نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

إن طال ليلي بعدهم فلطوله

عذر ، وذاك لما أقاسي منهم

لم تسر فيه نجومه لكنّها

وقفت لتسمع ما أحدّث عنهم

فأرقي ، الزائد في حرقي ، أظهر المكنون وأبان ، ووجدي بمن نأى وبان ، لم يجد فيه تعلّل برند وبان : [الرجز]

تنبّهي ، يا عذبات الرّند ،

كم ذا الكرى؟ هبّ نسيم نجد (١)

فلست مثلي في جوى أو أرق

وحرقة من فرقة أو صدّ

عوفيت ممّا حلّ بي من جيرة

في الغرب لم يرثوا لفرط وجدي

أعلّل القلب ببان عنهم

وهل ينوب غصن عن قدّ (٢)

بانوا فلا مغنى السرور بعدهم

مغنى ، ولا عهد الرضا بعهد

آها من البعد ومن لم يدره

لم يشجه تأوّهي للبعد

وفي شغل من أبكته الربوع والطلول ، وذهبت برهة من زمانه بين الترحّل والحلول ، فركب من الأخطار الصّعب والذّلول ، وحافظ على العهود ولم يسلك سبيل الغادر الملول : [الطويل]

سقاها الحيا من أربع وطلول

حكت دنفي من بعدهم ونحولي (٣)

ضمنت لها أجفان عين قريحة

من الدّمع مدرار الشؤون همول

ومن الغريب ، الذي ينكره غير الأريب ، أنّ الحادي إن سرّ القلب بكشف رين ، فقد تسبّب في اجتماع أمرين متنافيين متنافرين : [الطويل]

ترنّم حاد بالصّريم فشاقني

إلى ذكر من باتت ضلوعي تضمّه

فسرّ وساء النفس شجوا فربما

كلفت به من حيث صرت أذمّه

وارتجلت حين مللت من طول السّرى ، مضمّنا ذكر ما أروم له تيسّرا ، وقد أكثر الرفاق عند رؤية ما لم يألفوه من الآفاق تلهّفا وتحسّرا : [الخفيف]

قلت لمّا طال النّوى عن بلادي

ولأهل النوى جوى (٤) وعويل

__________________

(١) عذبات : جمع عذبة : وهي الغصن.

(٢) في ب : ببان رامة.

(٣) الحيا : المطر. والدّنف : المرض الشديد.

(٤) النوى : البعد. والجوى : الحرقة. والعويل : البكاء.

٤١

هل أرى للفراق آخر عهد

إنّ عمر الفراق عمر طويل

ثم قلت مضمّنا : [الرمل]

لائمي في ذكر أحباب نأوا

لا تلم من أضعف الشّوق قواه

إنّ يوما جامعا شملي بهم

ذاك عيدي ، ليس لي عيد سواه

ثم قلت مضمّنا أيضا [الطويل]

لك الله من صبّ أضرّ به النّوى

وليس له غير اللقاء طبيب

وإنّ صباحا نلتقي بمسائه

صباح إلى قلبي المشوق حبيب

ثم عدت إلى التّصبّر ، بعد إمعان النظر والتدبّر : [الطويل]

وإني لأدري أنّ في الصّبر راحة

ولكنّ إنفاقي على الصّبر من عمري

فلا تطف نار الشوق بالشوق طالبا

سلوّا ، فإنّ الجمر يسعر بالجمر

ثم سلكت منهج التفويض والتسليم ، منشدا قول ابن قطرال المغربي في مقام النصح والتعليم ، ووجّهت القصد إلى سكان الضمير بذلك التكليم : [الرمل]

إنّ أيام الرّضا معدودة

والرضا أجمل شيء بالعبيد

لا تظنّوا عنكم لي سلوة

ما على شوقي إليكم من مزيد (١)

راجعوا أنفسكم تستيقنوا

أنكم في الوقت أقصى ما أريد

إنّ يوما يجمع الله بكم

فيه شملي ذاك عندي يوم عيد

وقول بعض من ندم على البعد عن المعاهد ، وأمّل العود ـ والعود أحمد ـ إلى المشاهد ، وغفر للدهر ذنبه إن عاد ، وتلهّف أن لم يعامله بغير الإبعاد : [الطويل]

لئن عاد جمع الشّمل في ذلك الحمى

غفرت لدهري كلّ ذنب تقدّما

وإن لم يعد منّيت نفسي بعودة

وما ذا عسى تجدي الأماني وقلّما

يحقّ لقلبي أن يذوب صبابة

وللعين أن تجري مدامعها دما

على زمن ماض بهم قد قطعته

لبست به ثوب المسرّة معلما (٢)

وقول آخر يخاطب أحبابه ، ويذكر فواصل بحر النّوى الطويل وأسبابه : [الطويل]

__________________

(١) في ب : لي عنكم.

(٢) الثوب المعلم : الذي به علامات من خطوط وغيرها.

٤٢

أعيذكم من لوعتي وشجوني

ونار جوى تذكى بماء شؤوني

وبرح أسى لم يبق فيّ بقيّة

سوى حركات تارة وسكون

أرى القلب أضحى بعد طارقة الأسى

أسير صبابات رهين شجون

وكيف سبيل القرب منكم ودونكم

رمال زرود والأجارع دوني (١)؟

سلوا مضجعي هل قرّ من بعد بعدكم

وهل عرفت طعم الرّقاد جفوني

سهرنا بنعمان ، ونمتم ببابل ،

فيا لعيون ما وفت لعيون

وفي بعض الأحيان ، أتسلّى بقول بعض الأندلسيين الأعيان : [الكامل]

لا تكترث بفراق أوطان الصّبا

فعسى تنال بغيرهنّ سعودا

فالدّرّ ينظم عند فقد بحاره

بجميل أجياد الحسان عقودا

وقول غيره : [الكامل]

فعسى الليالي أن تمنّ بنظمنا

عقدا كما كنّا عليه وأكملا

فلربّما نثر الجمان تعمّدا

ليعاد أحسن في النظام وأجملا

وأرغب لمن أطال ذيول الغربة أن يقلّصها ، وأطلب ممّن أجال النفوس في سيول الكربة أن يخلّصها : [البسيط]

فنلتقي وعوادي الدهر غافلة

عمّا نروم وعقد البين محلول

والدار آنسة ، والشّمل مجتمع ،

والطّير صادحة ، والروض مطلول (٢)

وأضرع إليه ـ سبحانه! ـ في تيسير العود إلى أوطاني ، ومعهدي الذي مطايا العزّ أوطاني (٣) ، وأن يلحقني بذلك الأفق الذي خيره موفور ، وحقّ من فيه معروف لا منكر ولا مكفور : [البسيط]

إذا ظفرت من الدنيا بقربهم

فكلّ ذنب جناه الدّهر مغفور

وكأني بعاتب يقول : ما هذا التطويل؟ فأقول له : جوابي قول ابن أبي الإصبع الذي عليه التعويل : [البسيط]

__________________

(١) الأجارع : جمع أجرع ، وهو المكان الذي فيه رمال وحصى دقيقة.

(٢) الدار آنسة : أي فيها الأنس ، وضدها الموحشة. ومطلول : نزل عليه الطلّ ، وهو المطر الضعيف ، أو الندى.

(٣) أوطاني : أصله أوطأني ، أي مهدها لي وذللها ، فقلب الهمزة ألفا.

٤٣

أكثرت عذلي كأنّي كنت أول من

بكى على مسكن أو حنّ للسّكن

لا تلح إنّ من الإيمان عند ذوي ال

إيمان منّا حنين النّفس للوطن

على أنني أقول : اللهمّ يسّر لي ما فيه الخيرة لي بالمشارق أو بالمغارب ، وجد لي من فضلك حيث حللت بجميع ما فيه رضاك من المآرب ، بجاه نبيّنا وشفيعنا المبعوث رحمة للأحمر والأسود والأعاجم والأعارب ، عليه أفضل صلاة وأزكى سلام ، وعلى آله وأصحابه الأعلام ، والتابعين لهم بإحسان ما ذرّ شارق ، وتعاقب طالع وغارب.

ثم جدّ بنا السّير في البرّ أياما ، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حبّا لها وهياما ، وكنّا عن تفاعيل فضلها (١) نياما ، إلى أن ركبنا البحر ، وحللنا منه بين السّحر والنّحر (٢) ، وشاهدنا من أهواله ، وتنافي أحواله ، ما لا يعبّر عنه ، ولا يبلغ له كنه : [مخلع البسيط]

البحر صعب المرام جدّا

لا جعلت حاجتي إليه

أليس ماء ونحن طين

فما عسى صبرنا عليه

فكم استقبلنا (٣) أمواجه بوجوه بواسر (٤) ، وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر ، قد أزعجتها أكفّ الرّيح من وكرها ، كما نبّهت اللجج من سكرها ، فلم تبق شيئا من قوّتها ومكرها ، فسمعنا للجبال صفيرا ، وللرياح دويّا عظيما وزفيرا ، وتيقّنّا أنّا لا نجد من ذلك إلّا فضل الله مجيرا وخفيرا ، (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧]. وأيسنا من الحياه ، لصوت تلك العواصف والمياه ، فلا حيّا الله ذلك الهول المزعج ولا بيّاه ، والموج يصفّق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطرب ، فكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب ، فيبتعد ويقترب ، وفرقه تلتطم وتصطفق ، وتختلف ولا تكاد تتفق ، فتخال الجوّ يأخذ بنواصيها (٥) ، وتجذبها أيديه من قواصيها ، حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها ، وعنان السّحب يخطف في استقلالها ، وقد أشرفت النفوس على التّلف من خوفها واعتلالها ، وآذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها ، وساءت الظنون ، وتراءت في صورها المنون ، والشّراع في قراع مع جيوش الأمواج ، التي أمدّت منها الأفواج بالأفواج ، ونحن قعود ، كدود على عود ، ما بين فرادى وأزواج ، وقد نبت (٦) بنا من القلق أمكنتنا ، وخرست من الفرق (٧) ألسنتنا ، وتوهّمنا

__________________

(١) في ب : وصلها.

(٢) السّحر : الرئة.

(٣) في ب : استقبلتنا.

(٤) وجوه بواسر : عابسة مقطبة.

(٥) القواصي : جمع قاصية ، وهي البعيدة.

(٦) نبت : أي بعدت.

(٧) الفرق : الخوف والفزع.

٤٤

أنه ليس في الوجود ، أغوار ولا نجود ، إلّا السماء والماء وذلك السّفين ، ومن في قبر جوفه دفين ، مع ترقّب هجوم العدوّ ، في الرواح والغدوّ ، لاجتيازه على عدّة من بلاد الحرب ، دمّر الله سبحانه من فيها وأذهب بفتحها عن المسلمين الكرب ، لا سيما مالطة الملعونة ، التي يتحقّق من خلص من معرّتها (١) أنه أمدّ بتأييد إلهيّ ومعونة ، فقد اعترضت في لهوات البحر الشامي شجا ، وقلّ من ركبه فأفلت من كيدها ونجا ، فزادنا ذلك الحذر ، الذي لم يبق ولم يذر ، على ما وصفناه من هول البحر قلقا ، وأجرينا إذ ذاك في ميدان الإلقاء باليد إلى التهلكة طلقا ، وتشتّتت أفكارنا فرقا ، وذبنا أسى وندما وفرقا ، إذ البحر وحده لا كميّ يقارعه ، ولا قويّ يصارعه ، ولا شكل يضارعه ، لا يؤمن على كل حال (٢) ، يفرّق بين عاطل وحال ، ولا بين أعزل وشاك ، ومتباك وباك : [الرجز]

ثلاثة ليس لها أمان

البحر والسّلطان والزّمان

فكيف وقد انضمّ إليه خوف العدوّ الغادر الخائن والكافر الحائن (٣) ، إلى أن قضى الله بالنجاة وكلّ ما أراد فهو الكائن ، وإن نهى عنه وأخطأ المائن (٤) ، فرأينا البرّ وكأنّا قبل لم نره ، وشفيت به أعيننا من المره (٥) ، وحصل بعد الشدّة الفرج ، وشممنا من السلامة أطيب الأرج (٦) ، فيا لها من نعمة كشفت عن وجهها النّقاب ، يقلّ شكرا لها صوم الأحقاب وعتق الرقاب ، جعلنا الله بآياته معتبرين ، وعلى طاعته مصطبرين ، ولم نخل في البرّ من معاناة خطوب ، ومداراة وجوه للمتاعب ذات تجهّم وقطوب ، فكم جبنا منه مهامه فيحا (٧) ، ومسحنا بالخطا منها أثيرا وصفيحا ، وفلّينا الفجاج ، وقرأنا من الطرق خطوطا ذات استقامة واعوجاج ، وقلوب الرفقة من الفرقة في اضطراب وارتجاج ، وربما عميت على المجتهد الأدلّة التي يحصل بها على المذهب الاحتجاج ، فترى الأنفاس تعثّر في زفرة الأشواق ، والأجسام قد زرّت عليها من التعب الأطواق ، هذا واللّيل بصفحة البدر مرتاب ، وقد شدّت رحال وأقتاب ، وزمّت ركاب ورفعت أحداج ، وفريت من الدّعة بمدية النّصب أوداج ، وتساوى في السير نهار مشرق وليل مقمر أو داج ، وأديم التأويب والإسآد ، وحمل الغربة قد أثقل وآد ، ثم وصلنا بعد خوض بحار ، يدهش فيها الفكر ويحار ، وجوب فياف مجاهل ، يضلّ فيها القطا عن المناهل ، إلى مصر المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع ، وشاهدنا كثيرا من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي

__________________

(١) المعرّة : الإثم ، الخطيئة.

(٢) في ب : ولا يؤمن على حال.

(٣) الكافر الحائن : الذي لم يهتد إلى الرشاد.

(٤) المائن : الكاذب.

(٥) المره : فساد العين لتحرك الكحل.

(٦) الأرج : الريح الطيبة.

(٧) الفيح : الواسعة.

٤٥

والأسجاع ، وتمثّلنا في بدائعها التي لا نستوفيها ، بقول ابن ناهض فيها (١) : [مجزوء الرجز]

شاطىء مصر جنّة

ما مثلها في بلد

لا سيّما مذ زخرفت

بنيلها المطّرد

وللرياح فوفه

سوابغ من زرد (٢)

مسرودة ما مسّها

داودها بمبرد (٣)

سائلة وهو بها

يرعد عاري الجسد

والفلك كالأفلاك بي

ن حادر ومصعد

وبقول آخر : [مجزوء الكامل]

انظر إلى النّيل الّذي

ظهرت به آيات ربّي

فكأنه في فيضه

دمعي وفي الخفقان قلبي

وبقول أبي المكارم بن الخطير ، المعروف بابن ممّاتي (٤) ، في جزيرتها : [الطويل]

جزيرة مصر ، لا عدتك مسرّة

ولا زالت اللّذات فيك اتّصالها

فكم فيك من شمس على غصن قامة

يميت ويحيي هجرها ووصالها

مغانيك فوق النيل أضحت هوادجا

ومختلفات الموج فيك حبالها

ومن أعجب الأشياء أنك جنّة

تمدّ على أهل الضلال ظلالها

لعلّه أراد بأهل الضلال اليهود والنصارى المستولين إذ ذاك على الدولة. وتذكّرت في مصر قول القاضي الفاضل (٥) : [الكامل]

بالله قل للنّيل عنّي إنّني

لم أشف من ماء الفرات غليلا

وسل الفؤاد فإنه لي شاهد

إن كان طرفي بالبكاء بخيلا

يا قلب ، كم خلّفت ثمّ بثينة

وأظنّ صبرك أن يكون جميلا

__________________

(١) وردت هذه الأبيات في رحلة ابن بطوطة ص ٣٢ للشاعر ناصر الدين بن ناهض.

(٢) السوابغ : الدروع الواسعة ، وشبه سطح الماء بالدرع.

(٣) مسرودة : منسوجة ، وتنسب الدروع لنبي الله داود ـ عليه السلام ـ لأنه كان يصنعها.

(٤) هو أبو المكارم الخطير الأسعد بن الخطير المعروف بابن مماتي المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍. كان ناظر الدواوين بالديار المصرية (معجم الأدباء ٦ / ١٠٠ ووفيات الأعيان ١ / ١٨٧).

(٥) هو عبد الرحيم بن علي البيساني المتوفى سنة ٥٩٦ ه‍. (انظر وفيات الأعيان ٢ / ٣٣٣).

٤٦

وقول أحمد بن فضل الله العمري : [مجزوء الرجز]

لمصر فضل باهر

بعيشها الرّغد النّضر

في سفح روض يلتقي

ماء الحياة والخضر

وقول آخر : [الوافر]

كأنّ النّيل ذو فهم ولبّ

لما يبدو لعين الناس منه

فيأتي حين حاجتهم إليه

ويمضي حين يستغنون عنه

وقول آخر : [الطويل]

ولله مجرى النّيل منه إذا الصّبا

أرتنا به من مرّها عسكرا مجرا (١)

بشطّ يهزّ السّمهريّة ذبّلا

وموج يهزّ البيض هنديّة بترا (٢)

إذا مدّ حاكى الورد لونا ، وإن صفا

حكى ماءه لونا ولم يحكه مرّا

وقول آخر : [الكامل]

واها لهذا النّيل! أيّ عجيبة

بكر بمثل حديثها لا يسمع

يلقى الثّرى في الماء وهو مسلّم

حتى إذا ما مال عاد يودّع

مستقبل مثل الهلال فدهره

أبدا يزيد كما يزيد ويرجع

وقول ابن النقيب : [السريع]

الصّبّ من بعدهم مفرد

ودمعه النّيل وتعليقه

وخدّه لمّا بكاهم دما

مقياسه ، والدّمع تخليقه

وقول الصّفدي (٣) : [مجزوء الكامل]

سقيا لمصر وما حوت

من أنسها وأناسها

ومحاسن في مقسها

تبدو وفي مقياسها (٤)

__________________

(١) العسكر المجر : الكثير العدد.

(٢) السمهرية : الرماح المنسوبة إلى صانعها سمهر ، والبيض : السيوف. والهندية : السيوف المصنوعة في الهند.

والبتر : القواطع.

(٣) ابن النقيب : هو الحسن بن شاور بن النقيب ، شاعر مصري ، انظر : فوات الوفيات ١ / ٢٣٢.

(٤) المقس : موضع على النيل كان يجلس فيه صاحب المكس.

٤٧

ومسرّة كاساتها

تجلى على أكياسها

وسطور قرط خطّها ال

باري على قرطاسها

ودمى كنائسها ، ولا

تنسى ظباء كناسها

ولطافة بجلالة

تبدو على جلّاسها

ونواسم كلّ المنى

للنفس في أنفاسها

ومراكب لعبت بها ال

أمواج في وسواسها

وقول ابن جابر الأندلسي (١) : [الكامل]

ما زلت أسند من محاسن أرضها

خبرا صحيحا ليس بالمقطوع

كم مرسل من نيلها ومسلسل

ومدبّج من هضبها المرفوع (٢)

وقول إبراهيم بن عبدون : [الكامل]

والنّيل بين الجانبين كأنّما

صدئت بصفحته صفيحة صيقل (٣)

يأتيك من كدر الزّواخر مدّه

بممسّك من مائه ومصندل

فكأنّ ضوء البدر في تمويجه

برق تموّج في سحاب مسبل

وكأنّ نور السّرج من جنباته

زهر الكواكب تحت ليل أليل (٤)

مثل الرياض مفتّقا أنواره

تبدو لعين مشبّه وممثّل

وقول ابن الصاحب : [مجزوء الكامل]

فرح الأنام بنيلهم

إذ صار أحمر كالشّقيق

وتبرّكوا بشروقه

فكأنه وادي العقيق

وقول آخر : [المجتث]

__________________

(١) هو محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي الأعمى : صاحب بديعية العميان. انظر الدرر الكامنة ٣ / ٣٣٩.

(٢) الصحيح والمقطوع ، والمرسل ، والمسلسل ، والمدبج والمرفوع : كل هذه الألفاظ قد استعملت في علم مصطلح الحديث أسماء لأنواع من الحديث.

(٣) الصّيقل : من صناعته صقل السيوف وغيرها والجمع صياقل وصياقلة.

(٤) ليل أليل : شديد الظلام.

٤٨

احمرّ للنّيل خدّ

حتى غدا كالشقيق

وقد ترنّمت فيه

إذ صار وادي العقيق

ثم شمّرت عن ساعد العزم بعد الإقامة بمصر مدّة قليلة ، إلى المهمّ الأعظم والمقصد الأكبر الذي هو سرّ المطالب الجليلة ، وهو رؤية الحرمين الشريفين ، والعلمين المنيفين ، زادهما الله تنويها ، وبلّغ النفوس ببركة من شرفا به مآرب لم تزل تنويها ، فسافرت في البحر إلى الحجاز ، راجيا من الله سبحانه في الأجر الانتجاز ، إلى أن بلغت جدة ، بعد مكابدة خطوب اتّخذت لها من الصبر عدّة ، فحين حصل القرب ، واكتحلت العين بإثمد تلك التّرب ، ت رنّمت بقول من قال ، محرّضا على الوخد والإرقال (١) : [البسيط]

بدا لك الحقّ فاقطع ظهر بيداء

واهجر مقالة أحباب وأعداء

واقصد على عزمة أرض الحجاز تجد

بعدا عن السّخط في نزل الأودّاء

وقل إذا نلت من أمّ القرى أربا

وهو الوصول بإسرار وإبداء

يا مكة الله ، قد مكّنت لي حرما

مؤمّنا لست أشكو فيه من داء

فمذ رأى النازح المسكين مسكنه

في قطرك الرّحب لم ينكب بأرزاء

شوق الفؤاد إلى مغناك متّصل

شوق الرياض إلى طلّ وأنداء

ثم أنشدت ، عندما بدت أعلام البيت الحرام ، قول بعض من غلب عليه الشوق والغرام ، وقد بلغ من أمانيه الموجبة بشائره وتهانيه المرام : [البسيط]

وافى الحجيج إلى البيت العتيق وقد

سجا الدّجى فرأوا نورا به بزغا (٢)

عجّوا عجيجا وقالوا : الله أكبر ما

للجوّ مؤتلقا بالنور قد صبغا (٣)

قال الدليل : ألا هاتوا بشارتكم

فمن نوى كعبة الرحمن قد بلغا

نادوا على العيس بالأشواق وانتحبوا

وحنّ كلّ فؤاد نحوها وصغا (٤)

وكلّ من ذمّ فعلا نال محمدة

في مكة ومحا ما قد جنى وبغى

ولما وقع بصري على البيت الشريف كدت أغيب عن الوجود ، واستشعرت قول العارف

__________________

(١) الوخد والإرقال : ضربان من السير السريع.

(٢) سجا الدجى : سكن الليل وغطت الظلمة المكان.

(٣) عج العجيج : رفعوا أصواتهم بالدعاء إلى الله.

(٤) صغا : مال.

٤٩

بالله الشبلي (١) لما وفد إلى حضرة الجود : [الخفيف]

قلت للقلب إذ تراءى لعيني

رسم دار لهم فهاج اشتياقي

هذه دارهم وأنت محبّ

ما احتباس الدموع في الآماق

والمغاني للصّبّ فيها معاني

فهي تدعى مصارع العشّاق

حلّ عقد الدموع واحلل رباها

واهجر الصّبر وارع حقّ الفراق

ثم أكملت العمرة ، ودعوت الله أن أكون ممّن عمر بطاعة ربّه عمره ، وذلك أوائل ذي القعدة من عام ثمانية وعشرين وألف من الهجرة السنيّة ، وأقمت هنالك منتظرا وقت الحجّ الشريف ، ومتفيّئا ذلك الظلّ الوريف ، ومقتطفا ثمار القرب الجنيّة ، إلى أن جاء الأوان ، فأحرمت بالحجّ من غير توان ، وحين حللت مما به أحرمت ، نويت الإقامة هنالك وأبرمت ، فحال من دون ذلك حائل ، وكنت حريّا بأن أنشد قول القائل : [الكامل]

هذي أباطح مكة حولي وما

جمعت مشاعرها من الحرمات (٢)

أدعو بها لبّيك تلبية امرئ

يرجو الخلاص بها من الأزمات

نلت المنى بمنى لأني لم أخف

بالخيف من ذنب أحال سماتي

وعرفت في عرفات أني ناشق

للعفو عرفا عاطر النّسمات (٣)

وأن أتمثّل في المطاف ، إذ حفّتني الألطاف ، بقول من ربعه بالتقوى مشيد ، البغدادي الشهير بابن رشيد : [الطويل]

على ربعهم لله بيت مبارك

إليه قلوب الناس تهوي وتهواه (٤)

يطوف به الجاني فيغفر ذنبه

ويسقط عنه جرمه وخطاياه

وكم لذة أو فرحة لطوافه

فلله ما أحلى الطواف وأهناه

ثم قصدنا بعد قضاء تلك الأوطار ، طيبة (٥) الشريفة التي لها الفضل على الأقطار ، واستشعرت قول من أنشد وطير عزمه عن أوكاره قد طار : [الطويل]

__________________

(١) هو أبو بكر دلف بن جحدر ـ صاحب الجنيد ـ المتوفى سنة ٣٣٤ ه‍ (راجع وفيات الأعيان ج ٢ ص ٣٩ ، وحلية الأولياء ج ١٠ ص ٣٦٦).

(٢) المشاعر : جمع مشعر ، وأراد به هنا المكان من الأمكنة يؤدى فيها شيء من مناسك الحج أو العمرة.

(٣) العرف : الرائحة الطيبة.

(٤) أخذه من قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ).

(٥) في ب : لطيبة. وطيبة : هي المدينة المنوّرة.

٥٠

حمدت مرادي إذ بلغت مرادي

بأمّ القرى مستمسكا بعمادي (١)

ومذ رويت من ماء زمزم غلّتي

فلست بمحتاج لماء ثماد (٢)

فلله سبحانه الحمد على نعمه التي جلّت ، ومننه التي نزلت بها النفوس مواطن التشريف وحلّت : [الكامل]

من يهده الرحمن خير هداية

يحلل بمكة كي يتاح المقصدا

وإذا قضى من حجّه الفرض انثنى

يشفي برؤية طيبة داء الصّدى (٣)

وكان حظّي في هذه الحال تذكّر قول بعض الوشّاحين (٤) من الأندلسيين الذين كان لهم ارتحال إلى تلك المعاهد الطاهرة ، والمشاهد الزاهرة ، التي تشدّ إليها الرحال :

يا من لعبد له افتقار

إلى أياد له جسام

فضلك مدن لخير مدن

حلّ بها سيّد الأنام

لم يهف قلبي لحبّ ليلى

ولا سعاد ولا الرّباب

لاقى شجونا ونال ويلا

من هام في ذلك الجناب

بل مال مني الفؤاد ميلا

لمن له الحبّ لا يعاب

قلبي والله مستطار

مذ حلّ في بيته الحرام (٥)

ذي الحجر والرّكن خير ركن

وزمزم الخير والمقام (٦)

ذابت قلوب المطيّ عشقا

وركبها واستوى المراد

إلى حبيب القلوب حقّا

الحيّ والميت والجماد

إلى الذي ليس فيه يشقى

من حبّه داخل الفؤاد

شكوا ، وقد طالت السّفار

هم ومطاياهم ، السّقام

فهي قسيّ من التثنّي

والقوم من فوقها سهام

__________________

(١) المراد : مكان اختلاف الجمال في المرعى إقبالا وإدبارا. وأم القرى : مكة المكرّمة.

(٢) الغلّة : العطش.

(٣) الصدى : العطش.

(٤) الوشّاح : شاعر الموشّحات.

(٥) القلب المستطار : الذي لا يقرّ له قرار من شدة الحب.

(٦) في ب : ذا الحجر.

٥١

ولست من سكرتي مفيقا

حتى أرى حجرة الرسول

فإن يسهّل لي الطريقا

فذاك أقصى منى وسول (١)

متى ترى عيني العقيقا

ويفرح القلب بالوصول

كم قلت والصّبر مستعار

للرّكب إذ غادروا المنام

ونسمة الشّوق حرّكتني

وزاد بي الوجد والغرام

قوموا فقد طال ذا الجلوس

وبادروا زورة الحبيب

تاقت إلى طيبة النفوس

لا عيش من دونها يطيب

لا حبّذا دونها الغروس

والماء والشادن الرّبيب (٢)

وحبذا الرّمل والقفار

والعرب في تلكم الخيام

وأمّ غيلان ظلّلتني

والأيك والأثل والثّمام (٣)

يا طيبة ، حزت كلّ طيب

بسيّد فيك ذي حلول

نداء مستضعف غريب

في غرّ أمداحه يقول

وهو من السامع المجيب

لمدحه يسأل القبول

أنت الغنى لي فلا افتقار

وأنت عزّي فلا أضام

مستمسك منك حسن ظني

بعروة ما لها انفصام

بسيّد العالمين أجمع

بأحمد المجتبى الرسول

ومن هو الشافع المشفّع

في موقف المحشر المهول

إذ لا كلام هناك يسمع

للغير والناس في ذهول

إذ السماء لها انفطار

والشّهب منثورة النظام

كذا الجبال انثنت كعهن

سريعة المرّ كالغمام (٤)

يا أوّل الرّسل في الفضيله

وإن تأخّرت في الزّمن

__________________

(١) سول : أصلها سؤل ـ بالهمز ـ قلبت الهمزة واوا للسهولة وهذا جائز عندهم.

(٢) الشادن : الظبي الذي قوي واستغنى عن أمه.

(٣) أم غيلان : شجرة السمر. والأيك : الشجر الكثيف الملتفّ. والأثل : شجر صلب الخشب جيده يكثر حول المياه في الأراضي الرملية. والثّمام : نبت زهره كالسنبلة ، وله خوص تسد به خصاص البيت.

(٤) العهن : الصوف.

٥٢

شفاعة نلت مع وسيله

فمن يضاهي علاك من

علت بك الرّتبة الجليله

وطبت في السّرّ والعلن

فأنت من خيرهم خيار

فمن يضاهيك في المقام

والرّسل نالت بك التمنّي

وأنت بدر لهم تمام

الوجد قد قرّ في فؤادي

فما لصبر به قرار

ولا عجي صاعد اتّقاد

ودمع عيني له انهمار (١)

وها أنا جئت من بلادي

لطيبة أبتغي الجوار

فحبّذا تلكم الديار

والمصطفى مسكة الختام

عليه أزكى الصلاة مني

وصحبه الغرّ والسّلام

وقول أبي جعفر الرّعيني الغرناطي (٢). رحمه الله تعالى ـ وهو من التشريع (٣) ، أحد أنواع البديع : [الكامل]

يا راحلا يبغي زيارة طيبة

نلت المنى : بزيارة الأخيار

حيّ العقيق إذا وصلت وصف لنا

وادي منّى : يا طيّب الأخبار

وإذا وقفت لدى المعرّف داعيا

زال العنا : وظفرت بالأوطار

ولمّا منّ الله تعالى علينا بالحلول في المشاهد التي قام الدين بها وظهر ، والمعاهد التي بان الحقّ فيها واشتهر ، والمواطن التي هزم الله تعالى حزب الشيطان فيها وقهر ، ونصرت النبوّة وعضدت ، وقطعت غصون الكفر وحصدت ، ورصّت قواعد التوحيد ونضدت ، وقرّت العيون ، وقضيت الديون ، أنشد لسان الحال ، قول بعض من جيده بمحاسن طيبة حال : [البسيط]

يا من له طيبة طابت حلى وعلى

ومن بتشريفه قد شرّف العرب

يا أحمد المصطفى ، قد جئت من بلد

قاص ولي خلد قاس ولي أرب

وقد دهتني ذنوب قلت إذ عظمت

لله منها وطه المرتجى الهرب

ونسينا بمشاهدة ذلك الجناب ما كنّا فيه ، وسبق الدمع الذي لا يعارض الفرح ولا ينافيه : [الخفيف]

__________________

(١) اللاعج : الحبّ المحرق. وانهمار الدمع : سيلانه وتتابعه.

(٢) هو أحمد بن يوسف بن مالك (ـ ٧٧٩) شرح بديعية ابن جابر (انظر الدرر الكافية : ١ / ٣٤٠).

(٣) التشريع : وهو أن يبني الشاعر قصيدته على أن يكون لكل بيت فيها قافيتان ووزنان ، ويسميه بعضهم التوأم. وهذه الأبيات من هذا النوع.

٥٣

أيها المغرم المشوق ، هنيئا

ما أنالوك من لذيذ التلاقي

قل لعينيك تهملان سرورا

طالما أسعداك يوم الفراق

واجمع الوجد والسرور ابتهاجا

وجميع الأشجان والأشواق

وأمر العين أن تفيض انهمالا

وتوالي بدمعها المهراق

هذه دارهم وأنت محبّ

ما بقاء الدموع في الآماق

وملنا عن الأكوار (١) ، وثملنا من عرف تلك الأنجاد والأغوار ، وتملّينا من هاتيك الأنوار ، وتخلّينا عن الأغيار ، وتحلّينا بحلى الأخيار ، وكيف لا وطيبة مركز للزوّار : [الطويل]

إذا لم تطب في طيبة عند طيّب

به طيبة طابت فأين تطيب؟

وإن لم يجب في أرضها ربّنا الدّعا

ففي أيّ أرض للدعاء يجيب؟

أيا ساكني أكناف طيبة ، كلّكم

إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

وما أحسن قول عالم الأندلس المالكي اللبيب ، عبد الملك السّلمي المشهور بابن حبيب (٢) : [الكامل]

لله درّ عصابة صاحبتها

نحو المدينة تقطع الفلوات

ومهامه قد جبتها ومفاوز (٣)

ما زلت أذكرها بطول حياتي

حتى أتينا القبر قبر محمد

خصّ الإله محمدا بصلات (٤)

خير البريّة والنبيّ المصطفى

هادي الورى لطرائق لنجاة (٥)

لمّا وقفت بقربه لسلامه

جادت دموعي واكف العبرات

ورأيت حجرته وموضعه الذي

قد كان يدعو فيه في الخلوات

مع روضة قد قال فيها : إنها

مشتقّة من روضة الجنّات (٦)

وبمنزل الأنصار وسط قبابهم

بيت الهداية كاشف الغمرات

وبطيبة طابوا ونالوا رحمة

مغنى الكتاب ومحكم الآيات

__________________

(١) الأكوار : جمع كور : ما يجعل على ظهر الجمل كالسرج.

(٢) هو عبد الملك بن حبيب السلمي فقيه الأندلس ومؤلف (الواضحة في الحديث) توفي سنة ٢٣٨ ه‍.

(٣) مهامه : مفردها مهمه. الصحراء الواسعة البعيدة التي لا ماء فيها.

(٤) في ب : بصلاة.

(٥) في ب : الجنّات.

(٦) يشير إلى ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياضة الجنة».

٥٤

وبقبر حمزة والصحابة حوله

فاضت دموع العين منهمرات

سقيا لتلك معاهدا شاهدتها

وشهدتها بالخطو واللحظات

لا زلت زوّارا لقبر نبيّنا

ومدينة زهراء بالبركات

صلّى الإله على النبيّ المصطفى

هادي البريّة كاشف الكربات

وعلى ضجيعيه السلام مردّدا

ما لاح نور الحقّ في الظّلمات (١)

وقول كمال الدين ناظر قوص (٢) : [الطويل]

أنخ ، هذه والحمد لله يثرب

فبشراك قد نلت الذي كنت تطلب (٣)

فعفّر بهذا التّرب وجهك ، إنه

أحقّ به من كلّ طيب وأطيب

وقبّل ربوعا حولها قد تشرّفت

بمن جاورت ، والشيء بالشيء يحبب

وسكّن فؤادا لم يزل باشتياقه

إليها على جمر الغضى يتقلّب

وكفكف دموعا طالما قد سفحتها

وبرّد جوى نيرانه تتلهّب

وقول الرّعيني الغرناطي : [الخفيف]

هذه روضة الرسول فدعني

أبذل الدمع في الصعيد السعيد

لا تلمني على انسكاب دموعي

إنّما صنتها لهذا الصّعيد

ولما سلّمت على سيّد الأنام ، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام ، ذبت حياء وخجلا ، لما أنا عليه من ارتكاب ما يقتضي وجلا ، غير أني توسّلت بجاهه صلّى الله عليه وسلّم في أن أكون ممّن وضح له وجه الصفح وجلا : [مجزوء الوافر]

إليك أفرّ من زللي

فرار الخائف الوجل (٤)

وكان مزار قبرك بال

مدينة منتهى أملي

فوفّى الله ما طمحت

له نفسي بلا خلل

فخذ بيدي غريق في

بحار القول والعمل

__________________

(١) ضجيعيه : أراد بهما أبا بكر وعمر بن الخطاب.

(٢) هو أحمد بن عبد القوي بن عبد الله بن شداد الربعي المتوفى سنة ٦٨٦ ه‍ (انظر : الفوات ١ / ٨٨ وشذرات الذهب ٦ / ٢١).

(٣) يثرب : الاسم القديم للمدينة المنورة.

(٤) في ب : الخجل.

٥٥

وهب لي منك عارفة

تعرّف ما تنكّر لي (١)

وتهديني إلى رشدي

وتمنعني من الزّلل

وتحملني على سنن

يؤمّنني من الوجل (٢)

فأنت دليل من عميت

عليه مسالك السّبل

وإنك شافع برّ

وموئلنا من الوهل (٣)

وإنك خير مبتعث

وإنك خاتم الرّسل

فيا أزكى الورى شرفا

وشافيهم من العلل

ويا أندى الأنام يدا

وأكرم ناصر وولي

نداء مقصّر وجل

بثوب الفقر مشتمل

على جدواك معتمدي

فأنقذني من الدّخل (٤)

وألحقني بجنّات

لدى درجاتها الأول

بصدّيق وفاروق

وعثمان الرّضى وعلي

فأنت ملاذ معتصم

وأنت عماد متّكل

عليك صلاة ربك ج

لّ في الغدوات والأصل

ومذ شممنا من أرج تلك الأرجاء الذاكية ، واستضأنا بسرج تلك الأضواء الزاكية ، ظهر من الشوق ما كان بطن ، ولم يخطر ببالنا سكن ولا وطن ، ويا سعادة من أقام بتلك البقاع الشريفة وقطن : [الكامل]

مرّ النسيم بربعهم فتلذّذا

حتى كأنّ النّشر صار له غذا (٥)

فصحا وصحّ وصاح لا أشكو أذى

قل للصّبا ما ذا حملت من الشّذا

أمسست طيبا أم علاك عبير

يا أيها الحادي الذي من وسمه

قصد الحبيب وأن يلمّ برسمه

__________________

(١) العارفة : العطية.

(٢) السّنن : بفتح السين والنون جميعا ـ الطريق.

(٣) الوهل : الضعف والجبن والفزع.

(٤) الدّخل : الفساد.

(٥) النشر : الريح الطيبة.

٥٦

هذي منازله فزمزم باسمه

بأبي الذي لم تذو زهرة جسمه

لكنه غضّ الجمال نضير

لله شوق قد تجاوز حدّه

أوفى على الصّبر المشيد فهدّه

يا ناشق الكافور لا تتعدّه

طوبى لمشتاق يعفّر خدّه

في روضة الهادي إليه يشير.

فهناك يبذل في التوسّل وسعه

ويصيخ نحو خطيب طيبة سمعه

ويريق فوق حصى المصلّى دمعه

ويرى معالم من يحبّ وربعه

ومحمد للعالمين بشير

صلّى عليه الله خير صلاته

وحبا معاليه جليل صلاته

ما حنّ ذو الأشواق في حالاته

وأتى مغانيه على علّاته

فأتيح حسن الختم وهو قرير

ووقفنا بباب طلب الآمال خاشعين ، وتوسّلنا إلى الله بذلك المقام العليّ خاضعين ، وغبطنا قوما سكنوا هنالك فكانوا لخدودهم متى شاؤوا على تلك الأعتاب واضعين : [من المخمسات]

أكرم بعبد نحو طيبة منتد

متوسّل مستشفع مسترشد (١)

يفلي الفلاة لها بعزم أيّد

وافى إلى قبر النبيّ محمد (٢)

ولربعه الأسمى يروح ويغتدي

أزجاه صادق حبّه المتمكّن

وحداه سائق عزمه المتعيّن (٣)

فحكى لدى شجو حمام الأغصن

هزجا يردّد فيه صوت ملحّن

ويمدّ للإطراب صوت المنشد

ويقول جئت بعزمة نزّاعة

ونهضت والدنيا تمرّ كساعة

لمحلّ أحمد قائلا بإذاعة

هذا النبيّ المرتجى لشفاعة

__________________

(١) في ب : مسند.

(٢) يفلي الفلاة : يشقّ وسطها بالسير. والعزم الأيّد : القوي الشديد.

(٣) أزجاه : ساقه.

٥٧

يوم القيامة بين ذاك المشهد

هذا الرؤوف بجاره ونزيله

هذا سراج الله في تنزيله

هذا الذي لا ريب في تفضيله

هذا حبيب الله وابن خليله

هذا ابن باني البيت أوّل مسجد

هذا الذي اصطفت النّبوّة خيمه

هذا الذي اعتام الهدى تقديمه (١)

هذا الذي نسقى غدا تسنيمه

هذا الذي جبريل كان خديمه (٢)

في حضرة التشريف أزكى مصعد

هذا الذي شهد الوجود بخصّه

بمزيّة التفضيل من مختصّه

وأبانه من وحيه في نصّه

هذا الذي ارتفع البراق بشخصه

في ليلة الإسراء أشرف مشهد

هذا الذي غدت الطلول حديقة

بجواره وغدت تروق أنيقة

هذا المكمّل خلقة وخليقة

هذا الذي سمع النداء حقيقة

ودنا ولم يك قبل ذاك بمبعد

فهناك كم رسل به تتوسّل

وعلى حماه لدى المعاد يعوّل

يا أرحم الرّحماء أنت الموئل

يا خاتم الإرسال أنت الأول

فترقّ في أعلى المكارم واصعد

الله رفّع في سراه مناره

وأبان في السّبع العلا أنواره (٣)

فقفت ملائكة السما آثاره

وأراه جنّته هناك وناره (٤)

فمؤبّد ومخلّد لمخلّد

كم ذاد من وجل وجلّى ظلمة

وامتنّ بالرّحمى ومتّن حرمة (٥)

لمّا دجا أفق الضّلالة دهمة

بعث الإله به ليرحم أمّة

لولاه كانت بالضلالة ترتدي

__________________

(١) الخيم : بكسر الخاء : الخلق والطبيعة ، واعتام : اختار.

(٢) التسنيم : ماء من مياه الجنة ، وفي القرآن الكريم (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ)

(٣) السّرى : السير ليلا.

(٤) قفت : تبعت.

(٥) ذاد : دفع.

٥٨

حاز الشّفوف فكلّ خلق دونه

فالغيث يسأل إذ يسيل يمينه (١)

والشمس تستهدي الشروق جبينه

والله فضّله وأظهر دينه

ووفى لنا فيه بصدق الموعد

نطقي يغادي ذكره ويراوح

وبه ينافج مسكة وينافح

تعيي اللسان محامد وممادح

طوبى لمن قد عاش وهو يكافح

عنه يناضل باللسان وباليد

هو صفوة العرب الألى أحسابهم

أسيافهم قرنت بها أسبابهم (٢)

فهم لباب المجد وهو لبابهم

من آل بيت لم تزل أنسابهم

تنبي لهم عن طيب عنصر مولد

شرف النّبوّة قد رسا في أهلها

وسما على الزّهر العلا بمحلّها

ساق السوابق للفخار برسلها

نطق الكتاب كما علمت بفضلها

وقضى به نصّ الحديث المسند

فوق السّماك توطّنت وتوطّدت

وتفرّدت بالمصطفى وتوحّدت (٣)

فهي الخلاصة صفّيت فتجرّدت

من معدن فيه الرسالة قد بدت

من عصر آدمنا لعصر محمد

طالوا فلم يبقوا لمجد مصعدا

صالوا ففي أيمانهم حتف العدا (٤)

سئلوا فهم لعفاتهم غيث الجدا

أهل السقاية والرفادة والنّدى

والكعبة البيت الحرام المقصد

المطعمون وقد طوى ألم الطّوى

الناهضون إذا الصريخ لهم نوى (٥)

العاطفون إذا الطريق بهم لوى

أهل السّدانة والحجابة واللّوى (٦)

__________________

(١) الشّفوف : جمع شف ـ بكسر الشين أو فتحها ـ وهو الفضل.

(٢) الألى : الذين.

(٣) السماك : كل ما ارتفع ، والسماكان : نجمان.

(٤) صالوا : عظموا وقووا ، والمصعد : مكان الصعود.

(٥) في ب : طوى المري الطّوى.

(٦) في ب : ثوى بدل لوى.

٥٩

أهل المقام وزمزم والمسجد

المصلحون إذا الجموع تخاذعت

المنجحون إذا المساعي دافعت (١)

الدافعون إذا الأعادي قارعت

المؤثرون إذا السّنون تتابعت

وفد الحجيج بنيل كلّ تفقّد

لا يقرب الخطب الملمّ منيعهم

لا يطرق الكرب المخيف قريعهم

والله شرّف بالنبيّ جميعهم

من نال رتبتهم وحاز صنيعهم

نال الشّفوف وحاز معنى السؤدد

حلّوا من الطّود الأشمّ بمنعة

في خير معتصم وأسمى رفعة (٢)

فهم بمنّة أمنه في هجعة

الله خصّصهم بأشرف بقعة

محجوجة محفوفة بالأسعد

لمّا أتيت لرامة أصل السّرى

من بعد قصدي مكة أمّ القرى

أنشدت جهرا فيه أنثر جوهرا

وإليكها يا خير من وطئ الثّرى

عذراء تزري بالعذارى الخرّد (٣)

كلّ الحسان لحسنها قد أدهشا

ما مثلها في تربها شاد نشا (٤)

سفرت بعزم ما أجدّ وأطيشا

نشأت بطيّ القلب وارتوت الحشا

زهراء من يرها يهلّ ويسجد

أمّتك تشؤو في مداها الألسنا

وتري إجادتها المجيد المحسنا (٥)

تغدو ولا تثني العنان عن الثّنا

وأتتك تمرح كالقضيب إذا انثنى

مترنّحا بين الغصون الميّد (٦)

قد أعملت في المدح ثاقب ذهنها

ترجو الحلول لدى قرارة أمنها

__________________

(١) تخاذعت : تدافعت وتقاتلت.

(٢) الطّود : الجبل العظيم المرتفع.

(٣) الخرّد : جمع خريدة ، وهي الفتاة العذراء ، وقصد هنا بالعذراء قصيدته الفذة.

(٤) التّرب : اللدة المساوي في السن. وأصل نشا نشأ ـ بالهمز.

(٥) في ب : تشأى.

(٦) ماد الغصن : اهتز.

٦٠