتي أهل الليل وأهل النهار على معنى :

أنّك تأتي من يكون لك كالأهل بالليل والنهار ، وقد قدره سيبويه ، كأنه صار بدلا من قولك : رحبت بلادك ، وأهلت.

وهذا التقدير إنما قدّر بالفعل لأن الدعاء إنما يكون بفعل ، فردّه إلى فعل من لفظ الشيء المدعوّ به ، كما يقدّرون : تربا وجندلا بتربت وجندلت.

وإنما الناصب له :

أصبت تربا وجندلا ، وألزمت تربا وجندلا على معنى ما تحسن به العبارة عن

__________________

(١) البيت لعروة بن الورد :

ديوانه ١١ ؛ الأغاني ٣ : ٧٧ ؛ الخصائص ٢ : ٤٣٥.

(٢) بدون نسبة ، خزانة الأدب ٤ : ١٩ ، ٢٠ ، ٢١ ؛ مغني اللبيب ١ : ٢٢١ ؛ اللسان (أما) وروايته :

إما أقمت وأما أنت ذا سفر

فالله يحفظ مما تأتي وما تذر

١٩٢

المعنى المقصود ، وهذا إنما يستعمل فيما لا يستعمل الفعل فيه ، ولا يحسن إلا في موضع الدعاء به.

ألا ترى أن الإنسان الزائر إذا قال له المزور : مرحبا وأهلا ، فليس يريد رحبت بلادك وأهلت.

إنما يريد : أصبت رحبا وسعة وأنسا. لأنّ الإنسان إنما يأنس بأهله ، ومن يألفه.

(وقد مثله الخليل أنه بمنزلة رجل رأيته قد سدّد سهما فقلت القرطاس ، أي : أصاب القرطاس ، أي : أنت عندي ممّن سيصيبه ، وإن أثبت سهمه قلت : القرطاس أي : قد استحق وقوعه بالقرطاس. قال :

وإذا رأيت رجلا قاصدا إلى مكان أو طالبا أمرا فقلت : مرحبا وأهلا وسهلا ، أي : أدركت ذلك وأصبت ، فحذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه).

قال : ويقول الرّادّ : وبك أهلا وسهلا ، وبك وأهلا ، فإذا قال : وبك وأهلا فكأنه قد لفظ بمرحبا بك وأهلا وسهلا.

(وإذا قال : وبك أهلا فهو يقول : لك الأهل ، أي : عندك الرّحب والسّعة ، فإذا رددت فإنّما تقول : أنت عندي بمنزلة من يقال له : هذا لو جئتني وإنما جئت ب" بك" لتبيّن من تعني بعد ما قلت : مرحبا كما قلت : لك بعد سقيا).

قال أبو سعيد : هذا الكلام تقديره أن يقوله الرجل الذي يدخل إذا قال له المدخول عليه : مرحبا وأهلا ، فيردّ فيقول : وبك وأهلا كأنه قال : وبك مرحبا وأهلا ، وإنما هذه تحية المزور ومن يدخل عليه ، يحيي بها الزائر المزور على معنى أنك أصبت عندي سعة وأنسا.

وإذا قال الزائر : وبك أهلا ، والحال لا تقتضي من الزائر أن يصادف المزور عنده ذلك فيحمل على معنى : أنك لو جئتني لكنت بهذه المنزلة ، وإذا قال : وبك أهلا ، فإنما اقتصر في الدعاء له على معنى الأهل فقط من غير أن يعطفه على شيء قبله ، كأنّ الرّحب والسّعة قد استقرا استقرارا يغنيه عن الدّعاء ، وأمّا مجيئه ب" بك" ، فللبيان أنه المعنيّ به لا لأنّه المتصل بالفعل المقدّر كما كان قولك : " سقيا لك" ، تقديره : سقاك الله سقيا ولك ، كأنّه قال : هذا الدعاء لك على تقدير آخر غير تقدير سقاك الله.

قال : (ومنهم من يرفع فيجعل ما يضمر هو ما يظهر).

١٩٣

يعني منهم من يقول : مرحب وأهل ، أي : هذا مرحب أو لك مرحب وأهل ، قال الشاعر :

وبالسّهب ميمون النقيبة قوله

لملتمس المعروف أهل ومرحب (١)

أي : هذا أهل ومرحب ، وقال آخر :

إذا جئت بوّابا له قال مرحبا

ألا مرحب واديك غير مضيّق (٢)

ثم ذكر الإضمار والإظهار على ثلاثة مجار منها :

فعل مظهر لا يحسن إضماره ، وهو أن تقول : اضرب زيدا أو أكرم زيدا ، لا يحسن إضمار هذا الفعل إذ لم تجد ما يدلّ عليه ، لأنك إذا قلت : زيدا ولم تقدّم قبله فعلا لم تدر أيريد أكرم زيدا أم أهن زيدا أم غير ذلك.

وفعل يجوز إضماره وإظهاره كقولك : زيدا لرجل كان في ذكر ضرب ، تريد : اضرب زيدا ، يجوز أن تحذف اضرب اكتفاء بما جرى من ذكر الضرب ، ويجوز أن تذكره.

ومنها فعل يضمر وقد ترك إظهاره وهو من الباب الذي ذكر فيه إياك إلى الباب الذي آخره ذكر مرحبا ، وهو الباب الذي نحن فيه ، وقد تقدم الكلام على ذلك.

هذا باب ما يظهر فيه الفعل وينتصب فيه الاسم

لأنه مفعول معه ومفعول به كما انتصب نفسه

في قولك : " امرأ ونفسه"

(وذلك قولك : ما صنعت وأباك ، ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها ، إنما أردت ما صنعت مع أبيك ، ولو تركت الناقة مع فصيلها ، فالفصيل مفعول معه ، والأب كذلك ، والواو لم تغيّر معنى ولكنها تعمل في الاسم ما قبلها ، ومثل ذلك :

ما زلت وزيدا ، أي : ما زلت بزيد حتى فعل ، فهو مفعول به.

وما زلت أسير والنيل ، أي : مع النيل.

__________________

(١) البيت لطفيل الغنوي : شرح المفصل ٢ : ٢٩ ؛ المقتضب ٣ : ٢١٩.

(٢) البيت ينسب لأبي الأسود الدؤلي : ديوانه : ٦٥ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٧٢ ؛ المقتضب ٣ : ٢١٩.

١٩٤

واستوى الماء والخشبة ، وجاء البرد والطيالسة ، أي : مع الطيالسة ، قال الشاعر :

كونوا أنتم وبني أبيكم

مكان الكليتين من الطّحال (١)

وقال آخر :

وكان وإيّاها كحرّان لم يفق

عن الماء إذا لاقاه حتّى تقدّدا (٢)

ويدلك على أن الاسم ليس على الفعل في صنعت أنك لو قلت : اقعد وأخوك. كان قبيحا حتى تقول : اقعد أنت وأخوك ؛ لأنه قبيح أن تعطف على المرفوع المضمر ، فإذا قلت : ما صنعت أنت ، ولو تركت هي فأنت بالخيار ، إن شئت حملت الآخر على ما حملت عليه الأول ، وإن شئت حملته على المعنى الأول).

قال أبو سعيد ـ رحمه‌الله ـ : هذا آخر الباب وهو كلام سيبويه ـ رحمه‌الله ـ ، ومذهبه أنك إذا قلت : ما صنعت وأباك ، أن الأب منصوب بصنعت ، وكذلك فصيلها منصوب بتركت ، وكان الأصل فيها ما صنعت مع أبيك ، ولو تركت الناقة مع فصيلها ، ومعنى مع الواو يتقاربان لأنّ معنى" مع" : الاجتماع والانضمام ، والواو تجمع ما قبلها مع ما بعدها وتضمه إليه ، فأقاموا الواو مقام" مع" لأنها أخفّ في اللفظ ، والواو حرف لا يقع عليه الفعل ولا يعمل في موضعه ، فجعلوا الإعراب الذي كان في" مع" من النصب في الاسم الذي بعد الواو لمّا لم تكن الواو معربة ولا في موضع معرب ، كما قالوا : ما قام أحد إلّا زيد ، وقام القوم إلّا زيدا ، فإذا جئت ب" غير" أعربتها بإعراب الاسم الذي يقع بعد" إلّا" ، فقلت :

ما قام أحد غير زيد ، وجاءني القوم غير زيد ، فإذا جعلوا" إلّا" مكان" غير" تجاوز الإعراب الذي كان في" غير" إلى ما بعد" إلّا" ، لأنّها حرف غير عامل ، وكذلك الكلام في ما زلت وزيدا إذا كان الحرف الذي يتصل بالفعل عاملا في الاسم الذي بعده منع من تجاوز الفعل إلى غيره كقولك :

ما زلت بزيد ، فتعمل الباء في زيد ، والباء في موضع نصب ، فإذا قلت : ما زلت

__________________

(١) البيت في نوادر أبي زيد ينسب ل : شعبة بني قمير : ١٤١ ؛ شرح المفصل ٢ : ٤٨ ؛ وروايته :

(وكونوا) ؛ شرح قطر الندى ٢٣٣ ؛ شرح أبيات سيبويه ٢٨٥.

(٢) البيت ينسب لكعب بن جعيل بن قمير التغلبي ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٨٦ ؛ الجمل للزجاجي ٣١٧.

١٩٥

وزيدا ، تجاوز النصب الذي كان يقدّر في الباء إلى ما بعد الواو.

وكان الزجّاج يقول :

إنّا إذا قلنا : ما صنعت وأباك ؛

أنّا ننصب بإضمار ، كأنه قال : ما صنعت ولا بست أباك.

وزعم أنّ ذلك من أجل أنه لا يعمل الفعل في المفعول وبينهما الواو.

وهذا قول فاسد ، لأنّ الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يتصل به المفعول ، فإن كان لا يحتاج في عمله فيه إلى وسيط فلا معنى لدخول حرف بينهما ، وإن كان يحتاج إلى وسيط في عمله فيه ، عمل مع توسّط الوسيط ووجوده ، ألا ترى أنّا نقول :

ضربت زيدا وعمرا ، فتنصب عمرا بضربت ، كما تنصب زيدا بضربت ، لأن المعنى الذي يوجب الشركة بين عمرو وزيد في ضربت ، هو : الواو فجئت بها ولم تمنع من وقوع ضربت على ما بعدها.

ومنه أيضا : أنك تقول : ما ضربت إلّا زيدا ، فتنصب زيدا بضربت ، وإن كان بينهما" إلّا" للمعنى الذي يوجب ذلك في اتصال هذا المفعول به ، وإنما يذهب بالواو إلى معنى" مع" إذا كان فيه معنى غير العطف المحض ، والعطف المحض أن يوجب لكل واحد من الاسمين الفعل الذي ذكر له من غير أن يتعلق فعل أحدهما بالآخر ، كقولك : قام زيد وعمرو إذا أردت أن كل واحد منهما قام قياما لا يتعلق بالآخر.

وكذلك : ما صنع زيد وعمرو إذا أردت هذا المعنى ؛ كان صنع كلّ واحد لا يتعلق بالآخر ، وما صنع زيد وعمرو إذا أردت هذا المعنى ، فإن أردت ما صنع زيد مع عمرو على معنى : إلى أي شيء انتهيا فيما بينهما من خصومة أو مواصلة أو غير ذلك ، جاز أن تنصب ، وقد اجتمع في قولك : " ما صنعت وأباك" قبح الرفع في الأب لأنك تعطفه على التاء من غير توكيد ، وحمل ما بعد الواو على معنى" مع" لما يقتضيه المعنى إذا أكدت التاء كنت مخيرا في رفع الأب وفي نصبه ، فقلت : ما صنعت أنت وأبوك ، وإن شئت" وأباك".

فمن رفع فلزوال قبح اللفظ لأن كلّ واحد منهما صانع بالآخر شيئا وملابس له على ضرب من الملابسة ، وإن نصبت فعلى إبانة معنى" مع" وأنّ صنيع الأول ملتبس بالآخر.

١٩٦

هذا باب معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأول

إلّا أنها تعطف الاسم ههنا على ما لا يكون ما بعده إلا رفعا على كلّ حال.

(وذلك قولك : أنت وشأنك ، وكلّ رجل وضيعته ، وما أنت وعبد الله ، وكيف أنت وقصعة من ثريد ، وما شأنك وشأن زيد ، وقال الشاعر :

يا زبرقان أخا بني خلف

ما أنت ويل أبيك والفخر (١)

وقال الآخر :

وأنت امرؤ من أهل نجد وأهلنا

تهام وما النجديّ والمتغوّر (٢)

وقال آخر :

وكنت هناك أنت كريم قيس

فما القيسيّ بعدك والفخار (٣)

قال أبو سعيد : هذا الباب معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأول ؛ لأنهما بمعنى" مع" إلّا أنّ الباب الأول في أوله فعل يعمل فيما بعد الواو على الترتيب الذي ذكرته ، وهذا الباب فيه اسم معطوف على اسم بالواو التي معناها : " مع" ، فيعطف ما بعد الواو على ما قبلها لفظا ، والمعنى فيه الملابسة.

فإن قال قائل : نحن متى عطفنا شيئا على شيء بالواو ، ودخل الثاني فيما دخل فيه الأول اشتركا في المعنى ، وكانت الواو بمعنى مع لاشتراك المعطوف والمعطوف عليه كقولنا :

قام زيد وعمرو ، فكيف اختصصتم هذا الباب وما قبله بمعنى" مع"؟

قيل له : نحن متى عطفنا شيئا على شيء بالواو دخل في معناه ، ولم يكن بين المعطوف والمعطوف عليه فرق في وقوع ذلك المعنى لكل واحد منهما ، وليس أحدهما ملابسا للآخر ، وإذا قلنا : ما صنعت؟ أو قلنا في الباب الثاني : ما أنت والفخر؟!

فإنما يراد : ما صنعت مع أبيك ، وأين بلغت فيما فعلته به ، أو فعله بك.

__________________

(١) البيت للمخبل ، وهو : ربيع بن ربيعة بن عوف بن قتال بن أنف الناقة ، يهجو ابن عمه : خزانة الأدب ٦ : ٩١ ، ٩٢ ، ٩٥ ؛ المؤتلف والمختلف : ١٧٩ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٣٩

(٢) البيت لجميل بثينة : ديوانه : ٩١ ؛ خزانة الأدب ٣ : ١٤٤.

(٣) لم يعرف له قائل : شرح المفصل ٢ : ٥٢ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٨٦.

١٩٧

وما أنت مع الفخر في افتخارك وتحقّقك به ؛ فالمعنيان مختلفان غير أن اللفظ في قولك : ما أنت والفخر ، كقولك : أنت وزيد قائمان ، أو أنت وزيد في الدار ، والمعنى ما ذكرت لك.

وبهذا فرّق سيبويه بين هذا الباب والذي قبله ، ويدلك على صحة المعنى الذي ذكرته أن قائلا لو قال :

زيد وعمرو وهو يريد : زيد وعمرو قائمان أو خارجان أو ما أشبهه ، لم يجز حذف الخبر لأنه بمنزلة قولك : زيد معرّى من الخير ، ويجوز أن تقول :

أنت وشأنك ، وكلّ رجل وضيعته ، وكل امرئ وصنعته. فيكتفون بذلك ، لأن معنى الواو معنى" مع" ، كأنهم قالوا :

كل رجل مع ضيعته ، وأنت مع شأنك ، وهذا كلام مكتف. فإذا قالوا :

أنت وشأنك ، اكتفوا بهذا اللفظ وأضمروا الخبر ، وتقديره :

أنت وشأنك مقرونان ، لأن معنى" الواو" إذا ذهب بها مذهب" مع" قد دلّت على مقرونين ، ومما يذهب به مذهب الملابسة :

أنت أعلم وعبد الله ، وأنت أعلم ومالك ، معناه :

أنت أعلم مع مالك فيما تدبره به ، وأنت أعلم" مع" عبد الله فيما تعامله به ، وإن شئت أن لا تذهب به هذا المذهب فيما يصح منه العلم جاز أن تقول :

أنت وعبد الله أعلم ، أي : أنتما أعلم من غيركما ، كما تقول : أنت وعبد الله أفضل ، وأحدهما غير ملابس للآخر ، ولا يجوز أن تقول : كلّ امرئ وضيعته ، ولا أنت وشأنك ، فتنصب الثاني كما كنت تنصب" مع" لو حضرت" مع" ، لأنّ" مع" إذا حضرت فمذهبها مذهب الظرف ، تقول :

زيد مع عمرو ، كما تقول : زيد خلف عمرو ، والناصب استقر وإضماره جائز مع الظروف ، فإذا جعلت الواو مكان" مع" والذي بعدها اسم ، لم يتخطّ الاستقرار إليه ولا يعمل فيه كما عمل الفعل فيه في قولك : ما صنعت وزيدا.

وقد حكى سيبويه النصب في حرفين ، قالوا : ما أنت وعبد الله ، وما أنت وعبد الله ، وكيف أنت وعبد الله وعبد الله.

فإذا رفع فبالعطف على أنت ، وإذا نصب بإضمار كنت أو تكون ، فيكون تقديره :

١٩٨

كيف كنت أنت وعبد الله ، وكيف تكون أنت وعبد الله ، وما كنت أنت وعبد الله وما تكون أنت وعبد الله ، على ما ذكر في جواز النصب في الباب قبله.

وقد ردّ عليه المبرد لفظه في تقدير الناصب في كيف ، وما ، وذلك أن سيبويه قدر فقال : كيف تكون أنت وقصعة من ثريد ، وما كنت أنت وزيدا.

فقال المبرد : ولم جعل" كيف" مختصة بتكون و" ما" مختصة بكنت؟

قال أبو سعيد رحمه‌الله : لم يذهب سيبويه إلى اختصاص" كيف" بالمستقبل ، و" ما" بالماضي وإنما أراد التمثيل على الوجه الذي يمكن أن يمثّل به ، وبيّن هذا بقوله :

كأنه قال : والتمثيل ليس بحدّ لا يتجاوز ، وإنما جاز عنده في" كيف" و" ما" في لغة من حكى عنه ذلك ، وهم ناس من العرب ، لأنّ كنت وتكون يقعان ههنا كثيرا ، وما كثر في الكلام حذف تخفيفا ، كأنه قد نطق به.

واستدلّ سيبويه في أنّ قولهم : ما أنت والفخر ونحوه ، بمنزلة العطف الصحيح فيما يعطف أحد الاسمين فيه على الآخر ، بأنّ العرب قد تقول :

ما أنت ، وما زيد ، وهم يريدون معنى : " مع" ، قال :

تكلّفني سويق الكرم جرم

وما جرم وما ذاك السّويق (١)

يهجو جرما بذلك ويستكثر لها شرب الخمر.

يقول بعد هذا البيت :

وما عرفته جرم وهو حلّ

وما غالى بها إذ قام سوق

فلمّا أنزل التّحريم فيها

إذا الجرميّ منها ما يفيق (٢)

يريد : أنه لم يكن محل جرم أن تعرف الخمر في الجاهلية ولا تشربها ، وإنما ذكر عرفته لأنه رده إلى لفظ السّويق في" سويق الكرم" هو : الخمر.

سماها : سويق الكرم لانسياقها في الحلق ، وكذا أصل السّويق سمّي سويقا لذلك ، لأنه يشرب ولا يؤكل ، ومثله في إعادة" ما" في الثاني : قول علقمة بن عبدة :

__________________

(١) لسان العرب وتاج العروس (سوق).

(٢) البيت لزياد الأعجم : ديوانه : ٨٦ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٣٠٧ ؛ الشعر والشعراء ١ : ٤٤٠.

١٩٩

وما القلب أم ما ذكره ربعيّة

يخطّ لها من ثرمداء قليب (١)

إلا أنّ العطف في هذا البيت ب" أم" ، وأدغمت ميم" أم" في" ما" ، وأنشد قول شدّاد أبي عنترة العبسي :

فمن يك سائلا عنّي فإنّي

وجروة لا ترود ولا تعار (٢)

أراد" مع" جروة ، وإنما هذا كقولك :

كلّ رجل وضيعته ، إذا أدخلت عليه" إنّ" نصبتهما جميعا ، وكان الثاني لتضمنه معنى مع يغني عن ذكر الخبر. كقول العرب :

" إنك ما وخيرا".

تريد : إنك" مع" خير ، و" ما" : زائدة ، والخبر : محذوف.

وقد مرّ هذا فيما تقدم وأنشد سيبويه لبعض الهذليين عن إنشاد بعض العرب في إضماره الفعل بعد" ما" :

فما أنا والسّير في متلف

يبرّح بالذكر الضّابط (٣)

كأنه قال : ما كنت.

ومثله في إضمار الفعل قول الراعي :

أزمان قومي والجماعة كالذي

لزم الرحالة أن تميل مميلا (٤)

أراد : أزمان كان قومي مع الجماعة ، وحذف : كان ، لأنهم يستعملونها كثيرا في مثل هذا الموضع ولا لبس فيه ، ولا يغير معنى.

وإذا قلت : أنت وشأنك ، فلا يجوز في الثاني غير الرفع ؛ لأن العرب لا تضمر في مثل هذا ، ولا يجوز الإضمار فيه.

__________________

(١) تاج العروس (ثرمد) وفيه منسوب إلى : (علقمة الفحل) ؛ معجم البلدان ١ : ٩٣٣.

(٢) البيت لشداد بن معاوية (والد عنترة) كما ورد في الأغاني ١٧ : ٢٠٧ ؛ الصاحبي في فقه اللغة : ٢٢٠.

(٣) البيت لأسامة بن حبيب الهذلي : شرح أشعار الهذليين ٣ : ١٢٨٩ ؛ شرح المفصل ٢ : ٥٢ ؛ المقاصد النحوية ٣ : ٩٣ ؛ شرح الأشموني ٢ : ٢٢٤ ؛ همع الهوامع ٣ : ٩٣ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ١٢٨.

(٤) البيت للراعي النميري ، خزانة الأدب ٣ : ١٤٥ ، ١٤٨.

٢٠٠