نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

الحزن في نفسه ، ولحقه لأجل ذلك علّة اضطرب فيها. وحضر الدفع إلى التجّار ، فحضر الرجل لذلك بنفسه ، فاستبان للمنصور ما بالرجل من المهانة والكآبة ، وفقد ما كان عنده من النشاط وشدّة العارضة ، فسأله المنصور عن شأنه ، فأعلمه بقصّته ، فقال له : هلّا أتيت إلينا بحدثان وقوع الأمر؟ فكنّا نستظهر على الحيلة ، فهل هديت إلى الناحية التي أخذ الطائر إليها؟ قال : مرّ مشرفا على سمت هذا الجبل الذي يلي قصرك ، يعني الرملة ، فدعا المنصور شرطيّه الخاصّ به ، فقال له : جئني بمشيخة أهل الرملة الساعة ، فمضى وجاء بهم سريعا ، فأمرهم بالبحث عمّن غيّر حال الإقلال منهم سريعا ، وانتقل عن الإضافة دون تدريج ، فتناظروا في ذلك ثم قالوا : يا مولانا ، ما نعلم إلّا رجلا من ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم ويتناولون السّبق بأقدامهم عجزا عن شراء دابّة ، فابتاع اليوم دابّة ، واكتسى هو وولده كسوة متوسّطة ، فأمر بإحضاره من الغد ، وأمر التاجر بالغدوّ إلى الباب ، فحضر الرجل بعينه بين يدي المنصور ، فاستدناه والتاجر حاضر ، وقال له : سبب ضاع منّا وسقط إليك ، ما فعلت به؟ قال : هو ذا يا مولاي ، وضرب بيده إلى حجزة (١) سراويله فأخرج الصّرّة بعينها ، فصاح التاجر طربا ، وكاد يطير فرحا ، فقال له المنصور : صف لي حديثها ، فقال : بينا أنا أعمل في جناني (٢) تحت نخلة إذ سقطت أمامي ، فأخذتها وراقني منظرها ، فقلت : إنّ الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار ، فاحترزت بها ، ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة مثاقيل عيونا كانت معها مصرورة ، وقلت : أقلّ ما يكون في كرم مولاي أن يسمح لي بها ، فأعجب المنصور ما كان منه ، وقال للتاجر : خذ صرّتك وانظرها ، واصدقني عن عددها ، ففعل وقال وحقّ رأسك يا مولاي ، ما ضاع منها شيء سوى الدنانير التي ذكرها ، وقد وهبتها له ، فقال له المنصور : نحن أولى بذلك منك ولا ننغص عليك فرحك. ولو لا جمعه بين الإصرار والإقرار لكان ثوابه موفورا عليه ، ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضا من دنانيره ، وللجنّان بعشرة دنانير ثوابا لتأنّيه عن فساد ما وقع بيده ، وقال : لو بدأنا بالاعتراف قبل البحث لأوسعناه جزاء ، قال : فأخذ التاجر في الثناء على المنصور ، وقد عاوده نشاطه وقال : والله لأبثّنّ (٣) في الأقطار عظيم ملكك ، ولأبيّننّ أنّك تملك طير أعمالك كما تملك إنسها ، فلا تعتصم منك ولا تمتنع ، ولا تؤذي جارك ، فضحك المنصور وقال : اقصد في قولك يغفر الله لك ، فعجب الناس من تلطّف المنصور في أمره وحيلته في تفريج كربته.

__________________

(١) الحجزة : موضع شدّ الإزار أو السراويل من وسط الإنسان ، ويكنى بطيب الحجزة عن عفة الإنسان.

(٢) جنان : جمع جنة ، وهي الحديقة.

(٣) في ب : ولأنبئنّ.

٣٢١

ومن ذلك غزوة المنصور لمدينة شنت ياقب قاصية غليسية ، وأعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس ، وما يتّصل بها من الأرض الكبيرة. وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا ، وللكعبة المثل الأعلى ، فبها يحلفون ، وإليها يحجّون من أقصى بلاد رومة وما وراءها ، ويزعمون أنّ القبر المزور فيها قبر ياقب الحواريّ أحد الاثني عشر ، وكان أخصّهم بعيسى ، على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام! وهم يسمّونه أخاه للزومه إيّاه. وياقب بلسانهم يعقوب ، وكان أسقفا ببيت المقدس ، فجعل يستقري الأرضين داعيا لمن فيها حتى انتهى إلى هذه القاصية ، ثم عاد إلى أرض الشام فمات بها ، وله مائة وعشرون سنة شمسية ، فاحتمل أصحابه رمّته (١) ، فدفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أقصى أثره. ولم يطمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها ولا الوصول إليها ، لصعوبة مدخلها ، وخشونة مكانها. وبعد شقّتها. فخرج المنصور إليها من قرطبة غازيا بالصائفة يوم السبت لستّ بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة ، وهي غزوته الثامنة والأربعون. ودخل على مدينة قورية (٢) ، فلمّا وصل إلى مدينة غليسية وافاه عدد عظيم من القوامس المتمسّكين بالطاعة في رجالهم ، وعلى أتمّ احتفالهم ، فصاروا في عسكر المسلمين ، وركبوا في المغاورة (٣) سبيلهم. وكان المنصور تقدّم في إنشاء أسطول كبير في الموضع المعروف بقصر أبي دانس (٤) من ساحل غرب الأندلس ، وجهّزه برجاله البحريّين وصنوف المترجّلين ، وحمل الأقوات والأطعمة والعدد والأسلحة ، استظهارا على نفوذ العزيمة إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويرة ، فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه ، فعقد هنالك من هذا الأسطول جسرا بقرب الحصن الذي هنالك ، ووجّه المنصور ما كان فيه من الميرة إلى الجند ، فتوسّعوا في التزوّد منه إلى أرض العدو. ثم نهض منه يريد شنت ياقب ، فقطع أرضين متباعدة الأقطار ، وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان يمدّها البحر الأخضر. ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة من بلاد فرطارش (٥) وما يتّصل بها ، ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعر لا مسلك فيه ولا طريق ، لم يهتد الأدلّاء إلى سواه. فقدّم المنصور الفعلة بالحديد لتوسعة شعابه وتسهيل مسالكه ، فقطعه العسكر ، وعبروا بعده وادي منية ، وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين أريضة (٦) ، وانتهت

__________________

(١) الرمّة : العظام البالية.

(٢) قورية : مدينة قريبة من ماردة ، لها سور منيع (انظر صفة جزيرة الأندلس صفحة ١٦٤).

(٣) المغاورة : الإغارة.

(٤) قصر أبي دانس : مرسى الأسطول على ساحل البرتغال جنوبي لشبونة.

(٥) في البيان المغرب : فلطارش.

(٦) أريضة : كثيرة العشب.

٣٢٢

مغيرتهم إلى دير قسطان وبسيط بلنبو (١) على البحر المحيط ، وفتحوا حصن شنت بلاية (٢) ، وغنموه ، وعبروا سباحة إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ إليها خلق عظيم من أهل تلك النواحي ، فسبوا من فيها ممّن لجأ إليها. وانتهى العسكر إلى جبل مراسية المتّصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط. فتخلّلوا أقطاره ، واستخرجوا من كان فيه ، وحازوا غنائمه. ثم أجاز المسلمون بعد هذا خليجا في معبرين أرشد الأدلّاء إليهما ، ثم نهر أيلة ، ثم أفضوا إلى بسائط واسعة العمارة كثيرة الفائدة ، ثم انتهوا إلى موضع من مشاهد ياقب صاحب القبر تلو مشهد قبره عند النصارى في الفضل ، يقصد نسّاكهم له من أقاصي بلادهم ومن بلاد القبط والنّوبة وغيرهما ، فغادره المسلمون قاعا. وكان النزول بعده على مدينة شنت ياقب البائسة ، وذلك يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شعبان ، فوجدها المسلمون خالية من أهلها ، فحاز المسلمون غنائمها ، وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها ، وعفّوا آثارها. ووكّل المنصور بقبر ياقب من يحفظه ويدفع الأذى عنه ، وكانت مصانعها بديعة محكمة فغودرت هشيما كأن لم تغن بالأمس ، وانتسفت بعوثه بعد ذلك سائر البسائط ، وانتهت الجيوش إلى مدينة شنت مانكش (٣) منقطع هذا الصقع على البحر المحيط ، وهي غاية لم يبلغها قبلهم مسلم ، ولا وطئها لغير أهلها قدم ، فلم يكن بعدها للخيل مجال ، ولا وراءها انتقال. وانكفأ المنصور عن باب شنت ياقب وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله ، فجعل في طريقه القصد على عمل برمند بن أردون ليستقرّ به عائثا ومفسدا (٤) ، حتى وقع في عمل القوامس المعاهدين الذين في عسكره ، فأمر بالكفّ عنها ، ومرّ مجتازا حتى خرج إلى حصن بليقية (٥) من افتتاحه ، فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم ، وكساهم وكسا رجالهم ، وصرفهم إلى بلادهم ، وكتب بالفتح من بليقية. وكان مبلغ ما كساه في غزاته هذه لملوك الروم ولمن حسن غناؤه من المسلمين ألفين ومائتين وخمسا وثمانين شقّة من صنوف الخزّ الطّرازي ، وأحدا وعشرين كساء من صوف البحر ، وكساءين عنبريّين ، وأحد عشر سقلاطونا ، وخمس عشرة مريّشات (٦) ، وسبعة أنماط ديباج ، وثوبي ديباج روميّ ، وفروي فنك ، ووافى جميع العسكر قرطبة غانما ، وعظمت النعمة والمنّة على المسلمين. ولم يجد المنصور بشنت ياقب إلّا شيخا من الرّهبان جالسا على القبر ، فسأله عن مقامه ، فقال : «أونس يعقوب» ، فأمر بالكفّ عنه.

قال : وحدّث شعلة ، قال : قلت للمنصور ليلة طال سهره فيها : «قد أفرط مولانا في

__________________

(١) في البيان المغرب : بلنبوط.

(٢) عفّوا آثارها : محوها ، دمروها.

(٣) في ب : إلى جزيرة شانت مانكش.

(٤) في ب : ليستقريه عاثئا ومفسدا.

(٥) في ابن عذاري : مليقة ، ولعلها : لميقة.

(٦) في ب : مريشا.

٣٢٣

السهر ، وبدنه يحتاج إلى أكثر من هذا النوم ، وهو أعلم بما يحرّكه عدم النوم من علّة العصب ، فقال : يا شعلة ، الملك لا ينام إذا نامت الرعيّة ، ولو استوفيت نومي لما كان في دور هذا البلد العظيم عين نائمة». انتهى ما نقلته من الكتاب المذكور.

وقد رأيت أن أذكر هنا أخبارا ، نقلتها من كتاب «الأزهار المنثورة ، في الأخبار المأثورة» : قال في الزهرة التاسعة والعشرين : تقدّم إلى المنصور وانزمار بن أبي بكر البرزالي أحد جنود المغاربة ، وقد جلس للعرض والتمييز ، والميدان غاصّ بالناس ، فقال له بكلام يضحك الثّكلى : يا مولاي ، ما لي ولك ، أسكنّي فإني في الفحص ، فقال : وما ذاك يا وانزمار؟ وأين دارك الواسعة الأقطار؟ فقال : أخرجتني عنها والله نعمتك ، أعطيتني من الضياع ما انصبّ عليّ منها من الأطعمة ما ملأ بيوتي وأخرجني عنها ، وأنا بربري مجوّع حديث عهد بالبؤس ، أتراني أبعد القمح عني؟ ليس ذلك من رأيي. فتطلّق المنصور وقال : لله درّك من فذّ عييّ ، لعيّك في شكر النعمة أبلغ عندنا ، وآخذ بقلوبنا من كلام كل أشدق متزيد وبليغ متفنّن ، وأقبل المنصور على من حوله من أهل الأندلس فقال : يا أصحابنا ، هكذا فلتشكر الأيادي وتستدام النعم ، لا ما أنتم عليه من الجحد اللازم ، والتشكّي المبرّح ، وأمر له بأفضل المنازل الخالية.

وفي الموفية ثلاثين ما نصّه : أصبح المنصور صبيحة أحد ، وكان يوم راحة للخدمة (١) الذي أعفوا فيه من قصد الخدمة ، في مطر وابل غبّ أيام مثله ، فقال : هذا يوم لا عهد بمثله ، ولا حيلة للمواظبين لقصدنا في مكابدته ، فليت شعري هل شذّ أحد منهم عن التقرير (٢) فأغرب في البكور؟ اخرج وتأمّل ، يقوله لحاحبه ، فخرج وعاد إليه ضاحكا ، وقال : يا مولاي ، على الباب ثلاثة من البرابرة : أبو الناس بن صالح واثنان معه ، وهم بحال من البلل إنّما توصف بالمشاهدة ، فقال : أوصلهم إليّ وعجّل. فدخلوا عليه في حال الملّاح بللا ونداوة ، فضحك إليهم وأدنى مجلسهم ، وقال خبّروني كيف جئتم؟ وعلى أيّ حال وصلتم؟ وقد استكان كل ذي روح في كنّه (٣) ، ولاذ كل طائر بوكره ، فقال له أبو الناس بكلامه : يا مولانا ، ليس كل التّجّار قعد عن سوقه ، وإذا عذر التجار على طلب الربح بالفلوس فنحن أعذر بإدراكها بالبدر ومن غير رؤوس الأموال ، وهم يتناوبون الأسواق على أقدامهم ويذيلون في قصدها ثيابهم ، ونحن نأتيك على خيلك ، ونذيل على صهواتها ملابسك ، ونجعل الفضل في قصدك مضمونا إذا جعله

__________________

(١) في ب : راحة الخدمة.

(٢) في ب ، ه : التقدير.

(٣) الكن : المكان يستتر به.

٣٢٤

أولئك طمعا ورجاء ، فترى لنا أن نجلس عن سوقنا هذا؟ فضحك المنصور ودعا بالكسا والصّلات ، فدفعت لهم ، وانصرفوا مسرورين بغدوتهم.

وفي الزهرة الرابعة والأربعين ما نصّه : كان بقرطبة على عهد الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر فتى من أهل الأدب قد رقّت حاله في الطلب ، فتعلّق بكتاب العمل ، واختلف إلى الخزانة مدّة ، حتى قلّد بعض الأعمال ، فاستهلك كثيرا من المال ، فلمّا ضمّ إلى الحساب أبرز عليه ثلاثة آلاف دينار ، فرفع خبره إلى المنصور ، فأمر بإحضاره ، فلمّا مثل بين يديه ولزم الإقرار بما برز عليه قال له : يا فاسق ، ما الذي جرّأك على مال السلطان تنتهبه؟ فقال : قضاء غلب الرأي ، وفقر أفسد الأمانة ، فقال المنصور : والله لأجعلنّك نكالا لغيرك ، ليحضر كبل (١) وحدّاد ، فأحضرا ، فكبل الفتى وقال : احملوه إلى السجن ، وأمر الضابط بامتحانه والشدّة عليه ، فلما قام أنشأ يقول : [السريع]

أوّاه أوّاه وكم ذا أرى

أكثر من تكرار أوّاه (٢)

ما لامرىء حول ولا قوّة

الحول والقوة لله

فقال المنصور : ردّوه ، فلما ردّ قال : أتمثلت أم قلت؟ قال : بل قلت ، فقال : حلّوا عنه كبله ، فلمّا حلّ عنه أنشأ يقول : [السريع]

أما ترى عفو أبي عامر

لا بدّ أن تتبعه منّه

كذلك الله إذا ما عفا

عن عبده أدخله الجنّه

فأمر بإطلاقه ، وسوّغه (٣) ذلك المال ، وأبرأه من التبعة فيه.

وفي الخامسة والأربعين : عرض على المنصور بن أبي عامر اسم أحد خدمه في جملة من طال سجنه ، وكان شديد الحقد عليه ، فوقّع على اسمه بأن لا سبيل إلى إطلاقه حتى يلحق بأمّه الهاوية ، وعرّف الرجل بتوقيعه ، فاهتمّ واغتمّ وأجهد نفسه في الدعاء والمناجاة ، فأرق المنصور إثر ذلك ، واستدعى النوم فلم يقدر عليه ، وكان يأتيه عند تنويمه آت كريه الشخص عنيف الأخذ يأمره بإطلاق الرجل ، ويتوعّده على حبسه ، فاستدفع شأنه مرارا إلى أن علم أنّه نذير من ربّه ، فانقاد لأمره ، ودعا بالدواة في مرقده فكتب بإطلاقه ، وقال في كتابه : هذا طليق الله على رغم أنف ابن أبي عامر ، وتحدّث الناس زمانا بما كان منه.

__________________

(١) الكبل : القيد.

(٢) في ب : تذكار أواه.

(٣) سوغه ذلك المال : جعله له سائغا.

٣٢٥

وفي السادسة والأربعين ما نصّه : انتهت هيبة المنصور بن أبي عامر وضبطه للجند واستخدام ذكور الرجال (١) وقوّام الملك إلى غاية لم يصلها ملك قبله ، فكانت مواقفهم في الميدان على احتفاله مثلا في الإطراق ، حتى إنّ الخيل لتتمثّل إطراق فرسانها فلا تكثر الصهيل والحمحمة (٢) ، ولقد وقعت عينه على بارقة سيف قد سلّه بعض الجند بأقصى الميدان لهزل أو جدّ بحيث ظنّ أنّ لحظ المنصور لا يناله ، فقال : عليّ بشاهر السيف ، فمثل بين يديه لوقته ، فقال : ما حملك على أن شهرت سيفك في مكان لا يشهر فيه إلّا عن إذن؟ فقال : إنّي أشرت به إلى صاحبي مغمدا فذلق (٣) من غمده ، فقال : إن مثل هذا لا يسوغ بالدعوى ، وأمر به فضربت عنقه بسيفه ، وطيف برأسه ، ونودي عليه بذنبه انتهى.

وفي السابعة والأربعين : أن المنصور كان به داء في رجله ، واحتاج إلى الكيّ فأمر الذي يكويه بذلك وهو قاعد في موضع مشرف على أهل مملكته ، فجعل يأمر وينهى ويفري الفريّ في أموره ، ورجله تكوى والناس لا يشعرون ، حتى شمّوا رائحة الجلد واللحم ، فتعجّبوا من ذلك وهو غير مكترث.

وأخباره ـ رحمه الله تعالى! ـ تحتمل مجلّدات ، فلنمسك العنان ، على أنّا ذكرنا في الباب الرابع والسادس من هذا الكتاب جملة من أخباره ، رحمه الله تعالى! فلتراجع إلى آخره.

وقال الفتح في المطمح (٤) : وكان ممّا أعين به المنصور على المصحفيّ ميل الوزراء إليه ، وإيثارهم له عليه ، وسعيهم في ترقّيه ، وأخذهم بالعصبيّة فيه ، فإنها وإن لم تكن حميّة أعرابية ، فقد كانت سلفيّة سلطانية ، يقتفي القوم فيها سبيل سلفهم ، ويمنعون بها ابتذال شرفهم ، غادروها سيرة ، وخلّفوها (٥) عادة أثيرة ، تشاحّ الخلف فيها تشاحّ سلفهم أهل الديانة ، وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة ، ورأوا أنّ أحدا لا يلحق فيها غاية ، ولا يتعاقد لها راية. فلمّا اصطفى الحكم المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه ، ووضعه من أثرته حيث وضعه ، وهو نزيع بينهم ونابغ فيهم (٦) ، حسدوه وذمّوه ، وخصّوه بالمطالبة وعمّوه. وكان أسرع صنف (٧) الطائفة من أعالي الوزراء وأعاظم الدولة إلى مهاودة المنصور عليه ، والانحراف عنه إليه ، آل أبي

__________________

(١) ذكور الرجال : أي الأبطال الشجعان.

(٢) الحمحمة : صوت الحصان دون الصهيل.

(٣) في ب : فزلق.

(٤) في ج : وفي الثامنة والأربعين.

(٥) في ج : وتخلقوها.

(٦) في ه : نابع فيهم.

(٧) في ه : أسرع هذه الطائفة.

٣٢٦

عبيدة (١) وآل شهيد وآل فطيس من الخلفاء وأصحاب الرّدافة ، من أولي الشرف والإنافة وكانوا في الوقت أزمّة الملك وقوّام الخدمة ، ومصابيح الأمّة ، وأغير الخلق على جاه وحرمة ، فأحظوا محمد بن أبي عامر مشايعة ، ولبعض أسبابه الجامعة متابعة ، وشادوا بناءه ، وقادوا إلى عنصره سناءه ، حتى بلغ الأمل ، والتحف بمناه واكتحل ، وعند التئام هذه الأمور لابن أبي عامر استكان ، جعفر بن عثمان ، للحادثة ، وأيقن بالنكبة ، وزوال الحال وانتقال الرتبة ، وكفّ عن اعتراض محمد وشركته في التدبير ، وانقبض الناس من الرواح إليه والتبكير. وانثالوا على ابن أبي عامر فخفّ موكبه ، وغار من سماء العزّ كوكبه ، وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه ، إلى أن صار يغدو إلى قرطبة ويروح وليس بيده من الحجابة إلّا اسمها ، وابن أبي عامر مشتمل على رسمها ، حتى محاه ، وهتك ظلّه وأضحاه. قال محمد بن إسماعيل : رأيته يساق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة راجلا فأقبل يدرم ، وجوارحه باللواعج تضطرم ، وواثق الضاغط ينهره ، والزّمع يقهره ، والبهر والسّنّ قد هاضاه ، وقصّرا خطاه ، فسمعته يقول : رفقا بي فستدرك ما تحبّه وتشتهيه ، وترى ما كنت ترتجيه ، ويا ليت أنّ الموت يباع فأغلي سومه ، حتى يرده من أطال عليه حومه ، ثم قال : [الكامل]

لا تأمننّ من الزمان تقلّبا

إنّ الزمان بأهله يتقلّب

ولقد أراني والليوث تخافني

فأخافني من بعد ذاك الثعلب (٢)

حسب الكريم مذلّة ومهانة

أن لا يزال إلى لئيم يطلب

فلمّا بلغ المجلس جلس في آخره دون أن يسلّم على أحد ، أو يومئ إليه بعين أو يد ، فلمّا أخذ مجلسه تسرّع إليه الوزير محمد بن حفص بن جابر فعنّفه واستجفاه ، وأنكر عليه ترك السلام وجفاه ، وجعفر معرض عنه ، إلى أن كثر القول منه ، فقال له : يا هذا ، جهلت المبرّة فاستجهلت معلّمها ، وكفرت النعم فقصدت بالأذى ولم ترهب مقدّمها ، ولو أتيت نكرا ، لكان غيرك أدرى ، وقد وقعت في أمر ما أظنّك تخلص منه ، ولا يسعك السكوت عنه ، ونسيت الأيادي الجميلة ، والمبرّات الجليلة ، فلمّا سمع محمد بن حفص ذلك من قوله قال : هذا البهت بعينه ، وأيّ أياديك الغرّ التي مننت بها وعيّنت أداء واجبها؟ أيد كذا أم يد كذا؟ وعدّد أشياء أنكرها منه أيام إمارته ، وتصرّف الدهر طوع إشارته ، فقال جعفر : هذا ما لا يعرف ، والحق الذي لا يردّ ولا يصرف ، دفعي القطع عن يمناك ، وتبليغي لك إلى مناك ، فأصرّ

__________________

(١) في ب ، ه : آل أبي عبدة.

(٢) الليوث : جمع ليث ، وهو الأسد.

٣٢٧

محمد بن حفص على الجحد ، فقال جعفر : أنشد الله من له علم بما أذكره ، إلّا اعترف به فلا ينكره ، وأنا أحوج إلى السكوت ، ولا تحجب دعوتي فيه عن الملكوت ، فقال الوزير أحمد بن عباس : قد كان بعض ما ذكرته يا أبا الحسن ، وغير هذا أولى بك ، وأنت فيما أنت فيه من محنتك وطلبك ، فقال : أحرجني الرجل ، فتكلّمت ، وأحوجني إلى ما به أعلمت ، فأقبل الوزير ابن جهور على محمد بن حفص وقال : أسأت إلى الحاجب ، وأوجبت عليه غير الواجب ، أو ما علمت أنّ منكوب السلطان لا يسلّم على أوليائه لأنه إن فعل ألزمهم الردّ لقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [النساء : ٨٦] فإن فعلوا طاف بهم من إنكار السلطان ما يخشى ويخاف ؛ لأنه تأنيس لمن أوحش وتأمين لمن أخاف ، وإن تركوا الردّ أسخطوا الله ، فصار الإمساك أحسن ، ومثل هذا لا يخفى على أبي الحسن ، فانكسر ابن حفص ، وخجل ممّا أتى به من النقص. وبلغه أن قوما توجّعوا له ، وتفجّعوا ممّا وصله ، فكتب إليهم : [الطويل]

أحنّ إلى أنفاسكم فأظنّها

بواعث أنفاس الحياة إلى نفسي

وإنّ زمانا صرت فيه مقيّدا

لأثقل من رضوى وأضيق من رمس (١)

انتهى ما ترجم به المنصور بن أبي عامر.

ولنرجع فنقول : ولمّا توفي المنصور قام بالأمر بعده ابنه عبد الملك المظفّر أبو مروان فجرى على سنن أبيه (٢) في السياسة والغزو ، وكانت أيامه أعيادا دامت مدّة سبع سنين وكانت تسمى بالسابع ، تشبيها بسابع العروس ، ولم يزل مثل اسمه مظفرا إلى أن مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة في المحرم ، وقيل : سنة ثمان وتسعين.

وكاتبه المعزّ بن زيري ملك مغراوة بعد أن استرجع فاسا والمغرب إثر موت أبيه ، فكتب له العهد على المغرب ، وثارت الطوائف في ممالكهم ، وتحرّكت الجلالقة لاسترجاع معاقلهم وحصونهم.

قال ابن خلدون (٣) : ثم قام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن ، وتلقّب بالناصر لدين الله ، وقيل : بالمأمون ، وجرى على سنن أبيه وأخيه في الحجر على الخليفة هشام ، والاستبداد عليه ، والاستقلال بالملك دونه. ثم ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة ، فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده ، فأجابه ، وأحضر لذلك الملأ من أرباب الشورى وأهل الحلّ

__________________

(١) الرمس : القبر.

(٢) سنن أبيه : طريقته ونهجه.

(٣) تاريخ ابن خلدون ٤ / ١٤٨.

٣٢٨

والعقد ، فكان يوما مشهودا ، فكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصّه : «هذا ما عهد به هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامّة ، وعاهد الله عليه من نفسه خاصّة ، وأعطى به صفقة يمينه (١) بيعة تامّة ، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة ، وأهمّه ما جعل الله إليه من الإمامة ، وعصب (٢) به من أمر المؤمنين ، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن ، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف ، وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه ، وملجأ تنعطف عليه ، أن يكون يلقى ربّه تبارك وتعالى مفرّطا ساهيا عن أداء الحق إليها ، ونقص (٣) عند ذلك من إحياء قريش وغيرها من يستحقّ أن يسند هذا الأمر إليه ، ويعوّل في القيام به عليه (٤) ، ممّن يستوجبه بدينه وأمانته ، وهديه وصيانته ، بعد اطّراح الهوى ، والتحرّي للحق ، والزّلّفى (٥) إلى الله جلّ جلاله بما يرضيه. وبعد أن قطع الأواصر ، وأسخط الأرقاب ، فلم يجد أحدا أجدر أن يوليه عهده ، ويفوّض إليه الخلافة بعده ، لفضل نفسه وكرم خيمه (٦) وشرف مرتبته وعلوّ منصبه ، مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه ، من المأمون الغيب ، الناصح الجيب ، أبي المطرّف عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر ، وفّقه الله! إذ كان أمير المؤمنين ـ أيّده الله تعالى! ـ قد ابتلاه واختبره ، ونظر في شأنه واعتبره ، فرآه مسارعا في الخيرات ، سابقا في الحلبات (٧) ، مستوليا على الغايات ، جامعا للمأثرات. ومن كان المنصور أباه ، والمظفّر أخاه ، فلا غرو أن يبلغ من سبل البرّ مداه ، ويحوي من خلال الخير ما حواه ، مع أن أمير المؤمنين ـ أيّده الله! ـ بما طالع من مكنون العلم ، ووعاه من مخزون الأثر ، يرى أن يكون وليّ عهده القحطاني الذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال : «لا تقوم السّاعة حتّى يخرج رجل من قحطان يسوق النّاس بعصاه». فلما استوى له الاختبار (٨) ، وتقابلت عنده فيه الآثار ، ولم يجد عنه مذهبا ، ولا إلى غيره معدلا ، خرج إليه من تدبير الأمور في حياته ، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته ، طائعا راضيا مجتهدا ، وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه ، وأنجزه وأنفذه ، ولم يشرط فيه مثنوية (٩)

__________________

(١) أعطى صفقة يمينه : أي أعطى عهده وذمته.

(٢) عصب : قوّى.

(٣) في ب : وتقصّى.

(٤) يعول عليه : يعتمد عليه.

(٥) في ب : والتزلف.

(٦) الخيم ـ بكسر الخاء ـ السجيّة ، الطبيعة.

(٧) الحلبات : جمع حلبة ، وهي المنصة التي تجري عليها المصارعة ونحوها. وأراد ساحة القتال ضد الأعداء.

(٨) في ب ، ه : الاختيار.

(٩) مثنوية : استثناء.

٣٢٩

ولا خيارا ، وأعطى على الوفاء به في سرّه وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه ، وذمّة نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم ، وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه ، وذمّة نفسه ، أن لا يبدّل ولا يغيّر ولا يحوّل ولا يزول. وأشهد الله على ذلك والملائكة ، وكفى بالله شهيدا ، وأشهد من أوقع اسمه في هذا وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور وفّقه الله تعالى ، وقبوله ما قلّده ، وإلزامه نفسه ما ألزمه ، وذلك في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهاداتهم بخطوط أيديهم ، وتسمّى بعدها بوليّ العهد.

ونقم عليه أهل الدولة ذلك ، فكان فيه حتفه ، وانقراض دولته ودولة قومه ، وكان أسرع الناس كراهة لذلك الأمويون والقرشيون ، فغصّوا بأمره ، وأسفوا من تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية ، فاجتمعوا لشأنهم ، وتمشّت من بعض إلى بعض رجالاتهم ، وأجمعوا أمرهم في غيبة من المذكور ببلاد الجلالقة في غزاة من صوائفه ، ووثبوا بصاحب الشرطة فقتلوه بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، وخلعوا هشاما المؤيد.

وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعقاب الخلفاء ، ولقّبوه المهدي بالله ، وطار الخبر إلى عبد الرحمن الحاجب بن المنصور بمكانه من الثغر ، فانفضّ جمعه ، وقفل إلى الحضرة مدلّا بمكانه ، زعيما بنفسه ، حتى إذا قرب من الحضرة تسلّل عنه الناس من الجند ووجوه البربر ، ولحقوا بقرطبة ، وبايعوا المهدي القائم بالأمر ، وأغروه بعبد الرحمن الحاجب ، لكونه ماجنا مستهترا غير صالح للأمر ، فاعترضه منهم من قبض عليه ، واحتزّ رأسه ، وحمله إلى المهدي والي الجماعة.

وذهبت دولة العامريين كأن لم تكن ، ولله عاقبة الأمور.

وفي المهدي يقول بعضهم : [مخلع البسيط]

قد قام مهديّنا ولكن

بملّة الفسق والمجون

وشارك الناس في حريم

لولاه ما زال بالمصون

من كان من قبل ذا أجما

فاليوم قد صار ذا قرون (١)

وكان رؤساء البربر وزناتة لحقوا بالمهديّ لمّا رأوا من سوء تدبير عبد الرحمن وانتقاض أمره. وكانت الأموية تعتدّ عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين ، وتنسب تغلّب المنصور

__________________

(١) الأجمّ : الكبش ليس له قرنان.

٣٣٠

وبنيه (١) على الدولة إليهم ، فسخطتهم القلوب ، وخزرتهم العيون ، ولو لا ما لهم من العصبية لاستأصلهم الناس ، ولغطت ألسنة الدهماء من أهل المدينة بكراهتهم. وأمر المهدي أن لا يركبوا ولا يتسلّحوا ، وردّ بعض رؤسائهم في بعض الأيام من باب القصر ، فانتهبت العامّة دورهم ، وشكا بعضهم إلى المهدي ما أصابهم ، فاعتذر إليهم وقتل من اتّهم من العامّة في أمرهم ، وهو مع ذلك مظهر لبغضهم ، مجاهر بسوء الثناء عليهم. وبلغهم أنّه يريد الفتك بهم ، فتمشّت رجالاتهم ، وأسرّوا نجواهم ، واشتوروا في تقديم هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر ، وفشا في الخاصّة حديثهم ، فعوجلوا عن مرامهم ذلك ، وأغرى بهم السواد الأعظم ، فثاروا بهم ، وأزعجوهم عن المدينة. وتقبض على هشام وأخيه أبي بكر ، وأحضرا بين يدي المهدي ، فضرب أعناقهما. ولحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر ، وقد اجتمعوا بظاهر قرطبة وتوامروا ، فبايعوه ولقّبوه المستعين بالله ، ونهضوا به إلى ثغر طليطلة ، فاستجاش بابن أذفونش (٢) ، ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة ، وبرز إليه المهدي في كافّة أهل البلد وخاصّة الدولة ، فكانت الدائرة عليهم ، واستلحم منهم ما يزيد على عشرين ألفا ، وهلك من خيار الناس وأئمّة المساجد وسدنتها ومؤذّنيها عالم. ودخل المستعين قرطبة ختام المائة الرابعة. ولحق المهديّ بطليطلة. واستجاش بابن أذفونش ثانية ، فنهض معه إلى قرطبة ، وهزم المستعين والبرابرة بعقبة البقر من ظاهر قرطبة ، ودخل قرطبة ـ أعني المهدي ـ وملكها. وخرج المستعين مع البربر ، وتفرّقوا في البسائط ينهبون ولا يبقون على أحد. ثم ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء ، فخرج المهديّ ومعه ابن أذفونش (٣) لاتّباعهم ، فكرّوا عليهم ، فانهزم المهدي وابن أذفونش ومن معه من المسلمين والنصارى ، واتّبعهم المستعين إلى قرطبة ، فأخرج المهدي هشاما المؤيّد للناس ، وبايع له ، وقام بأمر حجابته ، ظنّا منه أنّ ذلك ينفعه ، وهيهات! وحاصرهم المستعين والبربر ، فخشي أهل قرطبة من اقتحامهم عليهم ، فأغروا أهل القصر وحاشية المؤيد بالمهديّ وأنّ الفتنة إنّما جاءت من قبله ، وتولّى كبر ذلك واضح العامري ، فقتلوا المهدي ، واجتمع الكافّة على المؤيّد ، وقام واضح بحجابته. واستمرّ الحصار ، ولم يغن عن أهل قرطبة ما فعلوه شيئا ، إلى أن هلكت القرى والبسائط بقرطبة ، وعدمت المرافق ، وجهدهم الحصار. وبعث المستعين إلى أهل ابن أذفونش يستقدمهم لمظاهرته (٤) ، فبعث إليهم هشام وحاجبه واضح يكفّونهم عن ذلك ، بأن ينزلوا لهم عن ثغور قشتالة التي كان المنصور

__________________

(١) في أ: المنصور وغيره.

(٢) خزره : نظر إليه بلحظ عينه.

(٣) استجاش بابن أذفونش : طلب منه جيشا.

(٤) يستقدمهم لمظاهرته : يطلب منهم القدوم لمساعدته.

٣٣١

افتتحها ، فسكن عن مظاهرتهم عزم أذفونش ، ولم يزل الأمر حتى دخل المستعين قرطبة ومن معه من البربر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة ، وقتل هشام سرّا. ولحق بيوتات قرطبة معرّة في نسائهم وأبنائهم. وظن المستعين أن قد استحكم أمره (١) ، وتوثّبت البرابرة (٢) والعبيد على الأعمال ، فولّوا المدن العظيمة ، وتقلّدوا البلاد الواسعة ، مثل باديس بن حبّوس في غرناطة ، والبرزالي في قرمونة ، واليفرني في رندة ، وخزرون في شريش ، وافترق شمل الجماعة بالأندلس ، وصار الملك طوائف في آخرين من أهل الدولة ، مثل ابن عبّاد بإشبيلية ، وابن الأفطس ببطليوس ، وابن ذي النون بطليطلة ، وابن أبي عامر ببلنسية ، وابن هود بسرقسطة ، ومجاهد العامري بدانية والجزائر.

قال ابن خلدون وكان مائلا لبني حمّود يهجو سليمان المستعين : [السريع]

لا رحم الله سليمانكم

فإنه ضدّ سليمان

ذاك به غلّت شياطينها

وحلّ هذا كلّ شيطان

فباسمه ساحت على أرضنا

لهلك سكان وأوطان

وكان من أعظم الأسباب في فساد دولة المستعين أنه قال هذه الأبيات مستريحا بها إلى خواصّه ، وهي قوله : [الطويل]

حلفت بمن صلّى وصام وكبّرا

لأغمدها فيمن طغى وتجبّرا

وأبصر دين الله تحيا رسومه

فبدّل ما قد كان (٣) منه وغيّرا

فواعجبا من عبشميّ مملّك

برغم العوالي والمعالي تبربرا

فلو أنّ أمري بالخيار نبذتهم

وحاكمتهم للسّيف حكما محرّرا

فإمّا حياة تستلذّ بفقدهم

وإمّا حمام لا نرى فيه ما زرى (٤)

وقد سلك هذا المسلك المرتضى المرواني فقال : [السريع]

قد بلغ البربر فينا بنا

ما أفسد الأحوال والنّظما

كالسّهم للطائر لو لا الذي

فيه من الرّيش لما أصمى

__________________

(١) استحكم أمره : تم واكتمل.

(٢) في ه : وترتبت البرابرة.

(٣) في ب ، ه : فبدل ما قد لاح منها وغيرا.

(٤) في أ: مأزرا ، وهو غير صحيح.

٣٣٢

قوموا بنا في شأنهم قومة

تزيل عنّا العار والرّغما

إمّا بها نملك ، أو لا نرى

ما يرجع الطّرف به أعمى

وكان علي بن حمّود الحسني وأخوه قاسم من عقب إدريس ملك فاس وبانيها قد أجازوا مع البربر من العدوة إلى الأندلس ، فدعوا لأنفسهم ، واعصوصب عليهم البربر (١) ، فملكوا قرطبة سنة سبع وأربعمائة ، وقتلوا المستعين ، ومحوا ملك بني أمية ، واتّصل ذلك في خلف منهم سبع سنين ، ثم رجع الملك إلى بني أميّة.

وكان المستعين المذكور أديبا بليغا ، ومن شعره يعارض هارون الرشيد في قوله : [الكامل]

ملك الثلاث الآنسات عناني

الأبيات ـ قوله : [الكامل]

عجبا يهاب الليث حدّ سناني

وأهاب لحظ (٢) فواتر الأجفان

وأقارع الأهوال لا متهيّبا

منها سوى الإعراض والهجران

وتملّكت نفسي ثلاث كالدّمى

زهر الرجوه نواعم الأبدان (٣)

ككواكب الظّلماء لحن لناظري

من فوق أغصان على كثبان

حاكمت فيهنّ السلوّ إلى الهوى (٤)

فقضى بسلطان على سلطاني

هذي الهلال ، وتلك بنت المشتري

حسنا ، وهذي أخت غصن البان

فأبحن من قلبي الحمى وتركنني

في عزّ ملكي كالأسير العاني (٥)

لا تعذلوا ملكا تذلّل في الهوى

ذلّ الهوى عزّ وملك ثاني

ما ضرّ أنّي عبدهنّ صبابة

وبنو الزمان وهنّ من عبداني

إن لم أطع فيهنّ سلطان الهوى

كلفا بهنّ فلست من مروان

وولي الأمر بعده علي بن حمّود الحسني ؛ تلقّب بالناصر ، وخرج عليه العبيد وبعض

__________________

(١) اعصوصب عليهم البربر تجمعوا ، وصاروا عصبة.

(٢) في ب ، ه : سحر.

(٣) الدمى : جمع دمية ، وهي التمثال ، وتشبه المرأة الجميلة بالدمية.

(٤) في ب : الرضى.

(٥) العاني : الأسير.

٣٣٣

المغاربة ، وبايعوا المرتضى أخا المهدي ، ثم اغتيل المرتضى ، واستقام الملك لعلي بن حمّود نحو عامين ، إلى أن قتلته صقالبته بالحمّام سنة ثمان وأربعمائة ، فولي مكانه أخوه القاسم ، وتلقّب بالمأمون ، ونازعه الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن أخيه ، وكان على سبتة ، فأجاز إلى الأندلس سنة عشر ، واحتلّ بمالقة وكان أخوه إدريس بها منذ عهد أبيهما ، فبعثه إلى سبتة ، ثم زحف يحيى إلى قرطبة فملكها سنة ثنتي عشرة وأربعمائة ، وتلقب المعتلي ، وفرّ عمّه المأمون إلى إشبيلية وبايع له القاضي ابن عباد ، واستجاش بعض البرابرة ، ثم رجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة وملكها ، ثم لحق المعتلي بمكانه من مالقة ، وتغلّب على الجزيرة الخضراء ، وتغلّب أخوه إدريس على طنجة من وراء البحر ، وكان المأمون يعتدّها حصنا لنفسه ، وفيها ذخائره ، فلمّا بلغه الخبر اضطرب ، وثار عليه أهل قرطبة ، ونقضوا طاعته ، وخرج فحاصرهم فدافعوه ، ولحق بإشبيلية فمنعوه ، وكان بها ابنه فأخرجوه إليه ، وضبطوا بلدهم ، واستبدّ ابن عباد بملكها ، ولحق المأمون بشريش ، ورجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه ، فبايعوه سنة خمس عشرة ، وزحف إلى عمّه المأمون فتغلّب عليه ولم يزل عنده أسيرا وعند أخيه إدريس بمالقة إلى أن هلك بمحبسه سنة سبع وعشرين ، وقيل : إنه خنق كما سيأتي ، واستقلّ المعتلي بالأمر ، واعتقل بني عمّه القاسم. وكان المستكفي من الأمويين استولى على قرطبة في هذه المدّة عندما أخرج أهلها العلوية ، ثم خلع أهل قرطبة المستكفي الأموي سنة ست عشرة ، وصاروا إلى طاعة المعتلي ، واستعمل عليهم ابن عطّاف من قبله ، ثم نقضوا سنة سبع عشرة ، وصرفوا عاملهم ، وبايعوا للمعتدّ بالله الأموي أخي المرتضى ، وبقي المعتلي يردّد لحصارهم العساكر إلى أن اتفقت الكلمة على إسلام الحصون والمدائن له ، فعلا سلطانه ، واشتدّ أمره إلى أن هلك سنة تسع وعشرين ؛ اغتاله أصحابه بدسيسة ابن عبّاد الثائر بإشبيلية ، فاستدعى أصحابه أخاه إدريس بن علي [بن حمّود] من سبتة ، وملّكوه ، ولقّبوه المتأيّد ، وبايعته رندة وأعمالها وألمريّة والجزيرة الخضراء ، وبعث عساكره لحرب أبي القاسم إسماعيل بن عبّاد والد المعتضد بن عباد ، فجاؤوه برأسه بعد حروب ، وهلك ليومين بعد ذلك سنة إحدى وثلاثين ، وبويع ابنه يحيى ، ولم يتمّ له أمر ، وبويع حسن المستنصر بن المعتلي ، وفرّ يحيى إلى قمارش فهلك بها سنة أربع وثلاثين ، ويقال : إنه قتله نجا ، وهلك حسن مسموما بيد ابنة عمه إدريس ، ثأرت منه بأخيها ، وكان إدريس بن يحيى المعتلي معتقلا بمالقة فأخرج بعد خطوب وبويع بها ، فأطاعته غرناطة وقرمونة ، ولقّب العالي ، وهو الممدوح بالقصيدة المشهورة بالمغرب التي قالها فيه أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا القبذاقي (١) الأشبوني من شعراء الذخيرة ، وهي : [الرمل]

__________________

(١) في أ: الفنداقي.

٣٣٤

ألبرق لائح من أندرين

ذرفت عيناك بالماء المعين

لعبت أسيافه عارية

كمخاريق (١) بأيدي اللّاعبين

ولصوت الرّعد زجر وحنين

ولقلبي زفرات وأنين

وأناجي في الدّجى عاذلتي

ويك لا أسمع قول العاذلين (٢)

عيّرتني بسقام وضنى

إنّ هذين لدين العاشقين

قد بدا لي وضح الصّبح المبين

فاسقنيها قبل تكبير الأذين

اسقنيها مزّة مشمولة

لبثت في دنّها بضع سنين (٣)

نثر المزج على مفرقها

دررا عامت فعادت كالبرين

مع فتيان كرام نجب

يتهادون رياحين المجون

شربوا الراح على خدّ رشا

نوّر الورد به والياسمين (٤)

وجلت آياته عامدة

سبج الشّعر على عاج الجبين

لوت الصّدغ على جاجبه

ضمّة اللّام على عطفة نون

فترى غصنا على دعص نقا

وترى ليلا على صبح مبين (٥)

وسيسقون إذا ما شربوا

بأباريق وكأس من معين

ومصابيح الدّجى قد طفئت

في بقايا من سواد الليل جون (٦)

وكأنّ الظّلّ مسك في الثّرى

وكأنّ الطّلّ درّ في الغصون

والنّدى يقطر من نرجسه

كدموع أسبلتهنّ (٧) الجفون

والثريّا قد هوت من أفقها

كقضيب زاهر من ياسمين

وانبرى جنح الدّجى عن صبحه

كغراب طار عن بيض كنين

__________________

(١) المخاريق ، جمع مخراق ، وهو السيف.

(٢) ويك : ويلك. والعاذلون : اللائمون.

(٣) الخمر المزّة بضمّ الميم ما كان طعمها بين الحلو والحامض. والدن : وعاء للخمر كبير.

(٤) الراح : الخمر. رشا : أصلها رشأ ، خففت الهمزة. والرشأ : ولد الغزالة إذا قوي على المشي وتشبه العرب الغلام والفتاة بالرشأ. ونوّر الورد : أزهر.

(٥) الدّعص : تل الرمل المجتمع المستدير.

(٦) ليل جون : ليل أسود.

(٧) في أ: أسكبتهن الجفون ، ولعله تصحيف.

٣٣٥

وكأنّ الشّمس لمّا أشرقت

فانثنت عنها عيون الناظرين

وجه إدريس بن يحيى بن عليّ

ابن حمّود أمير المؤمنين

ملك ذو هيبة لكنّه

خاشع لله ربّ العالمين

خطّ بالمسك على أبوابه :

ادخلوها بسلام آمنين

فإذا ما رفعت راياته

خفقت بين جناحي جبرئين (١)

وإذا أشكل خطب معضل

صدع الشّكّ بمصباح اليقين (٢)

فبيسراه يسار المعسرين

وبيمناه لواء السابقين

يا بني أحمد ، يا خير الورى

لأبيكم كان وفد المسلمين

نزل الوحي عليه فاحتبى

في الدّجى فوقهم الرّوح الأمين (٣)

خلقوا من ماء عدل وتقى

وجميع الناس من ماء وطين

انظرونا نقتبس من نوركم

إنّه من نور ربّ العالمين

وقيل : إنه أنشده إياها من وراء حجاب اقتفاء لطريقة خلفاء بني العباس ، فلما بلغ إلى قوله :

انظرونا نقتبس من نوركم

إنه من نور ربّ العالمين

أمر حاجبه أن يرفع الحجاب ، وقابل وجهه وجه الشاعر دون حجاب ، وأمر له بإحسان جزيل ، فكان هذا من أنبل ما يحكى عنه.

وخلع العالي سنة ثمان وثلاثين ، وولي ابن عمّه محمد بن إدريس بن علي ، وتلقّب بالمهدي ، وتوفي سنة أربع وأربعين.

وبويع إدريس بن يحيى بن إدريس ، ولقّب الموفّق ، ولم يخطب له بالخلافة وزحف إليه العالي إدريس المخلوع الممدوح بالقصيدة السابقة ، وكان بقمارش ، فدخل عليه مالقة ، وأطلق أيدي عبيده عليها لحقده عليهم ، ففرّ كثير منهم ، وتوفي العالي سنة ستّ أو سبع وأربعين.

وبويع محمد بن إدريس ، ولقّب المستعلي ، ثم سار إليه باديس بن حبّوس سنة تسع

__________________

(١) جبرئين : لغة في جبرائيل.

(٢) الخطب المعضل : المصيبة التي لا يهتدى إلى حلها.

(٣) الروح الأمين : جبريل.

٣٣٦

وأربعين وأربعمائة ، فتغلّب على مالقة ، وسار محمد إلى ألمريّة مخلوعا ، ثم استدعاه أهل المغرب إلى مليلة فأجاز إليهم وبايعوه سنة ست وخمسين ، وتوفي سنة ستّين.

وكان محمد بن القاسم بن حمّود لمّا اعتقل أبوه القاسم بمالقة سنة أربع عشرة فرّ من الاعتقال ولحق بالجزيرة الخضراء وملكها ، وتلقّب بالمعتصم ، إلى أن هلك سنة أربعين. ثم ملكها بعده ابنه القاسم الواثق ، إلى أن هلك سنة خمسين ، وصارت الجزيرة للمعتضد بن عبّاد ، ومالقة لابن حبوس مزاحما لابن عباد.

وانقرضت دولة الأشراف الحمّوديين من الأندلس ، بعد أن كانوا يدّعون الخلافة.

وأما قرطبة فإن أهلها لمّا قطعوا دعوة الحمّوديين بعد سبع سنين من ملكهم وزحف إليهم القاسم بن حمّود في البربر ، فهزمهم أهل قرطبة ، ثم اجتمعوا واتّفقوا على ردّ الأمر لبني أميّة ، واختاروا لذلك عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبّار أخا المهدي ، وبايعوه في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة ، ولقّبوه المستظهر وقاموا بأمره ، ومن شعره قوله : [مجزوء الرمل]

طال عمر الليل عندي

مذ تولّعت بصدّي

يا غزالا نقض العه

د ولم يوف بوعد

أنسيت العهد إذ بت

نا على مفرش ورد

واجتمعنا في وشاح

وانتظمنا نظم عقد

ونجوم الليل تحكي

ذهبا في لازورد (١)

قال الحجاري : لو قال «لؤلؤا في لازورد» لكان أحسن تشبيها ، وأنشد متمثلا : [مجزوء الكامل]

إنّا عصابتك الألى

كنّا نكابد ما تكابد

هذا أوان بلوغنا الن

عمى وإنجاز المواعد

وكان حسان بن أبي عبدة (٢) من وزراء المستظهر ، ولمّا أكثر المستظهر دونه الاستبداد كتب إليه بقوله : [الطويل]

__________________

(١) تحكي : تشبه. واللازورد : معدن شهير ، أشهر أنواعه الشفّاف الصافي الأزرق الضارب إلى خضرة وحمرة.

(٢) هو حسان بن مالك بن أبي عبدة الوزير ، أحد أئمة الأدب واللغة ، توفي قبل سنة ٤٢٠ ه‍. (المطمح صفحة ٢٦ ، والبغية صفحة ٦٦٢).

٣٣٧

إذا غبت لم أحضر ، وإن جئت لم أسل

فسيّان منّي مشهد ومغيب

فأصبحت تيميّا ، وما كنت قبلها

لتيم ، ولكنّ الشّبيه نسيب

يشير إلى قول الأول : [الوافر]

ويقضى الأمر حين تغيب تيم

ولا يستأذنون وهم شهود

وعاتبه أيضا بقوله : [الطويل]

إذا كان مثلي لا يجازى بصبره

فمن ذا الذي بعدي يجازى على الصّبر

وكم مشهد حاربت فيه عدوّكم

وأمّلت في حربي له راحة الدّهر

أخوض إلى أعدائكم لجج الوغى

وأسري إليهم حيث لا أحد يسري

وقد نام عنهم كلّ مستبطن الحشا

أكول إلى الممسى نؤوم إلى الظّهر

فما بال هذا الأمر أصبح ضائعا

وأنت أمين الله تحكم في الأمر

وسيأتي إن شاء الله تعالى من كلام الوزير المذكور ما يدلّ على عظيم قدره ، وهناك نذكر تحلية الفتح له.

ثم ثار عليه لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله ، فاتّبعه الغوغاء ، وفتك بالمستظهر ، وتلقّب بالمستكفي ، واستقلّ بأمر قرطبة ، وهو والد الأديبة الشهيرة ولّادة ، ولعلّنا نلمّ ببعض أخبارها إن شاء الله تعالى فيما بعد ، وكان أبوه عبد الرحمن قتله المنصور بن أبي عامر لسعيه في الخلافة.

ثم بعد ستة عشر شهرا من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى المعتلي يحيى بن علي بن حمّود سنة ست عشرة ، وخلع أهل قرطبة المستكفي ، وولّى عليهم المعتلي من قبله ، وفرّ المستكفي إلى ناحية الثغر ، ومات في مفرّه ، ثم بدا لأهل قرطبة فخلعوا المعتلي بن حمّود سنة سبع عشرة ، وبايع الوزير أبو محمد جهور بن محمد بن جهور عميد الجماعة وكبير قرطبة لهشام بن محمد أخي المرتضى ، وكان بالثغر في لاردة عند ابن هود ، وذلك سنة ثماني عشرة ، وتلقّب المعتدّ بالله ، وأقام متردّدا في الثغر ثلاثة أعوام ، واشتدّت الفتن بين رؤساء الطوائف ، واتّفقوا على أن ينزل دار الخلافة بقرطبة ، فاستقدمه ابن جهور والجماعة ، ونزلها آخر سنة عشرين ، وأقام بها يسيرا ، ثم خلعه الجند سنة ثنتين وعشرين ، وفرّ إلى لاردة فهلك بها سنة ثمان وعشرين.

وانقطعت الدولة الأموية من الأرض ، وانتثر سلك الخلافة بالمغرب ، وقام الطوائف بعد

٣٣٨

انقراض الخلائف ، وانتزى (١) الأمراء والرؤساء من البربر والعرب والموالي بالجهات ، واقتسموا خطّتها ، وتغلّب بعض على بعض ، واستقلّ أخيرا بأمرها منهم ملوك استفحل أمرهم وعظم شأنهم ، ولاذوا بالجزى (٢) للطاغية أن يظاهر عليهم أو يبتزّهم ملكهم ، وأقاموا على ذلك برهة من الزمان ، حتى قطع إليهم البحر ملك العدوة وصاحب مراكش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللّمتوني ، فخلعهم ، وأخلى منهم الأرض.

فمن أشهرهم بنو عبّاد ملوك إشبيلية وغرب الأندلس الذين منهم المعتمد بن عباد الشهير الذكر بالمغرب والمشرق ، وفي الذخيرة والقلائد من أخباره ما هو كاف شاف.

ومنهم بنو جهور ، كانوا بقرطبة في صورة الوزارة ، حتى استولى عليهم المعتمد بن عبّاد ، وأخذ قرطبة ، وجعل عليها ولده ، ثم كانت له وعليه حروب وخطوب ، وفرّق أبناءه على قواعد الملك ، وأنزلهم بها ، واستفحل أمره بغرب الأندلس ، وعلت يده على من كان هنالك من ملوك الطوائف ، مثل ابن حبّوس (٣) بغرناطة ، وابن الأفطس ببطليوس ، وابن صمادح بالمريّة ، وغيرهم ، فكانوا يخطبون سلمه ، ويغلون في مرضاته ، وكلّهم يدارون الطاغية ويتّقونه بالجزى ، إلى أن ظهر يوسف بن تاشفين ، واستفحل ملكه ، فتعلّقت آمال الأندلس بإعانته ، وضايقهم الطاغية في طلب الجزية ، فقتل المعتمد اليهوديّ الذي جاء في طلب الجزية للطاغية ، بسبب كلمة قالها آسفه بها. ثم أجاز البحر صريخا إلى يوسف بن تاشفين ، فأجاز معه البحر ، والتقوا مع الطاغية في الزلّاقة ، فكانت الهزيمة المشهورة على النصارى ، ونصر الله تعالى الإسلام نصرا لا كفاء له ، حتى قال بعض المؤرّخين : إنه كان عدد النصارى ثلاثمائة ألف ، ولم ينج منهم إلّا القليل ، وصبر فيها المعتمد صبر الكرام ، وكان قد أعطى يوسف بن تاشفين الجزيرة الخضراء ليتمكّن من الجواز متى شاء ، ثم طلب الفقهاء بالأندلس من يوسف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عنهم ، فتقدّم بذلك إلى ملوك الطوائف ، فأجابوه بالامتثال ، حتى إذا رجع من بلادهم رجعوا إلى حالهم ، وهو خلال ذلك يردّد عساكره للجهاد ، ثم أجاز إليهم وخلع جميعهم ، ونازلت عساكره جميع بلادهم ، واستولى على قرطبة وإشبيلية وبطليوس وغرناطة وغيرها ، وصار المعتمد بن عباد كبير ملوك الأندلس في قبضته أسيرا بعد حروب ، ونقله إلى أغمات قرب مراكش سنة أربع وثمانين وأربعمائة ، واعتقله هنالك إلى أن مات سنة

__________________

(١) انتزى : وثب.

(٢) الجزى : جمع جزية ، وهي هنا الضريبة.

(٣) في ج : مثل ابن باديس.

٣٣٩

ثمان وثمانين. وسنلمّ بما قاله الوزير لسان الدين بن الخطيب فيه لمّا (١) زار قبره.

وللمعتمد هذا أخبار مأثورة خصوصا مع زوجته أمّ أولاده الرميكية الملقّبة باعتماد ، وقد روي أنها رأت ذات يوم بإشبيلية نساء البادية يبعن اللبن في القرب وهنّ رافعات عن سوقهنّ في الطين ، فقالت له : [يا سيدي] أشتهي أن أفعل أنا وجواريّ مثل هؤلاء النساء ، فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد ، وصيّر الجميع طينا في القصر ، وجعل لها قربا وحبالا من إبريسم (٢) ، وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين ، فيقال : إنه لمّا خلع وكانت تتكلّم معه مرّة فجرى بينهما ما يجري بين الزوجين ، فقالت له : والله ما رأيت منك خيرا ، فقال لها : ولا يوم الطين؟ تذكيرا لها بهذا اليوم الذي أباد فيه من الأموال ما لا يعلمه إلّا الله تعالى ، فاستحيت وسكتت.

وولي بعده غير من تقدّم بنو رزين أصحاب السّهلة ، وبنو الفهري أصحاب البونت ، وتغلّب عليهما أخيرا يوسف بن تاشفين.

ومن أعظم ملوك الطوائف بنو ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي ، وكانت لهم دولة كبيرة ، وبلغوا في البذخ والتّرف إلى الغاية ، ولهم الإعذار المشهور الذي يقال له «الإعذار الذّنّوني» وبه يضرب المثل عند أهل المغرب ، وهو عندهم بمثابة عرس بوران عند أهل المشرق ، والمأمون من بني ذي النون هو صاحب ذلك ، وهو الذي عظم بين ملوك الطوائف سلطانه ، وكان بينه وبين الطاغية مواقف مشهورة ، وغلب على قرطبة ، وملكها من يد ابن عبّاد المعتمد ، وقتل ابنه أبا عمرو ، وغلب أيضا على بلنسية وأخذها من يد بني ابن أبي عامر.

وفي أيام حافد المأمون ـ وهو القادر بن ذي النون ـ كان الطاغية ابن أذفونش قد استفحل أمره ، لمّا خلا الجوّ من مكان الدولة الخلافية ، وخفّ ما كان على كاهله من إصر العرب ، فاكتسح البسائط ، وضايق ابن ذي النون ، حتى أخذ من يده طليطلة ، فخرج له عنها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة كما سبق ، وشرط عليه أن يظاهره على أهل بلنسية ، فقبل شرطه ، وتسلّمها ابن ألفونش ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

ومن أعظم ملوك الأندلس الموالي العامريون مثل خيران وزهير وأشباههما. وأخبار الجميع تطول.

__________________

(١) في ب : حين.

(٢) الإبريسم : الحرير.

٣٤٠