الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤
إن طال ليلي بعدهم فلطوله |
|
عذر ، وذاك لما أقاسي منهم |
لم تسر فيه نجومه لكنّها |
|
وقفت لتسمع ما أحدّث عنهم |
فأرقي ، الزائد في حرقي ، أظهر المكنون وأبان ، ووجدي بمن نأى وبان ، لم يجد فيه تعلّل برند وبان : [الرجز]
تنبّهي ، يا عذبات الرّند ، |
|
كم ذا الكرى؟ هبّ نسيم نجد (١) |
فلست مثلي في جوى أو أرق |
|
وحرقة من فرقة أو صدّ |
عوفيت ممّا حلّ بي من جيرة |
|
في الغرب لم يرثوا لفرط وجدي |
أعلّل القلب ببان عنهم |
|
وهل ينوب غصن عن قدّ (٢) |
بانوا فلا مغنى السرور بعدهم |
|
مغنى ، ولا عهد الرضا بعهد |
آها من البعد ومن لم يدره |
|
لم يشجه تأوّهي للبعد |
وفي شغل من أبكته الربوع والطلول ، وذهبت برهة من زمانه بين الترحّل والحلول ، فركب من الأخطار الصّعب والذّلول ، وحافظ على العهود ولم يسلك سبيل الغادر الملول : [الطويل]
سقاها الحيا من أربع وطلول |
|
حكت دنفي من بعدهم ونحولي (٣) |
ضمنت لها أجفان عين قريحة |
|
من الدّمع مدرار الشؤون همول |
ومن الغريب ، الذي ينكره غير الأريب ، أنّ الحادي إن سرّ القلب بكشف رين ، فقد تسبّب في اجتماع أمرين متنافيين متنافرين : [الطويل]
ترنّم حاد بالصّريم فشاقني |
|
إلى ذكر من باتت ضلوعي تضمّه |
فسرّ وساء النفس شجوا فربما |
|
كلفت به من حيث صرت أذمّه |
وارتجلت حين مللت من طول السّرى ، مضمّنا ذكر ما أروم له تيسّرا ، وقد أكثر الرفاق عند رؤية ما لم يألفوه من الآفاق تلهّفا وتحسّرا : [الخفيف]
قلت لمّا طال النّوى عن بلادي |
|
ولأهل النوى جوى (٤) وعويل |
__________________
(١) عذبات : جمع عذبة : وهي الغصن.
(٢) في ب : ببان رامة.
(٣) الحيا : المطر. والدّنف : المرض الشديد.
(٤) النوى : البعد. والجوى : الحرقة. والعويل : البكاء.
هل أرى للفراق آخر عهد |
|
إنّ عمر الفراق عمر طويل |
ثم قلت مضمّنا : [الرمل]
لائمي في ذكر أحباب نأوا |
|
لا تلم من أضعف الشّوق قواه |
إنّ يوما جامعا شملي بهم |
|
ذاك عيدي ، ليس لي عيد سواه |
ثم قلت مضمّنا أيضا [الطويل]
لك الله من صبّ أضرّ به النّوى |
|
وليس له غير اللقاء طبيب |
وإنّ صباحا نلتقي بمسائه |
|
صباح إلى قلبي المشوق حبيب |
ثم عدت إلى التّصبّر ، بعد إمعان النظر والتدبّر : [الطويل]
وإني لأدري أنّ في الصّبر راحة |
|
ولكنّ إنفاقي على الصّبر من عمري |
فلا تطف نار الشوق بالشوق طالبا |
|
سلوّا ، فإنّ الجمر يسعر بالجمر |
ثم سلكت منهج التفويض والتسليم ، منشدا قول ابن قطرال المغربي في مقام النصح والتعليم ، ووجّهت القصد إلى سكان الضمير بذلك التكليم : [الرمل]
إنّ أيام الرّضا معدودة |
|
والرضا أجمل شيء بالعبيد |
لا تظنّوا عنكم لي سلوة |
|
ما على شوقي إليكم من مزيد (١) |
راجعوا أنفسكم تستيقنوا |
|
أنكم في الوقت أقصى ما أريد |
إنّ يوما يجمع الله بكم |
|
فيه شملي ذاك عندي يوم عيد |
وقول بعض من ندم على البعد عن المعاهد ، وأمّل العود ـ والعود أحمد ـ إلى المشاهد ، وغفر للدهر ذنبه إن عاد ، وتلهّف أن لم يعامله بغير الإبعاد : [الطويل]
لئن عاد جمع الشّمل في ذلك الحمى |
|
غفرت لدهري كلّ ذنب تقدّما |
وإن لم يعد منّيت نفسي بعودة |
|
وما ذا عسى تجدي الأماني وقلّما |
يحقّ لقلبي أن يذوب صبابة |
|
وللعين أن تجري مدامعها دما |
على زمن ماض بهم قد قطعته |
|
لبست به ثوب المسرّة معلما (٢) |
وقول آخر يخاطب أحبابه ، ويذكر فواصل بحر النّوى الطويل وأسبابه : [الطويل]
__________________
(١) في ب : لي عنكم.
(٢) الثوب المعلم : الذي به علامات من خطوط وغيرها.
أعيذكم من لوعتي وشجوني |
|
ونار جوى تذكى بماء شؤوني |
وبرح أسى لم يبق فيّ بقيّة |
|
سوى حركات تارة وسكون |
أرى القلب أضحى بعد طارقة الأسى |
|
أسير صبابات رهين شجون |
وكيف سبيل القرب منكم ودونكم |
|
رمال زرود والأجارع دوني (١)؟ |
سلوا مضجعي هل قرّ من بعد بعدكم |
|
وهل عرفت طعم الرّقاد جفوني |
سهرنا بنعمان ، ونمتم ببابل ، |
|
فيا لعيون ما وفت لعيون |
وفي بعض الأحيان ، أتسلّى بقول بعض الأندلسيين الأعيان : [الكامل]
لا تكترث بفراق أوطان الصّبا |
|
فعسى تنال بغيرهنّ سعودا |
فالدّرّ ينظم عند فقد بحاره |
|
بجميل أجياد الحسان عقودا |
وقول غيره : [الكامل]
فعسى الليالي أن تمنّ بنظمنا |
|
عقدا كما كنّا عليه وأكملا |
فلربّما نثر الجمان تعمّدا |
|
ليعاد أحسن في النظام وأجملا |
وأرغب لمن أطال ذيول الغربة أن يقلّصها ، وأطلب ممّن أجال النفوس في سيول الكربة أن يخلّصها : [البسيط]
فنلتقي وعوادي الدهر غافلة |
|
عمّا نروم وعقد البين محلول |
والدار آنسة ، والشّمل مجتمع ، |
|
والطّير صادحة ، والروض مطلول (٢) |
وأضرع إليه ـ سبحانه! ـ في تيسير العود إلى أوطاني ، ومعهدي الذي مطايا العزّ أوطاني (٣) ، وأن يلحقني بذلك الأفق الذي خيره موفور ، وحقّ من فيه معروف لا منكر ولا مكفور : [البسيط]
إذا ظفرت من الدنيا بقربهم |
|
فكلّ ذنب جناه الدّهر مغفور |
وكأني بعاتب يقول : ما هذا التطويل؟ فأقول له : جوابي قول ابن أبي الإصبع الذي عليه التعويل : [البسيط]
__________________
(١) الأجارع : جمع أجرع ، وهو المكان الذي فيه رمال وحصى دقيقة.
(٢) الدار آنسة : أي فيها الأنس ، وضدها الموحشة. ومطلول : نزل عليه الطلّ ، وهو المطر الضعيف ، أو الندى.
(٣) أوطاني : أصله أوطأني ، أي مهدها لي وذللها ، فقلب الهمزة ألفا.
أكثرت عذلي كأنّي كنت أول من |
|
بكى على مسكن أو حنّ للسّكن |
لا تلح إنّ من الإيمان عند ذوي ال |
|
إيمان منّا حنين النّفس للوطن |
على أنني أقول : اللهمّ يسّر لي ما فيه الخيرة لي بالمشارق أو بالمغارب ، وجد لي من فضلك حيث حللت بجميع ما فيه رضاك من المآرب ، بجاه نبيّنا وشفيعنا المبعوث رحمة للأحمر والأسود والأعاجم والأعارب ، عليه أفضل صلاة وأزكى سلام ، وعلى آله وأصحابه الأعلام ، والتابعين لهم بإحسان ما ذرّ شارق ، وتعاقب طالع وغارب.
ثم جدّ بنا السّير في البرّ أياما ، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حبّا لها وهياما ، وكنّا عن تفاعيل فضلها (١) نياما ، إلى أن ركبنا البحر ، وحللنا منه بين السّحر والنّحر (٢) ، وشاهدنا من أهواله ، وتنافي أحواله ، ما لا يعبّر عنه ، ولا يبلغ له كنه : [مخلع البسيط]
البحر صعب المرام جدّا |
|
لا جعلت حاجتي إليه |
أليس ماء ونحن طين |
|
فما عسى صبرنا عليه |
فكم استقبلنا (٣) أمواجه بوجوه بواسر (٤) ، وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر ، قد أزعجتها أكفّ الرّيح من وكرها ، كما نبّهت اللجج من سكرها ، فلم تبق شيئا من قوّتها ومكرها ، فسمعنا للجبال صفيرا ، وللرياح دويّا عظيما وزفيرا ، وتيقّنّا أنّا لا نجد من ذلك إلّا فضل الله مجيرا وخفيرا ، (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧]. وأيسنا من الحياه ، لصوت تلك العواصف والمياه ، فلا حيّا الله ذلك الهول المزعج ولا بيّاه ، والموج يصفّق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطرب ، فكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب ، فيبتعد ويقترب ، وفرقه تلتطم وتصطفق ، وتختلف ولا تكاد تتفق ، فتخال الجوّ يأخذ بنواصيها (٥) ، وتجذبها أيديه من قواصيها ، حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها ، وعنان السّحب يخطف في استقلالها ، وقد أشرفت النفوس على التّلف من خوفها واعتلالها ، وآذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها ، وساءت الظنون ، وتراءت في صورها المنون ، والشّراع في قراع مع جيوش الأمواج ، التي أمدّت منها الأفواج بالأفواج ، ونحن قعود ، كدود على عود ، ما بين فرادى وأزواج ، وقد نبت (٦) بنا من القلق أمكنتنا ، وخرست من الفرق (٧) ألسنتنا ، وتوهّمنا
__________________
(١) في ب : وصلها.
(٢) السّحر : الرئة.
(٣) في ب : استقبلتنا.
(٤) وجوه بواسر : عابسة مقطبة.
(٥) القواصي : جمع قاصية ، وهي البعيدة.
(٦) نبت : أي بعدت.
(٧) الفرق : الخوف والفزع.
أنه ليس في الوجود ، أغوار ولا نجود ، إلّا السماء والماء وذلك السّفين ، ومن في قبر جوفه دفين ، مع ترقّب هجوم العدوّ ، في الرواح والغدوّ ، لاجتيازه على عدّة من بلاد الحرب ، دمّر الله سبحانه من فيها وأذهب بفتحها عن المسلمين الكرب ، لا سيما مالطة الملعونة ، التي يتحقّق من خلص من معرّتها (١) أنه أمدّ بتأييد إلهيّ ومعونة ، فقد اعترضت في لهوات البحر الشامي شجا ، وقلّ من ركبه فأفلت من كيدها ونجا ، فزادنا ذلك الحذر ، الذي لم يبق ولم يذر ، على ما وصفناه من هول البحر قلقا ، وأجرينا إذ ذاك في ميدان الإلقاء باليد إلى التهلكة طلقا ، وتشتّتت أفكارنا فرقا ، وذبنا أسى وندما وفرقا ، إذ البحر وحده لا كميّ يقارعه ، ولا قويّ يصارعه ، ولا شكل يضارعه ، لا يؤمن على كل حال (٢) ، يفرّق بين عاطل وحال ، ولا بين أعزل وشاك ، ومتباك وباك : [الرجز]
ثلاثة ليس لها أمان |
|
البحر والسّلطان والزّمان |
فكيف وقد انضمّ إليه خوف العدوّ الغادر الخائن والكافر الحائن (٣) ، إلى أن قضى الله بالنجاة وكلّ ما أراد فهو الكائن ، وإن نهى عنه وأخطأ المائن (٤) ، فرأينا البرّ وكأنّا قبل لم نره ، وشفيت به أعيننا من المره (٥) ، وحصل بعد الشدّة الفرج ، وشممنا من السلامة أطيب الأرج (٦) ، فيا لها من نعمة كشفت عن وجهها النّقاب ، يقلّ شكرا لها صوم الأحقاب وعتق الرقاب ، جعلنا الله بآياته معتبرين ، وعلى طاعته مصطبرين ، ولم نخل في البرّ من معاناة خطوب ، ومداراة وجوه للمتاعب ذات تجهّم وقطوب ، فكم جبنا منه مهامه فيحا (٧) ، ومسحنا بالخطا منها أثيرا وصفيحا ، وفلّينا الفجاج ، وقرأنا من الطرق خطوطا ذات استقامة واعوجاج ، وقلوب الرفقة من الفرقة في اضطراب وارتجاج ، وربما عميت على المجتهد الأدلّة التي يحصل بها على المذهب الاحتجاج ، فترى الأنفاس تعثّر في زفرة الأشواق ، والأجسام قد زرّت عليها من التعب الأطواق ، هذا واللّيل بصفحة البدر مرتاب ، وقد شدّت رحال وأقتاب ، وزمّت ركاب ورفعت أحداج ، وفريت من الدّعة بمدية النّصب أوداج ، وتساوى في السير نهار مشرق وليل مقمر أو داج ، وأديم التأويب والإسآد ، وحمل الغربة قد أثقل وآد ، ثم وصلنا بعد خوض بحار ، يدهش فيها الفكر ويحار ، وجوب فياف مجاهل ، يضلّ فيها القطا عن المناهل ، إلى مصر المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع ، وشاهدنا كثيرا من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي
__________________
(١) المعرّة : الإثم ، الخطيئة.
(٢) في ب : ولا يؤمن على حال.
(٣) الكافر الحائن : الذي لم يهتد إلى الرشاد.
(٤) المائن : الكاذب.
(٥) المره : فساد العين لتحرك الكحل.
(٦) الأرج : الريح الطيبة.
(٧) الفيح : الواسعة.
والأسجاع ، وتمثّلنا في بدائعها التي لا نستوفيها ، بقول ابن ناهض فيها (١) : [مجزوء الرجز]
شاطىء مصر جنّة |
|
ما مثلها في بلد |
لا سيّما مذ زخرفت |
|
بنيلها المطّرد |
وللرياح فوفه |
|
سوابغ من زرد (٢) |
مسرودة ما مسّها |
|
داودها بمبرد (٣) |
سائلة وهو بها |
|
يرعد عاري الجسد |
والفلك كالأفلاك بي |
|
ن حادر ومصعد |
وبقول آخر : [مجزوء الكامل]
انظر إلى النّيل الّذي |
|
ظهرت به آيات ربّي |
فكأنه في فيضه |
|
دمعي وفي الخفقان قلبي |
وبقول أبي المكارم بن الخطير ، المعروف بابن ممّاتي (٤) ، في جزيرتها : [الطويل]
جزيرة مصر ، لا عدتك مسرّة |
|
ولا زالت اللّذات فيك اتّصالها |
فكم فيك من شمس على غصن قامة |
|
يميت ويحيي هجرها ووصالها |
مغانيك فوق النيل أضحت هوادجا |
|
ومختلفات الموج فيك حبالها |
ومن أعجب الأشياء أنك جنّة |
|
تمدّ على أهل الضلال ظلالها |
لعلّه أراد بأهل الضلال اليهود والنصارى المستولين إذ ذاك على الدولة. وتذكّرت في مصر قول القاضي الفاضل (٥) : [الكامل]
بالله قل للنّيل عنّي إنّني |
|
لم أشف من ماء الفرات غليلا |
وسل الفؤاد فإنه لي شاهد |
|
إن كان طرفي بالبكاء بخيلا |
يا قلب ، كم خلّفت ثمّ بثينة |
|
وأظنّ صبرك أن يكون جميلا |
__________________
(١) وردت هذه الأبيات في رحلة ابن بطوطة ص ٣٢ للشاعر ناصر الدين بن ناهض.
(٢) السوابغ : الدروع الواسعة ، وشبه سطح الماء بالدرع.
(٣) مسرودة : منسوجة ، وتنسب الدروع لنبي الله داود ـ عليه السلام ـ لأنه كان يصنعها.
(٤) هو أبو المكارم الخطير الأسعد بن الخطير المعروف بابن مماتي المتوفى سنة ٦٠٦ ه. كان ناظر الدواوين بالديار المصرية (معجم الأدباء ٦ / ١٠٠ ووفيات الأعيان ١ / ١٨٧).
(٥) هو عبد الرحيم بن علي البيساني المتوفى سنة ٥٩٦ ه. (انظر وفيات الأعيان ٢ / ٣٣٣).
وقول أحمد بن فضل الله العمري : [مجزوء الرجز]
لمصر فضل باهر |
|
بعيشها الرّغد النّضر |
في سفح روض يلتقي |
|
ماء الحياة والخضر |
وقول آخر : [الوافر]
كأنّ النّيل ذو فهم ولبّ |
|
لما يبدو لعين الناس منه |
فيأتي حين حاجتهم إليه |
|
ويمضي حين يستغنون عنه |
وقول آخر : [الطويل]
ولله مجرى النّيل منه إذا الصّبا |
|
أرتنا به من مرّها عسكرا مجرا (١) |
بشطّ يهزّ السّمهريّة ذبّلا |
|
وموج يهزّ البيض هنديّة بترا (٢) |
إذا مدّ حاكى الورد لونا ، وإن صفا |
|
حكى ماءه لونا ولم يحكه مرّا |
وقول آخر : [الكامل]
واها لهذا النّيل! أيّ عجيبة |
|
بكر بمثل حديثها لا يسمع |
يلقى الثّرى في الماء وهو مسلّم |
|
حتى إذا ما مال عاد يودّع |
مستقبل مثل الهلال فدهره |
|
أبدا يزيد كما يزيد ويرجع |
وقول ابن النقيب : [السريع]
الصّبّ من بعدهم مفرد |
|
ودمعه النّيل وتعليقه |
وخدّه لمّا بكاهم دما |
|
مقياسه ، والدّمع تخليقه |
وقول الصّفدي (٣) : [مجزوء الكامل]
سقيا لمصر وما حوت |
|
من أنسها وأناسها |
ومحاسن في مقسها |
|
تبدو وفي مقياسها (٤) |
__________________
(١) العسكر المجر : الكثير العدد.
(٢) السمهرية : الرماح المنسوبة إلى صانعها سمهر ، والبيض : السيوف. والهندية : السيوف المصنوعة في الهند.
والبتر : القواطع.
(٣) ابن النقيب : هو الحسن بن شاور بن النقيب ، شاعر مصري ، انظر : فوات الوفيات ١ / ٢٣٢.
(٤) المقس : موضع على النيل كان يجلس فيه صاحب المكس.
ومسرّة كاساتها |
|
تجلى على أكياسها |
وسطور قرط خطّها ال |
|
باري على قرطاسها |
ودمى كنائسها ، ولا |
|
تنسى ظباء كناسها |
ولطافة بجلالة |
|
تبدو على جلّاسها |
ونواسم كلّ المنى |
|
للنفس في أنفاسها |
ومراكب لعبت بها ال |
|
أمواج في وسواسها |
وقول ابن جابر الأندلسي (١) : [الكامل]
ما زلت أسند من محاسن أرضها |
|
خبرا صحيحا ليس بالمقطوع |
كم مرسل من نيلها ومسلسل |
|
ومدبّج من هضبها المرفوع (٢) |
وقول إبراهيم بن عبدون : [الكامل]
والنّيل بين الجانبين كأنّما |
|
صدئت بصفحته صفيحة صيقل (٣) |
يأتيك من كدر الزّواخر مدّه |
|
بممسّك من مائه ومصندل |
فكأنّ ضوء البدر في تمويجه |
|
برق تموّج في سحاب مسبل |
وكأنّ نور السّرج من جنباته |
|
زهر الكواكب تحت ليل أليل (٤) |
مثل الرياض مفتّقا أنواره |
|
تبدو لعين مشبّه وممثّل |
وقول ابن الصاحب : [مجزوء الكامل]
فرح الأنام بنيلهم |
|
إذ صار أحمر كالشّقيق |
وتبرّكوا بشروقه |
|
فكأنه وادي العقيق |
وقول آخر : [المجتث]
__________________
(١) هو محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي الأعمى : صاحب بديعية العميان. انظر الدرر الكامنة ٣ / ٣٣٩.
(٢) الصحيح والمقطوع ، والمرسل ، والمسلسل ، والمدبج والمرفوع : كل هذه الألفاظ قد استعملت في علم مصطلح الحديث أسماء لأنواع من الحديث.
(٣) الصّيقل : من صناعته صقل السيوف وغيرها والجمع صياقل وصياقلة.
(٤) ليل أليل : شديد الظلام.
احمرّ للنّيل خدّ |
|
حتى غدا كالشقيق |
وقد ترنّمت فيه |
|
إذ صار وادي العقيق |
ثم شمّرت عن ساعد العزم بعد الإقامة بمصر مدّة قليلة ، إلى المهمّ الأعظم والمقصد الأكبر الذي هو سرّ المطالب الجليلة ، وهو رؤية الحرمين الشريفين ، والعلمين المنيفين ، زادهما الله تنويها ، وبلّغ النفوس ببركة من شرفا به مآرب لم تزل تنويها ، فسافرت في البحر إلى الحجاز ، راجيا من الله سبحانه في الأجر الانتجاز ، إلى أن بلغت جدة ، بعد مكابدة خطوب اتّخذت لها من الصبر عدّة ، فحين حصل القرب ، واكتحلت العين بإثمد تلك التّرب ، ت رنّمت بقول من قال ، محرّضا على الوخد والإرقال (١) : [البسيط]
بدا لك الحقّ فاقطع ظهر بيداء |
|
واهجر مقالة أحباب وأعداء |
واقصد على عزمة أرض الحجاز تجد |
|
بعدا عن السّخط في نزل الأودّاء |
وقل إذا نلت من أمّ القرى أربا |
|
وهو الوصول بإسرار وإبداء |
يا مكة الله ، قد مكّنت لي حرما |
|
مؤمّنا لست أشكو فيه من داء |
فمذ رأى النازح المسكين مسكنه |
|
في قطرك الرّحب لم ينكب بأرزاء |
شوق الفؤاد إلى مغناك متّصل |
|
شوق الرياض إلى طلّ وأنداء |
ثم أنشدت ، عندما بدت أعلام البيت الحرام ، قول بعض من غلب عليه الشوق والغرام ، وقد بلغ من أمانيه الموجبة بشائره وتهانيه المرام : [البسيط]
وافى الحجيج إلى البيت العتيق وقد |
|
سجا الدّجى فرأوا نورا به بزغا (٢) |
عجّوا عجيجا وقالوا : الله أكبر ما |
|
للجوّ مؤتلقا بالنور قد صبغا (٣) |
قال الدليل : ألا هاتوا بشارتكم |
|
فمن نوى كعبة الرحمن قد بلغا |
نادوا على العيس بالأشواق وانتحبوا |
|
وحنّ كلّ فؤاد نحوها وصغا (٤) |
وكلّ من ذمّ فعلا نال محمدة |
|
في مكة ومحا ما قد جنى وبغى |
ولما وقع بصري على البيت الشريف كدت أغيب عن الوجود ، واستشعرت قول العارف
__________________
(١) الوخد والإرقال : ضربان من السير السريع.
(٢) سجا الدجى : سكن الليل وغطت الظلمة المكان.
(٣) عج العجيج : رفعوا أصواتهم بالدعاء إلى الله.
(٤) صغا : مال.
بالله الشبلي (١) لما وفد إلى حضرة الجود : [الخفيف]
قلت للقلب إذ تراءى لعيني |
|
رسم دار لهم فهاج اشتياقي |
هذه دارهم وأنت محبّ |
|
ما احتباس الدموع في الآماق |
والمغاني للصّبّ فيها معاني |
|
فهي تدعى مصارع العشّاق |
حلّ عقد الدموع واحلل رباها |
|
واهجر الصّبر وارع حقّ الفراق |
ثم أكملت العمرة ، ودعوت الله أن أكون ممّن عمر بطاعة ربّه عمره ، وذلك أوائل ذي القعدة من عام ثمانية وعشرين وألف من الهجرة السنيّة ، وأقمت هنالك منتظرا وقت الحجّ الشريف ، ومتفيّئا ذلك الظلّ الوريف ، ومقتطفا ثمار القرب الجنيّة ، إلى أن جاء الأوان ، فأحرمت بالحجّ من غير توان ، وحين حللت مما به أحرمت ، نويت الإقامة هنالك وأبرمت ، فحال من دون ذلك حائل ، وكنت حريّا بأن أنشد قول القائل : [الكامل]
هذي أباطح مكة حولي وما |
|
جمعت مشاعرها من الحرمات (٢) |
أدعو بها لبّيك تلبية امرئ |
|
يرجو الخلاص بها من الأزمات |
نلت المنى بمنى لأني لم أخف |
|
بالخيف من ذنب أحال سماتي |
وعرفت في عرفات أني ناشق |
|
للعفو عرفا عاطر النّسمات (٣) |
وأن أتمثّل في المطاف ، إذ حفّتني الألطاف ، بقول من ربعه بالتقوى مشيد ، البغدادي الشهير بابن رشيد : [الطويل]
على ربعهم لله بيت مبارك |
|
إليه قلوب الناس تهوي وتهواه (٤) |
يطوف به الجاني فيغفر ذنبه |
|
ويسقط عنه جرمه وخطاياه |
وكم لذة أو فرحة لطوافه |
|
فلله ما أحلى الطواف وأهناه |
ثم قصدنا بعد قضاء تلك الأوطار ، طيبة (٥) الشريفة التي لها الفضل على الأقطار ، واستشعرت قول من أنشد وطير عزمه عن أوكاره قد طار : [الطويل]
__________________
(١) هو أبو بكر دلف بن جحدر ـ صاحب الجنيد ـ المتوفى سنة ٣٣٤ ه (راجع وفيات الأعيان ج ٢ ص ٣٩ ، وحلية الأولياء ج ١٠ ص ٣٦٦).
(٢) المشاعر : جمع مشعر ، وأراد به هنا المكان من الأمكنة يؤدى فيها شيء من مناسك الحج أو العمرة.
(٣) العرف : الرائحة الطيبة.
(٤) أخذه من قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ).
(٥) في ب : لطيبة. وطيبة : هي المدينة المنوّرة.
حمدت مرادي إذ بلغت مرادي |
|
بأمّ القرى مستمسكا بعمادي (١) |
ومذ رويت من ماء زمزم غلّتي |
|
فلست بمحتاج لماء ثماد (٢) |
فلله سبحانه الحمد على نعمه التي جلّت ، ومننه التي نزلت بها النفوس مواطن التشريف وحلّت : [الكامل]
من يهده الرحمن خير هداية |
|
يحلل بمكة كي يتاح المقصدا |
وإذا قضى من حجّه الفرض انثنى |
|
يشفي برؤية طيبة داء الصّدى (٣) |
وكان حظّي في هذه الحال تذكّر قول بعض الوشّاحين (٤) من الأندلسيين الذين كان لهم ارتحال إلى تلك المعاهد الطاهرة ، والمشاهد الزاهرة ، التي تشدّ إليها الرحال :
يا من لعبد له افتقار |
|
إلى أياد له جسام |
فضلك مدن لخير مدن |
|
حلّ بها سيّد الأنام |
لم يهف قلبي لحبّ ليلى |
|
ولا سعاد ولا الرّباب |
لاقى شجونا ونال ويلا |
|
من هام في ذلك الجناب |
بل مال مني الفؤاد ميلا |
|
لمن له الحبّ لا يعاب |
قلبي والله مستطار |
|
مذ حلّ في بيته الحرام (٥) |
ذي الحجر والرّكن خير ركن |
|
وزمزم الخير والمقام (٦) |
ذابت قلوب المطيّ عشقا |
|
وركبها واستوى المراد |
إلى حبيب القلوب حقّا |
|
الحيّ والميت والجماد |
إلى الذي ليس فيه يشقى |
|
من حبّه داخل الفؤاد |
شكوا ، وقد طالت السّفار |
|
هم ومطاياهم ، السّقام |
فهي قسيّ من التثنّي |
|
والقوم من فوقها سهام |
__________________
(١) المراد : مكان اختلاف الجمال في المرعى إقبالا وإدبارا. وأم القرى : مكة المكرّمة.
(٢) الغلّة : العطش.
(٣) الصدى : العطش.
(٤) الوشّاح : شاعر الموشّحات.
(٥) القلب المستطار : الذي لا يقرّ له قرار من شدة الحب.
(٦) في ب : ذا الحجر.
ولست من سكرتي مفيقا |
|
حتى أرى حجرة الرسول |
فإن يسهّل لي الطريقا |
|
فذاك أقصى منى وسول (١) |
متى ترى عيني العقيقا |
|
ويفرح القلب بالوصول |
كم قلت والصّبر مستعار |
|
للرّكب إذ غادروا المنام |
ونسمة الشّوق حرّكتني |
|
وزاد بي الوجد والغرام |
قوموا فقد طال ذا الجلوس |
|
وبادروا زورة الحبيب |
تاقت إلى طيبة النفوس |
|
لا عيش من دونها يطيب |
لا حبّذا دونها الغروس |
|
والماء والشادن الرّبيب (٢) |
وحبذا الرّمل والقفار |
|
والعرب في تلكم الخيام |
وأمّ غيلان ظلّلتني |
|
والأيك والأثل والثّمام (٣) |
يا طيبة ، حزت كلّ طيب |
|
بسيّد فيك ذي حلول |
نداء مستضعف غريب |
|
في غرّ أمداحه يقول |
وهو من السامع المجيب |
|
لمدحه يسأل القبول |
أنت الغنى لي فلا افتقار |
|
وأنت عزّي فلا أضام |
مستمسك منك حسن ظني |
|
بعروة ما لها انفصام |
بسيّد العالمين أجمع |
|
بأحمد المجتبى الرسول |
ومن هو الشافع المشفّع |
|
في موقف المحشر المهول |
إذ لا كلام هناك يسمع |
|
للغير والناس في ذهول |
إذ السماء لها انفطار |
|
والشّهب منثورة النظام |
كذا الجبال انثنت كعهن |
|
سريعة المرّ كالغمام (٤) |
يا أوّل الرّسل في الفضيله |
|
وإن تأخّرت في الزّمن |
__________________
(١) سول : أصلها سؤل ـ بالهمز ـ قلبت الهمزة واوا للسهولة وهذا جائز عندهم.
(٢) الشادن : الظبي الذي قوي واستغنى عن أمه.
(٣) أم غيلان : شجرة السمر. والأيك : الشجر الكثيف الملتفّ. والأثل : شجر صلب الخشب جيده يكثر حول المياه في الأراضي الرملية. والثّمام : نبت زهره كالسنبلة ، وله خوص تسد به خصاص البيت.
(٤) العهن : الصوف.
شفاعة نلت مع وسيله |
|
فمن يضاهي علاك من |
علت بك الرّتبة الجليله |
|
وطبت في السّرّ والعلن |
فأنت من خيرهم خيار |
|
فمن يضاهيك في المقام |
والرّسل نالت بك التمنّي |
|
وأنت بدر لهم تمام |
الوجد قد قرّ في فؤادي |
|
فما لصبر به قرار |
ولا عجي صاعد اتّقاد |
|
ودمع عيني له انهمار (١) |
وها أنا جئت من بلادي |
|
لطيبة أبتغي الجوار |
فحبّذا تلكم الديار |
|
والمصطفى مسكة الختام |
عليه أزكى الصلاة مني |
|
وصحبه الغرّ والسّلام |
وقول أبي جعفر الرّعيني الغرناطي (٢). رحمه الله تعالى ـ وهو من التشريع (٣) ، أحد أنواع البديع : [الكامل]
يا راحلا يبغي زيارة طيبة |
|
نلت المنى : بزيارة الأخيار |
حيّ العقيق إذا وصلت وصف لنا |
|
وادي منّى : يا طيّب الأخبار |
وإذا وقفت لدى المعرّف داعيا |
|
زال العنا : وظفرت بالأوطار |
ولمّا منّ الله تعالى علينا بالحلول في المشاهد التي قام الدين بها وظهر ، والمعاهد التي بان الحقّ فيها واشتهر ، والمواطن التي هزم الله تعالى حزب الشيطان فيها وقهر ، ونصرت النبوّة وعضدت ، وقطعت غصون الكفر وحصدت ، ورصّت قواعد التوحيد ونضدت ، وقرّت العيون ، وقضيت الديون ، أنشد لسان الحال ، قول بعض من جيده بمحاسن طيبة حال : [البسيط]
يا من له طيبة طابت حلى وعلى |
|
ومن بتشريفه قد شرّف العرب |
يا أحمد المصطفى ، قد جئت من بلد |
|
قاص ولي خلد قاس ولي أرب |
وقد دهتني ذنوب قلت إذ عظمت |
|
لله منها وطه المرتجى الهرب |
ونسينا بمشاهدة ذلك الجناب ما كنّا فيه ، وسبق الدمع الذي لا يعارض الفرح ولا ينافيه : [الخفيف]
__________________
(١) اللاعج : الحبّ المحرق. وانهمار الدمع : سيلانه وتتابعه.
(٢) هو أحمد بن يوسف بن مالك (ـ ٧٧٩) شرح بديعية ابن جابر (انظر الدرر الكافية : ١ / ٣٤٠).
(٣) التشريع : وهو أن يبني الشاعر قصيدته على أن يكون لكل بيت فيها قافيتان ووزنان ، ويسميه بعضهم التوأم. وهذه الأبيات من هذا النوع.
أيها المغرم المشوق ، هنيئا |
|
ما أنالوك من لذيذ التلاقي |
قل لعينيك تهملان سرورا |
|
طالما أسعداك يوم الفراق |
واجمع الوجد والسرور ابتهاجا |
|
وجميع الأشجان والأشواق |
وأمر العين أن تفيض انهمالا |
|
وتوالي بدمعها المهراق |
هذه دارهم وأنت محبّ |
|
ما بقاء الدموع في الآماق |
وملنا عن الأكوار (١) ، وثملنا من عرف تلك الأنجاد والأغوار ، وتملّينا من هاتيك الأنوار ، وتخلّينا عن الأغيار ، وتحلّينا بحلى الأخيار ، وكيف لا وطيبة مركز للزوّار : [الطويل]
إذا لم تطب في طيبة عند طيّب |
|
به طيبة طابت فأين تطيب؟ |
وإن لم يجب في أرضها ربّنا الدّعا |
|
ففي أيّ أرض للدعاء يجيب؟ |
أيا ساكني أكناف طيبة ، كلّكم |
|
إلى القلب من أجل الحبيب حبيب |
وما أحسن قول عالم الأندلس المالكي اللبيب ، عبد الملك السّلمي المشهور بابن حبيب (٢) : [الكامل]
لله درّ عصابة صاحبتها |
|
نحو المدينة تقطع الفلوات |
ومهامه قد جبتها ومفاوز (٣) |
|
ما زلت أذكرها بطول حياتي |
حتى أتينا القبر قبر محمد |
|
خصّ الإله محمدا بصلات (٤) |
خير البريّة والنبيّ المصطفى |
|
هادي الورى لطرائق لنجاة (٥) |
لمّا وقفت بقربه لسلامه |
|
جادت دموعي واكف العبرات |
ورأيت حجرته وموضعه الذي |
|
قد كان يدعو فيه في الخلوات |
مع روضة قد قال فيها : إنها |
|
مشتقّة من روضة الجنّات (٦) |
وبمنزل الأنصار وسط قبابهم |
|
بيت الهداية كاشف الغمرات |
وبطيبة طابوا ونالوا رحمة |
|
مغنى الكتاب ومحكم الآيات |
__________________
(١) الأكوار : جمع كور : ما يجعل على ظهر الجمل كالسرج.
(٢) هو عبد الملك بن حبيب السلمي فقيه الأندلس ومؤلف (الواضحة في الحديث) توفي سنة ٢٣٨ ه.
(٣) مهامه : مفردها مهمه. الصحراء الواسعة البعيدة التي لا ماء فيها.
(٤) في ب : بصلاة.
(٥) في ب : الجنّات.
(٦) يشير إلى ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياضة الجنة».
وبقبر حمزة والصحابة حوله |
|
فاضت دموع العين منهمرات |
سقيا لتلك معاهدا شاهدتها |
|
وشهدتها بالخطو واللحظات |
لا زلت زوّارا لقبر نبيّنا |
|
ومدينة زهراء بالبركات |
صلّى الإله على النبيّ المصطفى |
|
هادي البريّة كاشف الكربات |
وعلى ضجيعيه السلام مردّدا |
|
ما لاح نور الحقّ في الظّلمات (١) |
وقول كمال الدين ناظر قوص (٢) : [الطويل]
أنخ ، هذه والحمد لله يثرب |
|
فبشراك قد نلت الذي كنت تطلب (٣) |
فعفّر بهذا التّرب وجهك ، إنه |
|
أحقّ به من كلّ طيب وأطيب |
وقبّل ربوعا حولها قد تشرّفت |
|
بمن جاورت ، والشيء بالشيء يحبب |
وسكّن فؤادا لم يزل باشتياقه |
|
إليها على جمر الغضى يتقلّب |
وكفكف دموعا طالما قد سفحتها |
|
وبرّد جوى نيرانه تتلهّب |
وقول الرّعيني الغرناطي : [الخفيف]
هذه روضة الرسول فدعني |
|
أبذل الدمع في الصعيد السعيد |
لا تلمني على انسكاب دموعي |
|
إنّما صنتها لهذا الصّعيد |
ولما سلّمت على سيّد الأنام ، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام ، ذبت حياء وخجلا ، لما أنا عليه من ارتكاب ما يقتضي وجلا ، غير أني توسّلت بجاهه صلّى الله عليه وسلّم في أن أكون ممّن وضح له وجه الصفح وجلا : [مجزوء الوافر]
إليك أفرّ من زللي |
|
فرار الخائف الوجل (٤) |
وكان مزار قبرك بال |
|
مدينة منتهى أملي |
فوفّى الله ما طمحت |
|
له نفسي بلا خلل |
فخذ بيدي غريق في |
|
بحار القول والعمل |
__________________
(١) ضجيعيه : أراد بهما أبا بكر وعمر بن الخطاب.
(٢) هو أحمد بن عبد القوي بن عبد الله بن شداد الربعي المتوفى سنة ٦٨٦ ه (انظر : الفوات ١ / ٨٨ وشذرات الذهب ٦ / ٢١).
(٣) يثرب : الاسم القديم للمدينة المنورة.
(٤) في ب : الخجل.
وهب لي منك عارفة |
|
تعرّف ما تنكّر لي (١) |
وتهديني إلى رشدي |
|
وتمنعني من الزّلل |
وتحملني على سنن |
|
يؤمّنني من الوجل (٢) |
فأنت دليل من عميت |
|
عليه مسالك السّبل |
وإنك شافع برّ |
|
وموئلنا من الوهل (٣) |
وإنك خير مبتعث |
|
وإنك خاتم الرّسل |
فيا أزكى الورى شرفا |
|
وشافيهم من العلل |
ويا أندى الأنام يدا |
|
وأكرم ناصر وولي |
نداء مقصّر وجل |
|
بثوب الفقر مشتمل |
على جدواك معتمدي |
|
فأنقذني من الدّخل (٤) |
وألحقني بجنّات |
|
لدى درجاتها الأول |
بصدّيق وفاروق |
|
وعثمان الرّضى وعلي |
فأنت ملاذ معتصم |
|
وأنت عماد متّكل |
عليك صلاة ربك ج |
|
لّ في الغدوات والأصل |
ومذ شممنا من أرج تلك الأرجاء الذاكية ، واستضأنا بسرج تلك الأضواء الزاكية ، ظهر من الشوق ما كان بطن ، ولم يخطر ببالنا سكن ولا وطن ، ويا سعادة من أقام بتلك البقاع الشريفة وقطن : [الكامل]
مرّ النسيم بربعهم فتلذّذا |
|
حتى كأنّ النّشر صار له غذا (٥) |
فصحا وصحّ وصاح لا أشكو أذى |
|
قل للصّبا ما ذا حملت من الشّذا |
أمسست طيبا أم علاك عبير |
||
يا أيها الحادي الذي من وسمه |
|
قصد الحبيب وأن يلمّ برسمه |
__________________
(١) العارفة : العطية.
(٢) السّنن : بفتح السين والنون جميعا ـ الطريق.
(٣) الوهل : الضعف والجبن والفزع.
(٤) الدّخل : الفساد.
(٥) النشر : الريح الطيبة.
هذي منازله فزمزم باسمه |
|
بأبي الذي لم تذو زهرة جسمه |
لكنه غضّ الجمال نضير |
||
لله شوق قد تجاوز حدّه |
|
أوفى على الصّبر المشيد فهدّه |
يا ناشق الكافور لا تتعدّه |
|
طوبى لمشتاق يعفّر خدّه |
في روضة الهادي إليه يشير. |
||
فهناك يبذل في التوسّل وسعه |
|
ويصيخ نحو خطيب طيبة سمعه |
ويريق فوق حصى المصلّى دمعه |
|
ويرى معالم من يحبّ وربعه |
ومحمد للعالمين بشير |
||
صلّى عليه الله خير صلاته |
|
وحبا معاليه جليل صلاته |
ما حنّ ذو الأشواق في حالاته |
|
وأتى مغانيه على علّاته |
فأتيح حسن الختم وهو قرير |
ووقفنا بباب طلب الآمال خاشعين ، وتوسّلنا إلى الله بذلك المقام العليّ خاضعين ، وغبطنا قوما سكنوا هنالك فكانوا لخدودهم متى شاؤوا على تلك الأعتاب واضعين : [من المخمسات]
أكرم بعبد نحو طيبة منتد |
|
متوسّل مستشفع مسترشد (١) |
يفلي الفلاة لها بعزم أيّد |
|
وافى إلى قبر النبيّ محمد (٢) |
ولربعه الأسمى يروح ويغتدي |
||
أزجاه صادق حبّه المتمكّن |
|
وحداه سائق عزمه المتعيّن (٣) |
فحكى لدى شجو حمام الأغصن |
|
هزجا يردّد فيه صوت ملحّن |
ويمدّ للإطراب صوت المنشد |
||
ويقول جئت بعزمة نزّاعة |
|
ونهضت والدنيا تمرّ كساعة |
لمحلّ أحمد قائلا بإذاعة |
|
هذا النبيّ المرتجى لشفاعة |
__________________
(١) في ب : مسند.
(٢) يفلي الفلاة : يشقّ وسطها بالسير. والعزم الأيّد : القوي الشديد.
(٣) أزجاه : ساقه.
يوم القيامة بين ذاك المشهد
هذا الرؤوف بجاره ونزيله |
|
هذا سراج الله في تنزيله |
هذا الذي لا ريب في تفضيله |
|
هذا حبيب الله وابن خليله |
هذا ابن باني البيت أوّل مسجد |
||
هذا الذي اصطفت النّبوّة خيمه |
|
هذا الذي اعتام الهدى تقديمه (١) |
هذا الذي نسقى غدا تسنيمه |
|
هذا الذي جبريل كان خديمه (٢) |
في حضرة التشريف أزكى مصعد |
||
هذا الذي شهد الوجود بخصّه |
|
بمزيّة التفضيل من مختصّه |
وأبانه من وحيه في نصّه |
|
هذا الذي ارتفع البراق بشخصه |
في ليلة الإسراء أشرف مشهد |
||
هذا الذي غدت الطلول حديقة |
|
بجواره وغدت تروق أنيقة |
هذا المكمّل خلقة وخليقة |
|
هذا الذي سمع النداء حقيقة |
ودنا ولم يك قبل ذاك بمبعد |
||
فهناك كم رسل به تتوسّل |
|
وعلى حماه لدى المعاد يعوّل |
يا أرحم الرّحماء أنت الموئل |
|
يا خاتم الإرسال أنت الأول |
فترقّ في أعلى المكارم واصعد |
||
الله رفّع في سراه مناره |
|
وأبان في السّبع العلا أنواره (٣) |
فقفت ملائكة السما آثاره |
|
وأراه جنّته هناك وناره (٤) |
فمؤبّد ومخلّد لمخلّد |
||
كم ذاد من وجل وجلّى ظلمة |
|
وامتنّ بالرّحمى ومتّن حرمة (٥) |
لمّا دجا أفق الضّلالة دهمة |
|
بعث الإله به ليرحم أمّة |
لولاه كانت بالضلالة ترتدي |
__________________
(١) الخيم : بكسر الخاء : الخلق والطبيعة ، واعتام : اختار.
(٢) التسنيم : ماء من مياه الجنة ، وفي القرآن الكريم (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ)
(٣) السّرى : السير ليلا.
(٤) قفت : تبعت.
(٥) ذاد : دفع.
حاز الشّفوف فكلّ خلق دونه |
|
فالغيث يسأل إذ يسيل يمينه (١) |
والشمس تستهدي الشروق جبينه |
|
والله فضّله وأظهر دينه |
ووفى لنا فيه بصدق الموعد |
||
نطقي يغادي ذكره ويراوح |
|
وبه ينافج مسكة وينافح |
تعيي اللسان محامد وممادح |
|
طوبى لمن قد عاش وهو يكافح |
عنه يناضل باللسان وباليد |
||
هو صفوة العرب الألى أحسابهم |
|
أسيافهم قرنت بها أسبابهم (٢) |
فهم لباب المجد وهو لبابهم |
|
من آل بيت لم تزل أنسابهم |
تنبي لهم عن طيب عنصر مولد |
||
شرف النّبوّة قد رسا في أهلها |
|
وسما على الزّهر العلا بمحلّها |
ساق السوابق للفخار برسلها |
|
نطق الكتاب كما علمت بفضلها |
وقضى به نصّ الحديث المسند |
||
فوق السّماك توطّنت وتوطّدت |
|
وتفرّدت بالمصطفى وتوحّدت (٣) |
فهي الخلاصة صفّيت فتجرّدت |
|
من معدن فيه الرسالة قد بدت |
من عصر آدمنا لعصر محمد |
||
طالوا فلم يبقوا لمجد مصعدا |
|
صالوا ففي أيمانهم حتف العدا (٤) |
سئلوا فهم لعفاتهم غيث الجدا |
|
أهل السقاية والرفادة والنّدى |
والكعبة البيت الحرام المقصد |
||
المطعمون وقد طوى ألم الطّوى |
|
الناهضون إذا الصريخ لهم نوى (٥) |
العاطفون إذا الطريق بهم لوى |
|
أهل السّدانة والحجابة واللّوى (٦) |
__________________
(١) الشّفوف : جمع شف ـ بكسر الشين أو فتحها ـ وهو الفضل.
(٢) الألى : الذين.
(٣) السماك : كل ما ارتفع ، والسماكان : نجمان.
(٤) صالوا : عظموا وقووا ، والمصعد : مكان الصعود.
(٥) في ب : طوى المري الطّوى.
(٦) في ب : ثوى بدل لوى.
أهل المقام وزمزم والمسجد
المصلحون إذا الجموع تخاذعت |
|
المنجحون إذا المساعي دافعت (١) |
الدافعون إذا الأعادي قارعت |
|
المؤثرون إذا السّنون تتابعت |
وفد الحجيج بنيل كلّ تفقّد |
||
لا يقرب الخطب الملمّ منيعهم |
|
لا يطرق الكرب المخيف قريعهم |
والله شرّف بالنبيّ جميعهم |
|
من نال رتبتهم وحاز صنيعهم |
نال الشّفوف وحاز معنى السؤدد |
||
حلّوا من الطّود الأشمّ بمنعة |
|
في خير معتصم وأسمى رفعة (٢) |
فهم بمنّة أمنه في هجعة |
|
الله خصّصهم بأشرف بقعة |
محجوجة محفوفة بالأسعد |
||
لمّا أتيت لرامة أصل السّرى |
|
من بعد قصدي مكة أمّ القرى |
أنشدت جهرا فيه أنثر جوهرا |
|
وإليكها يا خير من وطئ الثّرى |
عذراء تزري بالعذارى الخرّد (٣) |
||
كلّ الحسان لحسنها قد أدهشا |
|
ما مثلها في تربها شاد نشا (٤) |
سفرت بعزم ما أجدّ وأطيشا |
|
نشأت بطيّ القلب وارتوت الحشا |
زهراء من يرها يهلّ ويسجد |
||
أمّتك تشؤو في مداها الألسنا |
|
وتري إجادتها المجيد المحسنا (٥) |
تغدو ولا تثني العنان عن الثّنا |
|
وأتتك تمرح كالقضيب إذا انثنى |
مترنّحا بين الغصون الميّد (٦) |
||
قد أعملت في المدح ثاقب ذهنها |
|
ترجو الحلول لدى قرارة أمنها |
__________________
(١) تخاذعت : تدافعت وتقاتلت.
(٢) الطّود : الجبل العظيم المرتفع.
(٣) الخرّد : جمع خريدة ، وهي الفتاة العذراء ، وقصد هنا بالعذراء قصيدته الفذة.
(٤) التّرب : اللدة المساوي في السن. وأصل نشا نشأ ـ بالهمز.
(٥) في ب : تشأى.
(٦) ماد الغصن : اهتز.