شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

قيل له : إنما يجوز ذلك في المصادر التي يحسن معها إظهار الأوقات كقولنا : " سير عليه وقت مقدم الحاج" ، ولما كانت" المرة" لا يحسن إظهار الوقت معها ، فيقال : " سير عليه وقت ذات مرة" ، ولا" وقت مرة" ، لم تجر مجرى مقدم الحاج.

وأما" بعيدات بين" فهي جمع" بعد" مصغّرا و" بعد" و" قبل" لا يتمكنان ، ولا يجوز أن يقال : " سير عليه قبلك" ولا بعدك ولا يرفعان ، والذي منعهما من التصرف والرفع أنهما ليستا باسمين لشيء من الأوقات ، كالليل والنهار ، والساعة ، والظهر ، والعصر ؛ وقد استعملا في الوقت للدّلالة على التقديم والتأخير ، وأما" بكر" و" عتمة" و" ضحوة" وما أشبه ذلك ، فقد ذكرنا الوجه في خروجها عن التمكن إذا كنّ من يومك ، وكذلك قولك : " سير عليه ذات يوم وذات ليلة" ؛ لأن نفس" ذات" ليست من أسماء الزمان فأجري" ذات يوم" و" ذات ليلة" مجرى" ذات مرة".

قال : (وكذلك سير عليه ليلا ونهارا ، إذا أردت ليل ليلتك ونهار نهارك ، لأنه إنما يجري على قولك : " سير عليه" بصرا وسير عليه ظلاما).

يعني إذا أردت الليل من ليلتك التي تلي يومك ، والنهار الذي أنت فيه ، فهو يجري مجرى : " ضحوة" و" بكرا" من يومك ، وهو غير متمكن ؛ لأنه نكرة قد عرف بها ما يعرف بالمعارف فإن قلت : " سير عليه ليل طويل ، ونهار طويل ، جاز ، وتمكن لأنك لم ترد ذلك من يومك ، وإن قلت : سير عليه ليل ونهار ، على هذا المعنى جاز.

قال : (فهو متمكن في هذا الحال ، وغير متمكن على الحد الأول ، كما أن السحر بالألف واللام متمكن في المواضع التي ذكرت ، وبغير الألف واللام غير متمكّن فيها).

يعني أنك إذا أردت ليل ليلتك ، في قولك : " سير عليه ليلا ونهارا ، كان غير متمكن ، كما أنك إذا قلت : " سحر" بغير ألف ولام ، وأردت سحر يومك ، فهو غير متمكن ، وإذا قلت : " سير عليه ليل طويل" ، فهو متمكّن ، كما أن السحر بالألف واللام متمكن.

قال : " وذو صباح بمنزلة" ذات مرة" ، تقول : " سير عليه ذا صباح" ، أخبرنا بذلك يونس إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم : " ذات مرة" و" ذات ليلة" ، وأما الجيّدة العربية فأن تكون بمنزلتها ظرفا ، قال رجل من خثعم :

١٢١

عزمت على إقامة ذو صباح

لشيء ما يسوّد من يسود (١)

فهو على هذه اللغة يجوز فيه الرفع.

قال بعض أصحابنا : أحسب أنه قد وقع في كلام سيبويه غلط ، وذلك أن في نسخة المبرد قد جاء : في لغة لخثعم" ذات مرة وذات ليلة" ، وهذا ينقضه قوله : " وأما الجيدة فأن تكون بمنزلتها" ، وأحسب أن يونس حكى : " ذات يوم وذات ليلة" ، ويكون قوله : " وأما الجيدة فأن تكون بمنزلتها".

وقوله : " فهو على هذه اللغة"

يعني من قال : " ذات يوم وذات ليلة" وفي بعض النسخ" مفارقا ذات مرة وذات ليلة" وهذا أيضا خطأ ؛ لأنه مثل : " ذات ليلة" ، وإنما هو اضطراب وقع عند القارئ ، فزاد" مفارقا" ، وهو لا شيء ، وقال بعض أصحابنا : لا يصح الكلام إلا بقوله : " مفارقا" ، وذلك أنه قال : " وذو صباح بمنزلة ذات مرة" ، يعني أنهما غير متمكنين ، ثم قال : " إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم مفارقا ذات مرة" يعني أنه جاء متمكنا مثل البيت الذي أنشده.

قال : " الجيدة أن تكون بمنزلتها فتكون متمكنة".

وقوله : " فهو على هذه اللغة يجوز فيها الرفع"

يعني على ما جاء في البيت متمكنا يجوز : " سير عليه ذو صباح" قال أبو سعيد : هذا الفصل فيه اضطراب ، وأنا ألخصه وأبين كلام سيبويه ومذهبه من كلام المفسّرين ومذاهبهم ، إن شاء الله تعالى :

اعلم أن" سيبويه" قد سوّى بين : " ذات يوم" و" ذات ليلة" و" ذات مرة" وخبرنا أنه غير متمكن فيما مضى من الباب ، وجعل" ذا صباح" بمنزلة" ذلك".

ثم قال : " إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم" ذات مرة وذات ليلة" ، وفي بعض النسخ : " في لغة لخثعم مفارقا ذات مرة وذات ليلة" فإن كانت الرواية : " مفارقا ذات مرة" فإنه يريد أن" ذا صباح" في لغة خثعم قد جاء مفارقا : " ذات مرة" ، وتمكن في لغتهم فجاز فيه الرفع والجر ، وأنشد البيت في الجر.

ويكون قوله : " وأما الجيدة العربية فأن تكون بمنزلتها"

__________________

(١) البيت لأنس بن مدركة الخثعمي الخزانة ١ / ٤٧٦ ـ ابن يعيش ٣ / ١٢ الدرر ١ / ١٦٨.

١٢٢

يعني أن تكون : " ذو" بمنزلة : " ذات مرة" في ألّا يتمكن.

وإن كانت الرواية بغير : " مفارق" ، فإنه يعني في لغة خثعم : " ذات مرة وذات ليلة" متمكنان ، وأما الجيدة العربية فأن تكون بمنزلتها التي قد ذكرنا في غير المتمكن.

ثم أنشد بيتا في تمكن : " ذي صباح" ؛ لأنه قد علم أن : " ذا صباح وذات مرة وذات ليلة" بمنزلة واحدة ، ولا معنى لقول من قال من أصحاب سيبويه : إن ذات يوم وذات ليلة بخلاف ذات مرة ، لأن : " ذات" غير متمكنة ، وإن كانت مضافة إلى متمكن ؛ إذ لم تكن من أسماء الزمان.

قال : " وجميع ما ذكرنا من غير المتمكن إذا ابتدأت اسما ، لم يجز أن تبنيه عليه وترفع ، إلا أن تجعله ظرفا ، وذلك قولك : موعدك سحيرا ، وموعدك صباحا"

ولا يجوز أن تقول : " موعدك سحير" ، ولا أن تقول : " موعدك ذات مرة"

قال : " ومثل ذلك إنه يسار عليه صباح مساء إنما معناه صباحا ومساء ، وليس يريد بقوله : صباحا ومساء ، صباحا واحدا ، ولا مساء واحدا ولكنه يريد صباح أيامه ومساءها".

يقال : " سير عليه صباح مساء" و" صباحا ومساء وصباح مساء" ومعناهن واحد ، وإنما بنيت ؛ لأن فيها معنى الواو ، وجعلتهما اسما واحدا ؛ لأنهما وقعا لأوقات مجتمعة ، كما وقعت : " خمسة عشرة" لعدد مجتمع ، فجعلت اسما واحدا ، وبنيت ؛ لأنها تضمنت معنى الواو.

وأما : " حضر موت" اسم رجل أو اسم موضع ، فلا تبنه ؛ لأنه ليس فيه معنى الواو ، وليس : " سير عليه صباح مساء" مثل : " ضربت غلام زيد" في أن : " سير" لا يكون إلا في الصباح ، كما أن الضرب لا يقع إلا في الأول ـ وهو الغلام ـ دون الثاني ؛ لأنك إذا قلت : ضربت غلام زيد ، أفدت بزيد معنى ، وإن لم ترد في قولك : " سير عليه صباح مساء" أن السير وقع فيهما ، لم يكن في إتيانك بالمساء فائدة.

قال : " فليس يجوز في هذه الأسماء التي لم تمكن من المصادر ، التي وضعت للحين ، وغيرها من الأسماء ، أن تجرى مجرى يوم الجمعة وخفوق النجم"

إن قال قائل : هل ذكر" سيبويه" مصدرا غير متمكن فيما تقدم من الكلام ففي ذلك جوابان :

١٢٣

أحدهما : ما قاله : " أبو العباس" أنه لم يذكر مصدرا غير متمكن ، ولكنه قدم هذا لك ليعلمك أن كل مصدر غير متمكّن لا يتّسع فيه نحو : " سبحان" ، لا يجوز أن تقول : " جئتك زمن سبحانه" ، كما تقول : جئتك زمن تسبيحه.

والجواب الثاني : أن يكون عنى صباح مساء ؛ لأنه من لفظ المصادر ، ألا ترى أنك تقول : " أصبحنا صباحا" كما تقول : تكلّمنا كلاما ، فتضع الصباح موضع الإصباح ، كما وضعت الكلام موضع التكليم. فيجوز على هذا أن يكون عنى صباحا.

قال سيبويه : " ومما يختار أن يكون ظرفا ، ويقبح أن يكون غير ظرف صفة الأحيان ، كقولك : سير عليه طويلا ، وسير عليه حديثا ، وسير عليه كثيرا ، وسير عليه قليلا ، وسير عليه قديما".

يريد أنك إذا جئت بالنعت ، ولم تجئ بالمنعوت ضعف ، وكان الاختيار ألا يستعمل إلا ظرفا ؛ لأنك إذا قلت : " سير عليه طويلا" ، والطويل يقع على كل شيء طال ، من زمان وغيره ، فإذا أردت به الزمان فكأنك استعملت غير لفظ الزمان ، فصار بمنزلة قولك :

" ذات مرة" و" بعيدات بين".

قال : وإنما نصبت صفة الأحيان على الظرف ، ولم يجز الرفع ؛ لأن الصفة لا تقع مواقع الأسماء ، كما أنه لا يكون إلا حالا في قوله : " ألا ماء ولو باردا" ؛ لأنه لو قال : " أتاني بارد" لكان قبيحا ، ولو قال : آتيك بجيد ، لكان قبيحا ، حتى تقول : بدرهم جيد ، وتقول : أتيتك به جيدا.

يعني لما لم تقو الصفة إلا بتقدّم الموصوف جعلوه حالا في قولك : " ولو باردا" أو" أتيتك به جيدا" ، وكذلك الصفة لا تجوز إلا ظرفا ، وفي قولك : " سير عليه طويلا" ، أو تجري على اسم ، فتقول : " سير عليه دهر طويل".

قال : وقد يحسن أن تقول : " سير عليه قريب" لأنك تقول : أتيته مذ قريب ، والنصب عربي جيد.

وإنما جاز : " مني قريب" لأنه قد تمكن حتى صار يعنى به الرجل ، فتقول : " زيد مني قريب" فتجعله هو القريب ، وتقول : " زيد منّي قريبا" ، أي في موضع قريب.

وربما جرت الصفة في كلامهم مجرى الاسم".

حتى تغني عن الموصوف ، كقولهم : " الأبرق والأبطح" وإنما يراد به : المكان

١٢٤

الأبرق ، وهو الذي تربته ألوان ، و" الأبطح" : وهو المكان السهل.

قال : " وتقول : سير عليه مليّ من النهار".

ليس" مليّ" بمنزلة" طويل" : لأن الطويل يقع لكل شيء ، ومليّ لا يكاد يستعمل إلا في الزمان.

قال : " ومما يبين لك أن الصفة لا يقوى فيها إلا هذا أن سائلا لو سألك : هل سير عليه؟ لقلت : نعم ، " سير عليه شديدا" و" سير عليه حسنا" فالنصب في هذا على أنه حال ، وهو وجه الكلام ؛ لأنه وصف السّير ، ولا يكون فيه الرفع ، لأنه لا يقع موقع ما كان اسما ، ولم يكن ظرفا ؛ لأنه ليس بحين يقع فيه الأمر ، إلا أن تقول : سير عليه سير حسن ، أو : سير عليه سير شديد.

يعني أنك إذا قلت : " سير عليه شديدا" ، فالوجه أن تنصب شديدا على الحال.

ولا يحسن أن تقول : " شديد" على معنى شدّ شديد ؛ لأنك لم تأت بالموصوف فضعف ، و" شديدا وحسنا" حال من السير ، وهو مضمر ، قد أقيم مقام الفاعل فكأنك قلت : سير عليه السير شديدا.

وقوله : " ليس بحين يقع فيه الأمر"

يعني : " شديدا وحسنا" ليس بمنزلة مليّ وقريب.

قال : فإن قلت : سير عليه طويل من الدهر ، وشديد من السير ، فأطلت الكلام ووصفته كان أحسن وأقوى ، وجاز ، ولا يبلغ في الحسن الأسماء ، وإنما جاز حين وصف ؛ لأنه ضارع الأسماء ؛ لأن الموصوفة في الأصل هي الأسماء.

يعني أنك لمّا قلت : " سير عليه طويل من الدّهر" ، قرب من قولك : " سير عليه دهر طويل" فجاز فيه الرفع.

هذا باب ما يكون من المصادر مفعولا فيرتفع كما

ينتصب إذا شغلت الفعل به

وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره

يعني بالمصدر قولك : " سير عليه سير شديد" ترفع السير إذا شغلت الفعل به ، وشغلك الفعل به أن تقيمه مقام الفاعل.

١٢٥

" وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره" ، وشغلك الفعل بغيره ، أن تقيم غيره مقام الفاعل ، كقولك : " سيّر زيد تسييرا" ، و" ضرب زيد ضربا" ، وترتيب الكلام : فيرتفع إذا شغلت الفعل به كما ينتصب.

يعني أنه مصدر مفعول في حال الرفع ، كما أنه مفعول في حال النصب.

قال : وإنما يجيء ذلك على أن تبين أيّ فعل فعلت أو تأكيدا.

يعني إنما يجيء المصدر منصوبا أو مرفوعا على أحد وجهين : إمّا لبيان صفة المصدر الذي دل الفعل عليه ، وإما للتأكيد.

فأما الذي لبيان صفة المصدر ، فقولك : " ضربت زيدا ضربا شديدا" و" سرت سير الإبل".

وأما الذي يجيء تأكيدا فقولك : " ضربت زيدا ضربا" و" حرّكته تحريكا" وإنما صار تأكيدا ؛ لأنه ليس فيه من الفائدة إلا ما في قولك" ضربت" و" حركت".

قال : " فمن ذلك قولك على قول السائل : " أيّ سير سير عليه" فتقول : " سير عليه سير شديد" و" ضرب به ضرب ضعيف" ، فأجريته مفعولا والفعل له".

أما قوله : " فمن ذلك"

يعني من المصدر الذي يرتفع" ضرب به ضرب ضعيف".

وقوله : " فأجريته مفعولا والفعل له"

يعني" ضرب ضعيف" مفعول في الحقيقة.

وقوله : و" الفعل له"

يعني أنه قد صيغ الفعل له ، ورفع به ، وصيّر حديثا عنه.

قال : (وإن قلت : " ضرب به ضربا ضعيفا" ، فقد شغلت الفعل به).

هذا الذي في الكتاب وينبغي أن يكون : " فقد شغلت الفعل بغيره" ، كأنك شغلت الفعل بالباء ، وجعلت موضعها رفعا.

ويجوز أن يكون اللفظ الواقع على ما يشاكل لفظ الكتاب ، أضمر في ضرب الضرب ، وشغل الفعل به ، فيكون قوله : به الهاء تعود إلى المصدر ، والمضمر في : " ضرب" مصدر ، فلا يستكره أن يكون إياه عنى.

وقد يجوز أن يقال : شغلت الفعل به ، ويكون" به" في موضع الفاعل لشغلت ، وهو

١٢٦

وجه لطيف.

قال : " وكذلك إن أردت هذا المعنى ولم تذكر الصفة ، تقول : " سير عليه سير" و" ضرب به ضرب" كأنك قلت : " سير عليه ضرب من السير" ، أو سير عليه شيء من السير ، وكذلك جميع المصادر ترتفع على أفعالها إذا لم يشغل الفعل بغيرها".

يعني يجوز أن ترفع المصدر وإن لم تصفه ، فتقول : " ضرب به ضرب".

وقوله : " إن أردت هذا المعنى"

يجوز أن يعني إن أردت معنى الصفة ، وإن لم يذكرها ، ويجوز أن يعني : إن أردت هذا المعنى من إقامته مقام الفاعل ، وصياغة الفعل له.

قال : وتقول : " سير عليه أيّما سير سيرا شديدا" ، كأنك قلت : سير عليه بعيرك سيرا شديدا ، وسير عليه سيرتان أيّما سير".

يعني أنك إذا ذكرت مصدرين للفعل جاز أن تقيم أحدهما مقام الفاعل ، وتنصب الآخر ، وإنما يذكر المصدران والأكثر في الفعل ، إذا كانت في كل واحد منهما فائدة ، لأن قولك : " سير عليه سيرتان أيّما سير" ، في" سيرتين" فائدة العدد ، وفي : " أيّما سير" فائدة المبالغة ، وما يحمد من السير.

ويجوز أن تقول : " سير عليه سيرتان أيّما سير سيرا شديدا" إذا رفعت واحدا ونصبت الثاني.

قال : " وتقول على قول السائل : " كم ضربة ضرب به" وليس في هذا إضمار شيء سوى" كم" ، والمفعول : " كم" ، فتقول : ضرب به ضربتان".

تقدير هذا الكلام كم ضربة ضرب بالسوط؟ والهاء كناية عنه ، أو عن غيره ممّا يضرب به.

والكلام مجاز لا حقيقة ، وذلك أنه جعل : " كم" لمقدار الضرب ، وجعل ضميره في" ضرب" مرفوعا بضرب ، مقاما مقام الفاعل ، فكأنه قال : " أعشرون ضربة ضرب بالسوط؟ " فجعل الضرب مضروبا ، والضرب لا يضرب ، وإنما يضرب المضروب ، كما قال : " نهارك صائم" والنهار لا يصوم.

ولا يجوز البتة : " متى سير به؟ " و" أين جلس به؟ " على أن يكون في : " سير" لم يسمّ فاعله راجع إلى : " متى" و" أين" ، وإنما يجوز هذا في : " كم" ؛ لأنه يخبر عنه ، ويكون في

١٢٧

موضع رفع ، ولا يجوز ذلك فيهما ، ولم أجد" سيبويه" ذكر هذا ، وأشار إليه على المعنى.

ثم قال بعد فصل معناه كمعنى ما ذكرنا من المجاز : وليس ذلك بأبعد من" ولد له ستون عاما".

وقد فسرنا ذلك.

قال : (وسمعت من أثق به من العرب يقول : " بسط عليه مرتان" يريد : بسط عليه العذاب مرتين).

يحتمل أن تكون : " مرتين" يعني : " وقتين" ، ويحتمل أن يعني : " بسطتين" على المصدر.

قال : " وتقول : سير عليه طوران ، طور كذا وطور كذا".

ذكر بعض أصحابنا أن الرفع في هذا أقوى ، والنصب يضعف ؛ لأنك لما ثنيت فقد قربت من الأسماء وقوي الرفع ، والنصب جائز إذا أضمرت ما تقيمه مقام الفاعل ، فتقول : " سير عليه مرّتين وطورين" كأنك قلت : سير عليه السير مرتين ، ويجوز أن تقيم حرف الجرّ مقام الفاعل.

قال : (وتقول : ضرب به ضربتين ، أي قدر ضربتين من الساعات ، كما تقول : سير عليه ترويحتين ، فهذا على الأحيان ، ومثل ذلك : انتظر به نحر جزورين).

وقد بينا المصادر التي تجعل ظروفا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، فإذا قلنا : " ضرب به ضربتين" ، فكأنا قلنا : وقت ضربتين.

قال : (ومما يجيء توكيدا وينصب قوله : سير عليه سيرا ، وانطلق به انطلاقا ، وضرب به ضربا ، فينصب على وجهين ، على أنه حال على حد قولك : ذهب به مشيا ، وقتل به صبرا).

تريد به الحال ، كأنه قال : ذهب به ماشيا ، وقتل به مصبورا ، وإن وصفت المصدر على هذا الحد كان نصبا كقولك : " ذهب به مشيا عنيفا" كأنه قال : ماشيا معنفا.

والوجه الآخر ما قاله سيبويه :

" وإن شئت نصبته على إضمار فعل آخر".

فيكون قولك : " سير عليه سيرا" كقولك : " سير عليه مسيرا" ، و" ضرب به ضربا" ، أي ضرب به مضروبا ، وعلى هذا يجوز أن تقول : " قام زيد قائما" على الحال.

١٢٨

وربما استوحش من هذا بعض النحويين البصريين ممن لا يفهم ، فيقول : إذا قلنا : " قام زيد قائما" ، وأنت تعني في حال قيامه ، قيل له : إنما يذكر هذا تأكيدا ، وإن كان الأول قد دل عليه ، كما يذكر المصدر بعد الفعل تأكيدا ، كما تقول : " ضربت زيدا ضربا" وإن كان الأول يدل عليه ، وقد قال الله عزوجل : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(١) ، فقد يجوز أن يكون على الحال ، ويجوز أن يكون على المصدر ، بمعنى رسالة ، وإن الأول قد دل عليه.

وقوله : " ذهب به مشيا" في معنى" ماشيا" على الحال ، كما تقول : " جاء زيد عدلا" ، أي : " عادلا" فإن وصفت المصدر لم يتغير النصب ، وجاز أن يكون على المصدر ، وعلى الحال ، كقولك : " سير به سيرا عنيفا".

قال : " وإن شئت نصبته على إضمار فعل آخر" ويكون بدلا من اللفظ بالفعل ، تقول : سير عليه سيرا ، وضرب به ضربا ، كأنك قلت بعد ما قلت : سير عليه يسيرون سيرا ، ويضربون ضربا.

ودل المصدر على الفعل لأن المصدر يكون بدلا من اللفظ بالفعل.

وجرى على قوله : " إنما أنت سيرا" ، سيرا.

يريد : تسير سيرا.

وعلى قوله : " الحذر الحذر".

يريد : احذر الحذر.

قال : (وإن قلت على هذا الحد : " سير عليه السير" جاز أن تدخل الألف واللام ؛ لأن المصدر لا يمتنع من ذلك وإن وصفت أو أضفت لم يتغير نصبه على المصدر ، كقولك : سير عليه سير البريد ، ولا يجوز أن تدخل الألف واللام في السير ، إذا كان حالا ، كما لم يجز أن تقول : ذهب به المشي العنيف).

يعني أن المصدر إذا كان في معنى الحال ، فالقياس يمنع من دخول الألف واللام عليه ، كما لا تدخل الألف واللام على الحال ، لا تقول : " مررت بزيد القائم" على الحال.

ثم أنشد سيبويه :

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٧٩.

١٢٩

نظّارة حين تعلو الشمس راكبها

طرحا بعيني لياح فيه تحديد (١)

يقال : " لياج" و" لياح" ، وهو الثور الوحشي ، ويروى : " تجديد" فمن قال : " تحديد" أراد في بصره وناظره. ومن قال : " تجديد" أراد في لونه ، والجدّة : الطريقة في الشيء ، تخالف سائر لونه ، من قوله وعزوجل : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ)(٢).

والشاهد في البيت قوله : " طرحا" وهو مصدر فعل لم يذكره ، ولكن" نظارة" قد دلت عليه ؛ لأنه إذا قال : " نظارة" فقد علم أنها تقلّب طرفها وناظرها في جهات ؛ لأن النظر إنما هو تقليب الناظر ، فإذا قلّبت الناظر في الجهات فقد طرحته فيها ، فكأنه قال : تطرح نظرها طرحا.

وإنما جعل هذا شاهدا للكلام الذي قبله ؛ لأنه ذكر أن قوله : " سير به سيرا" أنه يجوز أن يكون نصب : " سيرا" بإضمار فعل آخر.

قال : " وإن شئت قلت : سير عليه السير".

فتقيمه مقام الفاعل ، وإن قلت : " سير عليه السير الشديد" فالرفع فيه أقوى ؛ لأنه من الاسم أقرب ؛ بالوصف الذي وصف به.

قال : (وجميع ما يكون بدلا من اللفظ بالفعل لا يكون إلا على فعل قد عمل في الاسم".

يعني أنك إذا نصبت المصدر بإضمار فعل ، فذلك الفعل الذي أضمرته معه فاعله ؛ لأن الفعل لا يكون إلا بفاعل ، وكذلك إذا قلت : " الحذر الحذر" فإنما تريد : احذر الحذر ، فالفعل والفاعل محذوفان.

ومعنى قوله : " وقد عمل في الاسم" :

أي عمل في الفاعل وحذف معه.

قال : " ومما يسبق فيه الرفع من المصادر ؛ لأنه يراد به أن يكون في موضع غير المصدر قوله : " قد خيف منه خوف" و" قد قيل في ذلك قول".

يعني أنه قد يجيء به على لفظ المصدر المفعول والفاعل ، وإذا كان كذلك ، عاملناه

__________________

(١) سيبويه ١ / ١١٨ بولاق ونسبه سيبويه للراعي وهو يصف ناقته.

(٢) سورة فاطر ، آية : ٢٧.

١٣٠

معاملة المفعول لا المصدر ، فقوله : " خيف منه خوف" يراد أمر مخوف ، ولم ترد الخوف الذي في القلب.

والمصدر الذي بمعنى الفاعل قوله : " كان منه كون" أي أمر من الأمور ، كأنه قال : كان منه أمر كائن.

قال : وإن جعلته ـ على ما حملت عليه السير والضرب في التوكيد ـ حالا ، وقع به الفعل ، أو بدلا من اللفظ بالفعل ، نصبت.

يعني إن جعلت : " خيف منه خوف" هو الخوف الذي في القلب ، فسبيله سبيل قولك : " سير به سيرا".

قال : (فإذا كان المفعل مصدرا جرى مجرى ما ذكرنا من الضرب وذلك قولك : إن في ألف درهم لمضربا ، يعني أن فيها لضربا).

قال أبو سعيد : اعلم أن المصادر هي مفعولة ، والميم تدخل ؛ لعلامة المفعول. فإذا كان الفعل ثلاثيّا ، فإن الميم تدخل في مصدره ، فيكون على" مفعل" كقولك : " ضربته مضربا" و" قتلته مقتلا". كما تقول : " ضربته ضربا" و" قتلته قتلا"

ويكون على مفعل كقولك : " وعدته موعدا" ، و" وقفته موقفا".

وهو في الفعل الثلاثي دخلته الميم ؛ لأنه مفعول ، إلا أنه مفعول يخالف لفظ المفعول به ؛ لأنك تقول : " قتلته فهو مقتول" ، و" ضربته فهو مضروب" ، وإذا جاوز الفعل الثلاثة استوى لفظ المفعول والمصدر ، فقلت : " أخرجت زيدا إخراجا" و" مخرجا" والمفعول به مخرج وأنزلته منزلا ، والمفعول به منزل ، قال الله عزوجل : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً)(١) يجوز أن يكون : " إنزالا مباركا".

فإذا كان الأمر على ما وصفنا جرى المصدر الذي فيه ميم ، مجرى ما ليس فيه ميم ، فيقال : " سير بزيد مسير شديد" ، و" مسيرا شديدا" ، وضرب به مضرب شديد ، ومضربا شديدا ، كما تقول : " سير به سير شديد ، وسيرا شديدا" ، وقال جرير :

ألم تعلم مسرّحي القوافي

فلا عيّا بهنّ ولا اجتلابا (٢)

__________________

(١) سورة المؤمنون ، آية : ٢٩.

(٢) ديوان جرير ٦٢ ، ابن الشجري ١ / ٤٢ ، رغبة الآمل ٢ / ٢٥٩.

١٣١

أراد : تسريحي ، و" القوافي" في موضع نصب ، وأسكنه ضرورة ، كما قال :

كأنّ أيديهن بالقاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق (١)

قال : (وكذلك تجري المعصية بمنزلة العصيان والموجدة بمنزلة المصدر لو كان الوجد يتكلم به).

يعني الموجدة في الغضب سبيلها سبيل الوجد ، الذي ليس فيه ميم ، ولا يتكلم بالوجد في معنى الموجدة ، يقال : " وجدت عليه موجدة" إذا غضبت عليه ، و" وجدت به وجدا" إذا أحببته ، و" وجد وجدا" إذا استغنى ، و" وجدت الضالّة وجدانا" إذا أصبتها ، و" وجدت زيدا عالما وجدا" إذا علمته.

" فالموجدة" في الغضب تجري مجرى" الوجد" في الحب ، تقول : " وجدت عليه موجدة" ، ولا يقال : " وجدت عليه وجدا" ، كما تقول : " وجدت به وجدا" ، ولا يقال : " وجدت به موجدة" ، وقال الشاعر :

تداركن حيا من نمير بن عامر

أسارى تسام الذّل قتلا ومحربا (٢)

يريد حربا أي سلبا ، ويجوز أن يكون حربا في معنى غيظا.

قال : (فإن قلت : ذهب به مذهب ، أو سلك به مسلك ، رفعت ؛ لأن" المفعل" هاهنا ليس بمنزلة الذهاب والسلوك).

يعني أن" المذهب" و" المسلك" تريد به المكان الذي يذهب فيه ويسلك ، والأمكنة أقرب إلى الرفع من المصادر ؛ لأن الأماكن جثث ، وهي شبيهة بالأناسيّ.

قال سيبويه : " وهو بمنزلة قولك : ذهب به السوق"

فقال : إن قال قائل : لم أسقط حرف الجر من السوق ، وليس بظرف ، وقد زعم سيبويه أن قولهم : " ذهبت الشام" شاذ ؛ لأنه يتعدّى إليه بحرف الجر ، والشام ليس بظرف ؛ لأنه مكان مخصوص.

فالجواب أن هذا : وإن لم يكن ظرفا فإن العرب تتسع فيه ؛ لعلم المخاطب فيضمر ،

__________________

(١) البيت لرؤبة ديوانه ١٧٩ والخزانة ٣ / ٥٢٩ والخصائص ١ / ٣٠٦.

(٢) نسبه سيبويه إلى ابن أحمد ١ / ١١٩ بولاق. ولم ينسبه ابن الأنباري في شرح القصائد السبع ٤٢٩.

١٣٢

فيكون التقدير : " ذهب به مكان السوق". ، ويحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه.

قال : وكذلك المفعل إذا كان حينا ، نحو قولهم : " أتت الناقة على مضربها" أي على زمان ضرابها ، وكذلك : " مبعث الجيوش" ، تقول : " سير عليه مبعث الجيوش ، ومضرب الشّول".

يريد أنهم قد أجروا ما في أوله الميم في الزمان ، كما أجروه في المكان. فالمكان قولك : ذهب به مذهب ، وسلك به مسلك.

والزمان قولهم : أتت الناقة على مضربها ، وسير عليه مبعث الجيوش ، وأنشد قول حميد بن ثور :

وما هي إلا في إزار وعلقة

مغار ابن همام على حيّ خثعما (١)

والشاهد فيه : مغار ابن همام ، وزعم" الزجاج" أن" سيبويه" أخطأ في ذكره هذا البيت في هذا الموضع ، وذلك أنه قدر" مغارا" زمانا ، والزمان لا يتعدى ، وإنما" مغار" مصدر ، قال : والدليل على ذلك أنه قد عدّاه ، فإنما تقديره زمن إغارة ابن همام على حي خثعم ، مثل مقدم الحاج ، وهكذا قال" أبو العباس".

وقد غلطا في الرد عليه ؛ لأن المصادر التي جعلها" سيبويه" ظروفا إنما هي مضاف إليها الزمان ، فتكون هي نائبة عنه ، فمغار الذي في البيت وإن كان مصدرا لم يخرج عما قاله" سيبويه".

وتأويل البيت : أنه وصف امرأة ، فذكر أنها في إزار وعلقة ، وهي البقيرة ، وهي قميص بلا كمين ، يريد أنها ـ في وقت إغارة" ابن همام" ـ في هذا الزي ، فإما أن تكون صغيرة ، أو بمعنى آخر ، ويقال إن ابن همام كان لا يغير إلا وهو عريان ، وهذا الذي ينساق على تأويل الزجاج كأنه شبه عريها بعري ابن همام.

__________________

(١) سيبويه ١ / ١٢٠ بولاق وحميد بن ثور بن حزن الهلالي العامري شاعر مخضرم وفد على النبي وأسلم ومات في خلافة عثمان وله ديوان شعر الأغاني ٤ / ٣٥٦ ـ شواهد المغني ٧٣ ـ الخصائص ٢ / ٢٠٨.

١٣٣

هذا باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي

يتعدى إلى المفعول ولا غيره

لأنه كلام قد عمل بعضه في بعض ، فلا يكون إلا مبتدأ لا يعمل فيه شيء قبله ؛ لأن ألف الاستفهام تمنعه من ذلك ، وهو قولك : " قد علمت أعبد الله ثمّ أم زيد" ، و" قد عرفت أبو من زيد" ، و" قد عرفت أيّهم أبوك" ، و" أما ترى أيّ برق هاهنا" ، فهذا في موضع مفعول ، كما أنك قلت : عبد الله هل رأيته ، فهذا الكلام في موضع المبني على المبتدأ.

قال أبو سعيد قوله : " هذا باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره" يريد الاستفهام ، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وقد بينا هذا في أول الكتاب.

والفعل الذي يتعدى قولك : " قد علمت أزيد عندنا أم عمرو" ، و" قد عرفت أبو من زيد" ، والفعل الذي لا يتعدى قولك : " قد فكرت أزيد أفضل أم عمرو فإذا قلت : أزيد عندنا أم عمرو ، " فزيد" مرفوع بالابتداء و" عندنا" خبره ، ودخلت ألف الاستفهام على الجملة ، ثم دخل الفعل على ألف الاستفهام ، فلم يغيّر شيئا مما بعدها ؛ لأن بعدها جملة ، وقد حالت هي بين ما بعدها وما قبلها.

فإذا كان الفعل متعديا إلى مفعولين سد الاستفهام وما بعده مسدّ المفعولين ، كقولك : " خلت أزيد في الدار أم عمرو" ، كما تسد" أنّ" المشددة مسد المفعولين في قولك : " خلت أنّ زيدا قائم".

وإذا كان الفعل يتعدى إلى مفعول ، سد الاستفهام وما بعده مسد ذلك المفعول فقلت : " عرفت أبو من زيد" ، كما قلت : " عرفت أن زيدا قائم".

وإذا كان الفعل لا يتعدى قام الاستفهام وما بعده مقام اسم فيه حرف من حروف الجر ، كما أن" أنّ" المشددة إذا وقعت بعد فعل لا يتعدى ، كان فيها تقدير حرف الجر ، كقولك : " فكرت هل زيد قائم" ؛ كما تقول : " فكرت أن زيدا قائم" والتقدير : فكرت في أن زيدا قائم ، أي في قيامه.

وبعض أصحاب" سيبويه" يروي : " إلى المفعول ولا غيره" بالجر ، وبعضهم يقول : " ولا غيره" بالرفع.

فمن رواه بالجر عطفه على الفعل ، كأنه قال : من الفعل الذي يتعدى ولا من غيره ،

١٣٤

وهو الفعل الذي لا يتعدى.

ومن رفعه عطفه على" ما" الثانية ، كأنه قال : لا يعمل فيه شيء قبله من الفعل المتعدي إلى مفعول ، ولا شيء غير الفعل المتعدي.

واعلم أن هذه الأفعال التي يقع الاستفهام بعدها إنما هي : " أفعال القلوب" من علم ، وظنّ ، وفكر ، وخاطر ، ولا يجوز أن يقع في موقع ذلك فعل مؤثر ، لا يجوز : " ضربت أيهم في الدار" ولا" ضربت أزيد في الدار أم عمرو".

قال أبو عثمان المازني : قولهم : " أما ترى أيّ برق هاهنا" يريد به رؤية العين ، ولم يرد به رؤية القلب ؛ لأنه إذا كان يقول : " انظر إليه ببصرك" ، وجاز هذا في هذا خاصة ؛ لأنها محكية ، ولا يقاس.

وذلك أن الحروف التي تقع على الاستفهام ، إنما تقع عليها الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين ، ورؤية العين لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد.

والقول الصحيح أنه يريد الرؤية التي في معنى العلم ، وإليها يرجع الكلام ؛ لأن الإنسان إذا قال لمن يخاطبه : " أما ترى أي شيء في الدنيا؟ " فليس يريد به رؤية العين وإنما يريد به رؤية العلم ، وقد يقول القائل : " اذهب فانظر زيد أبو من هو" ، وليس يريد اذهب فأبصره بعينك ، وإنما يريد اعلم ذاك.

قال : " ومثل ذلك : " ليت شعري أعبد الله ثمّ أم زيد" و" ليت شعري زيد هل رأيته" ، فهذا في موضع خبر ليت".

يعني أن" شعري" اسم ليت ، و" هل رأيته" جملة في موضع الخبر ، وكذلك" عبد الله هل رأيته" ، " عبد الله" مبتدأ ، و" هل رأيته" في موضع الخبر.

و" شعري" يريد علمي ، يقال : شعر به يشعر شعرة وشعرا ولا يستعمل بعد ليت إلا بطرح الهاء ، كما تقول : امرأة عذراء بينة العذرة ، ثم تقول : " هو أبو عذرها" بطرح الهاء ؛ لأن الأمثال تؤدّى ولا تخالف.

ويجوز أن يكون الاستفهام في موضع مفعول" شعري" ، على تقدير حرف الجر ، ويكون الخبر محذوفا ، كأنك قلت : ليت شعري أزيد ثمّ أم عمرو واقع ، تقديره : ليت علمي بهذا واقع.

قال : (فإنما أدخلت هذه الأشياء على قولك : " أزيد ثمّ أم عمرو" ، و" أيهم

١٣٥

أبوك" ، لما احتجت إليه من المعاني ، وسنذكر ذلك في باب التسوية).

يعني دخلت" علمت" على" أزيد ثمّ أم عمرو" لما احتجت إليه من تبيين علمك بذلك ، وكذلك" ظننت أزيد في الدار أم عمرو" وأدخلت الظن لتبين أنك لست تقبله علما ، وسنذكر معنى التسوية إذا انتهينا إلى بابها إن شاء الله.

قال : " ومن ذلك : " قد علمت لعبد الله خير منك" ، فهذه اللام تمنع العمل. كما تمنع ألف الاستفهام".

يعني تمنع" علمت" من العمل فيما بعدها ، كما منعته ألف الاستفهام ؛ لأنهما يقعان صدرا.

قال : " وإنما دخلت" علمت" لتؤكد بها".

يعني أن الأصل : لعبد الله خير منك ، غير أنك لو تكلمت بهذا جاز أن يكون على سبيل التظنّي منك ، أو خبّرك به مخبر ، فأردت أن تنفي ذلك ، ولا تحيل على علم غيرك.

كما أنك إذا قلت : " قد علمت أزيد ثمّ أم عمرو" وأردت أن تخبر أنك قد علمت أيهما ثمّ ، والأصل فيه" أزيد ثمّ أم عمرو" على طريق الاستفهام ، ثم دخلت" علمت" للتبيين أنه قد استقر في علمك الكائن منهما.

قال سيبويه في عقب هذا : " وإن أردت تسوّي علم المخاطب فيهما كما استوى علمك في المسألة حين قلت : أزيد ثم أم عمرو".

يعني أنك إذا قلت مستفهما : " أزيد ثمّ أم عمرو" فأنت لا تدري واحدا منهما بعينه ، فعلمك بزيد كعلمك بعمرو.

فإذا قلت : قد علمت أزيد ثمّ أم عمرو" فقد دريت واحدا منهما بعينه ، ولم تخبر المخاطب به فعلم المخاطب به كعلمه بعمرو ، وقد أحللت المخاطب محلّك حين كنت مستفهما.

قال : ولو لم تستفهم ولم تدخل لام الابتداء لأعملت" علمت" كما تعمل : " عرفت" ، وذلك قولك : " قد عرفت زيدا خيرا منك" ، كما قال الله عزوجل : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ)(١) ، وكما قال تعالى : (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٦٥.

١٣٦

يَعْلَمُهُمْ)(١).

قال أبو العباس : ذكر" علمت" التي في معنى عرفت ؛ ليتبين لك وجوه : " علمت"

وقال غيره : إنما استشهد بعلمت التي في معنى عرفت ؛ لأنه قال قبل هذا.

ولو لم تستفهم ولم تدخل لام الابتداء لأعملت" علمت" كما تعمل" عرفت".

أراد لو لم تدخلهما لجاز أن تعمل : " علمت" عمل : " عرفت" فتعديه إلى مفعول واحد وأما إذا أدخلتهما ، فلا يجوز أن تعديه إلى مفعولين.

ثم استدل على جواز إعمال : " علمت" عمل" عرفت" بما ذكر من الآيات ، وهذا قول قريب.

قال أبو سعيد : والأجود عندي أن" سيبويه" إنما استشهد بدخول" علمت" على ما ليس فيه ألف الاستفهام ولا لام الابتداء ، وأعمله فيه سواء كان في معنى" عرفت" أو في غير معناها ، واتفق له الاستشهاد بهاتين الآيتين ، والعلم فيهما على طريق المعرفة ، ولو استشهد بغيرهما لجاز ، ألا ترى إلى قوله : " قد علمت زيدا خيرا منك" ، فعداه إلى مفعولين ، وهذا هو الأشبه ..

ويجوز أن يكون" خيرا منك" في موضع الحال ، و" علمت" بمعنى" عرفت".

قال : " وتقول : قد عرفت زيدا أبو من هو".

" فزيد" منصوب" بعرفت" ، و" أبو من هو" ذكر أبو العباس أنه حال ، وقد غلط عندي ؛ لأن الجملة إذا كانت في موضع الحال جاز أن تدخل عليها الواو ، ألا ترى أنك تقول : " مررت بزيد أبوه قائم" وإن شئت قلت مررت بزيد وأبوه قائم وأنت لا تقول : " عرفت زيدا وأبو من هو" ، كما يجوز أن تقول : " عرفت زيدا وأبوه قائم" ، فقد بطل الذي قاله من الحال.

والصواب عندي أن تكون الجملة بدلا من" زيد" وموضعها نصب بوقوع" عرفت" عليه ، كأنك قلت : عرفت أبو من هو.

قال : " وتقول : قد علمت عمرا أبوك هو أم أبو عمرو".

" فعمرا" هو المفعول الأول ، وما بعده جملة في موضع المفعول الثاني.

__________________

(١) سورة الأنفال ، آية : ٦٠.

١٣٧

وإن جعلت" علمت" في مذهب" عرفت" فقد مضى الكلام فيه.

وإنما نصبت المفعول الأول ؛ لأنك جئت بألف الاستفهام بعد أن وقع الفعل عليه ، وعمل فيه.

قال : (ويقوّي النصب قولهم : قد علمته أبو من هو وقد عرفتك أيّ رجل أنت) ؛ لأن الهاء في : " علمته" والكاف في" عرفتك" لا يكونان إلا في موضع نصب.

وتقول : " قد دريت عبد الله أبو من هو".

" فدريت" بمعنى" عرفت" في تعدّيه إلى واحد ، وأكثر العرب لا يجعلون : " دريت" متعديا إلى بحرف جر ، فيقولون : " ما دريت به" ، كما يقال : " ما شعرت به".

قال : " وإن شئت قلت : " قد علمت زيد أبو من هو" ، كما تقول ذلك فيما لا يتعدى إلى مفعول ، كقولك : " اذهب فانظر زيد أبو من هو".

يعني أنه يجوز لك ألّا تعمل : " علمت" في" زيد" ، للاستفهام الذي بعده ؛ إذ كان هذا الاستفهام يجوز أن يقع على" زيد" ، فتقول : " قد علمت أبو من زيد". فلما جاز أن يتقدم زيدا الاستفهام ، ولا يتغير المعنى ، صار بمنزلة ما قد وقع الاستفهام عليه ، ومنع من أن يعمل فيه.

ثم شبه : " علمت زيد أبو من هو" بما لا يتعدى من الفعل ، لما أبطل عملها ، وهو قولك : " انظر زيد أبو من هو" وأنت لا تقول : " نظرت زيدا ، إلا في معنى انتظرته.

وكذلك" اسأل : زيد أبو من هو" فالسؤال لم يقع بزيد فينصبه ، وإنما المعنى اسأل الناس : زيد أبو من هو.

وحكم" انظر" و" اسأل" أن يتعدى بحرف جر في المعنى المقصود بهذا الكلام ، كأنك قلت : انظر في كنية زيد ، واسأل عن كنية زيد.

قال : " ومثل ذلك : " ليت شعري زيد أعندك هو أم عند عمرو".

وفي بعض النسخ : " ليت شعري أزيد عندك" ، فشعري منصوب بليت ، وهو مصدر شعرت.

وقوله : " زيد عندك هو أم عند عمرو" جملة في موضع خبر : " شعري".

فإن قال قائل : أين العائد من الخبر على الاسم ، وهو جملة في موضع خبر : " شعري" فالجواب أن يقال : إن هذه الجملة محمولة على معناها ، لا على لفظها ؛ وذلك أن فعل الظّن

١٣٨

والعلم ، وغيرهما من أفعال القلب ، قد يجوز أن تكون مفعولاتها جملا ، فيكون عمل هذه المفعولات في مواضعها ، لا في ألفاظها ، إذا دخل في الكلام ما يمنع من ذلك كقولك : " عرفت أزيد في الدار أم عمرو" ، فمفعول" عرفت" الاسم الذي وقعت الجملة موقعه ، كأنك قلت : " عرفت ذاك" وكذلك : " ليت شعري زيد أعندك هو أم عند عمرو" ، كأنه قال : ليت شعري ذاك ، وتقديره : ليت الذي أشعر به ذاك.

وفيه وجه آخر وهو أن يكون : " زيد أعندك هو أم عند عمرو" في صلة : " شعري" وقد ناب عن الخبر ، كما تقول : " حسبت أن زيدا منطلق"" فأنّ" وما بعدها من الاسم والخبر في تقدير اسم واحد ، و" حسبت" تحتاج إلى مفعولين ، و" أنّ" وما بعدها من الاسم والخبر ، تسدّ مسد المفعولين ، وإن كانت في تقدير اسم واحد.

ولا يمتنع دخول : " شعري" على : " زيد" وإن كان حرف الاستفهام بعده ؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه ، فكأنك قلت : " ليت شعري أزيد عندك أم عند عمرو" ، ومثل ذلك :

" إن زيدا فيها وعمرو". تردّ عمرا على موضع" زيد" ؛ لأنه في المعنى مبتدأ.

قال : " ولكنه أكد كما أكد فأظهر زيدا وأضمر".

يريد أكد بإنّ كما أكد في قوله : " علمت زيد أبو من هو" بإظهار : " زيد" وإضماره ، فلم يخرج" زيد" من معنى الاستفهام ، كما لم يخرج اسم" إن" من معنى الابتداء.

قال : فإن قلت : " عرفت أبو من زيد" لم يجز إلا الرفع لأن المضاف إلى الاستفهام بمنزلة الاستفهام.

فإن قلت : قد عرفت أبا من زيد مكنيّ".

انتصب" الأب" بمكني ، وزيد مبتدأ ، ومكنيّ خبره ، وفيه ضمير مرفوع من : " زيد" ، يقوم مقام الفاعل و" أبا من" مفعول ما لم يسم فاعله ، ألا ترى أنك تقول : " زيد مكنيّ أبا عمرو" ، فإذا جعلته استفهاما وجب أن تقدمه فتقول : " أبا من زيد مكنّي" فإذا دخلت عليه : " عرفت" لم يتغير.

ومثله : " أأبا زيد تكنى أم أبا عمرو" ، ثم تدخل عليه : " علمت" فلا يتغير ، فتقول : " قد علمت أأبا زيد تكنى أم أبا عمرو" فلا تغيّر المنصوب المستفهم عنه ، كما لم تغير المرفوع ؛ في قولك : " قد علمت أزيد في الدار أم عمرو".

وتقول : " قد عرفت زيدا أبا من هو مكني" ، وإن شئت قلت : " قد عرفت زيد"

١٣٩

بالرفع ؛ فمن نصبه أوقع" عرفت" على" زيد" ؛ لأن الاستفهام لم يقع عليه في اللفظ ، وجعل ما بعده جملة في موضع الحال ، ومن رفع ـ وهو أضعف الوجهين ـ يعمل فيه" عرفت" ؛ لأن الاستفهام في المعنى واقع على" زيد".

قال : " وتقول : قد عرفت زيدا أبو أيهم يكنى به".

وإنما رفع : " أبو أيهم" لأنه شغل" يكنى" بضميره المتصل بالياء.

قال : ومثله : " الدرهم أعطيت" بنصب الدرهم ، فإذا قلت : " الدرهم أعطيته" رفعت.

قال : وتقول : " أرأيتك زيدا أبو من هو" و" أرأيتك عمرا أعندك هو أم عند فلان".

يعني أنه لا بد بعد قولك : " أرأيتك" من منصوب ثم تأتي بالاستفهام بعد ذلك المنصوب ، فإن قال قائل : فهلا أجزتم رفعه ؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه كما أجزتم" علمت زيدا أبو من هو" ؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه؟ فأجاب سيبويه عن هذا ، بأن قال : إنّ" أرأيتك" لا تشبه" علمت" ؛ لأن فيه معنى" أخبرني" ، وأخبرني فعل لا يلغى ، فلم يلغ" أرأيتك" ، غير أنه وإن كان في معنى" أخبرني" فهو فعل يتعدى إلى مفعولين ، لا يجوز الاكتفاء بأحدهما ، فالمفعول الأول هو" زيد" ، والمفعول الثاني : الجملة التي بعده ، فقد جمع" أرأيتك" معنى" أخبرني" في ترك الإلغاء ، ومعنى الرؤية رؤية القلب في التعدي إلى مفعولين ، ثم عقب" سيبويه" بما يسدّ هذا المعنى. فقال : هذا المعنى فيه لم يجعله بمنزلة" أخبرني".

يعني : دخول معنى : " أخبرني" في : " أرأيتك" لم يمنعه من أن يكون له مفعولان ، كما كان له قبل أن يدخل فيه معنى : " أخبرني" ومنعه هذا المعنى من أن يلغى ، وقد قيل : أراد فدخول : " أخبرني" في" أرأيت" لم يجعله مقتصرا به على مفعوله الأول ، كما يجوز أن يقتصر على النون والياء في قولك : " أخبرني".

وقال بعضهم : في النّسخ غلط ، وإنما أراد أن يقول : بمنزلة" رأيت" في الاستغناء وذلك. أنك قد تقول : " علمت أبو من زيد" و" رأيت أبو من زيد" في معنى : " علمت" ، فرأيت قد تستغني وتلغى ، حتى لا تكون واقعة على مفعول ، فإذا قلت : " أرأيت" وجب أن تقع على مفعول ، ولم يله حرف الاستفهام.

١٤٠