شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

قال : وتقول : " قد عرفت أيّ يوم الجمعة".

ويجوز" أيّ يوم الجمعة" فمن نصب جعله ظرفا للجمعة ، ولم ينصبه بعرفت ، كما تقول : " اليوم الجمعة" و" السبت" مثل الجمعة وإنما جاز النصب في ذلك ؛ لأن الجمعة فيها معنى الاجتماع ، والأصل في السبت الراحة ، وهو فعل واقع في اليوم ، ولو قلت : " اليوم الأحد والاثنان" إلى" الخميس" لم يجز إلا بالرفع ؛ لأن" اليوم" هو الأحد وليس الأحد بمعنى يقع في اليوم.

وإذا قلت : قد علمت أيّ حين عقبتي (١).

فعقبتي مصدر ومعناها المعاقبة. يريد. أي وقت يصيبني حظي من الركوب ، وإن رفعت فتقديره : أيّ حين حين عقبتي ، و" علمت" لم يعمل فيه رفعا كان أو نصبا ، وقول الشاعر :

حتى كأن لم يكن إلا تذكره

والدهر أيّتما حال دهارير (٢)

فالدهر مبتدأ ، و" دهارير" خبره ، وهي : الدواهي ، وأيّتما حال ظرف ، كأنه قال : والدهر دهارير في كل حال.

هذا باب من الفعل

سمي الفعل فيه بأسماء لم تؤخذ من أمثلة

الفعل الحادث

(وموضعها من الكلام الأمر والنهي ، ومنها ما يتعدّى المأمور إلى مأمور به ، ومنها ما لا يتعدّى المأمور ، ومنها ما يتعدّى المنهيّ إلى منهيّ عنه ، ومنها ما لا يتعدى المنهيّ.

أمّا ما تعدّى فقولك : رويد زيدا" فإنما هو اسم قولك أرود زيدا).

__________________

(١) سيبويه ١ / ١٢٢ بولاق ١ / ٢٤٠ هارون.

(٢) اختلف في قائل هذا البيت فقيل : عنبر بن لبيد العذري وقيل عثمان بن لبيد العذري وقيل حريث بن جبلة انظر سيبويه ١ / ١٢٢ بولاق. شواهد المغني ٨٦. مجالس ثعلب ٢٦٥. اللسان (دهر) ٥ / ٣٨٠.

١٤١

واعلم أن هذا الباب مشتمل على أسماء وضعت موضع فعل الأمر ، ولا يجوز أن يذكر الفعل معها وهي مشتقة من لفظه وليست بالمصادر المعروفة للفعل كقولك : " ضربا زيدا" في معنى" اضرب ضربا". فمن ذلك" رويد زيدا" وهو مبنيّ ، وكان الأصل فيه أن يبنى على السكون لأنه واقع موقع الأمر ، والأمر مبنيّ على السكون فاجتمع في آخره ساكنان الياء والدال فحرّكت الدال لاجتماع الساكنين ، وكان الفتح أولى بها استثقالا للكثرة من أجل الياء التي قبلها كما قالوا : أين وكيف ففتحوا ، ورويد تصغير إرواد ، وإرواد مصدر أرود ، ومعنى أرود : أمهل ، وصغّروه تصغير الترخيم لحذف الزوائد وهي الهمزة التي في أولها ، والألف التي هي رابعها.

وقال الفرّاء : (١) " إن رويد تصغير رود" ، والذي قاله ، البصريون أولى لأن أرود يقع موقع" رويد" ، و" رود" لا يقع في موقعه فلأن يكون مأخوذا ممّا يقع موقعه ويطابقه في المعنى أولى.

ومنها هلمّ زيدا إنما يريد : هات زيدا والأصل فيه : ها لمّ زيدا ولكنهم جعلوهما كشيء واحد وأسقطوا الألف منها ، وجعلوه بمنزلة الأسماء التي سمّى الفعل بها مثل : " رويد" ، و" حذار" ، و" دراك" ولم يثن ولم يجمع ولم يؤنث كما لم يثن" رويد" و" دراك" ، وهذه لغة أهل الحجاز؟

قال الله عزوجل : (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا)(٢). فوحّدوا ، وبنو تميم يثنون ويجمعون ويؤنثون ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى.

قال : (ومنها قول العرب : " حيّ هل الثريد").

جعلوا حيّ وهل بمنزلة شيء واحد ، وفتحوها وأقاموها مقام اسم الفعل فلم تثن ولم تجمع ، وجعلوا" حيّ هل الثريد" بمنزلة ائتوا الثريد ؛ وربما اكتفت العرب ب" حيّ" فعدّوه بحرف الجر قالوا : " حيّ على الصلاة" وربما اكتفوا بهل ، قال النابغة الجعدي :

__________________

(١) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور ، أبو زكريا الديلمي أخذ عنه الكسائي وهو من أبرع الكوفيين له مصنفات في النحو واللغة. الفهرست ٧٣ ، ٧٤. بغية الوعاة ٢ : ٣٣٣.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ١٨.

١٤٢

ألا حيّيا ليلى وقولا لها هلا (١)

قال : (ومنها قوله :

تراكها من إبل تراكها (٢)

فهذا اسم لقوله اتركها ، وكذلك :

مناعها من إبل مناعها (٣)

وهو اسم لقوله : امنعها.

والواحد والاثنان والجميع والمؤنث في ذلك سواء ؛ وكان حكم" تراك" أن يكون ساكنا لوقوعه موقع الأمر فاجتمع في آخره ساكنان فكسر على ما يوجبه اجتماع الساكنين وهذا مطّرد في جميع الأفعال الثلاثية كقولك : " حذار من زيد" ، و" نعاء زيدا" بمعنى انع زيدا ، وقد استقصيناه فيما مضى ؛ فهذا الذي ذكره : هو ما يتعدى المأمور إلى مأمور به والمنهيّ إلى منهيّ عنه.

وأما ما لا يتعدى المأمور ولا المنهي إلى مأمور به ولا إلى منهي عنه فنحو قولك : مه مه ، وصه صه ، وإيه وما أشبه ذلك).

فهذه أصوات وضعت مواضع أسماء الفعل ولا تثنى ولا تجمع ، فمعنى مه : كفّ ، ومعنى صه : اسكت ، وإيه : استزادة.

فإن قال قائل : لم فصل سيبويه بين الأمر والنهي في أول هذا الباب وليس في شيء من هذه الأفعال نهيّ بل لا يجوز أن يكون فيها نهي لأنه ليس شيء من هذه المصادر التي هي اسم الفعل يقدر فيها" لا" التي هي للنهي وإنما تقع موقع الأمر المحض ، قيل له : إنما سماه نهيا بالمعنى لا بدخول حرف نهي ، لأنه إذا قال : اتركها ، وامنعها ، فالمعتاد في الكلام أن يقال نهى عنها ، وإذا قال : صه صه ، فأمره بالسكوت والكفّ ، فقد نهاه عن الكلام

__________________

(١) قائله النابغة الجعدي والبيت موجود في الأغاني ٥ : ١٦ وخزانة الأدب ٦ : ٢٣٨ ، ٢٦٤.

(٢) البيت لطفيل بن زيد الحارثي.

تراكها من إبل تراكها

أما ترى الموت لدى أوراكها

خزانة الأدب ٥ : ١٦ ، ١٦٢.

(٣) سبق تخريجه.

١٤٣

والإقدام ، والأكثر المألوف أنه إذا قال له : اسكت ، أنه قد نهاه عن الكلام.

قال سيبويه : (واعلم أن هذه الحروف التي هي أسماء للفعل لا تظهر فيها علامة المضمر وذلك أنها أسماء وليست على الأمثلة التي أخذت من الفعل الحادث فيما مضى وفيما يستقبل وفي يومك ولكن المأمور والمنهيّ مضمران في النّية).

يعني أن هذه الأسماء التي هي أسماء الفعل لا يظهر فيها ضمير الفاعل والواحد والتثنية والجمع.

تقول : " يا عمرو حذار زيدا" ، و" يا عمران حذار زيدا" ، و" يا عمرون حذار زيدا" ، و" يا هندات حذار زيدا".

وفي حذار ضمير الفاعل يجوز أن يؤكد فنقول : حذار زيدا أنت نفسك ، وحذار زيدا أجمعون إذا أمرت جماعة ، وإنما تظهر العلامة في الفعل لأنه هو العامل في الأصل ، وتتغير أمثلته ويخالطه اسم الفاعل واللفظ حتى يصير معه كشيء واحد نحو قولك : جلست ، وقمت ، فالتاء اسم الفاعل ، وقد خالط الفعل وظهر فيه ، فلو جعلت مكان حذار احذر لثنيت وجمعت فقلت : احذرا واحذروا.

قال : (وإنما كان أصل هذا في الأمر والنهي وكان أولى به لأنهما لا يكونان إلّا بفعل).

يعني أن هذه الأسماء التي ذكرها في هذا الباب لا تقع إلّا في الأمر والنهي ، لا يجوز أن يقول : أعجبني مناع زيدا ، ولا هذا رويد زيدا ، كما تقول أعجبني منعك زيدا ، وقد بيّنا لم لا يقع إلّا في الأمر.

قال : (وأجريت مجرى ما فيه الألف واللام لئلا يخالف ما بعدها لفظ ما قبلها بعد الأمر والنهي).

يعني أنها جعلت مفردة غير مضافة كما أن النجاء مفرد غير مضاف ، حتى لا ينخفض ما بعدها وينتصب ما بعد الأمر والنهي ولا ينخفض.

قال : (ولم تصرّف تصرّف المصادر لأنها ليست بمصادر).

يعني أنها لا تكون إلا مفردة على لفظ واحد ، والمصادر المشتقة من الأفعال قد

١٤٤

تكون مفردة ومضافة ويكون فيها الألف واللام ، وقد لا يكون فيها كقولك : ضربا زيدا ، والضرب زيدا ، وضرب زيد ، قال الله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ)(١).

هذا باب متصرّف رويد

(تقول : رويد زيدا وإنما تريد أرود زيدا.

قال الهذليّ :

رويد عليّا جدّ ما ثدي أمّهم

إلينا ولكن بغضهم متماين) (٢)

قد ذكرنا نصب رويد لما بعده فأمّا معنى البيت فإنّ عليّا قبيلة ، وجدّ : قطع ، وهذا مثل ، يريد قطع نسبهم إلينا بالعقوق ، وبغضهم متماين يعني متكاذب وإنما أراد أنهم أبغضونا على غير ذنب ، والمين : الكذب ، وكأن بغضهم كذب إذ كان على غير أصل.

ويروى : " ولكن ودّهم متماين" وهو ظاهر المعنى وهمز بعض أهل اللغة متمأين وهو ظاهر المعنى ، وهمز بعض أهل اللغة متمأين وزعم أن معناه متقادم.

قال : (وسمعنا من العرب من يقول : " والله لو أردت الدراهم لأعطيتك رويد ما الشعر" يريد أرود الشعر كقول القائل : لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع الشعر).

قال أبو العباس : " هذا رجل مدح رجلا فقال الممدوح للمادح هذا القول ؛ أي لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع الشعر لا حاجة بك إليه".

قال أبو سعيد : وقد يقال إن سائلا سأل آخر أن ينشد شعرا وكان إنشاده عليه سهلا فقال : لو أردت الدراهم التي إعطاؤها صعب لأعطيتك فدع الشعر الذي هو سهل تقرّبا إليه في مبادرته إلى قضاء حاجته.

قال : (ويكون رويد أيضا صفة يقولون : ساروا سيرا رويدا ، ويقولون أيضا :

__________________

(١) سورة محمد ، الآية : ٤.

(٢) البيت ل (مالك بن خالد الهذلي) وقيل : ل (المعطل) :

التهذيب ٥ : ٥٢٩ ؛ شرح المفصل ٤ : ٤٠ ؛ أشعار الهذليين ١ : ٤٤ ، ق ٣ : ٤٦ ؛ تاج العروس (مين).

١٤٥

ساروا رويدا فيحذفون السير ويجعلونه حالا وصف به المصدر اجتزاء بما في صدر حديثه من ذكر ساروا عن ذكر السير).

قال أبو سعيد : اعلم أن رويد قد تكون لها حالان سوى حالها التي ذكرنا تكون فيها معربة وهي النعت والحال ، ويجوز أن تكون في هاتين الحالتين تصغيرا لإرواد الذي هو المصدر ، ويجوز أن تكون تصغير مرود أو مرود بحذف الزوائد على ما ذكرنا من تصغير الترخيم ، فإذا جئت بالموصوف فأظهرته كان وصفا كقولك : ضعه وضعا رويدا ، وإذا لم تجئ بالموصوف كان الاختيار أن يكون حالا لضعف الصفة من غير أن تقدّم الموصوف ، ويجوز أن يكون صفة قامت مقام الموصوف تقول : رويدا ، تريد وضعا رويدا.

قال : (واعلم أن رويدا تلحقه الكاف وهي في موضع الفعل كقولك : رويدك زيدا افعل ، ورويدكم زيدا ، ودخلت الكاف علامة للمخاطب إذا خفت أن يلتبس من تعني بمن لا تعني وتجد فيها استغناء بعلم المخاطب أنه لا يعني غيره).

ولا موضع للكاف عند سيبويه ومن ذهب مذهبه من نصب ولا رفع ولا جرّ ، وهي عندهم بمنزلة الكاف في ذلك وذلكما لا موضع لها من الإعراب.

وبعض النحويين يزعم أن موضعها رفع ، وبعضهم يقول : موضعها نصب ، فأما الذي يزعم أن موضعها رفع فالحجة عليه أن يقال : إنّا لم نر شيئا يعمل عمل الفعل وليس بفعل يتصل به ضمير الفاعل ظاهرا وإنما يكون الضمير في النية كقولك : حذار زيدا.

ومن الحجة عليه ـ أيضا ـ أنا قد نقول : رويد زيدا فنحذف الكاف ونقدّر في رويد ضميرا مرفوعا في النية ؛ فلو كانت الكاف هي الفاعلة ما جاز حذفها.

والحجة على من قال : إنها في موضع نصب أن رويد إنما هو اسم أرود ، وأرود لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد ، فكلما كان اسما لأرود لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد ، ولو كانت الكاف منصوبة كنت قد عديت رويدا إلى مفعولين ، ولو جاز هذا لجاز : رويد زيدا عمرا.

ثم استدل على بطلان قول من يقول : إن الكاف اسم لها موضع بما تقدّم ، ثم احتجّ

١٤٦

سيبويه على أن الكاف لا موضع لها بقول العرب : هاء وهاءك في معنى : تناول ؛ فزاد الكاف على هاء للخطاب ، وفيه لغات قد ذكرناها في أول الكتاب.

واحتجّ في ذلك على من انتحل والتزم أن كاف ذلك لها موضع بأن قال : إن كان لها موضع فلا بدّ من أن تكون مجرورة أو منصوبة ، فإن كانت منصوبة وجب أن تقول : ذاك نفسك زيدا إذا أراد تأكيد الكاف ، وينبغي له أن يقول : إذا كانت مجرورة ذاك نفسك زيد وهو أن لا يقولهما أحد.

ومما دخل للكاف أيضا التاء في أنت وهي ملازمة ، تختلف في المذكر والمؤنث ولا موضع لها ، ولو كان لها موضع من رفع أو نصب لوجب أن يؤتى بعامل يعمل ذلك العمل ولا عامل موجود في لفظ ولا تقدير.

ثم احتج سيبويه ـ أيضا ـ في ذلك بقولهم : أرأيتك زيدا ما فعل؟ فذكر أن الكاف لا موضع لها وأن التاء علامة المضمر المرفوع المخاطب ، ولو لم تلحق الكاف كنت مستغنيا كاستغنائك حين كان المخاطب مقبلا عليك ، فهذا الذي ذكر سيبويه صحيح ، وسقوط الكاف مع صحة المعنى الذي يكون بوجودها دلالة على أن لا موضع لها ، ولو كانت الكاف في موضع رفع كما قالوا لوجب ألا تسقط لأن ضمير الفاعل لا يسقط من الفعل أبدا.

وزعم الفراء أن العرب تجعل" أرأيتك" على مذهبين مختلفين : فإذا قلت رأيتك منطلقا كما تقول حسبتك ذاهبا فعدّيتك فعل المخاطب إلى نفسه كان موضع التاء رفعا ، وموضع الكاف نصبا ، وثنيت وجمعت فقلت : رأيتماكما منطلقين ، ورأيتموكم منطلقين ورأيتنّكنّ منطلقات لجماعة المؤنث ، فإن أدخلت ألف الاستفهام على هذا أقررته على حاله فقلت : أرأيتماكما منطلقين فهذا أحد المذهبين ، والمذهب الآخر : أن تقول : أرأيتكم زيدا ما فعل؟ على معنى أخبرنّي عن زيد؟ وإذا ثنى وجمع لحقت التثنية والجمع الكاف وكانت التاء مفردة على كل حال فقلت : أرأيتكما زيدا ما فعل؟ قال الله عزوجل : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً)(١) فاستدل بتوحيد التاء في هذا على أنه لا

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٤٧.

١٤٧

موضع لها وأن الموضع للكاف ، وقد بيّنا ما تقدّم من الاحتجاج أن لا موضع للكاف.

ويجوز أن يكون إفرادهم التاء استغناء بتثنية الكاف وجمعها لأنها للخطاب وإن كان لا موضع لها كما أن التاء للخطاب ، وإنما استغنوا بتثنية الكاف وجمعها عن تثنية التاء وجمعها للفرق بين أرأيت إذا كان في معنى أخبرني ، وبينها إذا أردت به معنى علمت ، فاعرفه إن شاء الله.

قال : (ونظير الكاف في رويد في المعنى لا في اللفظ" لك" التي تجيء بعد هلمّ في قوله : هلمّ لك فالكاف ههنا اسم مجرور باللام والمعنى في التوكيد والاختصاص بمنزلة الكاف التي في رويد وما أشبهها كأنه قال : هلمّ ثم قال : إرادتي بهذا لك فهو بمنزلة قولك : سقيا لك).

أما قوله : نظير الكاف في رويدك لك التي تجيء بعد هلمّ فإنما يعني أنك إذا قلت : رويد فالمعنى تامّ ، فإذا زدت الكاف زدتها بعد تمام المعنى لتبيين المخاطب وإن كانت رويد قد أغنتك عن ذلك ، كما أنك إذا قلت : هلمّ للمخاطب استغنى الكلام به وتمّ فإذا قلت : هلمّ لك فجئت ب" لك" فإنما تجيء بها بعد استغناء الكلام عنها وتمامه دونها حرصا على تبيين المخاطب ، وكذلك إذا قلت : سقيا لك ، فسقيا غير محتاج إلى لك لأن معناه : سقاك الله سقيا ، ولكنك لما قلت : سقيا جئت ب" لك" تأكيدا وتبيينا كأنك قلت : دعائي بهذا لك أو إرادتي لك ، غير أن الكاف في هلمّ لك ، وسقيا لك مجرورة باللام وفي رويدك لا موضع لها من الإعراب ، وإنما جمع بينهما سيبويه في التأكيد بهما بعد تمام الكلام دونهما لا في موضع الإعراب ، وفي رويد ضمير فاعل في النيّة يجوز أن يؤكّد وأن يعطف عليه بحسب ما يجوز في ضمير الفاعلين.

تقول : رويدكم أنتم وعبد الله ، ورويدكم أجمعون ، كما تقول : قم أنت وعبد الله ، وقوموا أجمعون ، وكذلك إن لم يكن فيه الكاف ، فإذا خاطبت الواحد قلت : رويد أنت زيدا ، وإذا خاطبت اثنين قلت : رويد كلاكما زيدا ، وللجميع : رويد أجمعون.

وأمّا هلمّ لك ففيه ضميران مرفوع ومجرور :

فالمرفوع هو ضمير الفاعل الذي في هلم ، والمجرور هو الكاف في لك فيجوز أن تقول : هلم لكم أجمعون وأجمعين ، فأجمعون على تأكيد الضمير الذي في هلم ، وأجمعين

١٤٨

على تأكيد الكاف والميم في لكم وموضعه جرّ.

(وهذا ضرب من الفعل سمّي الفعل فيه بأسماء مضافة ليست من أمثلة الفعل الحادث ولكنها بمنزلة الأسماء المفردة التي كانت للفعل نحو : رويد وحيهل ومجراهنّ واحد).

قال أبو سعيد : اعلم أن هذا يخالف ما قبله لأنه قد اشتمل على ظروف وحروف جرّ تجري مجرى الظروف ومصادر مضافات كلّهنّ ، والفرق بين هذا الفصل والذي قبله أن هذا مضاف والذي قبله مفرد وينقسم هذا قسمين :

قسم يتعدّى ، وقسم لا يتعدّى.

فأما ما يتعدى فقولك : عليك زيدا ودونك زيدا وعندك زيدا تأمره به ؛ فأمّا عليك فحرف من حروف الجرّ ، وأما دونك وعندك فظرفان ، وقد جعلن بمنزلة قولك : خذ زيدا ، والكاف منهن في موضع جرّ.

وذكر عن المازنيّ أنه كان الأصل في عليك زيدا أي : خذه من فوقك.

وفي عندك زيدا أي : خذه من عندك.

وفي دونك زيدا أي : خذه من أسفل من موضعك.

وتحصيل هذا خذ من دونك زيدا ، وخذ من عندك زيدا ، وخذ من عليك زيدا.

كما تقول : خذه من فوقك ، كما قال الشاعر :

غدت من عليه بعد ما تمّ ظمؤها

تصلّ وعن قيض بزيزاء مجهل (١)

ثم حذف حرف الجر وهو" من" فوصل الفعل إلى هذه الأسماء وحذف فعل الأمر وهو : " خذ" اكتفاء واستخفافا.

قال : وما تعدّى المنهيّ إلى منهيّ عنه قولك :

حذرك زيدا وحذارك زيدا فردّ عليه أبو العباس المبرّد هذا اللفظ من وجهين :

__________________

(١) البيت ل (مزاحم بن الحارث العقيلي) :

شرح المفصل ٨ : ٣٨ ؛ أدب الكاتب : ٥٠٤ ؛ تاج العروس (صلل).

١٤٩

أحدهما : أن قولك : حذرك إنّما هو : احذر وقد جعله سيبويه نهيا.

قال أبو العباس : " فإن قال قائل فمعنى احذر : لا تدن منه" قيل : وكذلك عليك معناه : لا يفوتنك ، وكلّ أمر أمرت به فأنت ناه عن خلافه ، وإذا نهيت عن شيء فقد أمرت بخلافه ، فقد يجوز في الأمر أن يقال نهي وفي النهي أن يقال أمر على المعنى ، فإذا كان كذلك فلا وجه للتفصيل الذي فصل به سيبويه بين الأمر والنهي.

والوجه الآخر : أنه وضع في هذا الباب ما لم يؤخذ من أمثلة الفعل ، وحذرك مأخوذ من الحذر فهو خارج من هذا الباب ؛ لأن هذا الباب عليك ودونك.

وليس الأمر على ما ردّه أبو العباس في الوجهين جميعا.

أما الوجه الأول فقد ذكرنا أن ألفاظا من ألفاظ الأمر الأكثر في عادة كلام الجمهور أن يقال : نهى وإن كان بلفظ الأمر كقولك : تجنب فلانا ، واحذر فلانا ، وابعد عن فلان فإنما يقال : نهاه عنه ؛ فجرى سيبويه على اللفظ المعتاد.

وأما الوجه الآخر فإنما غرّ سيبويه في هذا الباب تفصيل المضاف من المفرد الذي قبله لأنه قد ذكر ظروفا وأسماء كلها مضافات ، وقد ترجم الباب بقوله : بأسماء مضافة.

(وأما ما لا يتعدّى فقولك : مكانك ، وبعدك إذا قلت : تأخّر ، وكذلك عندك إذا كنت تحذّره شيئا من بين يديه أو تبصّره شيئا ، وإليك إذا أردت تنحّ ، ووراءك إذا قلت : افطن لما خلفك).

وقد ذكر سيبويه عندك فيما يتعدى ، وقد ذكره فيما لا يتعدى وهذا غير مستنكر وذلك أنه قد يكون فعل واحد متعديا وغير متعدّ ؛ كقولك : علقتك وعلقت بك وجئت زيدا وجئت إلى زيد.

قال : (وحدثنا أبو الخطاب أنه سمع من يقال له : إليك فيقول إليّ كأنه قيل له : تنحّ فقال : أتنحّى ، ولا يقال : دوني ولا عليّ هذا ، إنما سمعناه في هذا الحرف وحده وليس لها قوة الفعل فتقاس).

اعلم أن هذه الأسماء والحروف التي تضمّنها هذا الفصل وما قبله من المفرد والمضاف لا يجوز أن تقع إلا في أمر المخاطب هذا حكمه وبابه ، وذلك من قبل أنّ أمر المخاطب يقع بالفعل المحض من غير حرف يدخل عليه ، وأمر الغائب لا يقع إلا بحرف ألا ترى أنك تقول : قم يا زيد ولا يجوز أن تقول : قم يا عمرو إذا كان غائبا وإنما تقول :

١٥٠

ليقم عمرو ، ومع هذا فإنما الأمر إنما يكون بمواجهة المخاطب وتنبيهه وندائه ، فقد يوضع كثير من الأصوات في موضع الأمر للإنسان وللبهائم ، كقولك للإنسان : مه وصه ، وللناقة : حل ، وللجمل : حوت ، وللحمار : تشوه.

وهذه الأشياء لا تقع إلّا في أمر فجعلوا ـ إليك ، وعليك ، ووراءك ، ودونك ـ بمنزلة هذه الأصوات التي يؤمر بها ، فالقياس ألّا يقع هذا في غير الأمر ، فإذا قلت : إليك فقال : إليّ فقد جعل إليّ بمعنى أتنحّى وهو خبر ليس بأمر ، وهذا شاذّ مخالف لقياس الباب.

فإذا قلت : عليك زيدا ودونك زيدا على معنى خذ زيدا فلا يجوز أن تقول : عليّ زيدا ودوني زيدا على معنى آخذ زيدا ؛ لأن ذلك لا يجوز في غير الأمر ، وقد يجوز أن تقول : عليّ زيدا على غير هذا المعنى إذا أردت ائتني بزيد فيكون في باب الأمر ، ولا يجوز أن تقول : دوني زيدا إذا أردت ائتني بزيد وذلك إذا قلت : عليّ زيدا فقد عدّيته إلى زيد وإليك بحرف الجرّ ، وإذا قلت : عليك زيدا فإنما عديته إلى زيد وإلى المخاطب بحرف الجر ، فقد توسّعت العرب في هذا الفعل فعدّته مرّة إلى المتكلم بحرف الجرّ ومرّة إلى المخاطب ولم تتوسّع في دونك وعندك لأنهم لم يقولوا : دوني وعندي ، ولا يجب أن نقيس ذلك لأنّه قد يجوز أن يكون فعل منه متعدّ ولا يتعدى نظيره. ألا ترى أنك تقول : علقتك وعلقت بك ، ولا يجوز في مررت بك مررتك.

قال : وحدّثني من سمعه أنّ بعضهم قال : عليه رجلا ليسنى ، وهذا قليل شبّهوه بالفعل.

يعني أنه قال : عليه فأمر غائبا ، وقد روي مثل هذا عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله أنّه قال : " من استطاع منكم الباءة فليتزوّج وإلّا فعليه الصوم ، فإنّه له وجاء" (١).

وإنما أمر الغائب ، فهذا الحرف على شذوذه ، لأنه قد جرى للمأمور ذكر فصار بالذّكر الذي جرى له كالحاضر فأشبه أمره أمر الحاضر ، ولو كان المأمور اسما ظاهرا لم يجز ؛ لأنه لا يجوز أن تقول : على زيد عمرا ، وإذا قلت عليك زيدا فللمخاطب ضميران :

__________________

(١) صحيح البخاري ٢٠ : ٦٦ كتاب النكاح. صحيح مسلم ٢ : ١٠١٨ ، ١٠١٩ كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه.

١٥١

أحدهما : مجرور ، وهو الكاف ، ومعناه معنى المفعول ، والآخر : مرفوع في النية فاعل ، ويجوز أن تؤكدهما أو ما شئت منهما تقول : عليك نفسك زيدا ، ويجوز أن تقول : عليك نفسك أنت نفسك ، على أن تجعل المجرور تأكيدا للكاف ، والمرفوع تأكيدا لضمير الفاعل ، ولا يجوز أن تقول : عليك وأخيك فتعطف أخيك على الكاف ؛ لأن المجرور الظاهر لا يعطف على المجرور المضمر ، والاحتجاج لهذا في غير هذا الموضع.

قال : (ومن جعل رويدك مصدرا قال : رويدك نفسك).

يعني من قال : رويدا يا زيد كما تقول : ضربا يا زيد جاز أن تضيفه إلى الكاف كما قال عزوجل : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ)(١). فأضاف ضرب الرقاب ، وكذلك أضاف رويد إلى الكاف وجاز أن يؤكد الكاف لمجرور ويصير للمخاطب ضميران.

أحدهما : مجرور وهو الكاف.

والآخر : ضمير الفاعل في النية.

(وأما قول العرب : رويدك نفسك ، فإنهم يجعلون النفس بمنزلة عبد الله ، ويجعلون الكاف للخطاب لا موضع لها ، وكأنهم قالوا : رويد نفسك على ما فسّرنا في رويد زيدا).

قال : (وأما حيّهلك ، وهاءك وأخواتها فليس فيها إلا ما ذكرنا لأنّهنّ لم يجعلن مصادر).

يعني أن الكاف في هذه الأشياء لا موضع لها وإنما هي للخطاب.

أراد الفرق بين رويدك وبين حيّهلك ؛ لأن رويدك قد تكون الكاف فيه مرّة للخطاب ومرّة في موضع جرّ ، فإذا كان للخطاب فهو بمنزلة حيّهلك ، وإذا كان في موضع جرّ فهو بمنزلة عليك وحذرك.

(واعلم أنك لا تقول : دوني ، كما قلت : عليّ لأنه ليس كل فعل بمنزلة أولني قد تعدى إلى مفعولين ، فإنما عليّ بمنزلة أولني ودونك بمنزلة خذ لا تقول : آخذني درهما ولا خذني درهما).

__________________

(١) سورة محمد ، الآية ٤.

١٥٢

يعني أنك تقول : عليك زيدا فيكون بمنزلة خذ زيدا ثم تقول : عليّ زيدا فيكون بمنزلة : أولني زيدا كما تقول : أعطني زيدا ودونك زيدا ولا تقول : دوني زيدا ، كما لا تقول : خذني زيدا ، فإنما ننتهي في ذلك حيث انتهت العرب.

قال : (واعلم أنه يقبح أن تقول : زيدا عليك ، وزيدا حذرك ، وإنّما قبح لأن هذه الحروف ليست بأفعال وإنما وضعت موضع الأفعال ولا تصرّف لها ؛ فلم تعمل عمل الفعل في جميع الأحوال ، ولم تقو قوّته).

فإذا رأيت في شعر" زيدا عليك" فإنما تنصب" زيدا" بفعل وتكون" عليك" مفسّرة له كما قال :

يا أيّها المائح دلوي دونكا

إنّي رأيت الناس يحمدونكا (١)

فدلوي في موضع نصب بإضمار فعل ؛ كأنه قال : خذ دلوي دونك ، وكذلك قوله عزوجل : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ)(٢).

ينتصب كتاب بما قبله لا بعليكم ؛ كأنه لما قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ)(٣).

فقد دلّ أنّه كتب التحريم عليكم كتابا فنصب الكتاب بالمصدر ، لا بعليكم ، وكان الكسائي ينصب كتاب الله بعليكم ، ويحتج بالبيتين اللذين أنشدنا ، والفراء يخالفه ويقول نحو ما ذكرناه في البيتين.

هذا باب ما جرى من الأمر والنهي على إضمار

الفعل المستعمل إظهاره إذا علمت أن الرجل مستغن

عن لفظك بالفعل

(وذلك قولك : زيدا وعمرا ورأسه ، وذاك أنّك رأيت رجلا يضرب أن يشتم أو

__________________

(١) ينسبان لراجز جاهليّ من أسيد بن عمرو بن تميم ، وقيل لجارية من بني مازن ، وزعم ابن الشجريّ أنهما لرؤبة : شرح المفصل ١ : ١١٧ ؛ مغني اللبيب ٦ : ٣٤٣ ، ٣٨٠ ؛ اللسان وتاج العروس (ميح).

(٢) سورة النساء ، الآية ٢٤.

(٣) سورة النساء ، الآية ٢٢.

١٥٣

يقتل فاكتفيت بما هو فيه من عمله).

اعلم أنّ الإضمار على ثلاثة أوجه :

ـ وجه يجب فيه الإضمار ولا يحسن فيه الإظهار.

ـ ووجه لا يجوز أن تضمر العامل فيه.

ـ ووجه أنت مخيّر بين إضماره وإظهاره.

فأما ما لا يجوز فيه الإضمار لعامل فأن تقول مبتدئا : زيدا ، من غير سبب نحويّ ولا حال حاضرة دالة على معنى ، وأنت تريد : اضرب زيدا ، وغيره من الأفعال لأنك إذا أضمرته لم يعلم أنّه" أكرم زيدا" أو اشتم زيدا أو غير ذلك.

وأما ما يجوز إظهاره وإضماره فأن ترى رجلا يضرب أو يشتم فتقول : زيدا ، تريد اضرب زيدا ، ويجوز إظهاره فتقول : اضرب زيدا ، ومثل ذلك أيضا في الخبر أن تلقى رجلا قادما من سفر فتقول : خير مقدم أي : قدمت خير مقدم ، ولو أظهرته لم يكن بأس ، وكذلك إذا قلت لرجل في طريق : الطريق يا هذا ، معناه : خلّ الطريق وعن الطريق ، ويجوز إظهاره ، قال جرير :

خلّ الطريق لمن يبني المنار به

وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر (١)

ولا يجوز أن تضمر في شيء من هذا الباب الجارّ ؛ فإذا قلت : الطريق لم يجز أن يكون الضمير تنحّ عن الطريق ؛ لأن الجارّ لا يضمر ، وذلك أن المجرور داخل في الجار غير منفصل.

والوجه الثالث :

قوله : إياك وأن تقرب الأسد ، معناه : إيّاك اتق ، وإياك احذر ، ولا يحسن إظهار ما نصب إياك ، ثم استشهد سيبويه على جواز الحذف الذي عقد به الباب : (تقول العرب في مثل من أمثالهم : " اللهمّ ضبعا وذئبا" إذا كان يدعو بذلك على غنم رجل ، فإذا سألهم ما يعنون قالوا : اللهم اجمع فيها ضبعا وذئبا ، كلّهم يفسر ما ينوي).

قال أبو العباس : سمعت أن هذا دعاء له لا دعاء عليه ؛ لأن الضبع والذئب إذا اجتمعا تقاتلا فأفلتت الغنم.

__________________

(١) ديوان جرير ٢١١ ؛ شرح المفصل ٢ : ٣٠ ؛ تاج العروس (برز).

١٥٤

وقال : أمّا ما وضعه عليه سيبويه فإنه يريد ذئبا من ههنا وضبعا من ههنا.

قال : (وحدثنا من يوثق به أن بعض العرب قيل له : أما بمكان كذا وكذا وجد وهو موضع يمسك الماء) نحو النقرة في الصخرة ، (فقال : بلى وجادا ، ومنه قول الشاعر :

أخاك أخاك إنّ من لا أخا له

كماش إلى الهيجا بغير سلاح (١)

كأنه يريد : الزم أخاك).

غير أنّ هذا مما لا يحسن فيه إظهار الفعل إذا كررت ، ويحسن إذا لم تكرّر ، إذا قلت : أخاك ، حسن أن تقول : الزم أخاك ، وإذا قلت : أخاك أخاك ، لم يحسن أن تقول : الزم أخاك أخاك لأنهم إذا كرروا جعلوا أحد الاسمين كالفعل ، والاسم الآخر كالمفعول.

وكأنهم جعلوا أخاك الأول بمنزلة" الزم" ، فلم يحسن أن تدخل" الزم" على ما قد جعل بمنزلة" الزم".

ومنه قول العرب :

" أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك"

فمعناه : عليك بأمر مبكياتك ، واتّبع أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.

فمعناه : اتبع أمر من ينصح لك فيرشدك وإن كان مرّا عليك صعب الاستعمال ، ولا تتبع أمر من يشير عليك بهواك ؛ لأن ذلك ربما أدى إلى العطب.

ومنه : " الظّباء على البقر". والمعنى في المثل :

أنك تنهاه عن الدخول بين قوم يتشابهون ويتكافؤون في سوء أو غيره ، وتقديره : خلّ الظباء على البقر.

هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره في غير الأمر والنهي

(وذلك إذا رأيت رجلا متوجّها وجه الحاجّ ، قاصدا في هيئة الحاجّ قلت : مكّة

__________________

(١) البيت ل (مسكين الدارمي) :

الديوان ٢٩ ، ط : بغداد ، ورواية الديوان :

 ...

كساع إلى الهيجا ...

الأغاني ٢٠ : ٢٠٨ ، ٢١٠ ؛ شرح قطر الندى ١٣٤ ؛ شرح شذور الذهب ٢٧٩ ؛ الخصائص ٢ : ٤٨٢.

١٥٥

وربّ الكعبة ، حيث زكنت أنه يريد مكة ، كأنك قلت : تريد مكة والله).

فهذا من الباب الذي يجوز إظهار الفعل فيه وإضماره لحال حاضرة ودلالة بينة ، فهذا وغيره في ذلك سواء.

وهذا الباب يشتمل على هذا النحو ولا يجوز أن تقول : زيد ، وأنت تريد : ليضرب زيد ، وليضرب زيد عمرا إذا كان فاعلا ، ولا يجوز أن تجعل الفعل المضمر لغائب في الأمر لأنك إذا فعلت ذلك فلا بد من أن تقدّر للمخاطب فعلا يبلّغ به الغائب ، فكأنك قلت : قل له : ليضرب زيدا ، أو قل له ليضرب زيد عمرا ، فضعف هذا عندهم لإضمار فعلين لشيئين مع ما يدخل فيه من اللّبس ، واللّبس الذي يدخل فيه أنه ليس للمخاطب فعل ظاهر ولا مضمر عليه دلالة فلا يعلم أنك أردت : قل : ليضرب زيدا ، أو أردت : لا تقل له ليضرب زيدا ، ونحو ذلك من الأفعال المتضادّة.

هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف

(وذلك قولك : الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ، والمرء مقتول بما قتل به إن خنجرا فخنجر ، وإن سيفا فسيف).

قال أبو سعيد :

اعلم أن هذا الباب تجوز فيه أربعة أوجه :

ـ الرفع في الشرط والجواب ، كقولك : إن خير فخير.

ـ والنصب فيهما ، كقولك : إن خيرا فخيرا.

ـ والنصب في الأول والرفع في الثاني ، كقولك : إن خيرا فخير.

ـ والرفع في الأول والنصب في الثاني ، كقولك : إن خير فخيرا.

أما الأول فالعامل فيه" كان" رفعت أو نصبت ، فإذا قلت : الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا ، تقديره : إن كان عملهم خيرا ، وإذا قلت : إن خير ، تقديره : إن كان في عملهم خير.

وأما الجواب فإنه إن كان نصبا ، فإضمار كان ، وإن كان رفعا ، جاز أن يكون بإضمار مبتدإ.

وجاز أن يكون بإضمار فعل.

وأجود هذه الوجوه ، نصب الأول ورفع الثاني ، وإنما صار كذلك من قبل أنّ" إن"

١٥٦

تقتضي الفعل فلا بدّ من إضمار" كان" أو نحوها ، فإذا أضمرنا كان ونصبنا ، فقد جعلنا اسم كان مع" كان" مضمرا محذوفا ، والفعل متى أضمر أضمر معه الفاعل ، لأن الفعل والفاعل كشيء واحد ، وإذا أضمرنا كان وجعلنا الاسم الذي بعد" إن" مرفوعا فالذي أضمر مع" كان" الخبر الذي هو بمنزلة المفعول ، فكأنك أضمرت الفعل مع المفعول ، ولا يدل على المفعول كدلالته على الفاعل لأنه لا يستغني عن الفاعل.

وأما رفع الجواب بعد الفاء فإنما صار الاختيار الرفع ؛ لأن الفاء جواب الشرط ، وإنما أتي بها ليكون ما بعدها مبتدأ وخبرا ، وذلك أنّ جواب الشرط إذا كان فعلا لم تحتج إلى فاء ، كقولك : إن أكرمني زيد أكرمته ، وإن يكرمني أكرمه ، ولا يجوز أن تقول : إن تأتني زيد مقيم عندي ، حتى تقول : إن تأتني فزيد مقيم عندي ، فقد تبين لك أن الفاء إنما أتي بها للاسم ، فالاختيار أن يكون المضمر بعدها مبتدأ ، فإذا قلت : إن خير فخير ، فتقديره : إن كان في عمله خير فالذي يجزى به خير.

وإن قلت : إن خيرا فخيرا ، فتقديره : إن كان عمله خيرا فيكون الذي يجزى به خيرا ، وإن قلت : إن خيرا فخير فتقديره : إن كان عمله خيرا فالذي يجزى به خير ، وإن قلت : إن خير فخيرا ، فتقديره : إن كان في عمله خير فيكون الذي يجزى به خيرا.

وقد فسر سيبويه قوله : إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا قال : كأنه قال : إن كان خيرا جزي خيرا ، فجاء بفعل ماض ليس فيه فاء على تقدير المعنى لا على تقدير اللفظ ، وذلك أنه لا يجوز أن يكون الفعل الماضي في جواب الشرط تدخل عليه الفاء ، لا تقول إن تأتني فأكرمتك ، إنما تقول كما قال الله عزوجل : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ)(١) إلّا أن يكون دعاء كقولك : إن يأتني زيد فأحسن الله جزاءه ، فلما كانت الفاء إنما تدخل على المستقبل وجب أن تقدّر ما بعد الفاء مستقبلا ، فقدّره سيبويه على ما يجوز في المعنى لا على حقيقة اللفظ.

وقال : (فإذا أضمرت فأن تضمر الناصب أحسن ؛ لأنّك إذا أضمرت الرافع أضمرت أيضا خبرا أو شيئا يكون في موضع خبر ، فكلما كثر الإضمار كان أضعف ، فإن أضمرت الرافع كما أضمرت الناصب فهو عربي حسن).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٩٥.

١٥٧

وقد بيّنا اختيار إضمار الناصب في الشرط.

وقوله فكلما كثر الإضمار كان أضعف يريد أنك إذا أضمرت الرافع أضمرت خبرا وهو منفصل من الرافع كأنك قلت : إن كان في عمله خير ، وإن كان معه خنجر ، وإن أضمرت الناصب جعلت اسم كان مستكنّا في كان وهو ضمير متصل. ألا ترى أنك تقول : من كذب كان شرا له ، فتجعل في كان ضمير الكذب مستكنّا غير منفصل منه ، فلذلك صار الضمير المرفوع أكثر ، وكان أضعف من المنصوب ، وهو مع ضعفه جائز قال هدبة بن خشرم :

فإن تك في أموالنا لا نضق بها

ذرعا وإن صبر فنصبر للصّبر (١)

أي وإن وقع فينا صبر ، أي وإن وقع صبر ، والصبر في هذا الموضع : الأمر الذي يجب الصبر عليه ، ويكون كرما وهو فعله ، قال وأمّا قوله :

قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذبا

فما اعتذارك من شيء إذا قيلا (٢)

فالنصب على التفسير الأول ، ويجوز إن حقّ وإن كذب على معنى : إن وقع حق وإن وقع كذب ، أو على : إن كان فيه حقّ وإن كان فيه كذب.

(ومثل ذلك قول العرب في مثل من أمثالها :

" إن لا حظيّة فلا أليّة" أي إن لا تكن لك في الناس حظيّة فإنّي غير أليّة ، كأنها قالت في المعنى : إن كنت ممّن لا يحظى عنده فإنّي غير أليّة ، ولو عنت بالحظّية نفسها لم يكن إلّا نصبا إذا جعلت الحظية على التفسير الأول).

أصل هذا أنّ رجلا تزوج امرأة فلم تحظ عنده ، ولم تكن بالمقصّرة في الأشياء التي تحظي النّساء عند أزواجهن فقالت : " إن لا حظية فلا ألية" أي : إن لم تكن حظية النساء لأن طبعك لا يلائم طباعهن فإنّي غير مقصّرة فيما يلزمني للزوج. يقال من ذلك : ما

__________________

(١) خزانة الأدب ٩ : ٣٣٧ ؛ تفسير الطبري ١٤ : ٨٢ ؛ مغني اللبيب ٤ : ٣٨ ؛ معاني القرآن ٢ : ١٠٥ (بدون نسبة) وروايته :

إن العقل في أموالنا لا نضق به

ذراعا وإن صبرا فنعرف للصبر

(٢) البيت منسوب إلى (النعمان بن المنذر) :

خزانة الأدب ٤ : ١٠ ؛ الأغاني ١٥ : ٣٦٦ ؛ شرح المفصل ٢ : ٩٧ (وما) بدلا من (فما) ؛ شرح ابن عقيل ١ : ٢٠٦ (من قول) بدلا من (من شيء).

١٥٨

ألوت في كذا أي : قصرت ، وما ألو جهدا : أي ما أقصّر ، وهو آل وأليّ أي : مقصّر ، ولألوت موضع آخر ، يقال : ألوت الشيء إذا استطعته ، وهي لغة هذيل ، قال :

جهراء لا تألو إذا هي أظهرت

بصرا ولا من عيلة تغنيني (١)

وقوله : لو عنت بالحظية نفسها لم يكن إلا نصبا. يعني : إن كان التقدير في قوله" إن لا حظيّة" إن لا أكن حظية فالنصب لا غير.

قال : (ومثل ذلك قد مررت برجل إن طويلا وإن قصيرا).

لا يكون في هذا إلا النصب ، لأنه لا يجوز أن يحمل الطويل والقصير على غير الأول.

يعني أنك تقدّر إن كان طويلا ، وتجعل في كان ضمير الرجل وهو اسم كان فلا بد من أن ينتصب الطويل على الخبر ، لا يمكن فيه غير ذلك كما أمكن في : إن حقّ وإن كذب أن تقدّر : إن كان فيه حقّ وإن وقع فيه حقّ ، ولا يكون فيه ضمير الأوّل ، ولا يحسن في : إن طويل وإن قصير ، إن كان فيه طويل أو كان فيه قصير ، لأنك لا تقول إن كان في زيد طويل ؛ لأن زيدا هو الطويل وإنما تقول : إن كان زيد طويلا.

وقال :

(لا تقربنّ الدّهر آل مطرّف

إن ظالما أبدا وإن مظلوما) (٢)

فهذا لا يجوز فيه إلا النصب ، لأنك إنما تريد إن كنت ظالما وإن كنت مظلوما. قال :

(فأحضرت عذري عليه الشّهو

د إن عاذرا لي وإن تاركا) (٣)

هذا رجل يخاطب أميرا في شيء قذف به عنده وعذره حجّته ، وأراد : إن كنت عاذرا لي أيها الأمير وإن كنت تاركا ؛ فنصبه لأنه عنى الأمير المخاطب ، ولو قال : إن

__________________

(١) ديوان الهذليين ق ٢ : ٢٦٣ ؛ وشرح أشعار الهذليين : ٤١٥ ؛ تاج العروس (ألو).

(٢) قطر الندى : ١٤١ ، مغني اللبيب ١ : ٣٩١ ؛ ونسبه بعضهم إلى حميد بن ثور الهلالي ، ورواية البيت في ديوان حميد ١٣٠ هكذا :

لا تغزون الدهر آل مطرف

لا ظالما أبدا ولا مظلوما

(٣) البيت لعبد الله بن همام السلولي :

شرح أبيات سيبويه ١ : ١٩٨ ؛ اللسان (شهد).

١٥٩

عاذر لي وإن تارك ، على معنى : إن كان لي في الناس عاذر أو تارك ، ومعنى تارك : غير عاذر جاز.

(قال النابغة :

حدبت عليّ بطون ضنّة كلّها

إن ظالما فيهم وإن مظلوما (١))

فلا يكون هذا إلّا نصبا ، لأنه أراد إن كنت فيهم ظالما وإن كنت مظلوما.

قال سيبويه : (ومن ذلك مررت برجل صالح وإن لا صالحا فطالح).

فهذا يشبه إن خيرا فخير على الوجه المختار.

ومن العرب من يقول : إن لا صالحا فطالحا بإضمار فعلين على من قال : إن خيرا فخيرا ، كأنه يقول : إن لا يكن صالحا فقد لقيته طالحا.

وزعم يونس أنّ من العرب من يقول : إن لا صالح فطالح ، كأنه قال : إن لا أكن مررت بصالح فبطالح.

قال سيبويه : (وهذا ضعيف قبيح لأنك تضمر بعد" إن لا" فعلا آخر غير الذي يضمر بعد" إن لا" في قولك إن لا يكن صالحا فطالح ولا يجوز أن يضمر الجارّ).

فقبّح سيبويه قول يونس من جهتين :

إحداهما : أنك تحتاج إلى إضمار أشياء ، وحكم الإضمار أن يكون شيئا واحدا وذلك أنك إذا قلت : مررت برجل إن لا صالح فطالح تقديره : إن لا أكن مررت بصالح ، فتضمر" أكن" ومررت والباء ، ولا يشبه هذا إن لا صالحا لأنك إذا قلت إن لا صالحا تقديره : إن لا يكن صالحا فتضمر شيئا واحدا.

والجهة الأخرى : أنّ حرف الجر يقبح إضماره إلّا في مواضع قد جعل منه عوض كقولهم :

وبلد عامية أعماؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه (٢)

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني :

ديوانه : ١٠٣.

(٢) ديوان رؤبة ٣ ؛ الإنصاف ١ : ٣٧٧ ١ : ٣٧٧ ؛ شرح المفصل ٢ : ١١٨ ؛ شذور الذهب ٣٨٨

برواية :

(وبلد مغبرة أعماؤه) ؛ الصاحبي في فقه اللغة ٢٠٨.

١٦٠