نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

جنس البسط ، قال ابن خلدون : ومن السلاح والعدّة ثمانمائة من التجافيف المزيّنة أيام البروز والمواكب ، وقال ابن الفرضي : مائة تجفاف بأبدع الصناعات وأغربها وأكملها ، قالا : وألف ترس سلطانية ، ومائة ألف سهم ، زاد ابن خلدون : من النّبال البارعة الصنعة ، قال ابن خلدون : ومن الظهر خمسة عشر فرسا من الخيل العراب المتخيّرة لركاب السلطان فائقة النّعوت ، وقال ابن الفرضي : ومن الخيل مائة فرس منها من الخيل العراب المتخيّرة لركابه خمسة عشر فرسا ، وخمس من عرض هذه الخيل مسرجة ملجمة لمراكب الخلافة مجالس سروجها خزّ عراقي ، وثمانون فرسا ممّا يصلح للوصفاء والحشم ، وقال ابن خلدون : مائة فرس من الخيل التي تصلح للركوب في التصرّف والغزوات ، وقال ابن الفرضي : وخمسة أبغل عالية الركاب ، وقال ابن خلدون : وعشرون من بغال الركاب مسرجة ملجمة لمراكب الخلافة مجالس سروجها خزّ جعفري عراقي ، قالا : ومن الرقيق أربعون وصيفا وعشرون جارية من متخيّر الرقيق بكسوتهم وجميع آلاتهم. وقال ابن خلدون في الجواري : متخيّرات بكسوتهنّ وزينتهنّ ، وقال ابن خلدون : ومن سائر الاصناف قرية تغلّ آلافا من أمداد الزرع ، ومن الصخر للبنيان ما أنفق عليه في عام واحد ثمانون ألف دينار ، وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب وأصلبه وأقومه قيمتها خمسون ألف دينار ، انتهى.

وقال ابن الفرضي نقلا عن كتاب ابن شهيد المصحوب مع الهدية عندما ذكر الرقيق ما صورته : وكان قد أربى ـ أيّده الله! ـ بابتياعهم من مال الأخماس ، فابتعتهم من نعمته عندي ، وصيّرتهم من بعثي ، ومع ذلك عشر قناطير سكر طبرزذ لا سحاق فيه.

وفي آخر الكتاب : ولمّا علمت تطلّع مولاي ـ أيّده الله تعالى! ـ إلى قرية كذا بالقنبانية (١) المنقطعة الغرس شرفها (٢) ، وترداده ـ أيّده الله تعالى! ـ لذكرها لم أهنأ بعيش حتى أعملت الحيلة في ابتياعها بأحوازها ، وأكتبت وكيله ابن بقية الوثيقة فيها باسمه ، وضمّها إلى ضياعه ، وكذلك صنعت في قرية شيرة من نظر جيّان عندما اتّصل بي من وصفه لها وتطلّعه إليها ، فما زلت أتصدّى لمسرّته بها حتى ابتعتها الآن بأحوازها وجميع منازلها وربوعها ، واحتاز ذلك كله الوكيل ابن بقيّة ، وصار في يده له أبقاه الله سبحانه ، وأرجو أنه سيرفع فيها في هذه السنة

__________________

(١) القنبانية : تطلق على السهول ، وكانت تطلق علما على كثير من المواضع بالأندلس وأهمها السهول والروابي التي تمتد إلى جنوبي قرطبة في حوض الوادي الكبير.

(٢) في ب : في شرفها.

٢٨١

آلاف أمداد من الأطعمة إن شاء الله تعالى. ولمّا علمت نافذ عزمه ـ أبقاه الله تعالى! ـ في البنيان ، وكلفه به ، وفكّرت في عدد الأماكن التي تطلع نفسه الكريمة إلى تخليد آثاره في بنيانها ـ مدّ الله تعالى في عمره ، وأوفى بها على أقصى أمله! ـ علمت أنّ أسّه وقوامه الصخر والاستكثار منه ، فأثارت لي همّتي ونصيحتي حكمة حيلة أحكمها سعدك وجدّك اللذان يبعثان ما لا يتوهّم عليه ، حيلة أقيم لك فيها بعام واحد عدد ما كان يقوم على يدي عبدك ابن عاصم في عشرين عاما ، وينتهي تحصيل النفقة فيه إلى نحو الثمانين ألفا أعجل شأنه في عام ، سوى التوفير العظيم الذي يبديه العيان قبلا إن شاء الله تعالى ، وكذلك ما ثاب إليّ في أمر الخشب لهذه المنية المكرّمة ، فإنّ ابن خليل عبدك المجتهد الدؤوب انتهى في تحصيل عدد ما تحتاج إليه إلى ثلاثمائة ألف عود ونيّف على عشرين ألف عود ، على أنه لا يدخل منه في السنة إلّا نحو الألفي عود ، ففتح لي سعدك رأيا أقيم له بتمامه جميع هذا الخشب العام على كماله بورود الجليبة (١) لوقتها ، وقيمته على الرخص ما بين الخمسين ألفا والستّين ألفا ، انتهى.

ومن غريب ما يحكى عن أمير المؤمنين الناصر المذكور أنه أراد الفصد (٢) ، فقعد بالبهو في المجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته بالزهراء ، واستدعى الطبيب لذلك ، وأخذ الطبيب الآلة وجسّ يد الناصر ، فبينما هو إذ أطلّ زرزور (٣) فصعد على إناء ذهب بالمجلس ، وأنشد :

[مجزوء الكامل]

أيها الفاصد رفقا

بأمير المؤمنينا

إنّما تفصد عرقا

فيه محيا العالمينا

وجعل يكرّر ذلك المرة بعد المرة ، فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك غاية الاستظراف ، وسرّ به غاية السرور ، وسأل عمّن اهتدى إلى ذلك وعلّم الزّرزور ، فذكر له أن السيدة الكبرى مرجانة أمّ ولده وليّ عهده الحكم المستنصر بالله صنعت ذلك ، وأعدّته لذلك الأمر ، فوهب لها ما ينيف على ثلاثين ألف دينار.

وذكر ابن بسّام أن أبا عامر بن شهيد أحمد بن عبد الملك الوزير أهدي له غلام من النصارى لم تقع العيون على شبهه ، فلمحه الناصر فقال لابن شهيد : أنّى لك هذا؟ قال : هو من عند الله ، فقال له الناصر : تتحفوننا بالنجوم وتستأثرون بالقمر ، فاستعذر واحتفل في هدية

__________________

(١) الجليبة : أراد الخشب المجلوب.

(٢) الفصد : شق العرق لاستخراج الدم.

(٣) الزرزور : طائر من نوع العصافير.

٢٨٢

بعثها مع الغلام ، وقال : يا بني ، كن مع جملة ما بعثت به ، ولو لا الضرورة ما سمحت بك نفسي ، وكتب معه هذين البيتين : [الطويل]

أمولاي هذا البدر سار لأفقكم

وللأفق أولى بالبدور من الأرض

أرضيكم بالنّفس وهي نفيسة

ولم أر قبلي من بمهجته يرضي

فحسن ذلك عند الناصر ، وأتحفه بمال جزيل ، وتمكّنت عنده مكانته ، ثم إنه بعد ذلك أهديت إليه جارية من أجمل نساء الدنيا ، فخاف أن ينتهي ذلك إلى الناصر فيطلبها فتكون كقصة الغلام ، فاحتفل في هدية أعظم من الأولى ، وبعثها معها ، وكتب له : [الطويل]

أمولاي ، هذي الشمس والبدر أوّلا

تقدّم كيما يلتقي القمران

قران لعمري بالسعادة قد أتى

فدم منهما في كوثر وجنان

فما لهما والله في الحسن ثالث

وما لك في ملك البريّة ثاني

فتضاعفت مكانته عنده.

ثم إن أحد الوشاة رفع للملك أنه بقي في نفسه من الغلام حرارة ، وأنه لا يزال يذكره حين تحرّكه الشّمول (١) ، ويقرع السّنّ (٢) على تعذّر الوصول ، فقال للواشي : لا تحرّك به لسانك ، وإلّا طار رأسك ، وأعمل الناصر حيلة في أن كتب على لسان الغلام رقعة منها : «يا مولاي ، تعلم أنك كنت لي على انفرادي (٣) ، ولم أزل معك في نعيم ، وإنّي وإن كنت عند الخليفة مشارك في المنزلة ، محاذر ما يبدو من سطوة الملك ، فتحيّل في استدعائي منه» ، وبعثها مع غلام صغير السنّ ، وأوصاه أن يقول : من عند فلان ، وإنّ الملك لم يكلّمه قطّ ، إن سأله عن ذلك ، فلمّا وقف أبو عامر على تلك الرسالة واستخبر الخادم علم من سؤاله ما كان في نفسه من الغلام ، وما تكلّم به في مجالس المدام ، فكتب على ظهر الرقعة ولم يزد حرفا :

[الطويل]

أمن بعد إحكام التجارب ينبغي(٤) ٤

لديّ سقوط الطّير في غابة الأسد

وما أنا ممّن يغلب الحبّ قلبه

ولا جاهل ما يدّعيه أولو الحسد

فإن كنت روحي قد وهبتك طائعا

وكيف يردّ الرّوح إن فارق الجسد؟

فلما وقف الناصر على الجواب تعجّب من فطنته ، ولم يعد إلى استماع واش به.

__________________

(١) الشمول : من أسماء الخمر.

(٢) يقرع السن : كناية عن الندم.

(٣) في ب : انفراد.

(٤) في ب : يبتغى.

٢٨٣

ودخل عليه بعد ذلك فقال له : كيف خلصت من الشّرك؟ فقال : لأنّ عقلي بالهوى غير مشترك ، فأنعم عليه ، وزادت محبّته عنده ، وممّن ذكر هذه الحكاية صاحب «مطالع البدور ، في منازل السرور».

وأخبار الناصر طويلة جدّا ، وقد منح الظفر على الثوّار ، واستنزلهم من معاقلهم ، حتى صفا له الوقت ، وكانت له في جهاد العدوّ اليد البيضاء ، فمن غزواته أنه غزا سنة ثمان وثلاثمائة إلى جلّيقية وملكها أردون بن أذفونش ، فاستنجد بالبشكنس والإفرنجة وظاهر شانجه بن فريلة (١) صاحب ينبلونة أمير البشكنس ، فهزمهم ، ووطئ بلادهم ، ودوّخ أرضهم ، وفتح معاقلهم ، وخرّب حصونهم ، ثم غزا ينبلونة (٢) سنة ثنتي عشرة ، ودخل دار الحرب ، ودوّخ البسائط ، وفتح المعاقل ، وخرّب الحصون ، وأفسد العمائر ، وجال فيها ، وتوغّل في قاصيتها ، والعدوّ يحاذيه في الجبال والأوعار ، ولم يظفر منه بشيء ، ثم بعد مدّة ظفر ببعض الثوّار عليه ، وكان استمدّ بالنصارى فقتل الناصر من كان مع الثائر من النصارى أهل ألبة ، وفتح ثلاثين من حصونهم ، وبلغه انتقاض طوطة (٣) ملكة البشكنس فغزاها في ينبلونة ودوّخ أرضها واستباحها ، ورجع إلى قرطبة ، ثم غزا غزوة الخندق سنة سبع وعشرين إلى جلّيقية فانهزم وأصيب فيها المسلمون ، وقعد بعدها عن الغزو بنفسه ، وصار يردّد البعوث والصوائف إلى الجهاد ، وبعث جيوشه إلى المغرب فملك سبتة وفاسا وغيرهما من بلاد المغرب ، وطار صيته وانتشر ذكره كما سبق. ولمّا هلك شانجه بن فرويلة (٤) ملك البشكنس قام بأمرهم بعده أمه طوطة ، وكفلت ولده ، ثم انتقضت على الناصر سنة خمس وعشرين ، فغزا الناصر بلادها ، وخرّب نواحي ينبلونة وردّد عليها ، كما مرّ ، الغزوات. وكان قبل ذلك سنة ثنتين وعشرين غزا إلى وخشمة ، ثم رحل إلى ينبلونة ، فجاءته طوطة بطاعتها وعقد لابنها غرسيه على ينبلونة ، ثم عدل إلى ألبة وبسائطها فدوّخها وخرّب حصونها ، ثم اقتحم جلّيقيّة وملكها يومئذ ردمير بن أردون ، فخام عن لقائه ، ودخل وخشمة ، فنازله الناصر فيها ، وهدم برغش (٥) وكثيرا من معاقلهم ، وهزمهم مرارا ، ورجع ، ثم كانت بعدها غزوة الخندق السابقة ، وهابته أمم النصرانية. ثم وفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل صاحب قسطنطينية وهديته ، وهو يومئذ قسطنطين ، واحتفل الناصر

__________________

(١) في ب : شانجه بن غرسيه.

(٢) في ب : بنبلونة.

(٣) في ب : انتفاض طوطة.

(٤) في ب : ولما هلك غرسيه بن شانجه .... قام بأمرهم بعده أمه طوطة.

(٥) برغش : إحدى المدن الشمالية على حدود الأندلس.

٢٨٤

لقدومهم في يوم مشهود ، وقال ابن خلدون : ركبت في ذلك اليوم العساكر بالسلاح في أكمل شكّة (١) ، وزيّن القصر الخلافيّ بأنواع الزينة وأصناف الستور ، وحمّل السرير الخلافيّ بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام والقرابة ، ورتّب الوزراء والخدمة في مواقفهم ، ودخل الرّسل فهالهم ما رأوه ، وقرّبوا حتى أدّوا رسالتهم. وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك المحفل ، ويعظّموا من أمر الإسلام والخلافة ، ويشكروا نعمة الله على ظهور دينه وإعزازه ، وذلّة عدوّه ، فاستعدّوا لذلك. ثم بهرهم هول المجلس فوجموا ، وشرعوا في القول فأرتج عليهم ، وكان فيهم أبو علي القالي وافد العراق ، كان في جملة الحكم وليّ العهد وندبه لذلك استئثارا ، فعجز (٢) ، فلمّا وجموا كلّهم قام منذر بن سعيد البلّوطي من غير استعداد ولا رويّة ولا تقدّم له أحد بشيء من ذلك ، فخطب واستحضر (٣) وجلّى في ذلك القصد ، وأنشد شعرا طويلا ارتجله في ذلك الغرض ، ففاز بفخر ذلك المجلس ، وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع ، وأعجب به الناصر ، وولّاه القضاء بعدها ، وأصبح من رجالات المعالم ، وأخباره مشهورة ، وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيّان وغيره. ثم انصرف هؤلاء الرّسل ، وبعث الناصر معهم هشام بن هذيل بهديّة حافلة ليؤكّد المودّة ويحسن الإجابة ، ورجع بعد سنتين وقد أحكم من ذلك ما شاء وجاءت معه رسل قسطنطين. ثم جاء رسول من ملك الصقالبة ـ وهو يومئذ دوقوه ـ ورسول آخر من ملك الألمان ، ورسول آخر من ملك الإفرنجة وراء البرت ـ وهو يومئذ أوفة ـ ورسول آخر من ملك الإفرنجة بقاصية المشرق ـ وهو يومئذ كلدة ـ واحتفل الناصر لقدومهم ، وبعث مع رسول الصقالبة ربيعا الأسقفّ إلى ملكهم دوقوه ورجع بعد سنتين.

وفي سنة أربع وأربعين جاء رسول أردون يطلب السلم ، فعقد له ، ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال فردلند قومس قشتيلة في عهده فأذن له في ذلك ، وأدخل في عهده ، وكان غرسيه بن شانجه قد استولى على جلّيقيّة بعد أبيه شانجه بن فرويله (٤) ثم انتقض

__________________

(١) الشكة : السلاح الكامل ، العدة الكاملة ، ومنه : شاكي السلاح.

(٢) في ب : استئثارا بفخره ، فلما ...

(٣) في ب : واسحنفر.

(٤) في ب : فرذلند.

٢٨٥

عليه أهل جليقية ، وتولّى كبرهم قومس قشتيلة فردلند المذكور ، ومال إلى أردون بن ردمير ، وكان غرسيه بن شانجه حافدا لطوطة ملكة البشكنس ، فامتعضت لحافدها غرسيه ، ووفدت على الناصر سنة سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجه بن ردمير الملك ، وإعانة حافدها غرسيه بن شانجه على ملكه ، ونصره من عدوّه ، وجاء الملكان معها ، فاحتفل الناصر لقدومهم ، وعقد الصلح لشانجه وأمّه ، وبعث العساكر مع غرسيه ملك جلّيقية فردّ عليه ملكه ، وخلع الجلالقة طاعة أردون إليه ، وبعث إلى الناصر يشكره على فعلته ، وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك ، وبما ارتكبه فردلند قومس قشتيلة في نكثه ووثوبه ، ويعيّره بذلك عند الأمم ، ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك ، ولمّا وصل رسول كلدة ملك الإفرنجة بالشرق ، كما تقدّم ، وصل معه رسول ملك برشلونة وطرّكونة راغبا في الصلح ، فأجابه الناصر ، ووصل بعده رسول صاحب رومة يخطب المودّة فأجيب ؛ انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار.

ولنفصّل بعض ما أجمله فنقول : ذكر ابن حيّان وغير واحد أنّ ملك الناصر بالأندلس كان في غاية الضخامة ورفعة الشأن ، وهادته الروم ، وازدلفت (١) إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر ، ولم تبق أمّة سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلّا وفدت عليه خاضعة راغبة ، وانصرفت عنه راضية ، ومن جملتهم صاحب القسطنطينية العظمى ، فإنه هاداه (٢) ، ورغب في موادعته ، وكان وصول أرساله في صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة ، وتقدّم في كلام ابن خلدون أنها ستّ وثلاثون ، فالله أعلم أيّهما أصحّ ، وتأهّب الناصر لورودهم وأمر أن يتلقّوا أعظم تلقّ وأفخمه ، وأحسن قبول وأكرمه ، وأخرج إلى لقائهم ببجاية يحيى بن محمد بن الليث وغيره لخدمة أسباب الطريق ، فلمّا صاروا بأقرب المحلّات من قرطبة خرج إلى لقائهم القوّاد في العدد والعدّة والتعبية ، فتلقّوهم قائدا بعد قائد ، وكمل اختصاصهم بعد ذلك ، بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسرا وتمّاما ، إبلاغا في الاحتفال بهم ، فلقياهم بعد القواد ، فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وإكرامه ؛ لأنّ الفتيان حينئذ هم عظماء الدولة ، لأنهم أصحاب الخلوة مع الناصر وحرمه وبيدهم القصر السلطانيّ ، وأنزلوا بمنية وليّ العهد الحكم المنسوبة إلى نصير (٣) بعدوة قرطبة في الرّبض ، ومنعوا من لقاء الخاصّة والعامّة جملة ، ومن ملابسة الناس طرّا ، ورتّب لحجابتهم رجال تخيّروا من الموالي ووجوه الحشم فصيّروا على باب قصر هذه المنية ستة عشر رجلا لأربع دول ، لكل دولة أربع منهم ،

__________________

(١) ازدلفت إليه : تزلفت إليه.

(٢) هاداه : أي أهدى كل منهما شيئا إلى الآخر.

(٣) في ب : نصر.

٢٨٦

ورحل الناصر لدين الله من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه ، فقعد لهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من السنة المذكورة في بهو المجلس الزاهر قعودا حسنا نبيلا ، وقعد عن يمينه وليّ العهد من بنيه الحكم ثم عبد الله (١) ثم عبد العزيز ثم الأصبغ ثم مروان ، وقعد عن يساره المنذر ثم عبد الجبّار ثم سليمان ، وتخلّف عبد الملك ؛ لأنه كان عليلا لم يطق الحضور ، وحضر الوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا ، ووقف الحجّاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهم ، وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدرانك (٢) ، وظلّلت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور ، فوصل رسل ملك الروم حائرين ممّا رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان ، ودفعوا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى قسطنطين بن ليون ، وهو في رقّ (٣) مصبوغ لونا سماويا مكتوب بالذهب بالخط الإغريقي ، وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة أيضا مكتوبة بفضة بخط إغريقي أيضا فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها ، وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل ، على الوجه الواحد منه صورة المسيح ، وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده ، وكان الكتاب بداخل درج فضة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطين الملك معمولة من الزجاج الملوّن البديع ، وكان الدّرج داخل جعبة ملبسة بالديباج ، وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه : قسطنطين ورومانين (٤) المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم ، وفي سطر آخر : إلى (٥) العظيم الاستحقاق الفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس ، أطال الله بقاءه. ولمّا احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحبّ أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه ، لتذكر جلالة مقعده وعظيم سلطانه ، وتصف ما تهيّأ من توطيد الخلافة في دولته. وتقدّم إلى الأمير الحكم ابنه وليّ عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء ، ويقدّمه أمام نشيد الشعراء ، فأمر الحكم صنيعه الفقيه محمد بن عبد البرّ الكسنيانيّ بالتأهّب لذلك ، وإعداد خطبة بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة ، وكان يدّعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره ، وحضر المجلس السلطاني ، فلمّا قام يحاول التكلّم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبّهة الخلافة ، فلم يهتد إلى لفظة ، بل غشي عليه وسقط إلى

__________________

(١) في ب : عبيد الله.

(٢) الدرانك : جمع درنك ، وهو بساط ذو خمل قصير.

(٣) الرق ـ بفتح الراء وتشديد القاف ـ الجلد الرقيق يكتب فيه ، وفي التنزيل الكريم (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)

(٤) في ب : ورومانس.

(٥) إلى : ساقطة في ب.

٢٨٧

الأرض ، فقيل لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي صاحب الأمالي والنوادر ، وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة : قم فارفع هذا الوهي (١) ، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلّى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ، هكذا ذكر ابن حيّان وغيره ، وكلام ابن خلدون السابق يقتضي أنّ القالي هو المأمور بالكلام أوّلا والمعدّ لذلك ، ونحوه في المطمح ، والخطب سهل ، ثم انقطع القول بالقالي ، فوقف ساكتا مفكّرا في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه ، وقال في المطمح : إن أبا علي القالي انقطع وبهت ، وما وصل إلّا قطع ، ووقف ساكتا متفكّرا ، لا ناسيا ولا متذكّرا ، فلمّا رأى ذلك منذر بن سعيد ـ وكان ممّن حضر في زمرة الفقهاء ـ قام من ذاته ، بدرجة من مرقاته ، فوصل افتتاح أبي علي لأوّل خطبته بكلام عجيب ، ونادى من الإحسان في (٢) ذلك المقام كلّ مجيب ، يسحّه سحّا كأنما كان يحفظه قبل ذلك بمدّة ، وبدأ من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي ، فقال (٣) : أمّا بعد حمد الله والثناء عليه ، والتعداد لآلائه ، والشكر لنعمائه ، والصلاة والسلام على محمد صفيّه وخاتم أنبيائه ، فإن لكل حادثة مقاما ، ولكلّ مقام مقال ، وليس بعد الحق إلّا الضلال. وإنّي قد قمت في مقام كريم ، بين يدي ملك عظيم ؛ فأصغوا إليّ معشر الملإ بأسماعكم ، وأتقنوا (٤) عني بأفئدتكم ، إنّ من الحقّ أن يقال للمحقّ صدقت ، وللمبطل كذبت ، وإنّ الجليل تعالى في سمائه ، وتقدّس بصفاته وأسمائه ، أمر كليمه موسى صلّى الله على نبيّنا وعليه وعلى جميع أنبيائه ، أن يذكّر قومه بأيام الله ، عزّ وجلّ ، عندهم ، وفيه وفي رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، أسوة حسنة ، وإنّي أذكّركم بأيام الله عندكم ، وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمّت شعثكم ، وأمّنت سربكم ، ورفعت قوّتكم (٥) ، بعد أن كنتم قليلا فكثركم ، ومستضعفين فقوّاكم ، ومستذلّين فنصركم ، ولّاه الله رعايتكم ، وأسند إليه إمامتكم ، أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق ، وأحاطت بكم شعل النفاق ، حتى صرتم في مثل حدقة البعير ، من ضيق الحال ونكد العيش والتغيير ، فاستبدلتم بخلافته من الشدّة بالرخاء ، وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء ، أنشدكم بالله (٦) معاشر الملإ ، ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها ، والسّبل مخوفة فأمّنها ، والأموال منتهبة فأحرزها وحصّنها؟ ألم تكن البلاد خرابا فعمرها ، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته ، وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته ، حتى أذهب الله عنكم غيظكم ، وشفى صدوركم ، وصرتم يدا على

__________________

(١) الوهي : الضعف.

(٢) في ب : ونادى في الإحسان من ذلك المقام.

(٣) في ب : والقنوا.

(٤) في ب : فرقكم.

(٥) في ب : أنشدكم الله.

(٦) في ب : ناشدتكم الله.

٢٨٨

عدوّكم ، بعد أن كان بأسكم بينكم ، فأنشدكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها؟ ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكل ذلك إلى القوّاد والأجناد ، حتى باشره بالقوّة والمهجة والأولاد ، واعتزل النّسوان ، وهجر الأوطان ، ورفض الدّعة وهي محبوبة ، وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة ، بطويّة صحيحة ، وعزيمة صريحة ، وبصيرة ثابتة نافذة ثاقبة ، وريح هابّة غالبة ، ونصرة من الله واقعة واجبة ، وسلطان قاهر ، وجدّ ظاهر ، وسيف منصور ، تحت عدل مشهور ، متحمّلا للنّصب (١) ، مستقلّا لما ناله في جانب الله من التعب ، حتى لانت الأحوال بعد شدّتها ، وانكسرت شوكة الفتنة عند حدّتها ، ولم يبق لها غارب إلّا جبّه ، ولا نجم لأهلها قرن إلّا جدّه (٢) فأصبحتم بنعمة الله إخوانا ، وبلمّ أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا ، حتى تواترت لديكم الفتوحات ، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات (٣) ، وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم ، وآمال الأقصين والأدنين مستخدمة إليه وإليكم ، يأتون من كل فجّ عميق ، وبلد سحيق ، لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلا ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ولن يخلف الله وعده ، ولهذا الأمر ما بعده ، وتلك أسباب ظاهرة بادية ، تدلّ على أمور باطنة خافية ، دليلها قائم ، وجفنها غير نائم (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور : ٥٥] الآية ، وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب ، ولكلّ نبإ مستقرّ ولكلّ أجل كتاب ، فاحمدوا الله أيّها الناس على آلائه ، واسألوه المزيد من نعمائه ، فقد أصبحتم بخلافة أمير المؤمنين أيّده الله بالعصمة والسّداد ، وألهمه خالص (٤) التوفيق إلى سبيل الرشاد ، أحسن الناس حالا ، وأنعمهم بالا ، وأعزّهم قرارا ، وأمنعهم دارا ، وأكثفهم جمعا ، وأجملهم صنعا ، لا تهاجون ولا تذادون ، وأنتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون ، فاستعينوا على صلاح أحوالكم ، بالمناصحة لإمامكم ، والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عمّ نبيّكم ، صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّ من نزع يدا من الطاعة ، وسعى في تفريق الجماعة ، ومرق من الدين ، فقد (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الحج : ١١] وقد علمتم أنّ في التعلّق بعصمتها ، والتمسّك بعروتها ، حفظ الأموال وحقن الدماء ، وصلاح الخاصّة والدّهماء ، وأنّ بقوام الطاعة تقام الحدود ، وتوفى العهود ، وبها وصلت الأرحام ، ووضحت الأحكام ، وبها سدّ الله الخلل ، وأمّن السّبل ، ووطّأ الأكناف ، ورفع الاختلاف ، وبها طاب لكم القرار ، واطمأنّت بكم الدار ، فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به ، فإنه تبارك وتعالى يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] ، وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين ، وصنوف الملحدين ، الساعين في شقّ عصاكم ، وتفريق ملاكم ، الآخذين

__________________

(١) النصب : التعب.

(٢) في ب : جذّه.

(٣) في ب : بيمن خلافة.

(٤) في ب : بخالص.

٢٨٩

في مخاذلة دينكم (١) ، وهتك حريمكم ، وتوهين دعوة نبيّكم ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيّين والمرسلين ، أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله ربّ العالمين. مستغفرا الله الغفور الرحيم فهو خير الغافرين.

وساق ابن سعيد في «المغرب» هذه الحكاية فقال ما صورته : منذر بن سعيد البلّوطي ، قاضي الجماعة بقرطبة ، خطيب مصقع (٢) ، وله كتب مؤلفة في القرآن والسّنّة والورع ، والردّ على أهل الأهواء والبدع ، شاعر بليغ ، ولد سنة خمس وستّين ومائتين ، وأوّل سببه في التعلّق بعبد الرحمن الناصر لمّا احتفل لدخول رسول ملك الروم صاحب قسطنطينية بقصر قرطبة الاحتفال الذي اشتهر ذكره ، أحبّ أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه ، لذكر جلالة مقعده ، ووصف ما تهيّأ له من توطيد الخلافة ، ورمي ملوك الأمم بسهام بأسه ونجدته ، وتقدّم إلى الأمير الحكم ابنه ووليّ عهده بإعداد من يقوم لذلك من الخطباء ، ويقدّمه أمام إنشاد الشعراء ، فتقدّم الحكم إلى أبي عليّ البغدادي ضيف الخليفة ، وأمير الكلام وبحر اللغة ، أن يقوم ، فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه محمد ، صلّى الله عليه وسلّم ، ثم انقطع ، وبهت فما وصل ولا قطع ، ووقف ساكتا مفكّرا ، فلمّا رأى ذلك منذر بن سعيد قام قائما بدرجة من مرقاة أبي علي ، ووصل افتتاحه بكلام عجيب بهر العقول جزالة ، وملأ الأسماع جلالة ، ثم ذكر الخطبة كما سبق ، وقال بعد إيرادها ما صورته : فصلب العلج وغلب على قلبه ، وقال : هذا كبير القوم ، أو كبش القوم ، وخرج الناس يتحدّثون عن حسن مقامه ، وثبات جنانه ، وبلاغة لسانه ، وكان الناصر أشدّهم تعجّبا منه ، وأقبل على ابنه الحكم ـ ولم يكن يثبت معرفته ـ فسأله عنه ، فقال له : هذا منذر بن سعيد البلّوطي ، فقال : والله لقد أحسن ما شاء ، ولئن أخّرني الله بعد لأرفعنّ من ذكره ، فضع يدك يا حكم عليه ، واستخلصه ، وذكرّني بشأنه ، فما للصنيعة مذهب عنه ، ثم ولّاه الصلاة والخطابة في المسجد الجامع بالزهراء ، ثم توفي محمد بن عيسى القاضي فولّاه قضاء الجماعة بقرطبة ، وأقرّه على الصلاة بالزهراء.

ومن شعره في هذه الواقعة قوله : [الطويل]

مقالي كحدّ السّيف وسط المحافل

فرقت به ما بين حقّ وباطل (٣)

__________________

(١) في المطمح : «ملتكم» وملاكم مخففة من ملئكم.

(٢) خطيب مصقع : بليغ ، عالي الصوت.

(٣) في ب : مقال كحدّ السيف.

٢٩٠

بقلب ذكيّ ترتمي جمراته

كبارق رعد عند رعش الأنامل (١)

فما دحضت رجلي ولا زلّ مقولي

ولا طاش عقلي يوم تلك الزلازل (٢)

وقد حدّقت حولي عيون إخالها

كمثل سهام أثبتت في المقاتل

لخير إمام كان أو هو كائن

لمقتبل أو في العصور الأوائل

ترى الناس أفواجا يؤمّون بابه

وكلّهم ما بين راج وآمل (٣)

وفود ملوك الروم وسط فنائه

مخافة بأس أو رجاء لنائل

فعش سالما أقصى حياة مؤمّلا

فأنت رجاء الكلّ حاف وناعل (٤)

ستملكها ما بين شرق ومغرب

إلى درب قسطنطين أو أرض بابل

انتهى كلام ابن سعيد ، وهو يؤيد كلام ابن خلدون أن المأمور بالخطبة هو القالي (٥).

وذكر أن الناصر قال لابنه الحكم بعد أن سأله عنه : لقد حسن ما شاء ، فلئن كان حبّر (٦) خطبته هذه وأعدّها مخافة أن يدور ما دار فيتلافى الوهي فإنه لبديع من قدرته واحتياطه ، ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته فإنه لأعجب وأغرب.

قال ابن سعيد : ولمّا فرغ منذر من خطبته أنشد : [البسيط]

هذا المقام الذي ما عابه فند

لكنّ قائله أزرى به البلد

لو كنت فيهم غريبا كنت مطّرفا

لكنني منهم فاغتالني النّكد

ويروى بدل هذا الشطر] :

ولا دهاني لهم بغي ولا حسد

لو لا الخلافة أبقى الله حرمتها

ما كنت أرضى بأرض ما بها أحد

قلت : كأنه عرّض بأبي علي القالي ، وتقديمهم إياه في هذا المقام ، والله أعلم.

ومن نظم منذر بن سعيد قوله : [المنسرح]

الموت حوض وكلّنا نرد

لم ينج مما يخافه أحد

__________________

(١) في ب : ترتمي جنباته.

(٢) دحضت رجلي : زلقت.

(٣) يؤمون : يقصدون.

(٤) في ب : رجاء كلّ.

(٥) القالي : هو أبو علي القالي صاحب كتاب الأمالي.

(٦) حبّر الخطبة : كتبها.

٢٩١

فلا تكن مغرما برزق غد

فلست تدري بما يجيء غد

وخذ من الدهر ما أتاك به

ويسلم الروح منك والجسد

والخير والشّرّ لا تذعه فما

في الناس إلّا التشنيع والحسد

وله وقد آذاه شخص فخاطبه بالكنية ، فقيل له : أيؤذيك وأنت تخاطبه بالكنية؟ فقال: [الكامل]

لا تعجبوا من أنّني كنّيته

من بعد ما قد سبّنا وأذانا

فالله قد كنّى أبا لهب وما

كنّاه إلّا خزية وهوانا (١)

وقال في المطمح : منذر بن سعيد البلوطي ، آية حركة وسكون ، وبركة لم تكن معدّة ولا تكون ، وآية سفاهة في تحلّم ، وجهامة وورع في طي تبسّم ، إذا جدّ وجد ، وإذا هزل نزل ، وفي كلتا الحالتين لم ينزل للورع من مرقب (٢) ، ولا اكتسب إثما ولا احتقب (٣) ، ولي قضاء الجماعة بقرطبة أيام عبد الرحمن ، وناهيك من عدل أظهر ، ومن فضل أشهر ، ومن جور قبض ، ومن حقّ رفع ومن باطل خفض ، وكان مهيبا صليبا صارما غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حقّ ورفع ظلم ، واستمرّ في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله ثم ولي ابنه الحكم فأقرّه ، وفي خلافته استعفى مرارا فما أعفي ، وتوفي بعد ذلك لم يحفظ عنه مدّة ولايته قضية جور ، ولا عدّت عليه في حكومته زلّة ، وكان غزير العلم ، كثير الأدب ، متكلّما بالحق ، متبيّنا بالصدق ، له كتب مؤلفة في السّنّة والقرآن والورع ، والردّ على أهل الأهواء والبدع ، وكان خطيبا بليغا وشاعرا محسنا ، ولد عند ولاية المنذر بن محمد ، وتوفي سنة ٣٥٥ ، ومن شعره في الزهد قوله : [الخفيف]

كم تصابى وقد علاك المشيب

وتعامى عمدا وأنت اللبيب (٤)؟

كيف تلهو وقد أتاك نذير

أن سيأتي الحمام منك قريب

يا سفيها قد حان منه رحيل

بعد ذاك الرحيل يوم عصيب

__________________

(١) اعتمد على القرآن الكريم بقوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) فاستعمل الكنية استهانة به واستصغارا له ، ولم يستعمل اسمه وهو عبد العزى.

(٢) المرقب : المكان المرتفع.

(٣) احتقب الإثم : ارتكبه.

(٤) تصابى : أصلها تتصابى حذفت إحدى التاءين ، والتصابي : الميل إلى اللهو والصبوة ، وتعامى : أصلها تتعامى أي تتغافل ، وتتصنع العمى. واللبيب العاقل.

٢٩٢

إنّ للموت سكرة فارتقبها

لا يداوي ، إذا أتتك ، طبيب (١)

كم توانى حتى تصير رهينا

ثم تأتيك دعوة فتجيب

بأمور المعاد أنت عليم

فاعملن جاهدا له يا ربيب

وتذكّر يوما تحاسب فيه

إنّ من يدّكر فسوف ينيب

ليس من ساعة من الدهر إلّا

للمنايا بها عليك رقيب

ولعلّنا نذكر شيئا من أحوال منذر في غير هذا الموضع.

رجع لأخبار الناصر لدين الله ـ حكي أنه لمّا أعذر لأولاد ابنه أبي مروان عبيد الله اتّخذ لذلك صنيعا عظيما بقصر الزهراء لم يتخلّف أحد عنه من أهل مملكته وأمر أن ينذر لشهوده الفقهاء المشاورون ومن يليهم من العلماء والعدول ووجوه الناس ، فتخلّف من بينهم المشاور أبو إبراهيم ، وافتقد مكانه لارتفاع منزلته ، فسأل في ذلك الخليفة الناصر ، إذ أبو إبراهيم من أكابر علماء المالكية الذين عليهم المدار ، ووجد الناصر بسبب ذلك على أبي إبراهيم ، وأمر ابنه وليّ العهد الحكم بالكتاب إليه ، والتفنيد له ، فكتب إليه الحكم رقعة نسختها : «بسم الله الرحمن الرحيم ، حفظك الله وتولّاك! وسدّدك ورعاك! لمّا امتحن أمير المؤمنين مولاي وسيدي ـ أبقاه الله! ـ الأولياء الذين يستعدّ بهم وجدك متقدّما في الولاية ، متأخّرا عن الصّلة ، على أنه قد أنذرك ـ أبقاه الله! ـ خصوصا للمشاركة في السرور الذي كان عنده ، لا أعدمه الله توالي المسرّة ، ثم أنذرت من قبل إبلاغا في التكرمة ، فكان منك على ذلك كله من التخلّف ما ضاقت عليك في المعذرة ، واستبلغ أمير المؤمنين في إنكاره ومعاتبتك عليه ، فأعيت عليك (٢) عنك الحجّة ، فعرّفني ـ أكرمك الله! ـ ما العذر الذي أوجب توقفك عن إجابة دعوته ، ومشاهدة السرور الذي سرّ به ورغب المشاركة فيه ، لنعرّفه ـ أبقاه الله! ـ بذلك ، فتسكن نفسه العزيزة إليه إن شاء الله تعالى». فأجابه أبو إبراهيم : «سلام على الأمير سيدي ورحمة الله ، قرأت ـ أبقى الله الأمير سيدي! ـ هذا الكتاب وفهمته ، ولم يكن توقفي لنفسي ، إنّما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقى الله سلطانه ، لعلمي بمذهبه ، وسكوني إلى تقواه ، واقتفائه لأثر سلفه الطّيّب رضوان الله عليهم ، فإنهم يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنونها بما يشينها (٣) ، ولا بما يغضّ منها ويطرق إلى تنقيصها ، يستعدّون بها لدينهم ، ويتزيّنون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من

__________________

(١) في ب : أريب.

(٢) أعيت عليك عنك الحجة : يجب أن تكون : أعيت عليّ أو علينا عنك الحجة أي لم نستطع الاعتذار عنها.

(٣) لا يمتهنونها : لا يحتقرونها. ويشينها : يعيبها.

٢٩٣

قصّادهم ، فلهذا تخلّفت ، ولعلمي بمذهبه توقّفت ، إن شاء الله تعالى». فلما أقرأ الحكم أباه الناصر لدين الله جواب أبي إبراهيم إسحاق أعجبه ، واستحسن اعتذاره ، وزال ما بنفسه عليه.

وكان الفقيه أبو إبراهيم المذكور معظّما عند الناصر وابنه الحكم ، وحقّ لهما أن يعظّماه ، وقد حكى الفقيه أبو القاسم بن مفرّج قال : كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم ـ رحمه الله تعالى! ـ فيمن يختلف إليه للتفقّه والرواية ، فإني لعنده في بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلّي به قرب داره بجوفيّ قصر قرطبة ، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة ، وذلك بين الصلاتين ، إذ دخل عليه خصيّ من أصحاب الرسائل ، جاء من عند الخليفة الحكم ، فوقف وسلّم ، وقال له : يا فقيه ، أجب أمير المؤمنين أبقاه الله ، فإنّ الأمر خرج فيك ، وها هو قاعد ينتظرك ، وقد أمرت بإعجالك ، فالله الله ، فقال له : سمعا وطاعة لأمير المؤمنين ، ولا عجلة ، فارجع إليه وعرّفه وفّقه الله عني أنك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى معي طلاب العلم أسمعهم حديث ابن عمّه رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، فهم يقيّدونه عني ، وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتمّ المجلس المعهود لهم في رضا الله وطاعته ، فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة ، فإذا انقضى أمر من اجتمع إليّ من هؤلاء المحتسبين (١) في ذات الله الساعين لمرضاته مشيت إليه إن شاء الله تعالى. ثم أقبل على شأنه ، ومضى الخصيّ يهينم (٢) متضاجرا من توقّفه ، فلم يك إلّا ريثما أدّى جوابه ، وانصرف سريعا ساكن الطيش ، فقال له : يا فقيه ، أنهيت قولك (٣) على نصّه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله ، فأصغى إليه ، وهو يقول لك : جزاك الله خيرا عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين! وأمتعهم بك! وإذا أنت أوعيت (٤) فامض إليه راشدا إن شاء الله تعالى ، وقد أمرت أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وتمضي معي ، فقال له : حسن جميل ، ولكني أضعف عن المشي إلى باب السّدّة ، ويصعب عليّ ركوب دابّة لشيخوختي وضعف أعضائي ، وباب الصناعة الذي يقرب إليّ من أبواب القصر المكرّم أحوط لي وأقرب ، وأرفق بي ، فإن رأى أمير المؤمنين ـ أيّده الله تعالى! ـ أن يأمر بفتحه لأدخل إليه منه هوّن عليّ المشي ، وودع جسمي ، وأحبّ أن تعود وتنهي إليه ذلك عنّي حتى تعرف رأيه فيه ، وكذلك تعود إليّ فإني أراك فتى سديدا ، فكن على الخير معينا. ومضى عنه الفتى ، ثم رجع بعد حين وقال : يا فقيه ، قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت ، وأمر

__________________

(١) احتسب : ابتغى أجره من الله.

(٢) يهينم : يتكلم بصوت خفي لا يسمعه أحد عنه.

(٣) أنهيت قولك : أبلغته.

(٤) في ب أوعبت.

٢٩٤

بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله ، ومنه خرجت إليك ، وأمرت بملازمتك مذكّرا بالنهوض عند فراغك ، وقال : افعل راشدا. وجلس الخصيّ جانبا حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه بأكمل وأفسح (١) ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق ، فلمّا انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مضى إلى الخليفة الحكم فوصل إليه من ذلك الباب ، وقضى حاجته من لقائه ، ثم صرفه على ذلك الباب ، فأعيد إغلاقه على إثر خروجه. قال ابن مفرّج : ولقد تعمّدنا في تلك العشيّة إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بهذا الباب المعهود إغلاقه بدبر القصر لنرى تجشّم الخليفة له ، فوجدناه مفتوحا كما وصف الخصيّ (٢) ، وقد حفّه الخدم والأعوان منزعجين ما بين كنّاس وفرّاش متأهّبين لانتظار أبي إبراهيم ، فاشتدّ عجبنا لذلك ، وطال تحدّثنا عنه ، انتهى. فهكذا تكون العلماء مع الملوك والملوك مع العلماء (٣) ، قدّس الله تلك الأرواح!.

ثم توفي الناصر لدين الله ثاني ـ أو ثالث ـ شهر رمضان ، من عام خمسين وثلاثمائة ، أعظم ما كان سلطانه ، وأعزّ ما كان الإسلام بملكه.

قال ابن خلدون : خلّف الناصر في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف ألف ألف ثلاث مرات ، انتهى.

وقال غير واحد : إنه كان يقسم الجباية أثلاثا : ثلث للجند ، وثلث للبناء ، وثلث مدّخر ، وكانت جبابة الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستّين ألف دينار ، وأمّا أخماس الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان.

وحكي أنه وجد بخطّ الناصر ـ رحمه الله! ـ أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا من كذا ، وعدّت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما ، فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها ، وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها ، هذا الخليفة الناصر حلف السعود ، المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا والصعود ، ملكها خمسين سنة وستة ـ أو سبعة ـ أشهر وثلاثة أيام ، ولم تصف له إلّا أربعة عشر يوما ، فسبحان ذي العزّة القائمة ، والمملكة الدائمة لا إله إلّا هو.

__________________

(١) في ب : كأفسح.

(٢) في ب : فوجدناه كما وصف الخصي مفتوحا.

(٣) في ب : معهم.

٢٩٥

وممّا ينسب للناصر من الشعر ، وقيل : لابنه الحكم ، قوله (١) : [مخلع البسيط]

ما كلّ شيء فقدت إلّا

عوّضني الله عنه شيّا

إني إذا ما منعت خيري

تباعد الخير من يديّا

من كان لي نعمة عليه

فإنّها نعمة عليّا

وممّا زيّن الله به دولة الناصر وزراؤه الذين من جملتهم ابن شهيد ، قال في المطمح : أحمد بن عبد الملك بن عمر بن شهيد (٢) ، مفخر الإمامة ، وزهر تلك الكمامة ، وصاحب (٣) الناصر عبد الرحمن ، وحامل الوزارتين على سموّها في ذلك الزمان ، استقلّ بالوزارة على ثقلها ، وتصرّف فيها كيف شاء على حدّ نظرها والتفات مقلها ، فظهر على أولئك الوزراء ، واشتهر مع كثرة النظراء ، وكانت إمارة عبد الرحمن أسعد إمارة ، بعد عنها كلّ نفس بالسّوء أمّارة ، فلم يطرقها صرف ، ولم يرمقها محذور بطرف ، فقرع الناس فيها هضاب الأمانيّ ورباها ، ورتعت ظباؤها في ظلال ظباها ، وهو أسد على براثنه رابض ، وبطل أبدا على قائم سيفه قابض ، يروع الروم طيفه ، ويجوس خلال تلك الديار خوفه ، ويروى بل يحسم كلّ آونة سيفه ، وابن شهيد ينتج الآراء ويلقحها ، وينقد تلك الأنحاء وينقحها ، والدولة مشتملة بغنائه ، متجمّلة بسنائه ، وكرمه منتشر على الآمال ، ويكسو الأولياء بذلك الإجمال (٤) ، وكان له أدب تزخر (٥) لججه ، وتبهر حججه ، وشعره رقيق لا ينقد ، ويكاد من اللطافة يعقد ، فمن ذلك قوله : [الطويل]

ترى البدر منها طالعا فكأنّما

يجول وشاحاها على لؤلؤ رطب

بعيدة مهوى القرط مخطفة الحشا

ومفعمة الخلخال مفعمة القلب

من اللّاء لم يرحلن فوق رواحل

ولا سرن يوما في ركاب ولا ركب

ولا أبرزتهنّ المدام لنشوة

وشدو كما تشدو القيان على الشّرب (٦)

__________________

(١) المغرب ج ١ ص ١٧٩.

(٢) ابن شهيد : هو أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن شهيد ، من بني الوضاح ، من أشجع ، من قيس عيلان ، أبو عامر الأشجعي ، وزير من كبار الأندلسيين أدبا وعلما. مولده ووفاته بقرطبة. له شعر جيد يهزل فيه ويجدّ ، وتصانيف بديعة منها : التوابع والزوابع ، توفي سنة ٤٢٦ ه‍ (الأعلام ١ : ١٥٧).

(٣) في ب : وحاجب.

(٤) الإجمال : الإحسان.

(٥) تزخر لججه : تتلاطم أمواجه ، شبه الأدب بالبحر.

(٦) الشّرب : بفتح الشين وسكون الراء ـ الجماعة الشاربون.

٢٩٦

وكان بينه وبين الوزير عبد الملك بن جهور متولّي الأمر معه ، ومشاركه في التدبير إذا حضر مجتمعه ، منافسة ، لم تنفصل لهما بها مداخلة ولا ملابسة ، وكلاهما يتربّص بصاحبه دائرة السّوء ، ويغصّ به غصص الأفق بالنّوء ، فاجتاز يوما على ربضه ، ومال إلى زيارته ولم تكن من غرضه ، فلمّا استأمر عليه ، تأخّر خروج الإذن إليه ، فثنى عنانه حنقا من حجابه ، وضجرا من حجّابه ، وكتب إليه معرّضا ، وكان يلقّب بالحمار : [الطويل]

أتيناك لا عن حاجة عرضت لنا

إليك ولا قلب إليك مشوق

ولكنّنا زرنا بفضل حلومنا

فكيف تلاقى برّنا بعقوق (١)

فراجعه ابن جهور يغضّ منه ، بما كان يشيع عنه ، بأنّ جدّه أبا هشام ، كان بيطارا بالشام ، بقوله : [الطويل]

حجبناك لمّا زرتنا غير تائق

بقلب عدوّ في ثياب صديق

وما كان بيطار الشّآم بموضع

يباشر فيه برّنا بخليق (٢)

ومن شعره قوله يتغزل : [الوافر]

حلفت بمن رمى فأصاب قلبي

وقلّبه على جمر الصّدود

لقد أودى تذكّره بقلبي

ولست أشكّ أنّ النّفس تودي

فقيد وهو موجود بقلبي

فوا عجبا لموجود فقيد

وقد تقدّم الكلام على هدية ابن شهيد وبعض أخباره ، رحمة الله عليه!.

ولمّا توفي الناصر لدين الله تولّى الخلافة بعده وليّ عهده الحكم المستنصر بالله فجرى على رسمه ، ولم يفقد من ترتيبه إلّا شخصه ، وولي حجابته جعفر المصحفي (٣).

وأهدى له يوم ولايته هديّة كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيّان في «المقتبس» وهي : مائة مملوك من الإفرنج ناشبة (٤) على خيول صافنة كاملو الشّكة والأسلحة من السيوف والرماح والدّرق والتّراس والقلانس الهندية ، وثلاثمائة ونيّف وعشرون درعا مختلفة الأجناس ، وثلاثمائة

__________________

(١) في ب :

ولكننا زرنا بفضل حلومنا

حمارا تولّى برّنا بعقوق

(٢) خليق : جدير ، حقيق.

(٣) وفي بعض النسخ جعفر الصقلبي وهو خطأ.

(٤) في ب : ناشئة.

٢٩٧

خوذة كذلك ، ومائة بيضة هندية ، وخمسون خشبية (١) من بيضات الفرنجة من غير الخشب يسمّونها الطاشانية (٢) ، وثلاثمائة حربة إفرنجية ، ومائة ترس سلطانية ، وعشرة جواشن فضة مذهبة ، وخمسة وعشرون قرنا مذهبة من قرون الجاموس ، انتهى.

قال ابن خلدون (٣) : ولأوّل وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور ، فغزا الحكم المستنصر بنفسه ، واقتحم بلد فرلند (٤) بن غندشلب ، فنازل شنت إشتبين (٥) وفتحها عنوة واستباحها ، وقفل ، فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عمّا كانوا فيه. ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جلّيقية وسار إلى مدينة سالم لدخول دار الحرب ، فجمع له الجلالقة ، ولقيهم ، فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر بلد فرذلند ودوّخها ، وكان شانجه بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض ، فأغزاه الحكم التجيبيّ صاحب سرقسطة في العساكر. وجاء ملك الجلالقة لنصره ، فهزمهم ، وامتنعوا بقورية (٦) ، وعاثوا في نواحيها ، وقفل ، ثم أغزى الحكم أحمد بن يعلى ويحيى بن محمد التجيبي إلى بلاد برشلونة ، فعاثت العساكر في نواحيها ، وأغزى هذيل بن هاشم ومولاه غالبا إلى بلاد القومس ، فعاثا فيها ، وقفلا ، وعظمت فتوحات الحكم وقوّاد الثغور في كل ناحية ، وكان من أعظمها فتح قلمرية (٧) من بلاد البشكنس على يد غالب ، فعمرها الحكم ، واعتنى بها ، ثم فتح قطوبية (٨) على يد قائد وشقة وغنم فيها من الأموال والسلاح والأقوات والأثاث وفي بسيطها من الغنم والبقر والرّمك والأطعمة والسّبي ما لا يحصى.

وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلد ألبة ، ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون ، فابتنى حصن غرماج (٩) ودوّخ بلادهم ، وانصرف. وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير ، وأفسدوا بسائط أشبونة وناشبهم الناس القتال ، فرجعوا إلى مراكبهم ، وأخرج الحكم القوّاد لاحتراس السواحل ، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بتعجيل حركة الأسطول. ثم وردت الأخبار بأن العساكر نالت منهم في كل جهة من السواحل.

__________________

(١) في ب : وخمسون خوذة خشبية.

(٢) في ب : الطشطانة.

(٣) ابن خلدون ج ٤ / ١٨٥ ، ط دار الفكر ـ بيروت.

(٤) في ب : فرذلند.

(٥) في ب : اشتيبن.

(٦) قورية : بالأندلس ، قريبة من ماردة وبينها وبين قنطرة السيف مرحلتان وهي من أحصن المعاقل وأكثر ثمارها العنب والتين (صفة جزيرة الأندلس ١٦٤).

(٧) في ب : قلهرّة.

(٨) كذا في كل النسخ ، ولعلها قطريبة أو قطلونية ، إذ ليس في المراجع التي بين أيدينا بلد باسم قطوبية.

(٩) انظر (المقتبس ص ٢٣٤).

٢٩٨

ثم كانت وفاة أردون بن أذفونش ملك الجلالقة ، وذلك أن الناصر لمّا أعان عليه شانجه بن ردمير (١) ـ وهو ابن عمّه ، وهو الملك من قبل أردون ـ وحمل النصرانية على طاعته. واستظهر أردون بصهره فردلند قومس قشتيلة ، توقّع مظاهرة الحكم لشانجه كما ظاهره أبوه الناصر ، فبادر إلى الوفادة على الحكم مستجيرا به ، فاحتفل لقدومه ، وعبّى العساكر ليوم وفادته ، وكان يوما مشهودا وصفه ابن حيّان كما وصف أيام الوفادات قبله. ووصل إلى الحكم ، وأجلسه ، ووعده بالنصر من عدوّه ، وخلع عليه ، وكتب بوصوله ملقيا بنفسه ، وعاقده على موالاة الإسلام ، ومقاطعة فردلند القومس وأعطى على ذلك صفقة يمينه (٢) ، ورهن ولده غرسية ، ودفعت الصّلات والحملان له ولأصحابه. وانصرف معه وجوه نصارى الذمّة ليوطّدوا له الطاعة عند رعيّته ، ويقبضوا رهنه.

وعند ذلك بعث ابن عمّه شانجه بن ردمير ببيعته وطاعته مع قواميس أهل جلّيقية وسمّورة وأساقفتهم ، يرغب في قبوله ، ويمتّ بما فعل أبوه الناصر معه ، فتقبّل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين.

ثم بعث ملكا برشلونة وطرّكونة وغيرهما يسألان تجديد الصلح وإقرارهما على ما كانا عليه ، وبعثا بهدية ، وهي : عشرون صبيّا من الخصيان الصقالبة ، وعشرون قنطارا من صوف السمّور ، وخمسة قناطير من القصدير ، وعشرة أدراع صقلبيّة ، ومائتا سيف فرنجيّة ، فتقبّل الهدية وعقد على أن يهدموا الحصون التي تضرّ بالثغور ، وأن لا يظاهروا عليه أهل ملّتهم ، وأن ينذروا بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين.

ثم وصلت رسل غرسيه بن شانجه ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح ، بعد أن كان توقّف وأظهر المكر ، فقعد لهم الحكم ، فاغتبطوا ورجعوا.

ثم وفدت على الحكم أمّ لذريق بن بلاشك القومس بالقرب من جلّيقية ، وهو القومس الأكبر ، فأخرج الحكم لتلقّيها أهل دولته ، واحتفل لقدومها في يوم مشهود مشهور ، فوصلت وأسعفت ، وعقد السلم لابنها كما رغبت ، ودفع لها مالا تقسّمه بين وفدها ، دون ما وصلت به هي ، وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج. ثم عاودت مجلس الحكم للوداع ، فعاودها بالصّلات لسفرها ، وانطلقت.

__________________

(١) في ب : رذمير.

(٢) أعطاه صفقة يمينه : عاهده.

٢٩٩

ثم أوطأ عساكره أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط ، وتلقّى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة ، فبثّوها في أعمالهم ، وخطبوا بها على منابرهم ، وزاحموا بها دعوة الشّيعة فيما بينهم. ووفد عليه من بني خزر (١) وبني أبي العافية ، فأجزل صلتهم ، وأكرم وفادتهم ، وأحسن منصرفهم ، واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الرّيف. وأجازهم البحر إلى قرطبة ، ثم أجلاهم إلى الإسكندرية.

وكان محبّا للعلوم ، مكرّما لأهلها ، جمّاعا للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله ، قال أبو محمد بن حزم : أخبرني تليد الخصيّ ـ وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان ـ أنّ عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة ، وفي كل فهرسة عشرون (٢) ورقة ، ليس فيها إلّا ذكر أسماء الدواوين لا غير ، وأقام للعلم والعلماء سوقا نافقة (٣) جلبت إليها بضائعه من كل قطر.

قال أبو محمد بن خلدون : ولما وفد (٤) على أبيه أبو علي القالي صاحب كتاب «الأمالي» من بغداد أكرم (٥) مثواه ، وحسنت منزلته عنده ، وأورث أهل الأندلس علمه ، واختصّ بالحكم المستنصر ، واستفاد علمه.

وكان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالا من التجّار ، ويرسل إليهم الأموال لشرائها ، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه. وبعث في كتاب «الأغاني» إلى مصنّفه أبي الفرج الأصفهاني ، وكان نسبه في بني أمية ، وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين ، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق. وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم ، وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذّاق في صناعة النّسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد ، فأوعى (٦) من ذلك كلّه ، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده ، إلّا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء. ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر ، وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر. ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إيّاها عنوة ، انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار.

__________________

(١) في بعض نسخ الكتاب : من بني الحرز. وقد صححناها من ج ٤ / ١٨٧ ط دار الفكر بيروت.

(٢) في الجمهرة : خمسون ورقة.

(٣) يقال : نفقت السوق ، أي راجت.

(٤) في ب : ووفد.

(٥) في ب : فأكرم.

(٦) أوعى : حفظ. وفي القرآن الكريم (جَمَعَ فَأَوْعى).

٣٠٠