نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

ولنبسط الكلام على الحكم فنقول : إن الحكم المستنصر اعتلى سرير الملك ثاني يوم وفاة أبيه يوم الخميس ، وقام بأعباء الملك أتمّ قيام ، وأنفذ الكتب إلى الآفاق بتمام الأمر له ، ودعا الناس إلى بيعته ، واستقبل من يومه النظر في تمهيد سلطانه ، وتثقيف مملكته ، وضبط قصوره ، وترتيب أجناده ، وأوّل ما أخذ البيعة على صقالبة قصره الفتيان المعروفين بالخلفاء الأكابر ، كجعفر صاحب الخيل والطراز وغيره من عظمائهم ، وتكفّلوا بأخذها على من وراءهم وتحت أيديهم من طبقتهم وغيرهم ، وأوصل إلى نفسه في الليل دون هؤلاء الأكابر من الكتّاب والوصفاء والمقدمين والعرفاء ، فبايعوه ، فلمّا كملت بيعة أهل القصر تقدّم إلى عظيم دولته جعفر بن عثمان بالنهوض إلى أخيه شقيقه أبي مروان عبيد الله المتخلّف بأن يلزمه الحضور للبيعة دون معذرة ، وتقدّم إلى موسى بن أحمد بن حدير بالنهوض أيضا إلى أبي الأصبغ عبد العزيز شقيقه الثاني ، فمضى إليهما كلّ واحد منهما في قطيع من الجند ، وأتيا بهما إلى قصر مدينة الزهراء ، ونفذ غيرهما من وجوه الرجال في الخيل لإتيان غيرهما من الإخوة ، وكانوا يومئذ ثمانية ، فوافى جميعهم الزهراء في الليل ، فنزلوا في مراتبهم بفصلان (١) دار الملك ، وقعدوا في المجلسين الشرقي والغربي ، وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الأوسط من الأبهاء المذهبة القبلية التي في السطح الممرّد (٢) ، فأوّل من وصل إليه الإخوة فبايعوه ، وأنصتوا لصحيفة البيعة ، والتزموا الأيمان المنصوصة بكل ما انعقد فيها ، ثم بايع بعدهم الوزراء وأولادهم وإخوتهم ، ثم أصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة ، وقعد الإخوة والوزراء والوجوه عن يمينه وشماله ، إلّا عيسى بن فطيس فإنه كان قائما يأخذ البيعة على الناس ، وقام الترتيب على الرسم في مجالس الاحتفال المعروفة ، فاصطفّ في المجلس الذي قعد فيه أكابر الفتيان يمينا وشمالا إلى آخر البهو كلّ منهم على قدره في المنزلة ، عليهم الظهائر (٣) البيض شعار الحزن ، قد تقلّدوا فوقها السيوف ، ثم تلاهم الفتيان الوصفاء ، عليهم الدروع السابغة (٤) والسيوف الحالية (٥) صفّين منتظمين في السطح ، وفي الفصلان المتّصلة به ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة الخصيان لابسين البياض ، بأيديهم السيوف ، يتّصل بهم من دونهم من طبقات الخصيان الصقالبة ، ثم تلاهم الرماة متنكّبين قسيّهم وجعابهم ، ثم وصلت

__________________

(١) الفصلان : جمع فصيل ، وهو الرحبة عند مدخل البيت.

(٢) المرد : المملس المسوّى. وقد ورد في التنزيل الحكيم (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ).

(٣) الظهائر : جمع ظهارة ، وهي من الثوب ظاهره ، خلاف بطانته.

(٤) الدروع السابغة : الطويلة الوافية.

(٥) السيوف الحالية : المرصعة بالحلي.

٣٠١

صفوف هؤلاء الخصيان الصقالبة صفوف العبيد الفحول شاكين في الأسلحة الرائقة والعدّة الكاملة ، وقامت التعبية في دار الجند والترتيب من رجّالة العبيد عليهم الجواشن والأقبية البيض ، وعلى رؤوسهم البيضات الصّقلبية (١) ، وبأيديهم التّراس الملوّنة والأسلحة المزيّنة ، انتظموا صفّين إلى آخر الفصل ، وعلى باب السّدّة الأعظم البوّابون وأعوانهم ، ومن خارج باب السّدّة فرسان العبيد إلى باب الأقباء (٢) ، واتّصل بهم فرسان الحشم وطبقات الجند والعبيد والرماة ، موكبا إثر موكب ، إلى باب المدينة الشارع إلى الصحراء ، فلمّا تمّت البيعة أذن للناس بالانفضاض ، إلّا الإخوة والوزراء وأهل الخدمة فإنهم مكثوا بقصر الزهراء إلى أن احتمل جسد الناصر ـ رحمه الله! ـ إلى قصر قرطبة للدفن هنالك في تربة الخلفاء.

وفي ذي الحجة من سنة خمسين تكاثرت الوفود بباب الخليفة الحكم من البلاد للبيعة والتماس المطالب ، من أهل طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس وأصقاعها ، فتوصلوا إلى مجلس الخليفة بمحضر جميع الوزراء والقاضي منذر بن سعيد والملأ (٣) ، فأخذت عليهم البيعة ، ووقّعت الشهادات في نسخها.

وفي آخر صفر من سنة إحدى وخمسين أخرج الخليفة الحكم المستنصر بالله مولييه محمدا وزيادا ابني أفلح الناصري بكتيبة من الحشم لتلقّي غالب الناصر يالذي خرجوا إليه (٤) صاحب مدينة سالم المورد للطاغية أردون بن أذفونش الخبيث في الدولة المتملّك على طوائف من أمم الجلالقة والمنازع لابن عمّه المملّك قبله شانجه بن ردمير ، وتبرّع هذا اللعين أردون بالمسير إلى باب المستنصر بالله من ذاته ، غير طالب إذن ولا مستظهر بعهد ، وذلك عندما بلغه اعتزام الحكم المستنصر بالله في عامه ذلك على الغزو إليه ، وأخذه في التأهّب له ، فاحتال في تأميل المستنصر بالله والارتماء عليه ، وخرج قبل أمان يفقد له أو ذمّة تعصمه في عشرين رجلا من وجوه أصحابه ، تكنّفهم غالب الناصري الذي خرجوا إليه ، فجاء به نحو مولاه الحكم ، وتلقّاهم ابنا أفلح بالجيش المذكور فأنزلاهم ، ثم تحرّكا بهم ثاني يوم نزولهم إلى قرطبة ، فأخرج المستنصر بالله إليهم هشاما المصحفيّ في جيش عظيم كامل التعبية ، وتقدّموا إلى باب قرطبة ، فمرّوا بباب قصرها ، فلمّا انتهى أردون إلى ما بين باب السّدة وباب الجنان سأل عن مكان رمس (٥) الناصر لدين الله فأشير إلى ما يوازي موضعه من داخل القصر في الروضة ، فخلع

__________________

(١) في ب الصقيلة.

(٢) الأقباء : جمع قبو ، وهو البناء المقوس بعضه إلى بعض.

(٣) الملأ : هنا وجوه القوم وأصحاب الرأي والمشهورة.

(٤) الذي خرجوا إليه : ساقطة في ب.

(٥) الرمس : القبر.

٣٠٢

قلنسوته ، وخضع نحو مكان القبر ، ودعا ، ثم ردّ قلنسوته إلى رأسه. وأمر المستنصر بإنزال أردون في دار الناعورة ، وقد كان تقدّم في فرشها بضروب الغطاء والوطاء ، وانتهى من ذلك إلى الغاية ، وتوسّع له في الكرامة ولأصحابه ، فأقام بها الخميس والجمعة ، فلمّا كان يوم السبت تقدّم المستنصر بالله باستدعاء أردون ومن معه بعد إقامة الترتيب وتعبية الجيوش والاحتفال في ذلك من العدد والأسلحة والزينة ، وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في المجلس الشرقي من مجالس السطح ، وقعد الإخوة وبنوهم والوزراء ونظراؤهم صفّا في المجلس ، فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكّام والفقهاء ، فأتى محمد بن القاسم بن طملس (١) بالملك أردون وأصحابه وعالي لبوسه ثوب ديباجي روميّ أبيض ويلبوال من جنسه وفي لونه ، وعلى رأسه قلنسوة رومية منظومة بجوهر ، وقد حفته جماعة من نصارى وجوه الذمّة بالأندلس يؤنسونه ويبصرونه ، فيهم وليد بن حيزون (٢) قاضي النصارى بقرطبة وعبيد الله بن قاسم مطران طليطلة وغيرهما ، فدخل بين صفّي الترتيب يقلّب الطّرف في نظم الصفوف ، ويجيل الفكر في كثرتها وتظاهر أسلحتها ورائق حليتها ، فراعهم ما أبصروه ، وصلّبوا على وجوههم ، وتأمّلوا ناكسي رؤوسهم غاضّين من أجفانهم قد سكّرت أبصارهم (٣) حتى وصلوا إلى باب الأقباء أوّل باب قصر الزهراء ، فترجّل جميع من كان خرج إلى لقائه ، وتقدّم الملك أردون وخاصّة قوامسه على دوابّهم ، حتى انتهوا إلى باب السّدّة ، فأمر القوامس بالترجّل هنالك والمشي على الأقدام ، فترجّلوا.

ودخل الملك أردون وحده راكبا مع محمد بن طملس ، فأنزل في برطل (٤) البهو الأوسط من الأبهاء القبلية التي بدار الجند على كرسي مرتفع مكسوّ الأوصال بالفضة ، وفي هذا المكان بعينه نزل قبله عدوّه ومناوئه شانجه بن ردمير الوافد على الناصر لدين الله ـ رحمه الله تعالى! ـ فقعد أردون على الكرسي ، وقعد أصحابه بين يديه ، وخرج الإذن لأردون الملك من المستنصر بالله بالدخول عليه ، فتقدّم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى السطح ، فلمّا قابل المجلس الشرقي الذي فيه المستنصر بالله وقف وكشف رأسه وخلع برنسه ، وبقي حاسرا إعظاما لما بان له من الدنو إلى السرير ، واستنهض ، فمضى بين الصّفّين المرتبين في ساحة السطح ،

__________________

(١) محمد بن القاسم بن طملس : كان في أيام الحكم المستنصر يشغل منصب الوزير صاحب الحشم وقد قتل في حروب العدوة سنة ٣٦٢ ه‍. (المقتبس ص ٩٦).

(٢) في ب : خيزران.

(٣) سكّرت أبصارهم : حارت وارتبكت.

(٤) البرطل مأخوذة عن الاسبانيةportal ومعناها المدخل.

٣٠٣

إلى أن قطع السطح وانتهى إلى باب البهو ، فلمّا قابل السرير خرّ ساجدا سويعة ، ثم استوى قائما ، ثم نهض خطوات ، وعاد إلى السجود ، ووالى ذلك مرارا إلى أن قدم بين يدي الخليفة وأهوى إلى يده فناوله إياها وكرّ راكعا مقهقرا على عقبه إلى وساد ديباج مثقل بالذهب ، جعل له هنالك ، ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير ، فجلس عليه ، والبهر (١) قد علاه ، وأنهض خلفه من استدنى من قوامسه وأتباعه ، فدنوا ممتثلين في تكرير الخنوع ، وناولهم الخليفة يده فقبّلوها وانصرفوا مقهقرين فوقفوا على رأس ملكهم ، ووصل بوصولهم وليد بن حيزون قاضي النصارى بقرطبة ، فكان الترجمان عن الملك أردون ذلك اليوم ، فأطرق الحكم عن تكليم الملك أردون إثر قعوده أمامه وقتا كيما يفرخ روعه (٢). فلمّا رأى أن قد خفّض (٣) عليه افتتح تكليمه فقال : ليسرّك إقبالك ويغبطك تأميلك ، فلدينا لك من حسن رأينا ورحب قبولنا فوق ما قد طلبته ، فلمّا ترجم له كلامه إيّاه تطلّق (٤) وجه أردون ، وانحطّ عن مرتبته ، فقبّل البساط ، وقال : أنا عبد أمير المؤمنين ، مولاي ، المتورّك (٥) على فضله ، القاصد إلى مجده ، المحكم في نفسه ورجاله ، فحيث وضعني من فضله وعوّضني من خدمته رجوت أن أتقدّم فيه بنيّة صادقة ، ونصيحة خالصة ، فقال له الخليفة : أنت عندنا بمحلّ من يستحقّ حسن رأينا ، وسينالك من تقديمنا لك وتفضيلنا إياك على أهل ملّتك ما يغبطك ، وتتعرّف به فضل جنوحك إلينا ، واستظلالك بظل سلطاننا ، فعاد أردون إلى السجود عند فهمه مقالة الخليفة ، وابتهل داعيا ، وقال : إن شانجه ابن عمّي تقدّم إلى الخليفة الماضي مستجيرا به منّي ، فكان من إعزازه إيّاه ما يكون من مثله من أعاظم الملوك وأكارم الخلفاء لمن قصدهم وأمّلهم ، وكان قصده قصد مضطرّ قد شنأته رعيّته (٦) ، وأنكرت سيرته ، واختارتني لمكانه من غير سعي مني علم الله ذلك ، ولا دعاء إليه ، فخلعته وأخرجته عن ملكه مضطرّا مضطهدا ، فتطوّل عليه (٧) ـ رحمه الله! ـ بأن صرفه إلى ملكه ، وقوّى سلطانه ، وأعزّ نصره ، ومع ذلك فلم يقم بفرض النعمة التي أسديت إليه ، وقصّر في أداء المفروض عليه وحقّه وحقّ مولاي أمير المؤمنين من بعده ، وأنا قد قصدت باب أمير المؤمنين لغير ضرورة من قرارة سلطاني وموضع أحكامي ، محكّما له في نفسي

__________________

(١) البهر : هو انقطاع النفس وتتابع تصاعده بسبب إعياء أو خوف.

(٢) يفرخ روعه : هذه كناية عن الطمأنينة وذهاب الخوف.

(٣) خفّض عليه : سكن فزعه.

(٤) تطلّق وجهه : استبشر.

(٥) المتورك : المعتمد.

(٦) شنأته رعيته : كرهته ، وفي القرآن الكريم (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

(٧) تطوّل عليه : تفضّل عليه.

٣٠٤

ورجالي ومعاقلي ومن تحويه من رعيتي ، فشتّان ما بيننا بقوة الثقة ومطرح الهمّة ، فقال الخليفة : قد سمعنا قولك ، وفهمنا مغزاك ، وسوف يظهر من إقراضنا إيّاك على الخصوصيّة شأنه ، ويترادف من إحساننا إليك أضعاف ما كان من أبينا ـ رضي الله تعالى عنه! ـ إلى ندّك ، وإن كان له فضل التقدّم بالجنوح إلينا والقصد إلى سلطاننا ، فليس ذلك ممّا يؤخّرك عنه ، ولا ينقصك ممّا أنلناك ، وسنصرفك مغبوطا إلى بلدك ، ونشدّ أواخيّ (١) ملكك ونملّكك جميع من انحاش إليك من أمتك ونعقد لك بذلك كتابا يكون بيدك نقرّر به حدّ ما بينك وبين ابن عمّك ، ونقبضه عن كل ما بتصرّفه (٢) من البلاد إلى يدك ، وسيترادف عليك من إفضالنا فوق ما احتسبته ، والله على ما نقول وكيل. فكرّر أردون الخضوع ، وأسهب في الشكر ، وقام للانصراف مقهقرا لا يولّي الخليفة ظهره ، وقد تكنّفه الفتيان [من جملة الفتيان](٣) ، فأخرجوه إلى المجلس الغربي في السطح ، وقد علاه البهر وأذهله الرّوع ، من هول ما باشره ، وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العزّة ، فلمّا أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خاليا منه انحطّ ساجدا إعظاما له ، ثم تقدّم الفتيان به إلى البهو الذي بجوفي هذا المجلس ، فأجلسوه هنالك على وساد مثقل بالذهب ، وأقبل نحوه الحاجب جعفر ، فلمّا بصر به قام إليه وخضع له (٤) ، وأومأ إلى تقبيل يده ، فقبضها الحاجب عنه ، وانحنى إليه فعانقه ، وجلس معه ، فغبّطه (٥) ، ووعده من إنجاز عدات الخليفة له بما ضاعف سروره ، ثم أمر الحاجب جعفر فصبّت عليه الخلع التي أمر له بها الخليفة ، وكانت درّاعة (٦) منسوجة بالذهب ، وبرنسا مثلها له لوزة مفرغة من خالص التبر مرصعة بالجوهر والياقوت ملأت عين العلج تجلّة ، فخرّ ساجدا ، وأعلن بالدعاء ، ثم دعا الحاجب أصحابه رجلا رجلا فخلع عليهم على قدر استحقاقهم ، فكمل جميع ذلك بحسب ما يصلح لهم ، وخرّ جميعهم خاضعين (٧) شاكرين ، ثم انطلق الملك أردون وأصحابه ، وقدّم لركابه في أوّل البهو الأوسط فرس من عتاق خيل الركاب عليه سرج حلي ولجام حلي مفرغ ، وانصرف مع ابن طملس إلى قصر الرصافة مكان تضييفه ،

__________________

(١) نشدّ أواخيّ ملكك : سنقوي ملكك ونثبته لك ، ونمنع عنك عدوك.

(٢) في ب : يصرّفه.

(٣) من جملة الفتيان ساقطة في ب.

(٤) في ب : وخنع.

(٥) غبّطه : نسبه إلى الغبطة.

(٦) الدرّاعة : ثوب كالجبة.

(٧) في ب : خانعين.

٣٠٥

وقد أعدّ له فيه كل ما يصلح لمثله من الآلة والفرش والماعون ، واستقرّ أصحابه فيما لا كفاء له من سعة التضييف وإرغاد المعاش. واستشعر الناس من مسرّة هذا اليوم وعزّة الإسلام فيه ما أفاضوا في التبجّح به والتحدّث عنه أياما ، وكانت للخطباء والشعراء بمجلس الخليفة في هذا اليوم مقامات حسان ، وإنشادات لأشعار محكمة متان ، يطول القول في اختيارها ، فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المرادي من قصيدة حيث يقول : [الكامل]

ملك الخليفة آية الإقبال

وسعوده موصولة بنوال (١)

والمسلمون بعزّة وبرفعة

والمشركون بذلّة وسفال (٢)

ألقت بأيديها الأعاجم نحوه

متوقّعين لصولة الرّئبال (٣)

هذا أميرهم أتاه آخذا

منه أواصر ذمّة وحبال

متواضعا لجلاله متخشّعا

متبرّعا لمّا يرع بقتال

سينال بالتأميل للملك الرّضا

عزّا يعمّ عداه بالإذلال

لا يوم أعظم للولاة مسرّة

وأشدّه غيظا على الأقبال

من يوم أردون الذي إقباله

أمل المدى ونهاية الإقبال

ملك الأعاجم كلّها ابن ملوكها

والي الرّعاة إلى الأعاجم والي (٤)

إن كان جاء ضرورة فلقد أتى

عن عزّ مملكة وطوع رجال

فالحمد لله المنيل إمامنا

حظّ الملوك بقدره المتعالي

هو يوم حشر الناس إلّا أنهم

لم يسألوا فيه عن الأعمال

أضحى الفضاء مفعّما بجيوشه

والأفق أقتم أغبر السّربال

لا يهتدي الساري لليل قتامه

إلّا بضوء صوارم وعوالي

وكأن أجسام الكماة تسربلت

مذ عرّيت عنه جسوم صلال

وكأنما العقبان عقبان الفلا

منقضّة لتخطّف الضّلّال

وكأن مقتضب (٥) القنا مهتزّة

أشطان نازحة بعيدة جال (٦)

__________________

(١) في ب : بتوال.

(٢) السفال ـ بفتح السين : مصدر سفل أي النزول من أعلى إلى أسفل.

(٣) الرئبال : الأسد.

(٤) في ب : للأعاجم.

(٥) في ب : منتصب.

(٦) جال : صفحة البئر.

٣٠٦

وكأنما قبل التجافيف اكتست

نارا تؤجّجها بلا إشعال (١)

وقال بعض المؤرخين في حق الحكم المستنصر عن فتاه تليد صاحب خزانته العلمية فيما حدّث عنه الحافظ أبو محمد بن حزم : إنّ عدة الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلّا ذكر الدواوين فقط ، انتهى. وقد قدّمناه عن ابن خلدون ، ونقله ابن الأبار في التكملة.

وقال بعض المؤرّخين في حق الحكم : إنه كان حسن السيرة ، مكرّما للقادمين عليه ، جمع من الكتب ما لا يحدّ ولا يوصف كثرة ونفاسة ، حتى قيل : إنها كانت أربعمائة ألف مجلد ، وإنّهم لمّا نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها ، وكان عالما نبيها ، صافي السريرة ، وسمع من قاسم بن أصبغ وأحمد بن دحيم ومحمد بن عبد السلام الخشني وزكريا بن خطاب وأكثر عنه ، وأجاز له ثابت بن قاسم ، وكتب عن خلق كثير سوى هؤلاء. وكان يستجلب المصنّفات من الأقاليم والنواحي باذلا فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها خزائنه ، وكان ذا غرام بها ، قد آثر ذلك على لذّات الملوك ، فاستوسع علمه ، ودقّ نظره ، وجمت استفادته ، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيّا (٢) نسيج وحده ، وكان ثقة فيما ينقله ، بهذا وصفه ابن الأبار وبأضعافه ، وقال : عجبا لابن الفرضي وابن بشكوال كيف لم يذكراه وقلّما يوجد كتاب من خزائنه إلّا وله فيه قراءة أو نظر في أي فنّ كان ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته ويأتي من بعد ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلّا عنده لعنايته بهذا الشأن.

ومما ينسب إليه من النظم قوله : [الطويل]

إلى الله أشكو من شمائل مسرف (٣)

عليّ ظلوم لا يدين بما دنت

نأت عنه داري فاستزاد صدوده

وإنّي على وجدي القديم كما كنت

ولو كنت أدري أنّ شوقي بالغ

من الوجد ما بلّغته لم أكن بنت

وقوله (٤) : [الطويل]

__________________

(١) في ب : توهجها.

(٢) الأحوذي : الذي يسوق الأمور سوقا حسنا.

(٣) في ب : مترف.

(٤) أورد ابن الأبار في الحلة السيراء أبياتا لعبد الله بن عبد الرحمن الناصر بنفس الوزن والقافية والمعنى مع تشابه في كثير من الألفاظ (الحلة السيراء ص ٢٥٨).

٣٠٧

عجبت ، وقد ودّعتها ، كيف لم أمت

وكيف انثنت بعد الوداع يدي معي

فيا مقلتي العبرى ، عليها اسكبي دما

ويا كبدي الحرّى ، عليها تقطّعي

وتوفي ـ رحمه الله تعالى! ـ بقصر قرطبة ثاني صفر سنة ست وستّين وثلاثمائة ، لستّ عشرة سنة من خلافته ، وكان أصابه الفالج ، فلزم الفراش إلى أن هلك ـ رحمه الله تعالى! ـ وكان قد شدّد في إبطال الخمر في مملكته تشديدا عظيما.

وولي بعده ابنه هشام صغيرا سنّه تسع سنين ، ولا ينافيه قول ابن خلدون : «قد ناهز الحلم» وكان الحكم قد استوزر له محمد بن أبي عامر ، ونقله من خطة القضاء إلى وزارته ، وفوّض إليه أموره ، فاستقلّ.

قال ابن خلدون (١) : وترقّت حال ابن أبي عامر عند الحكم ، فلما توفي الحكم وبويع هشام ولقّب المؤيّد بعد أن قتل ليلتئذ المغيرة أخو الحكم المرشّح لأمره تناول الفتك به محمد بن أبي عامر هذا بممالأة من جعفر بن عثمان المصحفيّ حاجب أبيه ، وغالب مولى الحكم صاحب مدينة سالم ، ومن خصيان القصر يومئذ ورؤسائهم فاتن (٢) وجؤذر ، فقتل ابن أبي عامر المغيرة بممالأة من ذكر ، وتمّت البيعة لهشام. ثم سما لابن أبي عامر أمل في التغلّب على هشام لمكانه في السنّ ، وثاب له رأي في الاستبداد ، فمكر بأهل الدولة ، وضرب بين رجالها ، وقتل بعضا ببعض. وكان من رجال اليمنية من معافر ، دخل جدّه عبد الملك على طارق ، وكان عظيما في قومه ، وكان له في الفتح أثر ، وعظم ابن أبي عامر هذا ، وغلب على المؤيد ، ومنع الوزراء من الوصول إليه إلّا في النادر من الأيام يسلّمون وينصرفون. وأرضخ (٣) للجند في العطاء ، وأعلى مراتب العلماء ، وقمع أهل البدع ، وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين. ثم تجرّد لرؤساء الدولة ممّن عانده وزاحمه ، فمال عليهم ، وحطّهم عن مراتبهم ، وقتل بعضا ببعض ، كلّ ذلك عن هشام (٤) وخطّه وتوقيعه حتى استأصلهم وفرّق جموعهم. وأول ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدّام بالقصر ، فحمل الحاجب المصحفيّ على نكبتهم ، فنكبهم وأخرجهم من القصر ، وكانوا ثمانمائة أو يزيدون ، ثم أصهر إلى غالب مولى الحكم ، وبالغ في خدمته والتنصّح له ، واستعان به على المصحفيّ فنكبه ومحا أثره من

__________________

(١) انظر ابن خلدون ج ٤ / ١٨٨ ط دار الفكر بيروت.

(٢) في ب : فائق.

(٣) أرضخ للجند في العطاء : أراد زاد في أعطيات الجند قليلا.

(٤) في ب : عن أمر هشام.

٣٠٨

الدولة ، ثم استعان على غالب بجعفر بن أحمد بن (١) علي بن حمدون صاحب المسيلة وقائد الشيعة ممدوح بن هانىء بالفائية المشهورة (٢) وغيرها ، وهو النازع إلى الحكم أوّل الدولة بمن كان معه من زناتة والبربر. ثم قتل جعفرا بممالأة ابن عبد الودود وابن جهور وابن ذي النون وأمثالهم من أولياء الدولة من العرب وغيرهم. ثم لمّا خلا الجوّ من أولياء الخلافة والمرشّحين للرياسة رجع إلى الجند ، فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة فرتّب منهم جندا ، واصطنع أولياء ، وعرّف عرفاء من صنهاجة ومغراوة وبني يفرن وبني برزال ومكناسة وغيرهم ، فتغلّب على هشام وحجره (٣) ، واستولى على الدولة ، وملأ الدنيا وهو في جوف بيته ؛ من تعظيم الخلافة ، والخضوع لها ، وردّ الأمور إليها ، وترديد الغزو والجهاد ، وقدّم رجال البرابرة وزناتة ، وأخّر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم ، فتمّ له ما أراد من الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر ، وبنى لنفسه مدينة لنزله سمّاها الزاهرة. ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ، وقعد على سرير الملك ، وأمر أن يحيّا بتحية الملوك ، وتسمّى بالحاجب المنصور ، ونفذت الكتب والمخاطبات والأوامر باسمه ، وأمر بالدعاء له على المنابر باسمه عقد الدعاء للخليفة ، ومحا رسم الخلافة بالجملة ، ولم يبق لهشام المؤيد من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء على المنابر وكتب اسمه في السّكة والطرز ، وأغفل ديوانه ممّا سوى ذلك. وجنّد البرابرة والمماليك ، واستكثر من العبيد والعلوج للاستيلاء على تلك الرتبة ، وقهر من تطاول (٤) إليها من العلية (٥) ، فظفر من ذلك بما أراد ، وردّد الغزو بنفسه إلى دار الحرب ، فغزا ستّا وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم تنتكس له فيها راية ، ولا فلّ له جيش ، وما أصيب له بعث ، وما هلكت له سريّة ، وأجاز عساكره إلى العدوة ، وضرب بين ملوك البرابرة ، وضرب بعضهم. ببعض ، فاستوثق له ملك المغرب ، وأخبتت (٦) له ملوك زناتة ، وانقادوا لحكمه ، وأطاعوا سلطانه ، وأجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر ، ولمّا سخط زيري بن عطيّة ملكهم لمّا بلغه ما بلغه من إعلانه بالنّيل منه والغضّ من منصبه والتأفّف (٧) لحجر الخليفة

__________________

(١) أحمد بن : ساقطة في ب.

(٢) ابن هانىء الأندلسي شاعر العبيديين ، والفائية هي قصيدته ذات المطلع :

أليلتنا إذ أرسلت واردا وصفا

وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا

(٣) حجره : منعه من التصرف.

(٤) تطاول إليها : سمت نفسه إليها.

(٥) العلية : سادة القوم.

(٦) أخبتت : خصعت وذلت.

(٧) التأفف : التضجر وإظهار الغضب.

٣٠٩

هشام أوقع به عبد الملك سنة ستّ وثمانين ، ونزل بفاس وملكها ، وعقد لملوك زناتة على ممالك المغرب وأعماله من سجلماسة وغيرها ، وشرّد زيري بن عطية إلى تاهرت (١) ، فأبعد المفرّ (٢) ، وهلك في مفرّه ذلك. ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة ، واستعمل واضحا على المغرب. وهلك المنصور أعظم ما كان ملكا ، وأشدّ استيلاء ، سنة أربع وتسعين وثلاثمائة (٣) ، بمدينة سالم منصرفه من بعض غزواته ، ودفن هنالك ، وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه ، انتهى كلام ابن خلدون ، وبعضه بالمعنى وزيادة يسيرة.

ولا بأس أن نزيد عليه فنقول : ممّا حكي أنه مكتوب على قبر المنصور رحمه الله تعالى (٤) : [الكامل]

آثاره تنبيك عن أخباره

حتّى كأنّك بالعيان تراه

تالله لا يأتي الزمان بمثله

أبدا ، ولا يحمي الثغور سواه

وعن شجاع مولى المستعين بن هود : لمّا توجّهت إلى أذفونش وجدته في مدينة سالم ، وقد نصب على قبر المنصور بن أبي عامر سريره ، وامرأته متّكئة إلى جانبه ، فقال لي : يا شجاع ، أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين ، وجلست على قبر ملكهم؟ قال : فحملتني الغيرة أن قلت له : لو تنفّس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سمع منك ما يكره سماعه ، ولا استقرّ بك قرار ، فهمّ بي ، فحالت امرأته بيني وبينه ، وقالت : صدقك فيما قال ، أيفخر مثلك بمثل هذا؟.

وهذا تلخيص ترجمة المنصور من كلام ابن سعيد (٥) : قال رحمه الله : ترجمة الملك الأعظم المنصور أبي عامر محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، المعافري ، من قرية تركش (٦) ، وعبد الملك جدّه هو الوافد على الأندلس مع طارق في أوّل الداخلين من العرب ، وأمّا المنصور فقد ذكره ابن حيّان في كتابه المخصوص

__________________

(١) تاهرت : بفتح الهاء وسكون الراء ، مدينة بأقصى المغرب ، وهي كثيرة الأنداء والضباب والأمطار (معجم البلدان ٢ / ٧).

(٢) أبعد المفرّ : فرّ إلى مكان بعيد.

(٣) في الحلة السيراء : توفي ليلة الاثنين لثلاث بقين من شهر رمضان من السنة المذكورة ٣٩٢ ه‍. ودفن بمدينة سالم. (الحلة السيراء صفحة ٢٨٦).

(٤) انظر الحلة السيراء صفحة ٢٨٦.

(٥) انظر المغرب ٢ / ٣٩٤.

(٦) في المغرب : كرتش. وفي المعجب : طرش من أعمال الجزيرة الخضراء.

٣١٠

بالدولة العامرية ، والفتح في المطمح ، والحجاري في المسهب ، والشّقندي في الطرف ، وذكر الجميع أن أصله من قريش تركش ، وأنه رحل إلى قرطبة ، وتأدّب بها ، ثم اقتعد دكانا (١) عند باب القصر يكتب فيه لمن يعنّ له كتب من الخدم والمرافقين للسلطان ، إلى أن طلبت السيدة صبح أم المؤيّد من يكتب عنها ، فعرّفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر ، فترقّى إلى أن كتب عنها ، فاستحسنته ، ونبّهت عليه الحكم ، ورغّبت في تشريفه بالخدمة ، فولّاه قضاء بعض المواضع ، فظهرت منه نجابة ، فترقّى إلى الزكاة والمواريث بإشبيلية وتمكّن في قلب السيدة بما استمالها به من التّحف والخدمة ما لم يتمكّن لغيره ، ولم يقصّر ـ مع ذلك ـ في خدمة المصحفي الحاجب ، إلى أن توفي الحكم وولي ابنه هشام المؤيد ، وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، فجاشت الروم (٢) ، فجهّز المصحفيّ ابن أبي عامر لدفاعهم ، فنصره الله عليهم ، وتمكّن حبّه من قلوب الناس.

وكان جوادا عاقلا ذكيّا ، استعان بالمصحفي على الصّقالبة ، ثم بغالب على المصحفيّ ، وكان غالب صاحب مدينة سالم ـ وتزوّج ابن أبي عامر ابنته أسماء ، وكان أعظم عرس بالأندلس ـ ثم بجعفر بن علي الأندلسي ممدوح ابن هانىء على غالب ، ثم بعبد الرحمن بن محمد بن هشام التّجيبي على جعفر ، وله في الحزم والكيد والجلد ما أفرد له ابن حيّان تأليفا ، وعدد غزواته المنشأة من قرطبة نيّف وخمسون غزوة ، ولم تهزم له راية ، وقبره بمدينة سالم في أقصى شرق الأندلس.

ومن شعره (٣) : [الطويل]

رميت بنفسي هول كلّ عظيمة

وخاطرتة والحرّ الكريم يخاطر

وما صاحبي إلّا جنان مشيّع

وأسمر خطّيّ وأبيض باتر (٤)

فسدت بنفسي أهل كلّ سيادة

وفاخرت حتى لم أجد من أفاخر

وما شدت بنيانا ولكن زيادة

على ما بنى عبد المليك وعامر

__________________

(١) اقتعد دكانا : أي اتخذ له دكانا.

(٢) جاشت الروم : تحركت واضطربت ، وأراد : ثارت.

(٣) الذخيرة ٤ / ١٨ والحلة ١ / ٢٧٦.

(٤) الجنان : القلب. والمشيّع : القويّ الجريء. والأسمر : الرمح. والخطيّ : المنسوب إلى الخط ، وهو موضع باليمامة كانت تثقف فيه الرماح. والأبيض : السيف. والباتر : القاطع.

٣١١

رفعنا العوالي بالعوالي مثلها (١)

وأورثناها في القديم معافر (٢)

وجوده مع صاعد البغدادي اللغوي مشهور.

وصدر عن بعض غزواته فكتب إليه عبد الملك ابن شهيد ، وكان قد تخلّف عنه : [الخفيف]

أنا شيخ والشّيخ يهوى الصّبايا

يا بنفسي أقيك كلّ الرّزايا

ورسول الإله أسهم في الفي

ء لمن لم يخبّ فيه المطايا

فبعث إليه بثلاث جوار من أجمل السّبي ، وكتب معهنّ ، وكانت واحدة أجملهنّ ، قوله:[الخفيف]

قد بعثنا بها كشمس النهار

في ثلاث من المها أبكار

وامتحنّا بعذرة البكر إن كن

ت ترجّي بوادر الإعذار

فاجتهد وابتدر فإنّك شيخ

قد جلا ليله بياض النهار

صانك الله من كلالك فيها

فمن العار كلّة المسمار

فافتضّهنّ من ليلته ، وكتب له بكرة : [الخفيف]

قد فضضنا ختام ذاك السّوار

واصطبغنا من النّجيع الجاري

وصبرنا على دفاع وحرب

فلعبنا بالدّرّ أو بالدراري

وقضى الشيخ ما قضى بحسام

ذي مضاء عضب الظّبا بتّار (٣)

فاصطنعه فليس يجزيك كفرا

واتّخذه فحلا على الكفّار

وقدم بعض التجّار ومعه كيس فيه ياقوت نفيس ، فتجرّد ليسبح في النهر ، وترك الكيس ، وكان أحمر ، على ثيابه ، فرفعته حدأة في مخالبها ، فجرى تابعا لها وقد ذهل ، فتغلغلت في البساتين ، وانقطعت عن عينه ، فرجع متحيّرا ، فشكا ذلك إلى بعض من يأنس به ، فقال له :

صف حالك لابن أبي عامر ، فتلطّف في وصف ذلك بين يديه ، فقال : ننظر إن شاء الله تعالى في شأنك ، وجعل يستدعي أصحاب تلك البساتين ، ويسأل خدّامها عمّن ظهر عليه تبديل حال ، فأخبروه أن شخصا ينقل الزبل اشترى حمارا ، وظهر من حاله ما لم يكن قبل ذلك ، فأمر

__________________

(١) في ب : حديثة بدل مثلها.

(٢) العوالي الأولى : المعالي والمجد. والعوالي الثانية : الرماح. ومعافر : قبيلة المنصور بن أبي عامر.

(٣) العضب : السيف القاطع. والظّبا : جمع ظبة ، وهي حدّ السيف.

٣١٢

بمجيئه ، فلمّا وقعت عينه عليه قال له : أحضر الكيس الأحمر ، فتملّك الرعب قلبه وارتعش ، وقال : دعني آتي به من منزلي ، فوكل به من حمله إلى منزله. وجاء بالكيس ، وقد نقص منه ما لا يقدح في مسرّة صاحبه ، فجبره (١) ، ودفعه إلى صاحبه ، فقال : والله لأحدّثنّ في مشارق الأرض ومغاربها أن ابن أبي عامر يحكم على الطيور وينصف منها ، والتفت ابن أبي عامر إلى الزبّال فقال له : لو أتيت به أغنيناك ، لكن تخرج كفافا (٢) لا عقابا ولا ثوابا.

وتوفي ، رحمه الله ، في غزاته للإفرنج بصفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ، وحمل في سريره على أعناق الرجال ، وعسكره يحفّ به ، وبين يديه ، إلى أن وصل إلى مدينة سالم.

ودامت دولته ستّا وعشرين سنة ، غزا فيها اثنتين وخمسين غزوة واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف ، انتهى كلام ابن سعيد ، وفي بعضه مخالفة لبعض كلام ابن خلدون.

وقال الفتح في «المطمح» في حق المصحفي الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ، ما صورته (٣) : تجرد للعليا ، وتمرّد (٤) في طلب الدنيا ، حتى بلغ المنى ، وتسوّغ ذلك الجنى (٥) ، ووصل إلى المنتهى ، وحصل على ما اشتهى ، دون مجد تفرّع من دوحته (٦) ، ولا فخر نشأ بين مغداه وروحته ، فسما دون سابقة ، ورمى إلى رتبة لم تكن لنفسه مطابقة ، فبلغ نفسه ، ونزع عن جنسه ، ولم يزل يستقلّ ويضطلع ، وينتقل من مطلع إلى مطلع ، حتى التاح في أفق الخلافة ، وارتاح إليها بعطفه كنشوان السّلافة ، واستوزره المستنصر ، وعنه كان يسمع وبه يبصر ، وحجب الإمام ، وأسكب برأيه ذلك الغمام ، فأدرك لذلك ما أدرك ، ونصب لأمانيه الحبائل والشرك ، فاقتنى اقتناء مدّخر ، وأزرى بمن سواه وسخر ، واستعطفه ابن أبي عامر ونجمه غائر لم يلح ، وسرّه مكتوم لم يبح ، فما عطف ، ولا جنى من روضة دنياه ولا قطف ، وأقام في تدبير الأندلس ما أقام وبرهانه مستقيم ، ومن الفتن عقيم ، وهو يجري من السعد في ميدان رحب ، ويكرع من العزّ في مشرب عذب ، ويفضّ ختام السرور ، وينهض بملك على لبّته مزرور ، وكان له أدب بارع ، وخاطر إلى نظم القريض مسارع ، فمن محاسنه التي بعثها إيناس دهره وإسعاده ، وقاله حين ألهته سلماه وسعاده ، قوله : [الطويل]

لعينيك في قلبي عليّ عيون

وبين ضلوعي للشجون فنون

__________________

(١) جبره : أكمل نقصه.

(٢) كفافا : لا له ولا عليه.

(٣) انظر المطمح ٤ ـ ٨.

(٤) تمرد في طلب الدنيا : تجاوز الحدّ في ذلك.

(٥) تسوغه : وجده سائغا. والجنى : الثمرة.

(٦) الدوحة : الشجرة الكبيرة الملتفة. وشبهت العرب أصولها بالدوحة.

٣١٣

نصيبي من الدنيا هواك ، وإنه

غذائي ، ولكنّي عليه ضنين

وستأتي هذه الترجمة من المطمح الصغير إن شاء الله تعالى بما فيه بعض زيادة ونقصان في الباب الرابع.

وقال في المطمح في حق ابن أبي عامر (١) : إنه تمرّس ببلاد الشّرك أعظم تمرّس (٢) ، ومحا من طواغيتها كلّ تعجرف (٣) وتغطرس (٤) ، وغادرهم صرعى البقاع ، وتركهم أذلّ من وتد بقاع ، ووالى على بلادهم الوقائع ، وسدّد إلى أكبادهم سهام الفجائع ، وأغصّ بالحمام أرواحهم ، ونغّص بتلك الآلام بكورهم ورواحهم ، ومن أوضح الأمور هنالك ؛ وأفصح الأخبار في ذلك ، أنّ أحد رسله كان كثير الانتياب ، لذلك الجناب ؛ فسار في بعض مسيراته إلى غرسيه صاحب البشكنس فوالى في إكرامه ، وتناهى في برّه واحترامه ، فطالت مدّته فلا متنزّه إلّا مرّ عليه متفرّجا ، ولا منزل إلّا سار عليه معرّجا ، فحلّ في ذلك ، أكثر الكنائس هنالك ، فبينا هو يجول في ساحتها ، ويجيل العين في مساحتها ، إذ عرضت له امرأة قديمة الأسر ، قويمة على طول الكسر ، فكلّمّته وعرّفته بنفسها وأعلمته ، وقالت له : أيرضى المنصور أن ينسى بتنعّمه بوسها ، ويتمتّع بلبوس العافية وقد نضت لبوسها ، وزعمت أنّ لها عدة سنين بتلك الكنيسة محبسة ، وبكل ذلّ وصغار ملبسة ، وناشدته الله في إنهاء قصتها ، وإبراء غصّتها ، واستحلفته بأغلظ الأيمان ، وأخذت عليه في ذلك أوكد مواثيق الرحمن ، فلمّا وصل إلى المنصور عرّفه بما يجب تعريفه به وإعلامه ، وهو مصغ إليه حتى تمّ كلامه ، فلما فرغ قال له المنصور : هل وقفت هناك على أمر أنكرته ، أم لم تقف على غير ما ذكرته؟ فأعلمه بقصة المرأة وما خرجت عنه إليه ، وبالمواثيق التي أخذت عليه ، فعتبه ولامه ، على أن لم يبدأ بها كلامه ، ثم أخذ للجهاد من فوره وعرض من من الأجناد في نجده وغوره ، وأصبح غازيا على سرجه ، مباهيا مروان بن الحكم يوم مرجه (٥) ، حتى وافى ابن شانجه في جمعه ، فأخذت مهابته ببصره وسمعه ، فبادر بالكتاب إليه يتعرّف ما الجليّة ، ويحلف له بأعظم أليّة (٦) ، أنه ما جنى ذنبا ، ولا جفا عن مضجع الطاعة جنبا ، فعنف أرساله وقال لهم : كان قد عاقدني أن لا يبقى ببلاده مأسورة ولا

__________________

(١) لم نجد هذه الترجمة في المعجم الذي بين أيدينا.

(٢) تمرس ببلاد الشرك : احتك بالمشركين ، وتعرض لهم ، وقاتلهم.

(٣) التعجرف : التكبر والظلم.

(٤) التغطرس : الكبر والإعجاب بالنفس.

(٥) أراد : مروان بن الحكم الخليفة الأمويّ. ويوم مرجه : أي يوم مرج راهط. وقد وقعت في هذا المكان معركة بين مروان وبين الضحاك بن قيس الفهري انتصر فيها مروان وقتل الضحاك.

(٦) أليّة : قسم ، يمين.

٣١٤

مأسور ، ولو حملته في حواصلها النّسور ، وقد بلغني بعد بقاء المسلمة في تلك الكنيسة ، وو الله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها ، فأرسل إليه المرأة في اثنتين معها ، وأقسم أنه ما أبصرهنّ ولا سمع بهنّ وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها ، قد بالغ في هدمها ، تحقيقا لقوله ، وتضرّع إليه في الأخذ فيه بطوله ، فاستحيا منه ، وصرف الجيش عنه ، وأوصل المرأة إلى نفسه ، وألحف توحّشها بأنسه ، وغيّر من حالها ، وعاد بسواكب نعماه على جدبها وإمحالها ، وحملها إلى قومها ، وكحلها بما كان شرد من نومها ، انتهى.

وقال في المطمح أيضا في حقه ما نصه : فرد نابه على من تقدّمه ، وصوّبه واستحزمه ، فإنه كان أمضاهم سنانا ، وأذكاهم جنانا ، وأتمّهم جلالا ، وأعظمهم استقلالا ، فآل أمره إلى ما آل ، وأوهم العقول بذلك المآل ، فإنه كان آية الله في اتفاق سعده ، وقربه من الملك بعد بعده ، بهر برفعة القدر ، واستظهر بالأناة وسعة الصّدر ، وتحرّك فلاح نجم الهدوّ ، وتملّك فما خفق بأرضه لواء عدوّ ، بعد خمول كابد منه غصصا وشرقا ، وتعذّر مأمول طارد فيه سهرا وأرقا ، حتى أنجز له الموعود ، وفرّ نحسه أمام تلك السعود ، فقام بتدبير الخلافة ، وأقعد من كان له فيها إنافة ، وساس الأمور أحسن سياسة ، وداس الخطوب بأخشن دياسة ، فانتظمت له الممالك ، واتّضحت به المسالك ، وانتشر الأمن في كل طريق ، واستشعر اليمن كلّ فريق ، وملك الأندلس بضعا وعشرين حجّة ، لم تدحض (١) لسعادتها حجّة ، ولم تزخر لمكروه بها لجّة ، لبست فيه البهاء والإشراق ، وتنفّست عن مثل أنفاس العراق ، وكانت أيامه أحمد أيام ، وسهام بأسه أسدّ سهام ، غزا الروم شاتيا وصائفا ، ومضى فيما يروم زاجرا وعائفا ، فما مرّ له غير سنيح (٢) ، ولا فاز إلّا بالمعلّى لا بالمنيح (٣) ، فأوغل في تلك الشّعاب ، وتغلغل حتى راع ليث الغاب ، ومشى تحت ألويته صيد (٤) القبائل ، واستجرّت في ظلّها بيض الظّبا وسمر الذوابل ، وهو يقتضي الأرواح بغير سوم ، وينتضي الصفاح على كل روم ، ويتلف من لا ينساق للخلافة وينقاد ، ويخطف منهم كلّ كوكب وقّاد ، حتى استبدّ وانفرد ، وأنس إليه من الطاعة ما نفر وشرد ، وانتظمت له الأندلس بالغدوة ، واجتمعت في ملكه اجتماع قريش بدار النّدوة ، ومع هذا لم يخلع اسم الحجابة ، ولم يدع السمع لخليفته والإجابة ، ظاهر يخالفه الباطن ، واسم تنافره مواقع الحكم والمواطن ، وأذلّ قبائل الأندلس بإجازة البرابر ، وأخمل بهم أولئك الأعلام

__________________

(١) لم تدحض : لم تبطل.

(٢) السنيح : الطائر يمر من يسار الناظر إلى يمينه وكانت العرب تتيامن به.

(٣) المعلّى : سابع سهام القما ـ ، وهو أعظم القداح نصيبا والمنيح سهم من سهام القمار لا يصيب.

(٤) الصّيد : جمع أصيد ، وهو الذي يميل بعنقه كبرياء.

٣١٥

الأكابر ، فإنه قاومهم بأضدادهم ، واستكثر من أعدادهم ، حتى تغلّبوا على الجمهور ، وسلبوا عنهم الظهور ، ووثبوا عليهم الوثوب المشهور ، الذي أعاد أكثر الأندلس قفرا يبابا ، وملأها وحشا وذئابا ، وأعراها عن الأمان ، برهة من الزمان ، وعلى هذه الهيئة فهو وابنه المظفر كانا آخر سعد الأندلس ، وحدّ السرور بها والتأنّس ، وغزواته فيها شائعة الأثر ، رائعة كالسيف ذي الأثر ، وحسبه وافر ، ونسبه معافر ، ولذا قال يفتخر :

رميت بنفسي ....

الأبيات ، وزاد هنا بعد قوله «أبيض باتر» بيتا ، وهو : [الطويل]

وإني لزجّاء الجيوش إلى الوغى

أسود تلاقيها أسود خوادر (١)

وكانت أمّه تميمية ، فحاز الشرف بطرفيه ، والتفّ بمطرفيه ، ولذا قال القسطلّي فيه (٢) : [الطويل]

تلاقت عليه من تميم ويعرب

شموس تلالا في العلا وبدور

من الحميريّين الذين أكفّهم

سحائب تهمي بالنّدى وبحور

وتصرّف قبل ولايته في شتى الولايات ، وجاء من التحدّث بمنتهى أمره بآيات ، حتى صحّ زجره ، وجاء بصبحه فجره ، تؤثر عنه في ذلك أخبار ، فيها عجب واعتبار ، وكان أديبا محسنا ، وعالما متفنّنا ، فمن ذلك قوله يمنّي نفسه بملك مصر والحجاز ، ويستدعي صدور تلك الأعجاز : [الخفيف]

منع العين أن تذوق المناما

حبّها أن ترى الصّفا والمقاما

لي ديون بالشّرق عند أناس

قد أحلّوا بالمشعرين الحراما

إن قضوها نالوا الأماني ، وإلّا

جعلوا دونها رقابا وهاما

عن قريب ترى خيول هشام

يبلغ النّيل خطوها والشآما

انتهى ما نقله من المطمح.

__________________

(١) الزجّاء : الشديد السوق. والوغى : الحرب. والخوادر : جمع خادر ، وهو الأسد في عرينه.

(٢) القسطلي : أبو عمر أحمد بن محمد بن العاصي بن أحمد بن سليمان بن عيسى بن دراج الأندلسي القسطلي ، الشاعر الكاتب. كان كاتب المنصور بن أبي عامر وشاعره ، وهو من الشعراء المجيدين والعلماء المقدمين (انظر وفيات الأعيان ١ / ١٣٥ ، وانظر ديوان الشاعر صفحة ٣٠١).

٣١٦

وفي المنصور المذكور أيضا قال بعض مؤرّخي المغرب ، مازجا كلامه ببعض كلام الفتح ، بعد ذكر استعانته ببعض الناس على بعض ، وذكر قتله لجعفر بن علي ، فقال بعده ما صورته : ثم انفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر هل من مبارز ، فلمّا لم يجده حمل الدهر على حكمه ، فانقاد له وساعده ، فاستقام أمره منفردا بمملكة لا سلف له فيها (١) ، ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قطّ في حرب شهدها ، وما توجّهت عليه هزيمة ، وما انصرف عن موطن إلّا قاهرا غالبا ، على كثرة ما زاول من الحروب ومارس من الأعداء وواجه من الأمم ، وإنها لخاصّة ما أحسب أحدا من الملوك الإسلامية شاركه فيها ، ومن أعظم ما أعين به مع قوة سعده وتمكّن جدّه (٢) سعة جوده ، وكثرة بذله ، فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان ، وأول ما اتكأ على أرائك الملوك وارتفق (٣) ، وانتشر عليه لواء السعد وخفق ، حط صاحبه المصحفيّ ، وأثار له كامن حقده الخفيّ ، حتى أصاره للهموم لبيسا ، وفي غيابات السجن حبيسا ، فكتب إليه يستعطفه بقوله (٤) : [البسيط]

هبني أسأت فأين العفو والكرم

إذ قادني نحوك الإذعان والنّدم

يا خير من مدّت الأيدي إليه أما

ترثي لشيخ رماه عندك القلم

بالغت في السّخط فاصفح صفح مقتدر

إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا

فما زاده ذلك إلّا حنقا وحقدا ، وما أفادته الأبيات إلّا تضرّما ووقدا ، فراجعه بما أيأسه ، وأراه مرمسه ، وأطبق عليه محبسه ، وضيّق تروّحه من المحنة وتنفّسه : [البسيط]

الآن يا جاهلا زلّت بك القدم

تبغي التّكرّم لمّا فاتك الكرم

أعريت بي ملكا لولا تثبّته

تبغي التّكرّم لمّا فاتك الكرم

أغريت بي ملكا لو لا تثبّته

ما جاز لي عنده نطق ولا كلم

فايأس من العيش إذ قد صرت في طبق

إنّ الملوك إذا ما استنقموا نقموا

نفسي إذا سخطت ليست براضية

ولو تشفّع فيك العرب والعجم

وكان من أخباره الداخلة في أبواب البرّ والقربة بنيان المسجد الجامع ، إلى أن قال :

__________________

(١) أراد أنه لم يرث الملك عن أهله.

(٢) جدّه : حظه.

(٣) ارتفق : اتكأ.

(٤) نسب جماعة هذه الأبيات إلى المصحفي ، ونسبها آخرون إلى ابن دراج القسطلي.

٣١٧

ومن ذلك بناؤه قنطرة على نهر قرطبة الأعظم ، ابتدأ بناءها المنصور سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة ، وفرغ منها في النصف من سنة تسع وسبعين ، وانتهت النفقة عليها إلى مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار ، فعظمت بها المنفعة ، وصارت صدرا في مناقبه الجليلة. وكانت هنالك قطعة أرض لشيخ من العامّة ، ولم يكن للقنطرة عدول عنها ؛ فأمر المنصور أمناءه بإرضائه فيها ، فحضر الشيخ عندهم ، فساوموه بالقطعة ، وعرّفوه وجه الحاجة إليها وأنّ المنصور لا يريد إلّا إنصافه فيها ، فرماهم الشيخ بالغرض الأقصى عنده فيما ظنّه أنها لا تخرج عنه بأقلّ من عشرة دنانير ذهبا ، كانت عنده أقصى الأمنيّة ، وشرطها صحاحا. فاغتنم الأمناء غفلته ، ونقدوه الثّمن ، وأشهدوا عليه ، ثم أخبروا المنصور بخبره ، فضحك من جهالته ، وأنف من غبنه ، وأمر أن يعطى عشرة أمثال ما سأل ، وتدفع له صحاحا كما قال ، فقبض الشيخ مائة دينار ذهبا ؛ فكاد أن يخرج من عقله ، وأن يجنّ عند قبضها من الفرح ، وجاء محتفلا في شكر المنصور ، وصارت قصّته خبرا سائرا.

ومن ذلك أيضا بناء قنطرة على نهر إستجة ، وهو نهر شنيل ، وتجشم لها أعظم مؤنة ، وسهّل الطريق الوعرة والشّعاب الصعبة.

ومن ذلك أيضا أنه خطّ بيده مصحفا كان يحمله معه في أسفاره وغزواته (١).

يدرس فيه ، ويتبرّك به.

ومن قوة رجائه أنه اعتنى بجمع ما علق بوجهه من الغبار في غزواته ومواطن جهاده ، فكان الخدم يأخذونه عنه بالمناديل في كل منزل من منازله ، حتى اجتمع له منه صرّة ضخمة ، عهد بتصييره في حنوطه (٢) ، وكان يحملها حيث سار مع أكفانه ، توقّعا لحلول منيّته ، وقد كان اتّخذ الأكفان من أطيب مكسبه من الضّيعة الموروثة عن أبيه ، وغزل بناته. وكان يسأل الله تعالى أن يتوفّاه في طريق الجهاد ؛ فكان كذلك.

وكان متّسما بصحّة باطنه ، واعترافه بذنبه ، وخوفه من ربّه ، وكثرة جهاده. وإذا ذكّر بالله ذكر ، وإذا خوّف من عقابه ازدجر ، ولم يزل متنزّها عن كل ما يفتتن به الملوك سوى الخمر ، لكنه أقلع عنها قبل موته بسنتين. وكان عدله في الخاصّة والعامّة وبسط الحقّ على الأقرب فالأقرب من خاصّته وحاشيته أمرا مضروبا به المثل.

__________________

(١) في ب لا توجد كلمة «وغزواته».

(٢) الحنوط : طيب يوضع في ماء غسل الميت.

٣١٨

ومن عدله أنه وقف عليه رجل من العامّة بمجلسه ، فنادى : «يا ناصر الحق ، إنّ لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك» ، وأشار إلى الفتى صاحب الدّرقة ، وكان له فضل محلّ عنده ، ثم قال : وقد دعوته إلى الحاكم ، فلم يأت ، فقال له المنصور : «أو عبد الرحمن بن فطيس بهذا العجز والمهانة ، وكنّا نظنّه أمضى من ذلك؟ اذكر مظلمتك يا هذا» ، فذكر الرجل معاملة كانت جارية بينهما فقطعها من غير نصف (١) ، فقال المنصور : «ما أعظم بليّتنا بهذه الحاشية»! ثم نظر إلى الصّقلبي وقد ذهل عقله ، فقال له : «ادفع الدّرقة إلى فلان ، وانزل صاغرا ، وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحقّ أو يضعك» ، ففعل ، ومثل بين يديه ، ثم قال لصاحب شرطته الخاصّ به : «خذ بيد هذا الفاسق الظالم وقدّمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفّذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحقّ من سجن أو غيره» ، ففعل ذلك ، وعاد الرجل إليه شاكرا ، فقال له المنصور : «قد انتصفت (٢) أنت» ، اذهب لسبيلك. وبقي انتصافي أنا ممّن تهاون بمنزلتي». فتناول الصّقلبيّ بأنواع من المذلّة ، وأبعده عن الخدمة.

ومن ذلك قصة فتاه الكبير المعروف بالبورقي (٣) مع التاجر المغربي ؛ فإنهما تنازعا في خصومة توجّهت فيها اليمين على الفتى المذكور ، وهو يومئذ أكبر خدم المنصور ، وإليه أمر داره وحرمه ، فدافع الحاكم ، وظنّ أنّ جاهه يمنع من إحلافه. فصرخ التاجر بالمنصور في طريقه إلى الجامع متظلّما من الفتى ، فوكّل به في الوقت من حمله إلى الحاكم ، فأنصفه منه ، وسخط عليه المنصور ، وقبض نعمته منه ، ونفاه. ومن ذلك قصة محمد فصّاد (٤) المنصور وخادمه وأمينه على نفسه ، فإنّ المنصور احتاجه يوما إلى الفصد ، وكان كثير التّعهد له ، فأنفذ رسوله إلى محمد ، فألفاه الرسول محبوسا في سجن القاضي محمد بن زرب (٥) لحيف ظهر منه على امرأته قدّر أنّ سبيله من الخدمة يحميه من العقوبة. فلمّا عاد الرسول إلى المنصور بقصّته ، أمر بإخراجه من السجن مع رقيب من رقباء السجن يلزمه إلى أن يفرغ من عمله عنده ، ثم يردّه إلى محبسه. ففعل ذلك على ما رسمه ، وذهب الفاصد إلى شكوى ما ناله ، فقطع عليه المنصور ، وقال له : «يا محمد ، إنّه القاضي ، وهو في عدله ، ولو أخذني الحقّ ما أطقت الامتناع منه ، عد إلى محبسك أو اعترف بالحقّ فهو الذي يطلقك». فانكسر الحاجم ، وزالت

__________________

(١) من غير نصف : من غير إنصاف.

(٢) انتصفت : أخذت حقك كاملا.

(٣) في البيان المغرب : بالميورقي.

(٤) الفصاد : فصد يفصد فصدا وفصادا : شق عرق المريض. والفصّاد. الحجام.

(٥) هو محمد بن يبقى بن زرب أحد صدور الفقهاء في زمانه بالأندلس (انظر تاريخ قضاة الأندلس صفحة ٧٧).

٣١٩

عنه ريح العناية. وبلغت قصته للقاضي ، فصالحه مع زوجته ، وزاد القاضي شدّة في أحكامه.

وقال ابن حيّان : إنه كان جالسا في بعض الليالي ، وكانت ليلة شديدة البرد والريح والمطر ، فدعا بأحد الفرسان وقال له : «انهض الآن إلى فج طليارش ، وأقم فيه ، فأول خاطر يخطر عليك سقه إليّ». قال : فنهض الفارس وبقي في الفجّ في البرد والريح والمطر واقفا على فرسه ، إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له ، ومعه آلة الحطب ، فقال له الفارس: «إلى أين تريد يا شيخ»؟ فقال : «وراء حطب» ، فقال الفارس في نفسه : «هذا شيخ مسكين نهض إلى الجبل يسوق حطبا ، فما عسى أن يريد المنصور منه»؟ قال : فتركته ، فسار عنّي قليلا ، ثم فكّرت في قول المنصور ، وخفت سطوته ، فنهضت إلى الشيخ وقلت له : «ارجع إلى مولانا المنصور». فقال له : وما عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي؟ سألتك بالله أن تتركني أذهب لطلب معيشتي ، فقال له الفارس : لا أفعل ، ثم قدم به على المنصور ، ومثّله بين يديه وهو جالس لم ينم ليلته تلك ، فقال المنصور للصقالبة : فتّشوه ، ففتّشوه فلم يجدوا معه شيئا ، فقال : فتّشوا برذعة حماره (١) ، فوجدوا داخلها كتابا من نصارى كانوا قد نزعوا إلى المنصور ، ويخدمون عنده إلى أصحابهم من النصارى ليقبلوا ويضربوا في إحدى النّواحي المرطومة (٢). فلما انبلج الصبح أمر بإخراج أولئك النصارى إلى باب الزاهرة ، فضربت أعناقهم ، وضربت رقبة الشيخ معهم.

ثم ذكر هذا المؤرّخ (٣) قصة الجوهري التي قدّمنا نقلها من مغرب ابن سعيد ، ولكنّا رأينا إعادتها بلفظ هذا المؤرّخ ؛ لأنه أتمّ مساقا إذ قال عطفا على دهائه : ومن ذلك قصة الجوهري التاجر ، وذلك أن رجلا جوهريا من تجّار المشرق قصد المنصور من مدينة عدن بجوهر كثير وأحجار نفيسة ، فأخذ المنصور من ذلك ما استحسنه ، ودفع إلى التاجر الجوهري صرّته ، وكانت قطعة يمانيّة ، فأخذ التاجر في انصرافه طريق الرّملة على شطّ النهر ، فلمّا توسّطها واليوم قائظ ، وعرقه منصبّ دعته نفسه إلى التبرّد في النهر ، فوضع ثيابه وتلك الصّرّة على الشّطّ ، فمرّت حدأة فاختطفت الصّرّة ، تحسبها لحما ، وصارت (٤) في الأفق بها ذاهبة ، فقطعت الأفق الذي تنظر إليه عين التاجر ، فقامت قيامته ، وعلم أنّه لا يقدر أن يستدفع ذلك بحيلة ، فأسرّ

__________________

(١) البرذعة والبردعة : ثوب يوضع على ظهر الحمار أو البغل ، ليركب عليه.

(٢) في ب : الموطومة. ولم أعثر على معنى يوافق السياق ، ولعله أراد بها الأمكنة الكثيرة الوحل إن لم تكن الكلمة قد لحقها التصحيف ، وهو أغلب ظننا.

(٣) البيان المغرب ٢ / ٤٣٥.

(٤) في ب : وصاعدت في الأفق.

٣٢٠