نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

شفت الصدور من أمراضها ، ووفت النفوس بأغراضها ، واستولت على ما كان لملّة الكفر من جواهرها وأعراضها ، ثم وقع الاختلاف ، بعد ذلك الائتلاف ، فعصفت ريح العدوّ والحروب سجال ، وأعيا العلاج حكماء الرجال ، فصار أهل الأندلس يتذكّرون موسى بن نصير وطارق ، ومن بعدهما من ملوك الأندلس الذين راعت العدوّ الكافر منهم طوارق (١).

وما أحسن ما أعرب الإمام الكاتب القاضي أبو المطرف بن عميرة ، عمّا يشمل هذا المعنى وغيره ، في كتاب بعث به إلى الشيخ أبي جعفر بن أمية ، حين حلّ الرّزء ببلنسية (٢) ، وهو : [الطويل]

ألا أيها القلب المصرّح بالوجد

أما لك من بادي الصّبابة من بدّ

وهل من سلوّ يرتجى لمتيّم

له لوعة الصادي وروعة ذي الصّدّ (٣)

يحنّ إلى نجد ، وهيهات! حرّمت

صروف الليالي أن يعود إلى نجد

فيا جبل الريّان ، لا ريّ بعدما

عدت غير الأيام عن ذلك الورد

ويا أهل ودّي والحوادث تقتضي

خلوّي عن أهل يضاف إلى الودّ

ألا متعة يوما بعارية المنى

فإنّا نراها كلّ حين إلى الردّ

أمن بعد رزء في بلنسية ثوى

بأحنائنا كالنّار مضمرة الوقد

يرجّي أناس جنّة من مصائب

تطاعن فيهم بالمثقّفة الملد (٤)

ألا ليت شعري هل لها من مطالع

معاد إلى ما كان فيها من السّعد

وهل أذنب الأبناء ذنب أبيهم

فصاروا إلى الإخراج من جنّة الخلد

مرحبا بالسّحاءة (٥) ، وما أعارت أفقي من الإضاءة ، وردت تسحر النّهى ، وتسحب ذيلا على السّها ، وتهزّ من المسرّة أعطافا ، وتردّ من نجوم المجرّة نطافا ، عامت من الظلمة في موجها ، ثم غلبت الشهب على أوجها ، فقلب العقرب يجب ، وسهيل بداره يحتجب ، والطّرف غضيض ، وجناح الطائر مهيض ، وصاحب الأخبية يقرض ، والذابح عن ذبيحته يعرض ، ورامح السماكين تخونه السلاح ، وواقع النّسرين يودّ لو (٦) أنه يخفيه الصباح ، بلاغة تفتن كلّ لبيب ،

__________________

(١) الطوارق : جمع طارقة وهي الحادثة الفاجئة.

(٢) الرزء : المصيبة.

(٣) اللوعة : الحرقة. والصادي : العطشان.

(٤) الجنة ـ بضم الجيم ـ الوقاية ، والمثقفة : الرماح. والملد : الطرية المهتزة.

(٥) السحاءة : أراد بها القرطاس المكتوب فيه.

(٦) في ب : يودّ أن يخفيه.

٢٤١

وترعى روض كلّ أديب ، وتغضّ على رغم العدوّ من حبيب ، إنّ من البيان لسحرا ، ويا أيها الجواد وجدناك بحرا ، أدريت ، أيّ بري بريت ، وبأيّ قمر اهتديت ، ليلة سريت ، افتتحت بأبياتك الحسان ، ونظمتها نظم الجمان ، فعوذت سبعتها (١) بالسّبع ، وعرفت منها براعة ذلك الطبع ، ثم نثرت على القرطاس شذور النثور (٢) ، بل من جواهر النحور ، ما استوقف النّظّار ، وبهرج اللّجين والنّضار ، ورأيتك استمددت ولك الباع الأمدّ ، وأعرت محاسنك والعارية تردّ ، وجئت باللألاءة (٣) تروق أربعتها ، وتخرس بها قعقعة الأشعار وجعجعتها ، فأدّت من حسنها ما يسرّ ، واجتمع لمن روى القطعتين ما نظم فيها وهو الدّرّ. وأجريت خبر الحادثة التي محقت بدر التمام ، وذهبت بنضارة الأيام ، فيا من حضر يوم البطشة ، وعزّي في أنسه بعد تلك الوحشة ، أحقّا أنه دكّت الأرض ، ونزف المعين والبرض (٤) ، وصوّح (٥) روض المنى ، وصرّح الخطب وما كنى؟ أبن لي كيف فقدت رجاحة الأحلام ، وعقدت مناحة الإسلام ، وجاء اليوم العسر ، وأوقدت نار الحزن فلا تزال تستعر؟ حلم ما نرى؟ بل ما رأى ذا حالم ، طوفان يقال عنده لا عاصم ، من ينصفنا من الزمان الظالم؟ الله بما يلقى الفؤاد عالم. بالله أيّ نحو تنحو ، ومسطور تثبت وتمحو ، وقد حذف الأصلي والزائد ، وذهبت الصّلة والعائد ، وباب التعجب طال ، وحال البائس لا تخشى الانتقال ، وذهبت علامة الرفع ، وفقدت سلامة الجمع ، والمعتلّ أعدى الصحيح ، والمثلّث أردى الفصيح ، وامتنعت العجمة من الصّرف ، وأمنت زيادتها من الحذف. ومالت قواعد الملّة ، وصرنا إلى جمع القلّة ، وللشّرك صيال وتخمّط ، ولقرنه في شركه تخبّط ، وقد عاد الدين إلى غربته ، وشرق الإسلام بكربته ، كأن لم يسمع بنصر بن نصير ، وطرق طارق بكل خير ، ونهشات حنش وكيف أعيت الرّقى ، وأذالت (٦) بليل السّليم يوم الملتقى ، ولم تخبر عن المروانية وصوائفها ، وفتى معافر وتعفيره للأوثان وطوائفها ، لله ذلك السلف ، لقد طال الأسى عليهم والأسف. وبقي الحكم العدل ، والربّ الذي قوله الفصل ، وبيده الفضل ، ربّنا أمرت فعصينا ، ونهيت فما انتهينا ، وما كان ذلك جزاء إحسانك إلينا ، أنت العليم بما أعلنّا وما أخفينا ، والمحيط بما لم نأت وما أتينا ، لو أننا فيك أحببنا وقلينا (٧) ، لم

__________________

(١) في ب : ستتّها.

(٢) في ب : نثرت على القرطاس من شذور المنثور.

(٣) في ب : بالرائية.

(٤) نزف : غار ، والمعين : الماء الجاري. والبرض : الماء القليل.

(٥) صوّح النبات : يبس.

(٦) في ب : وأدالت.

(٧) قلينا : أبغضنا.

٢٤٢

ترنا من الفرقة ما رأينا ، ولم تسلّط عدوّك وعدونا علينا ، لكن أنت أرحم من أن تؤاخذنا بما جنينا ، وأكرم من أن لا تهب حقوقك إلينا (١).

وأشرت أيها الأخ الكريم إلى استراحة إليّ ، وتنسّم بما لديّ ، لتبرّد ـ كما زعمت ـ حرّ نفس ، وتقدح زناد قبس ، وهيهات صلد الزند (٢) ، وذوى العرار والرّند ، وأقشع الشؤبوب ، وركد ما كان يظنّ به الهبوب ، فالقلم دفين لا يحشر ، وميّت لا ينشر ، والطبع قد نكص القهقرى ، وقلّ منزله أن يدعى له النّقرى (٣) ، فها هو لا يملك مبيتا ، ولا يجد لقلمه تثبيتا ، وأنت ـ أبقاك الله عزّ وجلّ! ـ بمقتبل الآداب ، طائر هيعة (٤) الشباب ، وأين سنّ السّموّ من سنّ الانحطاط ، ووقت الكسل من وقت النشاط ، وقد راجعتك لا داخلا في حلبتك ، بل قاضيا حقّ رغبتك ، والله تعالى يجعلك بوسيلة العلم مترقيا ، وبجنّة الطاعة متوقّيّا ، ولهناء الأنفس مستقبلا ومتلقيا! بمنّه ، والسلام ، انتهى.

وكتب ، رحمه الله ، إلى سلطان إفريقية الوارث ملك بني عبد المؤمن بتلك النواحي ، المستولي على البلدان والضواحي ، وقد كان لأهل الأندلس أمل في أخذه بثأرهم ، وضمّ انتثارهم ، ما صورته : [الرمل]

شاقة غبّ الخيال الوارد

بارق هاج غرام الهاجد (٥)

صدق وعد للتلاقي ثم ما

طرقا إلّا بخلف الواعد (٦)

وكلا الزّورين من طيف ومن

وافد تحت الدياجي وارد

لم يكن بعد السّرى مستمتع

فيه للرّائي ولا للرائد

وشديد بثّ قلب هائم

يشتكيه عند ربع هامد

بالأمير المرتضى عزّ الهدى

وثنى عطف المليّ الواجد

وبه أصحب ما كان يرى

حاملا أنف الأبيّ الشارد

إنّما الفخر لمولانا أبي

زكريّاء بن عبد الواحد

__________________

(١) في ب : لدينا.

(٢) صلد الزند : صوّت ولم تخرج ناره.

(٣) النّقرى ـ بفتحات ـ الدعوة الخاصة ، أما الدعوة العامة فهي الجفلى ـ بفتحات أيضا.

(٤) في ب : ميعة.

(٥) شاقه : أثار شوقه ، والهاجد : النائم ليلا.

(٦) في ب : صدّقا وعد التلاقي.

٢٤٣

ملك لو لا حلاه الغرّ لم

يجر بالحمد لسان الحامد

ولو انّ العذب أبدى رغبة

عنه لم يشف غليل الوارد

فضله مثل سنى الشمس ، وهل

لسنى الشمس يرى من جاحد

قهر البغي بجدّ صادع

ما تعدّاه وجدّ صاعد

إنّما آل أبي حفص هدى

للورى من غائب أو شاهد

قعدوا فوق النجوم الزّهر عن

همم نبّهن عزم القاعد

وعن الإسلام ذادوا عندما

فلّ طول العهد غرب الذائد

أيّ فخر عمريّ المنتمى

ورثوه ماجدا عن ماجد

ما الفتوح الغرّ إلّا لهم

بين ماض بادئ أو عائد

في محيّا لاحق من سابق

وعلى المولود سيما الوالد

وليحيى راجح الحلم الذي

ترك الطّود بعطفي مائد

عقد أحسابهم تمّ به

مثل ما تمّ حساب العاقد

أيّها الجامع ما قد أحرزوا

جمع من همّته في الزائد

هذه الأمة قد أوسعتها

نظرا يكلأ ليل الراقد (١)

لم تزل منك بخير طارف

ريشه تال قدامى تالد

ولهم منك ليوم حاضر

وغد رأي البصير الناقد

أرشد الله لأولى نظر

بالورى رأي الإمام الراشد

وتولّاه بتوفيق الألى

سعدوا من عاقد أو عاهد

وله في الله أوفى كافل

بالذي يبقى وأكفى عاضد

نصر الله تعالى مولانا وأيّده ، وشدّ ملكه وشيّده ، وأبقى للفضل أيّامه ، وللفصل أحكامه! وأظفر بأعناق الأشقياء حسامه! ووفّر من اتّساق النعم والآلاء حظوظه وأقسامه! والحمد لله ثم الحمد لله على أن جعل به حرم الأمة آمنا ، ووهج الفتنة ساكنا ، وأبواب الصلة والمعروف لا تعرف إلّا واصلا أو آذنا ، وتلافى فلّ الإسلام منه بفيئاته التي منها ينتظرون الكرّ ، وبها يوعدون الفتح الأعزّ والنصر الأغرّ! فهم بين جدة قبضوها ، وعدة رضوها ، وارتقاب للفتح أكبر هممهم

__________________

(١) يكلأ : يرعى ويحفظ.

٢٤٤

منه درك الثار ، وانتصاف لأهل الجنّة من أهل النار ، فأمّا الأوطان فقد أسلتهم عنها جهة تنبت العزّ فيما تنبته ، وتنفي من الضيم ما تلك تثبته ، وما ذكر الساخط ، على المحل الساقط ، منازل عادت على مبانيها أطلالا ، ومغانيها أمحالا ، وللعبد حال يستقبل بها من النظر الكريم ـ أدامه الله تعالى! ـ ما أعين الآمال إليه صور (١) ، ورجاء الجميع عليه مقصور ، انتهى.

والغاية في هذا الباب ما كتب به ـ رحمه الله! ـ من جملة كتاب لبعض ذوي الألباب ، ونصّ محل الحاجة منه : نخصّ الجهة البعيدة الصّيت والاسم ، الشهيرة العمل والعلم ، درّة تاجنا ، وضوء سراجنا ، ونكتة احتجاجنا ، أبقاها الله تعالى في أعيننا منارا ، ولأندلسنا فخارا ، على أنه وإن بقيت المفاخر ، فقد أودى المفاخر ، وإن أضاء الطالع ، فقد درجت (٢) المطالع ، وغلب عليها عداة زووا عنها وجوهنا ، وأروا فيها مكروهنا ، حتى أني أتيت بشعر فيه استسقاء للديار ، على عادة الأشعار ، فقلت : [الكامل]

زدنا على النائين عن أوطانهم

وإن اشتركنا في الصّبابة والجوى

إنّا وجدناهم قد استسقوا لها

من بعد أن شطّت بهم عنها النّوى (٣)

ويصدّنا عن ذاك في أوطاننا

مع حبّها الشّرك الذي فيها ثوى (٤)

حسناء طاعتها استقامت بعدنا

لعدوّنا ، أفيستقيم لها الهوى

قلت : ما رأيت ولا سمعت مثل هذه الأبيات في معناها ، العالية في مبناها ، فإنّ فيها الإشارة إلى استيلاء النصارى ـ دمّرهم الله! ـ على تلك الديار ، وثبوت قدمهم فيها على طبق ما حصل لهم فيه اختيار ، مع إدماج حبّه لها الذي لا يشكّ فيه ولا يرتاب ، واشتمالها على المحاسن التي هي بغية الرائد ونجعة المنتاب ، ولكل أجل كتاب ، وإذا نفذ سهم المقدور فلا عتاب.

ومما يستولي على الخواطر ، ويروي رياض الأفكار بسحب بلاغته المواطر ، قوله ـ رحمه الله تعالى! ـ يخاطب أبا الحسن الرّعيني (٥) سنة (٦٣٤) : [الكامل]

يا صاحبي والدهر ـ لو لا كرّة

منه على حفظ الذّمام ـ ذميم

__________________

(١) صور : جمع صوراء وهي وصف المؤنث من صور يصور ـ بزنة فرح يفرح. إذا مال ، واعوجّ.

(٢) في ب : دجت.

(٣) شطت : بعدت. والنوى : البعد.

(٤) ثوى بالمكان : أقام فيه.

(٥) هو أبو الحسن علي محمد بن علي بن الفخار الرعيني المتوفى سنة ٦٦٦ ه‍. (الذيل والتكملة ٥ : ٣٢٣).

٢٤٥

أمنازعي أنت الحديث؟ فإنه

ما فيه لا لغو ولا تأثيم

ومروّض مرعى مناي فنبته

من طول إخلاف الغيوم هشيم

طال اعتباري بالزمان ، وإنما

داء الزمان كما علمت قديم

مجفوّ حظّ لا ينادى ثم لا

ينفكّ عنه الحذف والترخيم

وأرى إمالته تدوم وقصره

فعلام يلغى المدّ والتفخيم

وعلام أدعو والجواب كأنما

فيه بنصّ قد أتى التحريم

لم ألق إلّا مقعدا ، غير الأسى

فلديّ منه مقعد ومقيم

وشرابي الهمّ المعتّق خالصا

فمتى يساعدني عليه نديم

غارات أيام عليّ جوارح

قعديّها في طبعه التحكيم (١)

ولواعج يحتاج صالي حرّها

أمرا به قد خصّ إبراهيم

ولقد أقول لصاحب هو بالذي

أدركت من علم الزمان عليم

لا يأس من روح الإله وإن قست

يوما قلوب الخلق فهو رحيم

ويهزّني ، ويستفزّني ، ما كتبه ـ رحمه الله تعالى! ـ من رسالة : كتبته إلى سيدي وهو السيد حقيقة ، وأخي وقد كتب الدهر بذلك وثيقة ، أبقى الله تعالى جلاله محروسا ، وربع وفائه لا يخشى دروسا ، من رباط الفتح وأنا بحقه عليم ، وعلى عهده مقيم ، وشأني توقير له وتعظيم ، وحبّ فيه خالص كريم ، ووصلني خطابه الخطير المبرور ، فكنت به كالصائم رأى الهلال ، والهائم عاين ماء الزّلال ، علق ليس يوازيه علق ، وسحر لكنه حلال طلق (٢) ، ونظم لذكر الطائي (٣) طاو ، وصنعة ولم يروها راء ولا راو ، رمت ابن الرومي بالخمول ، وبشرت اسم بشار من الفحول ، وحكمت بأن النّمريّ (٤) في نمرة الهوان مدرج ، والسّريّ (٥) عن سراوة الإحسان مخرج. فأمّا النثر فصهيل لا يجاوبه الرّغاء ، وطراز لا يحسنه البلغاء ، ونقد تزيف معه النقود ، ومدى تنقطع دونه الضّمّر القود ، وغادر الصابيّ وصباه غير ذات هبوب ، والصاحب وهو من العجز مع شر مصحوب ، والميكاليّ وميكاله مرفوض ، والحريريّ وحريرة في سوق

__________________

(١) القعدي ـ بفتح القاف والعين ـ الخارجي الذي لم ير القتال ، وجمعه قعدة. وفي ب : غارات أيامي.

(٢) طلق ـ بكسر الطاء وسكون اللام ـ المطلق الذي لا خطر فيه من جهة ما.

(٣) أراد بالطائي أبا تمام حبيب بن أوس الطائي.

(٤) النمري : هو منصور النمري أحد شعراء الدولة العباسية.

(٥) السري : هو السري الرفاء الموصلي ، أحد شعراء سيف الدولة الحمداني.

٢٤٦

الكساد معروض ، فأما بحر رئيس أرّجان (١) ، فقد استخرج منه اللؤلؤ والمرجان ، وأبقاه في ضحضاح ، بل تركه يمشي بأذرح (٢) ضاح ، فمن ذا يجاري فارس الصّفّين وإمام الصنفين؟ أبلغ من خطّ بقلم ، وأشهر من نار على علم ، وما ذا يقال في أنامل تطرز بها الصحف ، وخمائل تفخر بها الروضة الأنف ، واسم في شرق البلاد وغربها ظاهر ، ووسم بالكتابة والنجابة لم يكن لبني وهب وآل طاهر ، فالزمان يأثر ، ما ينثر ، ويعظّم ، ما ينظم ، ولو أن الأزمنة قبله غمرت (٣) المحاضر بكل ناجم ، ونشرت المقابر عن الصّنوبري وكشاجم ، وجاءت بالكتّاب من كل جيل ، والشعراء رعيلا بعد رعيل ، لطال هذا العصر بواحده آلافها ، وأنسى بخلفه أسلافها ، انتهى.

وكتب ـ رحمه الله تعالى! ـ إلى صاحبين له في معنى ما ألمعنا به آنفا ، ما صورته : [مخلع البسيط]

تحيّة منكما أتتني

طابت كما طاب مرسلاها

ويا لها أذكرت عهودا

قلبي والله ما سلاها

حللتما في البلاد أرضا

ريح صباها عني سلاها

لم يصب قلبي إلى سواها

يوما ولم يسل عن سلاها

كتابي أيها الأخوان اللذان بودّهما أقول ، وعن عهدهما لا أحول ، أنزلكما الله تعالى خير منزل! وجعلكما من النوائب والشوائب بمعزل! من رباط الفتح ولبّي قديما ملكتما رقّه ، وقلبي تعلّما وتعليما عرفتما صدقه ، كيف حالكما من سفر طويتما خبره ، حين تجشّمتما غرره؟ وكيف سمحت (٤) نفوسكما بأمّ الحصون ، وذات الظلال والعيون؟ تربة الآباء ، ومنزلة الجمحيّين النّجباء ، حتى صرمتما حبلها ، وهجرتما حزنها وسهلها ، وخضتما غبر الفجاج ، وخضر الأمواج؟ وما ذاك إلّا لتغلّب الحادث النّكر ، وتألّب المعشر الغدر ، ومن أجل الداهية النكاد ، والحادثة الشنيعة على البلاد ، أزعجتكم حين أزعجتنا ، وأخرجتكم كما أخرجتنا ، وطوّحت بنا طوائحها ، واجتاحت ثمرنا وشجرنا جوائحها ، فشكرا لله تعالى على قضائه ، وتضرّعا فيما نرفعه من دعائه ، وهنيئا لنا ولكم معشر الشّرداء ، المنطوين من الشجن على شرّ داء ، ذلك الطّود

__________________

(١) أراد أبا إسحاق الصابي ، وبمن ذكر بعده الصاحب بن عباد ، وأبا الفضل الميكالي ، وأبا القاسم الحريري صاحب المقامات ، ورئيس أرجان : أبا الفضل بن العميد.

(٢) في ب : بأدرج.

(٣) في ب : عمرت.

(٤) في ب : سخت.

٢٤٧

الذي إليه أويتما ، وفي ظلّه ثويتما ، وعن رأيه تريان ، وبسعيه تسعيان ، فوجهه المبارك لا يعدم رأيه نجحا ، ولا يعدو لصبحه إذا دجا ليل الهمّ صبحا ، انتهى.

وكان أبو المطرّف بن عميرة المذكور كما قال فيه بعض علماء المغرب : قدوة البلغاء ، وعمدة العلماء ، وصدر الجلّة الفضلاء ، وهو أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي ؛ ونكتة البلاغة التي قد أحرزها وأودعها ، وشمسها التي أخفت ثواقب كواكبها حين أبدعها ، مبدع البدائع التي لم يحظ بها قبله إنسان ، ولا ينطق عن تلاوتها لسان ؛ إذ كان ينطق عن قريحة صحيحة ، ورويّة بدرر العلم فصيحة ، ذلّلت له صعب الكلام ، وصدّقت رؤياه حين وضع سيد المرسلين ، صلّى الله عليه وسلّم ، وهو الذي أوتي جوامع الكلم في يديه الأقلام ، وأصل سلفه من جزيرة شقر ، وولد بمدينة بلنسية ، وروى عن أبي الخطاب بن واجب وأبي الربيع بن سالم وابن نوح والشلوبيني النحوي وابن عات وابن حوط الله ، وغيرهم من الحفّاظ ، وأجازه من أهل المشرق جماعة ، وكان شديد العناية بشأن الرواية فأكثر من سماع الحديث ، وأخذه عن مشايخ أهله ، ثم تفنّن في العلوم ، ونظر في المعقولات وأصول الفقه ، ومال إلى الأدب ، فبرع براعة عدّ فيها من مجيدي النظم ، فأمّا الكتابة فهو فارسها الذي لا يجارى ، وصاحب عينها الذي لا يبارى ، وله وعظ على طريقة ابن الجوزي ، ورسائل خاطب بها الملوك وغيرهم من الموحّدين والحفصيين ، وله تأليف في كائنة ميورقة وتغلّب الروم عليها ، نحا في الخبر عنها منحى الإمام الأصبهاني في «الفتح القدسي» وله كتاب تعقّب فيه على الفخر الرازي في كتاب «المعالم» وله كتاب ردّ به على كمال الدين الأنصاري في كتابه المسمّى «بالتبيان» ، في علم البيان ، المطّلع على «إعجاز القرآن» وسمّاه «بالتنبيهات ، على ما في البيان من التمويهات» ، وله اختصار نبيل من تاريخ ابن صاحب الصلاة ، وغير ذلك.

ورد ـ رحمه الله! ـ حضرة الإمامة مرّاكش صحبة أمير المؤمنين الرشيد حين قفوله من مدينة سلا ، واستكتبه مدّة يسيرة ، ثم صرفه عن الكتابة ، وقلّده قضاء هيلانة ، ثم نقله إلى قضاء سلا ، ثم نقله السعيد إلى قضاء مكناسة الزيتون ، ثم قصد سبتة ، وأخذ ماله في قافلة بني مرين ، ثم توجّه إلى بلاد إفريقية ، ووصف حاله في رسالة خاطب بها ابن السلطان أبا (١) زكريا الحفصي ، وهو أبو زكريا ابن السلطان أبي زكريا ، وكان صاحب بجاية لأبيه ، ولم يزل ـ رحمه الله تعالى ـ مذ فارق الأندلس متطلّعا لسكنى إفريقية ، معمور القلب بسكناها ، ولمّا قدم تونس مال إلى صحبة الصالحين والزّهّاد وأهل الخير برهة من الزمان ، ثم استقضي بالأربس من

__________________

(١) في ب : أبي.

٢٤٨

إفريقية ، ثم بقابس مدّة طويلة ، ثم استدعاه أمير المؤمنين المستنصر بالله الحفصي ، وأحضره مجالس أنسه ، وداخله مداخلة شديدة ، حتى تغلّب على أكثر أمره.

ومولده بجزائر شقر في شهر رمضان المعظم سنة ٥٨٠ ، وتوفي ليلة الجمعة الموفية عشرين من ذي الحجة سنة ٦٥٨ ، ألحفه الله رضوانه ، وجدّد عليه غفرانه!.

قال ابن الأبار في «تحفة القادم» في حق أبي المطرف المذكور : فائدة هذه المائة ، والواحد يفي بالفئة ، الذي اعترف باتحاده الجميع ، واتصف بالإبداع فماذا يتّصف به البديع (١) ، ومعاذ الله أن أحابيه بالتقديم ، لما له من حقّ التعليم ، كيف وسبقه الأشهر ، ونطقه الياقوت والجوهر ، تحلّت به الصحائف والمهارق (٢) ، وما تخلّت عنه المغارب والمشارق ، فحسبي أن أجهد في أوصافه ، ثم أشهد بعدم إنصافه ، هذا على تناول الخصوص والعموم لذكره ، وتناوب المنثور والمنظوم على شكره ، ثم أورد له جملة منها قوله : [الكامل]

وأجلت فكري في وشاحك فانثنى

شوقا إليك يجول في جوّال

أنصفت غصن البان إذ لم تدعه

لتأوّد مع عطفك الميّال

ورحمت درّ العقد حين وضعته

متواريا عن ثغرك المتلالي

كيف اللقاء وفعل وعدك سينه

أبدا تخلصه للاستقبال

وكماة قومك نارهم ووقيدها

للطارقين أسنّة وعوالي

وله مما يكتب على قوس قوله : [الكامل]

ما انآد معتقل القنا إلّا لأن

يحكي تأطّر قامتي العوجاء (٣)

تحنو الضلوع على القلوب وإنّني

ضلع ثوى فيها بأعضل داء

وله وقد أهدى وردا : [البسيط]

خذها إليك أبا عبد الإله فقد

جاءتك مثل خدود زانها الخفر (٤)

أتتك تحكي سجايا منك قد عذبت

لكن تغيّر هذا دونه الغير

__________________

(١) البديع : هو بديع الزمان الهمذاني ، صاحب المقامات المعروفة باسمه.

(٢) المهارق : جمع مهرق : وهو الصحيفة.

(٣) انآد : اعوجّ ، والتأطر : التعطف والانثناء.

(٤) الخفر : الحياء.

٢٤٩

إن شمت منها بروق الغيث لامعة

فسوف يأتيك من ماء لها مطر

قال : وكتب إليّ مع تحفة أهداها مكافئا عن مثلها : [الكامل]

يا واحد الأدب الذي قد زانه

بمناقب جعلته فارس منصبه (١)

بالفضل في الهبة ابتدأت فإن تعر

طرف القبول لما وهبت ختمت به

قال : وله ارتجالا بقصر الإمارة من بلنسية وأنا حاضر في صبيحة بعض الجمع ، وقد حجم صاحب لنا من أهل النظم والنثر ، وأحسن إلى الحجّام بالمخصوص (٢) : [الوافر]

أرى من جاء بالموسى مواسى

وراحة ذي القريض تعود صفرا

فهذا مخفق إن قصّ شعرا

وهذا منجح إن قصّ صفرا (٣)

وله أيضا : [الكامل]

هو ما علمت من الأمير ، فما الّذي

تزداد منه وفيه لا يرتاب

لا تتقي الأجناد في أيامه

فقرا ، ولا يرجوا الغنى الكتّاب

وله بعد انفصاله من بلنسية عن وحشة في ذي القعدة سنة (٦٢٨) : [الطويل]

أسير بأرجاء الرّجاء ، وإنّما

حديث طريقي طارق الحدثان

وأحضر نفسي إن تقدّمت خيفة

لغضّ عنان أو لعضّ زمان

أيترك حظي للحضيض وقد سرى

لإمكانه فوق الذرا جبلان

وأخبط في ليل الحوادث بعد ما

أضاء لعيني منهما القمران

فيحيى لآمالي حياة معادة

وإنّ عزيزا عزة لمكاني

وقالوا : اقترح إنّ الأمانيّ منهما

وإن كنّ فوق النجم تحت ضمان

فقلت : إذا ناجاهما بقضيّتي

ضميري لم أحفل بشرح لساني

وله أيضا : [الكامل]

سلب الكرى من مقلتيّ فلم يجيء

منه على نأي خيال يطرق

أهفو ارتياحا للنسيم إذا سرى

إنّ الغريق بما يرى يتعلّق

__________________

(١) في ب : مقنبه.

(٢) في ب : المخصوص.

(٣) في ب : إن قصّ شعرا.

٢٥٠

انتهى ما تلخص من «تحفة القادم» في ذكر ابن عميرة أبي المطرف.

ومما كتب أبو المطرف ـ رحمه الله! ـ وفي أثنائه إشارة إلى الكفّار الغالبين على بلاد الأندلس ، ما نصّه : [الطويل]

ألا إنّ شخصينا على القطع واحد

وجاحد هذا للضرورة جاحد

فإن لم تصدّق ما نطقت بصدقه

فإنك لي لاح وللودّ لاحد (١)

ومعاذ الله ، عزّ وجلّ ، أن تلحاني ، أو تمنع أنفك ريح ريحاني ، وكيف تصدّ عنّي بوجهك ، أو تشحذ لي غرب نجهك (٢) ، وأنا على غيبك أمين ، ولشمالك يمين ، ولكم دعوت بي فأجبت ، واستغنيت عني فحجبت ، وأردت الاستبداد فما استطعت ، ونعتّ الوداد فما أحسنت النعت ، وإنما تحمد فراهة الأعوجيّ (٣) إن جرى ، وتذكر فضيلة ابن السّري إذا سرى ، فأما الاقتصار على عظم باد ، والانتظار لعين عدمت السواد ، فخطأ من القائل ، وخطل عند العاقل (٤) ، ولله درّ أخيك من مغمض طرف التطرّف ، قارىء أدب الصحبة على السبعة الأحرف ، كرع (٥) في أعزّ مورد ، وتواضع في شرف مولد ، وسما بنفسه عن أن يستخفّه نسب يرفعه ، وحسب ما منّا أحد يدفعه ، وكذلك الكرام يرون عليهم حقّا ، ويتوقّون من لم يكن من الكبر موقّى ، ولعهدي به وظلّ الثروة بارد ، وشيطان الشيبة مارد ، وبشره في الملمّات يرفّ ، وقدمه إلى الحاجات تخفّ ، يصون عرضه بماله ، ويخفي صدقة يمينه عن شماله ، ويقسّم جسمه في جسوم (٦) ، ويقوم بالحقوق غير ملول ولا ملوم ، تلك المكارم لا قعبان (٧) ، وما تستوي البدنة المهيضة (٨) مع غيرها في القربان ، وعرضت بذكر العصر الخالي ، والقصر العالي ، وظل من فنن وريق ، وعيش مع أكرم فريق ، وما تذكر من زمن تولّى؟ وعهد على أن لا يعود تألّى ، فارقناه أحسن ما كان ، وودّعنا به الأطيبين الزمان والمكان ، فعفت الرسوم ، وأفلت تلك النجوم ، ورمتنا عن قوسها الروم ، ثم خلفتنا في المغاني ، وقسمتنا بين الأسير والعاني ، فأودى القلّ والكثر ، واشتفى من الإسلام الكفر ، فكم كأس أنس أرقناه ، ومنزل فرقة

__________________

(١) لاح : لائم. ولاحد : دافن.

(٢) النجه : الردع والانتهار.

(٣) الأعوجي : نسبة إلى أعوج ، وهو من كرائم الخيل.

(٤) الخطل : الحمق ، الخفة.

(٥) كرع : شرب.

(٦) أخذ هذا من قول عروة بن الورد :

أقسم جسمي في جسوم كثيرة

وأحسو قراح الماء والماء بارد

(٧) أخذ هذا من قول أمية بن أبي الصلت :

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

(٨) المهيضة : المكسورة.

٢٥١

الأبد فارقناه ، وذكرت اجتيازك بين العلمين ، وقطعك متن اليمّ في يومين ، وأنّك انتقلت من ذوات الألواح ، إلى عذبات الأدواح ، ومن متهافت الشّراع ، إلى منابت اليراع ، ومن سكنى بيت السكان ، إلى منزل به الفلاح والملاح يشتركان ، حيث اجتمع الضّبّ والنون ، وأينع التين والزيتون ، وظلّلت الساحات ، وذلّلت الثمار المباحات ، فلا تشرقنا يا أصيل ، ولأمّ تلك الأرض الويل ، انتهى.

ووصل هذا الكلام بالأبيات التي تقدّمت قريبا ، وهي قوله «زدنا على النائين عن أوطانهم إلخ».

وكتب رحمه الله عن أهل شاطبة أيام كان قاضيا بها ، مهنّئا أمير المسلمين ابن هود المستولي على الأندلس آخر دولة الموحّدين بوصول الكتاب العباسي الكريم إليه من بغداد بولاية الأندلس ، إذ كان ابن هود حين ثار على الموحدين يدعو إلى الخليفة العباسي الذي كان أكثر الملوك في ذلك الزمان يدينون بطاعته ، بما نصّه بعد الصدر :

أمّا بعد ، فكتب العبيد ـ كتب الله تعالى إلى المقام (١) العلي المجاهدي المتوكلي سعادة لا تبلغ أمدا إلّا تخطّته! ويدا علوّها أثبتته أيدي الأقدار وخطّته ـ من شاطبة وبركات الأمر المجاهديّ المتوكلي ، والعهد الواثقي المعتصمي ، تنسكب كالمطر ، وتنسحب على البشر ، وتقضي بعادة النصر والظفر ، وسعادة الورد والصّدر (٢) ، والحمد لله ، وعند العبيد من أداء فروض الخدم ، والقيام بحقوق النّعم ، ما عقدت عليه ضمائرهم ، وسمت إليه نواظرهم ، واشترك فيه بادبهم وحاضرهم ، فجناب أملهم فسيح ، ومتجر خدمتهم ربيح ، وحديث طاعتهم حسن صحيح ، وبسنى النظر العليّ اهتداؤهم ، وفي الباب الكريم رجاؤهم ، وبصدق العبودية اعتزازهم وإليها اعتزاؤهم (٣) ، والله تعالى ينهضهم بوظائف المثابة العلية ، ويحملهم على المناهج السّويّة ، ووصل الكتاب الكريم متحلّيا برواء الحق ، ناطقا بلسان الصدق ، واصفا من التشريف والفخار المنيف ، ما صدر عن إمام الخلق ، فلا بيان أعجب من ذلك البيان ، ولا يوم كذلك اليوم تبدّى نظره للعيان ، أو تأدّى خبره في أخبار الزمان ، نثرت فيه الخلع العباسية في أعلى الصور ، وبرز منها للعيون ما يعثر البليغ عند وصفه في ذيل الحصر ، ويهدي سواده سواد القلب والبصر ، فيا لمشهدها ما أعجب ما كان ، ومرآها الذي راع الكفر وراق الإيمان ، وأشبه

__________________

(١) في ب : للمقام.

(٢) الصّدر : بفتح الصاد والدال : الرجوع عن الماء بعد وروده.

(٣) اعتزاؤهم : انتسابهم.

٢٥٢

يومه بالأندلس يوم خرجت الرايات السود من خراسان (١) ، وكفى بهذا فخارا لا يحتاج ثابته مثبتا ، أن باشرت بردا باشر البدن الذي طاب حيّا وميتا (٢) ، فهو على في الإسناد ولا نظير له في العوالي ، وفخار ضلّت عن مثله العصور الخوالي ، وجلّت بهجته أن تخلق جدّتها الأيام والليالي ، ودلّ الكتاب العزيز على التسمية المشتقة من الجهاد ، والسمة من سيف أمير المؤمنين بما لا يدخل في جنس ذوات الأغماد ، وخير الأوصاف ما صدقه الموصوف ، والكريم النسب نسبته (٣) يباهي بها الدين وتزهى السيوف : [الطويل]

فإن نحن سمّيناك خلنا سيوفنا

من التّيه في أغمادها تتبسّم

وممّا أفاده الكتاب المبهج بطيب أنبائه ، نصّ علامة سيدنا ، صلوات الله عليه وعلى آبائه ، فإنّها تضمّنت صفة لله ، عزّ وجلّ ، من صفات الكمال ، ودلّت على مذهب أهل السّنّة في خلق الله ، عزّ وجلّ ، الأعمال ، وأشعرتنا معشر العبيد بعناية سبقت بالمقام المجاهدي المتوكلي ـ أحسن الله تعالى إليه! ـ حين تولّى خلافة أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، فإنه لمّا شايعه بعزيمة مساعدة ، ونيّة في مشارع الصفاء والإخلاص واردة ، ألهم زيادة في العلامة شاركت الإمامة في صفة واحدة ، فهذه كرامة في العلامة ، هي علامة الكرامة ، وهبة من مواهب الكشف يجدها من امتثل قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢] فكان من أهل الاستقامة ، وتضمّن الكتاب الكريم بيعة أهل جيّان وما معها ، وإن هذه البشائر وما تبعها ، لفروع عن هذا الأصل الصحيح ، وأقيسة من هذا النصّ الصريح ، بأدلة الخلاف (٤) قد استقلّت ، وشبهة الخلاف قد بطلت واضمحلّت ، والحمد لله على أن منح جزيل النعماء ، وشرح باليقين صدور الأولياء ، وشرّف هذه الأمة بإمامة نجل الأئمة الخلفاء ، وابن عمّ سيّد الرسل وخاتم الأنبياء ، والعبيد يهنئون بهذه النّعم ، التي لا يستقلّ بذكرها قلم ، ولا يقطع علم من وصفها إلّا بدا علم (٥) ، وبهم من الأشواق إلى مشاهدة المعالم السنيّة ، ولثم اليمين الطاهرة العليّة ، ما أكّده دنو الدار ، وجدّده ما تجدّد للمقام العالي المتوكلي من نعم الله تعالى الجليلة المقدار ، والشاهدة له بإسعاد الأيام وإسعاف الأقدار ، فلو أمكنهم الإقدام لأقدموا ، ولو وجدوا رخصة في المسير لعزموا ،

__________________

(١) الرايات السود : أعلام بني العباس ، وخراسان موطن دعوتهم وثورتهم على الأمويين.

(٢) البدن الذي طاب حيّا وميتا : بدن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

(٣) في ب : وللكريم النسب نسبة يباهي.

(٤) في ب : فأدلّة الخلافة.

(٥) أخذ هذا المعنى من قول جرير :

إذا قطعن علما بدا علم

حتى تناهين بنا إلى الحكم

٢٥٣

وهم يستلمون البساط الأشرفي توهّما ومن أملهم أنهم في الحقيقة قد استلموا ، انتهى.

وبه تعلم أن الدولة العباسية خطب لها ببلاد الأندلس ـ أعادها الله للإسلام! ـ ولا يخفاك أنّ ما جلبناه من ذلك وغيره مناسب للمقام ، فلا انتقاد ولا ملام.

وقد رأيت أن أذكر هنا مخاطبة صدرت من الغني بالله صاحب الأندلس إلى السلطان المنصور أحمد ابن السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، من إنشاء الوزير الكبير لسان الدين بن الخطيب رحمه الله ، لما اشتملت عليه من أحوال الأندلس ، ونصّها : الأبواب التي تفتح لنصرها أبواب السماء ، وتستدرّ من آفاقها سحائب النعماء ، وتجلى بأنوار سعدها دياجي الظلماء ، وتعرّف نكرة البلاد ، والعباد بالانتساب إلى محبّتها والانتماء ، على اختلاف العروض وتباين الحدود وتعدّد الأسماء ، ويجتزأ من صلات صلاتها عند الموانع من كمال حالات صفاتها بالإيماء ، وتحمل لها التحيّة ذوات الدّسر والألواح (١) طاعنة نحر الصباح على كتد الماء (٢) ، أبواب السلطان الكبير ، الجليل الشهير ، الطاهر الظاهر ، الأوحد الأسعد ، الأصعد الأمجد ، الأعلى العادل ، العالم الفاضل الكامل ، سلطان الإسلام والمسلمين ، عماد الدنيا والدين ، رافع ظلال العدل على العالمين ، جمال الإسلام ، علم الأعلام ، فخر الليالي والأيام ، ملك البرّين والبحرين ، إمام الحرمين ، مؤمّن (٣) الأمصار والأقطار ، عاصب تاج الفخار ، هازم الفرنج والترك والتتار ، الملك المنصور ابن الأمير الرفيع الجادة ، الكريم الولادة ، الطاهر الظاهر ، الكبير الشهير ، المعظّم الممجّد الأسمى ، الموقّر الأعلى ، فخر الجلّة ، سيف الملّة ، تاج الإمارة ، عزّ الإسلام ، مستظلّ الأنام ، قمر الميدان ، أسد الحرب العوان ، المقدّس المطهّر ، الأمير أحمد ابن والد السلاطين ، ومالك المسلمين ، وسيف خلافة الله على العالمين ، ووليّ المؤمنين ، سلطان الجهاد والحجّ ، ومقيم رأس (٤) العجّ والثجّ ، محيي معالم الدين ، قامع المعتدين ، قاهر الخوارج والمتمرّدين ، ناصر السّنّة ، محيي الملّة ، ملك البرّين والبحرين ، سلطان الحرمين ، الملك العادل ، العالم العامل ، المنصور المؤيّد المعان المرفّع المعظّم المبجّل المؤمّل ، المجاهد المرابط المغازي (٥) الممجّد المكمّل ، المطهّر الكبير الشهير ، المقدّس الملك الناصر أبي عبد الله محمد بن قلاوون الصالحي ، جعل الله فسطاط دعوته معمودا بعمود الصبح ، وحركات عزمه مبنية على الفتح ، ومجمل سعادته غنيّا عن الشّرح ،

__________________

(١) ذات الدسر والألواح : السفينة ، وفي التنزيل الحكيم (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ).

(٢) الكتد : في الأصل مجتمع الكتفين من الإنسان وغيره.

(٣) في ب : مؤمّل.

(٤) في ب : رسم.

(٥) في ب : الغازي.

٢٥٤

وجياد أوصافه متبارية في ميدان المدح ، وزناد رأيه وارية على القدح ، من موجب حقه وجوب الشعائر الخمس ، المرحب لأجل أفقه الشرقيّ بوفادة الشمس ، المجدّد في اليوم حكم ما تقرر بين السلف رحمهم الله بالأمس ، أمير المسلمين بالأندلس عبد الله الغني بالله الغالب به محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر. سلام كريم كما زحفت راية الصبح تقدمها طلائع مبشرات الرياح ، يفاوح أرجه أزاهير (١) الأدواح ، ويحاسن طرر الوجوه الملاح (٢) ، يخصّ أبوّتكم التي رتب العزّ فصولها ، وعضدت نصوص النصر نصولها ، ورحمة الله تعالى وبركاته.

أما بعد حمد الله الذي جعله فاتحة القرآن ، وخاتمة دعاء أهل الجنان ، وشكره على ما أولى من مواهب الإحسان ، حمدا وشكرا يستخدمان من الإنسان ، ملكتي القلب واللسان. والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد رسوله زهرة كمامة الأكوان ، وسيّد ولد آدم على اختلاف اللغات والألوان ، الذي أذلّ بعزّة الله نفوس أهل الطغيان ، وغطى بدينه الحق على الأديان ، وزويت له الأرض فرأى ملك أمّته يبلغ ما زوي له فكان الخبر وفق العيان ، والرضا عمّن له من الأصحاب والأحباب والأعمام والأخوال والإخوان ، صلاة يجدّدها الجديدان (٣) ، ويمليها الملوان وتتزاحم على تربته المقدّسة مع الأحيان ، ما سجعت طيور البراعة من أعواد اليراعة على الأفنان ، والتفتت عيون المعاني ما بين أجفان البيان ، والدعاء لأبوابكم الشريفة جعل الله تعالى عصمته تقيم بها وظيفتي الحجابة والاستئذان ، وضرب بدعوتها التي هي لذّة الإقامة والأذان على الآذان ، واستخدم بروج الفلك الدوار في أمرها العزيز استخدام الأنصار والأعوان ، حتى يعلم ما في المدافعة عن حماها مخالب السّرحان (٤) ، وفي الإشادة بعدلها كفّتي الميزان ، ويهدي لها من الزهرة كرة الميدان ، ومن الهلال عوض الصولجان ، وأبقى في عواملها ضمير الأمر والشان ، إلى يوم تعنو (٥) وجوه الملوك إلى الملك الديّان ، فإنّا كتبناه إلى تلك الأبواب ، كتب الله لعتبتها النصرة الداخلة ، كما أخجل بمكارمها السحب الباخلة ، وجعل مفارق مناصلها المختضبة من نجيع عداها غير ناصلة ، وقرن بكل سبب عن أضدادها فاصلة ، من دار ملك الإسلام بالأندلس حمراء غرناطة ـ وصل الله سبحانه عادة الدفاع عن أرجائها! وشدّ بأيدي اليقين عرى أملها في الله ورجائها! ـ حيث المصافّ (٦) المعقود ، وثمن النفوس المنقود ، ونار الحرب ذات الوقود ، حيث الأفق قد تردّى بالقتام (٧) وتعمّم ، والسيف قد تجرّد وتيمّم ، وغبار الجهاد يقول : أنا الأمان من دخان

__________________

(١) في ب : زهر.

(٢) الطرر : جمع طرة ، وهي الشعر في مقدمة الرأس.

(٣) الجديدان : الليل والنهار.

(٤) السّرحان : الذئب.

(٥) تعنو : تذلّ وتخضع.

(٦) المصافّ : الأماكن التي تصطف فيها الجيوش.

(٧) القتام : الغبار.

٢٥٥

جهنّم ، حيث الإسلام من عدوّه كالشامة من جلد البعير ، والتمرة من أوسق العير ، حيث المصارع تتزاحم الحور على شهدائها ، والأبطال يعلو بالتكبير مسمع ندائها ، حيث الوجوه الضاحكة المستبشرة قد زيّنتها الكلوم بدمائها ، وإنّ هذا القطر الذي مهدت لسياستنا أكوار مطاياه ، وجعلت بيدنا ـ والمنّة لله ـ عياب عطاياه ، قطر مستقلّ بنفسه ، مرب يومه في البرّ على أمسه ، زكيّ المنابت عذب المشارب ، متمّم المآمل مكمّل المآرب ، فاره الحيوان ، معتدل السّحن والألوان ، وسيطة في الأقاليم السبعة ، شاهدة لله بإحكام الصنعة ، أما خيله ففارهة ، وإلى الرّكض شارهة ، وأما سيوفه فلمواطن الغمود كارهة ، وأمّا أسله (١) فمتداركة الخطف ، وأما عوامله فبيّنة الحذف ، وأمّا نباله فمحذورة القذف ، إلّا أنّ الإسلام به في سفط (٢) مع الحيّات ، وذريعة للمنيّات الوحيّات (٣) ، وهدف للنبال ، وأكلة للشّبال ، تطؤهم الغارات المتعاقبة ، وتخيفهم (٤) الحدود المصاقبة ، وتجوس خلالهم العيون المراقبة ، وتريب من أشكال مختطّهم إلّا أن يتفضل الله بحسن العاقبة ، فليس إلّا الصبر ، والضّرب الهبر ، والهمز والنبر ، والمقابلة والجبر ، وقد حال البحر بينهم وبين إخوان ملّتهم ، وأساة علّتهم ، يقومون بهذا الفرض ، عن أهل الأرض ، ويقرضون ملك يوم العرض ، أحسن القرض ، فلو لا بعد المدى ، وغول الرّدى ، ولغط العدا ، وما عدا ممّا بدا ، لسمعتم تكبير الحملات ، وزئير تلك القلّات ، ودويّ الحوافر ، وصليل السيوف من فوق المغافر ، وصراخ الثّكالى ، وارتفاع الأدعية إلى الله تعالى ، ولو ارتفع هذا (٥) المكان ، وهو للأولياء مثلكم من حيّز الإمكان ، لمقلتم مقل الأسنّة الزّرق ، حالّة من أطراف قصب الرماح محالّ الورق ، وأبصرتم القنا الخطّار قد عاد أخلّة ، والسيوف قد صارت فوق بدور الخوذ أهلّة ، وعقود الشهادة عند قاضي السعادة مستقلّة ، وكان كما تحصره علومكم الشريفة حدق سور الفتح ، وآخر ولاء ذلك المنح (٦) ، عرض على الفاروق فاحتاط ، وأغرى به من بعده فاشتاط ، وسرحت خيال ابن أبي سرح ، في خبر يدعو إلى شرح ، حتى إذا ولد مروان تقلّدوا كرتها التي هوت ، وقضموا (٧) ما أنضجت ورثة الحق وشوت ، ويدهم على الأمر احتوت ، وفازت منه بما نوت ، نفل ولائده الوليد ، وجلب له الطريف والتليد ، وطرقت خيل طارق ، وضاقت عن أخباره المهارق ، وجلّت الفائدة ، وظهر على الذخيرة التي منها المائدة ، ثم استرسل المهبّ ، ونصر الربّ ، ويكثر الطير

__________________

(١) الأسل : الرماح.

(٢) السفط ـ يفتح السين والفاء ـ وعاء من قضبان الشجر ونحوها ، أو وعاء الطيب وأدوات النساء.

(٣) الوحيّات : جمع وحيّة ، والمنية الوحيّة : الموت السريع.

(٤) في ب : وتتحيفهم.

(٥) في ب : قيد.

(٦) في ب : وآخر دلاء ذلك المتح.

(٧) في ب : وخضموا.

٢٥٦

حين ينتثر الحبّ ، وصرفت أشراف الشام أعنّتها إلى التماس خيره ، وطارت بأجنحة العزائم تيمّنا بطيره ، وقصدته الطلائع صحبة بلج بن بشر وغيره ، ففتحت الأقفال ، ونفلت الأنفال ، ونجح الفال ، ووسمت الأغفال ، وافتتحت البلاد الشهيرة ، وانتقيت العذارى الخيرة ، واقتنيت الذخيرة ، وتجاوز الإسلام الدروب وتخطّى ، وخضد الأرطى (١) ، وأركب وأمطى ، واستوثق واستوطا ، وتثاءب وتمطّى ، حتى تعدّدت مراحل البريد ، وسخنت عين الشيطان المريد ، واستوسق للإسلام ملك ضخم السّرادق ، مرهوب البوارق ، رفيع العمد ، بعيد الأمد ، تشهد بذلك الآثار والأخبار ، والوقائع الكبار ، والأوداق والأمطار (٢) ، وهل يخفى النهار؟ ولكل هبوب ركود ، والدهر حسود لمن يسود ، فراجعت الفرنج كرّتها ، واستدركت معرّتها ، فدوّمت جوارحها وحلّقت ، وأومضت بوارقها وتألّقت ، وتشبّثت وتعلّقت ، وأرسلت الأعنّة وأطلقت ، وراجعت العقائل التي طلّقت ، حتى لم يبق من الكتاب إلّا الحاشية ، ولا من الليل إلّا الناشية ، وسقطت الغاشية ، وأخلدت الفئة المتلاشية ، وتقلّصت الظلال الفاشية ، إلّا أنّ الله تدارك بقوم رجّح من سلفنا أثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم ، وأخلصوا لله بأسهم وإقدامهم ، ووصلوا سيوفهم البارقة (٣) بخطاهم ، وأعطاهم منشور العز من أعطاهم ، حين تعيّن الدين وتحيّز ، واشتدّ بالمدافعة وتميّز ، وعادت الحروب سجالا ، وعلم الروم أنّ لله رجالا ، وقد أوفد جدّنا ـ رضي الله عنه! ـ على أبواب سلفكم من وقائعه في العدوّ كلّ مبشّرة ، ووجوه به مستبشرة (٤) ، ضحكت لها ثغور الثغور ، وسرت بها في الأعطاف حميّا السرور ، وكانت المراجعة عنها شفاء للصدور ، وتمائم في درر النحور (٥) ، وخفرا في وجوه البدور ، فإن ذمام الإسلام موصول ، وفروعه تجمعها في الله أصول ، وما أقرب الحزن ممّن داره صول (٦) ، والملّة ـ والمنّة لله ـ واحدة ، والنفوس لا منكرة للحقّ ولا جاحدة ، والأقدار معروفة ، والآمال إلى ما يوصل إلى الله مصروفة ، فإذا لم يكن الاستدعاء ، أمكن الدعاء ، والخواطر فعّالة ، والكلّ على الله عالة ، والدين غريب والغريب يحنّ إلى أهله ، والمرء كثير بأخيه على بعد محلّه.

انتهى المقصود من المخاطبة مما يتعلّق بهذا الباب ، والله سبحانه وتعالى الموفّق للصواب(٧).

__________________

(١) حضد العود : كسره. والأرطى : شجر له ثمر كالعناب.

(٢) في ب : والأوراق والأسطار.

(٣) في ب : الباترة.

(٤) في ب : ووجودية منتشرة.

(٥) في ب : وتمائم في الدور.

(٦) أخذ من قول حندج المرّي أحد شعراء الحماسة :

ما أقدر الله أن يدني على شحط

من داره الحزن ممن داره صول

(٧) في ب : وإليه المرجع والمآب.

٢٥٧

الباب الثالث

الدولة الإسلامية في الأندلس

في سرد بعض ما كان للدّين بالأندلس من العزّ السامي العماد ، والقهر للعدوّ في الرواح والغدوّ والتحرّك والهدوّ والارتياح البالغ غاية الآماد ، وإعمال أهلها للجهاد ، بالجدّ والاجتهاد ، في الجبال والوهاد ، بالأسنّة المشرعة والسيوف المستلّة من الأغماد.

أقول : قدّمنا في الباب قبل هذا ما كان من نصر المسلمين ، وفتحهم الأندلس ، وما حصل لهم من سلطان بها إلى مجيء الداخل ، فتقرّرت القواعد السلطانية ، وعلت الكلمة الإيمانية ، كما نسرده هنا إن شاء الله تعالى.

وذكر غير واحد ـ منهم ابن حزم ـ أن دولة بني أميّة بالأندلس كانت أنبل دول الإسلام ، وأنكاها في العدو ، وقد بلغت من العزّ والنصر ما لا مزيد عليه ، كما سترى بعضه.

وأصل هذه الدولة ـ كما قال ابن خلدون وغير واحد ـ أنّ بني أمية لمّا نزل بهم بالمشرق ما نزل ، وغلبهم بنو العباس على الخلافة ، وأزالوهم عن كرسيّها ، وقتل عبد الله بن علي مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة ثنتين وثلاثين ومائة ، وتتبّع بني مروان بالقتل ، فطلبوا بطن الأرض من بعد ظهرها. وكان ممّن أفلت منهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، وكان قومه يتحيّنون له ملكا بالمغرب ، ويرون فيه علامات لذلك يأثرونها عن مسلمة بن عبد الملك ، وكان هو قد سمعها منه مشافهة ، فكان يحدّث نفسه بذلك ، فخلص إلى المغرب ، ونزل على أخواله نفزة (١) من برابرة طرابلس. وشعر به عبد الرحمن بن حبيب ، وكان قد قتل ابني الوليد بن يزيد بن عبد الملك لمّا دخلا إفريقية ، فلحق بمغيلة ، وقيل بمكناسة ، وقيل : بقوم من زناتة ، فأحسنوا قبوله ، واطمأنّ فيهم. ثم لحق بمليلة ، وبعث بدرا مولاه إلى من بالأندلس من موالي المروانيين وأشياعهم ، فاجتمع بهم ، وبثّوا له في الأندلس دعوة ، ونشروا له ذكرا. ووافق قدومه ما كان من الإحن (٢) بين اليمنية

__________________

(١) نفزة : قبيلة من قبائل البربر سميت بهم قرية بمالقة.

(٢) الإحن : جمع إحنة ، وهي العداوة والبغض والحقد والكراهية.

٢٥٨

والمضريّة ، فأصفقت (١) اليمنية على أمره ؛ لكون الأمر كان ليوسف بن عبد الرحمن الفهري وصاحبه الصّميل ، ورجع بدر مولاه إليه بالخبر ، فأجاز البحر سنة ثمان وثلاثين ومائة في خلافة أبي جعفر المنصور ، ونزل بساحل المنكّب ، وأتاه قوم من أهل إشبيلية فبايعوه. ثم انتقل إلى كورة ريّة فبايعه عاملها عيسى بن مساور ، ثم إلى شذونة فبايعه عتاب بن علقمة اللخميّ. ثم إلى مورور فبايعه ابن الصباح ، ونهد إلى قرطبة فاجتمعت إليه اليمنية. ونمي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري ، وكان غازيا بجلّيقية ، فانفضّ عسكره ، ورجع إلى قرطبة ، وأشار عليه وزيره الصّميل بن حاتم بالتلطّف له ، والمكر به ، لكونه صغير السّنّ ، حديث عهد بنعمة ، فلم يتمّ ما أراده. وارتحل عبد الرحمن من المنكّب ، فاحتلّ بمالقة فبايعه جندها ، ثم برندة ، ثم بشريش كذلك ، ثم بإشبيلية ، فتوافت إليه جنود الأمصار ، وتسايلت المضرية إليه ، حتى إذا لم يبق مع يوسف بن عبد الرحمن غير الفهريّة والقيسية لمكان الصّميل منه زحف حينئذ عبد الرحمن الداخل ، وناجزهم الحرب بظاهر قرطبة ، فانكشف يوسف ، ولجأ إلى غرناطة فتحصّن بها ، وأتبعه الأمير عبد الرحمن فنازله. ثم رغب إليه يوسف في الصلح ، فعقد له على أن يسكن قرطبة ، ثم أقفله معه ، ثم نقض يوسف عهده ، وخرج سنة إحدى وأربعين ومائة ، ولحق بطليطلة ، واجتمع إليه زهاء عشرين ألفا من البربر ، وقدّم الأمير عبد الرحمن للقائه عبد الملك بن عمر المرواني ، وكان وفد عليه من المشرق ، وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر ، فلمّا دخلت المسوّدة أرض مصر خرج عبد الملك يؤمّ الأندلس في عشرة رجال من قومه مشهورين بالبأس والنجدة ، حتى نزل على عبد الرحمن سنة أربعين ، فعقد له على إشبيلية ، ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور. وسار يوسف إليهما ، وخرجا إليه ولقياه ، وتناجز الفريقان ، فكانت الدائرة على يوسف ، وأبعد المفرّ ، واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة ، واحتزّ رأسه ، وتقدّم به إلى الأمير عبد الرحمن ، فاستقام أمره ، واستقرّ بقرطبة ، وثبت قدمه في الملك ، وبنى المسجد الجامع والقصر بقرطبة ، وأنفق فيه ثمانين ألف دينار ، ومات قبل تمامه. وبنى مساجد ، ووفد عليه جماعة من أهل بيته من المشرق ، وكان يدعو للمنصور ، ثم قطع دعوته ، ومهّد الدولة بالأندلس ، وأثّل بها الملك العظيم لبني مروان والسلطان العزيز ، وجدّد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها ، واستلحم الثّوّار عليه على كثرتهم في النّواحي ، وقطع دعوة آل العباس من منابر الأندلس ، وسدّ المذاهب منهم دونها ، وهلك سنة ثنتين وسبعين ومائة ، وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل ؛ لأنه أول داخل من ملوك بني مروان إلى الأندلس ، وكان أبو

__________________

(١) أصفقت اليمانية : اجتمعت واتفقت.

٢٥٩

جعفر المنصور يسميه «صقر قريش» لمّا رأى أنه فعل بالأندلس ما فعل ، وما ركب إليها من الأخطار ، وأنه نهد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة ولا أنصار ، فغلب أهلها على أمرهم ، وتناول الملك من أيديهم بقوّة شكيمة ، ومضاء عزم حتى انقاد له الأمر ، وجرى على اختياره ، وأورثه عقبه ، وكان يسمّى بالأمير ، وعليه جرى بنوه من بعده ، فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين تأدّبا مع الخلافة بمقرّ الإسلام ومنتدى العرب ، حتى كان من عقبه عبد الرحمن الناصر ، وهو ثامن بني أمية بالأندلس ، فتسمّى بأمير المؤمنين على ما سنذكره ، لمّا رأى من ضعف خلفاء بني العباس بعد الثلاثمائة ، وغلبة الأعاجم عليهم ، وكونهم لم يتركوا لهم غير الاسم ، وتوارث التلقيب بأمير المؤمنين بنو عبد الرحمن الناصر واحدا بعد واحد.

قال ابن حيان (١) : وكان لبني عبد الرحمن الداخل بالعدوة الأندلسية ملك ضخم ودولة متّسعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة ، وعند ما شغل المسلمون بعبد الرحمن وتمهيد أمره قوي أمر الجلالقة ، واستفحل سلطانهم (٢) ، وعمد فرويلة بن أذفونش ملكهم إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها ، وملكها من أيديهم ، فملك مدينة لكّ وبرتقال وسمّورة وقشتالة وشقوبية (٣) ، وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور ابن أبي عامر آخر الدولة ، ثم استعادوها بعده فيما استعادوه من بلاد الأندلس ، واستولوا على جميعها حسبما يذكر ، ولله سبحانه الأمر ، انتهى.

وخاطب عبد الرحمن قارله ملك الإفرنج ، وكان من طغاة الإفرنج ، بعد أن تمرّس به مدّة ، فأصابه صلب المكسر (٤) ، تامّ الرجولية ، فمال معه إلى المداراة ، ودعاه إلى المصاهرة والسّلم ، فأجابه للسلم ، ولم تتمّ المصاهرة.

قال ابن حيّان : ولما (٥) ألفى الداخل الأندلس ثغرا قاصيا غفلا (٦) من حلية الملك عاطلا أرهف (٧) أهلها بالطاعة السلطانية ، وحنّكهم بالسّيرة الملوكية ، وأخذهم بالآداب فأكسبهم عمّا قليل المروءة ، وأقامهم على الطريقة ، وبدأ فدوّن الدواوين ، ورفع الأواوين ، وفرض الأعطية ، وعقد الألوية ، وجنّد الأجناد ، ورفع العماد ، وأوثق الأوتاد ، فأقام للملك آلته ، وأخذ للسلطان عدّته ، فاعترف له بذلك أكابر الملوك وحذروا جانبه ، وتحاموا حوزته ، ولم يلبث أن دانت له بلاد الأندلس ، واستقلّ له الأمر فيها.

__________________

(١) في ب : قال ابن خلدون.

(٢) استفحل أمره : قوي واشتد.

(٣) في ب : وشلمنقة.

(٤) تمرس به : احتكّ به وجرّبه. وصلب المكسر : أي قوي شديد يصعب أن يكسر.

(٥) ولما : ساقطة في ب.

(٦) غفلا : هنا المكان الخالي من حلية الملك.

(٧) في ب : فأرهف.

٢٦٠