نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

فلذلك ما ظلّ عدوّه أبو جعفر المنصور ـ بصدق حسّه ، وبعد غوره ، وسعة إحاطته ـ يسترجح عبد الرحمن كثيرا ، ويعدله بنفسه ، ويكثر ذكره ، ويقول : لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مراسه وقوة أسبابه ، فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذيّ (١) الفذّ في جميع شؤونه ، وعدمه لأهله ونشبه ، وتسلّيه عن جميع ذلك ببعد مرقى همّته ، ومضاء عزيمته ، حتى قذف نفسه في لجج المهالك لابتناء مجده ، فاقتحم جزيرة شاسعة المحل ، نائية المطمع ، عصبية الجند ، ضرب بين جندها بخصوصيته ، وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته ، واستمال قلوب رعيّتها بقضية سياسته ، حتى انقاد له عصيّهم ، وذلّ له أبيّهم ، فاستولى فيها على أريكته ، ملكا على قطيعته (٢) ، قاهرا لأعدائه ، حاميا لذماره ، مانعا لحوزته ، خالطا الرغبة إليه بالرهبة منه ، إنّ ذلك لهو الفتى كلّ الفتى لا يكذب مادحه.

وجعل ابن حيّان من النوادر العجيبة موافقة عبد الرحمن هذا لأبي جعفر المنصور في الرجولية والاستيلاء والصّرامة ، والاجتراء على الكبائر والقساوة ، فإن (٣) أمّ كلّ واحد منهما بربرية. وكان الداخل يقعد للعامّة ، ويسمع منهم ، وينظر بنفسه فيما بينهم ، ويتوصّل إليه من أراده من الناس ، فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقّة ، وكان من عادته أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه ، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه.

وفي كتاب ابن زيدون (٤) أنه كان أصهب (٥) ، خفيف العارضين ، بوجهه خال ، طويل القامة ، نحيف الجسم ، له ضفيرتان ، أعور ، أخشم ؛ والأخشم : الذي لا يشمّ ، وكان يلقّب «بصقر قريش» لكونه تغرّب وقطع البرّ والبحر ، وأقام ملكا قد أدبر وحده.

ولمّا ذكر الحجاري أنه أعور قال : ما أنشد فيه إلّا قول امرئ القيس : [المنسرح]

لكن عوير وفى بذمّته

لا عور شانه ولا قصر (٦)

وقال ابن خلدون : وفي سنة ست وأربعين سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقية إلى

__________________

(١) الأحوذي : الذي يسوق الأمور سوقا حسنا لعلمه بها ، أو السريع في كل ما يقوم به.

(٢) في ب : قطعته.

(٣) في ب وأن.

(٤) كتاب ابن زيدون هو «التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس» لأبي الوليد بن زيدون. ولعل هذا الكتاب لابنه أبي بكر. وقد ذكر هذا الكتاب ابن سعيد في تذييله على رسالة ابن حزم في فضل الأندلس.

(٥) الأصهب : الأشقر المائل إلى الحمرة.

(٦) عوير : هو عوير بن شجنة الطائي / وقد أجار ابنة حجر الكندي أخت امرئ القيس فمدحه امرؤ القيس بالوفاء (ديوان امرئ القيس ١٣٣).

٢٦١

الأندلس ، ونزل بباجة الأندلس داعيا لأبي جعفر المنصور ، واجتمع إليه خلق ، فسار عبد الرحمن إليه ولقيه بنواحي إشبيلية ، فقاتله أياما. ثم انهزم العلاء ، وقتل في سبعة آلاف من أصحابه ، وبعث عبد الرحمن برءوس كثير منهم إلى القيروان ومكّة ، فألقيت في أسواقها سرّا ، ومعها اللواء الأسود ، وكتاب المنصور للعلاء ، فارتاع المنصور لذلك وقال : ما هذا إلّا شيطان ، والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر ، أو كلاما هذا معناه ، وقد مرّ ذكر ذلك. وكثرت ثورة رؤساء العرب بالأندلس على عبد الرحمن الداخل ، ونافسوه ملكه ، ولقي منهم خطوبا عظيمة ، وكانت العاقبة له ، واستراب في آخر أمره بالعرب ، لكثرة من قام عليه منهم ، فرجع إلى اصطناع القبائل من سواهم ، واتخاذ الموالي ، ثم غزا بلاد الإفرنج والبشكنس ومن وراءهم ، ورجع بالظّفر ، وكان في نيّته أن يجدّد دولة بني مروان بالمشرق ، فمات دون ذلك الأمل ، وكانت مدة ملكه ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر ، إذ دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة ، ومات سنة اثنتين وسبعين ، وقيل : إحدى وسبعين ومائة ، في خلافة الرشيد ، وأمّه أمّ ولد بربرية اسمها راح ، ومولده سنة ثلاث عشرة ومائة ، بدير حنّا (١) من أرض دمشق ، وقيل :

بالعليا من تدمر ، ومات أبوه في أيام أبيه هشام سنة ثماني عشرة عن إحدى وعشرين سنة ، وكفله وإخوته جدّهم هشام ، ووهب لعبد الرحمن هذا جميع الأخماس التي اجتمعت للخلفاء بالأندلس ، وأقطعه إيّاها ، ووجّه لحيازتها من الشام سعيد بن أبي ليلى ، وقيل : إنه لمّا قصد المغرب من فلسطين خرج معه أربعة : بدر مولى أبيه ، وأبو شجاع ، وزياد ، وعمرو ، وقيل : إنّ بدرا لحقه ولم يخرج معه ، فالله أعلم ، وخلف من الولد عشرين ، منهم أحد عشر رجلا وتسع إناث.

وحكى غير واحد أنه لمّا هرب من الشام إلى إفريقية قاصدا الأندلس نزل بمغيلة ، فصار بها عند شيخ من رؤساء البربر يدعى وانسوس ، ويكنى أبا قرّة ، فاستتر عنده وقتا ، ولحق به بدر مولى أبيه بجوهر وذهب أنفذته أخته إليه ، فلمّا دخل الأندلس واستتبّ أمره به سار إليه أبو قرة وانسوس البربري ، فأحسن إليه ، وحظي عنده ، وأكرم زوجته تكفات البربرية التي خبأته تحت ثيابها عندما فتّشت رسل ابن حبيب بيتها عنه ، فقال لها عبد الرحمن مداعبا حين استظلّت بظله في الأندلس : لقد عذّبتني بريح إبطيك يا تكفات على ما كان بي من الخوف ، وسطعتني (٢)

__________________

(١) هذا الكلام غير مستقيم ، فإن دير حنا يحدده ياقوت بأنه «دير قديم بالحيرة منذ أيام بناه المنذر لقوم من تنوخ يقال لهم بنو ساطع» فلعل أصل العبارة «بدير خالد» وهو دير بدمشق مقابل باب الفراديس ، وأصل اسمه «دير صليبا» إلا أن سيف الله خالد بن الوليد لما حاصر دمشق نزل فيه فنسب إليه ، (انظر معجم البلدان ٢ : ٥٠٧).

(٢) في ب : وسعطتني.

٢٦٢

بأنتن من ريح الجيف ، فكان جوابها له مسرعة : بل ذلك كان والله يا سيدي منك ، خرج ولم تشعر به من فرط فزعك ، فاستظرف جوابها ، وأغضى عن مواجهتها بمثل ذلك ، وهذا من آفات المزاح.

ومن محاسنه أنه أدار السور بقرطبة ، رحمه الله (١)!.

وتولّى الملك بعده ابنه هشام بعهد منه إليه ، وأمّه أمّ ولد اسمها حلل ، وأفضى إليه الملك وهو بماردة وال عليها ، وكان أبوه يوليه في صباه ويرشّحه للأمر ، وكان الداخل كثيرا ما يسأل عن ابنيه سليمان وهشام ، فيذكر له أن هشاما إذا حضر مجلسا امتلأ أدبا وتاريخا وذكرا لأمور الحرب ومواقف الأبطال ، وما أشبه ذلك ، وإذا حضر سليمان مجلسا امتلأ سخفا وهذيانا ، فيكبر هشام في عينه بمقدار ما يصغر سليمان ، وقال يوما لهشام : لمن هذا الشعر (٢) : [الطويل]

وتعرف فيه من أبيه شمائلا

ومن خاله أو من يزيد ومن حجر (٣)

سماحة ذا ، مع برّ ذا ، ووفاء ذا ،

ونائل ذا ، إذا صحا وإذا سكر

(٤) فقال له : يا سيدي ، لامرىء القيس ملك كندة ، وكأنه قاله في الأمير أعزّه الله! فضمّه إليه استحسانا بما سمع منه ، وأمر له بإحسان كثير ، وزاد في عينيه. ثم قال لسليمان على انفراد : لمن هذا الشعر؟ وأنشده البيتين ، فقال : لعلّهما لأحد أجلاف العرب ، أما لي شغل غير حفظ أقوال بعض الأعراب؟ فأطرق عبد الرحمن ، وعلم قدر ما بين الاثنين من المزية.

ولمّا ولي هشام أشخص المنجم المعروف بالضّبّي من وطنه الجزيرة الخضراء إلى قرطبة ، وكان في علم النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقا وإصابة ، فلمّا أتاه خلا به وقال له : يا ضبّي ، لست أشكّ أنه قد عناك من أمرنا إذ بلغك ما لم ندع تحديد (٥) النظر فيه ، فأنشدك الله إلّا ما نبّأتنا بما ظهر لك فيه ، فلجلج (٦) وقال : أعفني أيها الأمير ، فإني

__________________

(١) في ب : رحمه الله تعالى.

(٢) هذان البيتان لامرىء القيس بن حجر الكندي المتوفى سنة ٥٦٥ م على الأغلب ، وهو أحد شعراء الجاهلية الكبار ، ويزعم كثير من النقاد أنه أكبر شعراء الجاهليين ومعلقته مشهورة. له ديوان طبع أكثر من طبعة.

والبيتان من قصيدة طويلة يبدؤها الشاعر بقوله :

لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر

ولا مقصر يوما فيأتيني بقر

(٣) وقد قال الشاعر قصيدته بسعد بن ضباب وهو ـ فيما زعموا ـ أخو امرئ القيس لأبيه (انظر ديوان امرئ القيس طبعة صادر ١٠١).

(٤) في ب : وبرّ ذا.

(٥) في ب : ما لم يدع تجديد.

(٦) لجلج : تردد في الكلام.

٢٦٣

ألممت به ، ولم أحقّق النظر فيه لجلالته في نفسي ، فقال له : قد أجّلتك لذلك ، فتفرّغ للنظر فيما بقي عليك منه ، ثم أحضره بعد أيام ، فقال : إن الذي سألتك عنه جدّ مني ، مع أني والله ما أثق بحقيقته ، إذ كان من غيب الله الذي استأثر به ، ولكني أحبّ أن أسمع ما عندك فيه ، فالنفس طلعة (١) ، وألزمه الصّلة أو العقوبة ، فقال : اعلم أيها الأمير أنه سوف يستقرّ ملكك ، سعيدا جدّك ، قاهرا لمن عاداك ، إلّا أنّ مدّتك فيه فيما دلّ عليه النظر تكون ثمانية أعوام أو نحوها ، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال : يا ضبّي ، ما أخوفني أن يكون النذير كلّمني بلسانك ، والله لو أنّ هذه المدّة كانت في سجدة لله تعالى لقلّت طاعة له ، ووصله وخلع عليه ، وزهد في الدنيا ، ولزم أفعال الخير والبرّ.

ومن حكاياته في الجود أنه كان قاعدا لراحته في علّية على النهر في حياة والده ، فنظر إلى رجل من قدماء صنائعه من أهل جيّان قد أقبل يوضع السير في الهاجرة ، فأنكر ذلك ، وقدّر شرّا وقع به من قبل أخيه سليمان ، وكان واليا على جيّان ، فأمر بإدخاله عليه ، فقال له : مهيم يا كناني ، فلأمر ما (٢) ، وما أحسبك إلّا مزعجا لشيء دهمك ، فقال : نعم يا سيدي ، قتل رجل من قومي رجلا خطأ ، فحملت الدّية على العاقلة ، فأخذ بها من كنانة عامّة ، وحمل عليّ من بينهم خاصّة ، وقصدني أخوك بالاعتداء إذ عرف مكاني منك ، فمدّ هشام يده إلى جارية كانت وراء الستر ، وقطع قلادة عقد نفيس كان في نحرها ، وقال له : دونك هذا العقد يا كناني ، وشراؤه عليّ ثلاثة آلاف دينار ، فلا تخدعنّ عنه ، وبعه ، وأدّ عن نفسك وعن قومك ، ولا تمكّن الرّجل من اهتضامك ، فقال : يا سيدي ، لم آتك مستجديا ولا لضيق المال عمّا حملته ، ولكني لما اعتمدت بظلم صراح أحببت أن يظهر على (٣) عزّ نصرك ، وأثر ذبّك وامتعاضك ، فأتمجّد بذلك عند من يحسدني على الانتماء إليك ، فقال هشام : فما وجه ذلك؟ فقال : أن تكتب إلى أخيك في الإمساك عنّي ، والقيام بذمّتك لي ، فقال : أمسك العقد ، وركب من حينه إلى والده الداخل ، واستأذن عليه في وقت أنكره ، فانزعج ، وقال : ما أتى بأبي الوليد في هذا الوقت إلّا أمر مقلق ، ائذنوا له ، فلمّا دخل سلّم عليه ، ومثل قائما بين يديه ، فقال له : اجلس يا هشام ، فقال : أصلح الله الأمير سيدي ، وكيف جلوسي بهمّ وذلّ مزعج ، وحقّ لمن قام مقامي أن لا يجلس إلّا مطمئنا ، ولن يقعدني إلّا طيب نفسي بإسعاف الأمير لحاجتي ، وإلّا رجعت على عقبي ، فقال له : حاش لك من انقلابك خائبا ، فاقعد مجابا مشفّعا ، فجلس ، فقال له

__________________

(١) طلعة ـ بضم الطاء وفتح اللام ـ كثيرة التطلع إلى الشيء والتشوف إليه.

(٢) في ب : فلأمر ما جئت.

(٣) في ب : عليّ.

٢٦٤

أبوه : فما الحدث المقلق؟ فأعلمه ، فأمر بحمل الدّية عنه وعن عشيرته من بيت المال ، فسرّ هشام وأطنب في الشكر ، وكتب الأمير إلى ولده سليمان في ترك التعرّض لهذا الكناني لما لم يدر في خلده (١). ولمّا دخل الكناني لوداع هشام قال له : يا سيدي ، قد تجاوزت بك حدّ الأمنية ، وبلغت غاية النصر ، وقد أغنى الله عن العقد المبذول بين يدي العناية الكريمة ، فتعيده إلى صاحبته ، فأبى من ذلك ، وقال : لا سبيل إلى رجوعه إلينا.

وكان هشام يذهب بسيرته مذهب عمر بن عبد العزيز ، وكان يبعث بقوم من ثقاته إلى الكور فيسألون الناس عن سير عمّاله ، ويخبرونه بحقائقها ، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أوقع به وأسقطه وأنصف منه ، ولم يستعمله بعد.

ولمّا وصفه زياد بن عبد الرحمن لمالك بن أنس قال : نسأل الله تعالى أن يزيّن موسمنا بمثل هذا (٢).

وفي أيامه فتحت أربونة الشهيرة ، واشترط على المعاهدين من أهل جلّيقية من صعاب شروطه انتقال عدد من أحمال التراب من سور أربونة المفتتحة يحملونها إلى باب قصره بقرطبة ، وبنى منه المسجد الذي قدّام باب الجنان ، وفضلت منه فضلة بقيت مكوّمة.

وقاسى مع المخالفين له من أهل بيته وغيرهم حروبا ، ثم كانت الدائرة له.

وقصد إلى بلاد الحرب غازيا ، وقصد ألبة (٣) والقلاع ، فلقي العدوّ وظفر بهم ، وفتح الله عليه سنة خمس وسبعين. وبعث العساكر إلى جلّيقية مع يوسف بن نجية (٤) ، فلقي ملكها ابن منده (٥) ، وهزمه ، وأثخن في العدوّ.

وفي سنة ست وسبعين بعث وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدوّ ، فبلغ ألبة والقلاع ، فأثخن في نواحيها ، ثم بعثه في العساكر سنة سبع وسبعين إلى أربونة وجريدة (٦) فأثخن فيها ، ووطئ أرض برطانية ، وتوغّل عبد الملك في بلاد الكفّار وهزمهم ، ثم بعث العساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع سنة ثمان وسبعين ، ومع أخيه

__________________

(١) لما لم يدر في خلده : ساقطة في ب.

(٢) في ب : ليت أن الله تعالى زين ....

(٣) ألبة : لم أجد ألبة في صفة جزيرة الأندلس ولا في معجم البلدان وإنما وجدت «أولية السهلة» في (صفة جزيرة الأندلس ص ٣٤).

(٤) في ب : يوسف بن نجت.

(٥) في ب : برمند.

(٦) في ب : جرندة.

٢٦٥

عبد الملك بن عبد الواحد إلى بلاد جلّيقية ، فانتهى إلى أسترقة ، فجمع له ملك الجلالقة واستمدّ بملك البشكنس ، ثم خام (١) عن اللقاء. ورجع أدراجه ، واتّبعه عبد الملك ، وكان هشام قد بعث الجيوش من ناحية أخرى ، فالتقوا بعبد الملك ، وأثخنوا في البلاد ، واعترضهم عساكر الفرنج فنالوا منهم بعض الشيء ، ثم خرجوا سالمين ظافرين.

ومن محاسنه أنه جدّد القنطرة التي يضرب بها المثل بقرطبة كما سبق ، وكان بناها السّمح الخولاني عامل عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، فأحكم هشام بناءها إلى الغاية ، وقال يوما لأحد وزرائه : ما يقول أهل قرطبة؟ فقال : يقولون : ما بناها الأمير إلّا ليمضي عليها إلى صيده وقنصه ، فآلى هشام على نفسه أن لا يسلك عليها ، فلم يمرّ عليها بعد ، ووفى بما حلف عليه.

ومن محاسنه أيضا إكمال بناء الجامع بقرطبة ، وكان أبوه قد شرع فيه ؛ ومن محاسنه أنه أخرج المصدّق (٢) لأخذ الزكاة على الكتاب والسّنّة ، رحمه الله.

ثم توفي سنة ثمانين ومائة ، لسبع سنين وتسعة أشهر من إمارته ، وقيل : لثمان ـ وكان من أهل الخير والصلاح ، كثير الغزو والجهاد ـ وعمره أربعون سنة وأربعون أشهر ، وولد في شوّال سنة ١٣٧ (٣). وولي بعده ابنه الحكم بعهد منه إليه (٤) ، فاستكثر من المماليك ، وارتبط الخيل ، واستفحل ملكه ، وباشر الأمور بنفسه. وفي خلال فتنة كانت بينه وبين عمّيه اغتنم العدوّ الكافر الفرصة في بلاد المسلمين ، وقصدوا برشلونة فملكوها سنة خمس وثمانين ، وتأخّرت عساكر المسلمين إلى ما دونها ، وبعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الجلالقة ، فأثخنوا فيها ، وخالفهم العدوّ إلى المضايق ، فرجع على التعبية ، وظفر بهم ، وخرج إلى بلاد الإسلام ظافرا. وكانت له الواقعة الشهيرة مع أهل الرّبض (٥) من قرطبة لأنه في صدر ولايته كان قد انهمك في لذّاته ، فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة ، مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك وأحد رواة الموطّإ عنه وطالوت الفقيه وغيرهما ، فثاروا به ، وخلعوه ، وبايعوا بعض قرابته ، وكانوا بالرّبض الغربيّ من قرطبة ، وكان محلّة متّصلا (٦) بقصره ، فقاتلهم الحكم ، فغلبهم ، وافترقوا ، وهدم دورهم ومساجدهم ، ولحقوا بفاس من أرض العدوة ،

__________________

(١) خام عن لقاء العدو : جبن وتراجع.

(٢) المصّدّق : عامل الزكاة ، وهو الذي يجبيها ممن وجبت عليه من السملمين.

(٣) في ب : ١٣٩.

(٤) انظر ابن خلدون ٤ : ١٢٥.

(٥) الرّبض : ضواحي المدينة وما حولها من مساكن.

(٦) في ب : متصلة.

٢٦٦

وبالإسكندرية من أرض المشرق ، ونزل بها جمع منهم ، ثم ثاروا بها ، فزحف إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر للمأمون بن الرشيد ، وغلبهم ، وأجازهم إلى جزيرة أقريطش (١) ، فلم يزالوا بها إلى أن ملكها الإفرنج من أيديهم بعد مدّة.

وكانت في أيام الحكم حروب وفتن مع الثوّار المخالفين له من أهل طليطلة وغيرهم.

وفي سنة ثنتين وتسعين جمع لذريق بن قارله ملك الفرنج جموعه ، وسار إلى حصار طرسونة (٢) ، فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر ، فهزمه ، ففتح الله على المسلمين ، وعاد ظافرا.

ولمّا كثر عيث الفرنج في الثغور بسبب اشتغال الحكم بالخارجين عليه سار بنفسه إلى الفرنج سنة ست وتسعين ، فافتتح الثغور والحصون ، وخرّب النواحي ، وأثخن في القتل والسبي والنهب ، وعاد إلى قرطبة ظافرا.

وفي سنة مائتين بعث العساكر مع ابن مغيث إلى بلاد الفرنج فخرّب وهدم عدّة حصون ، وأقبل عليه أليط ملك الجلالقة في جموع عظيمة ، وتنازلوا على نهر ، واقتتلوا عليه أياما ، ونال المسلمون منهم أعظم النّيل ، وأقاموا كذلك ثلاث عشرة ليلة ، ثم كثرت الأمطار ، ومدّ النهر ، وقفل المسلمون ظافرين ظاهرين.

وهو أول من جنّد الأجناد ، واتّخذ العدّة ، وكان أفحل بني أمية بالأندلس ، وأشدّهم إقداما ونجدة ، وكان يشبّه بأبي جعفر المنصور من خلفاء بني العباس في شدّة الملك وتوطيد الدولة وقمع الأعداء. وكان يؤثر الفقيه زياد بن عبد الرحمن (٣). وحضر يوما عنده ، وقد غضب فيه على خادم له لإيصاله إليه كتابا كره وصوله ، فأمر بقطع يده ، فقال له زياد : أصلح الله الأمير! فإن مالك بن أنس حدّثني في خبر رفعه أن «من كظم غيظا يقدر على إنفاذه ملأه الله تعالى أمنا وإيمانا يوم القيامة» فأمر أن يمسك عن الخادم ، ويعفى عنه ، فسكن غضبه ، وقال : الله إنّ مالكا حدّثك بهذا؟ فقال زياد : الله إنّ مالكا حدّثني بهذا.

__________________

(١) أقريطش : اسم جزيرة في بحر المغرب ، يقابلها من بر إفريقيا لوبيا ، وهي جزيرة كبيرة فيها مدن وقرى ، وينسب إليها جماعة من العلماء (معجم البلدان ١ : ٢٣٦).

(٢) طرسونة : بالأندلس ، كانت مستقر العمال والقواد بالثغور ، وكانت ترد عليها عشر مدينة أربونة وبرشلونة ، ثم عادت طرسونة من بنات تطيلة عند تكاثر الناس بتطيلة (صفة جزيرة الأندلس ص ١٢٣).

(٣) زياد بن عبد الرحمن الملقب بشبطون. قيل إنه أول من أدخل فقه الإمام مالك إلى الأندلس. (الجذوة ص ٢٠٣ ووفيات الأعيان ج ٦ ص ١٤٣ ، ١٤٤).

٢٦٧

وكانت المجاعة الشديدة سنة سبع وتسعين ومائة ، فأكثر فيها مواساة أهل الحاجات ، وفي ذلك يقول عباس بن ناصح الجزيري فيه (١) : [الكامل]

نكد الزمان فآمنت أيّامه

من أن يكون بعصره عسر

ظلع (٢) الزمان بأزمة فجلا له

تلك الكريهة جوده الغمر

وكان نقش خاتمه «بالله يثق الحكم ويعتصم».

وذكور ولده عشرون ، وإناثهم عشرون ، وأمّه جارية اسمها زخرف.

وكان أسمر ، طوالا ، أشمّ (٣) ، نحيفا.

ومدّة ملكه ستّ وعشرون سنة ، سامحه الله!.

وقال غير واحد : إنه أول من جعل للملك بأرض الأندلس أبّهة ، واستعدّ بالمماليك حتى بلغوا خمسة آلاف : منهم ثلاثة آلاف فارس ، وألفا راجل.

ثم توفي الحكم بن هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من ولايته ، ومولده سنة ١٥٤.

وقال ابن خلدون وغير واحد : إنه أول من جنّد بالأندلس الأجناد والمرتزقة ، وجمع الأسلحة والعدد ، واستكثر من الخدم والحواشي والحشم ، وارتبط الخيول على بابه ، واتّخذ المماليك ، وكان يسمّيهم الخرس لعجمتهم ، وحكى في عدّتهم ما تقدّم. ثم قال : وكانت له عيون يطالعونه بأحوال الناس ، وكان يباشر الأمور بنفسه ، ويقرّب الفقهاء والعلماء والصالحين ، وهو الذي وطّأ الملك لعقبه بالأندلس ، انتهى.

وكان له ـ فيما حكى غير واحد ـ ألفا فرس مرتبطة على شاطىء النهر بقبليّ قصره يجمعها داران. وهو القائل لما قتل أهل الرّبض وهدم ديارهم وحرثها (٤) : [الطويل]

رأبت صدوع الأرض بالسّيف راقعا

وقدما لأمت الشّعب مذ كنت يافعا

فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة

أبادرها مستنضي السّيف دارعا

تنبّيك أني لم أكن في قراعهم

بوان ، وقدما كنت بالسّيف قارعا

__________________

(١) عباس بن ناصح أبو المعلى الجزيري الأندلسي الثقفي : كان من أهل العربية واللغة والشعر المجودين ، وله خط في الفقه والرواية ، ولي قضاء بلدة وشذونة (بغية الوعاة ٢ : ٢٨).

(٢) ظلع : غمز في مشيه كأنه أعرج.

(٣) طوالا : بالغ الطول. وأشمّ : مرتفع قصبة الأنف.

(٤) وردت الأبيات في أخبار مجموعة ص ١٢٠.

٢٦٨

وهل زدت إذ وفّيتهم صاع قرضهم

فوافوا منايا قدّرت ومصارعا(١)

فهذي بلادي ، إنني قد تركتها

مهادا ، ولم أترك عليها منازعا

وقال ابن حزم في حقه (٢) : إنه كان من المجاهرين بالمعاصي ، السافكين للدماء ، ولذلك قام عليه الفقهاء والصلحاء.

وقال غير واحد (٣) : إنه تنصّل أخيرا ، وتاب ، سامحه الله!.

ومن نظمه قوله متغزّلا (٤) : [البسيط]

قضب من البان ماست فوق كثبان

ولّين عنّي وقد أزمعن هجراني(٥)

ومنها :

من لي بمقتضبات الروح من بدني

يغصبنني في الهوى عزّي وسلطاني

وقيل : إنه كان يمسك أولاد الناس ويخصيهم ، ونقلت عنه أمور ، ولعلّه تاب منها كما قدّمنا ، والله أعلم بحقيقة أمره.

ومن بديع أخبار الحكم أن العباس الشاعر توجّه إلى الثّغر ، فلمّا نزل بوادي الحجارة سمع امرأة تقول : وا غوثاه بك يا حكم ، لقد أهملتنا حتى كلب العدوّ علينا ، فأيّمنا وأيتمنا ، فسألها عن شأنها ، فقالت : كنت مقبلة من البادية في رفقة ، فخرجت علينا خيل عدوّ ، فقتلت وأسرت ، فصنع قصيدته التي أوّلها : [الطويل]

تململت في وادي الحجارة مسئدا (٦)

أراعي نجوما ما يرون تغيّرا (٧)

إليك أبا العاصي نضيت مطيّتي

تسير بهمّ ساريا ومهجّرا

تدارك نساء العالمين بنصرة

فإنك أحرى أن تغيث وتنصرا

فلما دخل عليه أنشده القصيدة ، ووصف له خوف الثغر ، واستصراخ المرأة باسمه ، فأنف

__________________

(١) في ب : وهل زدت أن ...

(٢) انظر المغرب ج ١ ص ٤٤.

(٣) في ب : وقال غيره.

(٤) البيتان من قصيدة ورد منها في (أخبار مجموعة ص ١٢١ أربعة أبيات).

(٥) القضب : جمع قضيب ، وهو الغصن وتشبه العرب قدود الحسان بالقضب. والكثبان : جمع كثيب ، وهو ما اجتمع من الرمل وتشبه العرب ردف المرأة بالكثيب. وأزمعن : عزمن.

(٦) في ب : مسهرا.

(٧) في ب : ما يردن تغوّرا.

٢٦٩

ونادى في الحين بالجهاد والاستعداد ، فخرج بعد ثلاث إلى وادي الحجارة ومعه الشاعر ، وسأل عن الخيل التي أغارت من أيّ أرض العدوّ كانت ، فأعلم بذلك ، فغزا تلك الناحية وأثخن فيها ، وفتح الحصون ، وخرّب الديار ، وقتل عددا كثيرا ، وجاء إلى وادي الحجارة فأمر بإحضار المرأة وجميع من أسر له أحد في تلك البلاد ، فأحضر ، فأمر بضرب رقاب الأسرى بحضرتها ، وقال للعباس : سلها : هل أغاثها الحكم؟ فقالت المرأة ، وكانت نبيلة : والله لقد شفى الصدور ، وأنكى العدوّ ، وأغاث الملهوف ، فأغاثه الله ، وأعزّ نصره! فارتاح لقولها ، وبدا السرور في وجهه وقال : [الطويل]

ألم تر يا عباس ، أنّي أجبتها

على البعد أقتاد الخميس المظفّرا (١)

فأدركت أوطارا وبرّدت غلّة

ونفّست مكروبا وأغنيت معسرا

فقال عباس : نعم ، جزاك الله خيرا عن المسلمين! وقبّل يده.

وممّا عيب به أنه قتل الفقيه أبا زكريا يحيى بن مضر القيسي ، وكان قدوة في الدين والورع ، سمع من سفيان ومالك بن أنس ، وروى عنه مالك وقال : حدّثنا يحيى بن مضر عن سفيان الثّوري أن الطّلح المنضود هو الموز ، وكان قتل المذكور مع جماعة من العلماء وغيرهم.

وقال بأمره من بعده ابنه عبد الرحمن ، بعهد منه إليه ، ثم لأخيه المغيرة بعده ، فغزا عبد الرحمن لأول ولايته إلى جلّيقيّة وأبعد ، وأطال المغيب ، وأثخن في أمم النصرانية هنالك ، ورجع.

وقدم عليه سنة ست ومائتين زرياب المغني من العراق ، وهو مولى المهدي ومتعلّم إبراهيم الموصلي ، واسمه علي بن نافع ، فركب بنفسه لتلقّيه ، على ما حكاه ابن خلدون ، وبالغ في إكرامه ، وأقام عنده بخير حال ، وأورث صناعة الغناء بالأندلس وخلّف أولادا فخلفه كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته.

وفي سنة ثمان (٢) أغزى حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع ، فخرّب

__________________

(١) الخميس : الحبيش الكثير العدد.

(٢) كان مقتله ومقتلهم في معركة الربض (انظر ابن خلدون ٤ : ١٢٦) وأبو زكريا يحيى بن مضر القبسي هو : من فقهاء الأندلس والشهورين في الدين والورع. أخذ عن سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وأخذ عنه في الأندلس يحيى بن يحيى الليثي (انظر وفيات الأعيان ٦ : ١٤٣).

٢٧٠

كثيرا من البلاد وانتسفها ، وفتح كثيرا من حصونهم ، وصالح بعضها على الجزية وإطلاق أسرى المسلمين ، وانصرف ظافرا.

وفي سنة أربع وعشرين بعث قريبه عبيد الله بن البلنسي في العساكر لغزو ألبة والقلاع ، فسار ولقي العدوّ فهزمهم وأكثر القتل والسّبي ، ثم خرج لذريق ملك الجلالقة ، وأغار على مدينة سالم (١) بالثغر ، فسار إليه فرتون بن موسى ، وقاتله ، فهزمه وأكثر القتل والسبي في العدوّ والأسر ، ثم سار إلى الحصن الذي بناه أهل ألبة بالثغر نكاية للمسلمين ، فافتتحه وهدمه ، ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جلّيقية ، فدوّخها وافتتح عدّة حصون منها ، وجال في أرضهم ، ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم.

وفي سنة ستّ وعشرين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة ، وانتهوا إلى أرض برطانية (٢) ، وكان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى عامل تطيلة ، ولقيهم العدوّ ، فصبر حتى هزم الله عدوّهم ، وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود.

وفي سنة تسع وعشرين بعث ابنه محمدا بالعساكر ، وتقدّم إلى ينبلونة (٣) ، فأوقع بالمشركين عندها ، وقتل غرسية صاحبها ، وهو من أكبر ملوك النصارى.

وفي أيامه ظهر المجوس ، ودخلوا إشبيلية ، فأرسل إليهم عبد الرحمن العساكر مع القوّاد من قرطبة ، فنزل المجوس من مراكبهم ، وقاتلهم المسلمون ، فهزموهم بعد مقام صعب ، ثم جاءت العساكر مددا من قرطبة فقاتلهم المجوس ، فهزمهم المسلمون وغنموا بعض مراكبهم وأحرقوها ، ورحل المجوس إلى شذونة فأقاموا عليها يومين ، وغنموا بعض الشيء ، ووصلت مراكب عبد الرحمن إلى إشبيلية فأقلع المجوس إلى لبلة ، وأغاروا وسبوا ، ثم إلى باجة ثم أشبونة ، ثم انقطع خبرهم حين أقلعوا من أشبونة ، وسكنت البلاد ، وذلك سنة ثلاثين ، وتقدّم عبد الرحمن بإصلاح ما خرّبوه من البلاد ، وأكثف حاميتها.

وفي سنة إحدى وثلاثين بعث العساكر إلى جليقية فدوّخوها ، وحاصروا مدينة ليون (٤) ورموها بالمجانيق ، وهرب أهلها عنها وتركوها ، فغنم المسلمون ما فيها وأحرقوها ، وأرادوا

__________________

(١) قال ابن سعيد : مدينة سالم بالجهة المشهورة بالثغر من شرقي الأندلس ، قال : وهي مدينة جليلة ، وقال في تقويم البلدان : إن بها قبر المنصور بن أبي عامر (الصبح ٥ : ٢٢٨).

(٢) في ب : بربطانية.

(٣) في ب : بنبلونة.

(٤) مدينة ليون : مدينة في شمال الأندلس من بلاد الجلالقة.

٢٧١

هدم سورها فلم يقدروا عليه ؛ لأنّ عرضه كان سبعة عشر ذراعا ، فثلموا فيه ثلمة ورجعوا.

ثم أغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم في العساكر إلى بلاد برشلونة ، فعاث في نواحيها وأجاز الدروب التي تسمّى البرت إلى بلاد الفرنجة فدوّخها قتلا وأسرا وسبيا ، وحاصر مدينتها العظمى جرندة ، وعاث في نواحيها ، وقفل. وقد كان ملك القسطنطينية من ورائهم نوفلس (١) بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية يطلب مواصلته ويرغّبه في ملك سلفه بالمشرق من أجل ما ضيق به المأمون والمعتصم حتى إنه ذكرهما له في كتابه له وعبّر عنهما بابني مراجل وماردة ، فكافأه الأمير عبد الرحمن عن الهدية ، وبعث إليه يحيى الغزال من كبار أهل الدولة ، وكان مشهورا في الشعر والحكمة ، فأحكم بينهما الوصلة ، وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني العباس.

ويعرف الأمير عبد الرحمن بالأوسط ؛ لأنّ الأول عبد الرحمن الداخل ، والثالث عبد الرحمن الناصر.

ثم توفي عبد الرحمن الأوسط سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، بربيع الآخر ، لإحدى وثلاثين سنة من إمارته.

ومولده بطليطلة في شعبان سنة ست وسبعين ومائة.

وكان عالما بعلوم الشريعة والفلسفة ، وكانت أيامه أيام هدوء وسكون ، وكثرت الأموال عنده ، واتّخذ القصور والمتنزهات ، وجلب إليها المياه من الجبال ، وجعل لقصره مصنعا اتخذه الناس شريعة (٢) ، وأقام الجسور ، وبنيت في أيامه الجوامع بكور الأندلس ، وزاد في جامع قرطبة رواقين ، ومات قبل أن يستتمّه ، فأتمّه ابنه محمد بعده ، وبنى بالأندلس جوامع كثيرة ، ورتّب رسوم (٣) المملكة ، واحتجب عن العامّة.

وعدد ولده مائة وخمسون من الذكور ، وخمسون من الإناث ، ونقش خاتمه «عابد الرحمن بقضاء الله راض» وفي ذلك قيل : [مجزوء الكامل]

خاتم للملك أضحى

حكمه في الناس ماضي

عابد الرحمن فيه

بقضاء الله راضي

__________________

(١) في ب توفلس.

(٢) المصنع : الحوض يجتمع فيه ماء المطر. والشريعة : مورد الماء يستقي منه الناس.

(٣) رسوم المملكة : أراد : نظمها.

٢٧٢

وهو أول من أحدث هذا النقش ، وبقي وراثة لمن بعده من ولده.

قال ابن سعيد : وفي أيامه انتهى مال الجباية إلى ألف ألف دينار في السنة ، وكان قبل لا يزيد على ستمائة ألف ، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما يخالف هذا فليراجع ، والله أعلم.

ومن توقيعاته : من لم يعرف وجه طلبه ، فالحرمان أولى به (١).

ومن شعر عبد الرحمن المذكور قوله : [الكامل]

ولقد تعارض أوجه لأوامر

فيقودها التوفيق نحو صوابها

والشيخ إن يحو النّهى بتجارب

فشباب رأي القوم عند شبابها (٢)

وفي زيادته في جامع قرطبة يقول ابن المثنى (٣) رحمه الله تعالى : [البسيط المخلع]

بنيت لله خير بيت

يخرس عن وصفه الأنام

حج إليه بكل أوب

كأنه المسجد الحرام

كأنّ محرابه إذا ما

خفّ به الركن والمقام

وقال آخر : [الطويل]

بنى مسجدا لله لم يك مثله

ولا مثله لله في الأرض مسجد

سوى ما ابتنى الرحمن والمسجد الذي

بناه نبيّ المسلمين محمّد

له عمد حمر وخضر كأنما

تلوح يواقيت بها وزبرجد

ألا يا أمين الله ، لا زلت سالما

ولا زلت في كل الأمور تسدّد

فيا ليتنا نفديك من كلّ حادث

وأنك للدنيا وللدين تخلد

وكان كثير الميل للنساء ، وولع بجاريته طروب ، وكلف بها كلفا شديدا ، وهي التي بنى عليها الباب ببدر المال حين تجنّت عليه ، وأعطاها حليّا قيمته مائة ألف دينار ، فقيل له : إن مثل هذا لا ينبغي أن يخرج من خزانة الملك ، فقال : إن لابسه أنفس منه خطرا ، وأرفع قدرا ، وأكرم جوهرا ، وأشرف عنصرا ، وفيها يقول : [المتقارب]

__________________

(١) انظر ابن عذاري ج ١ ص ١٢٢.

(٢) شباب رأي القوم : قوته وشبوبه.

(٣) ابن المثنى : هو عثمان بن المثنى القرطبي أبو عبد الملك ، رحل إلى الشرق فلقي جماعة من رواة الغريب وأصحاب النحو والمعاني ، وأخذ عن محمد بن زياد الأعرابي وغيره أو قرأ على أبي تمام ديوان شعره وأدخله الأندلس ، مات سنة ٢٧٣ ه‍ (بغية الوعاة ٢ : ١٣٦).

٢٧٣

إذا ما بدت لي شمس النّها

ر طالعة ذكّرتني طروبا

أنا ابن الميامين من غالب

أشبّ حروبا وأطفي حروبا

وخرج غازيا إلى جلّيقية فطالت غيبته فكتب إليها : [المتقارب]

عداني عنك مزار العدا

وقودي إليهم سهاما مصيبا

فكم قد تخطّيت من سبسب

ولاقيت بعد دروب دروبا(١)

ألاقي بوجهي سموم الهجي

ر إذ كاد منه الحصى أن يذوبا

تدارك بي الله دين الهدى

فأحييته وأمتّ الصليبا

وسرت إلى الشّرك في جحفل

ملأت الحزون به والسّهوبا (٢)

وساق بعض المؤرخين قضية طروب هذه بقوله : إنّ السلطان المذكور أغضبها فهجرته ، وصدّت عنه ، وأبت أن تأتيه ، ولزمت مقصورتها ، فاشتدّ قلقه لهجرها ، وضاق ذرعه من شوقها ، وجهد أن يترضّاها بكل وجه فأعياه ذلك ، فأرسل من خصيانه من يكرهها على الوصول إليه ، فأغلقت باب مجلسها في وجوههم ، وآلت أن لا تخرج إليهم طائعة ، ولو انتهى الأمر إلى القتل ، فانصرفوا إليه وأعلموه بقولها ، واستأذنوه في كسر الباب عليها ، فنهاهم وأمرهم بسدّ الباب عليها من خارجه ببدر الدراهم ، ففعلوا ، وبنوا عليها بالبدر ، وأقبل حتى وقف بالباب وكلّمها مسترضيا راغبا في المراجعة على أنّ لها جميع ما سدّ به الباب ، فأجابت وفتحت الباب ، فانهالت البدر في بيتها ، فأكبّت على رجله تقبّلها ، وحازت المال ، وكانت تبرم الأمور مع مضر (٣) الخصيّ فلا يردّ شيئا ممّا تبرمه.

وأحبّ أخرى اسمها مدثرة فأعتقها وتزوّجها ، وأخرى كذلك اسمها الشفاء ، وأمّا جاريته قلم فكانت أديبة ، حسنة الخط ، راوية للشعر ، حافظة للأخبار ، عالمة بضروب الأدب. وكان مولعا بالسّماع ، مؤثرا له على جميع لذّاته ، وله أخبار كثيرة ، رحمه الله!.

ولمّا مات ولي ابنه محمد ، فبعث لأول ولايته عساكر مع موسى بن موسى صاحب

__________________

(١) السبسب : الصحراء. والدروب : جمع درب ، وهو الطريق إلى بلاد الروم.

(٢) الجحفل : الجيش الكثير العدد. والحزون : جمع حزن ، وهو ما غلظ من الأرض. والسهوب : جمع سهب ، وهو الفلاة ، وأراد به ما لان من الأرض.

(٣) في ب : نصر.

٢٧٤

طليطلة (١) ، فعاث في نواحي ألبة والقلاع ، وفتح بعض حصونها ، ورجع. وبعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة وما وراءها ، فعاثوا فيها وفتحوا حصونا من برشلونة ورجعوا.

ولما استمدّ أهل طليطلة المخالفون من أهل بلاد الأمير محمد عليه بملكي جلّيقية والبشكنس لقيهم الأمير محمد على وادي سليطة ، وقد أكمن لهم ، فأوقع بهم ، وبلغت عدّة القتلى من أهل طليطلة والمشركين عشرين ألفا.

وفي سنة خمس وأربعين ظهرت مراكب المجوس ، وعاثوا في الأندلس ، فلقيهم مراكب الأمير محمد ، فقاتلوهم وغنموا منهم مركبين ، واستشهد جماعة من المسلمين.

وفي سنة سبع وأربعين أغزى محمد إلى نواحي ينبلونة (٢) ، وصاحبها حينئذ غرسية بن وبقة ، وكان يظاهر أردن بن أذفنش ، فعاث في نواحي ينبلونة ، ورجع وقد دوّخها وفتح كثيرا من حصونها ، وأسر فرتون ابن صاحبها ، فبقي أسيرا بقرطبة عشرين سنة.

ثم بعث سنة إحدى وخمسين أخاه المنذر في العساكر إلى نواحي ألبة والقلاع فعاثوا فيها ، وجمع لذريق للقائهم ، فلقيهم وانهزم ، وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر ، فكان فتحا لا كفاء له.

ثم غزا الأمير محمد بنفسه سنة إحدى وخمسين بلاد الجلالقة ، فأثخن وخرّب.

وفي سنة ثلاث وستّين أغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى دار الحرب ، وفي السنة التي بعدها إلى بلاد ينبلونة فدوّخها ورجع.

وفي سنة ثمان وستّين أغزاه أيضا إلى دار الحرب ، فعاث في نواحيها وفتح حصونا.

وفي أيام الأمير محمد خربت ماردة (٣) وهدمت ولم يبق لها أثر.

وذكر بعضهم أنه رأى بالمشرق هذه الأبيات قبل أن تخرب ماردة بأعوام ، ولم يعلم قائلها ، وذلك سنة ٢٥٤ : [الكامل]

__________________

(١) انظر ابن خلدون : ج ٤ : ١٣٠ ـ ١٣٢.

(٢) في ب : بنبلونة.

(٣) ماردة : مدينة بجنوبي قرطبة منحرفة إلى الغرب قليلا ، وكانت مدينة ينزلها الملوك الأوائل ، فكثرت بها آثارهم ، واتصل ملكهم إلى أنه ملك منهم سبعة وعشرون ملكا. ويقال : إن ذا القرنين كان منهم. ثم دخلت أمة القوط فغلبوا على الأندلس فاقتطعوها من صاحب رومة ، وكانت في أيام بني أمية يليها عظماء القوم (صفة جزيرة الأندلس ص ١٧٥).

٢٧٥

ويل لماردة التي مردت

وتكبّرت عن عدوة النهر

كانت ترى لهم بها زهر

فخلت من الزّهرات كالقفر

فالويل ثم الويح حين غزا

بجميعهم من صاحب الأمر

ثم توفي الأمير محمد في شهر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين ، لخمس وثلاثين سنة من إمارته ، ومولده سنة سبع ومائتين.

وولي بعده ابنه المنذر ، ولم تطل مدّته ، وأقام في الملك سنتين إلّا نصف شهر ، وتوفي منتصف صفر سنة خمس وسبعين ومائتين ، وفيه قيل : [مجزوء الكامل]

بالمنذر بن محمد

صلجت بلاد الأندلس

ثم ولي أخوه عبد الله ، قال ابن خلدون : كان خراج الأندلس قبله ثلاثمائة ألف دينار :

مائة ألف للجيوش ، ومائة ألف للنفقة في النوائب وما يعرض ، ومائة ألف ذخيرة ووفرا ، فأنفق الوفر حين اضطربت عليه نواحي الأندلس بالثّوار والمتغلّبين في تلك السنين ، وقلّ الخراج ، انتهى.

ومن نظم الأمير عبد الله قوله : [السريع]

يا مهجة المشتاق ما أوجعك

ويا أسير الحبّ ما أخشعك

ويا رسول العين من لحظها

بالردّ والتبليغ ما أسرعك

تذهب بالسّرّ فتأتي به

في مجلس يخفى على من معك

كم حاجة أنجزت إبرازها

تبارك الرحمن ما أطوعك

وهذه الأبيات عنوان فضله ، وبراعة استهلال نبله.

وكان الوزراء يطالعون بآرائهم ، الخليفة في بطاقة ، فطالعه وزيره النّضر بن سلمة برأيه في أمر في ورقة ، فلمّا وقف عليها لم يعجبه ذلك الرأي ، فكتب : [مجزوء الخفيف]

أنت يا نضر آبدة

ليس ترجى لفائدة (١)

إنما أنت عدّة

لكنيف ومائدة (٢)

وتوفي الأمير عبد الله سنة ثلاثمائة ، ومدة ملكة نحو من خمس وعشرين سنة.

__________________

(١) الآبدة : الداهية التي يبقى ذكرها دائما.

(٢) الكنيف : المرحاض ومعنى البيت : إنك معد لأن تأكل وتملأ بطنك وتفرغه فحسب.

٢٧٦

وولي حافده عبد الرحمن الناصر ابن ابنه محمد قتيل أخيه المطرّف ، وكانت ولايته من الغريب ؛ لأنه كان شابّا ، وأعمامه وأعمام أبيه حاضرون ، فتصدّى إليها واحتازها دونهم ، ووجد الأندلس مضطربة بالمخالفين ، مضطرمة بنيران المتغلّبين ، فأطفأ تلك النيران ، واستنزل أهل العصيان ، واستقامت له الأندلس في سائر جهاتها بعد نيّف وعشرين سنة من أيامه ، ودامت أيامه نحو خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أميّة بتلك الناحية ، وهو أول من تسمّى منهم بالأندلس بأمير المؤمنين ، عندما التاث أمر (١) الخلافة بالمشرق ، واستبدّ موالي الترك على بني العباس ، وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة سبع عشرة وثلاثمائة فتلقّب بألقاب الخلافة ، وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إلى دار الحرب ، إلى أن هزم عام الخندق سنة ثلاث وعشرين ، ومحّص الله فيها المسلمين ، فقعد عن الغزو بنفسه وصار يردّد الصّوائف (٢) في كل سنة ، فأوطأ عساكر المسلمين ، من بلاد الإفرنج ما لم يطؤوه قبل في أيام سلفه ، ومدّت إليه أمم النصرانية من وراء الدروب يد الإذعان ، وأوفدوا عليه رسلهم وهداياهم من رومة والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال (٣) فيما يعنّ في مرضاته ، ووصل إلى سدّته الملوك من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قشتالة وينبلونة وما ينسب إليها من الثغور الجوفية ، فقبّلوا يده ، والتمسوا رضاه ، واحتقبوا جوائزه ، وامتطوا مراكبه ، ثم سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة ونقل الفرضة من أيدي أهلها سنة سبع عشرة وثلاثمائة ، وأطاعه بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة والبربر ، وأجاز إليه الكثير منهم كما يعلم من أخباره ، وبدأ أمره أول ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا ، انتهى كلام ابن خلدون.

وفيه يقول ابن عبد ربه صاحب «العقد» يوم تولّى الملك : [المجتث]

بدا الهلال جديدا

والملك غضّ جديد

يا نعمة الله زيدي

إن كان فيك مزيد

إن كان للصّوم فطر

فأنت للدهر عيد

وأراد بأول الأبيات أنه ولي مستهلّ ربيع الأول كما علم.

__________________

(١) التاث أمر الخلافة : اختلط واضطرب وضعف.

(٢) الصوائف : جمع صائفة ، وهي الحملة العسكرية في الصيف.

(٣) الاعتمال : هو العمل بجهد كامل في سبيل مرضاته.

٢٧٧

وما أشار إليه ابن خلدون في غزوة الخندق فصّله المسعودي فقال (١) ، بعد أن أجرى ذكر مخالفة أميّة بن إسحاق على الناصر ودخوله أرض النصارى ودلالته إياهم على عورات المسلمين ، ما ملخّصه : وغزا عبد الرحمن صاحب الأندلس سمّورة دار الجلالقة (٢) ، وكان عبد الرحمن في مائة ألف أو يزيدون ، وكانت الوقعة بينه وبين ردمير ملك الجلالقة في شوّال سنة ٣٢٧ بعد الكسوف الذي كان في هذا الشهر بثلاثة أيام ، فكانت للمسلمين عليهم ، ثم ثابوا (٣) بعد أن حوصروا وألجئوا إلى المدينة ، فقتلوا من المسلمين بعد عبورهم الخندق خمسين ألفا. وقيل : إن الذي منع ردمير من طلب من نجا من المسلمين أمية بن إسحاق ، وخوّفه الكمين ، ورغّبه فيما كان في عسكر المسلمين من الأموال والعدّة والخزائن ، ولو لا ذلك لأتى على جميع المسلمين ، ثم إن أميّة استأمن بعد ذلك إلى عبد الرحمن وتخلّص من ردمير ، وقبله عبد الرحمن أحسن قبول. وقد كان عبد الرحمن بعد هذه الوقعة جهّز عساكر مع عدّة من قوّاده إلى الجلالقة ، فكانت لهم بهم عدّة حروب هلك فيها من الجلالقة ضعف ما قتل من المسلمين في الوقعة الأولى ، وكانت للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية ، وردمير ملك الجلالقة إلى هذا الوقت وهو سنة ٣٣٢ ، انتهى.

وقال في موضع آخر ما ملخّصه : إن عبد الرحمن غزا في أزيد من مائة ألف فارس من الناس ، فنزل على دار مملكة الجلالقة ، وهي مدينة سمّورة ، وعليها سبعة أسوار من أعجب البنيان قد أحكمته الملوك السالفة ، وبين الأسوار فصلان وخنادق ومياه واسعة ، وافتتح منها سورين ، ثم إن أهلها ثاروا على المسلمين فقتلوا منهم ـ ممّن أدركه الإحصاء وممّن عرف ـ أربعين ألفا ، وقيل : خمسين ألفا ، وكانت للجلالقة والبشكنس على المسلمين ، انتهى كلام المسعودي.

رجع إلى أخبار الناصر ـ فنقول : إن الناصر ـ رحمه الله! ـ كان له نظم ، وممّا نسب إليه بعضهم قوله : [الخفيف]

لا يضرّ الصغير حدثان سنّ

إنما الشأن في سعود الصغير

كم مقيم فازت يداه بغنم

لم تنله بالرّكض كفّ مغير

__________________

(١) مروج الذهب ج ٢ ص ٣٧.

(٢) سمورة : هي دار مملكة الجلالقة ، على ضفة نهر كبير خرّار ، كثير الماء وبين سمورة والبحر ستون ميلا. وهي مدينة جليلة ، قاعدة من قواعد الروم غزاها عبد الرحمن بن محمد الخليفة الأموي بالأندلس سنة ٣٢٧ ه‍. في أزيد من مائتي ألف من الناس (انظر صفة جزيرة الأندلس ص ٩٨).

(٣) ثابوا : رجعوا.

٢٧٨

هكذا ألفيت البيتين منسوبين إليه بخط بعض الأكابر ، ثم كتب بأثره ما نصّه : الصحيح أنهما لغيره ، والله أعلم ، انتهى.

وكان الناصر ـ رحمه الله ـ قد استحجب (١) موسى بن محمد بن حدير ، واستوزر عبد الملك بن جهور. وأحمد بن عبد الملك بن شهيد ، وأهدى له ابن شهيد هديته المشهورة المتعدّدة الأصناف ، وقد ذكرها ابن حيّان وابن خلدون وغيرهما من المؤرّخين. قال ابن خلدون : وهي مما يدلّ على ضخامة الدولة الأموية ، واتّساع أحوالها ، وكان ذلك سنة سبع وعشرين وثلاثمائة ، لثمان خلون من شهر جمادى الأولى ، وهي هدية عظيمة الشأن ، اشتهر ذكرها إلى الآن ، واتّفق على أنه لم يهاد أحد من ملوك الأندلس بمثلها ، وقد أعجبت الناصر وأهل مملكته جميعا ، وأقرّوا أنّ نفسا لم تسمح بإخراج مثلها ضربة عن يدها ، وكتب معها رسالة حسنة بالاعتراف للناصر بالنعمة والشكر عليها ، فاستحسنها (٢) الناس وكتبوها ، وزاد الناصر وزيره هذا حظوة واختصاصا ، وأسمى منزلته على سائر الوزراء جميعا وأضعف له رزق الوزارة ، وبلّغه ثمانين ألف دينار أندلسية ، وبلغ معروفه (٣) إلى ألف دينار ، وثنى له العظمة لتثنيته له الرزق ، فسمّاه «ذا الوزارتين» لذلك ، وكان أول من تسمّى بذلك بالأندلس امتثالا لاسم صاعد بن مخلد وزير بني العباس ببغداد ، وأمر بتصدير فراشه في البيت ، وتقديم اسمه في دفتر الارتزاق أول التسمية ، فعظم مقداره في الدولة جدّا.

وتفسير هديته المذكورة على ما ثبت في كتاب ابن خلدون على ما يفسّر : خمسمائة ألف مثقال من الذهب العين ، وأربعمائة رطل من التّبر ، ومصارفة خمسة وأربعون ألف دينار ، ومن سبائك الفضّة مائتا بدرة (٤). واقتصر ابن الفرضي على خمسمائة ألف دينار فقط ، واثنا عشر رطلا من العود الهندي الذي يختم عليه كالشمع ، ومائة وثمانون رطلا من العود المتخيّر ، ومائة رطل من العود الشبه المنتقى ، هكذا ذكره ابن خلدون.

وقال ابن الفرضي مستندا إلى الكتاب الذي وجّهه ابن شهيد مع الهدية : إن العود العالي من ذلك أربعمائة رطل ، منها (٥) قطعة واحدة مائة وثمانون رطلا.

وقال ابن خلدون : ومائة أوقية من المسك الذكي المفضّل في جنسه ، انتهى.

__________________

(١) استحجبه : جعله حاجبا له.

(٢) في ب : استحسنها.

(٣) في ب : مصروفه.

(٤) في ب : ... من سبائك الفضة في مائتي بدرة.

(٥) في ب : منها في ....

٢٧٩

وقال ابن الفرضي ، نقلا عن الكتاب المصحوب مع الهدية : إن المسك مائتا أوقية ، واثنتا عشرة أوقية ، ومن العنبر الأشهب الباقي على خلقته بغير صناعة خمسمائة أوقية ، منها قطعة عجيبة ململمة الشلّ وزن مائة أوقية ، هكذا في تاريخ ابن خلدون.

وفي ابن الفرضي أن الكلّ مائة أوقية ، وأن هذه القطعة أربعون أوقية.

ومن الكافور المرتفع النقي الذكيّ ثلاثمائة أوقية.

قال ابن خلدون : ومن اللباس ثلاثون شقّة (١) من الحرير المختّم المرقوم بالذهب كلباس الخلفاء المختلف الألوان والصنائع ، وعشرة أفرية من عالي جلود الفنك (٢) الخراسانية.

وخالفه ابن الفرضيّ ، إذ قال : ومن أنواع الثياب ثلاثون شقّة خلج (٣) خاصية للباسه بيضاء وملوّنة ، وخمس ظهائر شعيبية (٤) خاصية له ، وعشر فراء من عالي الفنك منها سبعة بيض خراسانية وثلاث ملوّنة ، وستة مطارف عراقية خاصية له ، وثمان وأربعون ملحفة زهرية لكسوته ، ومائة ملحفة زهرية لرقاده.

ولم يذكر ابن خلدون ذلك ، وابن الفرضي أعرف ، لا سيما وقد استند إلى كتاب المهدي وصاحب البيت أدرى.

قال ابن خلدون : وعشرة قناطير شدّ فيها مائة جلد سمّور ، وقاله ابن الفرضي أيضا. وزاد ابن خلدون : وستة من السرادقات العراقية ، وثمانية وأربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من الحرير والذهب ، ثم قالا معا : وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول ، وألف رطل من لون الحرير المنتقى للاستغزال ، وزاد ابن خلدون : وثلاثون شقّة من الفربون (٥) لسروج الهبات ، وزاد ابن الفرضي في الحرير المذكور : قيل : إنه قبضه منه صاحب الطراز ولم يأت به مع الهدية ، وإنما دفعه لصاحب الطراز ، وأثبته في الدفتر. قالا : وثلاثون بساطا من الصوف مختلفة الصناعات طول كل بساط منها عشرون ذراعا ، وقال ابن خلدون : منتقاة مختلفة الألوان ، قالا : ومائة قطعة مصلّيات من وجوه الفرش المختلفة ، زاد ابن الفرضي : الصناعات من جنى البسط ، قالا : وخمسة عشر نوخا (٦) من عمل الخزّ المقطوع شطرها ، قال ابن الفرضي : وسائرها من

__________________

(١) الشقّة ـ بضم الشين وتشديد القاف ـ أراد به الثوب المستطيل.

(٢) الفنك ـ بفتح الفاء والنون ـ نوع من الثعالب ، فروه من أجود الفراء.

(٣) في ب : خنج.

(٤) الشعيبية : نوع من القماش.

(٥) في ب : الفريون.

(٦) في ب : نخسّا.

٢٨٠