نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

هذا النّعيم الذي كنّا نحدّثه

ولا سبيل له إلّا بآذان

فقال له أبو بكر بن سعيد : وإلى الآن لا سبيل له إلّا بآذان (١)؟ فقال : حتى يبعث الله ولد زنى كلما أنشدت هذه الأبيات قال : إنها (٢) لأعمى ، فقال : أمّا أنا ، فلا أنطق بحرف ، فقال : من صمت نجا. وكانت نزهون بنت القلاعي حاضرة فقالت : وتراك يا أستاذ ، قديم النعمة بمجمر ندّ وغناء وشراب ، فتعجب من تأتّيه وتشبّهه بنعيم الجنة ، وتقول : ما كان يعلم إلّا بالسماع ، ولا يبلغ إليه بالعيان؟ ولكن من يجيء من حصن المدوّر ، وينشأ بين تيوس وبقر ، من أين له معرفة بمجالس النعيم؟ فلمّا استوفت كلامها تنحنح الأعمى ، فقالت له : ذبحة ، فقال : من هذه الفاضلة؟ فقالت : عجوز مقام أمّك ، فقال : كذبت ، ما هذا صوت عجوز ، إنّما هذه نغمة قحبة محترقة تشمّ روائح هنها (٣) على فراسخ (٤) ، فقال له أبو بكر : يا أستاذ ، هذه نزهون بنت القلاعي الشاعرة الأديبة ، فقال : سمعت بها ، لا أسمعها الله خيرا! ولا أراها إلّا أيرا! فقالت له : يا شيخ سوء تناقضت ، وأيّ خير للمرأة مثل ما ذكرت؟ ففكّر ساعة ثم قال : [الطويل]

على وجه نزهون من الحسن مسحة

وإن كان قد أمسى من الضوء عاريا

قواصد نزهون توارك غيرها

ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا (٥)

فأعملت فكرها ثم قالت : [المجتث]

قل للوضيع مقالا

يتلى إلى حين يحشر

من المدوّر أنشئ

ت والخرا منه أعطر

حيث البداوة أمست

في مشيها تتبختر

لذاك أمسيت صبّا

بكلّ شيء مدوّر

خلقت أعمى ولكن

تهيم في كل أعور

جازيت شعرا بشعر

فقل لعمري من اشعر

__________________

(١) هنا تعريض بأن المخاطب أعمى.

(٢) في ب : إنّ قائلها أعمى.

(٣) هن المرأة : فرجها.

(٤) في ب : فرسخ.

(٥) هذا البيت في الأصل للمتنبي يمتدح كافورا الإخشيدي :

قواصد كافور توارك غيره

ومن قصد البحر استقلّ السواقيا

١٦١

إن كنت في الخلق أنثى

فإنّ شعري مذكّر

فقال لها اسمعي : [المتقارب]

ألا قل لنزهونة ما لها

تجرّ من التّيه أذيالها

ولو أبصرت فيشة شمّرت

 ـ كما عوّدتني ـ سربالها

فحلف أبو بكر بن سعيد أن لا يزيد أحدهما على الآخر في هجو (١) كلمة ، فقال المخزومي : أكون هجّاء الأندلس وأكفّ عنها دون شيء؟ فقال : أنا أشتري منك عرضها فاطلب ، فقال : بالعبد الذي أرسلته فقادني إلى منزلك ، فإنه ليّن اليد رقيق المشي ، فقال أبو بكر : لو لا كونه صغيرا كنت أبلغك به مرادك ، وأهبه لك ، ففهم قصده وقال : أصبر عليه حتى يكبر ، ولو كان كبيرا ما آثرتني به على نفسك ، فضحك أبو بكر ، وقال : إن لم تهج نظما هجوت نثرا ، فقال : أيها الوزير ، لا تبديل لخلق الله. وانفصل المخزومي بالعبد بعد ما أصلح الوزير بينه وبين نزهون ، انتهى.

وفي كتاب «الدرّ المنضد ، في وفيات أعيان أمة محمد» تأليف الإمام (٢) صارم الدين إبراهيم بن دقماق ، قال أبو القاسم بن خلف : كان ـ يعني المخزومي المذكور ـ حيّا بعد الأربعين وخمسمائة ، انتهى.

ونقلت من كتاب «قطب السرور» لابن الرقيق المغربي ، ما ملخّصه : وممّن أدركته وعاشرته عبد الوهاب بن حسين بن جعفر الحاجب ، وذكرته هنا ؛ لأنه ملحق بالأمراء المتقدمين غير خارج منهم ولا مقصّر عنهم ، بل كان واحد عصره في الغناء الرائق ، والأدب الرائع ، والشعر الرقيق ، واللفظ الأنيق ، ورقّة الطبع ، وإصابة النادر ، والتشبيه المصيب ، والبديهة التي لا يلحق فيها ، مع شرف النفس ، وعلوّ الهمّة ، وكان قد قطع عمره ، وأفنى دهره ، في اللهو واللعب ، والفكاهة والطرب ، وكان أعلم الناس بضرب العود ، واختلاف طرائقه ، وصنعة اللحون ، وكثيرا ما يقول المعاني اللطيفة في الأبيات الحسنة ، ويصوغ عليها الألحان المطربة البديعة المعجبة ، اختراعا منه وحذقا ، وكانت له في ذلك قريحة وطبع ، وكان إذا لم يزره أحد من إخوانه أحضر مائدته وشرابه عشرة من أهل بيته ، منهم ولده وعبد الله ابن أخيه وبعض غلمانه ، وكلّهم يغنّي فيجيد ، فلا يزالون يغنّون بين يديه حتى يطرب ، فيدعو بالعود ويغني لنفسه ولهم ، وكان بشارة الزامر الذي يزمر عليه من حذّاق زمرة المشرق ، وكان بعيد

__________________

(١) في ب : هجوه.

(٢) في ب : الأمير.

١٦٢

الهمّة سمحا بما يجد ، تغلّ عليه ضياعه كلّ عام أموالا جليلة ، فلا تحول السنة حتى ينفد جميع ذلك ويستسلف غيره ، فكان لا يطرأ من المشرق مغنّ إلّا سأل من يقصد بهذا الشأن ، فيدلّ عليه ، فمن وصله منهم استقبله بصنوف البرّ والإكرام ، وكساه وخلطه بنفسه ولم يدعه إلى أحد من الناس ، فلا يزال معه في صبوح وغبوق (١) ، وهو مجدّد له كل يوم كرامة ، حتى يأخذ جميع ما معه من صوت مطرب أو حكاية نادرة.

وجلس يوما وقد زاره رجلان من إخوانه ، وحضر أقرباؤه ، فطعموا وشربوا وأخذوا في الغناء ، فارتجّ المجلس (٢) ، إذ دخل عليه بعض غلمانه فقال : بالباب رجل غريب عليه ثياب السفر ، ذكر أنّه ضيف ، فأمر بإدخاله ، فإذا رجل أسمر سناط (٣) ، رثّ الهيئة ، فسلّم عليه ، قال : أين بلد الرجل؟ قال : البصرة ، فرحّب به ، وأمره بالجلوس ، فجلس مع الغلمان في صفّة (٤) ، وأتي بطعام فأكل وسقي أقداحا ، ودار الغناء في المجلس ، حتى انتهى إلى آخرهم ، فلمّا سكتوا اندفع يغني بصوت نديّ وطبع حسن : [الهزج]

ألا يا دار ما الهجر

لسكّانك من شاني

سقيت الغيث من دار

وإن هيّجت أشجاني

ولو شئت لما استسقي

ت غيثا غير أجفاني

بنفسي حلّ أهلوك

وإن بانوا بسلواني

وما الدّهر بمأمون

على تشتيت خلّاني

فطرب عبد الوهاب وصاح ، وتبيّن الحذق في إشارته ، والطّيب في طبعه ، وقال : يا غلام ، خذ بيده إلى الحمّام ، وعجّل عليّ به ، فأدخل الحمّام ، ونظف ، ثم دعا عبد الوهاب بخلعة من ثيابه فألقيت عليه ، ورفعه فأجلسه عن يساره ، وأقبل عليه وبسطه ، فغنى له : [مخلع البسيط]

قومي امزجي التّبر باللّجين (٥)

واحتملي الرّطل باليدين

__________________

(١) الصّبوح : الشرب في وقت الغداة ، والغبوق : الشرب وقت العشي.

(٢) ارتجّ المجلس : اضطرب.

(٣) سناط ـ بكسر السين ـ ليس في لحيته وعارضيه شعر.

(٤) الصفّة : المكان الظليل.

(٥) التبر في الأصل : الذهب ، وأراد به هنا الخمر ذات اللون الأصفر ، واللجين في الأصل الفضة وأراد به الماء الصافي ، والمقصود : امزجي الخمر بالماء.

١٦٣

واغتنمي غفلة اللّيالي

فربّما أيقظت لحين

فقد لعمري أقرّ منّا

هلال شوّال كلّ عين

ذات الخلاخيل أبصرته

كنصف خلخالها اللّجين (١)

فطرب وشرب ، واستزاده ، فغنّاه : [الكامل]

من لي على رغم الحسود بقهوة

بكر ربيبة حانة عذراء (٢)

موج من الذهب المذاب تضمّه

كأس كقشر الدّرّة البيضاء

والنّجم في أفق السماء كأنّه

عين تخالس غفلة الرّقباء

فشرب عبد الوهاب ثم قال : زدني ، فغنّاه : [الطويل]

وأنت الذي أشرقت عيني بمائها

وعلّمتها بالهجر أن تهجر الغمضا

وأغرقتها بالدّمع حتى جفونها

لينكر من فقد الكرى بعضها بعضا

فمرّ يوم من أحسن الأيام وأطيبها ، ووصله وأحسن إليه ، ولم يزل عنده مقرّبا مكرّما ، وكان خليعا ماجنا مشتهرا بالنبيذ ، فخلّاه وما أحبّ ، ثمّ وصف له الأندلس وطيبها ، وكثرة خمورها ، فمضى إليها ومات بها ، وعلى نحو هذه الحال كان يفعل بكل طارىء يطرأ من المشرق ، ولو ذكرتهم لطال بهم الكتاب ، انتهى.

وغرضي من إيراد هذه الحكاية هنا كونه وصف للمشرقيّ الأندلس وطيبها ، وذلك أمر لا يشكّ فيه ولا يرتاب ، والله المسؤول في حسن المتاب.

ورأيت في بعض كتب تاريخ الأندلس في ترجمة السلطان باديس الصّنهاجيّ صاحب غرناطة ، ما نصّه : وهو الذي أكمل ترتيب قصبة مالقة ، وكان أفرس الناس ، وأنبلهم ، ذا مروءة ونجدة ، وقصره بغرناطة ليس ببلاد الإسلام والكفر مثله ، فيما قيل ، انتهى.

وهذا القصر هو الذي عناه لسان الدين بن الخطيب في قصيدته السينية المذكورة في الباب الخامس من القسم الثاني من هذا الكتاب فلتراجع ثمة (٣).

وذكر غير واحد من المحدّثين والمؤرّخين أن مدينة سرقسطة لا يدخلها الثعبان من قبل

__________________

(١) في ب : اللجيني.

(٢) القهوة : الخمر.

(٣) ثمة : هناك.

١٦٤

نفسه ، وإذا أدخله أحد لم يتحرّك ، ونظير هذا المعنى في بعض الحيوانات بالنسبة إلى بعض البلاد كثير ، وذلك برصد أو طلّسم ، وقد استطرد بعض علماء أصول الدين ذلك عندما تكلّموا على السحر حسبما قرّر في محله ، والله أعلم.

هكذا رأيت في كلام بعض علماء المشارقة ، والذي رأيته لبعض مؤرّخي المغرب في سرقسطة أنها لا تدخلها عقرب ولا حيّة إلّا ماتت من ساعتها ، ويؤتى بالحيّات والعقارب إليها حيّة فبنفس ما تدخل إلى جوف البلد تموت ، قال : ولا يتسوّس فيها شيء من الطعام ، ولا يعفن ، ويوجد فيها القمح من مائة سنة ، والعنب المعلّق من ستة أعوام ، والتين والخوخ وحب الملوك والتفاح والإجّاص اليابسة من أربعة أعوام ، والفول والحمص من عشرين سنة ، ولا يسوّس فيها خشب ولا ثوب كان صوفا أو حريرا أو كتّانا ، وليس في بلاد الأندلس أكثر فاكهة منها ، ولا أطيب طعما ، ولا أكبر جرما ، والبساتين محدقة بها من كل ناحية ثمانية أميال ، ولها أعمال كثيرة : مدن وحصون وقرى مسافة أربعين ميلا ، وهي تضاهي مدن العراق في كثرة الأشجار والأنهار ، وبالجملة فأمرها عظيم ، وقد أسلفنا ذكرها.

واعلم أنّ بأرض الأندلس من الخصب والنّضرة وعجائب الصنائع وغرائب الدّنيا ما لا يوجد مجموعة غالبا في غيرها ، فمن ذلك ما ذكره الحجاري في المسهب : أنّ السّمّور (١) الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة يوجد في البحر المحيط بالأندلس من جهة جزيرة برطانية ، ويجلب إلى سرقسطة ويصنع بها. ولمّا ذكر ابن غالب وبر السّمّور الذي يصنع بقرطبة قال : هذا السمّور المذكور هنا لم أتحقّق ما هو ، ولا ما عني به ، إن كان هو نباتا عندهم أو وبر الدابة المعروفة ، فإن كانت الدابة المعروفة فهي دابّة تكون في البحر ، وتخرج إلى البرّ ، وعندها قوّة ميز. وقال حامد بن سمحون (٢) الطبيب صاحب كتاب الأدوية المفردة : هو حيوان يكون في بحر الروم ، ولا يحتاج منه إلّا إلى خصاه ، فيخرج الحيوان من البحر في البرّ ، فيؤخذ وتقطع خصاه ، ويطلق ، فربّما عرض للقنّاصين مرة أخرى ، فإذا أحسّ بهم وخشي أن لا يفوتهم استلقى على ظهره وفرج بين فخذيه ليرى موضع خصييه خاليا ، فإذا رآه القناصون كذلك تركوه. قال ابن غالب : ويسمّى هذا الحيوان أيضا الجندبادستر ، والدواء الذي يصنع من خصييه من الأدوية الرفيعة ، ومنافعه كثيرة ، وخاصيته في العلل الباردة ، وهو حارّ يابس في الدرجة الرابعة.

__________________

(١) السّمور : حيوان شبيه بالسنور. جريء ، لين الجلد ، فروه ثمين غال ، ويصنع من خصييه أدوية رفيعة ومنافعه كثيرة.

(٢) في ب : حامد بن سمجون.

١٦٥

والقنلية حيوان أدقّ من الأرنب وأطيب في الطعم وأحسن وبرا ، وكثيرا ما يلبس فراؤها ، ويستعملها أهل الأندلس من المسلمين والنصارى ، ولا توجد في برّ البربر إلّا ما جلب منها إلى سبتة فنشأ في جوانبها. قال ابن سعيد : وقد جلبت في هذه المدّة إلى تونس حضرة إفريقية.

ويكون بالأندلس من الغزال والأيّل (١) وحمار الوحش وبقره وغير ذلك ممّا لا يوجد في غيرها كثيرا (٢). وأما الأسد ، فلا يوجد فيها البتّة ، ولا الفيل والزرافة وغير ذلك ممّا يكون في أقاليم الحرارة ، ولها سبع يعرف باللّب أكبر بقليل من الذئب في نهاية من القحة (٣) ، وقد يفترس الرجل إذا كان جائعا.

وبغال الأندلس فارهة ، وخيلها ضخمة الأجسام ، حصون للقتال لحملها الدروع وثقال السلاح والعدو في خيل البرّ الجنوبيّ.

ولها من الطيور الجوارح وغيرها ما يكثر ذكره ويطول ، وكذلك حيوان البحر ، ودوابّ بحرها المحيط في نهاية من الطول والعرض.

قال ابن سعيد : عاينت من ذلك العجب ، والمسافرون في البحر يخافون منها لئلّا تقلب المراكب ، فيقطعون الكلام ، ولها نفخ بالماء من فيها يقوم في الجو ذا ارتفاع مفرط.

وقال ابن سعيد : قال المسعودي في «مروج الذهب» : في الأندلس من أنواع الأفاويه خمسة وعشرون صنفا : منها السنبل ، والقرنفل ، والصندل ، والقرفة ، وقصب الذريرة ، وغير ذلك.

وذكر ابن غالب أنّ المسعودي قال : أصول الطّيب خمسة أصناف : المسك ، والكافور ، والعود ، والعنبر ، والزعفران ، وكلها من أرض الهند ، إلّا الزعفران والعنبر ، فإنهما موجودان في أرض الأندلس ، ويوجد العنبر في أرض الشّحر.

قال ابن سعيد : وقد تكلّموا في أصل العنبر ، فذكر بعضهم أنه عيون تنبع في قعر البحر يصير منها ما تبلعه الدواب وتقذفه. قال الحجاري : ومنهم من قال : إنه نبات في قعر البحر.

وقد تقدّم قول الرازي أن المحلب ـ وهو المقدّم في الأفاويه ، والمفضّل في أنواع الأشنان ـ لا يوجد في شيء من الأرض إلّا بالهند والأندلس.

__________________

(١) الأيل : الوعل الذكر ، وهو حيوان له قرون متشعبة.

(٢) في ب : مما يوجد في غيرها كثير.

(٣) القحة : الجراءة.

١٦٦

قال ابن سعيد : وفي الأندلس مواضع ذكروا أن النار إذا أطلقت فيها فاحت بروائح العود وما أشبهه ، وفي جبل شلير أفاويه هندية.

قال : وأمّا الثمار وأصناف الفواكه ، فالأندلس أسعد بلاد الله بكثرتها ، ويوجد في سواحلها قصب السكر والموز ، ويوجدان (١) في الأقاليم الباردة ، ولا يعدم منها إلّا التمر ، ولها من أنواع الفواكه ما يعدم في غيرها أو يقلّ ، كالتين القوطيّ والتين السفريّ (٢) بإشبيلية.

قال ابن سعيد : وهذان صنفان لم تر عيني ولم أذق لهما منذ خرجت من الأندلس ما يفضلهما ، وكذلك التين المالقيّ والزبيب المنكّبيّ والزبيب العسليّ والرمان السفري والخوخ والجوز واللوز ، وغير ذلك مما يطول ذكره.

وقد ذكر ابن سعيد أيضا أن الأرض الشمالية المغربية فيها المعادن السبعة ، وأنها في الأندلس التي هي بعض تلك الأرض ، وأعظم معدن للذهب بالأندلس في جهة شنت ياقور (٣) قاعدة الجلالقة على البحر المحيط ، وفي جهة قرطبة الفضّة والزئبق ، والنحاس في شمال الأندلس كثير ، والصّفر الذي يكاد يشبه الذهب ، وغير ذلك من المعادن المتفرقة في أماكنها.

والعين التي يخرج منها الزاج (٤) في لبلة مشهورة ، وهو كثير مفضل في البلاد منسوب لجبل (٥) طليطلة جبل الطّفل الذي يجهز إلى البلاد ويفضل على كل طفل بالمشرق والمغرب.

وبالأندلس عدة مقاطع للرخام ، وذكر الرازي أن بجبل قرطبة مقاطع الرخام الأبيض الناصع اللون (٦) والخمري ، وفي ناشرة مقطع عجيب للعمد ، وبباغه من مملكة غرناطة مقاطع للرخام كثيرة غريبة موشّاة في حمرة وصفرة ، وغير ذلك من المقاطع التي بالأندلس من الرخام الحالك والمجزّع.

وحصى المريّة يحمل إلى البلاد فإنه كالدّرّ في رونقه ، وله ألوان عجيبة ، ومن عادتهم أن يضعوه في كيزان الماء.

وفي الأندلس من الأمنان (٧) التي تنزل من السماء القرمز الذي ينزل على شجرة البلّوط فيجمعه الناس زمن الشّعرى ويصبغون به ، فيخرج منه اللون الأحمر الذي لا تفوقه حمرة.

قال ابن سعيد : وإلى مصنوعات الأندلس ينتهي التفضيل ، وللمتعصّبين لها في ذلك كلام

__________________

(١) في ب : المعدومان.

(٢) في ب : الشعري.

(٣) في أ: شنت ياقوه.

(٤) الزاج : صبغ ، فارسي معرب.

(٥) في ب : وبجبل.

(٦) اللون : سقطت في ب.

(٧) الأمنان : جمع منّ ، وهو ندى ينعقد على شجر عسلا ، ويجف جفاف الصمغ.

١٦٧

كثير ، فقد اختصّت المريّة ومالقة ومرسية بالموشّى (١) المذهّب (٢) ، يتعجّب من حسن صنعته أهل المشرق إذا رأوا منه شيئا ، وفي ننتالة من عمل مرسية تعمل البسط التي يغالى في ثمنها بالمشرق ، ويصنع في غرناطة وبسطة من ثياب اللباس المحرّرة الصنف الذي يعرف بالملبد المختم ذو الألوان العجيبة ، ويصنع في مرسية من الأسرّة المرصّعة والحصر الفتّانة الصنعة وآلات الصّفر والحديد من السكاكين والأمقاص (٣) المذهّبة وغير ذلك من آلات العروس والجنديّ ما يبهر العقل ، ومنها تجهّز هذه الأصناف إلى بلاد إفريقية وغيرها. ويصنع بها وبالمريّة ومالقة الزجاج الغريب العجيب وفخار مزجّج مذهب ، ويصنع بالأندلس نوع من المفضض المعروف في المشرق بالفسيفساء ونوع يبسط به قاعات ديارهم يعرف بالزّليجي يشبه المفضض (٤) ، وهو ذو ألوان عجيبة يقيمونه مقام الرخام الملوّن الذي يصرفه أهل المشرق في زخرفة بيوتهم كالشاذروان ، وما يجري مجراه.

وأما آلات الحرب من التّراس والرّماح والسّروج والألجم والدروع والمغافر فأكثر همم أهل الأندلس ـ فيما حكى ابن سعيد ـ كانت مصروفة إلى هذا الشأن ، ويصنع فيها (٥) في بلاد الكفر ما يبهر العقول ، قال : والسيوف البرذليات مشهورة بالجودة ، وبرذيل (٦) : آخر بلاد الأندلس من جهة الشمال والمشرق ، والفولاذ الذي بإشبيلية إليه النهاية ، وفي إشبيلية من دقائق الصنائع ما يطول ذكره.

وقد أفرد ابن غالب في «فرحة الأنفس» للآثار الأولية التي بالأندلس من كتابه مكانا ، فقال : منها ما كان من جلبهم الماء من البحر الملح إلى الأرحيّ التي بطرّكونة على وزن لطيف وتدبير محكم حتى طحنت به ، وذلك من أعجب ما صنع. ومن ذلك ما صنعه الأول أيضا من جلب الماء من (٧) البحر المحيط إلى جزيرة قادس من العين التي في إقليم الأصنام ، جلبوه في جوف البحر في الصخر المجوّف ذكرا في أنثى وشقّوا به الجبال ، فإذا وصلوا به إلى المواضع المنخفضة بنوا له قناطر على حنايا ، فإذا جاوزها واتّصل بالأرض المعتدلة رجعوا إلى البنيان

__________________

(١) في ب : بالوشي.

(٢) في ب : الذي يتعجب.

(٣) الأمقاص : جمع مقصّ.

(٤) في ب : المفصص.

(٥) في ب : منها.

(٦) برذيل : في بلاد جليقية ، وإقليم برذيل من أشرف أقاليم تلك الناحية ، وهو كثير الكروم والفاكهة والحبوب ، وهي مدينة كبيرة مبنية بالكلس والرمل ، وهي على نهر عجاج يسمى جرونة ، وربما عطبت مراكب المجوس فيه عند الأهوال لاتساعه وانحرافه وأهل برذيل في أخلاقهم ولباسهم على أخلاق الجليقيين .. وفي سواحل هذه المدينة يوجد العنبر (صفة جزيرة الأندلس ص ٤١).

(٧) في ب : في.

١٦٨

المذكور ، فإذا صادف سبخة بني له رصيف وأجري عليه ، هكذا إلى أن انتهي به إلى البحر ، ثمّ دخل به في البحر ، وأخرج في جزيرة قادس ، والبنيان الذي عليه الماء في البحر ظاهر بيّن ، قال ابن سعيد : إلى وقتنا هذا.

ومنها الرصيف المشهور بالأندلس ، قال في بعض أخبار رومية : إنه لمّا ولي بوليش (١) المعروف بجاشر ، وابتدأ بتذريع الأرض وتكسيرها ، كان ابتداؤه بذلك من مدينة رومية إلى المشرق منها وإلى المغرب وإلى الشمال وإلى الجنوب ، ثم بدأ بفرش المبلّطة ، وأقبل بها على وسط دائرة الأرض إلى أن بلغ بها أرض الأندلس وركزها شرقي قرطبة ببابها المتطامن المعروف بباب عبد الجبار ، ثم ابتدأها من باب القنطرة قبليّ قرطبة إلى شقندة إلى إستجة إلى قرمونة إلى البحر ، وأقام على كل ميل سارية قد نقش عليها اسمه من مدينة رومية ، وذكر أنه أراد تسقيفها في بعض الأماكن راحة للخاطرين من وهج الصيف وهول الشتاء ، ثم توقّع أن يكون ذلك فسادا في الأرض وتغييرا للطرق عند انتشار اللصوص وأهل الشرّ فيها في المواضع المنقطعة النائية عن العمران ، فتركها على ما هي عليه. وذكر في هذه الآثار صنم قادس الذي ليس له نظير إلّا الصنم الذي بطرف جلّيقية ، وذكر قنطرة طليطلة ، وقنطرة السيف وقنطرة ماردة ، وملعب مربيطر.

قال ابن سعيد : وفي الأندلس عجائب ، منها الشجرة التي لو لا كثرة ذكر العامة لها بالأندلس ما ذكرتها ، فإنّ خبرها عندهم شائع متواتر ، وقد رأيت من يشهد بخبرها ورؤيتها ، وهم جمّ غفير ، وهي شجرة زيتون تصنع الورق والنّور والثمر من يوم واحد معلوم عندهم من أيام السنة الشمسية.

ومن العجائب : السارية التي بغرب الأندلس ، يزعم الجمهور أنّ أهل ذلك المكان إذا أحبّوا المطر أقاموها فيمطر الله جهتهم.

ومنها صنم قادس ، طول ما كان قائما كان يمنع الريح أن تهبّ في البحر المحيط فلا تستطيع المراكب الكبار على الجري فيه ، فلمّا هدم في أول دولة بني عبد المؤمن صارت السفن تجري فيه.

وبكورة قبرة (٢) مغارة ذكرها الرازي وحكى أنه يقال : إنها باب من أبواب الريح لا يدرك لها قعر.

__________________

(١) في ب : يوليش.

(٢) قبرة : مدينة بالأندلس بينها وبين قرطبة ثلاثون ميلا ، ذات مياه سائحة من عيون شتّى (انظر صفة جزيرة الأندلس. صفحة ١٤٩).

١٦٩

وذكر الرازي أن في جهة قلعة ورد جبلا فيه شقّ في صخرة داخل كهف فيه فأس حديد متعلّق من الشق الذي في الصخرة ، تراه العيون وتلمسه اليد ، ومن رام إخراجه لم يطق ذلك ، وإذا رفعته اليد ارتفع وغاب في شق الصخرة ثم يعود إلى حالته.

وأمّا ما أورده ابن بشكوال من الأحاديث والآثار في شأن فضل الأندلس والمغرب فقد ذكرها ابن سعيد في كتابه المغرب ، ولم أذكرها أنا ، والله أعلم بحقيقة أمرها ، وكذلك ما ذكره ابن بشكوال من أنّ فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس ، قال : وذكره سيف عن عثمان بن عفّان ، رضي الله تعالى عنه ، ـ والله أعلم بصحة ذلك ـ ولعلّ المراد بالقسطنطينية رومية ، والله أعلم.

قال سيف : وذلك أن عثمان ندب جيشا من القيروان إلى الأندلس ، وكتب لهم : أمّا بعد ، فإنّ فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس ، فإنكم إن فتحتموها كنتم الشركاء في الأجر ، والسلام ، انتهى.

قلت : عهدة هذه الأمور على ناقلها ، وأنا بريء من عهدتها ، وإن ذكرها ابن بشكوال وصاحب المغرب وغير واحد فإنها عندي لا أصل لها ، وأيّ وقت بعث عثمان إلى الأندلس؟

مع أن فتحها بالاتفاق إنما كان زمان الوليد ، وإنما ذكرت هذا للتنبيه عليه ، والله أعلم.

قال ابن سعيد : وميزان وصف الأندلس أنها جزيرة قد أحدقت بها البحار ، فأكثرت فيها الخصب والعمارة من كل جهة ، فمتى سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة ما بين قرى ومياه ومزارع ، والصحارى فيها معدومة. ومما اختصّت به أنّ قراها في نهاية من الجمال لتصنّع أهلها في أوضاعها وتبييضها ، لئلا تنبو العيون عنها ، فهي كما قال الوزير ابن الحمارة (١) فيها : [الكامل]

لاحت قراها بين خضرة أيكها

كالدّرّ بين زبرجد مكنون

ولقد تعجّبت لمّا دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدّر العين بسوادها ، ويضيق الصدر بضيق أوضاعها. وفي الأندلس جهات تقرب فيها المدينة العظيمة الممصّرة من مثلها ، والمثال في ذلك أنك إذا توجّهت من إشبيلية فعلى مسيرة يوم وبعض آخر مدينة شريش ، وهي في نهاية من الحضارة والنّضارة ، ثم يليها الجزيرة الخضراء كذلك ، ثم مالقة ، وهذا كثير في الأندلس ، ولهذا كثرت مدنها وأكثرها مسوّر من أجل الاستعداد للعدوّ ، فحصل

__________________

(١) الوزير ابن الحمارة الغرناطي أبو عامر ، كان بارعا في علم الألحان (المغرب ٢ : ١٢٠).

١٧٠

لها بذلك التشييد والتزيين ، وفي حصونها ما يبقى في محاربة العدوّ ما ينيّف على عشرين سنة لامتناع معاقلها ، ودربة أهلها على الحرب ، واعتيادهم لمجاورة العدوّ بالطّعن والضرب ، وكثرة ما تنخزن الغلة في مطاميرها (١) ، فمنها ما يطول صبره عليها نحوا من مائة سنة. قال ابن سعيد : ولذلك أدامها الله تعالى من وقت الفتح إلى الآن ، وإن كان العدوّ قد نقصها من أطرافها ، وشارك في أوساطها ففي البقية منعة عظيمة ، فأرض بقي فيها مثل إشبيلية وغرناطة ومالقة والمريّة وما ينضاف إلى هذه الحواضر العظيمة الممصّرة ، الرجاء فيها قويّ بحول الله وقوته ، انتهى.

قلت : قد خاب ذلك الرجاء ، وصارت تلك الأرجاء للكفر معرجا ، ونسأل الله تعالى الذي جعل للهمّ فرجا ، وللضيق مخرجا ، أن يعيد إليها كلمة الإسلام حتى يستنشق أهله منه فيها أرجا! آمين.

ومن غرائب الأندلس : البيلتان (٢) اللتان بطليطلة ، صنعهما عبد الرحمن لمّا سمع بخبر الطّلّسم الذي بمدينة أرين من أرض الهند ، وقد ذكره المسعودي ، وأنه يدور بإصبعه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، فصنع هو هاتين البيلتين خارج طليطلة في بيت مجوّف في جوف النهر الأعظم في الموضع المعروف بباب الدباغين ، ومن عجبهما أنهما يمتلئان وينحسران (٣) مع زيادة القمر ونقصانه ، وذلك أنّ أوّل انهلال الهلال يخرج فيهما يسير ماء ، فإذا أصبح كان فيهما ربع سبعهما من الماء ، فإذا كان آخر النهار كمل فيهما نصف سبع ، ولا يزال كذلك بين اليوم والليلة نصف سبع حتى يكمل من الشهر سبعة أيام وسبع ليال ، فيكون فيهما نصفهما ، ولا تزال كذلك الزيادة نصف سبع في اليوم والليلة حتى يكمل امتلاؤهما بكمال القمر ، فإذا كان في ليلة خمسة عشر وأخذ القمر في النقصان نقصتا بنقصان القمر كل يوم وليلة نصف سبع (٤) ، فإذا كان تسعة وعشرون من الشهر لا يبقى فيهما شيء من الماء ، وإذا تكلّف أحد حين تنقصان أن يملأهما وجلب لهما الماء ابتلعا (٥) ذلك من حينهما حتى لا يبقى فيهما إلّا

__________________

(١) المطامير : جمع مطمار ، وهو مكان تخزن فيه الحبوب.

(٢) البيلتان : مثنى بيلة وهي النافورة.

(٣) في ب : يمتلئان وينحسران.

(٤) في ب : حتى يتم القمر واحدا وعشرين يوما فينقص منهما نصفهما ولا يزال كذلك ينقص في كل يوم وليلة ونصف سبع.

(٥) في ب : ابتلعتا.

١٧١

ما كان فيهما في تلك الساعة ، وكذا لو تكلّف عند امتلائهما إفراغهما ولم يبق منهما شيئا ثم رفع يده عنهما خرج فيهما من الماء ما يملؤهما في الحين. وهما أعجب من طلّسم الهند ؛ لأن ذلك في نقطة الاعتدال حيث لا يزيد الليل على النهار ، وأما هاتان فليستا في مكان الاعتدال ، ولم تزالا في بيت واحد حتى ملك النصارى ـ دمّرهم الله! ـ طليطلة ، فأراد الفنش أن يعلم حركاتهما ، فأمر أن تقلع الواحدة منهما لينظر من أين يأتي إليها الماء ، وكيف الحركة فيهما ، فقلعت ، فبطلت حركتهما ، وذلك سنة ٥٢٨. وقيل : إن سبب فسادهما حنين اليهودي الذي جلب حمام الأندلس كلها إلى طليطلة في يوم واحد ، وذلك سنة ٥٢٧ ، وهو الذي أعلم الفنش أنّ ولده سيدخل قرطبة ويملكها ، فأراد أن يكشف حركة البيلتين فقال له : أيها الملك ، أنا أقلعهما وأردّهما أحسن ممّا كانتا ، وذلك أني أجعلهما تمتلئان بالنهار وتحسران في الليل ، فلما قلعت لم يقدر على ردّها ، وقيل : إنه قلع واحدة ليسرق منها الصنعة فبطلت ، ولم تزل الأخرى تعطي حركتها ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وقال بعضهم في إشبيلية : إنها قاعدة بلاد الأندلس وحاضرتها ، ومدينة الأدب واللهو والطرب ، وهي على ضفة النهر الكبير ، عظيمة الشأن ، طيبة المكان ، لها البرّ المديد ، والبحر الساكن ، والوادي العظيم ، وهي قريبة من البحر المحيط ، إلى أن قال : ولو لم يكن لها من الشّرف إلّا موضع الشّرف المقابل لها المطل عليها المشهور بالزيتون الكثير الممتدّ فراسخ في فراسخ لكفى ، وبها منارة في جامعها بناها يعقوب المنصور ، ليس في بلاد الإسلام أعظم بناء منها. وعسل الشرف يبقى حينا لا يترمّل ولا يتبدّل ، وكذلك الزيت والتين.

وقال ابن مفلح : إن إشبيلية عروس بلاد الأندلس ؛ لأنّ تاجها الشرف ، وفي عنقها سمط النهر الأعظم ، وليس في الأرض أتمّ حسنا من هذا النهر ، يضاهي دجلة والفرات والنّيل ، تسير القوارب فيه للنزهة والسير والصيد تحت ظلال الثمار ، وتغريد الأطيار ، أربعة وعشرين ميلا ، ويتعاطى الناس السّرح من جانبيه عشرة فراسخ في عمارة متصلة ومنارات مرتفعة وأبراج مشيدة ، وفيه من أنواع السمك ما لا يحصى. وبالجملة فهي قد حازت البرّ والبحر ، والزّرع والضّرع ، وكثرة الثمار من كل جنس ، وقصب السكر ، ويجمع منها القرمز الذي هو أجلّ من اللّكّ (١) الهندي ، وزيتونها يخزّن تحت الأرض أكثر من ثلاثين سنة ، ثم يعتصر فيخرج منه أكثر ممّا يخرج منه وهو طري ، انتهى ملخصا.

__________________

(١) القرمز : نوع من المنّ الذي يجمع عن الشجر. واللّك : مادة شبيهة بالقرمز تدخل في تركيب الأدوية (ابن البيطار ٤ : ١١٠).

١٧٢

ولما ذكر ابن اليسع الأندلس قال : لا يتزوّد فيها أحد ماء حيث سلك ؛ لكثرة أنهارها وعيونها ، وربما لقي المسافر فيها في اليوم الواحد أربع مدائن ، ومن المعاقل والقرى ما لا يحصى ، وهي بطاح خضر ، وقصور بيض. انتهى.

قال ابن سعيد : وأنا أقول كلاما فيه كفاية : منذ خرجت من جزيرة الأندلس وطفت في برّ العدوة ، ورأيت مدنها العظيمة كمراكش وفاس وسلا وسبتة ، ثم طفت في إفريقية وما جاورها من المغرب الأوسط فرأيت بجاية وتونس ، ثم دخلت الديار المصرية فرأيت الإسكندرية والقاهرة والفسطاط ، ثم دخلت الشام فرأيت دمشق وحلب وما بينهما ـ لم أر ما يشبه رونق الأندلس في مياهها وأشجارها إلّا مدينة فاس بالمغرب الأقصى ، ومدينة دمشق بالشام ، وفي حماة مسحة أندلسية ، ولم أر ما يشبهها في حسن المباني والتشييد والتصنيع ، إلّا ما شيّد بمراكش في دولة بني عبد المؤمن ، وبعض أماكن في تونس ، وإن كان الغالب على تونس البناء بالحجارة كالإسكندرية ، ولكن الإسكندرية أفسح شوارع وأبسط وأبدع ، ومباني حلب داخلة فيما يستحسن ؛ لأنها من حجارة صلبة ، وفي وضعها وترتيبها إتقان ، انتهى.

ومن أحسن ما جاء من النظم في الأندلس قول ابن سفر المريني ، والإحسان له عادة : [البسيط]

في أرض أندلس تلتذّ نعماء

ولا يفارق فيها القلب سرّاء

وليس في غيرها بالعيش منتفع

ولا تقوم بحقّ الأنس صهباء (١)

وأين يعدل عن أرض تحضّ بها

على المدامة أمواه وأفياء (٢)

وكيف لا يبهج الأبصار رؤيتها

وكلّ روض بها في الوشي صنعاء (٣)

أنهارها فضّة ، والمسك تربتها

والخزّ روضتها ، والدّرّ حصباء

وللهواء بها لطف يرقّ به

من لا يرقّ ، وتبدو منه أهواء

ليس النسيم الذي يهفو بها سحرا

ولا انتثار لآلي الطّلّ أنداء

وإنما أرج النّدّ استثار بها

في ماء ورد فطابت منه أرجاء

وأين يبلغ منها ما أصنّفه

وكيف يحوي الذي حازته إحصاء

__________________

(١) منتفع : مصدر ميمي من نفع ، والصهباء : الخمر.

(٢) تحضّ : تحرض. أمواه : مياه. أفياء جمع فيء وهو الظلّ.

(٣) الوشي : نقش الثياب من كل لون. وصنعاء : بلدة باليمن كانت مشهورة بصناعة الحرير.

١٧٣

قد ميّزت من جهات الأرض حين بدت

فريدة وتولّى ميزها الماء (١)

دارت عليها نطاقا أبحر خفقت

وجدا بها إذ تبدّت وهي حسناء

لذاك يبسم فيها الزّهر من طرب

والطير يشدو وللأغصان إصغاء

فيها خلعت عذاري ما بها عوض

فهي الرّياض ، وكلّ الأرض صحراء

ولله درّ ابن خفاجة حيث يقول : [الرمل]

إنّ للجنة بالأندلس

مجتلى مرأى وريّا نفس

فسنى صبحتها من شنب

ودجى ظلمتها من لعس

فإذا ما هبّت الرّيح صبا

صحت وا شوقي إلى الأندلس

وقد تقدمت هذه الأبيات.

قال ابن سعيد : قال ابن خفاجة هذه الأبيات وهو بالمغرب الأقصى في برّ العدوة ، ومنزله في شرق الأندلس بجزيرة شقر (٢).

وقال ابن سعيد في المغرب ما نصه : قواعد من كتاب «الشهب الثاقبة ، في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة» أول ما نقدّم الكلام على قاعدة السلطنة بالأندلس ، فنقول : إنها مع ما بأيدي عبّاد الصّليب منها أعظم سلطنة كثرت ممالكها ، وتشعّبت في وجوه الاستظهار للسلطان إعانتها. وندع كلامنا في هذا الشأن ، وننقل ما قاله ابن حوقل النصيبي في كتابه لمّا دخلها في مدة خلافة بني مروان بها في المائة الرابعة ، وذلك أنه لمّا وصفها قال : وأما جزيرة الأندلس ، فجزيرة كبيرة ، طولها دون الشهر في عرض نيّف وعشرين مرحلة ، تغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر ، والرخص والسعة في الأحوال من الرقيق الفاخر والخصب الظاهر ، إلى أسباب التملّك الفاشية فيها ، ولما هي به من أسباب رغد العيش وسعته وكثرته ، يملك ذلك منهم مهينهم وأرباب صنائعهم لقلّة مؤنتهم وصلاح معاشهم وبلادهم. ثم أخذ في عظم سلطانها ووصف وفور جباياته وعظم مرافقه ، وقال في أثناء ذلك : وممّا يدلّ بالقليل منه على كثيره أنّ سكة دار ضربه على الدراهم والدنانير دخلها في كل سنة مائتا ألف دينار ، وصرف الدينار سبعة عشر درهما ، هذا إلى صدقات البلد وجباياته وخراجاته وأعشاره وضماناته والأموال المرسومة على المراكب الواردة والصادرة وغير ذلك.

__________________

(١) ميزها : مصدر ماز الشيء : أي ميزه.

(٢) جزيرة شقر : هي جزيرة في شرقي الأندلس كانت من أجمل منازه الدنيا.

١٧٤

وذكر ابن بشكوال أن جباية الأندلس بلغت في مدّة عبد الرحمن الناصر خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفا ، من السوق ، والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار.

ثم قال ابن حوقل : ومن أعجب ما في هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده مع صغر أحلام أهلها ، وضعة نفوسهم ، ونقص عقولهم ، وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة ، ولقاء الرجال ، ومراس الأنجاد والأبطال ، مع علم أمير المؤمنين بمحلّها في نفسها ومقدار جباياتها ومواقع نعمها ولذّاتها.

قال علي بن سعيد مكمل هذا الكتاب : لم أر بدّا من إثبات هذا الفصل وإن كان على أهل بلدي فيه من الظلم والتعصّب ما لا يخفى ، ولسان الحال في الردّ أنطق من لسان البلاغة ، وليت شعري إذا سلب أهل هذه الجزيرة العقول والآراء والهمم والشجاعة فمن الذين دبّروها بآرائهم وعقولهم مع مراصدة أعدائها المجاورين لها من خمسمائة سنة ونيّف؟ ومن الذين حموها ببسالتهم من الأمم المتّصلة بهم في داخلها وخارجها نحو ثلاثة أشهر على كلمة واحدة في نصرة الصليب؟ وإني لأعجب منه إذ كان في زمان قد دلفت (١) فيه عبّاد الصليب إلى الشام والجزيرة وعاثوا كل العيث في بلاد الشام ، حيث الجمهور والقبة العظمى ، حتى أنهم دخلوا مدينة حلب ، وما أدراك؟ وفعلوا فيها ما فعلوا ، وبلاد الإسلام متصلة بها من كل جهة ، إلى غير ذلك مما هو مسطور في كتب التواريخ ، ومن أعظم ذلك وأشدّه أنهم كانوا يتغلّبون على الحصن من حصون الإسلام التي يتمكّنون بها من بسائط بلادهم ، فيسبون ويأسرون ، فلا تجتمع همم الملوك المجاورة على حسم الداء في ذلك ، وقد يستعين به بعضهم على بعض ، فيتمكّن من ذلك الداء الذي لا يطبّ (٢) ، وقد كانت جزيرة الأندلس في ذلك الزمان بالضدّ من البلاد التي ترك وراء ظهره ، وذلك موجود في تاريخ ابن حيّان وغيره ، وإنما كانت الفتنة بعد ذلك ، الأعلام بيّنة ، والطريق واضح.

فلنرجع إلى ما نحن بسبيله : كانت سلطنة الأندلس في صدر الفتح على ما تقدّم من اختلاف الولاة عليها من سلاطين إفريقية ، واختلاف الولاة داع إلى الاضطراب ، وعدم تأثّل(٣)

__________________

(١) دلفت : مشت مشيا فيه هينة وتؤدة.

(٢) لا يطبّ : لا يعالج.

(٣) تأثلت الأحوال : استقرت وتثبتت.

١٧٥

الأحوال وتربية الضخامة في الدولة ، ولمّا صارت الأندلس لبني أمية وتوارثوا ممالكها وانقاد إليهم كلّ أبيّ فيها وأطاعهم كلّ عصيّ عظمت الدولة بالأندلس ، وكبرت الهمم وترتّبت الأحوال ، وترتّبت القواعد ، وكانوا صدرا من دولتهم يخطبون لأنفسهم بأبناء الخلائف ، ثم خطبوا لأنفسهم بالخلافة ، وملكوا من برّ العدوة وما ضخمت به دولتهم ، وكانت قواعدهم إظهار الهيبة ، وتمكّن الناموس من قلوب العالم ، ومراعاة أحوال الشرع في كل الأمور ، وتعظيم العلماء ، والعمل بأقوالهم ، وإحضارهم في مجالسهم ، واستشارتهم ، ولهم حكايات في تاريخ ابن حيّان : منها ما هو مذكور من توجّه الحكم على خليفتهم أو على ابنه أو أحد حاشيته المختصّين ، وأنهم كانوا في نهاية من الانقياد إلى الحق (١) لهم أو عليهم ، وبذلك انضبط لهم أمر الجزيرة. ولما خرقوا هذا الناموس كان أول ما تهتّك أمرهم ، ثم اضمحلّ ، وكانت ألقاب الأول منهم الأمراء أبناء الخلائف ، ثم الخلفاء أمراء المؤمنين ، إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض ، وابتغاء الخلافة من غير وجهها الذي رتّبت عليه ، فاستبدّت ملوك الممالك الأندلسية ببلادها ، وسمّوا بملوك الطوائف (٢) ، وكان فيهم من خطب للخلفاء المروانيين وإن لم يبق لهم خلافة ، ومنهم من خطب للخلفاء العباسيين المجمع على إمامتهم ، وصار ملوك الطوائف يتباهون في أحوال الملك ، حتى في الألقاب ، فآل أمرهم إلى أن تلقّبوا بنعوت الخلفاء ، وترفّعوا إلى طبقات السلطنة العظمى ، وذلك بما في جزيرتهم من أسباب الترفّه والضخامة التي تتوزّع على ملوك شتى ، فتكفيهم ، وتنهض بهم للمباهاة. ولأجل توثّيهم على النعوت العباسية قال ابن رشيق القيرواني (٣) : [البسيط]

ممّا يزهّدني في أرض أندلس

تلقيب معتضد فيها ومعتمد

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد

وكان عبّاد بن محمد بن عبّاد قد تلقّب بالمعتضد ، واقتفى سيرة المعتضد العباسي أمير المؤمنين ، وتلقّب ابنه محمد بن عبّاد بالمعتمد ، وكانت لبني عبّاد مملكة إشبيلية ثم انضاف إليها غيرها.

وكان خلفاء بني أميّة يظهرون للناس في الأحيان على أبّهة الخلافة ، وقانون لهم في ذلك معروف ، إلى أن كانت الفتنة ، فازدرت العيون ذلك الناموس ، واستخفّت به.

__________________

(١) في ب : للحقّ.

(٢) في ب : واستبدوا.

(٣) (ديوان ابن رشيق ص ٥٩ ، وفيات الأعيان).

١٧٦

وقد كان بنو حمّود من ولد إدريس العلوي الذين توثّبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس يتعاظمون ، ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس ، وكانوا إذا حضرهم منشد لمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم يتكلّم من وراء حجاب ، والحاجب واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة ، ولمّا حضر ابن مقانا الأشبونيّ (١) أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمودي الذي خطب له بالخلافة في مالقة ، وأنشده قصيدته المشهورة النونية التي منها قوله : [الرمل]

وكأنّ الشمس لمّا أشرقت

فانثنت عنها عيون الناظرين

وجه إدريس بن يحيى بن عليّ

بن حمّود أمير المؤمنين

وبلغ فيها إلى قوله :

انظرونا نقتبس من نوركم

إنه من نور ربّ العالمين

رفع الخليفة الستر بنفسه ، وقال : انظر كيف شئت ؛ وانبسط مع الشاعر ، وأحسن إليه.

ولما جاء ملوك الطوائف صاروا يتبسّطون للخاصّة وكثير من العامّة ، ويظهرون مداراة الجند وعوام البلاد ، وكان أكثرهم يحاضر العلماء والأدباء ، ويحبّ أن يشهر عنه ذلك عند مباديه (٢) في الرياسة.

ومذ وقعت الفتنة بالأندلس اعتاد أهل الممالك المتفرقة الاستبداد عن إمام الجماعة ، وصار في كل جهة مملكة مستقلة يتوارث أعيانها الرياسة كما يتوارث ملوكها الملك ، ومرنوا على ذلك (٣) ، فصعب ضبطهم إلى نظام واحد ، وتمكّن العدوّ منهم بالتفرّق وعداوة بعضهم لبعض بقبيح المنافسة والطمع ، إلى أن انقادوا إلى عبد المؤمن وبنيه ، وتلك القواعد في رؤوسهم كامنة ، والثوّار في المعاقل تثور ، وتروم الكرّة ، إلى أن ثار ابن هود ، وتلقّب بالمتوكّل ، ووجد القلوب (٤) منحرفة عن دولة برّ العدوة ، مهيأة للاستبداد ، فملكها بأيسر محاولة ، مع الجهل المفرط وضعف الرأي ، وكان مع العامّة كأنه صاحب شعوذة ، يمشي في الأسواق ويضحك في وجوههم ويبادرهم بالسؤال. وجاء للناس منه ما لم يعتادوه من سلطان ، فأعجب ذلك سفهاء الناس وعامّتهم العمياء ، وكان كما قيل : [الوافر]

__________________

(١) هو أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني القبذاكي ، وهو من شعراء الذخيرة (المغرب ١ : ٤١٣).

(٢) في ب : مباريه.

(٣) مرنوا على ذلك : تعوّدوه وألفوه.

(٤) في ب : قلوبا.

١٧٧

أمور يضحك السفهاء منها

ويبكي من عواقبها الحليم

فآل ذلك إلى تلف القواعد العظيمة ، وتملّك الأمصار الجليلة ، وخروجها من يد الإسلام والضابط فيما يقال في شأن أهل الأندلس في السلطان أنهم إذا وجدوا فارسا يبرع الفرسان (١) أو جوادا يبرع الأجواد تهافتوا (٢) في نصرته ، ونصبوه ملكا من غير تدبير في عاقبة الأمر إلام يؤول (٣) ، وبعد أن يكون الملك في مملكة قد توورثت وتدوولت ، ويكون في تلك المملكة قائد من قوّادها قد شهرت عنه وقائع في العدوّ وظهر منه كرم نفس للأجناد ومراعاة ، قدّموه ملكا في حصن من الحصون ، ورفضوا عيالهم وأولادهم ـ إن كان لهم ذلك ـ بكرسيّ الملك ، ولم يزالوا في جهاد وإتلاف أنفس حتى يظفر صاحبهم بطلبته. وأهل المشرق أصوب رأيا منهم في مراعاة نظام الملك ، والمحافظة على نصابه ، لئلّا يدخل الخلل الذي يقضي باختلال القواعد وفساد التربية وحلّ الأوضاع.

ونحن نمثّل في ذلك بما شاهدناه : لمّا كانت هذه الفتنة الأخيرة بالأندلس تمخّضت عن رجل من حصن يقال له أرجونة (٤) ، ويعرف الرجل بابن الأحمر ، كان يكثر مغاورة العدوّ من حصنه ، وظهرت له مخايل وشواهد على الشجاعة ، إلى أن طار (٥) اسمه في الأندلس ، وآل ذلك إلى أن قدّمه أهل حصنه على أنفسهم ، ثم نهض فملك قرطبة العظمى ، وملك إشبيلية ، وقتل ملكها الباجيّ ، وملك جيّان أحصن بلد بالأندلس وأجلّه قدرا في الامتناع ، وملك غرناطة ومالقة ، وسمّوه بأمير المسلمين ، فهو الآن المشار إليه بالأندلس والمعتمد عليه.

وأمّا قاعدة الوزارة بالأندلس ، فإنها كانت في مدة بني أمية مشتركة في جماعة يعيّنهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة ، ويخصّهم بالمجالسة ، ويختار منهم شخصا لمكان النائب المعروف بالوزير فيسمّيه بالحاجب ، وكانت هذه المراتب لضبطها عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة لذلك ، إلى أن كانت ملوك الطوائف ، فكان الملك منهم ـ لعظم اسم الحاجب في الدولة المروانية ، وأنه كان نائبا عن خليفتهم ـ يسمّى بالحاجب ، ويرى أنّ هذه السمة أعظم ما تنوفس فيه وظفر به ، وهي موجودة في أمداح شعرائهم وتواريخهم. وصار اسم الوزارة عامّا لكلّ من يجالس الملوك ويختصّ بهم ، وصار الوزير الذي ينوب عن الملك يعرف بذي

__________________

(١) يبرع الفرسان : يفوتهم ويغلبهم.

(٢) تهافتوا : تتابعوا.

(٣) في ب : آل الأمر إلى ما يؤول إليه.

(٤) أرجونة : مدينة ، أو قلعة بالأندلس إليها ينسب محمد بن يوسف بن الأحمر الأرجوني ، من متأخري سلاطين الأندلس (صفة جزيرة الأندلس ص ١٢)

(٥) في ب : سار.

١٧٨

الوزارتين ، وأكثر ما يكون فاضلا في علم الأدب ، وقد لا يكون كذلك ، بل عالما بأمور الملك خاصّة.

وأما الكتابة فهي على ضربين : أعلاهما : كاتب الرسائل ، وله حظ في القلوب والعيون عند أهل الأندلس ، وأشرف أسمائه الكاتب ، وبهذه السّمة يخصّه (١) من يعظمه في رسالة. وأهل الأندلس كثير والانتقاد على صاحب هذه السّمة ، لا يكادون يغفلون عن عثراته لحظة ، فإن كان ناقصا عن درجات الكمال لم ينفعه جاهه ولا مكانه من سلطانه من تسلّط الألسن في المحافل والطّعن عليه وعلى صاحبه والكاتب الآخر كاتب الزمام ، هكذا يعرفون كاتب الجهبذة (٢) ، ولا يكون بالأندلس وبرّ العدوة لا نصرانيّا ولا يهوديّا البتّة ، إذا هذا الشغل نبيه يحتاج إلى صاحبه عظماء الناس ووجوههم.

وصاحب الأشغال الخراجية في الأندلس أعظم من الوزير ، وأكثر أتباعا وأصحابا وأجدى منفعة ، فإليه تميل الأعناق ، ونحوه تمدّ الأكفّ ، والأعمال مضبوطة بالشهود والنظار ، ومع هذا إن تأثّلت حالته واغترّ بكثرة البناء والاكتساب نكب وصودر ، وهذا راجع إلى تقلّب الأحوال وكيفية السلطان.

وأما خطّة القضاء بالأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصّة والعامّة ، لتعلّقها بأمور الدين ، وكون السلطان لو توجّه عليه حكم حضر بين يدي القاضي ، هذا وصفها (٣) في زمان بني أمية ، ومن سلك مسلكهم ، ولا سبيل أن يتّسم (٤) بهذه السّمة إلّا من هو وال للحكم الشرعي في مدينة جليلة ، وإن كانت صغيرة فلا يطلق على حاكمها إلّا مسدّد ، خاصة ، وقاضي القضاة يقال له : قاضي القضاة ، وقاضي الجماعة.

وأمّا خطة الشّرطة بالأندلس ، فإنها مضبوطة إلى الآن ، معروفة بهذه السّمة ، ويعرف صاحبها في ألسن العامّة بصاحب المدينة وصاحب الليل ، وإذا كان عظيم القدر عند السلطان كان له القتل لمن وجب (٥) عليه دون استئذان السلطان ، وذلك قليل ، ولا يكون إلّا في حضرة السلطان الأعظم ، وهو الذي يحدّ على الزنى وشرب الخمر ، وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه ، قد صارت تلك عادة تقرّر عليها رضا القاضي ، وكانت خطة القاضي أوقر وأتقى عندهم من ذلك.

__________________

(١) في ب : يخططه.

(٢) الجهبذ : الخبير بالأمور المميز بين جيدها ورديئها. وجمعه جهابذة. والجهبذة المصدر.

(٣) في ب : وضعها.

(٤) في ب : يتسمى.

(٥) في ب : يجب.

١٧٩

وأما خطة الاحتساب ، فإنها عندهم موضوعة في أهل العلم والفطن ، وكأنّ صاحبها قاض ، والعادة فيه أن يمشي بنفسه راكبا على الأسواق ، وأعوانه معه ، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان ؛ لأنّ الخبز عندهم معلوم الأوزان للربع من الدرهم رغيف على وزن معلوم ، وكذلك للثّمن ، وفي ذلك من المصلحة أن يرسل المبتاع الصبيّ الصغير أو الجارية الرعناء فيستويان فيما يأتيانه به من السوق مع الحاذق في معرفة الأوزان ، وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره ، ولا يجسر الجزار أن يبيع بأكثر أو دون ما حدّ له المحتسب في الورقة ، ولا يكاد تخفى خيانته ، فإن المحتسب يدسّ عليه صبيّا أو جارية يبتاع أحدهما منه ، ثم يختبر الوزن المحتسب ، فإن وجد نقصا قاس على ذلك حاله مع الناس ، فلا تسأل عمّا يلقى ، وإن كثر ذلك منه ولم يتب بعد الضرب والتجريس (١) في الأسواق نفي من البلد. ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه ؛ لأنها عندهم تدخل في جميع المبتاعات وتتفرّع إلى ما يطول ذكره.

وأما خطة الطواف بالليل وما يقابل من المغرب أصحاب أرباع في المشرق ، فإنهم يعرفون في الأندلس بالدرّابين ؛ لأنّ بلاد الأندلس لها دروب بأغلاق تغلق بعد العتمة ، ولكل زقاق بائت فيه ، له سراج معلّق وكلب يسهر وسلاح معدّ ، وذلك لشطارة عامّتها وكثرة شرّهم ، وإعيائهم (٢) في أمور التلصّص ، إلى أن يظهروا على المباني المشيدة ، ويفتحوا الأغلاق الصعبة ، ويقتلوا صاحب الدار خوف أن يقرّ عليهم أو يطالبهم بعد ذلك ، ولا تكاد في الأندلس تخلو من سماع «دار فلان دخلت البارحة» و «فلان ذبحه اللصوص على فراشه» وهذا يرجع التكثير منه والتقليل إلى شدّة الوالي ولينه ، ومع إفراطه في الشدّة وكون سيفه يقطر دما فإن ذلك لا يعدم ، وقد آل الحال عندهم إلى أن قتلوا على عنقود سرقه شخص من كرم وما أشبه ذلك ، ولم (٣) ينته اللصوص.

وأمّا قواعد أهل الأندلس في ديانتهم ، فإنّها تختلف بحسب الأوقات والنظر إلى السلاطين ، ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود ، وإنكار التهاون بتعطيلها ، وقيام العامّة في ذلك وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان ، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره ، فيدخلون عليه قصره المشيد ولا يعبؤون بخيله ورجله حتى يخرجوه من بلدهم ، وهذا كثير في

__________________

(١) التجريس : الفضح والتشهير ، وأصل هذه المادة الجرس المعروف.

(٢) في ب : وإغيائهم.

(٣) في ب : فلم ينته.

١٨٠