شرح كتاب سيبويه - ج ٢

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٢

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

قال أبو سعيد : قد ذكرنا هذين البيتين بما يستحقانه من التفسير.

قال سيبويه : " وأما تسعمائة فكان ينبغي أن تكون في القياس" مئين" أو" مئات" ، ولكنهم شبّهوه بعشرين وأحد عشر ، حيث جعلوا ما يبيّن به العدد واحدا ؛ لأنه اسم لعدد".

قال أبو سعيد : يعني أن القياس في" تسعمائة" كان بجمع المائة ، فكان ينبغي أن تقول : " ثلاث مئات" أو" ثلاث مئين" ، وذلك أن" ثلاثا" و" تسعا" تضاف إلى جماعة في الآحاد فانبغى أن تكون هاهنا أيضا مضافة إلى جماعة غير أنهم أضافوها إلى واحد ، وبينوها كما بيّنوا" أحد عشر" و" عشرين" بواحد ، وقد بينا وجه الشبه فيه.

قال سيبويه : " وليس بمستنكر في كلامهم أن يكون اللفظ واحدا ، والمعنى جمع حتى قال بعضهم في الشعر من ذلك ما لا يستعمل في الكلام ، قال علقمة بن عبدة" :

بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأما جلدها فصليب (١)

وقال آخر :

لا تنكروا القتل وقد سبينا

في حلقكم عظم وقد شجينا (٢)

قال أبو سعيد : يعني ليس بمستنكر في كلام العرب أن يكون اللفظ واحدا ، ويكون عبارة عن جميع ، ولا سيما في باب العدد ، كما قلنا في : " عشرين درهما" ، و" مائة درهم" ، وقد استعملت العرب لفظ الواحد بمعنى الجميع في الشعر ، لمّا لم يستعمل في الكلام ؛ لأن من كلامهم في مواضع كثيرة العبارة عن الجميع بواحد ، فحمل الشاعر هذا المعنى بأن استعمل لفظ الواحد بمعنى الجمع في غير تلك المواضع ، وهو البيت الذي أنشده لعلقمة.

وإنما يريد وأما : " جلودها" فاكتفى بقوله : " جلدها" عن جلودها ، وإنما يصف فلاة قطعها ، ويذكر بعدها فيقول : " بها جيف الحسرى" أي بها جيف الإبل المعيبة التي قد تركت في هذه الفلاة لبعدها ، " فأما عظامها فبيض" أي قد تفصّلت وظهرت من اللحم ، وأكلت الطيور والسباع ما عليها من اللحم ، وأما جلودها فقد سال ودكها عليها ، بوقوع

__________________

(١) قائله علقمة بن عبده بن ناشرة بن قيس شاعر جاهلي عاصر امرأ القيس الخزانة ١ / ٥٦٥ / ديوان علقمة ٣ ـ الخزانة ٣ / ٣٧٩.

(٢) قائله المسيب بن زيد مناة الغنوي الخزانة ٣ / ٣٧٩ ـ المقتضب ٢ / ١٧٢ ابن يعيش ٦ / ٢٢ ـ المخصص ١ / ٣١ ـ ١٠ / ٣٠.

١٠١

الشمس وإحمائها لها ، وكان ينبغي أن يقول : " جلودها" كما قال : " عظامها".

وأما البيت الثاني فالشاهد منه : " في حلقكم عظم" وإنما أراد في حلوقكم ، لأنهم جماعة ، وكأنّ هؤلاء قوم سبوا من عشيرة هذا الشاعر ، وباعوا ما سبوا منهم ، ثم ثاب لعشيرة هذا الشاعر ظفر لمن سبي منهم ، فقتلوا منهم ، فقال شاعرهم وهو : " المسيّب بن زيد مناة الغنوي" من القبيلة التي عاقبت وقتلت ، ويخاطب الآخرين ، الذين سبوا منهم :

لا تنكروا القتل وقد سبينا

والأبيات في غير كتاب سيبويه ، يقولها المسيب بن زيد مناة الغنوي ، يخاطب حنظلة بن الأعرف الضبابيّ :

إن تك مقتولا فقد سبينا

أو تك مجذوعا فقد شرينا

أو تك مفجوعا فقد وهينا

في حلقكم عظم وقد شجينا (١)

" شرينا" أي باعونا ، وقوله : " شجينا" أي شجينا نحن ، و" في حلقكم عظم" هذا مثل ، كأنّه يقول : قد غصصتم ؛ لشدة ما نزل بهم كأنّ في حلوقكم عظاما لا تنزل ولا تخرج ، ومعنى" شجينا" أي شجينا نحن أيضا كما أصابكم ، ولا تنزل الغصّة ولا تخرج ، ومن ذلك شجيت الساق بالخلخال ، إذا لم يكن الخلخال قلقا فيها ، ويقال : " فلان شجى" في حلق فلان" إذا كان يثقل عليه أمره فلا يستسيغه ، فاعرفه إن شاء الله تعالى.

قال سيبويه : " واختص بهذا الباب إلى تسعمائة".

يعني أضيف : " الثلاث" و" التسع" وما بينهما إلى" مائة" وهي واحدة ، وليس ذلك بالقياس في إضافة : " الثلاث" ؛ لأن الثلاث حكمها أن تضاف إلى جماعة ، غير أن الثلاث خصت بالإضافة إلى مائة.

وقد تقدم المعنى الذي له خصّت بذلك.

قال سيبويه : (كما أن" لدن" لها مع غدوة حال ليست لها في غيرها تنصب بها).

يعني : أن" لدن" ينخفض ما بعدها ؛ لأنها بمنزلة" عند" فتقول : " من لدن زيد" و" لدن عشية" و" لدن عتمة" وما أشبه ذلك ، وهو القياس فيها ، غير أنهم قد قالوا : " لدن غدوة" فنصبوا بها" غدوة" خاصة ، وإنما نصب بها" غدوة" ؛ لأن فيها لغات : منهم من

__________________

(١) سبق تخريجه.

١٠٢

يقول : " لدا ولد" وغير ذلك ، فالذي نصب بها شبه النون الداخلة على" لد" بعد فقدها منه ، بمنزلة النون الداخلة في" عشرين" ، بعد نزعها منه في قولك : " عشرو زيد" و" عشرون درهما" ؛ إذ كانت تسقط في حال ، وتثبت في حال ، وقال بعضهم : " لدن غدوة" فنصب بها" غدوة" خاصة ، كأنه أدخل النون على" لد" في لغة من يسكّنها ثم فتح الدال ؛ لالتقاء الساكنين كما قالوا : " اضربن زيدا" ، ففتحوا الباء لالتقاء الساكنين.

قال سيبويه : (كأنه ألحق التنوين في لغة من قال" لد" ، وذلك قولك : " من لدن غدوة" وقال بعضهم من لدن غدوة كأنه أسكن الدال ثم فتحها ، كما قال : " اضربن زيدا" ، ففتح الباء لما جاء بالنون الخفيفة ، والجر في" غدوة" هو الوجه والقياس وتكون النون من نفس الكلمة بمنزلة من وعن).

قال أبو سعيد : يعني أن النون في" لدن" بمثلة النون في" من" والدليل على ذلك أنه يخفض بها مع ما بعدها ، مع ثبات النون ، فعلمنا أن النون من صيغتها ، وقد مرّ الكلام في هذا الفصل.

قال سيبويه : " وقد يشذّ الشيء من كلامهم عن نظائره ويستخفون الشيء في موضع لا يستخفونه في غيره".

يعني في شذوذ" غدوة" مع" لدن".

ومن ذلك قولهم : ما شعرت به شعرة وليت شعري.

قال أبو سعيد رحمه‌الله : يعني أن مصدر" شعرت" إنما هو" شعرة" في أكثر المواضع بإثبات الهاء ، وهي مع" ليت" بحذفها ؛ إذ قالوا : " ليت شعري" لما كثر استعمالها طرحوا الهاء منها.

ومثل ذلك تقول : امرأة عذراء بيّنة العذرة ، كما تقول : حمراء بينة الحمرة ، ويقولون لمن افتضها : هو أبو عذرها ، يريدون أبو عذرتها ، أي صاحب عذرتها ، وجرى ذلك مثلا لكل من يستخرج شيئا أن يقال له : أبو عذرها ، والأصل فيه : " عذرة المرأة" واستخفوا بطرح الهاء حين جرى في كلامهم مثلا ، وكثر استعمالهم له.

قال سيبويه : (وتقول العمر والعمر ، ولا يقولون في اليمين إلا بالفتح ، يقولون كلّهم : " لعمرك" وسترى أشباه هذا في كلامهم إن شاء الله تعالى).

قال أبو سعيد : وإنما قالوا في اليمين بالفتح حين كثر الحلف ، فاختاروا أخفّ

١٠٣

اللفظين ، وتركوا الآخر الذي في معناه ، وإنما يستدل" سيبويه" بما ذكر من ذلك ، أنّ اللفظ قد تكون له حال ، لا تكون لنظيره لضرب من العلل.

قال سيبويه : (ومما جاء في الشعر على لفظ الواحد يراد به الجمع :

كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

فإن زمانكم زمن خميص) (١)

قال : وهو مثل البيتين الأولين أراد في بعض بطونكم ، ومعنى هذا البيت أنهم في زمن من مجاعة فيأمرهم أن يأكلوا بعض الشبع ، فإن الزمان فيه جدوبة.

قال سيبويه : (ومثل ذلك في الكلام قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً)(٢) ، و" قررنا به عينا" وإن شئت قلت : أعينا وأنفسا ، كما قلت : ثلثمائة وثلاث مئين ومئات".

وقد مر تفسير ذلك.

قال سيبويه : " ولم يدخلوا الألف واللام كما لم يدخلوا في امتلأت ماء".

قال أبو سعيد رحمه‌الله : يعني لم يدخلوا الألف واللام في" طبت به نفسا" ونحوه.

هذا باب استعمال الفعل في اللفظ

لا في المعنى ؛ لاتساعهم في الكلام ، وللإيجاز والاختصار. فمن ذلك أن تقول على قول السائل : " كم صيد عليه" وكم غير ظرف ؛ لما ذكرت لك من الاتساع والإيجاز فتقول : " صيد عليه يومان" ، وإنما المعنى صيد عليه الوحش في يومين ، ولكنه اتسع واختصر ؛ ولذلك وضع السائل" كم" غير ظرف.

قال أبو سعيد : اعلم أن هذا الفصل قد اشتمل على معان يكشفها التفسير ، منها أن تعلم أن في الظروف ما يجوز أن يستعمل اسما كزيد وعمرو ، كقولك : " صمت اليوم" على مثل : " ضربت زيدا" ، وتجعل" اليوم" مفعولا كزيد.

ومنها أن تعلم أن المبتدأ إذا كان بعده فعل فيه ضميره ، جاز أن يجري على المبتدأ من الاسم ما لزم ضميره من اللفظ ، كقولك : " زيد ضربته" يجوز أن يقال : " زيد" مفعول ، ونحن نعلم أن" زيدا" مبتدأ ، وإنما يراد ضميره مفعول.

__________________

(١) الخزانة ٣ / ٣٧٩ ـ ابن يعيش ٦ / ٢١ ، المخصص ١ / ٣١.

(٢) سورة النساء ، آية : ٤.

١٠٤

ومنها أن تعلم أن الاسم الذي يستفهم به ، إذا كان له موضع من رفع أو نصب أو جر ، فجوابه يكون على لفظ ما يستحقّ الاستفهام ، وعلى تقدير عامله الذي عمل فيه كقولك : " كم رجلا جاءك" فتقول : " عشرون" ، وذلك أن" كم" في موضع مبتدأ ، وهو حرف الاستفهام و" جاءك" خبره ، ورجلا على التمييز ، والجواب : " عشرون" على لفظ كم مرفوع بالابتداء وتقديره" عشرون رجلا جاءني".

وإذا قال : " كم رجلا رأيت" فالجواب : " عشرين" ؛ لأن" كم" في موضع نصب برأيت.

وإذا قال : " بكم رجلا مررت" قلت : " ثلاثة رجال" فخفض ؛ لأن" كم" في موضع خفض.

ومنها أن الظرف الذي يجوز إجراؤه مجرى الأسماء يجوز أن يقام مقام الفاعل مجازا ؛ لأنا قد جعلناه بمنزلة" زيد" كقولك : " سير بزيد يوم طويل" ، كما تقول : " ضرب بزيد الحائط" ، فقد أقمت" اليوم" مقام الفاعل وجعلته كالأسماء الصحيحة. ومنها أن تعلم أن المقادير المضافة إلى الأنواع المميزة بها ، حكمها حكم ما أضيفت إليه ، وميزت به كقولنا : " سرت عشرة أيام" ، فعشرة هي الظرف ؛ لأنها مقدار أضيف إلى الأيام و" أيام" ظرف ، و" سرت عشرين يوما" ، " العشرون" ظرف ؛ لأنها مقدار مميّز بظرف.

فتقول الآن : إن قول السائل : " كم صيد عليه" أرادكم يوما صيد عليه ، فكم مبتدأ ، وهو مقدار مميّز بظرف فهو إذن ظرف و" صيد عليه" خبره ، وفي" صيد" ضمير يعود إلى" كم" قد أقيم مقام الفاعل ، فصار ذلك الضمير بمنزلة سير عليه يوم طويل.

وقوله : ولم يجعل" كم" ظرفا. أراد لم يجعل ضمير" كم" الذي في" صيد" فعبّر بلفظ" كم" عن ضميره ولم يجعله ظرفا ؛ لأنه قد أقامه مقام الفاعل ، ثم أتى المجيب بنحو ما بنى السائل عليه كلامه ، فجعل اليومين مرفوعين بصيد ، ولم يجعلهما ظرفا ، كما لم يجعل الضمير الذي في" صيد" ظرفا حين سأل ، وهو مجاز واتساع ؛ لأن" اليوم" لا يصاد ، وإنما يصاد فيه كما قال :

أما النهار ففي قيد وسلسلة

والليل في جوف منحوت من الساج (١)

__________________

(١) البيت من الأبيات التي لم يعرف قائلها ونسبه المبرد في الكامل إلى رجل من أهل البحرين من ـ ـ اللصوص. المقتضى ٤ / ٣٣ ـ رغبة الآمل ٨ / ١٢٢.

١٠٥

وإنما أراد أن الرجل في قيد وسلسلة في النهار ، فكذلك المعنى صيد عليه الوحش في يومين.

قال : (ومن ذلك أيضا أن تقول : " كم ولد له؟ " فيقول : " ستون عاما" ، والمعنى ولد له الأولاد ، وولد له الولد ستين عاما).

فحذف الأول وأقام الستين مقام الأولاد اتساعا.

ومن ذلك أن يقول : " كم ضرب به"؟ فتقول : " ضرب به ضربتان" و" ضرب به ضرب كثير".

فمعنى" كم" هاهنا معنى المصدر ، كأنه قال : " كم ضربة ضرب به" يريدكم ضرب بزيد ، وفي" ضرب" ضمير يعود إلى" كم" قد أقيم مقام الفاعل وهو مصدر : فلذلك كان جوابه : " ضرب به ضربتان" ، فسبيل المصدر في الاتساع كسبيل الظرف ؛ لأنك إذا قلت : " ضرب بزيد ضرب شديد" فالضرب ليس بمضروب في الحقيقة ، وإنما المضروب الذي وقع به الضرب ، وجعلت الضرب مفعول : " ضرب" مجازا.

قال : (ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها)(١) وإنما يريد أهل القرية فاختصر ، وعمل الفعل في" القرية" كما كان عاملا في" الأهل" لو كان هاهنا).

وقد بينا حذف المضاف والاكتفاء بالمضاف إليه فيما مضى ، وإنما ذكره سيبويه حجة في الاتساع والاختصار ؛ لأن المسألة في اللفظ للقرية والمعنى للأهل ، فكذلك قولهم : " ولد له ستون عاما" لفظ" الأولاد" للأعوام ، والمعنى للأولاد في الأعوام ، على أن بعض الناس يزعم أن ذلك على الحقيقة ، وأن مسألة القرية من" يعقوب" عليه‌السلام صحيحة ؛ لأن القرية يجوز أن تخاطبه ؛ إذ كان نبيّا ، وتكون مخاطبتها معجزة له.

ولا معنى للتشاغل بنقض هذا الكلام ؛ إذ كان جوازه في كلام العرب وغيرهم أشهر من أن تحتاج معه إلى إقامة دليل.

__________________

(١) سورة يوسف ، آية : ٨٢.

١٠٦

قال : " ومثله (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(١) والمعنى بل مكرهم في الليل والنهار ، ومثله (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ)(٢) وإنما هو ولكن البرّ برّ من آمن بالله".

وفي هذا وجه آخر ، وهو أن يجعل البر في معنى البارّ ، فكأنه قال تعالى : ولكن البارّ من آمن بالله.

قال : (ومثله في الاتساع قوله عزوجل : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما)(٣) المعنى : مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل ... الناعق والمنعوق به).

فالناعق الراعي والمنعوق به الغنم ، فجعل المؤمنين كالراعي والكفار كالمنعوق به ، والتمثيل في ذلك كلّه أن الكفار لم يعتقدوا ما خوطبوا به ، ولم يحصلوا به أكثر من سماعه ، ويدلك على صحة هذا أن الكفار لم يشبّهوا بما ينعق ؛ لأن الذي ينعق هو الراعي ، وهم لم يشبهوا به ، وإنما شبّهوا بالمنعوق به.

وقال بعضهم : أراد بقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) الذي ينعق به ، كما قال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ)(٤) أي ينطق به ، وكما قال تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً)(٥) أي يبصر فيه ، والمعنى في هذا التأويل أنه جعل الذين كفروا في دعاء بعضهم لبعض كمثل صياح الغنم بعضها ببعض ، واللفظ مقلوب على ما خبّرتك.

قال : ومثل ذلك" بنو فلان يطؤهم الطريق" يريد يطؤهم أهل الطريق".

وهذا مدح ، والمعنى فيه أن بيوتهم على الجادة فالمارّة تنزل عليهم ويضيفونهم ، فجعل مرور أهل الطريق بهم وطأهم إياهم.

وقالوا : " صدنا قنوين" وإنما يريد صدنا بقنوين أو صدنا وحسن قنوين وإنما قنوان اسم أرض.

قال : وفي السعة مثله" أنت أكرم عليّ من أن أضربك" ، و" أنت أنكد من أن تتركه" إنما يريد أنت أكرم عليّ من صاحب الضرب.

__________________

(١) سورة سبأ ، آية : ٣٣.

(٢) سورة البقرة ، آية : ١٧٧.

(٣) سورة البقرة ، آية : ١٧١.

(٤) سورة الجاثية ، آية : ٢٩.

(٥) سورة يونس ، آية : ٦٧.

١٠٧

والقول في ذلك ما قاله" أبو إسحاق الزجاج" رحمه‌الله ، قال : إن قدّرته : أنت أكرم عليّ من ضربك ، لم يجز لأنك لست تريد أن تخبر أنه أكرم عليك من ضربه ، وهذا هو ظاهر الكلام ، وإن حمل المعنى عليه بطل ، قال أبو إسحاق : وتهذيب هذا الكلام هو : كأن قائلا قال : " أنت تضربني" فنسب الضرب إلى نفسه ، فقال الآخر : أنت أكرم عليّ من صاحب الضرب الذي نسبته إلى نفسك ، وليس ذلك.

ومثل هذا (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(١) وليس لله تعالى شريك ، وإنما جاز هذا ؛ لأنهم جعلوا لله تعالى شركاء في زعمهم ، فكأنه قال : أنت أكرم عليّ ممن يستحق ما زعمت أنه لك ، ونسبته إلى نفسك ، وأنشد سيبويه قول" النابغة الجعدي" مستشهدا لجواز الحذف :

كأنّ عذيرهم بجنوب سلّى

نعام قاق في بلد قفار (٢)

أراد عذير نعام ، والعذير الحال ، وقال" أبو العباس" وحده : العذير الصوت ، وما فسر أحد سواه ذلك ، و" قاق" : صوت.

ومن ذلك قول عامر بن الطفيل :

فلأبغينّكم قنا وعوارضا

ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد (٣)

أراد بقنا وعوارض ، وحذف الباء فأوصل الفعل ومعناه : ولأطلبنكم بهذين المكانين.

قال : ومن ذلك قولهم : " أكلت أرض كذا وكذا ، أراد أكلت خير بلد كذا ، ومنه قولهم : هذه الظهر ، أو العصر ، أو المغرب".

تريد هذه صلاة الظهر وصلاة العصر ، وصلاة المغرب ؛ لأن الظهر اسم للوقت ، وكذلك العصر ، كأنه أراد هذه صلاة هذا الوقت ، ومنه قولهم : " اجتمع القيظ" ، وإنما يريدون : اجتمع الناس في القيظ ، وتقديره : اجتمع ناس القيظ ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

__________________

(١) سورة القصص ، آية : ٦٢.

(٢) نسبه ابن بري إلى شقيق بن جزء بن رباح الباهلي اللسان (فوق) ١٢ / ٢٠١ الإنصاف ٤٧ ـ رغبة الآمل ٨ / ٢٤.

(٣) سبق الحديث عنه.

١٠٨

وقال الحطيئة :

وشرّ المنايا ميّت بين أهله

كهلك الفتى قد أسلم الحيّ حاضره (١)

يريد : وشر المنايا منية ميّت بين أهله ، كموت الفتى ، وقد أسلم الحيّ حاضره ، والحيّ هو الفتى ، قد أسلمه الحاضرون له من أهله ؛ لأنهم لا حيلة لهم في دفع المرض والموت عنه.

وقال النابغة الجعدي :

وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب (٢)

يريد كخلالة أبي مرحب ، وهي صداقته.

هذا باب وقوع الأسماء ظروفا

(وتسمى هذه الأسماء الظروف العليا وتصحيح اللفظ على المعنى ، فمن ذلك قولك : " متى يسار عليه"؟ وهو يجعله ظرفا ، فيقول : اليوم ، أو غدا ، أو بعد غد ، أو يوم الجمعة).

يعني إذا جعل السائل" متى" ظرفا ، وقدّره نصبا ، وجعل الذي يقوم مقام الفاعل حرف الجر ، أو مصدرا مضمرا في" يسار" وجب أن تنصب الجواب إذا اخترت أن تكون على حد السؤال ، وقد مضى هذا.

قال : (وتقول : متى سير عليه؟ فيقول : " أمس" ، أو" أول من أمس" ، فيكون ظرفا ، على أنه كان السير في ساعة دون ساعات ، أو حين دون سائر أحيان اليوم ، ويكون أيضا على أنه يكون السير في اليوم كله).

اعلم أن الظروف تنقسم قسمين : أحدهما يتضمن أجزاءه كلها الفعل ، والآخر يتضمن جزءا منه الفعل ، واللفظ يجري على كلّ.

فالذي يتضمن أجزاءه كلها الفعل قولك : " صمت اليوم" فلا يجوز أن يكون جزء من اليوم ، لم يكن فيه صوم ، وكذلك قولك : " لم أكلّم فلانا اليوم" لا يجوز أن تكون كلمته في جزء منه ، وقد جعلت" اليوم" ظرفا لترك كلامه ، ألا ترى أن رجلا لو قال :

__________________

(١) ديوان الحطيئة (الحلبي) ٤٥ ـ طبقات فحول الشعراء لابن سلام ٩٤.

(٢) حماسة البحتري ٢٤١ ـ ديوان النابغة الجعدي ٢٠ ، أمالي القالي ١ / ١٩٥.

١٠٩

" والله لا كلّمتك اليوم" ثم كلمه في جزء منه حنث.

وأما ما يكون العمل في بعضه فقولك : " صحت اليوم وتحكّمت يوم الجمعة" وقد أحاط العلم بأنه لا يكون صياحه متصلا بلا فتور ولا مراوحة ، وإنما ذلك على ما يعتاد من عادة الناس في الأفعال التي تتصل والتي تنقطع ، فإذا كان الفعل قد يكون متصلا في حال ، ومتقطعا في حال كالسير وما أشبه ذلك ، وجاز أن تنوي الاتصال ، فتجعله في الظرف كله ، وجاز أن تنوي الانقطاع فتجعله في بعض الظرف ، وسواء في ذلك أن تنصب الظرف أو ترفعه ، فتقيمه مقام الفاعل.

قال : " ومن ذلك الليلة الهلال ، وإنما الهلال في بعض الليلة ، وتقديره : الليلة ليلة الهلال" فجعل هذا شاهدا لقولك : " سير عليه اليوم" والسير في بعضه.

قال (ومما لا يكون العمل فيه من الظروف إلا متصلا في الظرف كله قولك : " سير عليه الليل والنهار والدهر والأبد" وهذا جواب لقوله كم سير عليه؟ إذا جعله ظرفا).

قال أبو سعيد : اعلم أن" كم" استفهام عن كل مقدار من عدد وغيره ، في الأنواع كلها ، زمانا كان أو مكانا أو غيرهما ، وليس يختص بنوع دون نوع ، و" متى" استفهام عن الزمان فقط ، فإذا أوقعت" كم" استفهاما عن الزمان ، كان القصد فيها المسألة عن مقداره أو عدده ، و" متى" استفهام عن الزمان فقط من غير اقتضاء مقدار أو عدد ، فإذا أجبت عن" متى" فحكم الجواب أن يكون واقعا على زمان بعينه ، غير متضمن لعدد ، كقول القائل : " متى سير بزيد" فيقال : " يوم الجمعة" ؛ لأن مسألته وقعت لتعرف الزمان بعينه ، لا لتعرف كميته.

ولا يجوز أن تقول : " يومان" ؛ لأن قوله : " يومان" إجابة عن كمية ، ولا يعرف السائل الوقت الذي سار فيه بعينه ، ولو قرّبه من المعرفة فقال : " يوم سار فلانّ" أو" يوم كان المطر" لجاز وحسن ، ولو قال : متى سير عليه؟ فقال : " أيام الصّرام" لجاز ، وإن كانت أيام الصّرام فيها عدد ؛ لأن القصد منها إلى تعيين وقت لا إلى عدد الأيام ؛ لأن أيام الصّرام قد جعلت لوقت واحد يعرف بهذا اللفظ ، كما يعرف يوم الجمعة بهذا اللفظ.

وأما" كم" فقد يكون جوابها معرفة ونكرة ، وأيتهما كانت جوابا لها ، فالفعل واقع

١١٠

فيها كلّها ، كقولك : " كم سير عليه؟ " فيقول : يوم الجمعة ، فالسير واقع في يوم الجمعة كلّه ، وكذلك إذا قيل : " كم سير عليه"؟ فيقال : " يومان" ، فالسير واقع فيهما ، وقد تقول : " كم سير عليه" فيقال : " يوم الجمعة" ، والسير واقع في بعضه ، إذ كان المجيب مستكثرا للسير في الساعات التي وقع فيها من الجمعة ، فيجري اللفظ على الكل وهو يريد البعض ، كما تقول : " يوم الرحيل جاءني الخلق" يريد الكثير منهم ، وفلان يتكلم دهره ، إذا كان كثير الكلام ، وإن كان السكوت الذي يكون منه أكثر من الكلام ، فاللفظ على الكل والمعنى فيه البعض.

وقوله : " سير عليه الليل والنهار ، والدهر ، والأبد".

لا يكون إلا جواب" كم" ، لأنه وضع هذه الألفاظ على الأوقات فهي متضمنة للكمية ولم يجعل اسما لوقت بعينه ، غير أنه إذا قيل : " سير عليه الليل والنهار والدهر والأبد" ، في جواب : كم سير عليه؟ فإنما يريد التكثير والمبالغة ، وقد علم أن الدهر لا يتصل فيه السير ، ولكنه على ما عرّفتك من قول القائل : " جاءني الخلق" وأنت تريد البعض.

قال : " ومما يدلك على أنه لا يكون أن تجعل العمل فيه في يوم دون الأيام ، وفي ساعة دون الساعات ؛ أنك لا تقول : " لقيته الدهر والأبد" ، وأنت تريد يوما منه ، ولا" لقيته الليل" ، وأنت تريد لقاءه في ساعة دون ساعات إلا أن تريد : سير عليه الليل أجمع ، والدهر كلّه".

يعني أن الأبد والدهر ، والليل والنهار ، إذا كانا على طريق الأبد ، والدهر أسماء ، جعلت لترادف الأزمنة ، وللدلالة على تكثيرها ، لا يجوز أن تقول : " لقيته الدهر" وأنت تريد مرة ، وإنما يستعمل مثل هذا في الأوقات المحصلة ، والتي تميّز عن غيرها. وبيّن أن الفعل وقع فيها دون ما سواها ، كقولك" لقيته يوم الجمعة" و" لقيته العام الماضي" وإن كنت لقيته مرة واحدة في يوم الجمعة ، وفي العام الماضي ؛ لأنك أردت أن تعرف وقت اللقاء ، لا مقداره.

قال : " وإن لم تجعله ظرفا فهو عربي كثير في كلامهم".

يعني إن قلت : " سير عليه الليل والنهار" ، فتجعله مفعولا على السعة ثم تقيمه مقام الفاعل.

١١١

قال سيبويه : " وإنما جاء هذا على جواب كم ؛ لأنه حمله على عدة الأيام والليالي ، فجرى على جواب ما هو للعدد ، كأنه قال : سير عليه يومين أو ثلاثة أيام".

يعني أن الدهر والأبد جرى على جواب" كم" ؛ لأنه موضوع على عدة الأيام وترادفها ، كما كان سير عليه يومان أو ثلاثة" أيام" على ذلك ، ولا يجوز أن يكون السير في أحد اليومين إذا قلت : " سير عليه يومين".

قال : وأما" متى" ، فإنما تريد أن توقت لك بها وقتا ، ولا تريد بها عددا فإنما الجواب اليوم أو يوم كذا أو شهر كذا".

وقد بينا هذا ، وذكرنا أن" متى" جعلت للدلالة على وقت بعينه ، لينماز من سائر الأوقات قال : (ومما أجري مجرى الدهر والليل والنهار المحرّم وصفر وسائر أسماء الشهور إلى ذي الحجة ؛ لأنهم جعلوهن جملة واحدة لعدة الأيام ، كأنهم قالوا : سير عليه الثلاثون يوما ، ولو قلت : شهر رمضان أو شهر ذي القعدة ، لكان بمنزلة يوم الجمعة والليلة والبارحة ، ولصار جواب" متى").

قال أبو سعيد : ظاهر كلام سيبويه الفصل بين أن تقول شهر كذا ، وبين ألا تذكر الشهر ، فإذا قلت : " سير عليه المحرم" فالسير في كل يوم من أيام المحرم ، وإذا قلت : " سير شهر المحرم" أو" شهر ذي القعدة" جاز أن يكون السير في بعضه.

وهذه رواية رواها ، كأنهم جعلوا قولهم المحرم نائبا مناب قولهم : الثلاثين يوما ، وهم لو قالوا : " سير عليه الثلاثون يوما" لكان السير في كل يوم منهن ، وإذا أدخلوا" شهرا" جعلوه اسما للوقت بعينه ، فصار بمنزلة يوم الجمعة.

فإن قال قائل : فكيف اختلفا وهما لمعنى واحد؟ قيل له : قد يجوز ـ وإن كانا لمعنى واحد ـ أن يكون أحدهما يدل عليه من طريق الكمية ، والآخر من طريق التوقيت ، ألا ترى أنّا إذا قلنا : " سير عليه يوم الجمعة" يجوز أن يكون السير في بعضه ، وإذا قلنا : " سير عليه ساعات يوم الجمعة" ، لم يجز أن يكون السير في ساعة منها ، وساعات يوم الجمعة في معنى" يوم الجمعة".

وقال أبو إسحاق الزجاج في قول سيبويه : " ومما أجري مجرى الدهر والليل والنهار المحرم وصفر" قولا يخالف ما ذكرناه ، وليس ببعيد ، قال : يعني إذا عطفت على المحرم صفرا ، فقلت : " سير عليه المحرم وصفر" فلا بد أن يكون السير في كل واحد من

١١٢

الشهرين ، ولو قلت : " سير عليه المحرم" لجاز أن يكون السير في بعضه ، قال : والدليل على ذلك قول سيبويه : " لو قلت : سير عليه شهر رمضان أو شهر ذي القعدة ، كان بمنزلة يوم الجمعة ، فأبو إسحاق عنده أن قولك : المحرم وشهر المحرم بمنزلة واحدة ، وأن" سيبويه" لم يفرق بينهما ، ولقائل أن يقول : إن سيبويه فرق بينهما ؛ لأنه ذكر المحرم وصفر وسائر أسماء الشهور.

ثم قال : كأنهم قالوا : " سير عليه الثلاثون يوما" ، فجعل كل شهر من الشهور بمنزلة الثلاثين يوما.

قال سيبويه : " وجميع ما ذكرت لك مما يكون على" متى" يكون مجرى على" كم" ظرفا وغير ظرف".

يعني أن" يوم الجمعة" ، و" شهر رمضان" ، وما أشبه ذلك من جوابات" متى" قد يجوز أن يكون جوابا لكم ، يعني يجوز أن تقول : كم سير عليه ، فيقال : يوم الجمعة ، فيكون السير فيه كله ، وقوله : " ظرفا وغير ظرف" أي ظرفا ومفعولا ، لا جوابا" لمتى".

قال : " وبعض ما يكون في" كم" لا يكون في" متى" نحو الدهر والليل ؛ لأن" كم" هو الأول ، فجعل الآخر تبعا له ، ولا يكون الدهر والليل والنهار إلا على العدّة جوابا لكم".

يعني : أن الدهر والليل والنهار ، قد يكون جوابا لكم لما فيه من التكثير ، ولا يكون جوابا لمتى ؛ لأنه لا دلالة فيه على وقت بعينه.

وقوله : " لأن كم الأول".

يعني لأنه دلالة على المقدار في الزمان وغيره ، ويقع تحتها المنكور والمعروف ؛ لوقوع التقدير عليهما ، فجعل الآخر وهو" متى" تبعا له.

قال : (وقد تقول : سير عليه الليل. تعني ليل ليلتك ، وتجري على الأصل ، كما تقول في الدهر : سير عليه الدهر).

يعني أنك إذا قلت : " سير عليه الليل" جاز أن تعني ليلة واحدة ، وهي الليلة التي يليها يومك ؛ فيجوز فيه الرفع والنصب أيضا ، كما جاز فيه حين كان في معنى الدهر ، وتقول : " سير عليه الدهر" وأنت تريد بعضه على جهة التكثير ، فتجعل ما كثّرت من ذلك بمنزلة الدهر كلّه كما تقول : " أتاني أهل الدنيا" و" عسى ألا يكون أتاك منهم إلا خمسة

١١٣

فاستكثرتهم".

قال : (وكذلك شهرا ربيع ، حين ثنّيت جاء على العدد عندهم).

يعني لا يجوز أن تقول : " ضرب زيد شهري ربيع" وأنت تعني في أحدهما.

قال : (وتقول : ذهبت الشتاء ويضرب الشتاء. وسمعنا الفصحاء يقولون : انطلقنا الصيف ، على جواب متى). يعني أن الذهاب والانطلاق ، كان في وقت من الشتاء والصيف ؛ لأن الشتاء معروف من أوله إلى آخره ، وكذلك الصيف ، لو أراد أن يكون الفعل في الشتاء كله جاز ، قال" ابن الرقاع" ، والأعرف أنه لأبي دواد الإيادي :

فقصرن الشتاء بعد عليه

وهو للذود أن يقسّمن جار (١)

يصف نوقا قصرت ألبانها على فرس ، وذلك الفرس جار للنوق أن يغار عليهن ، فيجوز أن يكون الشتاء هاهنا على جواب" كم" ، فيكون قصر ألبانهن على الفرس في أيام الشتاء كلّها ، ويجوز أن يكون في بعض الأيام على جواب" متى".

قال : " واعلم أن الظروف من الأماكن كالظروف من الأيام والليالي في الاختصار ، وسعة الكلام".

يعني أن الظروف من المكان قد يجوز أن تقيمها مقام الفاعل ، بأن تجعلها مفعولا على سعة الكلام ، ويجوز أن تنصبها ، ويكون الرفع والنصب فيها في جواب" كم" و" متى" ، كما كان ذلك في" الأيام" ، فتقول : " سير عليه فرسخان وميلان أو بريدان" في جواب : كم سير عليه؟ وإن شئت قلت : فرسخين وميلين ، كما قلت : سير عليه يومان ويومين ، في جواب" كم".

قال : " ونظير" متى" من الأماكن" أين" ، فإذا قلت : أين سير عليه؟ قيل : مكان كذا وكذا وخلف دارك".

يعني أن" أين" يسأل بها عن مكان بعينه محصور ، كما تسأل" بمتى" عن زمان بعينه محصور ، فإذا قلت : أين سير عليه؟ لم يجز أن تقول : فرسخان ، كما لا يجوز أن تقول : " سير عليه يومان" في جواب : " متى سير عليه" وإنما تقول : " سير عليه يومان وفرسخان" في جواب" كم" في الزمان والمكان.

__________________

(١) نسبه سيبويه لابن الرقاع ١ / ١١١ بولاق ونسبه ابن جني في الخصائص لأبي دواد / ٢٦٥.

١١٤

قال : " وتقول : سير عليه ليل طويل ، وسير عليه نهار طويل ، وإن لم تذكر الصفة ، وأردت هذا المعنى رفعت إلا أن الصفة تبيّن بها معنى الرفع وتوضّحه".

يعني أنك إذا قلت : " سير عليه ليل طويل" فهو إلى الرفع وإقامته مقام الفاعل أقرب ؛ لأنه كلما نعت قرب من الأسماء ، وبعد من الظروف ، وإذا قلت : " سير عليه ليل" وأنت تريد هذا المعنى رفعت أيضا ، إلا أنّ ذكر النعت أجود ، لأنه يبيّن بها قربه من الاسم ، وإن نصبت جاز أيضا ، فقلت : " سير عليه ليلا طويلا" ، كما تقول : " سير عليه الدهر".

قال : (وتقول : " سير عليه يوم" على حد قولك : يومان).

يعني على أن تجعله جوابا لكم ؛ لأن اليوم مبهم.

قال : وإن شئت قلت : " سير عليه يوما أتانا فيه فلان".

فيكون جوابا لمتى ؛ لأنه حصر اليوم بإتيان فلان فيه.

قال : (وتقول : سير عليه غدوة وبكرة) ، فترفع على مثل ما رفعت ما ذكرنا ، والنصب فيه على ذلك يعني أن" غدوة وبكرة" وإن كانا لا ينصرفان ، فسبيلهما سبيل ما ينصرف في هذا الباب مما يرفع على أنه مفعول في سعة الكلام ؛ وينصب على الظرف كيوم الجمعة وما أشبه ذلك.

والذي منع" غدوة وبكرة" من الصرف ، أنه كان الأصل في" غدوة" غداة منكورة ، ثم غيروا لفظ النكرة ليجعلوها علما ، فصارت غدوة معرفة وفيها هاء التأنيث ، فاجتمع فيها التعريف والتأنيث و" بكرة" محمولة على غدوة ؛ لأنها على لفظها ومعناها ، غير أنها لم تغيّر عن نكرة كانت لها لتعرّف ، ومثل ذلك في جواز النصب والرفع" صباح يوم الجمعة" و" عشية يوم الجمعة" و" مساء ليلة الجمعة".

قال : (وتقول : " سير عليه يومئذ وحينئذ والنصب على ما ذكرنا")

يعني أن" حينئذ" وإن كان الحين مضافا إلى" إذ" فلا يمتنع من الرفع والنصب كيوم الجمعة ، ويجوز أيضا فيه وجه آخر ، وهو أن تفتحه فتحة بناء في حال الرفع والجر : كقوله تعالى : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ)(١) ، وذلك أنه مضاف إلى" إذ" ، و" إذ" بمنزلة الحروف فبني

__________________

(١) سورة هود ، آية : ٦٦.

١١٥

لذلك حين خالف منهاج الأسماء.

ومما يجوز فيه الرفع والنصب" نصف النهار" و" سواء النهار" ومعناه نصف النهار ؛ لأنك تقول" بعد نصف النهار" و" هو عندك نصف النهار" ، ولأنك تقول : هذا سواء النهار ، وهذا حجة لتمكنهما ، وجواز الرفع فيهما.

و" سراة اليوم" ومعناها أول اليوم و" ضحوة من الضحوات" إذا لم تعن ضحوة يومك ، كقولك : " ساعة من الساعات" ، وكذلك" عتمة من الليل" إذا أردت عتمة من العتمات.

قال : " وتقول في الأماكن : سير عليه ذات اليمين وذات الشمال ، وإن شئت نصبت ، وكذلك الرفع في قولك : سير عليه أيمن وأشمل ، وكذلك دارك اليمين ودارك الشمال ، وقال أبو النجم :

يأتي لها من أيمن وأشمل" (١)

فجعل : " أيمنا وأشملا" متمكّنين حين أدخل عليهما حرف الجر ونكرهما ، فاستدلّ بالجر على جواز الرفع ؛ لأن كلّ ما جاز أن يدخل عليه حرف الجر من الظروف كان متمكنا ، وجاز أن يرفع ، وقال عمرو بن كلثوم :

صددت الكأس عنا أمّ عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا (٢)

فيجوز أن يكون : " اليمين" ظرفا ، ويجوز أن يكون اسما ، فإذا جعلت الكأس اسم كان ، وجعلت : " مجراها" مبتدأ كان اليمين ظرفا للمجرى ، والجملة في موضع خبر الكأس ، وإذا جعلت : " مجراها" بدلا من الكأس ، جاز أن يكون اسما.

قال : " ومن ذلك شرقيّ الدار وغربيّ الدار".

ويجوز فيه الرفع والنصب ، والعرب تقول : البقول يمينها وشمالها ، فيجعلونه ظرفا ، ويجوز : " البقول يمينها وشمالها" على ما ذكرناه.

__________________

(١) الخصائص ٢ / ١٣٠ ـ ٣ / ٦٨ ، شواهد المغني ١٥٤.

(٢) شرح القصائد العشر للتبريزي ٢١٩ / الهمع ١ / ٢٠١ / سيبويه ١ / ١١٣ بولاق ١ / ٢٢٢ هارون.

١١٦

هذا باب ما يكون فيه المصدر حينا لسعة الكلام والاختصار

وذلك قولك : متى" سير عليه" فيقول : " مقدم الحاجّ" ، و" خفوق النّجم" ، و" خلافة فلان" ، و" صلاة العصر" فإنما هو زمن مقدم الحاجّ وحين خفوق النّجم ، ولكنه على سعة الكلام والاختصار).

يعني حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذلك إن قال : " كم سير عليه؟ " جاز أن يكون جوابه : مقدم الحاج ، وخفوق النجم ، وخلافة فلان ، فيكون المعنى : سير عليه مدة خلافة فلان.

قال : " وإن رفعته أجمع كان عربيّا كثيرا".

يعني إن قلت : " سير عليه مقدم الحاجّ" و" خلافة فلان" جاز ، وقد بيّنا وجه الرفع والنصب فيه ،

قال:(وليس هذا سعة الكلام بأبعد من : " صيد عليه يومان" و" ولد له ستون عاما").

يعني ليس حذف" زمن" من" مقدم الحاج" و" خفوق النجم" وإقامة المضاف إليه مقامه بأبعد من حذف الأولاد ، في قولك : " ولد له ستون عاما" : لأن التقدير فيهما واحد ، بل قوله : " ولد له ستون عاما" أبعد ؛ وذلك لأن التقدير فيه : ولد له الأولاد في ستين عاما فحذف منه شيئان" الأولاد" و" في" ، إلا أنه قدر بعد حذف" في" : ولد له أولاد ستين عاما ، فحذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه.

قال : (وتقول : سير عليه فرسخان يومين ، لأنك شغلت الفعل بالفرسخين ، فصار كقولك : " سير عليه بعيرك يومين" وإن شئت قلت : سير عليه فرسخين يومان).

يعني أنك تقيم أيّهما شئت مقام الفاعل ، وأيّهما أقمته مقام الفاعل فقد جعلته كالمفعول ؛ فلذلك شبّهته بقولك : " سير عليه بعيرك يومين" ، والذي تنصبه فيهما يجوز أن تنصبه على الظرف ، وأنه مفعول على سعة الكلام.

وتقول : (صيد عليه يوم الجمعة غدوة" ، فتقيم" غدوة" ، مقام الفاعل وتنصب" اليوم" على الظرف ، أو مفعول على سعة الكلام).

وإن شئت رفعت : " اليوم" ، ونصبت : " غدوة" على مثل ذلك التفسير.

وإن شئت نصبتهما جميعا على الظرف ، ألا ترى أنك تقول : " سير عليه في يوم

١١٧

الجمعة في هذه الساعة" ، فتأتي بهما جميعا ، وكذلك تحذفها عنهما ، فيصيران ظرفين.

وإن شئت رفعتهما جميعا ، فتبدل : " غدوة" من يوم الجمعة.

وإن قدمت" غدوة" جازت فيهما هذه الوجوه إلا رفعها ، فإنه غير جائز أن تقول : " سير عليه غدوة يوم الجمعة" ؛ لأنه لا يجوز أن تبدل" اليوم" من غدوة ؛ لأن الكل لا يبدل من البعض ، وإنما يبدل البعض من الكلّ.

قال : وتقول : " إذا كان غد فأتني ، وإذا كان يوم الجمعة فالقني".

فالفعل لغد ويوم الجمعة ، و" كان" في معنى وقع وحدث ، وكأنه قال : إذا جاء غد فالقني.

قال : " ومن العرب من يقول : إذا كان غدا فالقني ، وهم بنو تميم".

وإنما نصبوا بإضمار فعل كأنهم قالوا : إذا كان ما نحن عليه من السلامة أو من الحال التي هم عليها ، والمعنى فيه إذا لم يحدث لك مانع أو حال تعذر في التخلف لحدوثها فالقني ، فهذا جائز ، والمعنى فيه مفهوم ؛ وذلك أن مواعيد الناس إنما تقع على بقاء الأحوال التي هم عليها ، ألا ترى أن رجلا لو قال لآخر : إني آتيك في غد مسلّما أو زائرا ، ومنزله عنه شاسع ، ثم مطروا في غد مطرا عظيما ، يشق فيه تجشم الزيارة ، كان معذورا في ترك الزيارة ، ولم ينسب إلى جملة المتخلفين الكذابين ؛ لأن وعده كان معلّقا بسلامة الأحوال ، وإن لم يكن ملفوظا به.

قال سيبويه : " وحذفوا كما قالوا : حينئذ الآن"

يريد حذفوا المرفوع ب" كان" في قولهم : " إذا كان غدا فأتني" ، والمرفوع به" ما نحن عليه من السلامة" أو غيرها ، كما حذفوا" في حينئذ الآن" والذي حذفوه : كان هذا حينئذ وأسمع إليّ الآن ، كما قال : " تالله ما رأيت كاليوم رجلا" ، أراد : " ما رأيت رجلا كرجل أراه اليوم" ، ثم أضاف الرجل المرئيّ في اليوم إلى اليوم ، فصار التقدير : " ما رأيت رجلا كرجل اليوم" ثم حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ، فصار التقدير ما رأيت رجلا كاليوم ، ثم أخّره في اللفظ.

ومما حذف قولهم : " لا عليك" ، وقد علم المخاطب أنه يعني لا بأس عليك. قال : " وتقول : " إذا كان غدا فأتني" ، كأنه ذكر أمرا إما خصومة وإما صلحا ، فقال : " إذا كان غدا فأتني" فهذا جائز في كل فعل.

١١٨

يريد أن القائل قد يقول : " فلان يصالح فلانا غدا" أو" يخاصمه غدا ، أو يزوره غدا" ، أو غير ذلك من الأفعال فيقول : " إذا كان غدا فأتني" ، أي إذا كان ما ذكرت في غد فأتني ، فهذا على غير الوجه الأول ؛ لأن الوجه الأول إنما يقوله القائل من غير أن يجرى ذكر شيء اعتمادا على الحال التي هم فيها ، واكتفاء بها ، وهذا على إضمار شيء يجري ذكره.

قال : " فإن قلت : إذا كان الليل فأتني" لم يجز ذلك ؛ لأن الليل لا يكون ظرفا إلا أن تعني الليل كلّه". يعني أن الليل اسم لليالي التي تكون أبدا ، فلا يجوز أن تعلق الوقت بها ؛ لأنها غير متقضية ولا موجودة في وقت واحد ، وسبيلها سبيل الدهر ، وأنت لا تقول : " إذا كان الدهر فأتني"

قال : " فإن وجّهته على إضمار شيء قد ذكر على ذلك الحد جاز ، وكذلك : أخوات الليل".

يعني إن وجّهته على كلام يعلم السامع أنه يريد ليل ليلته جاز ، وذلك نحو : أن تكون مع رجل في شيء ، فقال : " إذا كان الليل فأتنا" ، فعلمت أنت بالحال التي أنتما فيها أنه يعني ليل ليلته التي تجيء ، فيجوز فيه النصب والرفع.

قال : (ومما لا يحسن فيه إلا النصب قوله : سير عليه سحر ، لا يكون فيه إلا أن يكون ظرفا ؛ لأنهم إنما يتكلمون به في الرفع والنصب والجر ، بالألف واللام ، يقولون : هذا السحر ، وبأعلى السحر ، وإنّ السحر خير لك من أول الليل).

قال أبو سعيد : اعلم أن : " سحر" إذا أردت به سحر يومك فإنه معرفة بغير ألف ولام ، غير منصرف ولا متصرف ، فأما قولنا : غير منصرف ، فالذي منعه من الصرف أنه معدول عن الألف واللام ، كأن الألف واللام تراد فيه ، وغيّر عن لفظ ما فيه الألف واللام ، مع الإرادة ، كما عدل" جمع" في قولك : " جاءت النسوة جمع" وهو معرفة ، فاجتمع فيه التعريف والعدل ، فلم ينصرف.

وأما قولنا : إنه لا يتصرف ، فمعناه أنه لا يدخله الرفع والجر ، وربما دخله الجر ، ولا يكون إلا منصوبا على الظرف ، وكذا : كل ظرف غير متصرف ، فمعناه أنه لا يدخله الرفع والجر ، وربما دخله الجر" بمن" فقط من بين حروف الجر.

والذي منع" سحر" من التصرف أنه عرّف من غير وجه التعريف!! ؛ لأن وجوه

١١٩

التعريف إنما هي بخمسة أشياء : بالإضمار ، والإشارة ، والعلم ، والألف واللام ، والإضافة إلى هذه الأربعة ، وإنما صار : " سحر" معرفة ؛ بوضعك إياه هذا الموضع ، كما صار : " أجمع ، وأجمعون ، وجمع" بوضعك إياهن هذا الموضع ، وهو أنك لا تصف به إلا معرفة.

فإذا صغّرت" سحر" من يومك انصرف فدخله التنوين ، " ولا يتصرف" لا يدخله الرفع والجر ، أما التنوين فإنما دخل عليه ، كما دخل على : " ضحوة" وذلك أنهم لم يضعوا المصغّر مكان ما فيه الألف واللام ، فيكون معرفة أو معدولا.

وإنما نكروه كما نكّروا" ضحوة" و" عتمة" و" عشاء" ، لأنه فهم به ما يفهم بالمعارف ، فلم يتمكّن ، وكذلك : كل شيء من أسماء ساعات يومك ، نحو : " ضحى ، وضحوة ، وعشاء ، وعشيّا ومساء" إذا أردت ذلك من يومك لم يكن إلا ظروفا ، وذلك أنك إذا قلت لرجل" أنا آتيك عشاء" لم يذهب وهمه إلا إلى عشاء يومك وكذلك : " عتمة" ، فلما كان يفهم ما كان يفهم بالمعارف من حصر وقت بعينه لم يتمكن عندهم تمكّنا يتّسع فيه فيجعل اسما غير ظرف ، فيرفع ويجر ، لا تقول : " آتيك عند ضحى ، ولا موعدك مساء" و" لا أتانا عند عشاء" فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

قال : ومثل ذلك : " سير عليه ذات مرة" نصب لا يجوز إلا هذا ، ألا ترى أنك لا تقول : إن" ذات مرة" كان موعدهم ، ولا تقول : " إنما لك ذات مرة" ، كما تقول : " إنما لك يوم".

وكذلك : " إنما يسار عليه بعيدات بين" ؛ لأنه بمنزلة" ذات مرة".

ومثله" سير عليه بكرا" ، ألا ترى أنه لا يجوز : موعدك بكر ، ولا مذ بكر ، فالبكر لا يتمكن في يومك ، كما لم يتمكن : " ذات مرة" و" بعيدات بين" وكذلك : " ضحوة في يومك الذي أنت فيه".

أما : " ذات مرة" و" بعيدات بين" فلا يستعمل عنده إلا ظرفا ، والذي منعها من التصرف ، ومن كونها غير ظرف أنها قد استعملت في ظروف الزمان ، وليست من أسماء الدهر ، ولا من أسماء ساعاته ، ألا ترى أنك تقول : " ضربتك مرة ومرتين" وأنت تعني : ضربة وضربتين ، فلما استعمل في الدهر ما ليس من أسمائه ضعف ولم يتمكن.

فإن قال قائل : فأنتم تقولون : " سير عليه مقدم الحاجّ" ، و" خفوق النّجم" ، وما أشبه ذلك ، من أسماء المصادر ، وليست المصادر من أسماء الزمان.

١٢٠