نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

الرعاية مطلول (١) ، وجيب النصيحة مملول ، والتّنّور السلطاني بنار اختلاف الكلمة ملتهب ، والعدوّ ينتهز الفرصة ويستلب الأنفس الأموال وينتهب ، وليس له في غير قطع شأفة المسلمين ابتغاء ، وإن عقد المهادنة في بعض الأحيان فهو يسرّ حسوا في ارتغاء ، وكلاب الباطل في دماء أهل الحق والغة ولله سبحانه وتعالى في خلقه إرادة نافذة وحكمة بالغة ، فرقع لسان الدين ثوب الأندلس ورفاه ، وأرغم ـ رحمه الله! ـ الكفر الذي فغرفاه ، وشمّر عن ساعد اجتهاده ، وحضّ باللسان وباليد على دفاعه وجهاده ، حتى لاحت للنصر بوارق ، وأمنت بالحزم الطوارىء والطوارق ، ثم ضرب الدهر ضربانه ، وأحرق الحاسد بنار أحقاده أنضر بانه ، وأظهر ما في قلبه على لسان الدين وأبانه ، وتقرّب الوشاة ، وهم ممّن كان يخدمه ويغشاه ، إلى سلطانه الذي كان عزّة أوطانه الذي كان يأمنه ولا يخشاه ، حتى فسد عليه ضميره ، وتكدّر ومن يسمع يخل نميره ، فأحسّ بظاهر التغيّر ، وصار في الباطن من أهل التحير ، وأجال قداح آرائه ، والتفت إلى جهة العدوّ من ورائه ، ففرّ مشمّرا عن ذيله في لمّة من خيله ، إلى أسد العرين ، سلطان بني مرين ، وكان إذ ذاك بتلمسان ، وهو من أهل العلم والعدل والإحسان ، فاهتزّ لمقدمه ، ولقيه بخاصّته وخدمه ، وأكرم مثواه ، وجعله صاحب نجواه ، ثم أدرك السلطان الحمام (٢) ، وكسف بدره وقت التمام ، فرجع لسان الدين إلى فاس ، واستنشق بها أطيب الأنفاس ، وكثرت بعد ذلك الأهوال ، وتغيّرت بسببه بين رؤساء العدوة والأندلس الأحوال ، فما نجا من مكر العدا ولا سلم ، وآل أمره من الاغتيال وما نفع الاحتيال إلى ما علم ، على يدي (٣) بعض أعدائه ، الذين كانوا يتربّصون الدوائر لإردائه ، فأصبح كأمس الذاهب ، وصارت أمواله وضياعه عرضة للناهب ، وغصّ بذلك من كان من أودّائه ، وأخذ الله ثاره ، من بعض من حرّك عليه المكر وأثاره ، وتسبب في هلاكه ، حتى انتثرت جواهر أسلاكه ، ومات بدائه. فالعيون إلى هذا الوقت على لسان الدين باكية ، ونفوس الأكابر وغيرهم مما فعل به شاكية ، والألسنة والأقلام لمقاماته في الإسلام حاكية.

فمن كان بهذه السّمات وأكثر منها موصوفا ، لا يقدر مثلي على تحبير التعبير عنه ويخشى أن تكون فكرته كخرقاء نقضت قطنا أو صوفا.

ثم إني لمّا تكرّر عليّ في هذا الغرض الإلحاح ، ولم تقبل أعذاري التي زندها شحاح (٤) ، عزمت على الإجابة لما للمذكور عليّ من الحقوق ، وكيف أقابل برّه حفظه الله بالعقوق؟ وهو

__________________

(١) في ب : محلول.

(٢) الحمام : الموت.

(٣) في ب : يد.

(٤) الزند الشحاح ـ بفتح الشين ـ الذي لا يوري نارا.

٨١

الذي يروي من أحاديث الفضل الحسان والصحاح ، فوعدته بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزّيّة ، وأزمعت السّير عن دمشق المعروفة المزيّة ، وألبسني السفر منها من الخلع زيّه ، ورحلنا عن تلك الأرجاء المتألّقة ، والقلوب بها وبمن فيها متعلّقة : [الطويل]

حللنا ديارا للغرام سرت بها

إلينا صبا نجد بطيب نسيم

وبان ردا الأشجان لمّا تجاذبت

أكفّ المنى فيها رداء نعيم

فما أنشبتنا العيس أن قذفت بنا

إلى فرقة والعهد غير قديم

فإن نك ودّعنا الديار وأهلها

فما عهد نجد عندنا بذميم

فخرج معنا. أسماه الله. مع جملة من الأعيان إلى داريّا (١) ، المضاهية لدارين في ريّاها وحبّذا ريّا ، فألفيناها : [مجزوء الكامل]

ريّا من الأنداء طي

يبة لها القدر الجليل

تهدي لنا أرجاؤها

أرجا من الزّهر البليل

وبها الغصون تمايلت

ميل الخليل على الخليل

ووصلنا عند الظّهيرة ، وسرّحنا العيون في محاسنها (٢) الشهيرة : [الخفيف]

منزل كالرّبيع حلّت عليه

حاليات السّحاب عقد النّطاق

يمتع العين من طرائق حسن

تتجافى بها عن الإطراق

وقلنا بها ، لمّا نزلنا بجانبها (٣) : [الوافر]

وبتنا والسرور لنا نديم

وماء عيونه الصّافي مدام

يسايره النسيم إذا تغنّت

حمائمه ويسقيه الغمام

فيا لك من ليلة أربت في طيب النفح ، على ليلة الشّريف الرضيّ بالسّفح (٤) : [المنسرح]

ونحن في روضة مفوّفة

قد وشّيت بالغمائم الوكف

__________________

(١) داريا : جنوبيّ دمشق.

(٢) في ب : بدائعها.

(٣) في ب : بجنابها.

(٤) يشير إلى قول الشريف الرضيّ في ليلة السفح :

يا ليلة السفح ألا عدت ثانية

سقى زمانك هطّال من الديم

ماض من العيش لو يفدى بذلت له

كرائم المال من خيل ومن نعم

٨٢

نغفي على زهرها فيوقظنا

وهنا هدير الحمائم الهتف

ودوحها من نداه في وشح

ومن لآلي الأزهار في شنف

والغصن من فوقه حمامته

كأنها همزة على ألف

وما أقرب قول الوزير ابن عمّار ، من وصف ذلك المضمار ، الجامع للأقمار : [مجزوء الكامل]

يا ليلة بتنا بها

في ظلّ أكناف النّعيم

من فوق أكمام الرّيا

ض وتحت أذيال النّسيم

وناهيك بمحلّ قرب من دمشق الغرّاء ، فخلعت عليه حلل الحبور والسّراء ، وأمدّته بضيائها ، وأودعته برق حياها (١) وماء حيائها ، فصار ناضر الدّوحات ، عاطر الغدوات والرّوحات ، مونق الأنفاس والنفحات ، مشرق الأسرّة والصفحات ، هذا والقلوب من الفراق في قلق ، ولسان الحال ينشد : [البسيط]

وبي علاقة وجد ليس يعلمها

إلّا الّذي خلق الإنسان من علق

ويحثّ على انتهاز فرصة اللقاء إذ هي غنيمة ، ويذكّر بقول من قال وأكفّ الدهر موقظة ومنيمة (٢) : [الوافر]

تمتّع بالرّقاد على شمال

فسوف يطول نومك باليمين

ومتّع من يحبّك باجتماع

فأنت من الفراق على يقين

ثم حضر بعد تلك الليلة موقف الوداع ، والكلّ ما بين واجم وباك وداع ، فتمثّلت بقول من قلبه لفراق الأحباب في انصداع : [المجتث]

ودّعتهم ودموعي

على الخدود غزار

فاستكثروا دمع عيني

لمّا استقلّوا وساروا

وقول آخر : [السريع]

يا وحشة من جيرة قد نأوا

علوّ قدري في الهوى انحطّا

حكت دموعي البحر من بعدهم

لمّا رأت منزلهم شطّا

__________________

(١) الحيا : المطر.

(٢) البيتان لشاعر صقلية ابن الخياط (انظر الشعر الصقلي في المغرب لابن سعيد).

٨٣

وحقّ لي أن أتمثّل في ذلك بقول العزازي (١) : [الخفيف]

لا تسلني عمّا جناه الفراق

حمّلتني يداه ما لا يطاق

أين صبري أم كيف أملك دمعي

والمطايا بالظاعنين تساق

قف معي نندب الطّلول فهذي

سنّة قبل سنّها العشّاق

وأعد لي ذكر الغوير فكم ما

ل بعطفي نسيمه الخفّاق

في سبيل الغرام ما فعلت بال

عاشقين القدود والأحداق

يوم ولّت طلائع الصّبر منّا

ثم شنّت غاراتها الأشواق

وبقول غيره : [البسيط]

كنّا جميعا والدار تجمعنا

مثل حروف للجمع ملتصقه (٢)

واليوم صار الوداع يجعلنا

مثل حروف الوداع مفترقه

وقول آخر : [الخفيف]

حين همّ الحبيب بالتّوديع

عيّروني أنّي سفحت دموعي

لم يذوقوا طعم الفراق ولا ما

أحرقت لوعة الأسى من ضلوعي

كيف لا أسفح الدموع على رب

ع حوى خير ساكن وجموع

هبك أنّي كتمت حالي أتخفى

زفرات المتيّم المصدوع

إنّما يعرف الغرام بمن لا

ح عليه الغرام بين الربوع

وقول من قال : [المتقارب]

أقول له عند توديعه

وكلّ بعبرته مبلس (٣)

لئن قعدت عنك أجسادنا

لقد سافرت معك الأنفس

وقول الصابي (٤) : [المتقارب]

__________________

(١) اختلفت المخطوطات فبعضها أورده الفزاري ، وبعضها العزازي وبعضها الإعزازي ...

(٢) في ب : مثل حروف الجميع.

(٣) مبلس : ساكت غمّا وحزنا.

(٤) هو ابن إسحاق إبراهيم بن هلال بن ابراهيم بن زهرون الحرّاني الصابي ، كان صاحب رسائل مشهورة ونظم بديع (انظر : وفيات الأعيان ج ١ ص ٥٢ ، ومعجم الأدباء ج ٢ صفحة ٢٠ واليتيمة ج ٢ ص ٢٤٣ ـ ٣١٢.

٨٤

ولمّا حضرت لتوديعه

وطرف النّوى نحونا أشوس (١)

عكست له بيت شعر مضى

يليق به الحال إذ يعكس

لئن سافرت عنك أجسادنا

لقد قعدت معك الأنفس

وقول المهذب بن أسعد الموصلي (٢) : [الكامل]

دعني وما شاء التفرّق والأسى

واقصد بلومك من يطيعك أو يعي

لا قلب لي فأعي الملام فإنني

أودعته بالأمس عند مودّعي

هل يعلم المتحمّلون لنجعة

أنّ المنازل أخضبت من أدمعي

كم غادروا حرضا وكم لوداعهم

بين الجوانح من غرام مودع (٣)

والسقم آية ما أجنّ من الجوى

والدّمع بيّنة على ما أدّعي

وقول الكمال التّنوخي : [الكامل]

كم ليلة قد بتّها أرعى السّها

جزعا لفرقتهم بمقلة أرمد

قضّيتها ما بين نوم نافر

وزفير مهجور وقلب مكمد

لم أنس أيام السّرور وطيبها

بين السّدير وبين برقة ثهمد

والروض قد أبدى بدائع نوره

من أزرق ومفضّض ومورّد

والماء يبدو كالصّوارم ساريا

فيعيده مرّ الصّبا كالمبرد

والطير بين مسجّغ ومرجّع

ومغرّد ومعدّد ومردّد

وقول القاضي بهاء الدين السنجاري (٤) : [الكامل]

أحبابنا ما لي على بعد المدى

جلد ومن بعد النّوى يتجلّد

لله أوقات الوصال ومنظر

نضر وغصن الوصل غضّ أملد (٥)

أنّى يطيق أخو الهوى كتمانه

والخدّ بالدمع المصون مخدّد

__________________

(١) الأشوس : الرافع رأسه تكبرا.

(٢) هو أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي بن عيسى بن الدهان الموصلي ، (انظر : الخريدة ـ القسم الشامي ٢ / ٢٧٩).

(٣) الحرض : المشرف على الهلاك.

(٤) هو أبو السعادات أسعد بن يحيى السنجاري. كان فقيها ، وتكلم بالخلاف إلا أنه غلب عليه الشعر ، توفي سنة ٦٢٢ ه‍ (انظر : وفيات الأعيان ، ج ١ ص ٢١٤ ـ ٢١٧).

(٥) غصن أملد : طريّ غضّ.

٨٥

ما بعد مفترق الركاب تصبّر

عمّن أحبّ فهل خليل يسعد

يا سعد ، ساعد بالبكاء أخا هوى

يوم الوداع بكى عليه الحسّد

وقول ابن الأثير : [مجزوء الكامل]

لم أنس ليلة ودّعوا

صبّا وساروا بالحمول

والدّمع من فرط الأسى

يجري فيعثر بالذيول

وقول الأرّجاني (١) : [الطويل]

ولمّا وقفنا للوداع عشيّة

وطرفي وقلبي هامع وخفوق

بكيت فأضحكت الوشاة شماتة

كأني سحاب والوشاة بروق

وقول ابن نباتة السّعدي (٢) : [الطويل]

ولمّا وقفنا للوداع عشية

ولم يبق إلّا شامت وغيور

وقفنا فمن باك يكفكف دمعه

وملتزم قلبا يكاد يطير

وقول بعضهم : [السريع]

لمّا حدا الحادي بترحالهم

هيّج أشواقي وأشجاني

وراح يثني القلب عن غيرهم

فهو لهم حاد ولي ثاني (٣)

وقول الصّفدي : [السريع]

لمّا اعتنقنا لوداع النّوى

وكدت من حرّ الجوى أحرق

رأيت قلبي سار قدّامهم

وأدمعي تجري ولا تلحق

وقوله أيضا : [الطويل]

تذكّرت عيشا مرّ حلوا بقربكم

فهل لليالينا الذواهب واهب

وما انصرفت آمال نفسي لغيركم

ولا أنا عن هذي الرغائب غائب

__________________

(١) هو أبو بكر أحمد بن الحسين الأرجاني الملقّب ناصح الدين ، كان قاضي تستر وعسكر مكرم ، له شعر رائق ، توفي سنة ٥٤٤ ه‍ (انظر وفيات الأعيان ج ١ ص ١٥١).

(٢) هو أبو نصر عبد العزيز بن محمد بن نباتة السعدي المتوفى سنة ٤٠٥ ه‍ من شعراء اليتيمة (انظر يتيمة الدهر ج ٢ ص ٣٨٠ ، وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٩٠).

(٣) حاد : سائق ، ثاني : من ثنى القلب. وفي الكلمتين تورية.

٨٦

سأصبر كرها في الهوى غير طائع

لعلّ زماني بالحبائب آئب

وقول ابن نباتة المصري (١) : [السريع]

في كنف الله وفي حفظه

مسراك والعود بعزم صريح

لو جاز أن تسلك أجفاننا

كنّا فرشنا كلّ جفن قريح

لكنها بالبعد معتلّة

وأنت لا تسلك إلّا الصحيح

وقول الحافظ أبي الحسن علي بن الفضل (٢) : [الطويل]

عجبت لنفسي بعدهم ما بقاؤها

ولم أحظ من لقياهم بمرادي

لعمرك ما فارقتهم منذ ودّعوا

ولكنّما فارقت طيب رقادي

وقد منعوا مني زيارة طيفهم

وكيف يزور الطّيف حلف سهاد

وأعجب ما في الأمر شوقي إليهم

وهم في سوادي ناظري وفؤادي

وقوله رحمه الله تعالى : [الطويل]

رعى الله أيام المقام بروضة

تروح علينا بالسرور وتغتدي

كأن الشّقيق الغضّ بين بطاحها

نجوم عقيق في سماء زبرجد

وقول القاضي الرشيد الأسواني (٣) : [الكامل]

رحلوا فلا خلت المنازل منهم

ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم

وسروا وقد كتموا الغداة مسيرهم

وضياء نور الشمس ما لا يكتم

وتبدّلوا أرض العقيق عن الحمى

روّت جفوني أيّ أرض يمّموا (٤)

نزلوا العذيب وإنما هو مهجتي

رحلوا وفي قلب المتيّم خيّموا

__________________

تذكّرت عيشا مرّ حلوا بكم فهل

لأيامنا تلك الذواهب واهب؟

 (١) هو محمد بن محمد بن محمد أبو بكر جمال الدين ، شاعر ، مترسل ، له ديوان مطبوع ، وله شرح على رسالة ابن زيدون الهزلية ، توفي سنة (٧٦٨ ه‍) (انظر: النجوم الزاهرة ١١ : ٩٥ ، وطبقات الشافعية ٦ : ٣١).

(٢) فقيه ، شاعر ، أندلسي توفي (٦٢٧ ه‍) (انظر : اختصار القدح ص ١٠٨).

(٣) هو أحمد بن علي بن ابراهيم بن الزبير ، كان عالما وشاعرا قتل سنة (٥٦٣ ه‍) (انظر : وفيات الأعيان ومعجم الأدباء ٤ : ٥١).

(٤) يمموا : قصدوا.

٨٧

ما ضرّهم لو ودّعوا من أودعوا

نار الغرام وسلّموا من أسلموا

هم في الحشا إن أعرقوا أو أيمنوا

أو أشأموا أو أنجدوا أو أتهموا

وقول الشاعر أبي طاهر الأصفهاني ، المعروف بالوثّابي (١) : [الطويل]

أشاعوا فقالوا وقفة ووداع

وزمّت مطايا للرحيل سراع

فقلت وداع لا أطيق عيانه

كفاني من البين المشتّ سماع

ولم يملك الكتمان قلب ملكته

وعند النّوى سرّ الكتوم مذاع

وقول أبي المجد قاضي ماردين : [الطويل]

رعى الله ربعا أنتم فيه أهله

وجاد عليه هاطل وهتون

ولا زال مخضرّ الجوانب مترع ال

حياض وفيه للنّعيم فنون

لئن قدّر الله اللقاء وأينعت

غصون التداني فالبعاد يهون

وإن حكمت أيدي الفراق بعسرة

فكم قضيت للمعسرين ديون

وقول آخر : [الكامل]

غبتم فما لي في التّصبّر مطمع

عظم الجوى واشتدّت الأشواق

لا الدار بعدكم كما كانت ولا

ذاك البهاء بها ولا الإشراق

أشتاقكم ، وكذا المحبّ إذا نأى

عنه أحبّة قلبه يشتاق

وقول أبي الحسن الهمذاني (٢) : [الوافر]

ويوم تولّت الأظعان عنّا

وقوّض حاضر وأرنّ بادي (٣)

مددت إلى الوداع يدا وأخرى

حبست بها الحياة على فؤادي

وقول ابن الصائغ : [البسيط]

قد أودعوا القلب لمّا ودّعوا حرقا

فظلّ في الليل مثل النّجم حيرانا

راودته يستعير الصّبر بعدهم

فقال : إني استعرت اليوم نيرانا

وقول الصدر بن الأدمي مكتفيا (٤) : [الرمل]

__________________

(١) هو اسماعيل بن محمد الوثابي الأصفهاني الأديب الشاعر. توفي سنة (٥٣٢ ه‍) (انظر : اللباب ٣: ٢٦٢).

(٢) في ب : الهمداني.

(٣) أرنّ : صاح باكيا.

(٤) هو صدر الدين علي بن محمد الأدمي المتوفى سنة ٨١٦ ه‍) كان قاضيا بدمشق (انظر : الضوء اللامع ٥ : ٣٢٨).

٨٨

يوم توديعي لأحبابي غدا

ذكر ميّ شاغلي عن كلّ شي

فرنت نحوي وقالت : يا ترى

أنت حيّ في هوانا؟ قلت : مي (١)

وقول غيره : [السريع]

ولي فؤاد مذ نأى شخصهم

ظلّ كئيبا مدنفا موجعا

ومقلة مهما تذكّرتهم

تذرف دمعا أربعا أربعا

وليس لي من حيلة كلما

لجّت بي الأشواق إلّا الدّعا

أسأل من ألّف ما بيننا

وقدّر الفرقة أن يجمعا

وقول الرّعيني الغرناطي : [الطويل]

محاسن ربع قد محاهنّ ما جرى

من الدمع لمّا قيل قد رحل الرّكب

تناقض حالي مذ شجاني فراقهم

فمن أضلعي نار ومن أدمعي سكب

وفي معناه قوله أيضا (٢) : [الطويل]

وقائلة : ما هذه الدّرر التي

تساقطها عيناك سمطين سمطين

فقلت لها : هذا الذي قد حشا به

أبو مضر أذني تساقط من عيني

وقول الزمخشري (٣) : [الكامل]

لم يبكني إلّا حديث فراقهم

لمّا أسرّ به إليّ مودّعي

هو ذلك الدّرّ الذي أودعتم

في مسعي أجريته من مدمعي

وقول الزّغاري : [الرجز]

قد بعتهم قلبي يوم بينهم

بنظرة التوديع وهو يحترق

ولم أجد من بعدها لردّه

وجها وكان الرّدّ لو لم نفترق

وقول بعض الأندلسيين : [البسيط]

ساروا فودّعهم طرفي وأودعهم

قلبي فما بعدوا عنّي ولا قربوا

__________________

(١) قلت : مي ، لعله أراد : قلت ميت فاختصر الكلمة وكأنه لا يستطيع الكلام.

(٢) اشتهرت نسبة البيتين إلى الزمخشري.

(٣) اشتهرت نسبة هذين البيتين إلى القاضي الجرجاني.

٨٩

هم الشموس ففي عيني إذا طلعوا

في القادمين وفي قلبي إذا غربوا

وقلت أنا مضمّنا بديهة : [المجتث]

لا كان يوم فراق

ساق الشجون إلينا

فكم أذلّ نفوسا

يا من يعزّ علينا (١)

وقلت أيضا مضمّنا : [البسيط]

سلا أحبّته من لم يذب كمدا

يوم الوداع وإن أجرى الدموع دما

يا من يعزّ علينا أن نفارقهم

من بعدكم هدّ ركن الصّبر وانهدما

وإن نأى الجسم كرها عن منازلكم

فالقلب ثاو بها لم يصحب القدما

وما نسينا عهودا للهوى كرمت

نعم قرعنا عليها سنّنا ندما

وأظلمت بالنّوى أرجاء مقصدنا

وصار وجدان إلف غيركم عدما

وقلت أيضا مضمّنا : [البسيط]

لم أنس بالشام أنسا شمت بارقه

جادت معاهده أنواء نيسان (٢)

لهفي لعيش قضينا في مشاهدها

ما بين حسن من الدنيا وإحسان

وقلت كذلك : [الكامل]

يا جيرة بانوا وأبقوا حسرة

تجري دموعي بعدهم وفق القضا

كم قلت إذ ودّعتهم والأنس لا

ينسى وعهد ودادهم لن يرفضا

يا موقف التوديع إنّ مدامعي

فضّت وفاضت في ثرى ذاك الفضا

وكما تفاءلت بقول الأول ، مع علمي بأن على الله المعوّل : [البسيط المخلع]

إذا رأيت الوداع فاصبر

ولا يهمّنّك البعاد

وانتظر العود عن قريب

فإنّ قلب الوداع عادوا

وضاقت بي الرّحاب ، عند (٣) مفارقة أعيان الأحباب والصّحاب (٤) ، وكاثرت دموعي من

__________________

(١) ضمّن في هذا البيت قول المتنبي :

يا من يعز علينا أن نفارقهم

وجداننا كل شيء بعدكم عدم

(٢) شمت : نظرت ، والبارق : البرق.

(٣) في ب : حين.

(٤) في ب : مفارقة أعيان الصّحاب.

٩٠

بينهم السحاب (١) ، وزند التذكّر يقدح الأسف فيهيج الانتحاب ، وقد تمثّلنا إذ ذاك والجوانح من الجوى في التهاب ، وذخائر الصبر ذات انتهاب ، بقول بعض من مزّق البعد منه الإهاب : [الطويل]

ولمّا نزلنا منزلا طلّه النّدى

أنيقا وبستانا من النّور حاليا (٢)

أجدّ لنا طيب المكان وحسنه

منى فتمنّينا فكنت الأمانيا (٣)

وقد طفت في شرق البلاد وغربها

وسيّرت خيلي بينها وركابيا

فلم أر منها مثل بغداد منزلا

ولم أر فيها مثل دجلة واديا

ولا مثل أهليها أرقّ شمائلا

وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا

وبقول من تأسّف على مغاني التداني ، وهو أبو الحجاج الأندلسي الداني (٤) : [الطويل]

أبى الله إلّا أن أفارق منزلا

يطالعني وجه المنى فيه سافرا

كأنّ على الأيام حين غشيته

يمينا فلم أحلله إلّا مسافرا

وتخيّلنا أنّ إقامتنا بدمشق وقاها الله كل صرف ، ما كانت إلّا خطرة طيف ملمّ أو لمحة طرف : [الوافر]

وقفنا ساعة ثم ارتحلنا

وما يغني المشوق وقوف ساعه

كأنّ الشّمل لم يك في اجتماع

إذا ما شتّت البين اجتماعه

وطالما علّلت النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي ، منشدا قول الأديب الشهير بابن الفقاعي (٥) : [الطويل]

متى عاينت عيناي أعلام حاجر

جعلت مواطي العيس فوق محاجري

وإن لاح من أرض العواصم بارق

رجعت بأحشاء صواد صوادر (٦)

سقى الله هاتيك المواطن والرّبا

مواطر أجفان هوام هوامر

__________________

(١) السحاب : هنا المطر.

(٢) النّور : بفتح النون وسكون الواو : الزهر ، أو الأبيض منه.

(٣) في ب : فكانوا.

(٤) هو أبو الحجاج يوسف بن عبد الله الفهري الداني ، تولى أحكام بلنسبة ت (٥٩٢ ه‍).

(٥) هو محمد بن غازي الموصلي (٦٢٩ ه‍) شاعر دمشقي ينسب إلى الفقاع وهو نوع من الشراب (انظر : الوافي ٤ : ٣٠٦).

(٦) صواد : جمع صادية ، وهي العطشى.

٩١

وحيّا الحيا من ساكني الحيّ أوجها

سفرن بأنوار زواه زواهر

بحيث زمان الوصل غضّ وروضه

أريض بأزهار بواه بواهر

وحيث جفون الحاسدين غضيضة

رمقن بآماق سواه سواهر

ثم حاولت خاطري الكليل ، فيما يشفي بعض الغليل ، فقال على طريق التضمين ، وقد غلب عليه الشوق والتخمين : [الرمل]

بأبي من أودعوا مذ ودّعوا

قلبي الشّوق وللعيس ذميل

جيرة غرّ كرام خيرة

كلّ شيء منهم يبدو جميل

وعلى الجملة ما لي غيرهم

لو أرادوا أن يملّوا أو يميلوا

ثم قلت وقد سدّد التنائي إليّ نبله ، موطّئا للبيت الثالث كما في الأبيات قبله : [الخفيف]

يا دمشقا حيّاك غيث غزير

ووقاك الإله ممّا يضير

حسنك الفرد والبدائع جمع

متناه فيه فعزّ النظير

أين أيامنا بظلّك والشّم

ل جميع ، والعيش غضّ نضير

ثم أكثرت الالتفات عن اليمين وعن الشمال ، وقد شبّهت البيداء والشوق ببدل الكل والاشتمال ، وتنسّمت من نواحي تلك الأرجاء أريج الشّمال (١) ، وضمّنت في المعنى قول بعض من ثنى الحبّ عطفه وأمال : [الطويل]

تنسّمت أرواحا سرت من ديار من

بهم كان جمع الشّمل لمحة حالم

وجاوبت من يلحى على ذاك جاهلا

بقول لبيب بالعواقب عالم

وما أنشق الأرواح إلّا لأنّها

تمرّ على تلك الرّبا والمعالم

وما أحسن قول الآخر : [الطويل]

سرت من نواحي الشام لي نسمة الصّبا

وقد أصبحت حسرى من السّير ظالعه (٢)

ومن عرق مبلولة الجيب بالنّدى

ومن تعب أنفاسها متتابعه

وقلت أنا : [الطويل]

حمدت وحقّ الله للشام رحلة

أتاحت لعينيّ اجتلاء محيّاه (٣)

__________________

(١) أريج الشمال : العطر المنبعث من الريح الهابّة من الشمال.

(٢) حسرى : متعبة ، وظالعة : من الظلع وهو شبه العرج.

(٣) أتاحت : هيّأت. ومحيّاه : طلعته.

٩٢

وبعد التنائي صرت أرتاح للصّبا

لأنّ الصّبا تسري بعاطر ريّاه (١)

فلله عهد قد أتاح بجلّق

سرورا فحيّاه الإله وحيّاه (٢)

واستحضرت عند جدّ السّير ، قول صفوان بن إدريس المرسيّ ذكره الله تعالى بالخير : [الخفيف]

أين أيامنا اللّواتي تقضّت

إذ زجرنا للوصل أيمن طير

ثم قول غيره ممّن حنّ وأنّ ، وقلق قلبه وما اطمأنّ : [الوافر]

أحنّ إلى مشاهد أنس إلفي

وعهدي من زيارته قريب

وكنت أظنّ قرب العهد يطفي

لهيب الشوق فازداد اللهيب

وربما تجلّدت مغالطا ، متعلّلا بقول من كان لإلفه مخالطا : [الوافر]

حضرت فكنت في بصري مقيما

وغبت فكنت في وسط الفؤاد

وما شطّت بنا دار ولكن

نقلت من السّواد إلى السّواد

وقول غيره : [البسيط]

وكن كما شئت من قرب ومن بعد

فالقلب يرعاك إن لم يرعك البصر

وبقول الوداعي : [السريع]

يا عاذلي في وحدتي بعدهم

وأنّ ربعي ما به من جليس

وكيف يشكو وحدة من له

دمع حميم وأنين أنيس (٣)

ثم ردّدت هذه الطريقة ، بقول بعض من لم يبلعه السلوّ ريقه (٤) : [الخفيف]

لا رعى الله عزمة ضمنت لي

سلوة القلب والتصبّر عنهم

ما وفت غير ساعة ثم عادت

مثل قلبي تقول لا بدّ منهم

ويقول ابن آجروم (٥) ، في مثل هذا الغرض المروم : [البسيط]

__________________

(١) التنائي : التباعد. والرّيّا : الريح الطيبة العطرة.

(٢) في ب : فحيّاها.

(٣) دمع حميم : حار. وفي البيت تورية.

(٤) أخذ هذا من قولهم : أبلعني ريقي ، بمعنى تأنّ عليّ وتمهّل.

(٥) هو محمد بن محمد بن داود الصنهاجي مؤلف الآجرومية في النحو ت ٧٢٣ ه‍ (انظر : بغية الوعاة ١ : ٢٣٨).

٩٣

يا غائبا كان أنسي رهن طلعته

كيف اصطباري وقد كابدت بينهما

دعواي أنك في قلبي يعارضها

شوقي إليك ، فكيف الجمع بينهما

ثم جدّ بي السير إلى مصر واستمرّ ، فتذكّرت قول الصفدي وقد اشتدّ بالرّمل الحرّ : [الطويل]

أقول وحرّ الرّمل قد زاد وقده

وما لي إلى شمّ النسيم سبيل

أظنّ نسيم الجوّ قد مات وانقضى

فعهدي به في الشام وهو عليل

وقول ابن الخياط (١) : [السريع]

قصدت مصرا من ربا جلّق

بهمّة تجري بتجريبي

فلم أر الطّرّة حتى جرت

دموع عيني بالمريزيب

وحين وصلت مصر لم أنس عهد الشام المرعيّ ، وأنشدت قول الشهاب الحنبلي الزرعيّ: [الطويل]

أحبّتنا ، والله مذ غبت عنكم

سهادي سميري والمدامع مدرار (٢)

ووالله ما اخترت الفراق ، وإنه

برغمي ، ولي في ذلك الأمر أعذار

إذا شام برق الشام طرفي تتابعت

سحائب جفني والفؤاد به نار

ألا ليت شعري هل يعودنّ شملنا

جميعا وتحوينا ربوع وأقطار

وقول ابن عنين (٣) : [الطويل]

دمشق ، بنا شوق إليك مبرّح

وإن لجّ واش أو ألحّ عذول

بلاد بها الحصباء درّ ، وتربها

عبير ، وأنفاس الرياح شمول

تسلسل منها ماؤها وهو مطلق

وصحّ نسيم الروض وهو عليل

وقول آخر : [البسيط]

نفسي الفداء لأنس كنت أعهده

وطيب عيش تقضّى كلّه كرم

__________________

(١) هو محمد بن يوسف بن عبد الله الخياط معاصر الصفدي ت (٧٥٦ ه‍) (انظر : الدرر الكامنة ٤ : ٣٠٠).

(٢) مدرار : غزيرة كثيرة الهطول.

(٣) هو أبو المحاسن محمد بن نصر الدين الأنصاري المتوفى سنة (٦٣٠ ه‍) له ديوان مطبوع بتحقيق خليل مردم.

٩٤

وجيرة كان لي إلف بوصلهم

والأنس أفضل ما بالوصل يغتنم

بالشام خلّفتهم ثم انصرفت إلى

سواهم فاعتراني بعدهم ألم

كانوا نعيم فؤادي والحياة له

والآن كلّ وجود بعدهم عدم

فإن أنشد لسان الحال فيما اقتضاه معنى البعد عنها والارتحال : [الكامل]

يا غائبا قد كنت أحسب قلبه

بسوى دمشق وأهلها لا يعلق

إن كان صدّك نيل مصر عنهم

لا غرو فهو لنا العدوّ الأزرق

أتيت في جوابه ، بقول بعض من برّح الجوى به : [البسيط]

لله دهر جمعنا شمل لذته

بالشام أعذب من أمن على فرق (١)

مرّت لياليه والأيام في خلس

كأنّما سلبته كفّ مسترق (٢)

ما كان أحسنها لو لا تنقّلها

من النعيم إلى ذاك من الحرق

رقّ العذول لحالي بعدها ورثى

لي في الجوى والنّوى والشجو والأرق

وبالجملة فتلك الأيام من مواسم العمر محسوبة ، والسعود إلى طوالعها منسوبة : [الوافر]

وكانت في دمشق لنا ليال

سرقناهنّ من ريب الزمان

جعلناهنّ تاريخ الليالي

وعنوان المسرّة والأماني

وهي مغاني (٣) التهاني التي ما نسيناها ، وأماني زماني التي نعمت بطور سيناها ، عليها وعلى وطني مقصورة ، والقلب في المعنى مقيم بهما وإن كان في غيرهما بالصورة ، والأشواق إليهما قضاياها موجّهة وإن كانت غير محصورة : [الطويل]

ولله عهد قد تقضّى وإن (٤) يعد

فإني عن الأيام أعفو وأصفح

بقلبي من ذكراه ما ليس ينقضي

ومن برحاء الشوق ما ليس يبرح (٥)

إذا مسحت كفّي الدموع تستّرا

بدت زفرة بين الجوانح تقدح

__________________

(١) الفرق : الخوف.

(٢) خلس : جمع خلسة ـ بضم الخاء فيهما ـ وهي الفرصة ، ويقولون : هذه خلسة فانتهزها.

(٣) المغاني : جمع مغنى ، وهو المنزل.

(٤) في ب : فإن.

(٥) برحاء الشوق : شدته.

٩٥

فإن جمعت شملي الليالي بقربهم

تجمّع غيلان وميّ وصيدح

على أنها الأيام جدّ مزاحها

وربّ مجدّ في الأذى وهو يمزح

وكثيرا ما يلهج اللسان بقول من قال : [الطويل]

وما تفضل الأوقات أخرى لذاتها

ولكنّ أوقات الحسان حسان

ويردّد قول من شوقه متجدّد : [الطويل]

سقى معهد الأحباب ناقع صيّب

من المزن عن مغناه ليس يريم (١)

وإن لم أكن من ساكنيه فإنه

يحلّ به خلّ عليّ كريم

وينشد من يلوم ، قول من في حشاه وله وفي قلبه كلوم : [الدّوبيت]

قد أصبح آخر الهوى أوّله

فالعاذل في هواك ما لي وله

بالله عليك خلّ ما أوّله

وارحم دنفا لدى حشاه وله

وقد امتدّ بنا الكلام ، وربّما يجعله اللاحي (٢) ذريعة لزيادة الملام ، فلنرجع إلى ما كنّا بصدده ، من إجابة المولى الشاهيني ، أمدّه الله سبحانه بمدده ، فأقول ، مستمدّا من واهب العقول :

إني شرعت بعد الاستقرار بمصر في المطلوب ، وكتبت منه نبذة تستحسنها من المحبين الأسماع والقلوب ، وسلكت في ترتيبه أحسن أسلوب ، وعرضت في سوقه كلّ نفيس غريب من الغرب إلى الشرق مجلوب ، تستحسن الأبصار ما عليه احتوى ، وتعرف الأفكار أنه غير مجتوى (٣) ، ثم وقف بي مركب العزم عن التمام واستوى ، فأخّرته تأخير الغريم لدين الكريم ، وصدّتني أعراض ، عن تكميل ما يشتمل عليه من أغراض ، وأضربت برهة عمّا له من منحى ، لاختلاف أحوال الدهر نفعا ودفعا ومنعا ومنحا ، ومرقت عن هدف الإصابة نبال ، وطرقت في سدف (٤) ليالي الكتابة أمور لم تكن تخطر ببال. فجاءتني من المولى المذكور آنفا ، رسالة دلّت على أنه لم يكن عن انتجاز الوعد متجانفا ، فعدت لقضاء الوطر مستقبلا وللجملة مستأنفا ،

__________________

(١) الناقع : المفيد ، المجدي ، الصيّب : السحاب الممطر ، ويريم : يبرح.

(٢) اللاحي : اسم فاعل من لحا فلان فلانا إذا لامه وعذله.

(٣) غير مجتوى : غير مكروه.

(٤) السّدف : جمع سدفة : الظلمة ، وسدف الليل : ظلمته وسواده.

٩٦

وحدا (١) بي خطابه الجسيم للإتمام وساقني ، وراقني كتابه الكريم لتلك (٢) الأيام وشاقني ، وذكّرني تلك الليالي التي لم أنسها ، وحرّكني لتلك (٣) المعاهد التي لم أزل أذكر أنسها : [السريع]

الإلف لا يصبر عن إلفه

إلّا كما يطرف بالعين

وقد صبرنا عنهم مدّة

ما هكذا شأن المحبّين

فيا له من كتاب كريم ، أعرب (٤) عن ودّ صميم ، وذكّر بعهد غير ذميم ، وودّ طيب العرف والشّميم ، يخجل ابن المعتز لبلاغته وابن المعز تميم : [المتقارب]

ولم تر عيناي من قبله

كتابا حوى بعض ما قد حوى

كأنّ المباسم ميماته

ولا ماته الصّدغ لمّا التوى

وأعينه كعيون الحسان

تغازلنا عند ذكر الهوى

كتاب ذكرنا بألفاظه

عهودا زكت بالحمى واللّوى

فكأنه الرّوض المطّرد الأنهار ، والدّوح المدبّج الأزهار : [الطويل]

رأينا به روضا تدبّج وشيه

إذا جاد من تلك الأيادي غمائم

به ألفات كالغصون وقد علا

عليها من الهمز المطلّ حمائم

وقد سقيت بأنهار البراعة السّلسالة ، حدائق حلّت بها غانية تلك الرسالة ، لتشفي صبّها بالزيارة ، وتشرّف بدنوّها دياره : [الخفيف]

زارت الصّبّ في ليال من البع

د فلمّا دنت رأى الصّبح يلمح

قلّدت بالعقيان جيد بيان

ليس فيه للفتح من بعد مطمح (٥)

فشفت النفس من آلامها ، وأحيت ميت الهوى مذ حيّت بعذب كلامها : [الوافر]

كلام كالجواهر حين يبدو

وكالنّدّ المعنبر إذ يفوح

له في ظاهر الألفاظ جسم

ولكنّ المعاني فيه روح

__________________

(١) في ب : وحداني.

(٢) في ب : لهاتيك.

(٣) في ب : لهاتيك.

(٤) في ب : كتاب أعرب.

(٥) الفتح : هو الفتح بن خاقان ، ويشير في البيت إلى كتابيه «قلائد العقيان» و «مطمح الأنفس».

٩٧

فصيّرت لي ذلك الكتاب سميرا ، ووردت من السرور مشرعا نميرا ، وتمثّلت بقول بعض من أخلص في الودّ ضميرا : [الكامل]

يا مفردا أهدى إليّ كتابه

جملا يحار الذّهن في أثنائها

كالدّرّ أشرق في سموط عقوده

والزّهر والأنوار غبّ سمائها

فأفادني جذلا وبالي كاسد

وأجار نفسي من جوى برحائها

وحسبت أيام الشّباب رجعن لي

فلبست حلي جمالها وبهائها

لا يعدم الإخوان منك محاسنا

كلّ المفاخر قطرة من مائها

فأكرم به من كتاب جاء من السّريّ العليّ ، والماجد الأخ الوليّ : [الوافر]

فضضت ختامه فتبيّنت لي

معانيه عن الخبر الجليّ

وكان ألذّ في عيني وأندى

على كبدي من الزّهر الجنيّ

وضمّن صدره ما لم تضمّن

صدور الغانيات من الحليّ

وأعرب عن اعتماد متماد ، ووداد مزداد ، وأطاب حين أطال ، وأدّى دين الفصاحة دون مطال (١) ، واشتمل من فصول العبارة على أحسن من الحدق المراض ، وأتى من أصول البراعة ببراهين ابن شاهين التي لا خلف فيها ولا اعتراض (٢) ، وروينا من غيث أنامله الهتون ، وروينا عنه مسند أحمد حسن الأسانيد والمتون ، وحثّنا على العود والرجوع ، وكان أجدى من الماء الزلال لذي ظمإ والمشتهى من الطعام لذي سغب وجوع : [الوافر]

وأشهى في القلوب من الأماني

وأحلى في العيون من الهجوع (٣)

وجلا بنوره ظلام استيحاشي ، وحشر إليّ أشتات المسرّات دون أن يحاشي (٤) ، ووجدني في مكابدة شغوب ، وأشغال أشربت الكسل واللّغوب (٥) ، وحيّرت الخواطر ، وصيّرت سحب الأقلام غير مواطر ، فزحزح عنّي الغموم وسلّاني ، وأولاني. شكر الله صنيعه!. من المسرّات ما أولاني : [البسيط]

__________________

(١) المطال ـ بكسر الميم ـ مصدر ماطل. التسويف في دفع الدين وتأخيره.

(٢) في ب : ولا افتراض.

(٣) الهجوع : النوم والرقاد.

(٤) يحاشي : يستثني.

(٥) اللغوب : الضعف.

٩٨

حديثه أو حديث عنه يطربني

هذا إذا غاب أو هذا إذا حضرا

كلاهما حسن عندي أسرّ به

لكنّ أحلاهما ما وافق النّظرا

وقال آخر : [الخفيف]

لست مستأنسا بشيء إذا غب

ت سوى ذكرك الذي لا يغيب

أنت دون الجلّاس عندي وإن كن

ت بعيدا فالأنس منك قريب

وضمّنت فيه لمّا ورد مع جملة كتب من تلك الناحية ، وأنوار أهلها ذوي الفضائل الشهيرة أظهر من شمس الظهيرة في السماء الصاحية : [الخفيف]

قلت لمّا أتت من الشام كتب

من أجلّاء نورهم يتألّق

مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا

بعيون رأت محاسن جلّق

وقلت أيضا : [الخفيف]

قلت لمّا وافت من الشام كتب

والليالي تتيح قربا وبعدا

مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا

بعيون رأت محاسن سعدى

وكان من فصول هذا (١) الكتاب الوارد من المولى الشاهيني الذي اقتنص بفضله كلّ شارد ما نصّه : «ومما استخلص قلبي من يدي ترحي ، وجدّد سروري ونبّه فرحي ، حديث الكتاب وما حديث الكتاب ، حديث نسخ بحلاوته مرارة العتاب ، وأنساني حرارة المصاب ، في الأنسال والأعقاب ، وقضى به من حق لسان الدين ، دينه الذي تبرّع به غريم مليء من البلاغة وهو غير مدين ، حتى كأني يا سيدي بهذه البشرى ، أحرزت سواري كسرى ، وكان في مسمعي كل حرف إليها منسوب ، قميص يوسف في أجفان يعقوب ، وحتى كدت أهجر أهلي وبيتي ، وأسرج لاستقبال هذه البشرى أشهبي وكميتي ، وحتى أنني حاربت نومي وقومي ، وعزمت على أن أرحل ناقتي في وقتي ويومي ، وإن ذلك التغليس والتهجير (٢) في جنب ما بشّرت به لحقير ، وإنّ موقعها لدى هذا العبد الحقير لخطير. وقد كنت سألت شيخي حين ورد دمشق الشام ، واشتمّ منها العرار والبشام (٣) ، وشرّفني فعرفني ، وشاهدني فعاهدني ، على أن يجري ما دار بيننا

__________________

(١) في ب : من فصول الكتاب.

(٢) التغليس : السير في الغلس ، والغلس : ظلمة آخر الليل. والتهجير : السير في الهاجرة ، والهاجرة وقت اشتداد الحر.

(٣) العرار والبشام : شجران لهما رائحة عطرة.

٩٩

لدى المجاورة ، من المسامرة والمحاورة ، في ديباجة ذلك الكتاب ، الذي فتن العقول خبره وسحر الألباب ، وما قصدت إلّا أن يجري اسمي على قلمه ، ويرقم رسمي في مطاوي تحريره ورقمه ، ويكون ذكري مختلطا بذكره ، كما أنّ سرّي مرتبط في المحبة بسرّه ، فرأيت شيخي لم يتصدّ في أثناء هذه البشرى ، لما يفهمني بالذكرى ، لأنتظر النجاح في الأخرى ، ولم يساعدني على ذلك الملتمس ، وحبس عنان القلم فاحتبس ، فانكسرت سورة سروري بفتوري ، وتبين لنفسي عن بلوغ ذلك الأمل تخلّفي وقصوري» انتهى.

ثم قال بعد كلام طويل (١) لم نذكره لعدم تعلّقه بهذا الغرض ، ما صورته : «وحسبت أنّ سيدي وحاشاه ، نسي من ليس ينساه ، وظننت به الظنون ، لأمور تكون أو لا تكون ، وهل يكره سيدي وشيخي (٢) أن يهدى الدنيا في طبق؟ ثم الأخرى على ذلك النسق ، ولا شكّ أن خطّه هو الروضة الغنّا ، لا بل جنّة المأوى ، فطوبى لنفسي إن جنت (٣) ثمرته طوبى ، ولعمر شيخي إني بذلك لجدير ، وإني كنت أملك به الخورنق والسّدير». انتهى ما يتعلّق بالغرض من ذلك الرقيم ، الذي شكل منطقه غير عقيم ، سلك الله تعالى بي وبمن وجّهه الصراط المستقيم.

وأتى في المكتوب بأنواع من البلاغة ، مما تركت ذكره هنا لعدم تعلّقه بهذا الأمر الخاص الذي ييسّر لكارع الأدب مساغّه ، وختمه بقصيدة نفيسة من نظمه يستنجز فيها ذلك الوعد ، وأشهد أنه قد حاز فيها قصب السّبق والمجد ، وما قلت إلّا بالذي علمت سعد ، وهذه صورتها : [السريع]

يا سيّدا أفديه بالأكثر

من أصغر العالم والأكبر

ويا وحيدا قلّ قولي له

عطارد أنت مع المشتري

ويا مجيدا ليس عندي له

إلّا مقال المادح المكثر

أقسمت بالبيت العتيق الذي

حجّت إليه الناس والمشعر

ما للعلا والعلم إلّا أبو ال

عباس شيخي أحمد المقرّي

ذاك الذي آثرني منه بال

علم الذي للغير لم يؤثر

وخصّني منه بأشياء لم

يفز بها غيري ولم يعثر

__________________

(١) في ب : سقطت : طويل.

(٢) في ب : سقطت : وشيخي.

(٣) في ب : جنيت.

١٠٠