نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

وعسى إذا غذيت بتربة عدنها

يجلو لك الإحسان بارع حسنها

والحسن يجلوها وإن لم تنشد

مدحي لخير العالمين عقيدتي

ومطيّتي بل طيبتي ونشيدتي

ونتيجتي وهدى اليقين مفيدتي

ولئن مدحت محمدا بقصيدتي

فلقد مدحت قصيدتي بمحمد

يا خير خلق الله دعوة حائر

يشكو إليك صروف دهر جائر (١)

والله يعلم في هواك سرائري

وهو الذي أرجو لعفو جرائري (٢)

متوسّلا بجنابك المتأطّد

لو لا حقوق عيّنت بمغارب

لمكثت عندك كي تتاح مآربي

ويكون في الزرقاء عذب مشاربي

حتى أحلّي من ثراك ترائبي

وأنال دفنا في بقيع الغرقد (٣)

وعليك من ربّ حباك صلاته

وسلامه وهباته وصلاته

ما أمّ بابك من هدته فلاته

لعلاك حتى زحزحت علاته

فأتيح حسن الختم دون تردّد

ثم ودّعته صلّى الله عليه وسلّم والقلب من فراقه سقيم ، ووقعت من البعد عن تلك المعاهد في المقعد المقيم ، وأنا أرجو أن يكون شكل منطقي غير عقيم ، وأن أحشر في زمرة من سلك الصراط المستقيم : [الخفيف]

يا شفيع العصاة أنت رجائي

كيف يخشى الرجاء عندك خيبه

وإذا كنت حاضرا بفؤادي

غيبة الجسم عنك ليست بغيبه

ليس بالعيش في البلاد انتفاع

أطيب العيش ما يكون بطيبه

ثم عدت إلى مصر ، وقد زال عنّي ببركته صلّى الله عليه وسلّم الإصر (٤) ، وذلك في محرم سنة ١٠٢٩ ، ثم قصدت زيارة بيت المقدس في شهر ربيع من هذا العام ، وقد شملتني بفضل الله جوائز

__________________

(١) دعوة حائر : بنصب دعوة بفعل محذوف تقديره أدعوك دعوة حائر.

(٢) جرائر : جمع جريرة ، وهي الذنب والجرم والخيانة.

(٣) بقيع الغرقد : مقبرة المدينة ، وفيه دفن كثير من الصحابة والتابعين.

(٤) الإصر : الذنب.

٦١

الإنعام ، وتذكّرت عند مشاهدة تلك المسالك الصعبة قول حافظ الحفّاظ ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله تعالى ـ وهو ممّا زادني في هذه الزيارة رغبة : [الوافر]

إلى البيت المقدّس جئت أرجو

جنان الخلد نزلا من كريم

قطعنا في مسافته عقابا

وما بعد العقاب سوى النعيم (١)

فلما دخلت المسجد الأقصى ، وأبصرت بدائعه التي لا تستقصى ، بهرني جماله الذي تجلّى الله به عليه ، وسألت عن محلّ المعراج الشريف فأرشدت إليه ، وشاهدت محلّا أمّ فيه صلّى الله عليه وسلّم الرّسل الكرام الهداة ، وكان حقّي أن أنشد هنالك ما قاله بعض الموفقين وهو مما ينبغي أن تزمزم به الحداة (٢) : [مجزوء الكامل]

إن كنت تسأل أين قد

ر محمد بين الأنام

فأصخ إلى آياته

تظفر بريّك في الأوام (٣)

أكرم بعبد سلّمت

تقديمه الرّسل الكرام

في حضرة للقدس وا

فاها بعزّ واحترام

صفّوا وصلّوا خلفه

إنّ الجماعة بالإمام

للشّهب نور بيّن

والفضل للقمر التّمام (٤)

سلك النّبوّة باهر

وبأحمد ختم النظام

هذا الكتاب دلالة

تبقى إلى يوم القيام

شهدت له من بعد عج

ز ألسن اللّدّ الخصام

خير الورى وأجلّ آ

يات له خير الكلام

فعليه من ربّ الورى

أزكى صلاة مع سلام

وربما يقول من يقف على سرد هذه الأمداح النبوية : إلى متى وهذا الميدان تكلّ فيه فرسان البديهة والرّويّة؟ فأنشده في الجواب ، قول بعض من أمّ نهج الصّواب : [الرمل]

لأديمنّ مديح المصطفى

فعل من في الله قوّى طمعه

__________________

(١) العقاب : الأولى جمع عقبة ، والعقاب الثانية : الجزاء على فعل الشر.

(٢) زمزم : ترنّم وطرب. والحداة : جمع حاد : وهو الذي يترنم للإبل فتسرع.

(٣) الأوام : حرارة العطش.

(٤) الشهب : جمع شهاب ، وهو النجم المضيء ، أو ما يرى كأنه نجم ينقضّ من السماء.

٦٢

فعسى أنعم في الدنيا به

وعسى يحشرني الله معه

وإذا كان القريض في بعض الأحيان كذبا صراحا (١) ، والموفّق من تركه والحالة هذه رغبة عنه وله اطّراحا ، فخيره ما كان حقّا وهو مدح الله ورسوله ، وبذلك يحصل للعبد منتهى سوله: [الخفيف]

ليس كلّ القريض يقبله السّم

ع وتصغي لذكره الأفهام

إنّ بعض القريض ما كان هزءا

ليس شيئا ، وبعضه أحكام (٢)

وأجلّ الكلام ما كان في مد

ح شفيع الورى عليه السلام

طيّب العرف دائم الذّكر لا تأ

تي الليالي عليه والأيّام

مثل زهر قد شقّ عنه كمام

أو كمسك قد فضّ عنه ختام (٣)

ليس تحصى صفات أحمد بالعدّ

كما لم تحط به الأوهام

ولو انّ البحار حبر وما في ال

أرض من كلّ نابت أقلام (٤)

فطويل المديح فيه قصير

وحسام ماض لديه كهام (٥)

ولسان البليغ للعيّ ينمى

وكذا صيّب الفصيح جهام

كيف يحصى مديح مولى عليه ال

لّه أثنى وذكره مستدام

وله المعجزات والآي تبدو

لا يغطّي وجوههنّ لثام

فمن المعجزات أن سار ليلا

وجميع الأنام فيه نيام

راكبا للبراق حتى أتى القد

س وفيه رسل الإله الكرام

فاستووا خلفه صفوفا وقالوا

صلّ يا أحمد فأنت الإمام

فعليه من ربّه صلوات

زاكيات مع صحبه وسلام

ثم رجعت إلى القاهرة ، وكرّرت منها الذهاب إلى البقاع الطاهرة ، فدخلت لهذا التاريخ

__________________

(١) القريض : الشعر ، والكذب الصّراح ـ بضم الصاد ـ الخالص.

(٢) في ب : إن بعضا من القريض هراء.

(٣) الكمام : بكسر أوله ـ غطاء الزهر ، وجمعه كمائم.

(٤) أخذ معنى هذا البيت من قوله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ).

(٥) سيف كهام : كليل ، غير قاطع.

٦٣

الذي هو عام تسعة وثلاثين وألف مكة خمس مرات ، حصلت لي بالمجاورة فيها المسرّات ، وأمليت فيها على قصد التبرّك دروسا عديدة ، والله يجعل أيام العمر بالعود إليها مديدة ، ووفدت على طيبة المعظّمة ميمّما مناهجها السديدة ، سبع مرار ، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار ، واستضأت بتلك الأنوار ، وألّفت بحضرته صلّى الله عليه وسلّم بعض ما منّ الله به عليّ في ذلك الجوار ، وأمليت الحديث النبويّ بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع ، ونلت بذلك وغيره ـ ولله المنّة ـ ما لم يكن لي فيه مطمح ولا مطمع ، ثم أبت إلى مصر مفوّضا لله جميع الأمور ، ملازما خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور ، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة ، فتحرّكت همّتي أوائل رجب هذه السنة للعود للبيت المقدّس ، وتجديد العهد بالمحلّ الذي هو على التقوى مؤسّس ، فوصلت أواسط رجب ، وأقمت فيه نحو خمسة وعشرين يوما بدا لي فيها بفضل الله وجه الرشد وما احتجب. وألقيت عدة دروس بالأقصى والصخرة المنيفة ، وزرت مقام الخليل ومن معه من الأنبياء ذوي المقامات الشريفة ، وكنت حقيقا بأن أنشد قول ابن مطروح (١) ، في ذلك المقام الذي فضله معروف وأمره مشروح : [الوافر]

خليل الله ، قد جئناك نرجو

شفاعتك التي ليست تردّ

أنلنا دعوة واشفع تشفّع

إلى من لا يخيب لديه قصد

وقل يا ربّ أضياف ووفد

لهم بمحمّد صلة وعهد

أتوا يستغفرونك من ذنوب

عظام لا تعدّ ولا تحدّ

إذا وزنت بيذبل أو شمام

رجحن ودونها رضوى وأحد (٢)

ولكن لا يضيق العفو عنهم

وكيف يضيق وهو لهم معدّ

وقد سألوا رضاك على لساني

إلهي ما أجيب وما أردّ

فيا مولاهم عطفا عليهم

فهم جمع أتوك وأنت فرد

ثم استوعبت أكثر تلك المزارات المباركة كمزار موسى الكليم ، على نبيّنا وعليهم وعلى سائر المرسلين والأنبياء أجمعين أفضل الصلاة والتسليم ، ثم حدث لي منتصف شعبان ، عزم على الرحلة إلى المدينة التي ظهر فضلها وبان ، دمشق الشام ذات الحسن والبهاء والحياء

__________________

(١) هو جمال الدين يحيى بن عيسى المتوفى سنة ٦٤٩ ه‍. شاعر مصري (وفيات الأعيان ٥ / ٣٠٢).

(٢) يذبل ، وشمام ، ورضوى ، وأحد : أسماء جبال.

٦٤

والاحتشام ، والأدواح المتنوّعة ، والأرواح (١) المتضوّعة ، حيث المشاهد المكرّمة ، والمعاهد المحترمة ، والغوطة الغنّاء (٢) والحديقة ، والمكارم التي يباري فيها المرء شانئه وصديقه ، والأظلال الوريفة والأفنان الوريقة ، والزّهر الذي تخاله مبسما والنّدى ريقه ، والقضبان الملد ، التي تشوّق رائيها بجنة (٣) الخلد : [الوافر]

بحيث الروض وضّاح الثنايا

أنيق الحسن مصقول الأديم

وهي المدينة المستولية على الطّباع ، المعمورة البقاع ، بالفضل والرباع : [الطويل]

تزيد على مرّ الزمان طلاوة

دمشق التي راقت بحلو المشارب

لها في أقاليم البلاد مشارق

منزّهة أقمارها عن مغارب

ودخلتها أواخر شعبان المذكور ، وحمدت الرحلة إليها وجعلها الله من السعي المشكور : [الطويل]

وجدت بها ما يملأ العين قرّة

ويسلي عن الأوطان كلّ غريب

وشاهدت بعض مغانيها الحسنة ، ومبانيها المستحسنة : [الطويل]

نزلنا بها ننوي المقام ثلاثة

فطابت لنا حتى أقمنا بها شهرا

ورأينا من محاسنها ما لا يستوفيه من تأنّق في الخطاب ، وأطال في الوصف وأطاب ، وإن ملأ من البلاغة الوطاب (٤) ، كما قلت : [المجتث]

محاسن الشام أجلى

من أن تحاط (٥) بحدّ

لو لا حمى الشّرع قلنا

ولم نقف عند حدّ :

كأنها معجزات

مقرونة بالتحدّي

فالجامع الجامع للبدائع يبهر الفكر ، والغوطة المنوطة بالحسن تسحر الألباب لا سيما إذا حيّاها النسيم وابتكر : [الطويل]

أحبّ الحمى من أجل من سكن الحمى

حديث حديث في الهوى وقديم

__________________

(١) الأدواح : جمع دوح ـ بالفتح ـ وهو الشجر العظيم المتسع ، والأرواح : جمع ريح ، والمتضوعة : العطرة.

(٢) الغوطة : المكان الذي اجتمع فيه الماء والشجر بكثرة ، وغوطة دمشق مشهورة بجمالها وروعتها.

(٣) في ب : لجنّة.

(٤) الوطاب : الوعاء.

(٥) في ب : تسام.

٦٥

فلله مرآها الجميل الجليل ، وبيوتها التي لم تخرج عن عروض الخليل (١) ، ومخبرها الذي هو على فضلها وفضل أهلها أدلّ دليل ، ومنظرها الذي ينقلب البصر عن بهجته وهو كليل : [الكامل]

والروض قد راق العيون بحلّة

قد حاكها بسحابه آذار

وعلى غصون الدّوح خضر غلائل

والزّهر في أكمامه أزرار

فكم لها من حسن ظاهر وكامن ، كما قلت موطّئا للبيت الثامن : [مجزوء الكامل]

أمّا دمشق فجنّة (٢)

لعبت بألباب الخلائق

هي بهجة الدّنيا التي

منها بديع الحسن فائق

لله منها الصالحي

ية فاخرت بذوي الحقائق (٣)

والغوطة الغنّاء حيّ

ت بالورود وبالشقائق

والنهر صاف والنسي

م اللّدن للأشواق سائق

والطير بالعيدان أب

دت في الغنا أحلى الطرائق (٤)

ولآلىء الأزهار حلّ

ت جيد غصن فهو رائق

ومراوذ الأمطار قد

كحلت بها حدق الحدائق (٥)

لا زال مغناها مصو

نا آمنا كلّ البوائق

وكما قلت مرتجلا أيضا مضمّنا الرابع والخامس : [المجتث]

دمشق راقت رواء

وبهجة وغضاره

فيها نسيم عليل

صحّ فوافت بشاره

وغوطة كعروس

تزهى بأعجب شاره (٦)

يا حسنها من رياض

مثل النّضار نضاره (٧)

__________________

(١) الخليل : هو الخليل بن أحمد الفراهيدي مؤسس علم العروض.

(٢) في ب : فخضرة.

(٣) الصالحية : مكان بدمشق في سفح جبل قاسيون.

(٤) العيدان : أغصان الشجر ، والغنا : الغناء.

(٥) المراود : جمع مرود وهو الميل الذي يكتحل به ، والحدق : العيون.

(٦) شارة : هيئة.

(٧) النضار : الذهب.

٦٦

كالزهر زهرا وعنها

عرف العبير عباره

والجامع الفرد منها

أعلى الإله مناره

وحاصل القول فيها

لمن أراد اختصاره

تذكيرها من رآها

عدنا وحسبي إشاره (١)

دامت تفوق سواها

إنالة وإناره

وكما ارتجلت فيها أيضا : [الخفيف]

قال لي ما تقول في الشام حبر

كلّما لاح بارق الحسن شامه

قلت ما ذا أقول في وصف قطر

هو في وجنة المحاسن شامه (٢)

وقلت أيضا : [الخفيف]

قال لي صف دمشق مولى رئيس

جمّل الله خلقه واحتشامه

قلت كلّ اللسان في وصف قطر

هو في وجنة البسيطة شامه

وقلت أيضا : [الكامل]

وإذا وصفت محاسن الدنيا فلا

تبدأ بغير دمشق فيها أوّلا

بلد إذا أرسلت طرفك نحوه

لم تلق إلّا جنّة أو جدولا

ذا وصف بعض صفاتها وهي التي

تعيي البليغ وإن أجاد وطوّلا (٣)

والغاية في هذا الباب ، من الوصف لبعض محاسنها الفاتنة الألباب ، قول أبي الوحش سبع بن خلف الأسدي يصف أرضها المشرقة ، ورياضها المورقة ، ونسيمها العليل ، وزهرها البليل (٤) : [الرجز]

سقى دمشق الشام غيث ممرع

من مستهلّ ديمة دفّاقها

مدينة ليس يضاهى حسنها

في سائر الدنيا ولا آفاقها

تودّ زوراء (٥) العراق أنها

تعزى إليها لا إلى عراقها

__________________

(١) عدن : الجنة.

(٢) حبر : عالم. وشامه : رآه ونظر إليه.

(٣) في ب : صفاته بدل صفاتها.

(٤) في ب : زهرها النديّ البليل.

(٥) زوراء العراق : مدينة في الجانب الشرقي لبغداد ، وقيل : هي مدينة أبي جعفر المنصور (انظر : معجم البلدان ج ٣ ص ١٥٦).

٦٧

فأرضها مثل السماء بهجة

وزهرها كالزهر في إشراقها

نسيم ريّا روضها متى سرى

فكّ أخا الهموم من وثاقها

قد ربع الربيع في ربوعها

وسيقت الدنيا إلى أسواقها

لا تسأم العيون والأنوف من

رؤيتها يوما ولا انتشاقها

وقول شمس الدين الأسدي الطيبي : [الوافر]

إذا ذكرت بقاع الأرض يوما

فقل سقيا لجلّق ثم رعيا (١)

وقل في وصفها لا في سواها :

بها ما شئت من دين ودنيا

وكأنّ لسان الدين ذا الوزارتين ابن الخطيب ، عناها بقوله المصيب : [الكامل]

بلد تحفّ به الرياض كأنّه

وجه جميل والرياض عذاره (٢)

وكأنّما واديه معصم غادة

ومن الجسور المحكمات سواره

وكنت قبل رحلتي إليها ، ووفادتي (٣) عليها ، كثيرا ما أسمع عن أهلها زاد الله في ارتقائهم ، ما يشوّقني إلى رؤيتها ولقائهم ، وينشقني على البعد أريج الأدب الفائق من تلقائهم ، حتى لقيت بمكة المعظمة ، أوحد كبرائها الذين فرائدهم بلبّة (٤) الدهر منظّمة ، عين الأعيان ، وصدر أرباب التفسير بها والبيان ، صاحب القلم الذي طبّق الكلى والمفاصل ، والفتاوى التي حكمها بين الحق والباطل فاصل ، والتآليف التي وصفها بالإجادة من باب تحصيل الحاصل ، وارث العلم عن غير كلالة ، ذو الحسب المشرق بدره في سماء الجلالة ، صاحب المعارف التي زانت خلاله ، وساحب أذيال العوارف التي أبانت عن (٥) فضله دلالة ، مفتي السلطان في تلك الأوطان ، على مذهب الإمام النّعمان (٦) ، مولانا الشيخ عبد الرحمن (٧) ابن شيخ الإسلام عماد الدين ، لا زال سالكا سبيل المهتدين ، فكان جمّل الله به عصرا وأوانا ، لقضية هذا القياس عنوانا ، فلما حللت بدارهم ، ورأيت ما أذهلني من سبقهم للفضل وبدارهم ، صدق (٨) الخبر ،

__________________

(١) جلّق : اسم من أسماء دمشق.

(٢) العذار : الشعر الذي يحاذي الأذن من جانب اللحية.

(٣) في ب : والوفادة.

(٤) اللّبّة : موضع القلادة من الصدر.

(٥) في ب : على.

(٦) هو أبو حنيفة.

(٧) هو الشيخ عبد الرحمن العمادي الدمشقي المتوفى سنة ١٠٥١ ه‍ (خلاصة الأثر ج ٢ ص ٣٨٠ ـ ٣٨٩).

(٨) في ب : صدّق الخبر الخبر.

٦٨

وتمثّلت فيهم بقول بعض من غبر : [الطويل]

ألمّت بنا أوصافهم فامتلأ الفضا

عبيرا وأضحى نوره متألّقا

وقد كان هذا من سماع حديثهم

بلاغا فصحّ النّقل إذ حصل اللّقا

وقابلوني ـ أسماهم الله ـ بالاحتفال والاحتفاء ، وعرّفني بديع برّهم فنّ الاكتفاء : [الخفيف]

غمرتني المكارم الغرّ منهم

وتوالت عليّ منها فنون

شرط إحسانهم تحقّق عندي

ليت شعري الجزاء كيف يكون

وقابلوني بالقبول مغضين عن جهلي : [الطويل]

وما زال بي إحسانهم وجميلهم

وبرّهم حتى حسبتهم أهلي

بل الأولى أن أتمثّل فيهم بما هو أبلغ من هذا المقول في آل المهلّب ، وهو قول بعض من نزل بقوم برق قصدهم غير خلّب ، في زمن به تقلّب : [الطويل]

ولمّا نزلنا في ظلال بيوتهم

أمنّا ونلنا الخصب في زمن المحل

ولو لم يزد إحسانهم وجميلهم

على البرّ من أهلي حسبتهم أهلي

لا سيما المولى الذي أمداحه تحلّي أجياد الطّروس العاطلة ، وسماحه يخجل أنواء الغيوث الهاطلة ، صدر الأكابر الأعاظم ، الحائز قصب السّبق في ميدان الإجادة بشهادة كلّ ناثر وناظم ، الصديق الذي بودّه أغتبط ، والصّدوق الذي بأسباب عهده أرتبط ، الأوحد الذي ضربت البراعة رواقها بناديه ، والماجد الذي لم يزل بديع البلاغة من كثب يناديه ، السّريّ الحائز من الخلال ما أبان تفضيله ، اللّوذعيّ (١) الذي لم تزل أوصافه تحكم له بالسؤدد وتقضي له ، والحقّ أبلج لا يحتاج إلى زيادة براهين ، الأجلّ المولى أحمد أفندي بن شاهين (٢) ، لا زالت العزة مقيمة بواديه ، ولا برحت حضرته جامعة لبواطن الفخر وبواديه ، والسّعد يراوح مقامه ويغاديه ، والمجد يترنّم بذكره حاديه ، فكم له ـ أسماه الله ـ ولغيره من أعيان دمشق لديّ من أياد ، يعجز عن الإبانة عنها لو أراد وصفها قسّ إياد (٣) ، ولو تعرّضت لأسمائهم وحلاهم ، أدام الله

__________________

(١) اللّوذعيّ : الذكي ، المتوقد الخاطر.

(٢) كاتب مترسل إلى جانب شهرته بالشعر. توفي سنة ١٠٥٣ (انظر خلاصة الأثر ج ١ / ص ٢٠).

(٣) أياد : بفتح الهمزة جمع يد ، وهي النعمة والفضل ، وإياد ـ بكسر الهمزة ـ قبيلة منها قس بن ساعدة الإيادي ، خطيب العرب في الجاهلية.

٦٩

تعالى سؤددهم (١) وعلاهم ، لضاق عن ذلك هذا النّطاق ، وكان من شبه التكليف بما لا يطاق ، فليت شعري بأيّ أسلوب ، أؤدّي بعض حقّهم المطلوب؟ أم بأي لسان ، أثني على مزاياهم الحسان؟ وما عسى أن أقول في قوم نسقوا الفضائل ولاء ، وتعاطوا أكواب المحامد ملاء (٢)؟ وسحبوا من المجد مطارف وملاء (٣) ، وحازوا المكارم ، وبذّوا (٤) الموادد والمصارم ، سؤددا وعلاء؟ : [الرجز]

فما رياض زهر الرّبيع

إذا بدت في وشيها البديع

ضاحكة عن شنب الأقاح

عند سفور طلعة الصّباح

غنّى بها مطوّق الحمام

وصافحتها راحة الغمام

وباكرتها نسمة من الصّبا

فأصبحت كأنها عهد الصّبا

نضارة ورونقا وبهجه

تفدى بكلّ ناظر ومهجه

أطيب من ثنائهم عبيرا

بين الورى فاسأل به خبيرا

دامت معاليهم على طول الزمن

يروى حديث الفضل عنها عن حسن

وثابت وقرّة وسعد

وأسعفوا بنيل كلّ وعد

فهم الذين نوّهوا بقدري الخامل ، وظنّوا مع نقصي أنّ بحر معرفتي وافر كامل ، حسبما اقتضاه طبعهم العالي :

فلو شريت بعمري ساعة ذهبت

من عيشتي معهم ما كان بالغالي (٥)

فمتعيّن حقّهم لا يترك ، وحبّهم لا يخالط بغيره ولا يشرك ، وإن أطلت الوصف فالغاية في ذلك لا تدرك : [البسيط]

يزداد في مسمعي ترداد ذكرهم

طيبا ويحسن في عيني مكرّره

وإذا كان المديح الصادق لا يزيدهم رفعة قدر ، فهم كما قال الأعرابي الذي ضلّت ناقته في مدح البدر ، والبليغ وذو الحصر في ذلك سيّان ، والحقّ أبلج والباطل لجلج وليس الخبر كالعيان : [الطويل]

__________________

(١) في ب : سعودهم.

(٢) في ب : ولاء.

(٣) المطارف : الثياب المعلمة. والملاء : جمع ملاءة : ثوب ذو شقين متضامين.

(٤) بذّوا : غلبوا.

(٥) في أ: ورد البيت نثرا وبدل كلمة عيشتي جاءت كلمة عيشي وبذلك ينكسر الوزن.

٧٠

هب الرّوض لا يثني على الغيث نشره

أتحسبه تخفى مآثره الحسنى

وقد تذكرت بلادي النائية ، بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه ، فلما شئت من أنهار ذات انسجام ، أترع فيها من جريال الأنس جام ، وأزهار متوّجة للأدواح ، مروّحة للنفوس بعاطر الأرواح ، وحدائق تعشي أنوارها الأحداق ، وعيانها للخبر عنها مصداق وأي مصداق : [الكامل]

فهي التي ضحك النهار (١) صباحها

وبكت عشيّتها عيون النرجس

واخضرّ جانب نهرها فكأنّه

سيف يسلّ وغمده من سندس

وجنان ، أفنانها في الحسن ذوات افتنان : [الخفيف]

صافحتها الرياح فاعتنق السّر

وومالت طواله للقصار

لائذ بعضه ببعض كقوم

في عتاب مكرّر واعتذار

وبطاح راق سناها ، وكمل حسنها وتناهى ، كما قلت مضمّنا في ذلك المنحى ، لقول بعض من نال في البلاغة منى (٢) ومنحا : [الوافر]

دمشق لا يقاس بها سواها

ويمتنع القياس مع النّصوص

حلاها راقت الأبصار حسنا

على حكم العموم أو الخصوص

بساط زمرّد نثرت عليه

من الياقوت ألوان الفصوص

ولله درّ القائل ، في وصف تلك الفضائل : [الخفيف]

إن تكن جنّة الخلود بأرض

فدمشق ، ولا يكون سواها

أو تكن في السماء فهي عليها

قد أمدّت هواءها وهواها

بلد طيّب وربّ غفور

فاغتنمها عشيّة أو ضحاها

وعند رؤيتي لتلك الأقطار ، الجليلة الأوصاف العظيمة الأخطار (٣) ، تفاءلت بالعود إلى أوطان لي بها أوطار ، إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار ، ذات العرف المعطار ، وزادت هذه بالتقديس الذي همعت عليها منه الأمطار ، وتمثّلت بقول الأصفهاني ، وإن غيّرت يسيرا منه لما أسفرت وجوه التهاني : [مجزوء الكامل]

__________________

(١) في ب : البهار بدل النهار.

(٢) في ب : منّا.

(٣) الأخطار : جمع خطر ، وهو ارتفاع القدر.

٧١

لمّا وردت الصالحي

ية حيث مجتمع الرّفاق

وشممت من أرض الشآ

م نسيم أنفاس العراق

أيقنت لي ولمن أحب

بجمع شمل واتّفاق

وضحكت من فرح اللقا

ء كما بكيت من الفراق

لم يبق لي إلّا تجش

شم أزمن السّفر البواقي

حتى يطول حديثنا

بصفات ما كنّا نلاقي

وكنت قبل حلولي بالبقاع الشامية مولعا بالوطن لا سواه ، فصار القلب بعد ذلك مقسّما بهواه : [الطويل]

ولي بالحمى أهل وبالشّعب جيرة

وفي حاجر خلّ وفي المنحنى صحب (١)

تقسّم ذا القلب المتيّم بينهم

سألتكم بالله هل يقسم القلب؟

فيا لك من صبّ مراع للذمام ، منقاد لشوقه بزمام ، يخيّل له أنه سمع صوت قيان ، بقول الأول : [الطويل]

إلى الله أشكو بالمدينة حاجة

وبالشام أخرى كيف يلتقيان

وفرد تعدّدت جموعه ، ووشت بما أكنّت ضلوعه دموعه ، فأنشد وقد تحيّر ، ما بدّل فيه من عظم ما به وغيّر : [البسيط]

كتمت شأن الهوى يوم النّوى فوشى

بسرّه من جفوني أيّ نمّام

كانت لياليّ بيضا في دنوّهم

فلا تسل بعدهم عن حال أيامي

ضنيت وجدا بهم والناس تحسب بي

سقما فأبهم حالي عند لوّامي

وليس أصل ضنى جسمي النحيل سوى

فرط اشتياقي لأهل الغرب والشام

وحصل التحيّر ، حيث لم يمكن الجمع ولا الخلوّ عند التخيّر ، كما قال ابن دقيق العيد (٢) ، في مثل هذا الغرض البعيد : [الطويل]

إذا كنت في نجد وطيب نعيمه

تذكّرت أهلي باللّوى فمحسّر

__________________

(١) المنحنى ، والشّعب ، وحاجر : أمكنة.

(٢) هو محمد بن علي بن مطيع القشيري المشهور بابن دقيق العيد (٧٠٢ ه‍) كان عالما فقيها (انظر طبقات السبكي ج ٦ ص ٢).

٧٢

وإن كنت فيهم زدت شوقا ولوعة

إلى ساكني نجد وعيل تصبّري (١)

فقد طال ما بين الفريقين موقفي

فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري

وبالجملة فالاعتراف بالحقّ فريضة ، ومحاسن الشام وأهله طويلة عريضة ، ورياضه بالمفاخر والكمالات أريضة (٢) ، وهو مقرّ الأولياء والأنبياء ، ولا يجهل فضله إلّا الأغمار الأغبياء ، الذين قلوبهم مريضة : [البسيط]

أنّى يرى الشّمس خفّاش يلاحظها

والشمس تبهر أبصار الخفافيش

ولله درّ من قال في مثل هذا من الأرضياء : [الوافر]

وهبني قلت هذا (٣) الصّبح ليل

أيعمى العالمون عن الضّياء

وقال آخر فيمن عن الحق ينفر : [الطويل]

إذا لم يكن للمرء عين بصيرة

فلا غرو أن يرتاب والصّبح مسفر

وحسب الفاضل اللبيب ، أن يروي قول البدر بن حبيب (٤) : [السريع]

عرّج إذا ما شمت برق الشآم

وحيّ أهل الحيّ واقر السلام

وانزل بإقليم جزيل الحيا

بارك فيه الله ربّ الأنام

العزّ والنّصر لديه ، وما

لعروة الإسلام عنه انفصام

من أولياء الله كم قد حوى

ركنا بمرآه يطيب المقام

وهو مقرّ الأنبياء الألى

والأصفياء الأتقياء الكرام

كم من شهيد في حماه وكم

من عالم فرد وكم من إمام

ولذلك اعتنت الجهابذة بتخليد أخباره في الدواوين ، وابتنت الأساتذة بيوت افتخاره المنيفة الأواوين ، وتناقلت أنباءه البديعة ألسن الراوين ، وهامت بأماكنه المريعة هداة الشريعة فضلا عن الشعراء الغاوين ، ومع ذلك فهم في التعبير عن عجائبه غير متساوين ، أولا يرى أنهم يأتون من مقولهم ، على قدر رأيهم وعقولهم ، ولم يبلغ جمع منهم ما كانوا له ناوين : [الطويل]

__________________

(١) عيل تصبّري : ضعف.

(٢) الرياض الأريضة : الكثيرة العشب.

(٣) في ب : إنّ.

(٤) هو بدر الدين الحسن بن حبيب الحلبي المتوفى سنة ٧٧٩ ه‍ (الدرر الكامنة ج ٢ ص ٢٩).

٧٣

على قدرك الصّهباء توليك نشوة

بها سيء أعداء وسرّ صحاب (١)

ولو أنها تعطيك منها بقدرها

لضاقت بك الأكوان وهي رحاب

وكنّا في خلال الإقامة بدمشق المحوطة ، وأثناء التأمّل في محاسن الجامع والمنازل والقصور والغوطة ، كثيرا ما ننظم في سلك المذاكرة درر الأخبار الملقوطة ، ونتفيّأ من ظلال التبيان مع أولئك الأعيان في مجالس مغبوطة ، نتجاذب فيها أهداب الآداب ، ونشرب من سلسال الاسترسال ونتهادى لباب الألباب ، ونمدّ بساط الانبساط ونسدل أطناب الإطناب ، ونقضي أوطار الأقطار ، ونستدعي أعلام الأعلام ، فينجرّ بنا الكلام والحديث شجون ، وبالتفنّن يبلغ المستفيدون ما يرجون ، إلى ذكر البلاد الأندلسية ، ووصف رياضها السندسية ، التي هي بالحسن منوطة ، وقضاياها الموجّهة التي لا يستوفيها المنطق مع أنها ضرورية وممكنة ومشروطة ، والفطر السليمة ، والأفهام المستقيمة ، بتسليم براهينها قاضية لا سيما إن كانت بالإنصاف مربوطة ، فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني ، من الفيض الرحماني ، وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السّلماني ، صبّ الله عليه شآبيب رحماه وبلّغه من رضوانه الأماني! ما تثيره المناسبة وتقتضيه ، وتميل إليه الطباع السليمة وترتضيه ، من النظم الجزل ، في الجدّ والهزل ، والإنشاء ، الذي يدهش به ذاكره الألباب إن شاء ، وتصرّفه في فنون البلاغة حالي الولاية والعزل ، إذ هو ـ أعني لسان الدين ـ فارس النظم والنثر في ذلك العصر ، والمنفرد بالسبق في تلك الميادين بأداة الحصر ، وكيف لا ونظمه لم تستول على مثله أيدي الهصر ، ونثره تزري صورته بالخريدة ودمية القصر.

فلما تكرر ذلك غير مرة على أسماعهم ، لهجوا به دون غيره حتى صار كأنه كلمة إجماعهم ، وعلق بقلوبهم ، وأضحى منتهى مطلوبهم ، ومنية آمالهم وأطماعهم ، وصاروا يقطفون بيد الرغبة فنونه ، ويعترفون ببراعته ويستحسنونه ، ويستنشقون من أزهاره كلّ ذاك ، فطلب منّي المولى أحمد الشاهيني إذ ذاك ، وهو الماجد المذكور ، ذو السعي المشكور ، أن أتصدّى للتعريف بلسان الدين في مصنّف يعرب عن بعض أحواله وأنبائه ، وبدائعه وصنائعه ووقائعه مع ملوك عصره وعلمائه وأدبائه ، ومفاخره التي قلّد بها جيد الزمان ولبّته (٢) ، ومآثره التي أرج بها مسرى الشّمال وهبّته ، وبعض ما له من النّثار والنظام ، والمؤلفات الكبار العظام ، الرائقة للأبصار ، الفائقة على كلام كثير من أهل الأمصار ، السائرة مسير القمر والشمس ،

__________________

(١) الصّهباء : الخمر.

(٢) الجيد : العنق. واللّبة : موضع القلادة من الصدر.

٧٤

المعقودة عليها بالخناصر بل الخمس ، كي ما يكون ذلك لهذه الأغراض مشيعا ، ويخلع على مطالعه بهذه البلاد المشرقية من أغراضه البديعة ومنازعه وشيعا.

فأجبته أسمى الله قدره الكبير ، وأدام عرف فضائله المزرى بالعنبر والعبير ، بأن هذا الغرض غير سهل ، ولست علم الله له بأهل ، من جهات عديدة ، أوّلها قصوري عن تحمّل تلك الأعباء الشديدة ، إذ لا يوفّي بهذا الغرض إلّا الماهر بطرق المعارف السديدة ، وثانيها عدم تيسّر الكتب المستعان بها على هذا المرام لأني خلّفتها بالمغرب ، وأكثرها في المشرق كعنقاء مغرب (١) ، وثالثها شغل الخاطر بأشجان الغربة ، الجالبة للفكر غاية (٢) الكربة ، وتقسّم البال ، بين شغل عائق وبلبال ، وأنّى يطيق ، سلوك هذا المضيق ، من اكتحلت جفونه بالسهاد ، ونبت جنوبه عن المهاد ، وسدّد نحوه الأسف سهمه ، وشغل باله ووهمه ، وبثّ في قلبه تريحا ، وعناء لم يجد منه إلّا أن يلطف الله تسريحا ، فما شام بارقة أمل إلّا في النادر ، ولا ورد منهل صفاء إلّا وكدّره مكر غادر ، وقد كثر الجفاء ، وبرح بلا شكّ الخفاء ، واستوخمت الموارد والمصادر ، والقلب مكلوم ، وذو اللب (٣) غير ملوم ، إذا كان على تلفيق ما يليق غير قادر ، ولا مؤنس إلا شاكي دهر بلسان صريح ، أو باكي قاصمة ظهر بجفن قريح ، أو مناضل في معترك العجز طريح ، أو فاضل دفن من الخمول في ضريح ، إذ رمته سهام الأوهام الصوائب ، وعضّت منه إبهام الإبهام بنابها النوى والنوائب ، فقلوبه من تقلّبات أحواله ذوائب ، وكم شابت من أمثاله بصروف الدهر وأهواله ذوائب : [الطويل]

على أنها الأيام قد صرن كلّها

عجائب حتى ليس فيها عجائب (٤)

وأدمع أحجارها ، تسلّط فجّارها ، فكم من عدوّ منهم في ثياب صديق ، وحسود لنظره إلى نعم الله على عباده تحديق ، لا تخدعه المداراة ، ولا تردعه المماراة (٥) ، يتتبع العثرات ، ويقنع بألم البثرات ، ويتبسم ، وقلبه من الغلّ يتقسّم ، ويتودّد ، ومكايده تتجدّد فتتعدّد : [الخفيف]

لا ترم من مماذق (٦) الودّ خيرا

فبعيد من السّراب الشراب

__________________

(١) عنقاء مغرب ، أو العنقاء المغرب : طائر خرافي لا وجود له ، جعلوه أحد المستحيلات.

(٢) في ب : غالب.

(٣) في ب : واللبّ.

(٤) البيت لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي.

(٥) المماراة : المجادلة.

(٦) مماذق الودّ : الذي لا يصدق فيه.

٧٥

رونق كالحباب يعلو على الما

ء ولكن تحت الحباب الحباب (١)

عظمت في النّفاق ألسنة القو

م وفي الألسن العذاب العذاب

والصديق الصدوق في هذا الزمن قليل ، وقد ألّف بعض العلماء «شفاء الغليل ، في ذمّ الصاحب والخليل» (٢). وهو غير محمول على الإطلاق ، وإن قال به بعض من رهنه من أبناء عصره ذو إغلاق : [مجزوء الكامل]

أبناء دهرك فالقهم

مثل العدا بسلاحكا

لا تغترر بتبسّم

فالسّيف يقتل ضاحكا

وداء الحسد أعيا الأوّل والآخر ، وقد عظم الأمر في هذا الأوان وكثر المزدري (٣) والساخر ، مع أن أسواق الدفاتر كاسدة ، وأمزجة المحابر فاسدة : [مجزوء الكامل]

والدّهر دهر الجاهلي

ن وأمر أهل العلم فاتر

لا سوق أكسد فيه من

سوق المحابر والدفاتر

فالمنسوب للعلم في هذا الزمن زمن ، وهو بأن ينشد قول الأول قمن : [الوافر]

لأيّ وميض بارقة أشيم

ورعي (٤) الفضل عندهم هشيم

وليت شعري علام يحسد من أبدل الاغتراب شارته ، وأضعف الاضطراب إشارته ، وأنهل (٥) بالدموع أنواءه ، وقلّل أضواءه ، وكثّر علله وأدواءه ، وغيّر عند التأمّل رواءه ، وثنى عن المأمول عنانه ، وأرهف بالخمول سنانه ، حتى قدح الذكر حنانه ، وملأ الفكر جأشه وجنانه ، فهو في ميدان النزوح مستبق ، ومن راحة التعب مصطبح ومغتبق (٦) : [الطويل]

له أتّه المشتاق في كلّ ساعة

تمرّ وما للثاكلات من الحزن

ومن مرسلات الدمع واقعة الأسى

ومن عاديات البين قارعة السّنّ

تثير الذكرى منه كوامن الشجون ، وتدير عليه جام الهيام ولو كان بين الصّفا والحجون : [الطويل]

__________________

(١) الحباب ـ بفتح الحاء : الفقاقيع التي تظهر على سطح الماء ، والحباب : بضم الحاء ، الحية.

(٢) هذا الكتاب تأليف علي بن ظافر الأزدي (انظر كشف الظنون).

(٣) في ب : المزري.

(٤) في ب : ومرعى الفضل.

(٥) في ب : وأهلّ.

(٦) اصطبح : شرب في الصباح ، واغتبق : شرب عند المساء.

٧٦

وتحت ضلوع المستهام كآبة

يخاف على الأحشاء منها التّفطّرا

ولو أنّ أحشاء تبوح بما حوت

لتمتلئنّ الأرض كتبا وأسطرا

وشتّان ما بين الاقتراب والاغتراب ، والسكون في الركون والنبوّ عنها والاضطراب ، فذاك تسهل غالبا فيه الأغراض والمآرب ، وهذا تتعفّر فيه المقاصد وتتكدّر المشارب : [الطويل]

وما أنا عن تحصيل دنيا بعاجز

ولكن أرى تحصيلها بالدّنيّة

وإن طاوعتني رقّة الحال مرّة

أبت فعلها أخلاق نفس أبيّة

وكما قلت ، عندما صرت إلى الاغتراب وألت : [الوافر]

تركت رسوم عزّي في بلادي

وصرت بمصر منسيّ الرسوم

ورضت النفس بالتجريد زهدا

وقلت لها عن العلياء صومي

مخافة أن أرى بالحرص ممّن

يكون زمانه أحد الخصوم

وكما قال بعض الأكابر ، من أهل الزمان الغابر : [الكامل]

لا عار إن عطلت يداي من الغنى

كم سابق في الخيل غير محجّل (١)

صان اللئيم ، وصنت وجهي ، ماله

دوني ، فلم يبذل ولم أتبذّل

أبكي لهمّ ضافني متأوّبا

إنّ الدموع قرى الهموم النّزّل (٢)

لا تنكروا شيبا ألمّ بمفرقي

عجلا كأنّ سناه سلّة منصل

فلقد دفعت إلى الهموم تنوبني

منها ثلاث شدائد جمّعن لي

أسف على ماضي الزمان ، وحيرة

في الحال منه ، ووحشة المستقبل

ما إن وصلت إلى زمان آخر

إلا بكيت على الزّمان الأوّل

لله عهد بالحمى لم أنسه

أيام أعصي في الصبابة عذّلي

ويرحم الله ابن قلاقس الإسكندري (٣) ، إذ قال في معنى التمنّي المصدري : [الطويل]

لعلّ زماني بالعذيب يعود

فيقرب قرب أو يصدّ صدود

__________________

(١) التحجيل في الفرس : البياض في قوائمه ، وهذا مما يمتدحه العرب في الخيل.

(٢) المتأوّب : الزائر ليلا.

(٣) هو نصر بن عبد الله بن علي الأزهري (انظر : معجم الأدباء ج ١٩ : ص ٢٢٦ ، وفيات الأعيان ج ٥ : ص ٢١).

٧٧

وأبصر كثبانا وهزّ روادف

عليهنّ أغصان وهنّ قدود

وأقطف ورد الخدّ وهو مضرّج

وأجني أقاح الثغر وهو برود

وأدني ذراعي للعناق ذريعة

فتنهى عن الإفراط فيه نهود

ويسري إليّ البدر وهو ممنّع

ويغدو إليّ الظّبي وهو شرود

ونكرع في شكوى الفراق كأننا

فوارط هيم راقهنّ ورود (١)

وأكبر مقدار الهوى عن كبيرة

وأحمي عفافي دونه وأذود

وفرق ما بين الجوهر والعرض ، والصّحّة البيّنة والمرض ، والدّرّ والحصا ، والحسام والعصا ، والرجوع إلى التفويض للأقدار ، في أمور هذه الدار ، الكثيرة الأكدار ، هو المطلوب ، والمرجوّ من الله سبحانه جبر القلوب : [المجتث]

يا ربّ نفّس همومي

واكشف كروبي جميعا

فقد رجوت كريما

وقد دعوت سميعا

ولم يجعل لي المذكور. حفظه الله!. فسحة ولا مندوحة ، بعد هذه الأعذار المحمودة في الصدق الممدوحة ، ولسان حالي وقالي ، يثبتان عجزي عن أداء هذا الحقّ بشهادة من هو وادّ وقالي ، إذ من كان بصفة ، غير متمكّنة مما تكون به متّصفة ، واتّسم بنعوت مختلفة ، وارتسم في غير ذوي الأحوال المؤتلفة ، كيف يحير في التصنيف جوابا ، أو ينتحي من التأليف صوابا؟ ومن جفنه هام هامل ، وقصوره عامّ شامل ، كيف يقبض بالأنامل ، على ماء البحر الوافر الكامل؟ ومن لبس من العيّ ملاه (٢) ، لا يعبّر عمّن طبّق مفاصل الكلام (٣) وكلاه ، وقصّرت ألسن البلغاء عن علاه ، وزانت صدور الدواوين حلاه ، وجمّع خلالا حسانا ، وكان للدّين لسانا ، وزاحمت مفاخره بالمناكب الكواكب ، وازدانت بمرآه النوادي والمواكب ، ونفحات الأزهار من آدابه ، ونسمات الأسحار عطر أذياله وأهدابه ، والسّحر من كتابته ، والسّحر من كنايته ، وروح النسيم من تعريضه ، والنّثرة من نثره ، والشّعرى من شعره وقريضه ، وحلل المجد لباسه ، وأنوار العلم اقتباسه : [الوافر]

له ذهن يغوص ببحر علم

فيأتي منه بالدّرّ النظيم

__________________

(١) الفوارط : جمع فارط ، وهي من القطا ونحوها التي تتقدم نحو الماء للشرب ، والهيم : جمع هيماء وهي الشديدة العطش ، وفي القرآن الكريم (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ).

(٢) ملاه : أصله «ملاءه» فقصره لإتمام السجع ، والملاء : جمع ملاءة ، وهي الثوب.

(٣) يقال «فلان يجيد الحز ، ويطبق المفصل» إذا كان خبيرا عارفا بمواضع الإصابة.

٧٨

معانيه الرياض ، لأجل هذا

سرت ألفاظه مثل النسيم

ومباهيه النجوم ، ومضاهيه الغيث السّجوم ، إلى آباء يحسدهم القمر (١) والشمس ، وإباء لو كان للمشرفيّ لما تحيّفه لمس (٢) ، وشرف لا مدّعى ولا منتحل ، وهمّة لو نالها البدر لاستخذى له زحل ، وبراعة أرهفت سنان قلمه ، ويراعة سارت أمراؤها تحت علمه ، فكم فتح بفكره أقفالها ، ووسم بذهنه الثاقب أغفالها ، وسبك معانيها في قالب قلبه إبريزا ورقم بيان لسانه برود إحسانه بلفظه البديع تطريزا ، فرفع في ميدان الإجادة لواؤه ، وأتيح من أنهار البراعة العذبة إرواؤه ، ونال سبقا وتبريزا : [الوافر]

وما زمن الشّباب وأنت تجري

مع الأحباب في لهو وطيب

ووصل من حبيب بعد هجر

بأحلى من كلام ابن الخطيب

فقصائده أرخصت جواهر البحور ، المنظومة في قلائد اللّبّات والنحور ، من حسان العقائل الحور : [الطويل]

معان وألفاظ تنظّم منهما

عقود لآل في نحور الشمائل

وزهر كلام كالحدائق نسجه

غنينا به عن حسن زهر الخمائل

وكلماته غدت للإبداع إقليدا (٣) ، وجمعت طريفا من البلاغة وتليدا : [المتقارب]

كسون عبيدا ثياب العبيد

وأضحى لبيد لديها بليدا (٤)

ومقطّعاته ألذّ في الأسماع ، من مطرب السماع ، وأبهى في الأحداق والنواظر ، من الحدائق ذوات الأغصان الملد النّواضر ، يعترف بفضلها من انتحل الإنصاف دينا ، وانتخل الأوصاف فاختار العدل منها خدينا : [الوافر]

رقيقات المقاطع محكمات

لو ان الشّعر يلبس لارتدينا

ورسائله كنقط العروس اللائحة في البياض ، أو كوشي الربيع أو قطع الرياض ، برزت أغصانها الحالية وتبرّجت ، وتضوّعت أفنانها العالية وتأرّجت ، وقد ألبسها القطر زهرا ، وفجّر خلالها نهرا ، فأخذت زخرفها وازّيّنت ، ولاحت محاسنها غير محتجبة وتبيّنت ، فبهرت من لها قابل ، أستغفر الله لا بل : [البسيط]

__________________

(١) في ب : البدر.

(٢) المشرفيّ : السيف ، نسب إلى مشارف اليمن ، وتحيّفه : نقصه وجار عليه.

(٣) الإقليد : المفتاح.

(٤) عبيد : هو عبيد بن الأبرص ، ولبيد هو لبيد بن أبي ربيعة ، وهما شاعران من فحول شعراء الجاهلية.

٧٩

هي الحديقة إلّا أنّ صيّبها

صوب النّهى وجناها زهرة الكلم

وقوافيه ، ريشت بها قوادم الإتقان وخوافيه ، بنان مجاريها يستدثر (١) الحصر ، وباع مباريها يستشعر القصر : [الخفيف]

خطّها روضة ، وألفاظها الأز

هار يضحكن ، والمعاني ثمار

تبدي لمبصرها وتري ، ما قاله أبو عبادة البحتري (٢) : [الخفيف]

وكلام كأنه الزهر النا

ضر في رونق الربيع الجديد

مشرق في جوانب السّمع ما يخ

لقه عوده على المستعيد

ومعان لو فصّلتها القوافي

هجّنت ما لجرول من نشيد (٣)

حزن مستعمل الكلام اختيارا

وتجنّبن ظلمة التعقيد

بل هي أجلّ مما وصف عند التحقيق ، وإمعان النظر الصحيح والتدقيق : [الخفيف]

أين زهر الرياض وهو إذا ما

طال عهدا بالغيث عاد هشيما

من قواف كأنها الأنجم الزّه

ر سناها زان الظلام البهيما

وناهيك بمن أطلعته العلوم على جلائلها ودقائقها ، وأرته الفنون ما شاء من يانعات حدائقها ، وحبته (٤) الحكم الرياضية بأزاهرها ، وشقائقها ، وأرضعته الوزارة من ثديّها ، وحلّت به الإمارة صدر نديّها (٥) ، وجعلته المرجوع إليه في تمييز جيّد الأمور ورديّها ، فغرس في أرض الرياسة من نخل السياسة ووديّها (٦) ، وأعلى علم العدل وأغمد سيف الانتقام ، ودفع تنّين الفتنة الذي فغر فاه للالتقام ، والعهد إذ ذاك قريب ، في وطن الأندلس الغريب ، باختلال الحال ، وتوالي الإمحال ، والتجرّي على قتل الملوك ، والتحرّي لقطع الطرق ومنع السلوك ، حيث أهواء المارقين ذات افتراق ، وضلوع الصادقين في قلق واحتراق ، وأيدي الإحن (٧) باطشة ، وسيوف المحن إلى الدماء عاطشة ، وعرش الحماية مثلول ، وصارم الكفاية مفلول ، ونطاق

__________________

(١) في ب : نبال مجاريها تستدثر.

(٢) هو الشاعر العباسي الشهير والذي قيل في شعره : شعره سلاسل الذهب ، وقيل فيه أيضا : أراد أن يشعر فغنّى.

(٣) جرول : هو الحطيئة الشاعر المخضرم المعروف.

(٤) في ب : وحيّته.

(٥) النديّ : مجتمع القوم.

(٦) الوديّ : بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء ـ صغار الفسيل (النخل).

(٧) الإحن : الأحقاد ، والضغائن.

٨٠