نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

مالوا معه ، فانتزع الملك من أولاد غيطشة واستبقاهم ، فكانوا هم الذين دبّروا عليه ـ فيما ذكر ـ عندما لقي رجال العرب المقتحمين عليه بالأندلس من تلقاء بحر الزّقاق وعليهم طارق بن زياد مولى موسى بن نصير طماعة منهم في أن يودي ويخلص إليهم ملك أبيهم ، فالتقوا بموضع يدعى وادي لكّة (١) من أرض الجزيرة الخضراء من ساحل الأندلس القبلي مكان عبورهم ، وذلك لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين من الهجرة ، فانهزم القوط أعظم هزيمة ، وقتل ملكهم لذريق ، وغلبت العرب على الأندلس ، فصارت أقصى فتوحهم من أرض المغرب ، ومصداق موعد نبيّهم ، صلّى الله عليه وسلّم ، الكفيل بفتح ما بين المشرق والمغرب عليهم بوحي الله تعالى إليه أنجزه لهم بفتح الأندلس ، ولله القوّة».

قال : «وقام بأمر العرب بالأندلس منذ فتحت الأمراء المرسلون منهم عليها من قبل أئمة المسلمين بالمشرق طوال دولة بني أميّة ، رضي الله تعالى عنهم ، إلى أن طرأ إليها فلّهم عند غلبة بني العبّاس عليهم ، ودخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، فملكها وأعاد إليها الدولة الأموية التي أورثها عقبه حقبة. فكانت عدّة هؤلاء الأمراء من لدن أوّلهم طارق بن زياد إلى آخرهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري عشرين عاملا ، وعدّة سنيهم بالشمسي خمس وأربعون سنة ، وبالقمري سبع وأربعون سنة غير أشهر» ، انتهى.

وقال في موضع آخر ، نقلا عن الرازي : «وافتتحت الأندلس في أيام الوليد بن عبد الملك ، فكان فتحها من أعظم الفتوح الذاهبة بالصيت في ظهور الملّة الحنيفية ، وكان عمر بن عبد العزيز ـ رضوان الله عليه! ـ متهمّما بها ، معتنيا بشأنها ، وقد حوّلها عن نظر والي إفريقية وجرّد إليها عاملا من قبله اختاره لها ، دلالة على معنيته بها ، ووقعت المقاسم فيها عن أمره وبفضل رأيه» ، انتهى.

وفي الكتاب الخزائني وغيره سياقة فتح الأندلس على أتمّ الوجوه ، فلنذكر ملخّصه ، قالوا : استعمل أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك ـ رحمه الله تعالى! ـ موسى بن نصير مولى عمّه عبد العزيز بن مروان ، ويقال : بل هو بكري ، وذلك أنّ أباه نصيرا أصله من علوج (٢)

__________________

(١) لكّة : مدينة بالأندلس ، قديمة ، من بنيان قيصر اكتبيان ، وعلى نهر لكة هذه التقى لزريق في جموعه من العجم وطارق بن زياد فيمن معه من المسلمين يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان لسنة اثنتين وتسعين من الهجرة فانتصر المسلمون وحازوا عسكر عدوهم (صفة جزيرة الأندلس ص ١٦٩).

(٢) العلج : في الأصل حمار الوحش القوي السمين. ثم أطلق على الضخم الشديد من كفار العجم ثم أطلق على الكافر مطلقا. وجمع العلج : علوج وأعلاج وعلجة.

٢٠١

أصابهم خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه! ـ في عين التّمر ، فادّعوا أنهم رهن وأنهم من بكر بن وائل ، فصار نصير وصيفا لعبد العزيز بن مروان ، فأعتقه ، فمن هذا يختلف فيه ، وقيل : إنه لخميّ ، وعقد له على إفريقية وما خلفها في سنة ثمان وثمانين ، فخرج إلى ذلك الوجه في نفر قليل من المطّوعة ، فلمّا ورد مصر أخرج معه من جندها بعثا ، وأتى إفريقية عمله ، فأخرج من أهلها معه ذوي القوّة والجلد ، وصيّر على مقدّمته طارق بن زياد ، فلم يزل يقاتل البربر ويفضّ جموعهم ، ويفتح بلادهم ومدائنهم ، حتى بلغ طنجة ، وهي قصبة ملك البربر وأمّ مدائنهم ، فحصرها حتى افتتحها ، وقيل : إنها لم تكن افتتحت قبله ، وقيل : افتتحت ثم ارتجعت ، فأسلم أهلها ، وخطّها قيروانا للمسلمين. ثم ساروا إلى مدائن على شطّ البحر فيها عمّال لصاحب الأندلس قد غلبوا عليها وعلى ما حولها ، ورأس تلك المدائن سبتة ، وعليها علج يسمى يليان ، قاتله موسى فألفاه في نجدة وقوّة وعدة فلم يطقه ، فرجع إلى مدينة طنجة فأقام بمن معه ، وأخذ في الغارات على ما حولهم والتضييق عليهم ، والسفن تختلف إليهم بالميرة والأمداد من الأندلس من قبل ملكها غيطشة ، فهم يذبّون عن حريمهم ذبّا شديدا ، ويحمون بلادهم حماية تامّة ، إلى أن هلك غيطشة ملك الأندلس ، وترك أولادا لم يرضهم أهلها للملك ، فاضطرب حبل أهل الأندلس ، ثم تراضوا بعلج من كبارهم يقال له لذريق ، مجرّب شجاع بطل ، ليس من بيت أهل الملك ، إلّا أنه من قوّادهم وفرسانهم ، فولّوه أمرهم ، وكانت طليطلة دار الملك بالأندلس حينئذ ، وكان بها بيت مغلق متحامى الفتح على الأيام ، عليه عدّة من الأقفال يلزمه قوم من ثقات القوط ، قد وكّلوا به لئلّا يفتح ، وقد عهد الأول في ذلك إلى الآخر ، فكلّما قعد منهم ملك أتاه أولئك الموكّلون بالبيت فأخذوا منه قفلا وصيّروه على ذلك الباب من غير أن يزيلوا قفل من تقدّمه ، فلما قعد لذريق هذا ، وكان متهمّما يقظا ذا فكر ، أتاه الحرّاس يسألونه أن يقفل على الباب ، فقال لهم : لا أفعل أو أعلم ما فيه ، ولا بدّ لي من فتحه ، فقالوا له : أيها الملك ، إنه لم يفعل هذا أحد ممّن قبلك ، وتناهوا عن فتحه ، فلم يلتفت إليهم ، ومشى إلى البيت ، فأعظمت ذلك العجم وضرع إليه أكابرهم في الكفّ ، فلم يفعل ، وظنّ أنه بيت مال ، ففضّ الأقفال عنه ، ودخل ، فأصابه فارغا لا شيء فيه ، إلّا تابوتا عليه قفل ، فأمر بفتحه يحسب أن مضمونه يقنعه نفاسة ، فألفاه أيضا فارغا ليس فيه إلّا شقّة (١) مدرجة قد صوّرت فيها صور العرب عليهم العمائم وتحتهم الخيول العراب (٢) متقلّدي السيوف متنكبي القسيّ رافعي الرايات على الرماح ، وفي أعلاها أسطر مكتوبة بالعجمية ، فقرئت فإذا فيها : إذا كسرت الأقفال عن هذا

__________________

(١) الشقّة : الشقّة المستطيلة ، والمدرجة : المطوية.

(٢) الخيل العراب : الكرائم السالمة من الهجنة.

٢٠٢

البيت وفتح هذا التابوت فظهر ما فيه من هذه الصور فإن هذه الأمة المصوّرة في هذه الشّقّة تدخل الأندلس ، فتغلب عليها وتملكها ، فوجم (١) لذريق وندم على ما فعل ، وعظم غمّه وغمّ العجم بذلك ، وأمر بردّ الأقفال وإقرار الحرس على حالهم ، وأخذ في تدبير الملك ، وذهل عمّا أنذر به.

وكان (٢) من سير أكابر العجم بالأندلس وقوّادهم أن يبعثوا أولادهم الذين يريدون منفعتهم والتنويه بهم إلى بلاد الملك الأكبر بطليطلة ليصيروا في خدمته ، ويتأدّبوا بأدبه ، وينالوا من كرامته ، حتى إذا بلغوا أنكح بعضهم بعضا استئلافا لآبائهم ، وحمل صدقاتهم (٣) ، وتولّى تجهيز إناثهم إلى أزواجهنّ. فاتفق أن فعل ذلك يليان عامل لذريق على سبتة ، وكانت يومئذ في يد صاحب الأندلس ، وأهلها على النصرانية ، ركب الطريقة بابنة له بارعة في الجمال تكرم عليه ، فلمّا صارت عند لذريق وقعت عينه عليها ، فأعجبته ، وأحبّها حبّا شديدا ، ولم يملك نفسه حتى استكرهها وافتضّها ، فاحتالت حتى أعلمت أباها بذلك سرّا ، بمكاتبة خفيّة ، فأحفظه شأنها جدّا (٤) ، واشتدّت حميّته ، وقال : ودين المسيح لأزيلنّ ملكه (٥) وسلطانه ، ولأحفرنّ تحت قدميه ، فكان امتعاضه من فاحشة ابنته هو السبب في فتح الأندلس بالذي سبق من قدر الله تعالى.

ثم إن يليان ركب بحر الزّقاق من سبتة في أصعب الأوقات في ينير قلب الشتاء ، فصار بالأندلس ، وأقبل إلى طليطلة نحو الملك لذريق ، فأنكر عليه مجيئه في مثل ذلك الوقت ، وسأله عمّا لديه ، وما جاء فيه (٦) ، ولم جاء في مثل وقته؟ فذكر خيرا ، واعتلّ بذكر زوجته ، وشدّة شوقها إلى رؤية بنتها التي عنده ، وتمنّيها لقاءها قبل الموت ، وإلحاحها عليه في إحضارها ، وأنه أحبّ إسعافها ، ورجا بلوغها أمنيتها منه ، وسأل الملك إخراجها إليه ، وتعجيل إطلاقه للمبادرة بها ، ففعل ، وأجاز الجارية ، وتوثّق منها بالكتمان عليه ، وأفضل على أبيها ، فانقلب عنه ، وذكروا أنه لمّا ودّعه قال له لذريق : إذا قدمت علينا فاستفره لنا من الشّذانقات (٧) التي لم تزل تطرفنا بها فإنها آثر جوارحنا لدينا ، فقال له : أيها الملك ، وحقّ المسيح لئن بقيت

__________________

(١) وجم : سكت وعجز عن الكلام من كثرة الحزن والغم.

(٢) في ب : وقد كان.

(٣) صدقاتهم : مهورهم ، وحمل صدقاتهم أي تحملها ودفعها من ماله.

(٤) أحفظه : ملأ قلبه حفيظة. والحفيظة : الغيظ والحقد.

(٥) ملكه و: ساقطة في ب.

(٦) وما جاء فيه : ساقطة في ب.

(٧) الشّذانقات : الصقور.

٢٠٣

لأدخلنّ عليك شذانقات ما دخل عليك مثلها قطّ ، عرّض له بالذي أضمره من السعي في إدخال رجال العرب عليه ، وهو لا يفطن ، فلم يتنهنه (١) يليان عندما استقرّ بسبتة عمله أن تهيّأ للمسير نحو موسى بن نصير الأمير ، فمضى نحوه بإفريقية ، وكلّمه في غزو الأندلس ، ووصف له حسنها وفضلها ، وما جمعت من أشتات (٢) المنافع ، وأنواع المرافق ، وطيب المزارع ، وكثرة الثمار ، وثرارة المياه وعذوبتها ، وهوّن عليه مع ذلك حال رجالها ، ووصفهم بضعف البأس وقلّة الغناء ، فشوّق موسى إلى ما هناك ، وأخذ بالحزم فيما دعاه إليه يليان ، فعاقده على الانحراف إلى المسلمين ، واستظهر عليه بأن سامه مكاشفة أهل ملّته من الأندلس المشركين والاستخراج إليهم بالدخول إليها وشنّ الغارة فيها ، ففعل يليان ذلك ، وجمع جمعا من أهل عمله ، فدخل بهم في مركبين وحلّ بساحل الجزيرة الخضراء ، فأغار وقتل وسبى وغنم ، وأقام بها أياما ، ثم رجع بمن معه سالمين ، وشاع الخبر عند المسلمين ، فأنسوا بيليان واطمأنّوا إليه ، وكان ذلك عقب سنة تسعين ، فكتب موسى بن نصير إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك يخبره بالذي دعاه إليه يليان من أمر الأندلس ، ويستأذنه في اقتحامها ، فكتب إليه الوليد : أن خضها بالسرايا حتى ترى وتختبر شأنها ، ولا تغرّر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال ، فراجعه أنه ليس ببحر زخّار ، وإنما هو خليج منه يبيّن للناظر ما خلفه ، فكتب إليه : وإن كان فلا بدّ من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه. فبعث موسى عند ذلك رجلا من مواليه من البرابرة اسمه طريف يكنى أبا زرعة في أربعمائة رجل معهم مائة فرس سار بهم في أربعة مراكب ، فنزل بجزيرة تقابل جزيرة الأندلس المعروفة بالخضراء التي هي اليوم معبر سفائنهم ودار صناعتهم ، ويقال لها اليوم «جزيرة طريف» لنزوله بها ، وأقام بها أياما حتى التأم (٣) إليه أصحابه ، ثم مضى حتى أغار على الجزيرة فأصاب سبيا لم ير موسى ولا أصحابه مثله حسنا ، ومالا جسيما ، وأمتعة ، وذلك في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين. فلما رأى الناس ذلك تسرّعوا إلى الدخول ، وقيل : دخل طريف في ألف رجل ، فأصاب غنائم وسبيا ، ودخل بعده أبو زرعة من البرابرة ، وليس بطريف ، في ألف رجل منهم أيضا فأصابوا أهل الجزيرة قد تفرّقوا عنها ، فضرّموا عامّتها بالنار ، وحرّقوا كنيسة بها كانت عندهم معظّمة ، وأصابوا سبيا يسيرا ، وقتلوا وانصرفوا سالمين.

وقال الرازي : هو أبو زرعة طريف بن مالك المعافري ، الاسم طبق الكنية.

قالوا : ثم عاود يليان القدوم على موسى بن نصير محرّكا في الاقتحام على أهل

__________________

(١) يتنهنه : يتريث.

(٢) في ب : أسباب.

(٣) في ب : تتامّ.

٢٠٤

الأندلس ، وخبّره بما كان منه ومن طريف أبي زرعة ، وما نالوه من أهلها ، وباشروه من طيبها ، فحمد الله على ذلك ، واستجدّ عزما في إقحام المسلمين فيها ، فدعا مولى له كان على مقدّمته يسمّى طارق بن زياد بن عبد الله فارسيّا همذانيّا ، وقيل : إنه ليس بمولى لموسى ، وإنما هو رجل من صدف ، وقيل : مولى لهم ، وقد كان بعض عقبه بالأندلس ينكرون ولاء موسى إنكارا شديدا ، وقيل : إنه بربري من نفزة ، فعقد له موسى ، وبعثه في سبعة آلاف من المسلمين جلّهم البربر والموالي ، وليس فيهم عرب إلّا قليل ، ووجّه معه يليان ، فهيأ له يليان المراكب ، فركب في أربعة سفن لا صناعة له غيرها ، وحطّ بجبل طارق المنسوب إليه يوم سبت في شعبان سنة اثنتين وتسعين ، في شهر أغسطس (١) ، ثم صرف المراكب إلى من خلفه من أصحابه ، فركب من بقي من الناس ، ولم تزل السفائن تختلف إليهم حتى توافى جميعهم عنده بالجبل ، وقيل : حلّ طارق بجبله يوم الاثنين لخمس خلون من رجب من السنة في اثني عشر ألفا غير ستة عشر رجلا من البرابرة ، ولم يكن فيهم من العرب إلّا يسير ، أجازهم يليان إلى ساحل الأندلس في مراكب التجار من حيث لم يعلم بهم ، أوّلا أوّلا ، وركب أميرهم طارق آخرهم.

قيل : وأصاب طارق عجوزا من أهل الجزيرة ، فقالت له في بعض قولها : إنه كان لها زوج عالم بالحدثان فكان يحدّثهم عن أمير يدخل إلى بلدهم هذا ، ويغلب عليه ، ويصف من نعته أنه ضخم الهامة ، فأنت كذلك ، ومنها أن في كتفه الأيسر شامة عليها شعر ، فإن كانت بك هذه العلامة فأنت هو ، فكشف طارق ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرته العجوز ، فاستبشر بذلك هو ومن معه.

وذكر عن طارق أنه كان نائما في المركب فرأى في منامه النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، والخلفاء الأربعة أصحابه عليهم الصلاة والسلام يمشون على الماء حتى مرّوا به ، فبشّره النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، بالفتح ، وأمره بالرفق بالمسلمين ، والوفاء بالعهد. وقيل : إنه لمّا ركب البحر غلبته عينه فكان يرى النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلّدوا السيوف وتنكّبوا القسيّ ، فيقول له رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : يا طارق ، تقدّم لشأنك ، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدّامه ، فهبّ من نومه مستبشرا ، وبشّر أصحابه ، وثابت إليه نفسه ثقة ببشراه ، فقويت نفسه ، ولم يشكّ في الظفر ، فخرج من البلد ، واقتحم بسيط البلاد شانّا للغارة.

__________________

(١) في ب : أغشت.

٢٠٥

قالوا : ووقع على لذريق الملك خبر اقتحام العرب ساحل الأندلس ، وتوالي غاراتهم على بلد الجزيرة ، وأنّ يليان السبب فيها ، وكان يومئذ غائبا بأرض بنبلونة (١) في غزاة له إلى البشكنس لأمر كان استصعب عليه بناحيتهم ، فعظم عليه ، وفهم الأمر الذي منه أتي ، وأقبل مبادرا الفتق في جموعه ، حتى احتلّ بمدينة قرطبة من المتوسطة (٢) ونزل القصر المدعوّ بها ببلاط لذريق المنسوب إليه ، وليس لأنه بناه أو اخترعه ـ وهو بناء من تقدّمه من الملوك اتّخذوه لمنزلهم في قرطبة إذا أتوها ـ إلّا أن العرب لمّا غلبوا لذريق وهذا القصر من مواطنه نسبوه إليه ، إذ لم يعرفوا من بناه ، ويزعم العجم أنّ الذي بناه ملك منهم كان ساكنا بحصن المدور أسفل قرطبة ، وخرج يوما يتصيّد حتى انتهى إلى مكان قرطبة ، وهي يومئذ خراب ، وكان في موضع قصرها غيضة (٣) علّيق ملتفة أشبة (٤) ، فأرسل الملك بازيا له يكرم عليه على حجلة عنّت له من ناحية الكدية (٥) المنسوبة بعد إلى أبي عبيدة (٦) ، فتخبّت في ذلك العلّيق ، ولجّ البازي في الانقضاض عليها ، فركض الملك خلفه حتى وقف على مكانه ليخرجه (٧) ، فأمر بقطعها لاستنقاذ بازيه ضنّا منه به ، فقطعت ، وبدا له تحتها أساس قصر عظيم راقه رصّه ، وقد كان ذا همّة ، فأمر بالكشف عنه ، وتقصّي حدوده طولا وعرضا ، وتتبّع أسّه وأصله ، فوجده مبنيّا من وجه الماء بصمّ الحجارة فوق زرجون وضع بينها وبين الماء بأحكم صناعة ، فقال : هذا أثر ملك كريم ، وأنا أولى من جدّده ، فأمر بإعادته إلى هيئته ، واتّخاذه منزلا من منازل راحاته ، فكان إذا طاف بعمله أو مضى في متصيّده نزل فيه ، وصار السبب في بناء قرطبة إلى جنبه ، ونزل (٨) الناس فيها ، وتوارث الملوك قصرها من بعد ، ونزله لذريق في زحفه إلى العرب أياما ، والحشود من أعماله تتوافى إليه ، ثم مضى نحو كورة شذونة يبغي لقاءهم في حشوده الكثيرة.

__________________

(١) بنبلونة : مدينة بالأندلس بينها وبين سرقسطة مائة وخمسة وعشرون ميلا ، وهي بين بلاد شامخة وشعاب غامضة ، قليلة الخيرات ، أهلها فقراء ، لصوص ، وأكثرهم متكلمون بالبشقية لا يفهمون ، وخيلهم أصلب الدواب حافرا لخشونة بلادهم ، ويسكنون على البحر المحيط في الجوف (صفة جزيرة الأندلس ص ٥٥).

(٢) في ب : الموسطة.

(٣) الغيضة : الموضع الكثير الشجر والماء.

(٤) أشبة : ملتفة ، مشتبكة الشجر.

(٥) الحجلة : طائر بمقدار الحمامة. وعنت : ظهرت. والكدية : الأرض المرتفعة الصلبة الغليظة.

(٦) في ب : أبي عبدة.

(٧) في ب : بالحرجة.

(٨) في ب : ونزول.

٢٠٦

وقيل : إن آخر ملوك الأندلس الذين تلتهم العرب غيطشة ، وإنه هلك عن أولاد ثلاثة صغار لم يصلحوا للملك ، فضبطت أمّهم عليهم ملك والدهم بطليطلة ، وانحرف لذريق قائد الخيل لوالدهم فيمن تبعه عنهم ، فصار بقرطبة ، فلما اقتحم طارق الأندلس نفر إليه لذريق واستنفر إليه أجناد أهل الأندلس ، وكتب إلى أولاد غيطشة ـ وقد ترعرعوا ، وركبوا الخيل ، واتّخذوا الرجال ـ يدعوهم إلى الاجتماع معه على حرب العرب ، ويحذّرهم من القعود عنه ، ويحضّهم على أن يكونوا على عدوّهم يدا واحدة ، فلم يجدوا بدّا ، وحشدوا ، وقدموا عليه بقرطبة ، فنزلوا أكناف قرية شقندة بعدوة نهرها قبالة القصر ، ولم يطمئنّوا إلى الدخول على لذريق أخذا بالحزم ، إلى أن استتبّ جهاز لذريق وخرج ، فانضمّوا إليه ، ومضوا معه وهم مرصدون لمكروهه. والأصح ـ والله أعلم ـ ما سبق أن ملك القوط اجتمع للذريق ، واختلف في اسمه : فقيل رذريق ـ بالراء أوله ـ وقيل باللام لذريق وهو الأشهر ، وقيل : إن أصله من أصبهان ويسمّى الأشبان ، والله أعلم.

قالوا : وعسكر لذريق في نحو مائة ألف ذوي عدد وعدّة ، فكتب طارق إلى موسى يستمدّه ويعرفه أنه فتح الجزيرة الخضراء فرضة الأندلس ، وملك المجاز إليها ، واستولى على أعمالها إلى البحيرة ، وأنّ لذريق زحف إليه بما لا قبل له به ، إلّا أن يشاء الله ، وكان موسى منذ وجّه طارقا لوجهه ، قد أخذ في عمل السفن حتى صار عنده منها عدّة كثيرة ، فحمل إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مددا كملت بهم عدّة من معه اثني عشر ألفا أقوياء على المغانم ، حراصا على اللقاء ، ومعهم يليان المستأمن إليهم في رجاله وأهل عمله يدلّهم على العورات ، ويتجسّس (١) الأخبار ، وأقبل نحوهم لذريق في جموع العجم وملوكها وفرسانها ، فتلاقوا فيما بينهم ، وقال بعضهم لبعض : إن هذا ابن الخبيثة قد غلب على سلطاننا ، وليس من أهله ، وإنما كان من أتباعنا ، فلسنا نعدم من سيرته خبالا في أمرنا ، وهؤلاء القوم الطارقون لا حاجة لهم في استيطان بلدنا ، وإنما مرادهم أن يملئوا أيديهم من الغنائم ، ثم يخرجوا عنّا ، فهلمّ فلننهزم بابن الخبيثة إذا نحن لقينا القوم لعلّهم يكفوننا إيّاه ، فإذا انصرفوا عنّا أقعدنا في ملكنا من يستحقّه ، فأجمعوا على ذلك ، والقضاء يبرم ما ارتئوه.

وكان لذريق ولّى ميمنته أحد ابني غبطشة ، وميسرته الآخر ، فكانا رأسي الذين أداروا عليه الهزيمة. وأدّاهما إلى ذلك طمع رجوع ملك والدهما إليهما.

وقيل : لمّا تقابل الجيشان أجمع أولاد غيطشة على الغدر بلذريق ، وأرسلوا إلى طارق

__________________

(١) في ب : ويتجسس لهم الأخبار.

٢٠٧

يعلمونه أنّ لذريق كان تابعا وخادما لأبيهم فغلبهم على سلطانه بعد مهلكه وأنهم غير تاركي حقّهم لديه ، ويسألونه الأمان على أن يميلوا إليه عند اللقاء فيمن يتبعهم ، وأن يسلّم إليهم إذا ظفر ضياع والدهم بالأندلس كلها ، وكانت ثلاثة آلاف ضيعة نفائس مختارة ، وهي التي سمّيت بعد ذلك صفايا الملوك ، فأجابهم إلى ذلك ، وعاقدهم عليه ، فالتقى الفريقان من الغد ، فانحاز الأولاد إلى طارق ، فكان ذلك أقوى أسباب الفتح. وكان الالتقاء على وادي لكّة من كورة شذونة ، فهزم الله الطاغية لذريق وجموعه ، ونصر المسلمين نصرا لا كفاء له ، ورمى لذريق نفسه في وادي لكّة وقد أثقلته الجراح (١) ، فلم يعلم له خبر ولم يوجد.

وقيل : نزل طارق بالمسلمين قريبا من عسكر لذريق منسلخ شهر رمضان سنة ٩٢ ، فوجد (٢) لذريق علجا من أصحابه قد عرف نجدته ووثق ببأسه ليشرف على عسكر طارق فيحزر عددهم ويعاين هيئاتهم ومراكبهم ، فأقبل ذلك العلج حتى طلع على العسكر ، ثم شدّ في وجوه من استشرفه (٣) من المسلمين ، فوثبوا إليه ، فولّى منصرفا راكضا ، وفاتهم بسبق فرسه ، فقال العلج للذريق أتتك الصور التي كشف لك عنها التابوت ، فخذ على نفسك ، فقد جاءك منهم من لا يريد إلّا الموت أو إصابة ما تحت قدميك ، قد حرقوا مراكبهم إياسا لأنفسهم من التعلّق بها ، وصفوا في السهل موطّنين أنفسهم على الثبات ، إذ ليس لهم في أرضنا مكان مهرب ، فرعب وتضاعف جزعه ، والتقى العسكران بالبحيرة ، واقتتلوا قتالا شديدا ، إلى أن انهزمت ميمنة لذريق وميسرته ، انهزم بهما أبناء غيطشة ، وثبت القلب بعدهما قليلا وفيه لذريق ، فعذّر أهله (٤) بشيء من قتال ، ثم انهزموا ، ولذريق أمامهم ، فاستمرّت هزيمتهم ، وأذرع المسلمون (٥) القتل فيهم ، وخفي أثر لذريق فلا يدرى أمره ، إلّا أن المسلمين وجدوا فرسه الأشهب الذي فقد وهو راكبه ، وعليه سرج له من ذهب مكلّل بالياقوت والزّبرجد ، ووجدوا أحد خفّيه وكان من ذهب مكلّل بالدّرّ والياقوت والزبرجد (٦) ، وقد ساخ الفرس في طين وحمأة (٧) ، وغرق العلج ، فثبت أحد خفّيه في الطين فأخذ ، وخفي الآخر ، وغاب شخص العلج ولم يوجد حيّا ولا ميتا ، والله أعلم بشأنه.

__________________

(١) في ب : السلاح.

(٢) في ب : فوجّه.

(٣) استشرفه : نظر إليه.

(٤) عذر القوم : قصّروا وأقاموا العذر في تقصيرهم.

(٥) أذرعوا فيهم القتل : زادوا فيه وأفرطوا.

(٦) والزبرجد : ساقطة في ب.

(٧) الحمأة : الطين الأسود الفاسد الرائحة.

٢٠٨

وقال الرازي : كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان ، فاتصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد خمس خلون من شوّال بعد تتمة ثمانية أيام ، ثم هزم الله المشركين ، فقتل منهم خلق عظيم ، أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبسة بتلك (١) الأرض. قالوا : وحاز المسلمون من عسكرهم ما يجلّ قدره ، فكانوا يعرفون كبار العجم وملوكهم بخواتم الذهب يجدونها في أصابعهم ويعرفون من دونهم بخواتم الفضّة ، ويميزون عبيدهم بخواتم النحاس ، فجمع طارق الفيء وخمّسة ، ثم اقتسمه أهله على تسعة آلاف من المسلمين سوى العبيد والأتباع ، وتسامع الناس من أهل برّ العدوة بالفتح على طارق بالأندلس وسعة المغانم فيها ، فأقبلوا نحوه من كل وجه ، وخرقوا البحر على كل ما قدروا عليه من وركب وقشر (٢) ، فلحقوا بطارق ، وارتفع أهل الأندلس عند ذلك إلى الحصون والقلاع ، وتهاربوا من السهل ، ولحقوا بالجبال ، ثم أقبل طارق حتى نزل بأهل مدينة شذونة ، فامتنعوا عليه ، فشدّ الحصر عليهم حتى نهكهم (٣) وأضرّهم ، فتهيّأ له فتحها عنوة ، فحاز منها غنائم ، ثم مضى منها إلى مدوّر (٤) ، ثم عطف على قرمونة فمرّ بعينه المنسوبة إليه ، ثم مال على إشبيلية فصالحه أهلها على الجزية ، ثم نازل أهل إستجة وهم في قوّة ومعهم فلّ عسكر لذريق ، فقاتلوا قتالا شديدا حتى كثر القتل والجراح بالمسلمين ، ثم إن الله تعالى أظهر المسلمين عليهم ، فانكسروا ، ولم يلق المسلمون فيما بعد ذلك حربا مثلها ، وأقاموا على الامتناع إلى أن ظفر طارق بالعلج صاحبها ، وكان مغترّا سيىء التدبير ، فخرج إلى النهر لبعض حاجاته وحده ، فصادف طارقا هناك قد أتى لمثل ذلك ، وطارق لا يعرفه ، فوثب عليه طارق في الماء ، فأخذه وجاء به إلى العسكر ، فلما كاشفه اعترف له بأنه أمير المدينة ، فصالحه طارق على ما أحبّ ، وضرب عليه الجزية ، وخلّى سبيله ، فوفى بما عاهد عليه ، وقذف الله الرّعب في قلوب الكفرة لمّا رأوا طارقا يوغل في البلاد. وكانوا يحسبونه راغبا في المغنم عاملا على القفول (٥) ، فسقط في أيديهم (٦) ، وتطايروا عن السهول إلى المعاقل ، وصعد ذوو القوّة منهم إلى دار مملكتهم طليطلة ، قيل : وكان من إرهاب طارق لنصارى الأندلس وحيله أن تقدّم إلى أصحابه في تفصيل لحوم القتلى بحضرة أسراهم وطبخها في القدور ، يرونهم أنهم يأكلونها ، فجعل من انطلق من الأسرى يحدّثون من وراءهم بذلك فتمتلىء منه قلوبهم رعبا ويجفلون فرارا ، قالوا : وقال يليان لطارق : قد فضضت جيوش القوم ،

__________________

(١) في ب : لتلك.

(٢) القشر : هنا الزورق الصغير.

(٣) نهكهم : أضعفهم.

(٤) في ب : مورور.

(٥) القفول : الرجوع ، مصدر قفل.

(٦) سقط في أيديهم : حاروا ، أو ندموا.

٢٠٩

ورعبوا ، فاصمد لبيضتهم (١) ، وهؤلاء أدلّاء من أصحابي مهرة ، ففرّق جيوشك معهم في جهات البلاد ، واعمد أنت إلى طليطلة حيث معظمهم ، فاشغل القوم عن النظر في أمرهم والاجتماع إلى أولي رأيهم ، ففرّق طارق جيوشه معهم (٢) من إستجة ، فبعث مغيثا الروميّ مولى الوليد بن عبد الملك إلى قرطبة ، وكانت من أعظم مدائنهم ، في سبعمائة فارس ؛ لأنّ المسلمين ركبوا جميعا خيل العجم ، ولم يبق فيهم راجل ، وفضلت عنهم الخيل ، وبعث جيشا آخر إلى مالقة ، وآخر إلى غرناطة مدينة إلبيرة ، وسار هو في معظم الناس إلى كورة جيّان يريد طليطلة ، وقد قيل : إن الذي سار لقرطبة طارق بنفسه ، لا مغيث ، قالوا : فكمنوا بعدوة نهر شقندة في غيضة أرز شامخة ، وأرسلت الأدلاء فأمسكوا راعي غنم فسئل عن قرطبة فقال : رحل عنها عظماء أهلها إلى طليطلة ، وبقي فيها أميرها في أربعمائة فارس من حماتهم مع ضعفاء أهلها ، وسئل عن سورها فأخبر أنه حصين عال فوق أرضها إلّا أنه فيه ثغرة ووصفها لهم ، فلما أجنّهم الليل (٣) أقبلوا نحو المدينة ووطّأ الله لهم أسباب الفتح بأن أرسل السماء برذاذ أخفى دقدقة حوافر الخيل ، وأقبل المسلمون رويدا حتى عبروا نهر قرطبة ليلا ، وقد أغفل حرس المدينة احتراس السور ، فلم يظهروا عليه ضيقا بالذي نالهم من المطر والبرد ، فترجّل القوم حتى عبروا النهر ، وليس بين النهر والسور إلّا مقدار ثلاثين ذراعا أو أقلّ ، وراموا التعلّق بالسور فلم يجدوا متعلّقا ، ورجعوا إلى الراعي في دلالتهم على الثّغرة التي ذكرها ، فأراهم إياها. فإذا بها غير متسهلة التسنّم ، إلّا أنه كانت في أسفلها شجرة تين مكّنت أفنانها من التعلّق ، بها. فصعد رجل من أشدّاء المسلمين في أعلاها ، ونزع مغيث عمامته فناوله طرفها ، وأعان بعض الناس بعضا حتى كثروا على السور ، وركب مغيث ووقف من خارج ، وأمر أصحابه المرتقين للسور بالهجوم على الحرس ، ففعلوا ، وقتلوا نفرا منهم ، وكسروا أقفال الباب ، وفتحوه ، فدخل مغيث ومن معه وملكوا المدينة عنوة ، فصعد (٤) إلى البلاط منزل الملك ومعه أدلّاؤه ، وقد بلغ الملك دخولهم المدينة. فبادر بالفرار عن البلاد (٥) في أصحابه ، وهم زهاء أربعمائة ، وخرج إلى كنيسة بغربيّ المدينة ، وتحصّن بها ، وكان الماء يأتيها تحت الأرض من عين في سفح جبل ، ودافعوا عن أنفسهم. وملك مغيث المدينة وما حولها ، وقال من ذهب إلى أن طارقا لم يحضر فتح قرطبة وأنّ فاتحها مغيث : إنه كتب إلى طارق بالفتح ، وأقام على محاصرة العلج بالكنيسة ثلاثة أشهر ، حتى ضاق من ذلك وطال عليه ، فتقدّم إلى أسود من عبيده اسمه رباح ،

__________________

(١) اصمد لبيضتهم : أي اقصد إلى رئيسهم.

(٢) معهم : ساقطة في ب.

(٣) أجنّهم الليل : سترهم بظلامه.

(٤) في ب ؛ فصمد.

(٥) في ب : البلاط.

٢١٠

وكان ذا بأس ونجدة ، بالكمون في جنان إلى جانب الكنيسة ملتفّة الأشجار ، لعلّه أن يظفر له بعلج يقف به على خبر القوم ، ففعل ، ودعاه ضعف عقله إلى أن صعد في بعض تلك الأشجار ، وذلك أيام الثمر ، ليجني ما يأكله ، فبصر به أهل الكنيسة ، وشدّوا عليه ، فأخذوه فملكوه ، وهم في ذلك هائبون له منكرون لخلقه ، إذ لم يكونوا عاينوا أسود قبله ، فاجتمعوا عليه ، وكثر لغطهم وتعجّبهم من خلقه ، وحسبوا أنه مصبوغ أو مطليّ ببعض الأشياء التي تسوّد ، فجرّدوه وسط جماعتهم ، وأدنوه إلى القناة التي منها كان يأتيهم الماء ، وأخذوا في غسله وتدليكه بالحبال الحرش (١) ، حتى أدموه وأعنتوه (٢) ، فاستغاثهم ، وأشار إلى أن الذي به خلقة من بارئهم ، عزّ وجلّ ، ففهموا إشارته ، وكفّوا عنه (٣) وعن غسله واشتدّ فزعهم منه ، ومكث في إسارهم سبعة أيام لا يتركون التجمّع عليه والنظر إليه إلى أن يسّر الله الخلاص ليلا ، ففرّ وأتى الأمير مغيثا فخبّره بشأنه وعرّفه بالذي اطّلع عليه من شأنهم (٤) ، وموضع الماء الذي ينتابونه ، ومن أيّ ناحية يأتيهم ، فأمر أهل المعرفة بطلب تلك القناة في الجهة التي أشار إليها الأسود حتى أصابوها ، فقطعوها عن جريتها إلى الكنيسة ، وسدّوا منافذها ، فأيقنوا بالهلاك حينئذ ، فدعاهم مغيث إلى الإسلام أو الجزية ، فأبوا عليه ، فأوقد النار عليهم حتى أحرقهم فسمّيت كنيسة الحرقى ، والنصارى تعظّمها لصبر من كان فيها على دينهم من شدّة البلاء ، غير أنّ العلج أميرهم رغب بنفسه عن بليتهم عند إيقان الهلاك ، ففرّ عنهم وحده ، وقد استغفلهم ورام اللحاق بطليطلة ، فبلغ (٥) خبره إلى مغيث ، فبادر الركض خلفه وحده ، فلحقه بقرب قرية تطليرة هاربا وحده ، وتحته فرس أصفر ذريع الخطو ، وحرّك مغيث خلفه ، فالتفت العلج ودهش لمّا رأى مغيثا قد رهقه ، وزاد في حثّ فرسه فقصر به ، فسقط عن الفرس واندقّ (٦) عنقه ، فقعد على ترسه مستأسرا قد هاضته السقطة (٧) ، فقبض عليه مغيث ، وسلبه سلاحه ، وحبسه عنده ليقدم به على أمير المؤمنين الوليد ، ولم يؤسر من ملوك الأندلس غيره ؛ لأنّ بعضهم استأمن وبعضهم هرب إلى جلّيقيّة ، وفي رواية أنّ مغيثا استنزل أهل الكنيسة بعد أسره لملكهم ، فضرب أعناقهم جميعا ، فمن أجل ذلك عرفت بكنيسة الأسرى وأنّ مغيثا جمع يهود قرطبة فضمهم إلى مدينتها استنامة إليهم ، دون النصارى ، للعداوة بينهم ، وأنه اختار القصر لنفسه ، والمدينة لأصحابه.

وأما من وجّه إلى مالقة ففتحوها ، ولجأ علوجها إلى جبال هنالك ممتنعة ، ثم لحق ذلك

__________________

(١) الحبال الحرش : الخشنة.

(٢) أعنته : أصابه بالعنت والمشقّة.

(٣) عنه : ساقطة في ب.

(٤) شأنهم : ساقطة في ب.

(٥) في ب : فنمي.

(٦) في ب : واندقّت.

(٧) هاضته السقطة : كسرت عظامه.

٢١١

الجيش بالجيش المتوجّه إلى إلبيرة ، فحاصروا مدينتها غرناطة ، فافتتحوها عنوة ، وضمّوا اليهود إلى قصبة غرناطة ، وصار ذلك لهم سنّة (١) في كل بلد يفتحونه أن يضمّوا يهوده إلى القصبة مع قطعة من المسلمين لحفظها ، ويمضي معظم الناس لغيرها ، وإذا لم يجدوا يهودا وفّروا عدد المسلمين المخلّفين لحفظ ما فتح ، ثم صنعوا عند فتح كورة ريّة التي منها مالقة مثل ذلك.

ومضى الجيش إلى تدمير ، وتدمير : اسم العلج صاحبها ، سمّيت به ، واسم قصبتها أريولة ، ولها شأن في المنعة ، وكان ملكها علجا داهية ، وقاتلهم مضحيا ، ثم استمرّت عليه الهزيمة في فحصها ، فبلغ السيف في أهلها مبلغا عظيما أفنى أكثرهم ولجأ العلج إلى أريولة في يسير من أصحابه لا يغنون شيئا ، فأمر النساء بنشر الشعور وحمل القصب والظهور على السور في زيّ القتال متشبّهات بالرجال ، وتصدّر قدّامهنّ في بقية أصحابه يغالط المسلمين في قوته على الدفاع عن نفسه ، فكره المسلمون مراسه (٢) لكثرة من عاينوه على السور ، وعرضوا عليه الصلح ، فأظهر الميل إليه ، ونكّر زيّه ، فنزل إليهم بأمان على أنه رسول ، فصالحهم على أهل بلده ، ثم على نفسه ، وتوثق منهم ، فلما تمّ له من ذلك ما أراد عرّفهم بنفسه ، واعتذر إليهم بالإبقاء على قومه ، وأخذهم بالوفاء بعهده ، وأدخلهم المدينة ، فلم يجدوا فيها إلّا العيال والذّرّيّة ، فندموا على الذي أعطوه من الأمان ، واسترجحوه (٣) فيما احتال به ، ومضوا على الوفاء له ، وكان الوفاء عادتهم ، فسلمت كورة تدمير من معرّة المسلمين بتدبير تدمير ، وصارت كلّها صلحا ليس فيها عنوة ، وكتبوا إلى أميرهم طارق بالفتح ، وخلّفوا بقصبة البلد رجالا منهم ، ومضى معظمهم إلى أميرهم لفتح طليطلة.

قال ابن حيّان : وانتهى طارق إلى طليطلة دار مملكة القوط ، فألفاها خالية قد فرّ عنها أهلها (٤) ولجؤوا إلى مدينة بها خلف الجبل ، فضمّ اليهود إلى طليطلة ، وخلّف بها رجالا من أصحابه ، ومضى خلف من فرّ من أهل طليطلة فسلك وادي الحجارة ، ثم استقبل الجبل فقطعه من فجّ سمّي به بعد ، فبلغ مدينة المائدة خلف الجبل ، وهي المنسوبة لسليمان بن داود ، عليهما الصلاة (٥) والسلام ، وهي خضراء من زبرجد (٦) ، حافاتها منها وأرجلها ، وكان لها ثلاثمائة وخمسة وستّون رجلا ، فأحرزها عنده ، ثم مضى إلى المدينة التي تحصّنوا بها خلف الجبل ، فأصاب بها حليا ومالا ، ورجع ولم يتجاوزها إلى طليطلة سنة ثلاث وتسعين. وقيل :

__________________

(١) في ب : سنّة متبعة.

(٢) كرهوا مراسه : أي كرهوا قتاله لشدته وقوته.

(٣) استرجحوه : عدّوه راجح العقل.

(٤) في ب : أهلها عنها.

(٥) الصلاة و: ساقطة في ب.

(٦) في ب : زبرجدة.

٢١٢

إنه لم يرجع ، بل اقتحم أرض جلّيقية واخترقها حتى انتهى إلى مدينة أسترقة ، فدوّخ الجهة ، وانصرف إلى طليطلة ، والله أعلم. وقيل : إن طارقا دخل الأندلس بغير أمر مولاه موسى بن نصير ، فالله أعلم. قال بعضهم : وكانت إقامته في الفتوح وتدويخ البلاد إلى أن وصل سيّده موسى بن نصير سنة ، وكان ما سيذكر.

وأنشد في المسهب وابن اليسع في «المغرب» لطارق من قصيدة قالها في الفتح : الطويل]

ركبنا سفينا بالمجاز مقيّرا

عسى أن يكون الله منّا قد اشترى (١)

نفوسا وأموالا وأهلا بجنّة

إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسّرا

ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا

إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا (٢)

قال ابن سعيد : وهذه الأبيات ممّا يكتب لمراعاة قائلها ومكانته ، لا لعلوّ طبقتها ، انتهى.

وأما أولاد غيطشة فإنهم لمّا صاروا إلى طارق بالأمان ، وكانوا سبب الفتح حسبما تقدّم ، قالوا لطارق : أنت أمير نفسك أم فوقك أمير؟ فقال : بل على رأسي أمير ، وفوق ذلك الأمير أمير عظيم ، فاستأذنوه في اللّحاق (٣) بموسى بن نصير بإفريقية ليؤكّد سببهم به ، وسألوه الكتاب إليه بشأنهم معه ، وما أعطاهم من عهده ، ففعل. وساروا نحو موسى فتلقّوه في انحداره إلى الأندلس بالقرب من بلاد البربر وعرّفوه بشأنهم ، ووقف على ما خاطبه به طارق في ذمّتهم وسابقتهم ، فأنفذهم إلى أمير المؤمنين الوليد بالشام بدمشق ، وكتب إليه بما عرّفه به طارق من جميل أثرهم ، فلمّا وصلوا إلى الوليد أكرمهم وأنفذ لهم عهد طارق في ضياع والدهم ، وعقد لكلّ واحد منهم سجلّا ، وجعل لهم أن لا يقوموا لداخل عليهم. فقدموا الأندلس ، وحازوا ضياع والدهم أجمع ، واقتسموها على موافقة منهم ، فصار منها لكبيرهم ألمند ألف ضيعة في غرب الأندلس ، فسكن من أجلها إشبيلية مقتربا منها ، وصار لأرطباش ألف ضيعة ، وهو تلوه في السنّ ، وضياعه في موسّطة الأندلس ، فسكن من أجلها قرطبة ، وصار لثالثهم وقلة ألف ضيعة في شرقيّ الأندلس وجهة الثغر ، فسكن من أجلها مدينة طليطلة ، فكانوا على هذه الحال صدر الدولة العربية ، إلى أن هلك ألمند كبيرهم ، وخلّف (٤) ابنته سارة المعروفة بالقوطية وابنين

__________________

(١) مقيّرا : مطليا بالقار ، وقد أخذ معنى الأبيات من قوله تعالى (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ).

(٢) سالت نفوسنا : أي متنا.

(٣) في ب : باللحاق.

(٤) في ب : تخلّف.

٢١٣

صغيرين ، فبسط يده أرطباش على ضياعهم ، وضمّها إلى ضياعه ، وذلك في خلافة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك ، فأنشأت سارة بنت ألمند مركبا بإشبيلية حصينا كامل العدّة ، وركبت فيه مع أخويها الصغيرين تريد الشام حتى نزلت بعسقلان من ساحلها ثم قصدت باب الخليفة هشام بداره بدمشق ، فأنهت خبرها ، وشكت ظلامتها من عمّها وتعدّيه عليها (١) ، واحتجّت بالعهد المنعقد لأبيها وأخويه على الخليفة الوليد بن عبد الملك ، فأوصلها إلى هشام نفسه ، وأعجبه صورتها وحزمها. وكتب إلى حنظلة بن صفوان عامله بإفريقية بإنصافها من عمّها أرطباش وإمضائها وأخويها على سنّة الميراث فيما كان في يد والدها ممّا قاسم فيه أخويه ، فأنفذ لها الكتاب بذلك إلى عامله بالأندلس أبي الخطار ابن عمّه ، فتمّ لها ذلك ، وأنكحها الخليفة هشام من عيسى بن مزاحم ، فابتنى (٢) بها بالشام ، ثم قدم بها إلى الأندلس ، وقام لها في دفاع عمّها أرطباش عن ضياعها ، فنال بها نعمة عظيمة ، وولد له منها ولداه إبراهيم وإسحاق فأدركا الشرف المؤثّل (٣) والرياسة بإشبيلية ، وشهرا ونسلهما بالنسبة إلى أمهما سارة القوطية. وكانت أيام وفادتها على الخليفة هشام رأت عنده حفيده عبد الرحمن بن معاوية الداخل بعد إلى الأندلس ، وعرفها ، فتوصّلت إليه (٤) لمّا ملك الأندلس ووفدت إليه ، فاعترف بذمامها وأكرمها ، وأذن لها في الدخول إلى قصره متى جاءت إلى قرطبة فيجدّد تكرمتها ولا يحجب عياله منها. وتوفي زوجها عيسى في السنة التي ملك فيها عبد الرحمن الأندلس ، فزوّجها عبد الرحمن من عمير بن سعيد.

وكان لها ولأبيها ألمند وعمّها أرطباش في صدر الدولة العربية بالأندلس أخبار ملوكية : فمنها ما حكاه الفقيه محمد بن عمر بن لبابة المالكي أنه قصد أرطباش يوما إلى منزله عشرة من رؤساء رجال الشاميين فيهم الصّميل وابن الطّفيل وأبو عبدة وغيرهم ، فأجلسهم على الكراسي ، وبالغ في تكريمهم ، ودخل على أثرهم ميمون العابد جدّ بني حزم ، وكان في عداد الشاميين ، إلّا أنه كان شديد الانقباض عنهم لزهده وورعه ، فلما بصر به أرطباش قام إليه دونهم إعظاما ، ورقاه إلى كرسيه الذي كان يجلس عليه ، وكان ملبّسا صفائح الذهب ، وجذبه ليجلسه مكانه ، فامتنع عليه ميمون ، وقعد على الأرض ، فقعد أرطباش معه عليها ، وأقبل عليه قبلهم ، فقال له : يا سيدي ، ما الذي جاء بك إلى مثلي؟ فقال له : ما تسمعه ، إنّا قدمنا إلى هذا البلد غزاة نحسب أن مقامنا فيه لا يطول ، فلم نستعدّ للمقام ولا كثّرنا من العدّة ثم حدثت (٥) بعدنا

__________________

(١) في ب : واستعدت عليه.

(٢) ابتنى بها : دخل بها.

(٣) الشرف المؤثّل : الثابت العظيم.

(٤) في ب : فتوسّلت بذلك إليه.

(٥) في ب : ثم حدث.

٢١٤

على موالينا وفي أجنادنا ما قد أيسنا معه من الرجوع إلى أوطاننا ، وقد وسّع الله عليك ، فأحبّ أن تدفع إليّ ضياعا من ضياعك أعتمرها بيدي ، وأؤدي إليك الحقّ منها ، وآخذ الفضل لي طيبا أتعيّش منه ، فقال : لا أرضى لك بالمساهمة ، بل أهب لك هبة مسوّغة ، ثم دعا بوكيل له فقال له : سلّم إليه المجشر (١) الذي لنا على وادي شوش بما لنا فيه من العبيد والدواب والبقر وغير ذلك ، وادفع إليه الضيعة التي بجيّان ، فتسلّم ميمون الضيعتين وورثهما ولده ، وإليهم نسبت قلعة حزم ، فشكره ميمون وأثنى عليه ، وقام عنه. وقد أنف الصميل من قيامه إليه ، فأقبل على أرطباش وقال له : كنت أظنّك أرجح وزنا ، أدخل عليك وأنا سيد العرب بالأندلس في أصحابي هؤلاء ، وهم سادة الموالي ، فلا تزيدنا من الكرامة على الإقعاد على أعوادك هذه ، ويدخل هذا الصّعلوك فتصير من إكرامه إلى حيث صرت؟ فقال له : يا أبا جوشن ، إنّ أهل دينك يخبروننا أن أدبهم لم يرهفك (٢) ولو كان لم تنكر عليّ ما فعلته ، إنكم ، أكرمكم الله ، إنما تكرمون لدنياكم وسلطانكم ، وهذا إنما أكرمته لله تعالى : فقد روينا عن المسيح ، عليه السلام ، أنه قال : من أكرمه الله تعالى من عباده بالطاعة له وجبت كرامته على خلقه ، فكأنما ألقمه حجرا. وكان الصميل أمّيّا ، فلذلك عرّض به ، فقال له القوم : دعنا من هذا ، وانظر فيما قصدنا له ، فحاجتنا حاجة الرجل الذي قصدك فأكرمته ، فانظر في شأننا ، فقال له : أنتم ملوك الناس ، وليس يرضيكم إلّا الكثير ، وها أنا أهب لكم مائة ضيعة تقتسمونها عشرا عشرا ، وكتب لهم بها ، وأمر وكلاءه بتسليمها إليهم ، فكان القوم يرونها من أطيب أملاكهم ، انتهى.

قال ابن حيّان وغيره : ولمّا بلغ موسى بن نصير ما صنعه طارق بن زياد وما أتيح له من الفتوح حسده ، وتهيّأ للمسير إلى الأندلس فعسكر وأقبل نحوها ومعه جماعة الناس وأعلامهم ، وقيل : إنهم كانوا ثمانية عشر ألفا ، وقيل : أكثر ، فكان دخوله إلى الأندلس في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين ، وتنكّب (٣) الجبل الذي حلّه طارق ، ودخل على الموضع المنسوب إليه المعروف الآن بجبل موسى ، فلما احتلّ الجزيرة الخضراء قال : ما كنت لأسلك طريق طارق ، ولا أقفو أثره (٤) ، فقال له العلوج الأدلّاء أصحاب يليان : نحن نسلكك (٥) طريقا هو أشرف من طريقه ، وندلّك على مدائن هي أعظم خطرا وأعظم خطبا وأوسع غنما من مدائنه ، لم تفتح

__________________

(١) المجشر : المرعى.

(٢) أرهف فلان سيفه : حدّده ليصير حادّا قاطعا. والمراد هنا أن أدب الدين لم يرقق طباعه.

(٣) تنكّب الجبل : تجنبه ومال عنه إلى غيره.

(٤) أقفو أثره : أتبعه.

(٥) في ب : نسلك بك.

٢١٥

بعد ، يفتحها الله عليك ، إن شاء الله تعالى ، فملىء سرورا. وكان شفوف (١) طارق قد غمّه ، فساروا به في جانب ساحل شذونة ، فافتتحها عنوة ، وألقوا بأيديهم إليه ، ثم سار إلى مدينة قرمونة ، وليس بالأندلس أحصن منها ، ولا أبعد على من يرومها بحصار أو قتال ، فدخلها بحيلة توجّهت بأصحاب يليان ، دخلوا إليهم كأنهم فلّال وطرقهم موسى بخيله ليلا ففتحوا لهم الباب ، وأوقعوا بالأحراس ، فملكت المدينة. ومضى موسى إلى إشبيلية جارتها فحاصرها ، وهي أعظم مدائن الأندلس شأنا ، وأعجبها بنيانا ، وأكثرها آثارا ، وكانت دار الملك قبل القوطيين ، فلما غلب القوطيون على ملك الأندلس حوّلوا السلطان إلى طليطلة ، وبقي رؤساء الدين فيها أعني إشبيلية ، فامتنعت أشهرا على موسى ، ثم فتحها الله عليه ، فهرب العلوج عنها إلى مدينة باجة ، فضمّ موسى يهودها إلى القصبة ، وخلّف بها رجالا ، ومضى من إشبيلية إلى لقنت (٢) إلى مدينة ماردة ، وكانت أيضا دار مملكة لبعض ملوك الأندلس في سالف الدهر ، وهي ذات عزّ ومنعة ، وفيها آثار وقصور ومصانع وكنائس جليلة القدر فائقة الوصف ، فحاصرها أيضا ، وكان في أهلها منعة شديدة وبأس عظيم ، فنالوا من المسلمين دفعات ، وآذوهم ، وعمل موسى دبّابة دبّ المسلمون تحتها إلى برج من أبراج سورها جعلوا ينقبونه ، فلمّا قلعوا الصخر أفضوا بعده إلى العمل المدعو بلسان العجم ألاشه ماشه (٣) ، فنبت عنه معاولهم (٤) وعدّتهم ، وثار بهم العدوّ على غفلة ، فاستشهد بأيديهم قوم من المسلمين تحت تلك الدبابة ، فسمّي ذلك الموضع برج الشهداء ، ثم دعا القوم إلى السّلم ، فترسل إليه في تقريره قوم من أماثلهم أعطاهم الأمان واحتال في توهيمهم في نفسه ، فدخلوا عليه أول يوم ، فإذا هو أبيض الرأس واللحية كما نصل (٥) خضابه ، فلم يتّفق لهم معه أمر ، وعاودوه قبل الفطر بيوم ، فإذا هو قد قنأ لحيته بالحنّاء فجاءت كضرام عرفج ، فعجبوا من ذلك ، وعاودوه يوم الفطر ، فإذا هو قد سوّد لحيته ، فازداد تعجّبهم منه ، وكانوا لا يعرفون الخضاب ولا استعماله ، فقالوا لقومهم : إنّا نقاتل أنبياء يتخلّقون كيف شاؤوا ، ويتصوّرون في كل صورة أحبّوا ؛ كان ملكهم شيخا فقد صار شابّا ، والرأي أن نقاربه ونعطيه ما يسأله ، فما لنا به طاقة ، فأذعنوا عند ذلك ، وأكملوا صلحهم مع موسى على أنّ أموال القتلى يوم الكمين ، وأموال الهاربين إلى جلّيقيّة ، وأموال الكنائس وحليّها للمسلمين.

__________________

(١) شفوف طارق : أراد هنا ظفره وانتصاره ، وأصل الشفوف جمع شف ، وهو الريح.

(٢) في ب : لفنت.

(٣) ألاشه ماشه : أي الاسمنت كما جاء في حواشي طبعة ليدن.

(٤) نبت عنه معاولهم : أي لم تنل منه. والمعول : آلة للهدم.

(٥) نصل خضابه : ذهب أثره. والخضاب : ما يصبع به الشعر.

٢١٦

ثم فتحوا له المدينة يوم الفطر سنة أربع وتسعين فملكها. ثم إن عجم إشبيلية انتقضوا على المسلمين ، واجتمعوا من مدينتي باجة ولبلة إليهم ، فأوقعوا بالمسلمين ، وقتلوا منهم نحو ثمانين رجلا ، وأتى فلّهم الأمير موسى وهو بماردة ، فلمّا أن فتحها وجّه ابنه عبد العزيز بن موسى في جيش إليهم ففتح إشبيلية وقتل أهلها ، ونهض إلى لبلة ففتحها ، واستقامت الأمور فيما هنالك ، وعلا الإسلام ، وأقام عبد العزيز بإشبيلية ، وتوجّه الأمير موسى من ماردة في عقب شوال من العام المؤرّخ يريد طليطلة ، وبلغ طارقا خبره ، فاستقبله في وجوه الناس ، فلقيه في موضع من كورة طلبيرة ، وقيل : إن موسى تقدّم من ماردة فدخل جلّيقية من فجّ نسب إليه ، فخرقها حتى وافى طارق بن زياد صاحب مقدمته بمدينة أسترقة ، فغضّ منه علانية ، وأظهر ما بنفسه عليه من حقد ، والله أعلم ؛ وقيل : لمّا وقعت عينه عليه نزل إليه إعظاما له ، فقنّعه موسى بالسّوط ، ووبّخه على استبداده عليه ومخالفته لرأيه. وساروا إلى طليطلة ، فطالبه موسى بأداء ما عنده من مال الفيء وذخائر الملوك ، واستعجله بالمائدة ، فأتاه بها وقد خلع من أرجلها رجلا وخبّأه عنده ، فسأله موسى عنه ، فقال : لا علم لي به ، وهكذا أصبتها ، فأمر موسى فجعل لها رجل من ذهب جاء بعيد الشبه من أرجلها يظهر عليه التعمّل ، ولم يقدر على أحسن منه ، فأخلّ بها.

وقال ابن الفرضي : موسى بن نصير صاحب فتح الأندلس لخميّ يكنى أبا عبد الرحمن ، يروي عن تميم الداريّ ، وروى عنه يزيد بن مسروق اليحصبي.

وقيل : غزا موسى بن نصير في المحرّم سنة ثلاث وتسعين ، فأتى طنجة ، ثم عبر على (١) الأندلس ، فأداخها ، لا يأتي على مدينة إلّا فتحها ونزل أهلها على حكمه ، وسار (٢) إلى قرطبة ، ثم قفل على (٣) الأندلس سنة أربع وتسعين ، فأتى إفريقية ، وسار عنها سنة خمس وتسعين إلى الشام يؤمّ الوليد بن عبد الملك يجرّ الدنيا بما احتمله من غنائم الأندلس من الأموال والأمتعة يحملها على العجل والظّهر ، ومعه ثلاثون ألف رأس من السبي ، فلم يلبث أن هلك الوليد بن عبد الملك وولي سليمان ، فنكب موسى نكبا أدّاه إلى المتربة (٤) ، فهلك في نكبته تلك بوادي القرى سنة سبع وتسعين.

قال ابن حيّان : وهذه المائدة المنوّه باسمها المنسوبة إلى سليمان النبيّ ، عليه الصلاة والسلام ، لم تكن له فيما يزعم رواة العجم ، وإنما أصلها أن العجم في أيام ملكهم كان أهل

__________________

(١) في ب : إلى.

(٢) في ب : ثم سار.

(٣) في ب : عن.

(٤) المتربة : الفقر.

٢١٧

الحسبة (١) منهم إذا مات أحدهم أوصى بمال للكنائس ، فإذا اجتمع عندهم ذلك المال صاغوا منه الآلات الضخمة من الموائد والكراسي وأشباهها من الذهب والفضّة ، تحمل الشّمامسة والقسوس فوقها مصاحف الأناجيل إذا أبرزت في أيام المناسك ، ويضعونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها ، فكانت تلك المائدة بطليطلة مما صيغ في هذه السبيل ، وتأنّقت الأملاك في تفخيمها ، يزيد الآخر منهم على الأوّل ، حتى برزت على جميع ما اتّخذ من تلك الآلات ، وطار الذكر مطاره عنها ، وكانت مصوغة من خالص الذهب ، مرصّعة بفاخر الدّرّ والياقوت والزّمرّد ، لم تر الأعين مثلها ، وبولغ في تفخيمها من أجل دار المملكة ، وأنه لا ينبغي أن تكون بموضع آلة جمال أو متاع مباهاة إلّا دون ما يكون فيها ، وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة ، فأصابها المسلمون هنالك ، وطار النبأ الفخم عنها. وقد كان طارق ظنّ بموسى أميره مثل الذي فعله من غيرته على ما تهيّأ له ومطالبته له بتسليم ما في يده إليه ، فاستظهر بانتزاع رجل من أرجل هذه المائدة خبّأه عنده ، فكان من فلجه (٢) به على موسى عدوّه عند الخليفة إذ تنازعا عنده بعد الأثر في جهادهما ما هو مشهور ، انتهى.

وقال بعض المؤرّخين : إن المائدة كانت مصنوعة من الذهب والفضة ، وكان عليها طوق لؤلؤ وطوق ياقوت وطوق زمرّد ، وكلّها مكلّلة بالجواهر ، انتهى.

وما ذكره ابن حيّان من أن الذي نكب موسى بن نصير هو سليمان بن عبد الملك صواب ، وأمّا ما حكاه ابن خلّكان من أن المنكب (٣) له الوليد فليس بصحيح ، والله أعلم.

رجع إلى كلام ابن حيّان ـ قالوا : ثم إن موسى اصطلح مع طارق ، وأظهر الرضا عنه ، وأقرّه على مقدمته على رسمه ، وأمره بالتقدّم أمامه في أصحابه ، وسار موسى خلفه في جيوشه ، فارتقى إلى الثغر الأعلى ، وافتتح سرقسطة وأعمالها ، وأوغل في البلاد ، وطارق أمامه ، لا يمرّان بموضع إلّا فتح عليهما ، وغنّمهما الله تعالى ما فيه. وقد ألقى الله الرعب في قلوب الكفرة فلم يعارضهما أحد إلّا بطلب صلح (٤) ، وموسى يجيء على أثر طارق في ذلك كله ، ويكمل ابتداءه ، ويوثّق للناس ما عاهدوه عليه ، فلما صفا القطر كلّه وطامن نفوس من أقام

__________________

(١) وادي القرى : هو واد بين المدينة والشام من أعمال المدينة كثير القرى (معجم البلدان ج ٥ ص ٣٤٥).

(٢) في ب : الحسنة.

(٣) كذا وردت ، وصواب العبارة أن يقول : «أن الناكب له» لأنه لم يرد في اللغة أنكبه بهذا المعنى. وعلى الأغلب أن «المنكب» تصحيف لكلمة لعلها «المبكت» لا سيما أن المؤرخين أجمعوا على أن الوليد لم ينكب موسى ، وإنما نقم عليه أمرا فأقامه في الشمس يوما كاملا في يوم صائف حتى خرّ مغشيا عليه.

(٤) في ب : الصلح.

٢١٨

على سلمه ، ووطّأ لأقدام المسلمين في الحلول به ، أقام لتمييز ذلك وقتا ، وأمضى المسلمين إلى إفرنجة ففتحوا وغنموا وسلموا وعلوا وأوغلوا ، حتى انتهوا إلى وادي رودنة ، فكان أقصى أثر العرب ومنتهى موطئهم من أرض العجم. وقد دوّخت بعوث طارق وسراياه بلد إفرنجة فملكت مدينتي برشلونة وأربونة وصخرة أبنيون (١) وحصن لوذون على وادي ردونة (٢) ، فبعدوا عن الساحل الذي منه دخلوا جدّا ، وذكر أن مسافة ما بين قرطبة وأربونة من بلاد إفرنجة ثلاثمائة فرسخ وخمسة وثلاثون فرسخا ، وقيل : ثلاثمائة فرسخ وخمسون فرسخا ، ولمّا أوغل المسلمون إلى أربونة ارتاع لهم قارله ملك الإفرنجة بالأرض الكبيرة ، وانزعج لانبساطهم ، فحشد لهم ، وخرج عليهم في جمع عظيم ، فلما انتهى إلى حصن لوذون وعلمت العرب بكثرة جموعه زالت عن وجهه ، وأقبل حتى انتهى إلى صخرة أبنيون ، فلم يجد بها أحدا ، وقد عسكر المسلمون قدّامه فيما بين الأجبل المجاورة لمدينة أربونة ، وهم بحال غرّة لا عيون لهم ولا طلائع ، فما شعروا حتى أحاط بهم عدوّ الله قارله ، فاقتطعهم عن اللجإ إلى مدينة أربونة ، وواضعهم الحرب ، فقاتلوا قتالا شديدا استشهد فيه جماعة منهم ، وحمل جمهورهم على صفوفه حتى اخترقوها ، ودخلوا المدينة ، ولاذوا بحصانتها ، فنازلهم بها أياما أصيب له فيها رجال ، وتعذّر عليه المقام ، وخامره ذعر وخوف مدد للمسلمين ، فزال عنهم راحلا إلى بلده ، وقد نصب في وجوه المسلمين حصونا على وادي ردونة شكّها بالرجال فصيّرها ثغرا بين بلده والمسلمين ، وذلك بالأرض الكبيرة خلف الأندلس.

وقال الحجاري في المسهب : إنّ موسى بن نصير نصره الله نصرا ما عليه مزيد ، وأجفلت ملوك النصارى بين يديه ، حتى خرج على باب الأندلس الذي في الجبل الحاجز بينها وبين الأرض الكبيرة ، فاجتمعت الإفرنج إلى ملكها الأعظم قارله ، وهذه سمة لملكهم ، فقالت له : ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب؟ كنّا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس ، حتى أتوا من مغربها ، واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدّة والعدد بجمعهم القليل ، وقلّة عدّتهم ، وكونهم لا دروع لهم ، فقال لهم ما معناه : الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم هذه ، فإنهم كالسّيل يحمل من يصادره ، وهم في إقبال أمرهم ، ولهم نيّات تغني عن كثرة العدد ، وقلوب تغني عن حصانة الدروع ، ولكن أمهلوهم حتى تمتلىء أيديهم من الغنائم ، ويتخذوا المساكن ، ويتنافسوا في الرياسة ، ويستعين بعضهم ببعض ، فحينئذ تتمكّنون منهم بأيسر أمر ، قال : فكان والله كذلك بالفتنة التي طرأت بين الشاميين والبلديين والبربر والعرب

__________________

(١) أبنيون : إلى الشمال من نهر الرون.

(٢) في ب : رودنة.

٢١٩

والمضرية واليمانية ، وصار بعض المسلمين يستعين على بعض بمن يجاورهم من الأعداء ، انتهى.

وقيل : إن موسى بن نصير أخرج ابنه عبد الأعلى إلى تدمير ففتحها ، وإلى غرناطة ومالقة وكورة ريّة ففتح الكلّ ، وقيل : إنه لما حاصر مالقة ـ وكان ملكها ضعيف الرأي قليل التحفّظ ـ كان يخرج إلى جنان له بجانب المدينة طلبا للراحة من غمّة الحصار من غير نصب عين وتقديم طليعة (١) ، وعرف عبد الأعلى بأمره فأكمن له في جنبات الجنة التي كان ينتابها ، قوما من وجوه فرسانه ذوي رأي وحزم ، أرصدوا له ليلا فظفروا به ، وملكوه ، فأخذ المسلمون البلد (٢) عنوة ، وملؤوا أيديهم غنيمة.

وقيل : كانت نفس موسى بن نصير في ذلك كله تنزعج إلى دخول دار الكفر جلّيقية ، فبينما هو يعمل في ذلك ويعدّ له إذ أتاه مغيث الروميّ رسول الوليد بن عبد الملك ومولاه يأمره بالخروج عن الأندلس والإضراب عن الوغول فيها ، ويأخذه بالقفول إليه ، فساءه ذلك ، وقطع به عن إرادته ؛ إذ لم يكن في الأندلس بلد لم تدخله العرب إلى وقته ذلك غير جليقية ، فكان شديد الحرص على اقتحامها ، فلاطف موسى مغيثا رسول الخليفة ، وسأله إنظاره (٣) إلى أن ينفذ عزمه في الدخول إليها والمسير معه في البلاد أياما ، ويكون شريكه في الأجر والغنيمة ، ففعل ، ومشى معه حتى بلغ المفازة (٤) فافتتح حصن بارو وحصن لكّ ، فأقام هناك ، وبثّ السرايا حتى بلغوا صخرة بلاي على البحر الأخضر ، فلم تبق كنيسة إلّا هدمت ، ولا ناقوس إلّا كسر ، وطاعت (٥) الأعاجم فلاذوا بالسلم وبذل الجزية ، وسكنت العرب المفاوز ، وكان العرب والبربر كلّما مرّ قوم منهم بموضع استحسنوه حطّوا به ونزلوه قاطنين ، فاتّسع نطاق الإسلام بأرض الأندلس ، وخذل الشّرك ، وبينما موسى كذلك في اشتداد الظهور وقوّة الأمل إذ قدم عليه رسول آخر من الخليفة يكنى أبا نصر أردف به الوليد مغيثا لمّا استبطأ موسى في القفول ، وكتب إليه يوبّخه ، ويأمره بالخروج ، وألزم رسوله إزعاجه ، فانقلع حينئذ من مدينة لكّ بجليقية ، وخرج على الفج المعروف بفجّ موسى ، ووافاه طارق في الطريق منصرفا من الثغر

__________________

(١) غمّة الحصار : ضيقه وشدته ، والعين : الجاسوس أو الحارس. والطليعة : مقدمة الحبيش ، ومن الجيش من يرسل قدامه ليكشف أمر العدو.

(٢) في ب : المدينة.

(٣) أنظره إنظارا : أمهله.

(٤) المفازة : الصحراء الواسعة التي لا ماء فيها.

(٥) في ب : وأطاعت.

٢٢٠