نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

يعجز الواصفون عن وصفها ، وكانت على قوس واحد تكنفه فرجتان (١) من كل جانب ، وطول القنطرة ثلاثمائة باع ، وعرضها ثمانون باعا ، وخربت أيام الأمير محمد لما عصى عليه أهلها فغزاهم ، واحتال في هدمها ، وفي ذلك يقول الحكيم عباس بن فرناس (٢) : [الكامل]

أضحت طليطلة معطّلة

من أهلها في قبضة الصّقر

تركت بلا أهل تؤهّلها

مهجورة الأكناف كالقبر

ما كان يبقي الله قنطرة

نصبت لحمل كتائب الكفر

وسيأتي بعض أخبار طليطلة.

ومن مشهور مدن الأندلس المرية ، وهي على ساحل البحر ، ولها القلعة المنيعة المعروفة بقلعة خيران ، بناها عبد الرحمن الناصر ، وعظمت في دولة المنصور بن أبي عامر ، وولّى عليها مولاه خيران ، فنسبت القلعة إليه ، وبها من صنعة الديباج ما تفوق به على سائر البلاد ، وفيها دار الصناعة ، وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام ، ومن أبوابها باب العقاب عليه صورة عقاب من حجر قديم عجيب المنظر.

وقال بعضهم : كان بالمريّة لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول ، وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول ، وللأسقلاطون كذلك ، وللثياب الجرجانية كذلك ، وللأصفهانية مثل ذلك ، وللعنابي والمعاجر المدهشة والستور المكلّلة. ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف. وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسنا ، وساحلها أفضل السواحل ، وبها قصور الملوك القديمة الغريبة العجيبة ، وقد ألّف فيها أبو جعفر بن حاتمة تاريخا حافلا سمّاه ب «مزيّة المرية ، على غيرها من البلاد الأندلسية» في مجلد ضخم تركته من جملة كتبي بالمغرب ، والله سبحانه المسؤول في جمع الشمل ، فله الأمر من بعد ومن قبل.

ووادي المرية طوله أربعون ميلا في مثلها كلها بساتين بهجة ، وجنات نضرة ، وأنهار مطّردة ، وطيور مغرّدة.

قال بعضهم : ولم يكن في بلاد الأندلس أكثر مالا من أهل المرية ، ولا أعظم متاجر وذخائر ، وكان بها من الحمامات والفنادق نحو الألف ، وهي بين الجبلين بينهما خندق معمور،

__________________

(١) في ب : فرختان.

(٢) عباس بن فرناس التاكرني حكيم الأندلس ، بربري الأصل من موالي بني أمية توفي سنة (٢٧٤ ه‍) (المغرب ١ : ٣٣٣).

١٤١

وعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة ، وعلى الآخر ربضها ، والسور محيط بالمدينة والربض ، وغربيها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات ، وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة ، وأحجار أولية ، وكأنما غربلت أرضها من التراب ، ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار ، انتهى.

وقال ابن اليسع ، عند ذكره مدينة شنترة : إنّ من خواصّها أنّ القمح والشعير يزرعان فيها ويحصدان عند مضي أربعين يوما من زراعته ، وإن التفاح فيها دور كل واحدة ثلاثة أشبار وأكثر ، قال لي أبو عبد الله الباكوري ، وكان ثقة : أبصرت عند المعتمد بن عباد رجلا من أهل شنترة أهدى إليه أربعا من التفاح ما يقلّ الحامل على رأسه غيرها ، دور كل واحدة خمسة أشبار ، وذكر الرجل بحضرة ابن عبّاد (١) أن المعتاد عندهم أقلّ من هذا ، فإذا أرادوا أن يجيء بهذا العظم وهذا القدر (٢) قطعوا أصلها وأبقوا منه عشرا أو أقلّ وجعلوا تحتها دعامات من الخشب ، انتهى.

وبحصن شنش على مرحلة من المرية التّوت الكثير ، وفيها الحرير والقرمز ، ويعرف واديها بوادي طبرنش.

وبغربي مالقة عمل سهيل ، وهو عمل عظيم كثير الضياع ، وفيه جبل سهيل لا يرى نجم سهيل بالأندلس إلّا منه.

ومن كور الأندلس الشرقية تدمير ، وتسمى مصر أيضا لكثرة شبهها بها ؛ لأنّ لها أرضا يسيح عليها نهر في وقت مخصوص من السنة ، ثم ينضب عنها ، فتزرع كما تزرع أرض مصر ، وصارت القصبة بعد تدمير مرسية ، وتسمى البستان ؛ لكثرة جنّاتها المحيطة بها ، ولها نهر يصبّ في قبليّها.

واعلم أنّ جزيرة الأندلس ـ أعادها الله للإسلام! ـ مشتملة على موسطة ، وشرق ، وغرب.

فالموسطة فيها من القواعد الممصرة التي كل مدينة منها مملكة مستقلة لها أعمال ضخام وأقطار متّسعة : قرطبة ، وطليطلة ، وجيّان ، وغرناطة ، والمرية ، ومالقة. فمن أعمال قرطبة إستجة وبلكونة وقبرة ورندة وغافق والمدوّر وأسطبة وبيّانة واليسّانة والقصير وغيرها. ومن

__________________

(١) بحضرة ابن عبّاد : سقطت في ب.

(٢) وهذا القدر : سقطت في ب.

١٤٢

أعمال طليطلة وادي الحجارة وقلعة رباح وطلمنكة وغيرها. ومن أعمال جيّان أبّدة (١) وبيّاسة وقسطلّة وغيرها. ومن أعمال غرناطة وادي آش والمنكب ولوشة وغيرها. ومن أعمال المرية أندرش وغيرها. ومن أعمال مالقة بلّش والحامة وغيرهما. وببلّش من الفواكه ما بمالقة ، وبالحامة العين الحارّة على ضفة واديها.

وأما شرق الأندلس ففيه من القواعد : مرسية ، وبلنسية ، ودانية ، والسهلة ، والثغر الأعلى. فمن أعمال مرسية أوريولة والقنت ولورقة وغير ذلك. ومن أعمال بلنسية شاطبة التي يضرب (٢) بحسنها المثل ويعمل بها الورق الذي لا نظير له وجزيرة شقر وغير ذلك. وأما دانية فهي شهيرة ولها أعمال. وأما السهلة فإنها متوسطة بين بلنسية وسرقسطة ولذا عدّها بعضهم من كور الثغر الأعلى ولها مدن وحصون. ومن أعمال الثغر الأعلى : سرقسطة وهي أمّ ذلك الثغر ، وكورة لاردة ، وقلعة رباح ، وتسمى بالبيضاء ، وكورة تطيلة ، ومدينتها طرسونة ، وكورة وشقة ، ومدينتها تمريط ، وكورة مدينة سالم ، وكورة قلعة أيوب ، ومدينتها بليانة (٣) ، وكورة برطانية (٤) ، وكورة باروشة.

وأما غرب الأندلس ففيه : إشبيلية ، وماردة ، وأشبونة ، وشلب. فمن أعمال إشبيلية شريش والخضراء ولبله وغيرها. ومن أعمال ماردة بطليوس وبابرة (٥) وغيرهما. ومن أعمال أشبونة شنترين وغيرها. ومن أعمال شلب شنت رية (٦) وغيرها.

وأما الجزر البحرية بالأندلس فمنها جزيرة قادس ، وهي من أعمال إشبيلية ، وقال ابن سعيد : إنها من كورة شريش ، ولا منافاة لأن شريشا من أعمال إشبيلية كما مرّ ، قال : وبيد صنم قادس مفتاح ، ولمّا ثار بقادس ابن أخت القائد أبي عبد الله بن ميمون ـ وهو علي بن عيسى قائد البحر بها ـ ظنّ أنّ تحت الصنم مالا فهدمه فلم يجد شيئا ، انتهى. وهي ـ أعني جزيرة قادس ـ في البحر المحيط ؛ وفي البحر (٧) المحيط الجزائر الخالدات السبع ، وهي غربي مدينة سلا تلوح للناظر في اليوم الصاحي الخالي الجوّ من الأبخرة الغليظة ، وفيها سبعة أصنام

__________________

(١) في ب : أبّذة.

(٢) في ب : ويضرب.

(٣) في ب : مليانة.

(٤) في ب : بربطانية.

(٥) في ب : يابرة.

(٦) في ب : شنت مرية.

(٧) البحر : ساقطة في ب.

١٤٣

على أمثال الآدميين ، تشير أن لا عبور ولا مسلك وراءها. وفيه بجهة الشمال جزائر السعادات ، وفيها من المدن والقرى ما لا يحصى ، ومنها يخرج قوم يقال لهم المجوس على دين النصارى : أولها جزيرة برطانية ، وهي بوسط البحر المحيط بأقصى شمال الأندلس ، ولا جبال فيها ، ولا عيون ، وإنما يشربون من ماء المطر ، ويزرعون عليه.

قال ابن سعيد : وفيه جزيرة شلطيش (١) ، وهي آهلة وفيها مدينة ، وبحرها كثير السمك ، ومنها يحمل مملّحا إلى إشبيلية ، وهي من كورة لبلة مضافة إلى عمل أونبة ، انتهى.

وقال بعضهم ، لما أجرى ذكر قرطاجنة من بلاد الأندلس : إن الزرع في بعض أقطارها يكتفي بمطرة واحدة ، وبها أقواس من الحجارة المقربصة ، وفيها من التصاوير والتماثيل وأشكال الناس وصور الحيوانات ما يحيّر البصر والبصيرة ، ومن أعجب بنائها الدواميس ، وهي أربعة وعشرون على صفّ واحد من حجارة مقربصة ، طول كل داموس مائة وثلاثون خطوة في عرض ستّين خطوة ، وارتفاع كل واحد أكثر من مائتي ذراع ، بين كل داموسين أنقاب محكمة تتصل فيها المياه من بعضها إلى بعض في العلوّ الشاهق بهندسة عجيبة وإحكام بديع ، انتهى.

قلت : أظن هذا غلطا ؛ فإن قرطاجنة التي بهذه الصفة قرطاجنة إفريقية ، لا قرطاجنة الأندلس ، والله أعلم.

وقال صاحب مناهج الفكر ، عندما ذكر قرطاجنة : وهي على البحر الرومي مدينة قديمة بقي منها آثار ، لها فحص طوله ستة أيام وعرضه يومان معمور بالقرى ، انتهى.

وذكر قبل ذلك في لورقة أنّ بناحيتها يوجد حجر اللازورد. وفي البحر الشامي الخارج من المحيط جزيرتي ميورقة ومنورقة ، وبينهما خمسون ميلا ، وجزيرة ميورقة مسافة يوم ، بها مدينة حسنة ، وتدخلها ساقية جارية على الدوام ، وفيها يقول ابن اللّبّانة (٢) : [الكامل]

__________________

(١) شلطيش : بالأندلس بالقرب من مدينة لبلة وهي جزيرة لا سور لها ، إنما هي بنيان متصل بعضه ببعض ، وبها دار صناعة الحديد ، وهي صنعة المراسي التي ترسو فيها النفس ويحيط البحر بجزيرة شلطيش من كل ناحية (صفة جزيرة الأندلس ص ١١٠).

(٢) ابن اللبانة : هو أبو بكر محمد بن عيسى شاعر دولة المعتمد ومؤلف كتاب سقيط الدرر ولقيط الزهر في شعر ابن عباد توفي سنة (٥٠٧ ه‍) بميورقة (المغرب ٢ : ٤٠٩).

١٤٤

بلد أعارته الحمامة طوقها

وكساه حلّة ريشه الطاووس

فكأنّما الأنهار فيه مدامة

وكأنّ ساحات الديار كؤوس

وقال يخاطب ملكها ذلك الوقت : [الكامل]

وغمرت بالإحسان أرض ميورقة

وبنيت ما لم يبنه الإسكندر

وجزيرة يابسة.

واستقصاء ما يتعلّق بهذا الفصل يطول ، ولو تتبّع لكان تأليفا مستقلّا ، وما أحسن قول ابن خفاجة (١) : [الكامل]

إنّ للجنّة بالأندلس

مجتلى حسن وريّا نفس

فسنا صبحتها من شنب

ودجى ليلتها من لعس

وإذا ما هبّت الريح صبا

صحت وا شوقي إلى الأندلس

وقال بعضهم في طليطلة : [الكامل]

زادت طليطلة على ما حدّثوا

بلد عليه نضرة ونعيم

الله زيّنه فوشّح خصره

نهر المجرّة والغصون نجوم

ولا حرج إن أوردنا هنا ما خاطب به أديب الأندلس أبو بحر صفوان بن إدريس الأمير عبد الرحمن ابن السلطان يوسف بن عبد المؤمن بن علي ، فإنه مناسب ، ونصّه : مولاي ، أمتع الله ببقائك الزمان وأبناءه ، كما ضمّ على حبّك أحناءهم وأحناءه ، وأوصل لك ما شئت من المنّ (٢) والأمان ، كما نظم قلائد فخرك على لبّة الدهر نظم الجمان ، فإنك الملك الهمام ، والقمر التمام ، أيامك غرر وحجول ، وفرند بهائها في صفحات الدهر يجول ، ألبست الرعية برود التأمين ، فتنافست فيك من نفيس ثمين ، وتلقّت دعوات خلدك لها باليمين ، فكم للناس ، من أمن بك وإيناس ، وللأيام ، من لوعة فيك وهيام ، وللأقطار ، من لبانات لديك وأوطار ، وللبلاد ، من قراع على تملّكك لها وجلاد ، يتمنّون شخصك الكريم على الله ويقترحون ، ويغتبقون في رياض ذكرك العاطر بمدام حبك ويصطبحون ، (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم : ٣٠] ، محبة من الله ألقاها لك حتى على الجماد ، ونصرا مؤزّرا تنطق به ألسنة السيوف

__________________

(١) ابن خفاجة : هو أبو إسحاق ابراهيم بن خفاجة المتوفى سنة ٥٣٣ ه‍. اشتهر بوصف الطبيعة ، له ديوان شعر نشره صادر في بيروت بتحقيق كرم البستاني ، والأبيات في الديوان ص ١٥١.

(٢) في ب : اليمن.

١٤٥

على أفواه الأغماد ، ومن أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها ، ومن طوى حسن نية ختم الله له بالجميل إعادتها وإبداءها ، ومن قدّم صالحا فلا بدّ أن يوازيه ، ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه. ولمّا تخاصمت فيك من الأندلس الأمصار ، وطال بها الوقوف على حبك والاقتصار ، كلّها يفصح قولا ، ويقول : أنا أحقّ وأولى ، ويصيخ إلى إجابة دعوته ويصغي ، ويتلو إذا بشّر بك (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) [الكهف : ٦٤] ، تنمّرت حمص غيظا ، وكادت تفيظ فيظا (١) وقالت : ما لهم يزيدون وينقصون ، ويطمعون ويحرصون ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [يونس : ٦٦]. ألهم (٢) السّهم الأسدّ ، والساعد الأشدّ ، والنهر ، الذي يتعاقب عليه الجزر والمدّ ، أنا مصر الأندلس والنّيل نهري ، وسمائي (٣) التأنّس والنجوم زهري ، إن تجاريتم في ذلك الشرف ، فحسبي أن أفيض في ذلك الشرف ، وإن تبجحتم بأشرف اللبوس ، فأي إزار اشتملتموه كشنتبوس ، لي ما شئت من أبنية رحاب ، وروض يستغني بنضرته عن السّحاب ، قد ملأت زهراتي وهادا ونجادا ، وتوشّح سيد نهري بحدائقي نجادا ، فأنا أولاكم بسيدنا الهمام وأحقّ ، (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) [يوسف : ٥١].

فنظرتها قرطبة شزرا ، وقالت : لقد كثّرت نزرا. وبذرت في الصخر الأصمّ بزرا ، كلام العدى ضرب من الهذيان ، وأنّى للإيضاح والبيان ، متى استحال المستقبح مستحسنا ، ومن أودع أجفان المهجور وسنا ، (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨]. يا عجبا للمراكز يقدّم على الأسنّة ، وللأثفار تفضّل على الأعنّة ، إن ادّعيتم سبقا ، فما عند الله خير وأبقى ، لي البيت المطهر الشريف ، والاسم الذي ضرب عليه رواقه التعريف ، في بقيعي محل الرجال الأفاضل ، فليرغم أنف المناضل ، وفي جامعي مشاهد ليلة القدر ، فحسبي من نباهة القدر ، فما لأحد أن يستأثر عليّ بهذا السيد الأعلى ، ولا أرضى (٤) له أن يوطئ غير ترابي نعلا ، فأقرّوا لي بالأبوّة ، وانقادوا لي على حكم النبوّة ، (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) [النحل : ٩٢] ، وكفّوا عن تباريكم ، (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤].

فقالت غرناطة : لي المعقل الذي يمتنع ساكنه من النجوم ، ولا تجري إلّا تحته جياد الغيث (٥) السّجوم ، فلا يلحقني من معاند ضرر ولا حيف ، ولا يهتدي إليّ خيال طارق ولا طيف ، فاستسلموا قولا وفعلا ، فقد أفلح اليوم من استعلى ، لي بطاح تقلّدت من جداولها

__________________

(١) تنمرت غيظا : أي أصبحت كالنمر من الغيظ.

وتفيظ فيظا : تموت موتا.

(٢) في ب : لي.

(٣) في ب : وسماء.

(٤) في ب : ولا أرتضي.

(٥) في ب : الغيم.

١٤٦

أسلاكا ، وأطلعت كواكب زهرها فعادت أفلاكا ، ومياه تسيل على أعطافي كأدمع العشاق ، وبرد نسيم يردّد ماء (١) المستجير بالانتشاق ، فحسني لا يطمع فيه ولا يحتال ، فدعوني فكل ذات ذيل تختال ، فأنا أولى بهذا السيّد الأعدل ، وما لي به من عوض ولا بدل ، ولم لا يعطف عليّ عنان مجده ويثني ، وإن أنشد يوما فإياي يعني : [الطويل]

بلاد بها عقّ الشباب تمائمي

وأول أرض مسّ جلدي ترابها

فما لكم تعتزون لفخري وتنتمون ، وتتأخرون في ميداني وتتقدمون ، تبرّءوا إليّ مما تزعمون ، (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة : ٤١].

فقالت مالقة : أتتركوني بينكم هملا ، ولم تعطوني في سيدنا أملا ، ولم ولي البحر العجاج ، والسبل الفجاج ، والجنّات الأثيرة ، والفواكه (٢) الكثيرة ، لديّ من البهجة ما تستغني به الحمام عن الهديل ، ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه ولا تبديل ، فما لي لا أعطى في ناديكم كلاما ، ولا أنشر في جيش فخاركم أعلاما؟

فكأن الأمصار نظرتها ازدراء ، فلم تر لحديثها في ميدان الذكر إجراء ، لأنها موطن لا يحلى منه بطائل ، ونظن البلاد تأوّلت فيها قول القائل : [الوافر]

إذا نطق السفيه فلا تجبه

فخير من إجابته السّكوت

فقالت مرسية : أمامي تتعاطون الفخر ، وبحضرة الدّرّ تنفقون الصخر؟ إن عدّت المفاخر ، فلي منها الأول والآخر ، أين أوشالكم (٣) من بحري ، وخرزكم من لؤلؤ نحري ، وجعجعتكم (٤) من نفثات سحري؟ فلي الروض النّضير ، والمرأى الذي ما له من نظير ، ورتقاتي (٥) التي سار مثلها في الآفاق ، وتبرقع وجه جمالها بغرّة الإصفاق ، فمن دوحات ، كم لها من بكور وروحات ، ومن أرجاء ، إليها تمدّ أيدي الرجاء ، فأبنائي فيه (٦) في الجنة الدنيوية مودعون ، يتنعمون فيما يأخذون ويدعون ، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون. فانقادوا لأمري ، وحاذروا اصطلاء جمري ، وخلّوا بيني وبين سيدنا أبي زيد ، وإلّا ضربتكم ضرب زيد ، فأنا أولاكم بهذا الملك المستأثر بالتعظيم ، (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥) [فصلت : ٣٥].

__________________

(١) في ب : يردّ ذماء.

(٢) في ب : والفاكهة.

(٣) الوشل : الماء القليل.

(٤) الجعجعة : صوت الرحى. والنفثات : كلام الساحر. وهنا النفثات الكلام البليغ الآخذ بالعقول والألباب.

(٥) في ب : وزنقاتي.

(٦) في ب : فيها.

١٤٧

فقالت بلنسية : فيم الجدال والقراع؟ وعلام الاستهام والاقتراع؟ وإلام التعريض والتصريح؟ وتحت الرّغوة اللبن الصريح ، أنا أحوزه من دونكم ، فأخمدوا ناري تحرككم وهدوئكم ، فلي المحاسن الشامخة الأعلام ، والجنّات التي تلقي إليها الآفاق يد الاستسلام ، وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام ، فأجمعوا على الانقياد لي والسلام ، وإلّا فعضّوا بنانا ، واقرعوا أسنانا ، فأنا حيث لا تدركون وأنّى ، ومولانا لا يهلكنا بما فعل السفهاء منّا.

فعند ذلك ارتمت جمرة تدمير بالشّرار ، واشتدّت (١) أسهمها لنحور الشّرار ، وقالت : عش رجبا ، ترعجبا ، أبعد العصيان والعقوق ، تتهيّأن (٢) لرتب ذوي الحقوق؟ هذه سماء الفخر فمن ضمّنك (٣) أن تعرجي ، ليس بعشّك فادرجي ، لك الوصب والخبل ، (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ) [يونس : ٩١]. أيتها الصانعة الفاعلة ، من أدراك أن تضربي وما أنت فاعلة (٤)؟ ما الذي يجديك الروض والزّهر؟ أم ما يفيدك الجدول والنهر؟ وهل يصلح العطّار ما أفسد الدّهر؟ هل أنت إلّا محطّ رحل النفاق ، ومنزل ما لسوق الخصب فيه من نفاق؟ ذراك لا يكتحل الطرف فيه بهجوع ، وقراك لا يسمن ولا يغني من جوع ، فإلام تبرز الإماء في منصّة العقائل؟ ولكن اذكري قول القائل : [الطويل]

بلنسية بيني عن القلب سلوة

فإنّك روض لا أحنّ لزهرك

وكيف يحبّ المرء دارا تقسّمت

على صارمي جوع وفتنة مشرك؟

بيد أني أسأل الله تعالى أن يوقد من توفيقك ما خمد ، ويسيل من تسديدك ما جمد ، ولا يطيل عليك في الجهالة الأمد ، وإيّاه سبحانه نسأل أن يردّ سيدنا ومولانا إلى أفضل عوائده ، ويجعل مصائب أعدائه من فوائده ، ويمكّن حسامه من رقاب المشغّبين ، ويبقيه وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين ، ويصل له تأييدا وتأبيدا ، ويمهّد له الأيام حتى تكون الأحرار لعبيد عبيده عبيدا ، ويمدّ على الدنيا سعده ، ويهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده : [البسيط]

آمين آمين لا أرضى بواحدة

حتّى أضيف إليها ألف آمينا

ثم السلام الذي يتأنّق عبقا ونشرا ، ويتألّق رونقا وبشرا ، على حضرتهم العليّة ، ومطالع أنوارهم السنيّة (٥) الجليّة ، ورحمة الله تعالى وبركاته ، انتهى.

ولما ألمّ الرحّالة ابن بطوطة في رحلته بدخوله بلاد الأندلس ـ أعادها الله تعالى للإسلام! ـ قال : فوصلت إلى بلاد (٦) الأندلس ـ حرسها الله تعالى! ـ حيث الأجر موفور

__________________

(١) في ب : واستدّت.

(٢) في ب : تتهيئين.

(٣) في ب : ضمّك.

(٤) الفاعلة الأولى : الفاجرة. والثانية : التي أحدثت الفعل.

(٥) السنية : سقطت في ب.

(٦) في ب : لبلاد الأندلس.

١٤٨

للساكن ، والثواب مذخور للمقيم والظاعن ، إلى أن قال عند ذكره غرناطة ما نصّه : قاعدة بلاد الأندلس ، وعروس مدنها ، وخارجها لا نظير له في الدنيا ، وهو مسيرة أربعين ميلا ، يخترقه نهر شنيل المشهور ، وسواه من الأنهار الكثيرة ، والبساتين الجليلة ، والجنّات والرياضات والقصور ، والكروم محدقة بها من كل جهة ، ومن عجيب مواضعها عين الدمع ، وهو جبل فيه الرياضات والبساتين ، لا مثل له بسواها ، انتهى.

وقال الشقندي : غرناطة دمشق بلاد الأندلس ، ومسرح الأبصار ، ومطمح الأنفس ، ولم تخل من أشراف أماثل ، وعلماء أكابر ، وشعراء أفاضل ، ولو لم يكن بها إلّا ما خصّها الله تعالى به من كونها قد نبع فيها النساء الشواعر كنزهون القلعية (١) والرّكونية وغيرهما ، وناهيك بهما في الظّرف والأدب ، انتهى.

ولبعضهم يتشوّق إلى غرناطة فيما ذكره بعض المؤرخين ، والصواب أن الأبيات قيلت في قرطبة كما مرّ ، والله أعلم. [الطويل]

أغرناطة الغرّاء هل لي أوبة

إليك؟ وهل يدنو لنا ذلك العهد؟

سقى الجانب الغربيّ منك غمامة (٢)

وقعقع في ساحات روضتك الرّعد؟

لياليك أسحار ، وأرضك جنّة ،

وتربك في استنشاقها عنبر ورد

وقال ابن مالك الرّعيني : [الطويل]

رعى الله بالحمراء عيشا قطعته

ذهبت به للأنس ، والليل قد ذهب

ترى الأرض منها فضّة فإذا اكتست

بشمس الضّحى عادت سبيكتها ذهب

وهو القائل : [الرمل]

لا تظنّوا أنّ شوقي خمدا

بعدكم أو أنّ دمعي جمدا

كيف أسلو عن أناس مثلهم

قلّ أن تبصر عيني أحدا

وغرناطة من أحسن بلاد الأندلس ، وتسمّى بدمشق الأندلس ؛ لأنها أشبه شيء بها ، ويشقّها نهر حدرة ، ويطلّ عليها الجبل المسمّى بشلير الذي لا يزول الثلج عنه شتاء وصيفا ،

__________________

(١) نزهون القلعية ، والرّكونية : شاعرتان سيأتي ذكرهما فيما بعد.

والقلعية : نسبة إلى القلعة ، والقلعة إقليم من كورة قبرة ، وفي الأندلس مدينتان باسم القلعة. إحداهما قلعة أيوب بقرب مدينة سالم والأخرى قلعة رباح. (صفة جزيرة الأندلس ص ١٦٣).

(٢) في ب : غمائم.

١٤٩

ويجمد عليه حتى يصير كالحجر الصّلد ، وفي أعلاه الأزاهر الكثيرة ، وأجناس الأفاويه الرفيعة ، ونزل بها أهل دمشق لمّا جاؤوا إلى الأندلس لأجل الشبه المذكور ، وقرى غرناطة ـ فيما ذكر بعض المتأخرين ـ مائتان وسبعون قرية.

وقال ابن جزيّ مرتب رحلة ابن بطوطة ، بعد ذكر (١) كلامه ، ما نصّه : قال ابن جزي: لو لا خشية أن أنسب إلى العصبيّة لأطلت القول في وصف غرناطة ، فقد وجدت مكانه ، ولكنّ ما اشتهر كاشتهارها لا معنى لإطالة القول فيه. والله درّ شيخنا أبي بكر بن محمد بن شيرين السبتي نزيل غرناطة حيث يقول : [الطويل]

رعى الله من غرناطة متبوّأ

يسرّ حزينا أو يجير طريدا

تبرّم منها صاحبي عندما رأى

مسارحها بالثلج عدن جليدا

هي الثّغر صان الله من أهلت به

وما خير ثغر لا يكون برودا؟

وقال ابن سعيد عندما أجرى ذكر قرية نارجة ـ وهي قرية كبيرة تضاهي المدن ، قد أحدقت بها البساتين ، ولها نهر يفتن الناظرين ، وهي من أعمال مالقة ـ : إنّه اجتاز مرة عليها مع والده أبي عمران موسى ، وكان ذلك زمان صباغة الحرير عندهم ، وقد ضربوا في بطن الوادي بين مقطّعاته خيما (٢) ، وبعضهم يغني ويطرب ، وسألوا : بم يعرف ذلك الموضع؟ فقالوا :

الطراز ، فقال والدي : اسم طابق مسمّاه ، ولفظ وافق معناه : [البسيط]

وقد وجدت مكان القول ذا سعة

فإن وجدت لسانا قائلا فقل

ثم قال أجز : [الطويل]

بنارجة حيث الطراز المنمنم (٣)

فقلت :

أقم فوق نهر ثغره يتبسّم

فقال :

وسمعك نحو الهاتفات فإنها (٤)

__________________

(١) في ب : ذكره.

(٢) في ب : وبعضهم يشرب ...

(٣) المنمنم : الموشّ.

(٤) الهاتفات : جمع هاتفة ، وأراد بها هنا الحمائم.

١٥٠

فقلت :

لما أبصرت من بهجة تترنّم

فقال :

أيا جنّة الفردوس لست بآدم

فقلت :

فلا يك حظّي من جناك التندّم

فقال :

يعزّ علينا أن نزورك مثل ما

فقلت :

يزول خيال من سليمى مسلّم

فقال :

فلو أنني أعطى الخيار لما عدت

فقلت :

محلّك لي عين بمرآك تنعم

فقال :

بحيث الصّبا والطّلّ من نفثاتها

فقلت :

وقت لسع روض فيه للنهر أرقم (١)

فقال :

فوا أسفي إن لم تكن لي عودة

فقلت :

فكن مالكا إني عليك متمّم (٢)

فقال :

__________________

(١) الأرقم : الحية.

(٢) مالك : هو مالك بن نويرة الذي قتله خالد بن الوليد في حروب الردّة. أما متمم فأخوه الذي بقي يرثيه طوال حياته.

١٥١

فأحسب هذا آخر العهد بيننا

فقلت :

وقد يلحظ الرّحمن شوقي فيرحم

فقال :

سلام سلام لا يزال مردّدا

فقلت :

عليك ولا زالت بك السّحب تسجم

وقال ابن سعيد : إن كورة بلنسية من شرق الأندلس ينبت (١) بها الزعفران ، وتعرف بمدينة التراب ، وبها كمثرى تسمّى الأرزة في قدر حبّة العنب ، قد جمع مع حلاوة الطعم (٢) ذكاء الرائحة ، إذا دخل دارا عرف بريحه ، ويقال : إن ضوء بلنسية يزيد على ضوء سائر بلاد الأندلس ، وبها منارة (٣) ومسارح ، ومن أبدعها وأشهرها الرّصافة ومنية ابن أبي عامر.

وقال الشرف أبو جعفر بن مسعدة الغرناطي من أبيات فيها : [الوافر]

هي الفردوس في الدنيا جمالا

لساكنها وكارهها البعوض

وقال بعضهم فيها : [المجتث]

ضاقت بلنسية بي

وذاد عنّي غموضي

رقص البراغيث فيها

على غناء البعوض

وفيها لابن الزّقّاق البلنسي : [الوافر]

بلنسية ـ إذا فكّرت فيها

وفي آياتها ـ أسنى البلاد

وأعظم شاهدي منها عليها

وأنّ جمالها للعين بادي

كساها ربّها ديباج حسن

لها علمان من بحر ووادي

وقال ابن سعيد أيضا : أنشدني والدي قال : أنشدني مروان بن عبد الله بن عبد العزيز ملك بلنسية لنفسه بمراكش قوله : [المتقارب]

كأن بلنسية كاعب

وملبسها سندس أخضر

__________________

(١) في ب : تنبت الزعفران.

(٢) في ب : المطعم.

(٣) في ب : منازه.

١٥٢

إذا جئتها سترت نفسها

بأكمامها فهي لا تظهر

وأما قول أبي عبد الله بن عياش «بلنسية بيني ـ البيتين» وقد سبقا ، فقال ابن سعيد : إن ذلك حيث صارت ثغرا يصابحها العدوّ ويماسيها ، انتهى.

وقال أبو الحسن بن حريق (١) يجاوب ابن عياش : [الكامل]

بلنسية قرارة كلّ حسن

حديث صحّ في شرق وغرب

فإن قالوا : محلّ غلاء سعر

ومسقط ديمتي طعن وضرب

فقل هي جنّة حفّت رباها

بمكروهين من جوع وحرب

وقال الرّصافي في رصافتها : [المتقارب]

ولا كالرّصافة من منزل

سقته السحائب صوب الوليّ (٢)

أحنّ إليها ومن لي بها

وأين السّريّ من الموصليّ

وقال ابن سعيد : وبرصافة بلنسية مناظر وبساتين ومياه ، ولا نعلم في الأندلس ما يسمّى بهذا الاسم إلّا هذه ورصافة قرطبة ، انتهى.

ومن أعمال بلنسية قرية المنصف التي منها الفقيه الزاهد أبو عبد الله المنصفيّ وقبره كان بسبتة يزار ، رحمه الله تعالى! ومن نظمه : [السريع]

قالت لي النفس أتاك الردى

وأنت في بحر الخطايا مقيم

فما ادّخرت الزاد ، قلت : اقصري

هل يحمل الزاد لدار الكريم

ومن عمل بلنسية قرية بطرنة ، وهي التي كانت فيها الوقعة المشهورة للنصارى على المسلمين ، وفيها يقول أبو إسحاق بن يعلى الطّرسوني (٣) : [الطويل]

لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم

حلل الحرير عليكم ألوانا

ما كان أقبحهم وأحسنكم بها

لو لم يكن ببطرنة ما كانا

__________________

(١) أبو الحسن علي بن حريق المتوفى سنة ٦٢٢ ه‍. من شعراء زاد المسافر وهو شاعر فحل مستبحر في الأدب واللغات (زاد المسافر ص ٦٤ والتكملة ٢ : ٦٧٩).

(٢) الولي : المطر يأتي بعد مطر.

(٣) في ب : أبو إسحاق بن معلّى.

١٥٣

ومن عمل بلنسية متيطة التي نسب إليها جماعة من العلماء والأدباء.

ومن عمل بلنسية مدينة أندة التي في جبلها معدن الحديد ، وأما رندة ـ بالراء ـ فهي في متوسط الأندلس ، ولها حصن يعرف بأندة أيضا.

وفي إشبيلية ـ أعادها الله! ـ من المتفرّجات والمتنزهات كثير ، ومن ذلك مدينة طريانة ، فإنها من مدن إشبيلية ومتنزهاتها ، وكذلك تيطل ، فقد ذكر ابن سعيد جزيرة تيطل في المتفرجات.

وقال أبو عمران موسى بن سعيد في جوابه لأبي يحيى صاحب سبتة لما استوزره مستنصر بني عبد المؤمن ، وكتب إلى المذكور يرغّبه في النقلة عن الأندلس إلى مرّاكش ، ما نصّ محلّ الحاجة منه : وأما ما ذكر سيدي من التخيير بين ترك الأندلس وبين الوصول إلى حضرة مراكش ، فكفى الفهم العالي من الإشارة قول القائل : [الكامل]

والعزّ محمود وملتمس

وألذّه ما كان (١) في الوطن

فإذا نلت بك السماء في تلك الحضرة ، فعلى من أسود فيها؟ ومن ذا أضاهي بها؟ : [الرمل]

لا رقت بي همّة إن لم أكن

فيك قد أمّلت كلّ (٢) الأمل

وبعد هذا ، فكيف أفارق الأندلس وقد علم سيدي أنها جنّة الدنيا بما حباها الله به من اعتدال الهواء ، وعذوبة الماء ، وكثافة الأفياء ، وأن الإنسان لا يبرح فيها بين قرّة عين وقرار نفس [الطويل]

هي الأرض لا ورد لديها مكدّر

ولا طلّ (٣) مقصور ولا روض مجدب

أفق صقيل ، وبساط مدبّج ، وماء سائح ، وطائر مترنّم بليل ، وكيف يعدل الأديب عن أرض على هذه الصفة؟ فيا سموأل الوفاء (٤) ، ويا حاتم السماح (٥) ، ويا جذيمة الصفاء (٦) ،

__________________

(١) في ب : ما نيل.

(٢) في ب : فوق.

(٣) في ب : ولا ظلّ.

(٤) السموأل : هو السموأل بن عادياء المشهور بالوفاء.

(٥) حاتم : هو حاتم الطائي ، مضرب المثل في الجود والكرم.

(٦) جذيمة : هو جذيمة الأبرش أحد ملوك العرب.

١٥٤

كمّل لمن أمّلك النعمة بتركه في موطنه ، غير مكدّر لخاطره بالتحرّك من معدنه ، متلفّتا إلى قول القائل (١) : [البسيط]

وسوّلت لي نفسي أن أفارقها

والماء في المزن أصفى منه في الغدر

فإن أغناه اهتمام مؤمّله عن ارتياد المراد ، وبلّغه دون أن يشدّ قتبا ولا أن ينضي عيسا غاية المراد ، أنشد ناجح المرغوب ، بالغ المطلوب : [الطويل]

وليس الذي يتّبّع الوبل رائدا

كمن جاءه في داره رائد الوبل

وربّ قائل إذا سمع هذا التبسّط على الأماني : ما له تشطّط ، وعدل عن سبيل التأدّب وتبسّط؟ ولا جواب عندي إلّا قول القائل : [البسيط]

فهذه خطّة ما زلت أرقبها

فاليوم أبسط آمالي وأحتكم

وما لي لا أنشد ما قاله المتنبي في سيف الدولة : [المتقارب]

ومن كنت بحرا له يا عليّ

لم يقبل الدّرّ إلّا كبارا

انتهى المقصود منه.

وقال الحجاري : إن مدينة شريش بنت إشبيلية ، وواديها ابن واديها ، ما أشبه سعدى بسعيد ، وهي مدينة جليلة ضخمة الأسواق ، لأهلها همم ، وظرف في اللباس ، وإظهار الرفاهية ، وتخلّق بالآداب ، ولا تكاد ترى بها إلّا عاشقا أو (٢) معشوقا ، ولها من الفواكه ما يعمّ ويفضل ، وممّا اختصّت به إحسان الصنعة في المجبنات ، وطيب جبنها يعين على ذلك ، ويقول أهل الأندلس : من دخل شريش ولم يأكل بها المجبنات فهو محروم ، انتهى.

والمجبنات : نوع من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها ، وتقلى بالزيت الطيب.

وفي شلب يقول الفاضل الكاتب أبو عمرو بن مالك بن سبدمير (٣) : [الخفيف]

أشجاك النسيم حين يهبّ

أم سنى البرق إذ يخبّ ويخبو

أم هتوف على الأراكة تشدو

أم هتون من الغمامة سكب

كلّ هذاك للصّبابة داع

أيّ صبّ دموعه لا تصبّ

__________________

(١) هذا البيت للأعمى التطيلي قاله حين أزمع مفارقة إشبيلية (انظر ديوانه ص ٤٩).

(٢) في ب : عاشقا ومعشوقا.

(٣) في ب : سيدمير.

١٥٥

أنا لو لا النسيم والبرق والور

ق وصوب الغمام ما كنت أصبو

ذكّرتني شلبا ، وهيهات منّي

بعدما استحكم التّباعد ، شلب

وتسمى أعمال شلب كورة أشكونبة ، وهي متصلة بكورة أشبونة (١) ، وهي ـ أعني أشكبونة ـ قاعدة جليلة ، لها مدن ومعاقل ، ودار ملكها قاعدة شلب ، وبينها وبين قرطبة سبعة أيام ، ولمّا صارت لبني عبد المؤمن ملوك مراكش أضافوها إلى كورة إشبيلية ، وتفتخر شلب بكون ذي الوزارتين ابن عمّار منها ، سامحه الله!.

ومنها القائد أبو مروان عبد الملك بن بدران ، وربما قيل «ابن بدرون» (٢) الأديب المشهور ، شارح قصيدة ابن عبدون التي أولها : [البسيط]

الدّهر يفجع بعد العين بالأثر

فما البكاء على الأشباح والصّور

وهذا الشرح شهير بهذه البلاد المشرقية ، ومن نظم ابن بدرون المذكور قوله : [البسيط]

العشق لذّته التّعنيق والقبل

كما منغّصه التثريب والعذل

يا ليت شعري هل يقضى وصالكم

لو لا المنى لم يكن ذا العمر يتّصل

ومنها نحويّ زمانه وعلّامته أبو محمد عبد الله بن السّيد البطليوسي (٣) ، فإنّ شلبا بيضته ، ومنها كانت حركته ونهضته ، كما في الذخيرة ، وهو القائل : [المتقارب]

إذا سألوني عن حالتي

وحاولت عذرا فلم يمكن

أقول : بخير ، ولكنّه

كلام يدور على الألسن

وربّك يعلم ما في الصّدور

ويعلم خائنة الأعين

وقال الوزير أبو عمرو بن الغلّاس (٤) يمدح بطليوس بقوله : [الطويل]

بطليوس لا أنساك ما اتّصل البعد

فلله غور في جنابك أو نجد (٥)

__________________

(١) في ب : اكشونبة.

(٢) ابن بدرون : هو عبد الملك بن بدرون الحضرمي الشلبي المتوفى سنة (٦٠٨ ه‍). كان كاتبا أديبا شرح قصيدة ابن عبدون. وابن عبدون هو شاعر بني الأفطس (انظر التحفة ص ١٠٨ ، والمغرب ١ : ٣٧٤).

(٣) ابن السيد البطليوسي المتوفى سنة (٥٢١ ه‍) نسب إلى بطليوس لأنه لازمها كثيرا. (انظر : المغرب ١ : ٣٨٥).

(٤) في ب : الفلاس.

(٥) الغور : المنخفض من الأرض. والنجد : ما ارتفع منها.

١٥٦

ولله دوحات تحفّك ينّعا (١)

تفجّر واديها كما شقّق البرد

وبنو الغلاس من أعيان حضرة بطليوس ، وأبو عمرو المذكور أشهرهم ، وهو من رجال الذخيرة والمسهب ، رحمه الله تعالى!.

وفي شاطبة يقول بعضهم : [المديد]

نعم ملقى الرّحل شاطبة

لفتى طالت به الرّحل

بلدة أوقاتها سحر

وصبا في ذيله بلل

ونسيم عرفه أرج

ورياض غصنها ثمل (٢)

ووجوه كلّها غرر

وكلام كلّه مثل

وفي برجة يقول بعضهم : [المتقارب]

إذا جئت برجة مستوفزا

فخذ في المقام وخلّ السّفر (٣)

فكلّ مكان بها جنّة

وكلّ طريق إليها سقر

واعلم أنه لو لم يكن للأندلس من الفضل سوى كونها ملاعب الجياد للجهاد لكان كافيا ، ويرحم الله لسان الدين بن الخطيب حيث كتب على لسان سلطانه إلى بعض العلماء العاملين ما فيه إشارة إلى بعض ذلك ، ما نصّه : من أمير المسلمين فلان ، إلى الشيخ كذا ابن الشيخ كذا ، وصل الله له سعادة تجذبه ، وعناية إليه تقرّبه ، وقبولا منه يدعوه إلى خير ما عند الله ويندبه! سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته ، أمّا بعد حمد الله المرشد المثيب ، السميع المجيب ، معوّد اللطف الخفي والصنع العجيب ، المتكفّل بإنجاز وعد النصر العزيز والفتح القريب ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله ذي القدر الرفيع والعزّ المنيع والجناب الرحيب ، الذي به نرجو ظهور عبدة الله على عبدة الصليب ، ونستظهر منه (٤) على العدوّ بالحبيب ، ونعدّه عدّتنا لليوم العصيب ، والرضا عن آله وصحبه الذين فازوا من مشاهدته بأوفى النصيب ، ورموا إلى هدف مرضاته بالسّهم المصيب ، فإنّا كتبناه إليكم ـ كتب الله تعالى لكم عملا صالحا يختم الجهاد صحائف برّه ، وتتمخّض لأن تكون كلمة الله هي العليا جوامع أمره! وجعلكم ممّن تهنّى في الأرض التي فيها أبواب الجنّة مدة عمره! ـ من حمراء غرناطة

__________________

(١) في ب : بينها.

(٢) ثمل : سكران ، وأراد أن الغصن يهتز كانه شارب خمر.

(٣) استوفز : جلس كأنه يريد القيام.

(٤) نستظهر : نتقوّى.

١٥٧

ـ حرسها الله تعالى! ـ ولطف الله هامي السحاب ، وصنعه رائق الجناب ، والله يصل لنا ولكم ما عوّده من صلة لطفه عند انبتات الأسباب ، وإلى هذا أيّها المولى الذي هو بركة المغرب المشار إليه بالبنان ، وواحده في رفعة الشأن ، المؤثر ما عند الله على الزخرف الفتّان ، المتقلّل من المتاع الفان ، المستشرف (١) إلى مقام العرفان ، من درج الإسلام والإيمان والإحسان ، فإننا لما نؤثره من برّكم الذي نعدّه من الأمر الأكيد ، ونضمره من ودّكم الذي نحلّه محلّ الكنز العتيد ، ونلتمسه من دعائكم التماس العدّة والعديد ، لا نزال نسأل عن أحوالكم التي ترقّت في أطوار السعادة ، ووصلت جناب الحقّ بهجر العادة ، وألقت إلى يد التسليم لله والتوكّل عليه بالمقادة ، فنسرّ بما هيّأ الله تعالى لكم من القبول ، وبلّغكم من المأمول ، وألهمكم من الكلف بالقرب إليه والوصول ، والفوز بما لديه والحصول. وعندما ردّ الله علينا ملكنا الردّ الجميل ، وأنالنا فضله الجزيل ، وكان لعثارنا المقيل ، خاطبناكم بذلك لمكانكم من ودادنا ، ومحلّكم من حسن اعتقادنا ، ووجّهنا إلى وجهة دعائكم وجه اعتدادنا ، والله ينفعنا بجميل الظنّ في دينكم المتين ، وفضلكم المبين ، ويجمع الشّمل بكم في الجهاد عن الدين. وتعرّفنا الآن بمن له بأنبائكم اعتناء ، وعلى جلالكم حمد وثناء ، ولجناب ودّكم اعتزاء وانتماء ، بتجاول عزمكم (٢) بين حجّ مبرور ترغبون من أجره في ازدياد ، وتجددون العهد منه بأليف اعتياد ، وبين رباط في سبيل الله وجهاد ، وتوثير مهاد بين ربا أثيرة عند الله ووهاد ، يحشر يوم القيامة شهداؤها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ، والله أصدق القائلين الصادقين ، حيث لا غارة لغير عدوّ الإسلام تتّقى ، إلّا لابتغاء ما لدى الله ترتقى ، حيث رحمة الله قد فتحت أبوابها ، وحور الجنان قد زيّنت أترابها ، دار العرب الذين قرعوا باب الفتح ، وفازوا بجزيل المنح ، وخلّدوا الآثار ، وأرغموا الكفّار ، وأقالوا العثار ، وأخذوا الثار ، وأمنوا من لفح جهنّم بما علا على وجوههم من ذلك الغبار ، فكتبنا إليكم هذا نقوّي بصيرتكم على جهة الجهاد من العزمين ، ونهبّ (٣) بكم إلى إحدى الحسنيين ، والصبح غير خاف على ذي عينين ، والفضل ظاهر لإحدى المنزلتين ، فإنكم إن (٤) حججتم أعدتم فرضا أدّيتموه ، وفضلا ارتديتموه ، فائدته عليكم مقصورة ، وقضيّته فيكم محصورة ، وإذا أقمتم الجهاد جلبتم إلى حسناتكم عملا غريبا ، واستأنفتم سعيا من الله قريبا ، وتعدّت المنفعة إلى ألوف من النفوس ، المستشعرة لباس البوس ، ولو كان الجهاد بحيث يخفى عليكم فضله لأطنبنا ، وأعنّة الاستدلال أرسلنا (٥) ، هذا لو قدمتم على هذا الوطن وفضلكم غفل من الاشتهار ، ومن به لا يوجب لكم

__________________

(١) المستشرف : المتطلع.

(٢) تجاول عزمكم : تردده وتكراره.

(٣) في ب : ونهيب.

(٤) في ب : فإنكم إذا.

(٥) أطنب في الكلام : مضى فيه وبالغ. والأعنة : جمع عنان ، وهو في الأصل سير اللجام الذي تمسك به الدابّة. وقيل : أرخى لدابته العنان : أي تركها تسير كما تشاء.

١٥٨

ترفيع المقدار ، فكيف وفضلكم أشهر من محيّا النهار؟ ولقاؤكم أشهى الآمال وآثر الأوطار ، فإن قوي عزمكم والله يقوّيه ، ويعيننا من برّكم على ما ننويه ، فالبلاد بلادكم ، وما فيها طريفكم وتلادكم (١) ، وكهولها إخوانكم ، وأحداثها أولادكم ، ونرجو أن تجدوا لذكركم الله في رباها حلاوة زائدة ، ولا تعدموا من روح الله فيها فائدة ، وتتكيّف نفسكم فيها تكيّفات تقصر عنها خلوات السلوك ، إلى ملك الملوك ، حتى تغتبطوا بفضل الله الذي يوليكم ، وتروا أثر رحمته فيكم ، وتخلفوا فخر هذا الانقطاع إلى الله في قبيلكم وبنيكم ، وتختموا العمر الطيب بالجهاد الذي يعليكم ، ومن الله تعالى يدنيكم ، فنبيّكم العربي صلوات الله عليه وسلامه نبيّ الرحمة والملاحم ، ومعمل الصوارم ، وبجهاد الفرنج ختم عمل جهاده والأعمال بالخواتم ، هذا على بعد بلادهم من بلاده ، وأنتم أحقّ الناس باقتفاء جهاده ، والاستباق إلى آماده ، هذا ما عندنا حثثناكم عليه ، وندبناكم إليه ، وأنتم في إيثار هذا الجوار ، ومقارضة ما عندنا بقدومكم على بلادنا من الاستبشار ، بحسب ما يخلق عنكم من بيده مقادة الاختيار ، وتصريف الليل والنهار ، وتقليب القلوب وإجالة الأفكار ، وإذا تعارضت الحظوظ فما عند الله خير للأبرار ، والدار الآخرة دار القرار ، وخير الأعمال عمل أوصل إلى الجنة وباعد من النار ، ولتعلموا أنّ نفوس أهل الكشف والاطّلاع ، بهذه الأرجاء والأصقاع ، قد اتّفقت أخبارها ، واتّحدت أسرارها ، على البشارة بفتح قرب أوانه ، وأظلّ زمانه ، فنرجو الله أن تكونوا ممّن يحضر مدعاه (٢) ، ويكرم فيه مسعاه ، ويسلف فيه العمل الذي يشكره الله ويرعاه ، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته ، انتهى.

ولمّا دخل الأندلس أمير المسلمين عليّ بن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللّمتوني (٣) ملك المغرب والأندلس ، وأمعن النظر فيها ، وتأمّل وصفها وحالها ، قال : إنها تشبه عقابا مخالبه طليطلة ، وصدره قلعة رباح ، ورأسه جيّان ، ومنقاره غرناطة ، وجناحه الأيمن باسط إلى المغرب ، وجناحه الأيسر باسط إلى المشرق ، في خبر طويل لم يحضرني الآن ، إذ تركته مع كتبي بالمغرب ، جمعني الله بها على أحسن الأحوال!.

ومع كون أهل الأندلس سبّاق حلبة الجهاد ، مهطعين (٤) إلى داعيه من الجبال والوهاد ، فكان لهم في التّرف والنعيم والمجون ومداراة الشعراء خوف الهجاء محلّ وثير المهاد ، وسيأتي

__________________

(١) الطريف : المكتسب المستحدث من المال. والتلاد والتليد : القديم الموروث.

(٢) مدعاه : اسم مكان من الدعاء. أراد : أن تحضروا المكان الذي يدعى فيه إليه.

(٣) اللّمتوني : نسبة إلى لمتونة ، وهي قبيلة من قبائل البربر.

(٤) مهطعين : مسرعين.

١٥٩

في الباب السابع من هذا القسم من ذلك وغيره ما يشفي ويكفي ،

ولكن سنح لي أن أذكر هنا حكاية أبي بكر المخزومي الهجّاء المشهور الذي قال فيه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة (١) : إنه كان أعمى شديد الشرّ ، معروفا بالهجاء ، مسلّطا على الأعراض ، سريع الجواب ، ذكيّ الذهن ، فطنا للمعاريض (٢) ، سابقا في ميدان الهجاء ، فإذا مدح ضعف شعره. والحكاية هي ما حكاه أبو الحسن بن سعيد في الطالع السعيد ، إذ قال حكاية عن أبيه فيما أظن : قدم المذكور ـ يعني المخزومي ـ على غرناطة أيام ولاية أبي بكر بن سعيد ، ونزل قريبا مني ، وكنت أسمع به بنار صاعقة يرسلها الله على من يشاء من عباده ، ثم رأيت أن أبدأه بالتأنيس والإحسان ، فاستدعيته بهذه الأبيات : [المجتثّ]

يا ثانيا للمعرّي

في حسن نظم ونثر

وفرط ظرف ونبل

وغوص فهم وفكر

صل ثمّ واصل حفيّا

بكلّ برّ وشكر

وليس إلّا حديث

كما زها عقد درّ

وشادن يتغنّى

على رباب وزمر

وما يسامح فيه ال

غفور من كأس خمر

وبيننا عهد حلف

لياسر حلف كفر

نعم فجدّده عهدا

بطيب شكر ويسر

والكأس مثل رضاع

ومن كمثلك يدري

ووجّه له الوزير أبو بكر بن سعيد عبدا صغيرا قاده ، فلما استقرّ به المجلس ، وأفعمته روائح النّدّ والعود والأزهار ، وهزّت عطفه الأوتار ، قال : [البسيط]

دار السّعيديّ ذي أم دار رضوان

ما تشتهي النّفس فيها حاضر داني (٣)

سقت أباريقها للنّدّ سحب ندى

تحدى برعد لأوتار وعيدان (٤)

والبرق من كلّ دنّ ساكب مطرا

يحيى به ميت أفكار وأشجان (٥)

__________________

(١) الإحاطة ١ : ٤٣٢ ـ ٤٣٥.

(٢) المعاريض : التورية.

(٣) دار رضوان : هي الجنة. والداني : القريب.

(٤) تحدى : تساق. والأوتار والعيدان : من آلات الموسيقى.

(٥) الدنّ : خابية الخمر. والأشجان : الأحزان.

١٦٠