نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

أخبارهم. وأمّا الرّجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال إذا لم يعدلوا فكلّ يوم.

وأما طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدّورة (١) التي تكسل عن الكدّ وتخرج (٢) الوجوه للطلب في الأسواق فمستقبحة عندهم إلى النهاية (٣) ، وإذا رأوا شخصا صحيحا قادرا على الخدمة يطلب سبّوه وأهانوه ، فضلا عن أن يتصدّقوا عليه ، فلا تجد بالأندلس سائلا إلّا أن يكون صاحب عذر.

وأما حال أهل الأندلس في فنون العلوم ، فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميّز ، فالجاهل الذي لم يوفّقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة ، ويربأ بنفسه (٤) أن يرى فارغا عالة على الناس ؛ لأنّ هذا عندهم في نهاية القبح ، والعالم عندهم معظّم من الخاصّة والعامّة ، يشار إليه ، ويحال عليه ، وينبه قدره وذكره عند الناس ، ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة ، وما أشبه ذلك. ومع هذا فليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم ، بل يقرءون جميع العلوم في المساجد بأجرة ، فهم يقرءون لأن يعلموا لا لأن يأخذوا جاريا ، فالعالم منهم بارع ؛ لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه ، وينفق من عنده حتى يعلم ، وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء ، إلّا الفلسفة والتنجيم ، فإنّ لهما حظّا عظيما عند خواصّهم ، ولا يتظاهر بها (٥) خوف العامّة ، فإنه كلّما قيل «فلان يقرأ الفلسفة» أو «يشتغل بالتنجيم» أطلقت عليه العامّة اسم زنديق ، وقيّدت عليه أنفاسه ، فإن زلّ في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان ، أو يقتله السلطان تقرّبا لقلوب العامّة ، وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت ، وبذلك تقرّب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري والله أعلم. وقراءة القرآن بالسبع ورواية الحديث عندهم رفيعة ، وللفقه رونق ووجاهة ، ولا مذهب لهم إلّا مذهب مالك ، وخواصّهم يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به بمحاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم. وسمة الفقيه عندهم جليلة ، حتى إن المسلمين (٦) كانوا يسمّون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه ، وهي الآن بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق ، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي فقيه ؛ لأنها عندهم أرفع السّمات.

__________________

(١) في ب : الدّروزة.

(٢) في ب : وتحوج.

(٣) في ب : نهاية.

(٤) يربأ بنفسه : يترفع بها.

(٥) في ب : بهما.

(٦) في ب : الملثمين.

١٨١

وعلم الأصول عندهم متوسّط الحال ، والنّحو عندهم في نهاية من علوّ الطبقة ، حتى إنهم في هذا العصر فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه ، لا يزداد مع هرم الزمان إلّا جدّة ، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه ، وكل عالم في أيّ علم لا يكون متمكّنا من علم النحو ـ بحيث لا تخفى عليه الدقائق ـ فليس عندهم بمستحقّ للتمييز ، ولا سالم من الازدراء ، مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواصّ والعوامّ كثير الانحراف عمّا تقتضيه أوضاع العربية ، حتى لو أنّ شخصا من العرب سمع كلام الشلوبيني (١) أبي عليّ المشار إليه بعلم النحو في عصرنا الذي غرّبت تصانيفه وشرّقت وهو يقرئ درسه لضحك بملء فيه من شدّة التحريف الذي في لسانه ، والخاصّ منهم إذا تكلّم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه ، ولكن ذلك مراعى عندهم في القراءات والمخاطبات بالرسائل. وعلم الأدب المنثور من حفظ التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات أنبل علم عندهم ، وبه يتقرّب من مجالس ملوكهم وأعلامهم ، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل.

والشعر عندهم له حظّ عظيم ، وللشعراء من ملوكهم وجاهة ، ولهم عليهم حظ ووظائف ، والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة ، ويوقّع لهم بالصّلات على أقدارهم ، إلّا أن يختلّ الوقت ويغلب الجهل في حين ما ، ولكن هذا الغالب. وإذا كان الشخص بالأندلس نحويّا أو شاعرا فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب ، عادة قد جبلوا عليها.

وأما زيّ أهل الأندلس ، فالغالب عليهم ترك العمائم ، لا سيما في شرق الأندلس ، فإنّ أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيا ولا فقيها مشارا إليه إلّا وهو بعمامة ، وقد تسامحوا بشرقها في ذلك ، ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان ، وإليه الإشارة ، وقد خطب له بالملك في تلك الجهة ، وهو حاسر الرأس ، وشيبه قد غلب على سواد شعره. وأما الأجناد وسائر الناس ، فقليل منهم من تراه بعمّة في شرق منها أو في غرب ، وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة ، وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده ، وكثيرا ما يتزيّا سلاطينهم وأجنادهم بزيّ النصارى المجاورين لهم ، فسلاحهم كسلاحهم ، وأقبيتهم من الإشكرلاط (٢) وغيره كأقبيتهم ، وكذلك أعلامهم وسروجهم.

__________________

(١) هو عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأستاذ أبو علي الإشبيلي الأزدي المعروف بالشلوبين أو الشلوبيني. كان إمام عصره في العربية ذا معرفة بنقد الشعر ، بارعا في التعليم انظر (بغية الوعاة ٢ : ٢٢٤).

(٢) الاشكرلاط : نوع من الجوخ ، أحمر اللون.

١٨٢

ومحاربتهم بالتّراس والرّماح الطويلة للطعن ، ولا يعرفون الدبابيس ، ولا قسيّ العرب ، بل يعدون قسيّ الإفرنج للمحاصرات في البلاد ، أو تكون للرجّالة عند المصاففة للحرب ، وكثيرا (١) ما تصبر الخيل عليهم أو تمهلهم لأن يؤثروها ولا تجد في خواصّ الأندلس وأكثر عوامّهم من يمشي دون طيلسان ، إلّا أنه لا يضعه على رأسه منهم إلّا الأشياخ المعظّمون ، وغفائر الصوف كثيرا ما يلبسونها حمرا وخضرا ؛ والصّفر مخصوصة باليهود ، ولا سبيل ليهودي (٢) أن يتعمّم البتّة ، والذؤابة لا يرخيها إلّا العالم ، ولا يصرفونها بين الأكتاف ، وإنّما يسدلونها من تحت الأذن اليسرى. وهذه الأوضاع التي بالمشرق في العمائم لا يعرفها أهل الأندلس ، وإن رأوا في رأس مشرقي داخل إلى بلادهم شكلا منها أظهروا التعجّب والاستظراف ، ولا يأخذون أنفسهم بتعليمها ؛ لأنهم لم يعتادوا ولم يستحسنوا غير أوضاعهم ، وكذلك في تفصيل الثياب.

وأهل الأندلس أشدّ خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون ، وغير ذلك مما يتعلّق بهم ، وفيهم من لا يكون عنده إلّا ما يقوته يومه ، فيطويه صائما ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه ، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها.

وهم أهل احتياط وتدبير في المعاش وحفظ لما في أيديهم خوف ذلّ السؤال ، فلذلك قد ينسبون للبخل ، ولهم مروءات على عادة بلادهم ، لو فطن لها حاتم لفضّل دقائقها على عظائمه ؛ ولقد اجتزت مع والدي على قرية من قراها ، وقد نال منّا البرد والمطر أشدّ النّيل ، فأوينا إليها ، وكنّا على حال ترقّب من السلطان وخلوّ من الرفاهية ، فنزلنا في بيت شيخ من أهلها ، من غير معرفة متقدّمة ، فقال لنا : إن كان عندكم ما أشتري لكم فحما تسخنون به فإني أمضي في حوائجكم ، وأجعل عيالي يقومون بشأنكم ، فأعطيناه ما اشترى به فحما ، فأضرم نارا ، فجاء ابن له صغير ليصطلي ، فضربه ، فقال له والدي : لم ضربته؟ فقال : يتعلّم استغنام أموال (٣) الناس والضّجر للبرد من الصغر ، ثم لما جاء النوم قال لابنه : أعط هذا الشابّ كساءك الغليظة يزيدها على ثيابه ، فدفع كساءه إليّ ، ثم لما قمنا عند الصباح وجدت الصبيّ منتبها ويده في الكساء ، فقلت ذلك لوالدي ، فقال : هذه مروءات أهل الأندلس ، وهذا احتياطهم ، أعطاك الكساء وفضّلك على نفسه ، ثم أفكر في أنك غريب لا يعرف هل أنت ثقة أو لصّ ، فلم يطب له منام حتى يأخذ كساءه خوفا من انفصالك بها وهو نائم ، وعلى هذا الشيء الحقير فقس الشيء الجليل ؛ انتهى كلام ابن سعيد في «المغرب» باختصار يسير.

__________________

(١) في ب : وقليلا.

(٢) في ب : إلى يهودي.

(٣) في ب : مال.

١٨٣

ولله درّه! فإنه أبدع في هذا الكتاب ما شاء ، وقسمه إلى أقسام : منها كتاب «وشي الطّرس ، في حلى جزيرة الأندلس» وهو ينقسم إلى أربعة كتب : الكتاب الأول كتاب «حلي العرس ، في حلى غرب الأندلس». الكتاب الثاني «كتاب الشّفاه اللّعس ، في حلى موسطة الأندلس». الكتاب الثالث كتاب «الأنس في حلى شرق الأندلس». الكتاب الرابع كتاب «لحظات المريب ، في ذكر ما حماه من الأندلس عبّاد الصليب». والقسم الثاني كتاب «الألحان المسلية ، في حلى جزيرة صقلية» وهو أيضا ذو أنواع. والقسم الثالث كتاب «الغاية الأخيرة ، في حلى الأرض الكبيرة» وهو أيضا ذو أقسام. وصوّر ـ رحمه الله تعالى! ـ أجزاء الأندلس في كتاب «وشي الطّرس». وقال أيضا ؛ إن كلّا من شرق الأندلس وغربها ووسطها يقرب في قدر المساحة بعضه من بعض ، وليس فيها جزء يجاوز طوله عشرة أيام ، ليصدق التثليث في القسمة ، وهذا دون ما بقي بأيدي النصارى. وقدّم ـ رحمه الله! ـ كتاب «حلي العرس ، في حلى غرب الأندلس» ؛ لكون قرطبة قطب الخلافة المروانية وإشبيلية التي ما في الأندلس أجمل منها فيه ، وقسّمه إلى سبعة كتب ، كل كتاب منها يحتوي على مملكة منحازة عن الأخرى : الكتاب الأول كتاب «الحلّة المذهّبة ، في حلى مملكة قرطبة». الكتاب الثاني كتاب «الذهبية الأصيلية ، في حلى المملكة الإشبيلية». الكتاب الثالث كتاب «خدع الممالقة ، في حلى مملكة مالقة». الكتاب الرابع كتاب «الفردوس ، في حلى مملكة بطليوس». الكتاب الخامس كتاب «الخلب ، في حلى مملكة شلب». الكتاب السادس كتاب «الديباجة ، في حلى مملكة باجة». الكتاب السابع كتاب «الرياض المصونة ، في حلى مملكة أشبونة». وقد ذكر ـ رحمه الله تعالى ـ! في كل قسم ما يليق به ، وصوّر أجزاءه على ما ينبغي ، فالله يجازيه خيرا! والكلام في الأندلس طويل عريض.

وقال بعض المؤرخين : طول الأندلس ثلاثون يوما ، وعرضها تسعة أيام ، ويشقّها أربعون نهرا كبارا ، وبها من العيون والحمّامات والمعادن ما لا يحصى ، وبها ثمانون مدينة من القواعد الكبار ، وأزيد من ثلاثمائة من المتوسطة ، وفيها من الحصون والقرى والبروج ما لا يحصى كثرة ، حتى قيل : إنّ عدد القرى التي على نهر إشبيلية اثنا عشر ألف قرية ، وليس في معمور الأرض صقع يجد المسافر فيه ثلاث مدن وأربعا من يومه إلّا بالأندلس ، ومن بركتها أنّ المسافر لا يسافر (١) فيها فرسخين دون ماء أصلا ، وحيثما سار من الأقطار يجد الحوانيت في الفلوات والصحارى (٢) والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وغير ذلك من ضروب الأطعمة.

__________________

(١) في ب : لا يسير.

(٢) في ب : والشعاري.

١٨٤

وذكر صاحب الجغرافيا أن جزيرة الأندلس مسيرة أربعين يوما طولا في ثمانية عشر يوما عرضا ، وهو مخالف لما سبق.

وقال ابن سيده : أخذت الأندلس في عرض الإقليمين الخامس والسادس من البحر الشامي في الجنوب إلى البحر المحيط في الشمال ، وبها من الجبال سبعة وثمانون جبلا ، انتهى.

ولبعضهم : [الكامل]

لله أندلس وما جمعت بها

من كلّ ما ضمّت لها الأهواء

فكأنما تلك الديار كواكب

وكأنما تلك البقاع سماء

وبكلّ قطر جدول في جنّة

ولعت بها الأفياء والأنداء (١)

وقال غيره : [البسيط]

في أرض أندلس تلتذّ نعماء

ولا يفارق فيها القلب سرّاء

وليس في غيرها بالعيش منتفع

ولا تقوم بحقّ الأنس (٢) صهباء

وأين يعدل عن أرض يحضّ (٣) بها

على الشهادة أزواج وأبناء

وأين يعدل عن أرض تحثّ بها

على المدامة أمواه وأفياء (٤)

وكيف لا تبهج الأبصار رؤيتها

وكلّ أرض بها في الوشي صنعاء

أنهارها فضّة ، والمسك تربتها

والخزّ روضتها ، والدّرّ حصباء

وللهواء بها لطف يرقّ به

من لا يرقّ ، وتبدو منه أهواء

ليس النسيم الذي يهفو بها سحرا

ولا انتشار لآلي الطّلّ أنداء

وإنّما أرج الندّ استثار بها

في ماء ورد فطابت منه أرجاء

وأين يبلع منها ما أصنّفه

وكيف يحوي الذي حازته إحصاء

قد ميّزت من جهات الأرض ثم بدت

فريدة ، وتولّى ميزها الماء

دارت عليها نطاقا أبحر خفقت

وجدا بها إذ تبدّت وهي حسناء

__________________

(١) الأفياء : جمع فيء ، وهو الظلّ ، والأنداء : جمع ندى ، وهو الماء الذي ينزل من السماء قليلا قليلا في آخر الليل. وولعت به علقت به علوقا شديدا.

(٢) في ب : الماء.

(٣) في ب : تحضّ.

(٤) في ب : أفياء وأنداء.

١٨٥

لذاك يبسم فيها الزّهر من طرب

والطّير يشدو ، وللأغصان إصغاء

فيها خلعت عذاري ما بها عوض

فهي الرياض ، وكلّ الأرض صحراء

وقد تقدمت هذه القصيدة.

وقال آخر : [الرمل]

حبّذا أندلس من بلد

لم تزل تنتج لي كلّ سرور

طائر شاد ، وظلّ وارف (١)

ومياه سائحات وقصور

وقال آخر : [الكامل]

يا حسن أندلس وما جمعت لنا

فيها من الأوطار والأوطان (٢)

تلك الجزيرة لست أنسى حسنها

بتعاقب الأحيان والأزمان

نسج الربيع نباتها من سندس

موشيّة ببدائع الألوان

وغدا النسيم بها عليلا هائما

بربوعها وتلاطم البحران

يا حسنها والطلّ ينثر فوقها

دررا خلال الورد والرّيحان

وسواعد الأنهار قد مدّت إلى

ندمائها بشقائق النّعمان

وتجاوبت فيها شوادي طيرها

والتفّت الأغصان بالأغصان

ما زرتها إلّا وحيّاني بها

حدق البهار وأنمل السّوسان (٣)

من بعدها ما أعجبتني بلدة

مع ما حللت به من البلدان

وحكى بعضهم أنّ بالجامع من مدينة أقليش (٤) بلاطا فيه جوائز منشورة مربعة مستوية الأطراف ، طول الجائزة منها مائة شبر وأحد عشر شبرا.

وفي الأندلس جبل ، من شرب من مائه كثر عليه الاحتلام ، من غير إرادة ولا تفكّر ، وفيها غير ذلك مما يطول ذكره ، والله أعلم.

ولنمسك العنان في هذا الباب ، فإنّ بحر الأندلس طويل مديد ، وربما كررنا الكلام لارتباط بعضه ببعض ، أو لنقل صاحبه المروي عنه ، أو لاختلاف ما ، أو غير ذلك من غرض سديد.

__________________

(١) الطائر الشادي : المفرّد. والظلّ الوارف : الممتدّ.

(٢) الأوطار : جمع وطر : البغية ، المأرب.

(٣) البهار : العرار أو النرجس البري ، وهو نبات طيب الرائحة. والسوسان : السوسن : وهو نبت كثير الألوان.

(٤) أقليش : مدينة لها حصن في ثغر الأندلس. بناها الفتح بن موسى بن ذي النون. (صفة جزيرة الأندلس ص ٢٨).

١٨٦

الباب الثاني

فتح الأندلس

في إلقاء الأندلس للمسلمين بالقياد ، وفتحها على يد موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد ، وصيرورتها ميدانا لسبق الجياد ، ومحطّ رحل الارتياء (١) والارتياد ، وما يتبع ذلك من خبر حصل بازديانه ازدياد ، ونبإ وصل إليه اعتيام (٢) وتقرّر بمثله اعتياد.

اعلم أنه لما قضى الله سبحانه بتحقيق قول رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : «زويت لي مشارق الأرض ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» وقع الخلاف بين لذريق ملك القوط وبين ملك سبتة الذي على مجاز الزّقاق ، فكان ما يذكر من فتح الأندلس على يد طارق وطريف ومولاهما الأمير موسى بن نصير ، رحم الله الجميع!.

وذكر الحجاري وابن حيّان وغيرهما أن أوّل من دخل جزيرة الأندلس من المسلمين برسم الجهاد طريف البربريّ مولى موسى بن نصير الذي تنسب إليه جزيرة طريف التي على المجاز ، غزاها بمعونة صاحب سبتة يليان النصراني ، لحقده على لذريق صاحب الأندلس ، وكان في مائة فارس وأربعمائة راجل ، جاز البحر في أربعة مراكب ، في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين ، وانصرف بغنيمة جليلة ، فعقد موسى بن نصير صاحب المغرب لمولاه طارق بن زياد على الأندلس ، ووجّهه مع يليان صاحب سبتة ، انتهى.

وسيأتي في أمر طريف وغيره ما يخالف هذا السياق ، وهي أقوال.

وقال ابن حيّان : إن أول أسباب فتح الأندلس كان أن ولّى الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير مولى عمّه عبد العزيز على إفريقية وما خلفها سنة ثمان وثمانين فخرج في نفر قليل من المطّوّعة (٣) ، فلما ورد مصر أخرج معه من جندها بعثا ، وفعل ذلك في إفريقية ،

__________________

(١) في ب : الارتياء. والارتباء : هو تقديم الربيئة أي الطليعة.

(٢) الاعتيام : مصدر اعتام ، أي اختار واصطفى.

(٣) المطّوّعة : أصله المتطوعة ، قلبت التاء طاء وادغمت الطاء بالطاء. والمطوّعة هي الجماعة التي تتطوع للجهاد.

١٨٧

وجعل على مقدّمته مولاه طارقا ، فلم يزل يقاتل البربر ويفتح مدائنهم ، حتى بلغ مدينة طنجة ، وهي قصبة بلادهم وأمّ مدائنهم ، فحصرها حتى فتحها ، وأسلم أهلها ، ولم تكن فتحت قبله ، وقيل : بل فتحت ثم استغلقت.

وذكر ابن حيّان أيضا استصعاب سبتة على موسى بتدبير صاحبها الداهية الشجاع يليان النصراني ، وأنه في أثناء ذلك وقع بينه وبين لذريق صاحب الأندلس ، ثم سرد ما يأتي ذكره.

وقال لسان الدين بن الخطيب رحمه الله : وحديث الفتح ، وما منّ الله به على الإسلام من المنح ، وأخبار ما أفاء الله من الخير ، على موسى بن نصير ، وكتب من جهاد ، لطارق بن زياد ، مملول قصّاص وأوراق ، وحديث أفول وإشراق ، وإرعاد وإبراق ، وعظم امتشاش (١) ، وآلة معلّقة في دكان قشّاش (٢) ، انتهى.

وقال في المغرب : طارق بن زياد من إفريقية.

وقال ابن بشكوال : إنه طارق بن عمرو ، فتح جزيرة الأندلس ودوّخها ، وإليه ينسب جبل طارق الذي يعرفه العامّة بجبل الفتح ، في قبلة الجزيرة الخضراء ، ورحل مع سيّده بعد فتح الأندلس إلى الشام وانقطع خبره ، انتهى.

وقال أيضا : إن طارقا كان حسن الكلام ينظم ما يجوز كتبه ، وأما المعارف السلطانية فيكفيه ولاية سلطنة الأندلس وما فتح فيها من البلاد إلى أن وصل سيده موسى بن نصير.

ومن تاريخ ابن بشكوال : احتل طارق بالجبل المنسوب إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين في اثني عشر ألفا غير اثني عشر رجلا من البربر ، ولم يكن فيهم من العرب إلّا شيء يسير ، وإنه لمّا ركب البحر رأى ، وهو نائم ، النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلّدوا السيوف وتنكّبوا القسيّ ، فيقول له رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : «يا طارق ، تقدّم لشأنك» ، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدّامه ، فهبّ من نومه مستبشرا ، وبشّر أصحابه ، وثابت نفسه ببشراه ، ولم يشكّ في الظفر ، فخرج من الجبل ، واقتحم بسيط البلد شانّا للغارة ، وأصاب عجوزا من أهل الجزيرة فقالت له في بعض قولها : إنه كان لها زوج عالم بالحدثان ، فكان يحدّثهم عن أمير يدخل إلى بلدهم هذا فيغلب عليه ، ويصف من نعته أنه ضخم الهامة ، فأنت كذلك ، ومنها أن في كتفه الأيسر (٣) شامة عليها شعر ، فإن كانت فيك

__________________

(١) امتش العظم : استخرج مخه.

(٢) القشاش : الذي يجمع محقرات الأشياء.

(٣) في ب : اليسرى.

١٨٨

فأنت هو ، فكشف ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرت ، فاستبشر بذلك ومن معه.

ومن تاريخ ابن حيّان : لما حرّض يليان النصراني صاحب سبتة للأمر الذي وقع بينه وبين صاحب الأندلس موسى بن نصير على غزو الأندلس جهّز لها مولاه طارقا المذكور في سبعة آلاف من المسلمين ، جلّهم البربر ، في أربع سفن ، وحطّ بجبل طارق المنسوب إليه يوم السبت في شعبان سنة اثنتين وتسعين ، ولم تزل المراكب تعود حتى توافى جميع أصحابه عنده بالجبل ، قال : ووقع على لذريق صاحب الأندلس الخبر ، وأنّ يليان السبب فيه ، وكان يومئذ غازيا في جهة البشكنس ، فبادر في جموعه وهم نحو مائة ألف ذوي عدّة وعدد (١) ، وكتب طارق إلى موسى بأنه قد زحف عليه لذريق بما لا طاقة له به ، وكان عمل من السفن عدّة ، فجهّز له فيها خمسة آلاف من المسلمين ، فكملوا بمن تقدّم اثني عشر ألفا ، ومعهم يليان صاحب سبتة في حشده يدلّهم على العورات ، ويتجسّس لهم الأخبار ، وأقبل نحوهم لذريق ومعه خيار العجم وأملاكها وفرسانها ، وقلوبهم عليه ، فتلاقوا فيما بينهم ، وقالوا ؛ إن هذا الخبيث غلب على سلطاننا ، وليس من بيت الملك ، وإنّما كان من أتباعنا ، ولسنا نعدم من سيرته خبالا واضطرابا ، وهؤلاء القوم الذين طرقوا لا حاجة لهم في إيطان بلدنا ، وإنّما مرادهم أن يملئوا أيديهم من الغنائم ويخرجوا عنّا ، فهلمّ فلننهزم بابن الخبيثة إذا نحن لقينا القوم ، فلعلّهم يكفوننا أمره ، فإذا هم انصرفوا عنّا أقعدنا في ملكنا من يستحقه ، فأجمعوا على ذلك ، انتهى.

وقال ابن خلدون : بعد ذكره أن القوطيين كان لهم ملك الأندلس ، وأن ملكهم لعهد الفتح يسمّى لذريق. ما نصّه : «وكانت لهم خطوة وراء البحر في هذه العدوة الجنوبية خطوها من فرضة المجاز بطنجة ، ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر ، واستعبدوهم. وكان ملك البربر بذلك القطر الذي هو اليوم جبال غمارة يسمى يليان ، فكان يدين بطاعتهم وبملّتهم ، وموسى بن نصير أمير المغرب إذ ذاك عامل على إفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك ، ومنزله بالقيروان. وكان قد أغزى لذلك العهد عساكر المسلمين بلاد المغرب الأقصى ، ودوّخ أقطاره ، وأثخن في جبال طنجة هذه حتى وصل خليج الزّقاق ، واستنزل يليان لطاعة الإسلام ، وخلّف مولاه طارق بن زياد الليثي واليا بطنجة ، وكان يليان ينقم على لذريق ملك القوط لعهده بالأندلس فعلة فعلها زعموا بابنته الناشئة في داره على عادتهم في بنات بطارقتهم ، فغضب لذلك ، وأجاز إلى لذريق ، وأخذ ابنته منه. ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلّهم على عورة فيهم

__________________

(١) في ب : عدد وعدّة.

١٨٩

أمكنت طارقا فيها الفرصة فانتهزها لوقته ، وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو ثلاثمائة من العرب ، واحتشد معهم من البربر زهاء عشرة آلاف ، فصيّرهما (١) عسكرين ؛ أحدهما على نفسه ونزل به جبل الفتح ، فسمّي جبل طارق به ، والآخر على طريف بن مالك النخعي ، ونزل بمكان مدينة طريف ، فسمّي به ، وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصّن. وبلغ الخبر إلى لذريق فنهض إليهم يجرّ أمم الأعاجم وأهل ملّة النصرانية في زهاء أربعين ألفا ، وزحفوا إليه ، فالتقوا بفحص شريش ، فهزمه الله ونفلهم أموال أهل الكفر ورقابهم. وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح وبالغنائم ، فحرّكته الغيرة ، وكتب إلى طارق يتوعّده إن توغّل بغير إذنه ، ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به ، واستخلف على القيروان ولده عبد الله ، وخرج معه حبيب بن منده الفهري (٢). ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في عسكر ضخم من وجوه العرب الموالي وعرفاء البربر ، ووافى خليج الزّقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء ، فأجاز إلى الأندلس ، وتلقّاه طارق فانقاد واتبع ، وأتمّ موسى الفتح ، وتوغّل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق وأربونة في الجوف ، وصنم قادس في الغرب ، ودوّخ أقطارها ، وجمع غنائمها. وأجمع أن يأتي المشرق من ناحية القسطنطينية ، ويتجاوز إلى الشام دروبه ودروب الأندلس ، ويخوض بينهما من أمم الأعاجم النصرانية ، مجاهدا فيهم ، مستلحما لهم ، إلى أن يلحق بدار الخلافة. ونمى الخبر إلى الوليد فاشتدّ قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب ، ورأى أنّ ما همّ به موسى غرر بالمسلمين ، فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف. وأسرّ إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع ، وكتب له بذلك عهده ، ففتّ ذلك في عزم موسى ، وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة والحامية بثغورها ، وأنزل ابنه عبد العزيز لسدّها وجهاد عدوّها ، وأنزله بقرطبة فاتّخذها دار إمارة ، واحتلّ موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين ، وارتحل إلى المشرق سنة ستّ بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظّهر. يقال : إن من جملتها ثلاثين ألف رأس من السّبي ، وولّى على إفريقية ابنه عبد الله ، وقدم على سليمان بن عبد الملك فسخطه ونكبه (٣). وثارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز بإغراء سليمان فقتلوه لسنتين من ولايته ، وكان خيّرا فاضلا ، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة. وولي من بعده أيوب بن حبيب اللخمي ، وهو ابن أخت موسى بن نصير ، فولي عليها ستة أشهر. ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس ؛ تارة من قبل

__________________

(١) في ب : فصيرهم.

(٢) في ب : وخرج ومعه حبيب بن أبي عبيدة الفهري.

(٣) سخطه : كرهه وغضب عليه ، ونكبه : أوقع به.

١٩٠

الخليفة ، وتارة من قبل عامله بالقيروان ، وأثخنوا في أمم الكفر ، وافتتحوا برشلونة من جهة المشرق ، وحصون قشتالة وبسائطها من جهة الجوف ، وانقرضت أمم القوط ، وأوى (١) الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدّروب فتحصّنوا بها ، وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلّوا البسائط وراءها ، وتوغّلوا في بلاد الفرنجة ، وعصفت ريح الإسلام بأمم الكفر من كل جهة ، وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجد للعدوّ بعض الكرّة ، فرجّع الإفرنج ما كانوا غلبوهم عليه من بلاد برشلونة لعهد ثمانين سنة من لدن فتحها ، واستمرّ الأمر على ذلك».

وكان محمد بن يزيد عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك ـ لمّا بلغه مهلك عبد العزيز بن موسى بن نصير ـ بعث إلى الأندلس الحرّ بن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، فقدم الأندلس ، وعزل أيوب بن حبيب ، وولي سنتين وثمانية أشهر.

ثم بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السّمح بن مالك الخولاني على رأس المائة من الهجرة ، وأمره أن يخمس أرض الأندلس (٢) ، فخمسها ، وبنى قنطرة قرطبة ، واستشهد غازيا بأرض الفرنجة سنة اثنتين ومائة ، فقدّم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي إلى أن قدم عنبسة بن سحيم (٣) الكلبي من قبل يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية ، فقدمها في صفر سنة ثلاث ومائة ، فاستقام أمر الأندلس ، وغزا الفرنجة ، وتوغّل في بلادهم ، واستشهد سنة سبع ومائة لأربع سنين وأربعة أشهر».

ثم تتابعت ولاة الأندلس من قبل أمراء إفريقية ، فكان أولهم يحيى بن سلمة الكلبي ، أنفذه بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية ، لمّا استدعى منه أهل الأندلس واليا بعد مقتل عنبسة ، فقدمها آخر سنة سبع ، وأقام في ولايتها سنتين ونصفا ، ولم يغز ، وقدم إليها عثمان بن أبي نسعة اللخمي واليا من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السّلمي صاحب إفريقية ، وعزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص القيسي فوافاها سنة عشر ، وعزل قريبا يقال : لسنة من ولايته ، واختلف : هل تقدّمه عثمان أو هو تقدّم عثمان؟ ثم ولي بعده الهيثم بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضا ، قدم في المحرم سنة إحدى عشرة ، وغزا أرض مقوشة فافتتحها. وتوفي سنة ثلاث عشرة ومائة لسنتين من ولايته ، وقدم بعده محمد بن عبد الله الأشجعي ،

__________________

(١) في ب : وآزر.

(٢) بخمس أرض الأندلس : أي يأخذ خمس ريعها.

(٣) في ب : الخثعمي.

١٩١

فولي شهرين ، ثم قدم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية ، فدخلها سنة ثلاث عشرة ، وغزا الإفرنجة ، وكانت له فيهم وقائع ، وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة ، في موضع يعرف ببلاط الشهداء ، وبه عرفت الغزوة ، وكانت ولايته سنة وثمانية أشهر ، ثم ولي عبد الملك بن قطن الفهري ، وقدم في رمضان سنة أربع عشرة فولي سنتين. ـ وقال الواقدي : أربع سنين ـ وكان ظلوما جائرا في حكومته ، وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة ، فأوقع بهم وغنم ، ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة ، وولي عقبة بن الحجاج السّلولي من قبل عبيد الله بن الحبحاب ، فأقام خمس سنين محمود السّيرة مجاهدا مظفّرا ، حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة ، وصار رباطهم على نهر ردونة (١). ثم وثب عليه عبد الملك بن قطن الفهري سنة إحدى وعشرين ، فخلعه وقتله. ويقال : أخرجه من الأندلس وولي مكانه إلى أن دخل بلج بن بشر بأهل الشام سنة أربع وعشرين ، فغلب عليه ، وولي الأندلس سنة أو نحوها» ..

وقال الرازي : ثار أهل الأندلس بأميرهم عقبة في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك ، وولّوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية ، فكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر. وتوفي بقرمونة في صفر سنة ثلاث وعشرين ، واستقام الأمر لعبد الملك. ثم دخل بلج بن بشر القشيري (٢) بجند الشام ناجيا من وقعة كلثوم بن عياض مع البربر بملوية ، فثار على عبد الملك ، وقتله وهو ابن سبعين سنة ، واستوثق له الأمر بعد مقتل عبد الملك ، وانحاز الفهريون إلى جانب ، فامتنعوا عليه ، وكاشفوه ، واجتمع إليهم من أنكر فعلته بابن قطن ، وقام بأمرهم قطن وأميّة ابنا عبد الملك بن قطن ، والتقوا ، فكانت الدائرة على الفهريين ، وهلك بلج من الجراح التي نالته في حربهم ، وذلك سنة أربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته ، ثم ولي ثعلبة بن سلامة الجذامي ، وغلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلج ، وانحاز عنه الفهريون فلم يطيعوه ، وولي سنتين أظهر فيهما العدل ودانت له الأندلس عشرة أشهر ، إلى أن مالت به العصبية في يمانيته ، ففسد أمره ، وهاجت الفتنة. وقدم أبو الخطّار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية ؛ ركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين ، فدان له أهل الأندلس وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي نسعة وابنا عبد الملك ، فلقيهم وأحسن إليهم ، واستقام أمره. وكان شجاعا كريما ذا رأي وحزم ، وكثر أهل الشام عنده ، ولم تحملهم قرطبة ، ففرّقهم في البلاد ، وأنزل أهل دمشق إلبيرة لشبهها بها ، وسمّاها دمشق ، وأنزل أهل حمص إشبيلية ، وسمّاها حمص ، وأهل قنّسرين جيّان ، وسمّاها قنّسرين ، وأهل الأردنّ ريّة

__________________

(١) في ب : رودنة.

(٢) في ب : بقرقشونة.

١٩٢

ومالقة ، وسمّاها (١) الأردنّ ، وأهل فلسطين شذونة ـ وهي شريش ـ وسمّاها فلسطين ، وأهل مصر تدمير ، وسمّاها مصر. وقفل ثعلبة إلى المشرق ، ولحق بمروان بن محمد ، وحضر حروبه ، وكان أبو الخطار أعرابيّا عصبيّا أفرط عند ولايته في التعصّب لقومه من اليمانية ، وتحامل على المضرية ، وأسخط قيسا ، وأمر في بعض الأيام بالصّميل بن حاتم كبير القيسية ـ وكان من طوالع بلج ، وهو الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ، ورأس على المضرية ـ فأقيم من مجلسه ، وتقنّع ، فقال له بعض الحجّاب وهو خارج من القصر : أقم عمامتك يا أبا الجوشن ، فقال : إن كان لي قوم فسيقيمونها ، فسار الصميل بن حاتم أميرهم يومئذ وزعيمهم ، وألّب (٢) عليه قومه ، واستعان بالمنحرفين عنه من اليمانية ، فخلع أبو الخطار سنة ثمان وعشرين لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته ، وقدّم مكانه ثوابة بن سلامة الجذامي ، وهاجت الحرب المشهورة. وخاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب إفريقية ، فكتب إلى ثوابة بعهده على الأندلس ، منسلخ رجب سنة تسع وعشرين ، فضبط الأندلس ، وقام بأمره الصّميل ، واجتمع عليه الفريقان. وهلك لسنة من ولايته. ووقع الخلاف بإفريقية ، والتاث أمر (٣) بني أمية بالمشرق ، وشغلوا عن قاصية الثغور (٤) بكثرة الخوارج ، وعظم أمر المسوّدة (٥) فبقي أهل الأندلس فوضى ، ونصبوا للأحكام خاصّة عبد الرحمن بن كثير. ثم اتفق جند الأندلس على اقتسام الإمارة بين المضريّة واليمانيّة وإدالتها بين الجندين سنة لكل دولة. وقدّم المضريّة على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة تسع وعشرين ، واستتمّ سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة. ثم وافته اليمانية لميعاد إدالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم ، فبيّتهم يوسف بمكان نزولهم من (٦) شقندة في قرى قرطبة بممالأة من الصّميل بن حاتم والقيسية وسائر المضرية ، فاستلحموهم ، وثار أبو الخطار فقاتله الصّميل وهزمه وقتله سنة تسع وعشرين ، واستبدّ يوسف بما وراء البحر من عدوة الأندلس ، وغلب اليمنية على أمرهم ، فاستكانوا لغلبه ، وتربّصوا الدوائر إلى أن جاء عبد الرحمن الداخل. وكان يوسف ولّى الصميل سرقسطة ، فلما ظهر أمر المسوّدة بالمشرق ثار الحباب الزهريّ بالأندلس داعيا لهم ، وحاصر الصميل بسرقسطة ، واستمدّ يوسف ، فلم يمدّه رجاء هلاكه لما كان يغصّ به. وأمدّته القيسية ،

__________________

(١) في ب : وسماهما.

(٢) ألّب عليه قومه : حرضهم عليه.

(٣) التاث أمر بني أمية : فسد واضطرب.

(٤) قاصيته الثغور : أي الثغور البعيدة.

(٥) المسوّدة : العباسيون ، وسمّوا بالمسوّدة ، لأنهم لبسوا السواد ، وكانت أعلامهم سوداء.

(٦) في ب : في من قرى.

١٩٣

فأفرج عنه الحباب ، وفارق الصميل سرقسطة فملكها الحباب ، وولّى يوسف الصميل على طليطلة إلى أن كان من عبد الرحمن الداخل ما كان. انتهى كلام وليّ الدين بن خلدون ببعض اختصار وقال بعض المؤرخين : إن عبد الله بن مروان أخا عبد الملك كان واليا على مصر وإفريقية ، فبعث إليه ابن أخيه الوليد الخليفة يأمره بإرسال موسى بن نصير إلى إفريقية ، وذلك سنة سبع وثمانين للهجرة ، فامتثل أمره في ذلك.

وقال الحميديّ في «جذوة المقتبس» : إن موسى بن نصير ولّي إفريقية والمغرب سنة سبع وسبعين فقدمها ومعه جماعة من الجند ، فبلغه أن بأطراف البلاد من هو خارج عن الطاعة ، فوجّه ولده عبد الله ، فأتاه بمائة ألف رأس من السبايا ، ثم ولده مروان إلى جهة أخرى ، فأتاه بمائة ألف رأس. وقال الليث بن سعد : بلغ الخمس ستين ألف رأس. وقال الصّدفي : لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير. ووجد أكثر مدن إفريقية خالية لاختلاف أيدي البربر عليها ، وكانت البلاد في قحط شديد ، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين ، وخرج بهم إلى الصحراء ومعه سائر الحيوانات ، وفرّق بينها وبين أولادها ، فوقع البكاء والصّراخ والضجيج ، وأقام على ذلك إلى منتصف النهار ، ثم صلّى وخطب الناس ولم يذكر الوليد بن عبد الملك ، فقيل له : ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ فقال : هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله تعالى ، فسقوا حتى رووا. ثم خرج موسى غازيا ، وتتّبع البربر ، وقتل فيهم قتلا ذريعا ، وسبى سبيا عظيما ، وسار حتى انتهى إلى السّوس الأدنى لا يدافعه أحد. فلما رأى بقية البربر ما نزل بهم استأمنوا ، وبذلوا له الطاعة ، فقبل منهم ، وولّى عليهم واليا ، واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد البربري ، ويقال : إنه من الصّدف ، وترك عنده تسعة عشر ألفا من البربر بالأسلحة والعدّة الكاملة ، وكانوا قد أسلموا وحسن إسلامهم ، وترك موسى عندهم خلقا يسيرا من العرب ليعلّموا البربر القرآن وفرائض الإسلام ، ورجع إلى إفريقية ، ولم يبق بالبلاد من ينازعه من البربر ولا من الروم. ولما استقرّت له القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس فغزاها في اثني عشر ألفا من البربر خلا اثني عشر رجلا ، وصعد على الجبل المنسوب إليه يوم الاثنين خامس رجب سنة اثنتين وتسعين ، وذكر عن طارق أنه كان نائما في المركب وقت التعدية ، فرأى النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد ، هكذا ذكر ابن بشكوال. وقيل : إن موسى ندم على تأخّره ، وعلم أنّ طارقا إن فتح شيئا نسب الفتح إليه دونه ، فأخذ في جمع العساكر ، وولّى على القيروان ابنه عبد الله ، وتبع طارقا فلم يدركه إلّا بعد الفتح ، وقال بعض العلماء : إن موسى بن نصير كان عاقلا شجاعا كريما تقيّا لله تعالى ، ولم يهزم له قطّ جيش ، وكان والده نصير على جيوش معاوية ، ومنزلته لديه مكينة ، ولمّا خرج معاوية لصفّين لم يخرج معه ، فقال له : ما منعك من الخروج معي ولي عندك يد لم تكافئني

١٩٤

عليها؟ فقال : لم يمكنّي أن أشكرك بكفري من هو أولى بشكري منك ، فقال : من هو؟ فقال : الله عزّ وجلّ ، فأطرق مليّا ثم قال : أستغفر الله ، ورضي عنه.

رجع إلى حديث طارق ـ قال بعض المؤرّخين : كان لذريق ملك الأندلس استخلف عليها شخصا يقال له تدمير ، وإليه تنسب تدمير بالأندلس ، فلما نزل طارق من الجبل كتب تدمير إلى لذريق : إنه قد نزل بأرضنا قوم لا ندري أمن السماء هم أم من الأرض ، فلما بلغ لذريق ذلك ـ وكان قصد بعض الجهات البعيدة لغزو له في بعض أعدائه ـ رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس ، ومعه العجل تحمل الأموال والمتاع ، وهو على سريره بين دابّتين ، وعليه مظلّة مكلّلة بالدّرّ والياقوت والزبرجد. فلما بلغ طارقا دنوّه قام في أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم حثّ المسلمين على الجهاد ، ورغّبهم ثم قال : أيها الناس ، أين المفرّ؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم ، وليس لكم والله إلّا الصدق والصبر ، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام ، في مأدبة اللئام ، وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته ، وأقواته موفورة ، وأنتم لا وزر (١) لكم إلّا سيوفكم ، ولا أقوات لكم إلّا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم ، وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم ، ولم تنجزوا لكم أمرا ، ذهبت ريحكم (٢) ، وتعوّضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم ، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة (٣) هذا الطاغية ، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة ، وإنّ انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذّركم أمرا أنا عنه بنجوة ، ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي ، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقّ قليلا ، استمعتم بالأرفه الألذّ طويلا ، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي ، فما حظّكم فيه بأوفى من حظّي ، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان ، من بنات اليونان ، الرافلات في الدّرّ والمرجان ، والحلل المنسوجة بالعقيان (٤) ، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان ، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا ، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا (٥) وأختانا ، ثقة منه بارتياحكم للطّعان ، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ، ليكون حظّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته ، وإظهار دينه بهذه الجزيرة ، وليكون مغنمها خالصة لكم

__________________

(١) لا وزر : لا ملجأ.

(٢) ذهبت ريحكم : كناية عن ضياعكم وضعفكم ، وفي القرآن الكريم (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).

(٣) المناجزة : القتال.

(٤) العقيان : الذهب الخالص.

(٥) في ب : صهارا.

١٩٥

من دونه ومن دون المؤمنين سواكم ، والله تعالى وليّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين ، واعلموا أني أوّل مجيب إلى ما دعوتكم إليه ، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى ، فاحملوا معي ، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره ، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه ، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه ، واحملوا بأنفسكم عليه ، واكتفوا الهمّ من فتح هذه الجزيرة بقتله ، فإنهم بعده يخذلون».

«فلما فرغ من تحريض أصحابه على الصبر في قتال لذريق وأصحابه وما وعدهم من الخير الجزيل انبسطت نفوسهم ، وتحقّقت آمالهم ، وهبّت رياح النصر عليهم ، وقالوا له : قد قطعنا الآمال مما يخالف ما عزمت عليه ، فاحضر إليه فإننا معك وبين يديك. فركب وأصحابه فباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح. فلما أصبح الفريقان تكتّبوا (١) وعبّوا جيوشهم ، وحمل لذريق وهو على سريره ؛ وقد حمل على رأسه رواق ديباج يظلّله ، وهو مقبل في غابة من البنود والأعلام ، وبين يديه المقاتلة والسلاح ، وأقبل طارق في أصحابه عليهم الزّرد ، من فوق رؤوسهم العمائم البيض ، وبأيديهم القسيّ العربية ، وقد تقلّدوا السيوف ، واعتقلوا الرماح ، فلما نظر إليهم لذريق حلف وقال : إن هذه الصور هي التي رأيناها ببيت الحكمة ببلدنا ، فداخله منهم الرّعب. فلما رأى طارق لذريق قال : هذا طاغية القوم ، فحمل وحمل أصحابه معه ، فتفرّقت المقاتلة من بيد يدي لذريق ، فخلص إليه طارق ، فضربه بالسيف على رأسه ، فقتله على سريره ، فلمّا رأى أصحابه مصرع صاحبهم اقتحم الجيشان ، وكان النصر للمسلمين ، ولم تقف هزيمة العدو على موضع ، بل كانوا يسلمون بلدا بلدا ومعقلا معقلا».

«ولمّا سمع موسى بن نصير بما حصل من النصرة لطارق عبر الجزيرة بمن معه ، ولحق بمولاه طارق ، فقال له : يا طارق ، إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس ، فاستبحه هنيئا مريئا ، فقال له طارق : أيّها الأمير ، والله لا أرجع عن قصدي هذا ، ما لم أنته إلى البحر المحيط أخوض فيه بفرسي ، يعني البحر الشماليّ الذي تحت بنات نعش ، ولم يزل طارق يفتح وموسى معه إلى أن بلغ إلى جلّيقيّة وهي ساحل البحر المحيط» ، انتهى.

وقال الحافظ الحميدي في كتابه «جذوة المقتبس» : «إن موسى بن نصير نقم على مولاه طارق إذ غزا بغير إذنه ، وهمّ بقتله ، ثم ورد عليه كتاب الوليد بإطلاقه ، فأطلقه وخرج معه إلى الشام» ، انتهى.

__________________

(١) تكتّبوا : تجمعوا كتائب ، والكتائب جمع كتيبة ، وهي الفرقة من الجيش.

١٩٦

وقول لذريق : «إن هذه الصور هي التي رأيناها في بيت الحكمة إلخ» أشار به إلى بيت حكمة اليونان ، وكان من خبره ـ فيما حكى بعض علماء التاريخ ـ أن اليونان ، وهم الطائفة المشهورة بالحكم ، كانوا يسكنون بلاد الشرق قبل عهد الإسكندر ، فلما ظهرت الفرس ، واستولت على البلاد ، وزاحمت اليونان على ما كان بأيديهم من الممالك ، انتقل اليونان إلى جزيرة الأندلس ، لكونها طرفا في آخر العمارة ، ولم يكن لها ذكر إذ ذاك ، ولا ملكها أحد من الملوك المعتبرة ولم تك عامرة ، وكان أوّل من عمّر فيها واختطّها أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام ، فسمّيت باسمه ، ولما عمرت الأرض بعد الطوفان كانت الصورة المعمورة منها عندهم على شكر طائر رأسه المشرق ، والجنوب والشمال رجلاه ، وما بينهما بطنه ، والمغرب ذنبه ، وكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخسّ أجزاء الطير. وكانت اليونان لا ترى فناء الأمم إلّا (١) بالحروب لما فيها من الإضرار والاشتغال عن العلوم التي كان الاشتغال بها عندهم من أهم الأمور ، فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس. فلما صاروا إليها أقبلوا على عمارتها ، فشقّوا الأنهار ، وبنوا المعاقل ، وغرسوا الجنات والكروم ، وشيّدوا الأمصار. وملؤوها حرثا ونسلا وبنيانا ، فعظمت وطابت ، حتى قال قائلهم لمّا رأى بهجتها : إن الطائر الذي صوّرت هذه العمارة على شكله ، وكان المغرب ذنبه ، كان طاووسا معظم جماله في ذنبه.

وحكي أن الرشيد هارون ـ رحمه الله! ـ لمّا حضر بين يديه بعض أهل المغرب قال الرشيد : يقال : إن الدنيا بمثابة طائر ذنبه المغرب ، فقال الرجل : صدقوا يا أمير المؤمنين ، وإنه طاووس ، فضحك أمير المؤمنين الرشيد ، وتعجّب من سرعة جواب الرجل وانتصاره لقطره.

رجع ـ قال : فاغتبط اليونان بالأندلس أتمّ اغتباط ، واتّخذوا دار الحكمة والملك بها طليطلة ؛ لأنها أوسط البلاد ، وكان أهمّ الأمور عندهم تحصينها عمّن يتصل به خبرها من الأمم ، فنظروا فإذا هو أنه لا يحسدهم على رغد العيش إلّا أرباب الشّظف والشقاء والتعب ، وهو يومئذ طائفتان : العرب ، والبربر ، فخافوهم على جزيرتهم العامرة ، فعزموا على أن يتخذوا لهذين الجنسين من الناس طلّسما ، فرصدوا لذلك أرصادا. ولما كان البربر بالقرب منهم ، وليس بينهم سوى تعدية البحر ، ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع ، خارجة عن الأوضاع ، ازدادوا منهم نفورا ، وأكثر (٢) تحذرهم من نسب أو مجاورة ، حتى ثبت ذلك في طبائعهم ، وصار بعضه مركّبا في غرائزهم ، فلمّا علم البربر عداوة أهل الأندلس وبعضهم لهم ، أبغضوهم وحسدوهم ، فلم تجد أندلسيّا إلّا مبغضا بربريّا ، وبالعكس ، إلّا أن البربر أحوج إلى أهل الأندلس ؛ لوجود بعض الأشياء عندهم وفقدها ببلاد البربر.

__________________

(١) إلا : ساقطة في ب.

(٢) في ب : وكثر.

١٩٧

وكان بنواحي غرب الأندلس ملك يوناني بجزيرة يقال لها «قادس» وكانت له ابنة في غاية الجمال ، فتسامع بها ملوك الأندلس ، وكانت الأندلس ، كثيرة الملوك ، لكل بلدة أو بلدتين ملك ، فخطبوها ، وخشي أبوها إن زوّجها من واحد أسخط الباقين ، فتحيّر ، وأحضر ابنته ، وكانت الحكمة مركّبة في طباع القوم ذكورهم وإناثهم ، ولذا قيل ؛ إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض : أدمغة اليونان ، وأيدي أهل الصين ، وألسنة العرب ؛ فقال لها : يا بنيّة ، إني أصبحت على حيرة في أمرك ممّن يخطبك من الملوك ، وما أرضيت واحدا إلّا أسخطت الباقين ، فقالت له : اجعل الأمر إليّ تخلص ، فقال : وما تقترحين؟ فقالت : أن يكون ملكا حكيما ، فقال ؛ نعم ما اخترته لنفسك ، فكتب في أجوبة الملوك الخطّاب ، أنها اختارت من الأزواج الملك الحكيم. فلما وقفوا على الجواب سكن من لم يكن حكيما. وكان في الملوك الخاطبين حكيمان ، فكتب كل واحد منهما : أنا الملك الحكيم. فلما وقف على كتابيهما قال لها : يا بنية ، بقي الأمر على إشكال ، وهذان ملكان حكيمان ، أيّهما أرضيت أسخطت الآخر ، فقالت : سأقترح على كل واحد منهما أمرا يأتي به ، بأيّهما سبق إلى الفراغ مما التمست كنت زوجته ، قال : وما الذي تقترحين عليهما؟ قالت : إنّا ساكنون بهذه الجزيرة ، ومحتاجون إلى رحيّ (١) تدور بها ، وإني مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذب الجاري إليها من ذلك البرّ ، ومقترحة على الآخر أن يتّخذ لي طلّسما نحصّن به جزيرة الأندلس من البربر ، فاستظرف أبوها ذلك ، وكتب إلى الملكين بما قالت ابنته ، فأجاباه إلى ذلك ، وتقاسماه على ما اختارا ، وشرع كل واحد منهما في عمل ما أسند إليه من ذلك.

فأما صاحب الرّحيّ ، فإنه عمد إلى أشكال اتّخذها من الحجارة ، نضد (٢) بعضها إلى بعض في البحر المالح الذي بين جزيرة الأندلس والبرّ الكبير في الموضع المعروف بزقاق سبتة ، وسدّد الفرج (٣) التي بين الحجارة بما اقتضت حكمته ، وأوصل تلك الحجارة من البرّ إلى الجزيرة ، وآثاره باقية إلى اليوم في الزّقاق الذي بين سبتة والجزيرة الخضراء ، وأكثر أهل الأندلس يزعمون أنّ هذا أثر قنطرة كان الإسكندر قد عملها ليعبر عليها الناس من سبتة إلى الجزيرة ، والله أعلم أيّ القولين أصحّ. غير أن الشائع إلى الآن عند الناس هو الثاني. فلمّا تم تنضيد الحجارة للملك الحكيم ، جلب الماء العذب من جبل عال في البر الكبير ، وسلّطه من ساقية محكمة ، وبنى بجزيرة الأندلس رحى على هذه الساقية.

__________________

(١) في ب : أرحيّ.

(٢) نضد ـ من باب نصر ـ ونضّد : جعل بعضها فوق بعض بشكل متسق متراصف.

(٣) الفرج : جمع فرجة ، وهي المنفرج والشق بين الشيئين.

١٩٨

«وأما صاحب الطّلّسم ، فإنه أبطأ عمله بسبب انتظار الرصد الموافق لعمله ، غير أنه عمل أمره ، وأحكمه ، وابتنى بنيانا مربعا من حجر أبيض على ساحل البحر في رمل عالج (١) حفر أساسه إلى أن جعله تحت الأرض بمقدار ارتفاعه فوق الأرض ليثبت ، فلما انتهى البناء المربّع إلى حيث صوّر من النحاس الأحمر والحديد المصفّى المخلوطين بأحكم الخلط صورة رجل بربري ، وله لحية ، وفي رأسه ذؤابة من شعر جعد قائمة في رأسه لجعودتها ، وهو متأبّط بصورة كساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى بألطف تصوير وأحكمه ، في رجله نعل ، وهو قائم من رأس البناء على مستهدف بمقدار رجليه فقط ، وهو شاهق في الهواء ، طوله نيّف عن ستّين أو سبعين ذراعا ، وهو محدودب (٢) الأعلى ، إلى أن ينتهي ما سعته قدر ذراع ، وقد مدّ يده اليمنى بمفتاح قفل قابضا عليه مشيرا إلى البحر كأنه يقول : لا عبور. وكان من تأثير هذا الطّلّسم في البحر الذي تجاهه أنه لم ير قطّ ساكنا ولا كانت تجري فيه قطّ سفينة بربر حتى سقط المفتاح من يده. وكان الملكان اللذان عملا الرّحيّ والطّلّسم يتسابقان إلى فراغ العمل ، إذ بالسّبق يستحق زواج المرأة ، وكان صاحب الرّحيّ فرغ أولا لكنه أخفى أمره من صاحب الطّلّسم لئلّا يترك عمله فيبطل الطّلّسم ، لتحظى المرأة بالرحيّ والطّلّسم. فلما علم باليوم الذي يفرغ صاحب الطلسم في آخره أجرى الماء في الجزيرة من أوله وأدار الرّحيّ ، واشتهر ذلك ، فاتصل الخبر بصاحب الطّلسم وهو في أعلى القبة يصقل وجهه ، وكان الطّلسم مذهبا فلما تحقّق أنه مسبوق ضعفت نفسه فسقط من أعلى البناء ميتا ، وحصل صاحب الرّحيّ على المرأة والرحي والطّلّسم. وكان من تقدّم من ملوك اليونان يخشى على الأندلس من البربر للسبب الذي قدّمنا ذكره ، فاتفقوا وجعلوا الطّلّسمات في أوقات اختاروا أرصادها ، وأودعوا تلك الطّلّسمات تابوتا من الرخام ، وتركوه في بيت بطليطلة وركّبوا على ذلك الباب قفلا ، تأكيدا لحفظ ذلك البيت ، فاستمرّ أمرهم على ذلك.

ولما حان وقت انقراض دولة من كان بالأندلس ودخول العرب والبربر إليها ، وذلك بعد مضيّ ستة وعشرين ملكا من ملوكهم من تاريخ عمل الطلسمات بطليطلة ، وكان لذريق المذكور آنفا هو تمام السابع والعشرين من ملوكهم ، فلما اقتعد أريكة الملك قال لوزرائه وخواصّ دولته وأهل الرأي منهم : قد وقع في نفسي من أمر هذا البيت الذي عليه ستة وعشرون قفلا شيء ، وأريد أن أفتحه لأنظر ما فيه ؛ لأنه لم يعمل عبثا ، فقالوا : أيها الملك ، صدقت ، إنه لم يصنع

__________________

(١) رمل عالج : كثير متراكم بعضه فوق بعض.

(٢) في ب : محدود.

١٩٩

عبثا ، ولم يقفل سدى ، والرأي والمصلحة أن تلقي أنت أيضا عليه قفلا أسوة بمن تقدّمك من الملوك ، وكان آباؤك وأجدادك لم يهملوا هذا ، فلا تهمله ، وسر سيرهم ، فقال لهم : إن نفسي تنازعني إلى فتحه ، ولا بدّ لي منه ، فقالوا له : إن كنت تظن أن فيه مالا فقدّره ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره ، ولا تحدث علينا بفتحه حادثا لا نعرف عاقبته ، فأصرّ على ذلك ، وكان رجلا مهيبا ، فلم يقدروا على مراجعته ، وأمر بفتح الأقفال ، وكان على كل قفل مفتاحه معلقا. فلما فتح الباب لم ير في البيت شيئا إلّا مائدة عظيمة من ذهب وفضة مكلّلة بالجواهر ، وعليها مكتوب : هذه مائدة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ، ورأى في البيت ذلك التابوت ، وعليه قفل ، ومفتاحه معلّق ، ففتحه ، فلم يجد فيه سوى رقّ (١) ، وفي جوانب التابوت صور فرسان مصوّرة بأصباع محكمة التصوير على أشكال العرب ، وعليهم الفراء ، وهم معمّمون على ذوائب جعد ، ومن تحتهم الخيل العربية ، وهم متقلّدون السيوف المحلّاة ، معتقلون الرماح ، فأمر بنشر ذلك الرّقّ ، فإذا فيه : متى فتح هذا البيت وهذا التابوت المقفلان بالحكمة دخل القوم الذين صورهم في التابوت إلى جزيرة الأندلس ، وذهب ملك من فيها من أيديهم ، وبطلت (٢) حكمتهم ؛ فلما سمع لذريق ما في الرّقّ ندم على ما فعل ، وتحقّق انقراض دولتهم ، فلم يلبث إلّا قليلا حتى سمع أن جيشا وصل من المشرق جهّزه ملك العرب ليفتح بلاد الأندلس ، انتهى.

فهذا هو بيت الحكمة الذي أشار إليه لذريق ، والله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك كله.

على أن في هذا السياق مخالفة لما سنذكره عن بعض ثقات مؤرّخي الأندلس وغيرهم في شأن المائدة وغيرها ، وما ذكر في هذه القصة من جلب الماء من برّ العدوة إلخ فيه بعد عندي ؛ لأن بلاد الأندلس أكثر بلاد الله مياها وأنهارا ، فأنّى تحتاج إلى جلب الماء إليها من العدوة الأخرى؟ إلّا أن يقال : إن المرأة أرادت تعجيز الرجل بذلك ، أو اختبار حكمته حتى يفعل هذا الأمر الغريب ، وعلم الله من وراء ذلك كله ، وفوق كل ذي علم عليم ، ومنتهى العلم إلى الله الحكيم.

وقال ابن حيّان في «المقتبس» : «ذكروا أن لذريق لم يكن من أبناء الملوك ، ولا بصحيح النسب في القوط ، وأنه إنما نال الملك من طريق الغصب والتسوّر عندما مات غيطشة (٣) الملك الذي كان قبله ، وكان أثيرا لديه ، مكينا ، فاستصغر أولاده لمكانه ، واستمال طائفة من الرجال

__________________

(١) الرقّ : جلد رقيق يكتب عليه ، وفي التنزيل العزيز(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ).

(٢) الذوائب : جمع ذؤابة ، وهي ضفيرة الشعر ، والجعد : جمع جعداء وهي التي فيها تقبض والتواء.

(٣) في ب : إغطشة.

٢٠٠