نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤
١
٢
٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة الناشر

المقري

نسبه :

هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي العيش بن محمد ، المقري التّلمسانيّ المولد ، نزيل فاس ، ثم القاهرة.

مولده ونشأته :

ولد بمدينة تلمسان الجزائرية (١) ، وأصل أسرته من قرية مقّرة ـ بفتح الميم وتشديد القاف وفتحها وفتح الراء ـ وإليها ينتسب بعض علماء المغرب.

وقد تحدث المقري عن مولده بمدينة تلمسان ، وذكر لنا أنها من أحاسن بلاد المغرب ، وبين حال أسرته بتفصيل حين تحدث عن جده الأعلى أحمد المقري في كتابه نفح الطيب الذي نقدم له.

ويظهر أن أسرته انتقلت إلى تلمسان قبل ولادته بزمن بعيد ، فإنه يقول في النفح مشيرا إلى ذلك : «وبها ولدت أنا وأبي وجدي وجد جدي».

وقد قرأ وحصّل ببلده على عمه الشيخ الجليل العالم أبي عثمان سعيد بن أحمد المقري مفتي تلمسان ، ومن جملة ما قرأ عليه القرآن الكريم ، وصحيح البخاري ، وروى عنه الكتب

__________________

(١) لم يذكر المقري تاريخ مولده ، وإن كان قد حرص على ذكر تاريخ رحلاته ، إلا أن المستشرق ليفي بروفنسال حدد في دائرة المعارف الإسلامية سنة ولادته فقال : إنه ولد سنة ١٠٠٠ ، وجاراه في ذلك الدكتور حسين مؤنس في مقال له نشر في مجلة العربي / العدد ٥٢ ص ٤٧.

ولكن الأستاذ عبد الله عنان شك في صحة هذا التاريخ وقال : «يلوح لنا من تتبّع نشأة المقري وحوادث حياته حسبما يقصّها علينا أنه ولد قبل ذلك التاريخ بعدة أعوام ، فهو أولا يذكر لنا أنه نشأ بتلمسان إلى أن رحل عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة تسع وألف فلو كان مولده سنة ١٠٠٠ لما تحدث هنا عن الشبيبة إذ يكون عمره عندئذ تسعة أعوام فقط أعني غلاما حدثا وهو ما لا ينصرف إليه الشباب».

غير أن الأستاذ إحسان عباس قال إنه ولد سنة ٩٨٦ معتمدا في ذلك على الأستاذ ابن منصور في «مقدمة روضة الآس».

٥

الستة بسنده عن أبي عبد الله التنسي ، عن والده محمد بن عبد الله التنسي ، عن عبد الله بن مرزوق ، عن أبي حيان ، عن أبي جعفر بن الزبير ، عن أبي الربيع ، عن القاضي عياض بأسانيده المذكورة في كتابه «الشفا في التعريف بحق المصطفى» ، ودرس أيضا الأدب والفقه المالكي.

حياته ورحلاته.

ثم رحل إلى فاس رحلتين ، كانت المرة الأولى سنة ١٠٠٩ ه‍ ، وأمضى فيها بعض الوقت في التحصيل والدرس ، وكانت الثانية سنة ١٠١٣ ه‍ ، وقد هيأت له الإقامة في فاس التبحّر بالعلم والاستزادة من التحصيل.

ولم يذكر لنا المقري السبب الذي دعاه إلى ترك بلده والانتقال إلى فاس حيث استقرّ به المقام ، ومهما يكن من أمر فإنه مضى في فاس يطلب العلم على شيوخها ويزيد من تحصيله ويلتقي أكبر العلماء فيها ، وأخذ يشتغل بالفتوى والخطابة ، وأصبح من صدور العلماء المرموقين ، واتصل بالسلطان زيدان السعدي ، وتولى الإمامة والخطابة في جامع القرويين. ثم تولى الإفتاء سنة ١٠٢٧ ه‍.

وبرغم هذه المكانة العالية التي حصّلها فإنه قرّر أن يترك المغرب في أواخر سنة ١٠٢٧ ه‍ ، وكعادته لم يذكر السبب الذي جعله يزمع على الرحلة ، وكل ما قاله : «ثم ارتحلت بنيّة الحجاز ، وجعلت إلى الحقيقة المجاز» فما السبب المباشر والرئيس الذي حدا به إلى هجر هذه البلد التي وطأت له أسباب المجد ، ورفعته إلى سنام السؤدد؟.

يقول الأستاذ محمد حجي متابعا السيد الجنحاني : «وكان خروج المقري من فاس بسبب اتهامه بالميل إلى قبيلة شراكة (شراقة) في فسادها وبغيها أيام السلطان محمد الشيخ السعدي ، فارتحل إلى الشرق» ويمكن الاستنتاج ـ رغم أن المصادر لم تذكر شيئا مما أورده الأستاذ محمد حجي ـ أن ذلك قد كان ، فقد كان المقري عالما طارئا على فاس ، وكانت قبيلة شراقة تلمسانية الموطن ، وكانت تنصر عبد الله بن شيخ على أهل فاس ، فلعل الحسد للمكانة التي بلغها المقري عند هذا السلطان جعلت الكثيرين يكيلون التهم له ويزعمون أنه ضالع مع السلطان وقبيلة شراقة ضد الفاسيين ، وهذه التهمة قد جعلت المؤلف يقرّر ترك فاس إلى المشرق.

ولقي المفري في مراكش صاحبها فأنشده متمثلا بقول ابن عبد العزيز الحضرمي :

محبتي تقتضي مقامي

وحالتي تقتضي الرحيلا

هذان خصمان لست أقضي

بينهما خوف أن أميلا

فلا يزالان في خصام

حتى أرى رأيك الجميلا

٦

فأجابه صاحب مراكش بقوله :

لا أوحش الله منك قوما

تعودوا صنعك الجميلا

وذكر المقري أن أبا الحسن عليا الخزرجي الفاسي الشهير بالشاحي لما سمع بعزمه على الارتحال عن الوطن كتب إليه بما كتبه أبو جعفر أحمد بن خاتمة المغربي إلى بعض أشياخه وهو :

أشمس الغرب حقا ما سمعنا

بأنك قد سئمت من الإقامه

وأنك قد عزمت على طلوع

إلى شرق سموت به علامه

لقد زلزلت منا كل قلب

بحق الله لا تقم القيامه

ويشير المقري إلى سبب ارتحاله إشارة خفيفة في مقدمة النفح قائلا : «إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو ردّ ، ولا محيد عما شاءه سواء كره ذلك المرء أو ردّ ، برحلتي من بلادي ، ونقلتي عن محل طارفي وتلادي بقطر المغرب الأقصى الذي تمت محاسنه ، لو لا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا ، وطما به بحر الأهوال .. وذلك أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف ، تاركا المنصب والأهل والوطن والإلف».

وغادر مدينة فاس متوجها إلى المشرق ، فوصل تطواف في ذي القعدة من ذلك العام ، ومن تطواف ركب سفينة أوصلته إلى الاسكندرية ، ومنها إلى القاهرة فالحجاز بحرا ، فوصل مكة المكرمة في ذي القعدة من العام التالي ، واعتمر ، وبقي بعد العمرة في مكة ينتظر الحج ، ومنها توجه إلى المدينة الشريفة لزيارة قبر الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم ، ثم عاد إلى مصر في محرم سنة ١٠٢٩ ه‍.

ويظهر أنه لم يلق في مصر ما كان يؤمل من طيب الإقامة وحسن الحفاوة والتقدير ، وقد سئل عن مصر وحظه فيها فأجاب : قد دخلها قبلنا ابن الحاجب وأنشد فيها قوله :

يا أهل مصر وجدت أيديكم

في بذلها بالسخاء منقبضه

لما عدمت القرى بأرضكم

أكلت كتبي كأنني أرضه

وأنشد لنفسه :

تركت رسوم عزّي في بلادي

وصرت بمصر منسيّ الرسوم

ونفسي عفتها بالذل فيها

وقلت لها : عن العلياء صومي

ولي عزم كحدّ السيف ماض

ولكنّ الليالي من خصومي

٧

ثم رحل لزيارة بيت المقدس في شهر ربيع الأول سنة ١٠٢٩ ه‍ وأخذ يتردد إلى مكة والمدينة ، حتى كان في عام ١٠٣٧ قد زار مكة خمس مرات والمدينة المنورة سبع مرات وأملى فيهما دروسا عديدة ، كما أملى الحديث النبوي بجوار مقام الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وقد وفى هذا الجانب تفصيلا في كتابه (نفح الطيب) فقال : «وحصلت لي المجاورة فيها (في مكة) المسرات ، وأمليت فيها على قصد التبرك دروسا عديدة ، والله يحيل أيام العمر بالعود إليها مديدة ، ووفدت على طيبة المعظمة ميمما مناهجها السديدة سبع مرار ، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار ، واستضأت بتلك الأنوار ، وألفت بحضرته صلّى الله عليه وسلّم بعض ما منّ الله به عليّ في ذلك الجوار ، وأمليت الحديث النبوي بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع».

ورجع إلى مصر بعد حجته الخامسة في سنة ١٠٣٧ ه‍ ثم رحل إلى القدس في شهر رجب من ذلك العام ، وأقام فيها خمسة وعشرين يوما ، وألقى عدة دروس بالمسجد الأقصى والصخرة ، وزار مقام إبراهيم الخليل عليه السلام ومزارات أخرى.

وفي منتصف شعبان عزم على التوجه إلى دمشق ، وهناك تلقاه المغاربة وأنزلوه في مكان لا يليق به ، فأرسل إليه أحد أدباء دمشق البارزين أحمد بن شاهين مفتاح المدرسة الجقمقية ، وكتب مع المفتاح هذه الأبيات :

كنف المقري شيخي مقرّي

وإليه من الزمان مفرّي

كنف مثل صدره في اتساع

وعلوم كالبحر في ضمن بحر

أي بدر قد أطلع الدهر منه

ملأ الشرق نوره؟ أيّ بدر

أحمد سيدي وشيخي وذخري

وسميّي وذاك أشرف فخر

لو بغير الأقدام يسعى مشوق

جئته زائرا على وجه شكري

فأجابه المقري بقوله :

أي نظم في حسنه حار فكري

وتحلّى بدرّه صدر ذكري

طائر الصيت لابن شاهين ينمى

من بروض الندى له خير ذكر

أحمد الممتطين ذروة مجد

لعوان من المعاني وبكر

حل مفتاح وصله باب وصل

من معاني تعريفه دون نكر

يا بديع الزمان دم في ازدياد

بالعلا وازدياد تجنيس شكري

وراقت المقري دمشق ، فبقي فيها عدة أسابيع وأملى بها صحيح البخاري في الجامع

٨

الأموي ، ولم يتفق لغيره من العلماء الذين أمّوا دمشق ما اتفق له من الحظوة والإقبال ، وجرت بينه وبين علمائها وأدبائها مطارحات شتى ، وكان أكثر أدبائها إقبالا عليه وتعظيما له وإعجابا به الأديب الكبير أحمد شاهين القبرصي الأصل.

ويصف لنا المحبّي إقبال الدمشقيين على المقري بقوله :

«وأملى صحيح البخاري بالجامع تحت قبة النسر بعد صلاة الصبح ، ولما كثر الناس بعد أيام خرج إلى صحن الجامع تجاه القبة المعروفة بالباعونية وحضره غالب أعيان علماء دمشق ، وأما الطلبة فلم يتخلف منهم أحد ، وكان يوم ختمه حافلا جدا ، اجتمع فيه الألوف من الناس ، وعلت الأصوات بالبكاء ، فنقلت حلقة الدرس إلى وسط الصحن إلى الباب الذي يوضع فيه العلم النبوي في الجمعات من رجب وشعبان ورمضان ، وأتي له بكرسيّ الوعظ ، فصعد عليه ، وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره قطّ ، وتكلم على ترجمة البخاري ، وأنشد له بيتين ، وأفاد أنه ليس للبخاري غيرهما ، وهما :

اغتنم في الفراغ فضل ركوع

فعسى أن يكون موتك بغته

كم صحيح قد مات قبل سقيم

ذهبت نفسه النفيسة فلته

ونزل عن الكرسيّ ، فازدحم الناس على تقبيل يده ، وكان ذلك نهار الأربعاء سابع عشر شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وألف» (١).

وقد تركت هذه الزيارة لدمشق في نفس المقري أجمل الأثر وأبقاه فكان يكثر من مدحها ، ومن محاسن شعره فيها قوله :

محاسن الشام جلّت

عن أن تقاس بحدّ

لو لا حمى الشرع قلنا

ولم نقف عند حدّ

كأنها معجزات

مقرونة بالتحدّي

وقوله :

قال لي : ما تقول في الشام حبر

شام من بارق العلا ما شامه

قلت : ما ذا أقول في وصف أرض

هي في جنة المحاسن شامه

__________________

(١) خلاصة الأثر ج ١ ص ٣٠٥.

٩

وقوله :

قل لمن رام النوى عن وطن

قولة ليس بها من حرج

فرّج الهمّ بسكنى جلّق

إن في جلّق باب الفرج

وله غير هذه الأبيات الكثير من المقطوعات الشعرية الدالّة على حبه لها وإعجابه بأهلها ، كما أن له الكثير من النثر الدالّ على ذلك ومنه قوله :

«لو تعرضت لأسمائهم ـ أسماء أهلها ـ وحلاهم أدام الله تعالى سؤددهم وعلاهم ، لضاق عن ذلك النطاق ، وكان من شبه التكليف بما لا يطاق ، فليت شعري بأي أسلوب أؤدي بعض حقهم المطلوب ، أم بأي لسان أثني على مزاياهم الحسان ، وما عسى أن أقول في قوم نسقوا الفضائل ولاء ، وتعاطوا أكواب المحامد ملاء ، وسحبوا من المجد مطارف وملاء ، وحازوا المكارم ، وبذوا الموادد والمصارم ، سؤددا وعلاء ، فهم الذين نوّهوا بقدري الخامل ، وظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل حسبما اقتضاه طبعهم العالي».

ومما زاده تعلقا بالشام أنها ذكرته ببلاده التي ارتحل عنها مرغما وهو يقول : «وقد تذكرت بلادي النائية بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه ، فما شئت من أنهار ذات انسجام ، وأزهار متوجة للأرواح ، مروحة للنفوس بعاطر الأرواح ، وحدائق تغشى أنوارها الأحداق ، وجنان أفنانها في الحسن ذوات أفنان .. وعند رؤيتي لتلك الأقطار الجليلة الأوصاف ، العظيمة الأخطار ، تفاءلت بالعودة إلى أوطان لي بها أوطار ، إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار ذات العرف المعطار ، وكنت قبل حلولي بالبقاع الشامية مولعا بالوطن لا سواه ، فصار القلب بعد ذلك مقسما بهواه ، ومحاسن الشام ، وأهله طويلة عريضة ، وهو مقر الأولياء والأنبياء ، ولا يجهل فضله إلا الأغمار الأغبياء».

وعرج في عودته إلى مصر من الشام على غزة ، فنزل فيها ضيفا على الشيخ غصين ، وتوسّط مع أمير غزة في بناء مدرسة لابن الشيخ غصين ، فكان له ما أراد.

ثم مضى إلى مصر ، وأكب على التأليف ، ولكن جو مصر لم يرقه ، ووجد الحسد والنفاق غالبين على أهلها ، بينما الآداب تجارة ليس لها بسوقها نفاق ، فزار دمشق ثانية في سنة ١٠٤٠ ه‍ كما يروي صاحب خلاصة الأثر ، ولقي من الإكرام مثل ما لقيه في قدمته الأولى ، وعاد إلى مصر ، واستقر بها مدة يسيرة ، ثم طلق زوجته الوفائية واعتزم العودة إلى دمشق للاستقرار بها فعاجلته المنية في جمادى الآخرة عام ١٠٤١ ه‍ ودفن رحمه الله بمقبرة المجاورين.

١٠

أسلوب المقري ومكانته :

المقري إضافة إلى صبره وجلده على التأليف والتنسيق ، وعلاوة على حافظة قادرة لديه ، وذكاء فذّ ، شاعر مجيد ، قد لا يرتفع شعره إلى مستوى شعر فحول الشعراء ، ولكنه لا ينزل إلى الحضيض ، فهو إن لم يكن سمينا فليس بالغثّ الركيك.

أما نثره فيمتاز بإشراق الديباجة ، ومتانة المبنى ، والقدرة على التصرف في استعمال اللفظ.

وقد عرف له قدره ومكانته علماء عصره وما بعد عصره. فالمحبّي صاحب خلاصة الأثر يقول عنه : «حافظ المغرب ، لم ير نظيره في جودة القريحة وصفاء الذهن وقوة البديهة ، وكان آية باهرة في علم الكلام والتفسير والحديث ، ومعجزا باهرا في الأدب والمحاضرات ، وله المؤلفات الشائعة». والشهاب الخفاجي في «ريحانة الألباء وزهرة الحياة الدنيا» يقول عنه : «فاضل لغرّ المناقب مشرق ، وبدر لعلو همته سار من المغرب للمشرق ، وهو رفيق السداد ، وبيت مجده منتظم الأسباب ثابت الأوتاد ... وهو لفقه مالك أكرم سيد مالك .. أما الشعر فهو أصمعيّ باديته وحسّان فصاحته».

مؤلفات المقري :

لقد ترك المقري لنا عددا كبيرا من المؤلفات تمتاز بصفاء العبارة ونقاء الديباجة ووضوح المعنى وإشراقه ، وبالاستطراد الذي جعل النقاد يعدونه جاحظ المغرب ، وهذه بعض أسماء كتبه مرتبة على أحرف الهجاء :

١ ـ إتحاف المغرم المغرى في شرح السنوسية الصغرى ، وهو تكميل لشرح السنوسية في علم التوحيد.

٢ ـ أزهار الرياض في أخبار عياض ، وهو أشبه كتبه بكتاب نفح الطيب الذي نقدم له ونحققه. وقد ألّفه أثناء إقامته بفاس سنة ١٠١٣ ـ ١٠٢٧ ، وقد طبع منه ثلاثة أجزاء بتحقيق الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي ، ولم يكمل العمل حتى الآن.

٣ ـ أزهار الكمامة. ذكره صاحب خلاصة الأثر ، ولم نعثر عليه ، ولا نعلم عنه إلا ما ذكره صاحب خلاصة الأثر فحسب.

٤ ـ إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة ، وهو منظومة بدأ تأليفها أثناء زيارته للحجاز سنة ١٠٢٧ ودرسها في الحرمين الشريفين ، وأتمها في القاهرة سنة ١٠٣٦.

١١

٥ ـ حاشية على شرح أم البراهين للسنوسي.

٦ ـ البدأة والنشأة : ذكره في الخلاصة : وقال : «كله أدب ونظم».

٧ ـ الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين (ذكره في اليواقيت).

٨ ـ روض الآس ، العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس. ألّفه حوالي ١٠١١ ـ ١٠١٢ ليقدمه إلى المنصور أحمد الذهبي. وقد طبع الكتاب بالمطبعة الملكية بالرباط عام ١٩٦٤ بتحقيق الأستاذ عبد الوهاب بن منصور.

٩ ـ عرف النشق في أخبار دمشق : ذكره المحبي واليواقيت ، ولم نجده ، ولعله كان مشروعا لم يتم.

١٠ ـ الغث والسمين ، والرث والثمين : ذكره في اليواقيت.

١١ ـ فتح المتعال في مدح النعال ، وهو كتاب صنفه في وصف نعال الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم.

١٢ ـ قطف المهتصر في شرح المختصر ، وهو شرح على حاشية مختصر خليل. ذكره المحبي.

١٣ ـ أراجيز منها : «أزهار الكمامة في شرح العمامة» (مخطوط).

١٤ ـ رجز «نيل المرام المغتبط لطالب المخمس الخالي الوسط» (مخطوط).

١٥ ـ حسن الثنا في العفو عمن جنى (طبع بمصر).

١٦ ـ أنواء النسيان في أبناء تلمسان (ذكره في كشف الظنون).

١٧ ـ الجمان في أخبار الزمان (ذكره في كشف الظنون).

١٨ ـ وأخيرا كتاب نفح الطيب.

كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ،

وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب

قدم المقري لكتابه هذا بمقدمة وافية ذكر فيها أسباب تأليفه الكتاب ، فقال : «وكنا في خلال الإقامة بدمشق المحوطة ، وأثناء التأمل في محاسن الجامع والمنازل والقصور والغوطة ، كثيرا ما ننظم في سلك المذاكرة درر الأخبار الملقوطة ، ونتفيأ من ظلال التبيان مع أولئك الأعيان في مجالس مغبوطة ، نتجاذب فيها أهداب الآداب ، ونشرب من سلسال ونتهادى لباب الألباب ، ونمد بساط الانبساط ، ونسدل أطناب الإطناب! ونقضي أوطار الأقطار ، ونستدعي

١٢

أعلام الأعلام ، فينجرّ بنا الكلام ، والحديث شجون ، وبالتفنن يبلغ المستفيدون ما يرجون إلى ذكر البلاد الأندلسية ، ووصف رياضها السندسية التي هي بالحسن منوطة .. فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني ، وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب ما تثيره المناسبة وتقتضيه من النظم الجزل ، والإنشاء الذي يدهش به ذاكرة الألباب ، وتعرفه في فنون البلاغة حالي الولاية والعزل ، إذ هو فارس النظم والنثر في ذلك العصر ، فلما تكرر ذلك غير مرة على أسماعهم لهجوا به دون غيره حتى صار كأنه كلمة إجماعهم ، وعلق بقلوبهم ، وأضحى منتهى مطلوبهم».

ثم ذكر في المقدمة أسباب إقدامه على تأليف الكتاب ، ولعل أهمها إصرار المولى أحمد الشاهيني على تأليف هذا الكتاب في بديع ما أنتجته قريحة لسان الدين بن الخطيب ، ولكن المؤلف اعتذر وقدم بين يدي اعتذاره الأسباب ، غير أن الشاهيني أصر على طلبه ، ولم يقبل منه عذرا حتى وعد بالعمل على التأليف.

وبعد أن وصل المقري إلى القاهرة واستقر بمصر وضع تصميم الكتاب وكتب منه نبذة ، غير أن أحوال الدهر وتقلباته جعلته يضرب عن إكمال ما بدأ ، لكن الشاهيني عاد يذكره من جديد بما وعد ، ويستنجز وعده راجيا إكماله مما شجعه على العودة إلى إتمام الكتاب. وحدث له حين الشروع بالتأليف عزم على زيادة ذكر الأندلس جملة قبل الحديث عن لسان الدين ، وساعده على ذلك افتتانه بها حتى ليظن قارىء النفح أنه أندلسي الأصل والمولد والنشأة ، إضافة إلى سبق اهتمامه بالأدب والتاريخ الأندلسيين ، واقتنائه في المغرب كثيرا من هذه الكتب ، وقد ذكر ذلك فقال : «ولو حضرني ما خلفته مما جمعت في ذلك الغرض وألفته لقرّت به عيون وسرّت به ألباب». ولعل هذه النقطة بالذات تجعلنا نرجح أن زيارته دمشق وطلب الشاهيني منه تأليف كتاب عن لسان الدين بن الخطيب لم يكونا إلا إزالة الستار عن أشياء في ذهن أديبنا ، وأنه كان في ذهنه ، ومنذ زمن بعيد ، أن يكتب في هذا الموضوع ، ولكن كانت تؤخره ظروف وأحوال ، حتى كان القرار النهائي بعد زيارة دمشق.

والجدير بالذكر هنا أن المقري لم يكن يهدف من تأليف الكتاب ربحا ماديا ، أو مصلحة عاجلة «لم يكن جمعي ـ علم الله ـ هذا التأليف لرفد استهديه ، أو عرض نائل أستجديه ، بل لحق ودّ أؤديه ، ودين وعد أقدمه وأبديه ، وتلبية داع أحييه وأفديه».

ويتحدث المقري عن تنسيق الكتاب فيقول : «بعد أن ضمنت تمام هذا التصنيف ، وأمعنت النظر فيما حصل التقريظ لسامعه والتشنيف قسمته قسمين : القسم الأول فيما يتعلق بالأندلس من الأخبار. والقسم الثاني في التعريف بلسان الدين بن الخطيب».

١٣

والحقيقة أننا لا بد من الاعتراف للمؤلف التواضع بقيمة هذا الكتاب ، فهو رغم استطراداته الكثيرة وانتقاله من موضوع إلى آخر ، وعودته مرات إلى موضوع سبق له بحثه ، قادر على تصوير الحياة السياسية والاجتماعية والأدبية بالأندلس فجاء كتابه شافيا في موضوعه ، منتشلا من براثن الضياع كثيرا من المادة التي لو لاه لضاعت ، ولقد ساعد على ذلك هذا الطابع الموسوعي الذي اتخذه الكتاب ، فكان مغنيا عن عشرات الكتب.

تحقيق الكتاب وشرحه :

يعتبر نفح الطيب أقدم الكتب الأندلسية التي رأت النور وعرفتها المطبعة العربية ، ويعد مصدرا لأكثر ما عرفه المشارقة عن الأندلس ، وهذا ما حدا بنا إلى إعادة تحقيقه رغم أن الكتاب قد طبع طبعات متعددة لا تخلو من دقة وعناية إلا أننا حاولنا أن نستفيد من اجتهادات السابقين ، وضبط الكتاب ضبطا دقيقا بحيث تكون هذه الطبعة الجديدة قريبة من الكمال ، ترضي المقري ، رحمه الله.

إضافة إلى أننا وجدنا أن بعض الطبعات والتحقيقات قد أغفلت شرح كثير من الكلمات التي يجب شرحها ليتسنى لمن يريد الإفادة من الكتاب أن يصل إلى بغيته دون كثير عناء ، كذلك فإن وجود طبعات متعددة للكتاب الواحد لا ينقص من قيمته ، وإخراج طبعة جديدة يعتبر بعثا جديدا للكتاب بحلة جديدة وإغناء للمكتبة العربية بهذا التراث الخالد.

ودار الفكر التي حرصت منذ تأسيسها على تعميم هذا التراث وتوفيره للقارىء العربي بأبسط السبل تقدم اليوم هذه الموسوعة ، نفح الطيب بطبعة جديدة وتحقيق جديد.

فقد أوكلنا للأستاذ يوسف الشيخ محمد البقاعي النهوض بهذا العمل الشاقّ والدقيق فحمل الأمانة وأداها بجلد وصبر ومسئولية وقام بتحقيق الكتاب ، وضبط ما يحتاج إلى الضبط منه ، والتعريف بما رأى التعريف به من أعلام رجالاته وبلدانه ، وشرح غريب كلماته. وقد اعتمد في تحقيقه وشرحه ، على جميع الطبعات التي ظهرت للكتاب حتى يومنا هذا. وبعد أن تأكّد أن محققي الكتاب قد بذلوا كل جهد يشكرون عليه.

وصف النسخ التي اعتمدنا عليها :

١ ـ طبعة بولاق في عام ١٢٧٩ ه‍ ، وهي طبعة جيدة إلا أنها لا تخلو من تصحيف وقد اعتمدت للمقارنة ورمزنا إليها بحرف ج.

٢ ـ طبعة ليدن عام ١٨٥٥ م هي طبعة جيدة تولّاها بالعناية المستشرقون دوزي ودوجا وكريل ورايت. وقد اعتمد هؤلاء على نسخ خطية توفرت لهم من لندن وباريس وأكسفورد وبرلين وبطرسبرج وكوبنهاجن. ومع أن هذه الطبعة لم تشمل إلا القسم

١٤

الأول من النفح إلا أنه يمكن الاعتماد عليها في المقارنة والتصويب ، وذلك لأن محققيها عملوا ما في وسعهم في سبيل الوصول إلى الأصوب ، وقد اعتمدناها في المقارنة ورمزنا إليها بحرف ه.

٣ ـ الطبعة التي حققها المرحوم محيي الدين عبد الحميد ، وهي طبعة أنيقة خالية إلى حد كبير من الأخطاء ، ومقارنة على النسخ المطبوعة السابقة. وقد رمزنا إليها بحرف «أ» واعتمدناها أساسا ، إلا ما وجدنا أن الأستاذ محيي الدين رحمه الله قد أخفق فيه فاعتمدنا بقية النسخ لتصحيح ما وقع في «أ» من خطأ.

٤ ـ طبعة صادرة بتحقيق الدكتور إحسان عباس وهي طبعة حققت بشكل علمي ، واستفاد المحقق من طبعات الكتاب السابقة ، ومن مخطوطات متعددة مما يجعلها أقرب الطبعات للصواب. إلا أن المحقق استغنى عن شرح الكلمات ، وأشار في مقدمته إلى ذلك. وقد رمزنا لهذه الطبعة بحرف «ب» ونظرا إلى أن هذه الطبعات رغم الميزات التي لكل واحدة منها ، ورغم أنه لا بد أن نجزل الشكر لجميع من عمل بها ، وقدم لهذه الأمة جهوده وسهره وضناه ، رغم ذلك فإن هذه الطبعات قد جاءت كل واحدة تخلو من شيء ينبغي أن يوجد فيها ليستفيد منها القارئ كما الباحث والدارس.

١٥

خطة التحقيق والشرح

ـ شكلنا الكتاب شكلا يكاد يكون كاملا ليتسنى للقارىء فهم النصوص فهما تاما.

ـ خلصنا الكتاب من الأخطاء الناتجة عن التصحيف والتحريف.

ـ شرحنا المفردات الواجبة الشرح ليستطيع أي قارىء الإفادة من الكتاب ولا سيما أن المقري رحمه الله من الكلمات الغريبة في كثير من الأحيان مما يجعل قراءته دون شرح مفرداته صعبة وعلى وجه الخصوص المفردات الواردة في الشعر.

ـ وضعنا ملخص محتوى كل صفحة من الكتاب برأسها وبذلك نبهنا القارئ إلى استطرادات المؤلف وانتقالاته من موضوع إلى آخر ، ويسّرنا عليه إيجاد الموضوع الذي يحتاجه من الكتاب. وبهذا تكون هذه الملخصات ـ الترويسات ـ مساعدة للفهارس.

ـ أعددنا فهرسا للأعلام والأنساب والأماكن الواردة في الكتاب ، وكذلك للقوافي والتنويهات والرسائل وجعلنا كل ذلك في مجلد خاص.

ـ هذه الطبعة الجديدة من الكتاب ـ نفح الطيب ـ نضعها بين أيدي القراء في تسعة مجلدات غير مدّعين الكمال آملين أن يجدوا فيها ما يتوخون ويبتغون ، والحمد لله ونسأل الله التوفيق.

بيروت في يوم الاثنين السابع من رجب ١٤١٧ ه‍ الموافق الثامن عشر من شهر تشرين الثاني ١٩٩٦ م

الناشر

١٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

خطبة الكتاب

يقول العبد الفقير ، الذليل المضطرّ الحقير ، من هو من صالح الأعمال عريّ :

أحمد بن محمد الشهير بالمقّريّ ، المغربيّ المالكيّ الأشعريّ ، أصلح الله تعالى حاله ، وجعل في مرضاته حلّه وترحاله! ومحا بغيث الطّاعة والرّضوان أمحاله (١)! وأنجح ببلوغ آماله انتحاءه وانتحاله :

أحمد من عرّف من حلى الأمصار وعلى الأعيان على تداول الأعصار وتطاول الأحيان ، ما فيه ذكرى لأولي الأبصار وإرشاد إلى معرفة الدّيان ، واعتبار بأخبار راع وصفها أو راق (٢) ، وشرّف من صرف المطامح والمطامع ، إلى تفصيل ما أفاد لسان الدين (٣) من كلم جوامع ، وتحصيل ما أجاد من حكم بوالغ سحب بلاغتها هوامع (٤) ، واقتناء ذخائر المهتدين التي تشنّفت (٥) بدررها اللوامع الآذان والمسامع ، من كل منحطّ عن رتبة البراعة أو راق (٦) ، حتى توّج الخطيب (٧) المجيد رؤوس المنابر بفرائد الكلام ، وحلّى الكاتب الأديب المجيد صدور المزابر من فوائد الأعلام ، وكحل الحكيم الطبيب الأريب المفيد من إثمد المحابر بمراود الأقلام ، عيون أوراق (٨).

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي ابتدأ الخلق من غير مثال وبرا ، وقسّم العباد إلى حاضر وباد وظاهر وخامل وقاصر وكامل تشير إليه بالأنامل أيدي الكبرا ، وأبدى في اختلاف ذواتهم وأعراضهم وتباين أدواتهم وأغراضهم وتغاير ألسنتهم وأمكنتهم وأزمنتهم وألوانهم وأكوانهم ومناصبهم ومناسبهم عبرا ، وجعل الدنيا لمن أتيح صغرا أو كبرا ، ولبس منهم مسوحا (٩) أو حبرا (١٠) ، وأخلد إلى الأرض أو صعد منبرا ، جسرا إلى الآخرة ومعبرا ،

__________________

(١) أمحاله : جمع محل : الجدب.

(٢) راق : أعجب.

(٣) لسان الدين : هو لسان الدين الخطيب.

(٤) هوامع : هوامل.

(٥) تشنفت أذنه : كان فيها القرط.

(٦) راق : هنا اسم فاعل من رقي بمعنى ارتفع.

(٧) الخطيب : هو لسان الدين الخطيب.

(٨) أوراق : جمع ورقة.

(٩) مسوحا : جمع مسح ، وهو الثوب المصنوع من الشعر.

(١٠) حبرا : جمع حبرة ، نوع من الثياب القطنية أو الكتانية المخططة.

١٧

وحكم ـ وهو الفاعل المختار ـ على الجميع بالموت فكان لمبتدئهم خبرا ، فيا له من داء أعيا كلّ معالج أو راق (١).

فسبحانه من إله انفرد بوجوب القدم والبقا ، واختصّ بفضله من شاء فارتقى ، وعمّ تعالى ذوي السعادة والشّقا ، بالحدوث والفنا ، وأذاق من فراق الدنيا كل من فيها بلا ثنيا (٢) فمن وفّق فنفى عن جفنه وسنا ، أو خذل فجرّ في ميدان الاغترار رسنا ، وزين له عياذا بالله سوء عمله فرآه حسنا ، طعم شعوب (٣) المرّ الجنى ، فلم يغن منه عن ذوي الغنى والغنا ، وأهل السناء والسّنا (٤) من استظهروا به من أرباب الصّوارم والقنا ، وأصحاب النظم والنثر والجدال والفخر والمدح والثنا ، فأولئك ألقوا السّلاح مذعنين ، مستبصرين موقنين ، إذ جاء الحق وزهق الباطل وولى الامترا (٥) وهؤلاء تركوا الاصطلاح معلنين ، عالمين أنهم لم يكونوا في التمويه محسنين ، وكيف لا وقد اضمحلّ الغرور والاجترا ، وذهب والله الجور والافتراء ، وبدّل مذق الإطراء (٦) بصدق الإطراق.

وأشكره جلّ وعلا على أن علّم بالقلم ما لم نعلم ، ونبّه بآثاره الدالّة على اقتداره إلى سلوك الطريق الأقوم ، الواضح المعلم ، وأرشد من أشرق فكره وأضا (٧) ، إلى التفويض لأحكام القضا ، ومن ذا يردّ ما أمضى أو ينقض ما أبرم ، والتسليم على كل حال أسلم ، وأمر جلّ اسمه بالتّدبّر في أنباء من مضى ، والنظر في عواقب أحوال الذين زال أمرهم وانقضى ، من صنوف الأمم ، ووبّخ من دجا قلبه (٨) بالإعراض عن ذلك وأظلم ، وشتّان ما بين اللاهي والمتذكر ، والساهي والمتفكر ، والناجي والهالك المتحيّر ، والداجي الحالك والمشرق النّيّر ، وما يستوي الظّلّ والحرور ، والحزن والسّرور ، والظلمات والنور ، ذو البهجة والإشراق.

وأصلي أزكى الصلاة والسلام ، هديّة لحضرة سيد الأنام ، ولبنة التمام ، من زويت (٩) له

__________________

(١) أو راق : أو : عاطفة. راق : اسم فاعل من رقى المريض يرقيه.

(٢) بلا ثنيا : بلا استثناء ، وفي بعض النسخ : بلا ثنا ، والثنا إعادة الشيء مرتين.

(٣) شعوب : اسم للمنية.

(٤) السّناء : الرفعة. والسنا مقصورة بمعنى الضياء.

(٥) الامترا : الامتراء حذفت همزته وهو : الشك ، والارتياب.

(٦) المذق : الكاذب ، ومذق الإطراء : الثناء الكاذب.

(٧) أضا : أضاء ، وحذف الهمزة مراعاة للسجع.

(٨) دجا قلبه : أظلم.

(٩) زويت له الأرض : طويت.

١٨

من الأرض المغارب والمشارق ، وتمّ به نظام أنبياء الله ورسله العظام ، وأزاح نوره الضلال والظلام ، حتى أضاءت بوسمه المساجد وازدانت باسمه المهارق (١) ، وألقى الموفق الموافق لدعوته بيد الاستسلام ، وذلك شأن ذوي العقول الراجحة والأحلام ، غير خائف من عتب ولا مترقب لملام ، فأمن من الطوارىء والطوارق ، وتمت كلمة الإسلام الذي اتّضح برهانه لذي بصر وبصيرة لا يحتاج إلى زيادة الإعلام ، وعلت سيوف توحيد الملك العلّام ، من المعاند المفارق المفارق (٢) وخضبتها بحناء النجيع (٣) الرقراق : النبيّ الأمّيّ الأمين ، الداعي جميع العالمين ، إلى سلوك منهاج ما له من هاج (٤) ذي أضواء شوارق ، سيد الرّسل الغرّ الميامين ، ملجأ الأمة ، جعلنا الله ممن نجا باللّجإ إليه آمين ، الذي أنزل عليه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، وانشقّ له الزبرقان (٥) ونبع الماء من بين أصابعه زيادة في الإيقان ، وسلمت عليه الأحجار ، وانقادت لأمره الأشجار ، متفيّئة ظلاله الشريفة وخطّت في الأرض أسطرا مبدعة الإتقان ، إلى غير ذلك من معجزاته الخوارق ، فهو صاحب الدعوة الجامعة ، والبراهين اللّامعة ، والأدلّة التي سقت الشجرة الطيبة غيوثها النافعة ، الصّيّبة الهامية الهامعة (٦) ، الصادقة البوارق. فأثمرت النجاة والفوز والفلاح وأورقت بالهدى أحسن إيراق ، أسنى رسول بعث إلى الأرض وأعظمهم جلالة (٧) ، وأكثرهم تابعا في الطول منها والعرض ، ولم لا وقد ظهر به الحقّ لمن أمّه (٨) مسترشدا وجلا له (٩)؟ وأسمى من جاء بتبيين السّنّة والفرض وأعمّهم دلالة ، منقذ البرايا في الدّنيا ويوم العرض ، الآخذ بحجزهم عن النّار والضلالة ، الداعي إلى تقديم الخير وحسن القرض ، الحريص على هداية الخلق ، المبلّغ لهم أحكام الحق من غير ضجر ولا ملالة ، ذو الفضل العظيم الذي لم يختلف فيه من أهل العقول اثنان ، والمجد الصّميم (١٠) الثابت الأصول الباسق (١١) الأفنان (١٢) ، المنتقى من محتد معدّ بن عدنان ، المنتخب من خير عنصر وأطهر سلالة ، شفيعنا وملاذنا وعصمتنا ومعاذنا وثمالنا الذي نجحت به آمالنا ، وزكت أقوالنا وأعمالنا ، ووسيلتنا الكبرى ، وعمدتنا العظمى في الأولى والأخرى ، وكنزنا الذي أعددناه لإزاحة الغموم

__________________

(١) المهارق : الصحف.

(٢) المفارق الأولى اسم فاعل من فارق ، والثانية جمع مفرق ، وهو الموضع الذي يفرق فيه الشعر من الرأس.

(٣) النجيع : الدم القانئ.

(٤) هاج : اسم فاعل من هجا.

(٥) الزبرقان : القمر.

(٦) الصّيبة : الممطرة ، والهامية : السائلة ، والهامعة : السائلة.

(٧) جلالة : عظمة.

(٨) أمّه : قصده.

(٩) جلا له : أوضح له.

(١٠) الصميم : الخالص.

(١١) الباسق : العالي.

(١٢) الأفنان : الأغصان ، جمع فنن.

١٩

ذخرا ، وغيثنا وغوثنا وسيّدنا ونبيّنا ومولانا محمد الطيب المنابت والأعراق.

صلّى الله عليه وسلّم ، ووجّه وفود التعظيم إليه ، من مفرد في جماله صار لجمع الأنبياء تماما ، وفذّ في كماله تقدّم في حضرة التقديس التي أسست على التشريف أعظم تأسيس فصلّى (١) بالمرسلين إماما ، وصدر تحلّى بجميل الأوصاف ، كالوفاء والعفاف ، والصدق والإنصاف ، فزكا في أعماله ، وبلّغ الراجي منتهى آماله ، ولم يخلف وعدا ولم يخفر ذماما ، وسيّد كسي حلل العصمة ، من كلّ مخالفة وذنب ووصمة ، فلم يصرف لغير طاعة مولاه ، الذي أولاه من التفضيل ما أولاه اهتبالا (٢) واهتماما.

وعلى آله وعترته ، الفائزين بأثرته ، أنصار الدين ، والمهاجرين المهتدين ، وأشياعه وذريته ، الطالعين نجوما في سماء شهرته ، وأتباعهم القائمين بحقوق نصرته ، أرباب العقل الرّصين ، الفاتحين بسيوف دعوته أبواب المعقل الحصين ، حتى بلغت أحكام ملته ، وأعلام بعثته ، من بالأندلس والصّين ، فضلا عن الشأم والعراق.

ورضي الله تعالى عن علماء أمّته المصنّفين في جميع العلوم والفنون ، وعظماء سنته الموفين للطلاب بالآراب ، المحققين لهم الظنون ، وحكماء شرعته المتبصرين بحدوث من مرّت عليه الأيام والشّهور ، وكرّت عليه الآناء والدهور والأعوام والسنون ، المتدبرين في عواقب من كان بهذه البسيطة من السكان المتذكرين على قدر الإمكان بمن طحنته رحى المنون (٣) ، من أملاك العصور الخالية ، وملّاك القصور العالية ، وذوي الأحوال التي هي بسلوك الاختلاف حالية ، من بصير وأعمى ، وفقير وذي نعمى ، ومختال تردّى بكبريائه ، ومختال على ما بأيدي الناس بسمعته وريائه ، وعاقل أحسن العمل ، وغافل افتتن بالأمل ، وكارع في حياض الشريعة ، وراتع برياض الآداب المريعة ، وذي ورع سدّ عمّا رابه الذريعة ، وأخي طمع في أن يدرك آرابه من الدنيا الوشيكة الزوال السريعة ، ومقتبس من نبراس (٤) الرواية ، وملتبس بأدناس الغواية ، وشاعر هام في كل واد ، وقال ما لم يفعل ، فكان للغاوين من الروّاد ، وجاهل عمر الخراب ، وخدع بالسّراب ، عن أعذب الشّراب ، ومحقق علم أنه إذا جاء القدر عمي البصر ممن كان أحذر من غراب ، وموفق تيقن أن غير الله فإن ، وكل الذي فوق التراب تراب (٥) ،

__________________

(١) سقطت في أ. وأثبتناها من به.

(٢) اهتبالا : اغتناما للفرصة.

(٣) المنون : الموت.

(٤) النبراس : المصباح.

(٥) يشير إلى قول المتنبي :

إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هيّن

وكلّ الذي فوق التراب تراب

٢٠