نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

ولها البرّ والبحر ، والسهل والوعر ، وشكلها مثلث ، وهي معتمدة على ثلاثة أركان ؛ الأول هو الموضع الذي فيه صنم قادس المشهور بالأندلس ، ومنه مخرج البحر المتوسط الشامي الآخذ بقبليّ الأندلس ، والركن الثاني هو بشرقي الأندلس بين مدينة بربونة (١) ومدينة برذيل مما بأيدي الفرنجة اليوم بإزاء جزيرتي ميورقة ومنورقة بمجاورة من البحرين ؛ البحر المحيط والبحر المتوسط ، وبينهما البرّ الذي يعرف بالأبواب ، وهو المدخل إلى بلاد الأندلس من الأرض الكبيرة على بلد إفرنجة ، ومسافته بين البحرين مسيرة يومين ، ومدينة بربونة تقابل البحر المحيط ، والركن الثالث منها هو ما بين الجوف (٢) والغرب من حيّز جلّيقية ، حيث الجبل الموفي على البحر ، وفيها الصنم العالي المشبّه بصنم قادس ، وهو الطالع على بلد برطانية.

قال : الأندلس أندلسان في اختلاف هبوب أرياحها (٣) ومواقع أمطارها وجريان أنهارها: أندلس غربي ، وأندلس شرقي ، فالغربي منهما ما جرت أوديته إلى البحر المحيط الغربي ، وتمطر (٤) بالرياح الغربية ، ومبتدأ هذا الحوز من ناحية المشرق مع المفازة الخارجة مع الجوف إلى بلد شنتمريّة (٥) طالعا إلى حوز إغريطة المجاورة لطليطلة مائلا إلى الغرب ومجاورا للبحر المتوسط الموازي لقرطاجنّة الخلفاء (٦) التي من بلد لورقة (٧). والحوز الشرقي المعروف بالأندلس الأقصى ، وتجري أوديته إلى الشرق ، وأمطاره بالريح الشرقية ، وهو من حدّ جبل البشكنش (٨) ، هابطا مع وادي إبرة إلى بلد شنت مرية ، ومن جوف هذا البحر وغربه المحيط ، وفي القبلة منه البحر الغربي الذي منه يجري البحر المتوسط الخارج إلى بلد الشام ، وهو البحر المسمّى ببحر تيران ، ومعناه الذي يشقّ دائرة الأرض ، ويسمى البحر الكبير.

قال أبو بكر عبد الله بن عبد الحكم المعروف بابن النظام : بلد الأندلس عند علماء أهله

__________________

(١) في ب : نربونة.

(٢) في ب : بلد.

(٣) في ب : رياحها.

(٤) في ب : ويمطر.

(٥) شنتمرية : مدينة في الأندلس من مدن أشبونة ، وهي أتقن حصون بنبلونة بنيانا. (صفة جزيرة الأندلس. صفحة ١١٤)

(٦) في ب : قرطاجنة الحلفاء. وهي بالأندلس من كورة تدمير وهي فرضة مدينة مرسية (صفة جزيرة الأندلس صفحة ١٨١).

(٧) لورقة : من بلاد تدمير ، إحدى المعاقل السبعة التي عاهد عليها تدمير ، وهي كثيرة الزرع والخمر.

(٨) في ب : البشكنس.

١٢١

أندلسان ، فالأندلس الشرقي منه ما صبّت أوديته إلى البحر الرومي المتوسط المتصاعد من أسفل أرض الأندلس إلى المشرق ، وذلك ما بين مدينة تدمير إلى سرقسطة ، والأندلس الغربي ما صبّت أوديته إلى البحر الكبير المعروف بالمحيط أسفل ذلك الحدّ إلى ساحل المغرب ، فالشرقي منهما يمطر بالريح الشرقية ، ويصلح عليها ، والغربيّ يمطر بالريح الغربية وبها صلاحه ، وجباله هابطة إلى الغرب جبلا بعد جبل. وإنما قسّمته الأوائل جزأين ؛ لاختلافهما في حال أمطارهما ، وذلك أنه مهما استحكمت الريح الغربية كثر مطر الأندلس الغربي وقحط الأندلس الشرقي ، ومتى استحكمت الريح الشرقية كثر مطر الأندلس الشرقيّ وقحط الغربي ، وأودية هذا القسم تجري من الشرق إلى الغرب بين هذه الجبال. وجبال الأندلس الغربي تمتدّ إلى الشرق جبلا بعد جبل. تقطع من الجوف إلى القبلة ، والأودية التي تخرج من تلك الجبال يقطع بعضها إلى القبلة وبعضها إلى الشرق ، وتنصبّ كلّها إلى البحر المحيط بالأندلس (١) القاطع إلى الشام ، وهو البحر الرومي ، وما كان من بلاد جوفي الأندلس من بلاد جلّيقيّة وما يليها فإنّ أوديته تنصبّ إلى البحر الكبير المحيط بناحية الجوف.

وصفة الأندلس شكل مركّن على مثال الشكل المثلث : ركنها الواحد فيما بين الجنوب والمغرب حيث اجتماع البحرين عند صنم قادس ، وركنها الثاني في بلد جلّيقيّة حيث الصنم المشبه صنم قادس مقابل جزيرة برطانية ، وركنها الثالث بين مدينة بربونة ومدينة برذيل من بلد الفرنجة بحيث يقرب البحر المحيط من البحر الشامي المتوسط ، فيكادان يجتمعان في ذلك الموضع ، فيصير بلد الأندلس جزيرة بينهما في الحقيقة ، لو لا أنه يبقى بينهما برزخ برية صحراء وعمارة مسافة مسيرة يوم للراكب ، منه المدخل إلى الأرض الكبيرة التي يقال لها الأبواب ، ومن قبله يتصل بلد الأندلس بتلك البلاد المعروفة بالأرض الكبيرة ذات الألسن المختلفة.

قال : وأوّل من سكن بالأندلس (٢) على قديم الأيام فيما نقله الأخباريون من بعد عهد الطوفان على ما يذكره علماء عجمها قوم يعرفون ب «الأندلش» ـ معجمة الشين ـ بهم سمّي المكان ، فعرّب فيما بعد بالسين غير المعجمة ، كانوا الذين عمروها وتناسلوا فيها وتداولوا ملكها دهرا ، على دين التمجّس والإهمال والإفساد في الأرض ، ثم أخذهم الله بذنوبهم ، فحبس المطر عنهم ، ووالى القحط عليهم ، وأعطش بلادهم حتى نضبت مياهها ، وغارت

__________________

(١) في ب : إلى البحر المتوسط للأندلس.

(٢) في ب : الأندلس.

١٢٢

عيونها ، ويبست أنهارها ، وبادت أشجارها ، فهلك أكثرهم ، وفرّ من قدر على الفرار منهم ، فأقفرت الأندلس منهم ، وبقيت خالية فيما يزعمون مائة سنة وبضع عشرة سنة ، وذلك من حدّ بلد الفرنجة إلى حدّ بحر الغرب الأخضر ، وكان عدّة ما عمرتها هذه الأمة البائدة مائة عام وبضع عشرة سنة. ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة ، فدخل إليها بعد إقفارها تلك المدّة الطويلة قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية تخفّفا منهم لإمحال توالى على أهل مملكته ، وتردّد عليهم حتى كاد يفنيهم ، فحمل منهم خلقا في السفن مع قائد من قبله يدعى «أبطريقس» فأرسوا بريف الأندلس الغربي ، واحتلّوا «بجزيرة قادس» ، فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت ، فجرت أنهارها ، وانفجرت عيونها ، وحييت أشجارها ، فنزلوا الأندلس مغتبطين ، وسكنوها معتمرين (١) ، وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ، ونصّبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم ، وهم ـ مع ذلك ـ على ديانة من قبلهم من الجاهلية ، وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية ، اخترعها ملوكهم وسكنوها ، فاتّسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ، ونسخهم بعجم رومة ، بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدّتهم تلك أحد عشر ملكا. ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم «إشبان بن طيطش» ، وباسمه سمّيت : الأندلس «إشبانية» ، وذكر بعضهم أنّ اسمه : «أصبهان» فأحيل بلسان العجم ، وقيل : بل كان مولده «بأصبهان» فغلب اسمها عليه ، وهو الذي بنى إشبيلية ، وكان «إشبانية» اسما خالصا لبلد «إشبيلية» الذي كان ينزله «إشبان» هذا ، ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله ، فالعجم الآن يسمّونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه ، وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدّنيا فيما زعموا ، وكان غزا الأفارقة عندما سلّطه الله عليهم في جموعه ، ففضّ عساكرهم ، وأثخن فيهم ، ونزل عليهم بقاعدتهم «طالقة» وقد تحصّنوا فيها منه ، فابتنى عليهم مدينة «إشبيلية» اليوم ، واتّصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها الله عليه ، وغلبهم ، واستوت له مملكة الأندلس بأسرها ، ودان له من كان فيها ، فهدم مدينة طالقة ، ونقل رخامها وآلاتها إلى مدينة إشبيلية ، فاستتمّ بناءها ، واتّخذها دار مملكته ، واستغلظ سلطانه في الأرض ، وكثرت جموعه ، فعلا وعظم عتوّه ، ثم غزا «إيليا» ـ وهي «القدس الشريف» ـ من إشبيلية بعد سنتين من ملكه ، خرج إليها في السفن فغنمها وهدمها ، وقتل فيها من اليهود مائة ألف ، واسترقّ مائة ألف ، ونقل (٢) رخام «إيليا» وآلاتها إلى الأندلس ، وقهر الأعداء ، واشتدّ سلطانه ، انتهى.

__________________

(١) معتمرين : أي يريدون عمارة البلاد.

(٢) في ب : وانتقل.

١٢٣

وذكر بعض المؤرّخين أن الغرائب التي أصيبت في مغانم الأندلس أيام فتحها كمائدة سليمان عليه الصلاة والسلام التي ألفاها طارق بن زياد بكنيسة طليطلة وقليلة الدّرّ التي ألفاها موسى بن نصير بكنيسة ماردة وغيرهما من طرائف الذخائر ، إنما كانت ممّا صار لصاحب الأندلس من غنيمة بيت المقدس ، إذ حضر فتحها مع «بخت نصّر» ، وكان اسم ذلك الملك «بريان» ، وفي سهمه وقع ذلك ومثله ممّا كانت الجنّ تأتي به نبيّ الله سليمان ، على نبيّنا وعليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام! انتهى.

وقال غير واحد من المؤرخين : كان أهل المغرب الأقصى يضرّون بأهل الأندلس (١) ؛ لاتّصال الأرض ، ويلقون منهم الجهد الجهيد في كل وقت ، إلى أن اجتاز بهم الإسكندر ، فشكوا حالهم إليه ، فأحضر المهندسين ، وحضر إلى الزقاق ، فأمر المهندسين بوزن سطح الماء من المحيط والبحر الشامي ، فوجدوا المحيط يعلو البحر الشامي بشيء يسير ، فأمر برفع البلاد التي على ساحل البحر الشامي ، ونقلها من الحضيض إلى الأعلى ، ثم أمر بحفر ما بين طنجة وبلاد الأندلس من الأرض ، فحفرت حتى ظهرت الجبال السفلية ، وبنى عليها رصيفا بالحجر والجيّار بناء محكما وجعل طوله اثني عشر ميلا ، وهي المسافة التي كانت بين البحرين ، وبنى رصيفا آخر يقابله من ناحية طنجة ، وجعل بين الرصيفين سعة ستة أميال ، فلمّا كمل الرصيفان حفر من جهة البحر الأعظم ، وأطلق فم الماء بين الرصيفين ، فدخل في البحر الشامي ، ثم فاض ماؤه ، فأغرق مدنا كثيرة ، وأهلك أمما عظيمة كانت على الشطّين ، وطفا الماء على الرصيفين إحدى عشرة قامة ، فأمّا الرصيف الذي يلي بلاد الأندلس ، فإنّه يظهر في بعض الأوقات إذا نقص الماء ظهورا بيّنا مستقيما على خطّ واحد ، وأهل الجزيرتين يسمّونه القنطرة ، وأما الرصيف الذي من جهة العدوة ، فإن الماء حمله في صدره ، واحتفر ما خلفه من الأرض اثني عشر ميلا ، وعلى طرفه من جهة المغرب قصر الجواز وسبتة وطنجة ، وعلى طرفه من الناحية الأخرى جبل طارق بن زياد وجزيرة طريف وغيرهما والجزيرة الخضراء ، وبين سبتة والجزيرة الخضراء عرض البحر. انتهى ملخصا ، وقد تكرّر بعضه مع ما جلبناه ، والعذر بيّن لارتباط الكلام بعضه ببعض.

وقال ابن سعيد : ذكر الشريف أن لا حظّ لأرض الأندلس في الإقليم الثالث ، قال : ويمرّ بجزيرة الأندلس الإقليم (٢) الرابع على ساحلها الجنوبي وما قاربه من قرطبة وإشبيلية ومرسية

__________________

(١) يضرون بأهل الأندلس : يأتيهم الضرر من قبلهم.

(٢) في ب : الأقاليم الرابع.

١٢٤

وبلنسية ، ثم يمرّ على جزيرة صقلية وعلى ما في سمتها من الجزائر ، والشمس مدبّرة له.

والإقليم الخامس يمرّ على طليطلة وسرقسطة وما في سمتهما إلى بلاد أرغون التي في جنوبيها برشلونة ، ثم يمرّ على رومية وبلادها ، ويشقّ بحر البنادقة ، ثم يمرّ على القسطنطينية ، ومدبّرته الزّهرة.

والسادس يمرّ على ساحل الأندلس الشمالي الذي على البحر المحيط وما قاربه وبعض البلاد الداخلة في قشتالة وبرتقال وما في سمتها ، وعلى بلاد برجان والصقالبة والروس ، ومدبّره عطارد.

ويمرّ الإقليم السابع في البحر المحيط الذي في شماليّ الأندلس إلى جزيرة أنقلطرة وغيرها من الجزائر وما في سمتها من بلاد الصقالبة وبرجان.

قال البيهقي : وفيه تقع جزيرة تولى وجزيرتا أجبال والنساء وبعض بلاد الروس الداخلة في الشمال والبلغار ، ومدبّره القمر ، انتهى.

وقال بعض العلماء : إنّ النصارى حرموا جنّة الآخرة فأعطاهم الله جنة الدنيا بستانا متّصلا من البحر المحيط بالأندلس إلى خليج القسطنطينية ، وعندهم عموم شاه بلوط والبندق والجوز والفستق وغير ذلك مما يكون أكثر وأمكن في الأقاليم الباردة ، والتمر عندهم معدوم ، وكذا الموز وقصب السكر ، وربما يكون شيء من ذلك في الساحل ؛ لأن هواء البحر يدفئ ، انتهى.

قال ابن حيّان في المقتبس (١) : ذكر رواة العجم أن الخضر ، عليه السلام ، وقف على (٢) إشبان المذكور وهو يحرث الأرض بفدن له أيام حراثته ، فقال له : يا إشبان ، إنك لذو شأن ، وسوف يحظيك زمان ، ويعليك سلطان ، فإذا أنت غلبت على إيليا فارفق بذرّيّة الأنبياء ، فقال له إشبان : أساخر بي رحمك الله؟! أنّى يكون هذا منّي وأنا ضعيف ممتهن حقير فقير ليس مثلي ينال السلطان؟ فقال له : قد قدّر ذلك فيك من قدّر في عصاك اليابسة ما تراه ، فنظر إشبان إلى عصاه ، فإذا بها قد أورقت ، فريع لما رأى من الآية (٣) ، وذهب الخضر عنه ، وقد وقع الكلام بخلده ، ووفرت (٤) في نفسه الثقة بكونه ، فترك الامتهان من وقته ، وداخل الناس ، وصحب أهل البأس منهم ، وسما به جدّه فارتقى في طلب السلطان حتى أدرك منه عظيما ، وكان منه ما كان.

__________________

(١) انظر : الروض المعطار : ٥.

(٢) في ب : بإشبان.

(٣) الآية : العلامة. وريع : فزع.

(٤) في ب : ووقرت.

١٢٥

ثم أتى عليه ما أتى على القرون قبله ، وكان ملكه كله عشرين سنة ، وتمادى ملك الإشبانيين بعده إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكا.

ثم دخل على هؤلاء الإشبانيين من عجم رومة أمّة يدعون البشتولقات ، وملكهم طلويش (١) بن بيطة ، وذلك زمن بعث المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام! أتوا الأندلس من قبل رومة ، وكانوا يملكون إفرنجة معها ، ويبعثون عمالهم إليها ، فاتخذوا دار مملكتهم بالأندلس مدينة ماردة ، واستولوا على مملكة الأندلس ، واتصل ملكهم بها مدّة إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون ملكا.

ثم دخل على هؤلاء البشتولقات أمّة القوط مع ملك لهم ، فغلبوا على الأندلس ، واقتطعوها من يومئذ من صاحب رومة ، وتفرّدوا بسلطانهم ، واتخذوا مدينة طليطلة دار مملكتهم ، وأقرّوا بها سرير ملكهم ، فبقي بإشبيلية علم الإشبانيين ورياسة أوليتهم.

وقد كان عيسى المسيح عليه السلام ، بعث الحواريين في الأرض يدعون الخلق إلى ديانته ، فاختلف الناس عليهم ، وقتلوا بعضهم ، واستجاب لهم كثير منهم ، وكان من أسرعهم إجابة لمن جاءه من هؤلاء الحواريين خشندش (٢) ملك القوط ، فتنصّر ، ودعا قومه إلى النصرانية ، وكان من صميم أعاظمهم وخير من تنصّر من ملوكهم ، وأجمعوا على أنه لم يكن فيهم أعدل منه حكما ، ولا أرشد رأيا ، ولا أحسن سيرة ، ولا أجود تدبيرا ، فكان الذي أصّل النصرانية في مملكته ، ومضى أهلها على سنّته إلى اليوم ، وحكموا بها ، والإنجيلات في المصاحف الأربعة التي يختلفون فيها من انتساخه وجمعه وتثقيفه ، فتناسقت ملوك القوط بالأندلس بعده إلى أن غلبتهم العرب عليها ، وأظهر الله تعالى دين الإسلام على جميع الأديان.

فوقع في تواريخ العجم القديمة أنّ عدّة ملوك هؤلاء القوط بالأندلس من عهد أتاناوينوس الذي ملك في السنة الخامسة من مملكة فلبش القيصري لمضيّ أربعمائة وسبع من تاريخ الصفر المشهور عند العجم إلى عهد لذريق آخرهم الذي ملك في السنة التاسعة والأربعين وسبعمائة من تاريخ الصفر ، وهو الذي دخلت عليه العرب فأزالت دولة القوط ، ستة وثلاثون ملكا ، وأن مدّة أيام ملكهم بالأندلس ثلاثمائة واثنتان وأربعون سنة ، انتهى (٣).

__________________

(١) في ب : طلوبش.

(٢) في الروض المعطار : دخشوش ، وفي ابن عذاري : وخشندش : وهو أول من تنصّر من القوط.

(٣) في الروض : «والإنجيلات أو المصاحف الأربعة من انتساخه وجمعه وتثقيفه».

١٢٦

وقال جماعة : إن القوط غير البشتولقات ، وإن البشتولقات من عجم رومة ، وإنهم جعلوا دار ملكهم ماردة ، واتّصل ملكهم إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون ملكا ، ثم دخل عليهم القوط ، واتّخذوا طليطلة دار مملكة ، ثم ذكر تنصّر ملكهم خشندش مثل ما تقدّم ، ثم ذكر أن عدّة ملوك القوط ستة وثلاثون ملكا.

وذكر الرازي أن القوط من ولد يأجوج بن يافث بن نوح ، وقيل غير ذلك ، انتهى.

وذكر (١) الرازي في موضع آخر نحو ما تقدّم وزيادة ، ونصّه : أن الأندلس في آخر الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة التي تقدّم ذكرها (٢) التي هي ربع معمور الدنيا فهي موسطة من البلدان ، كريمة البقعة ، بطبع الخلقة ، طيبة التربة ، مخصبة القاعة (٣) ، منبجسة العيون الثّرار منفجرة الأنهار الغزار ، قليلة الهوامّ ذوات السموم ، معتدلة الهواء أكثر الأزمان لا يزيد قيظها زيادة منكرة تضرّ بالأبدان وكذا سائر فصولها في أعمّ سنيها تأتي على قدر من الاعتدال ، وتوسّط من الحال ، وفواكهها تتصل طول الزمان ، فلا تكاد تعدم لأن الساحل ونواحيه يبادر بباكوره ، كما أن الثغر وجهاته والجبال التي يخصّها برد الهواء وكثافة الجوّ تستأخر بما فيها من ذلك ، حتى يكاد طرفا فاكهتها يلتقيان ، فمادّة الخيرات فيها متّصلة كلّ أوان. ومن بحرها بجهة الغرب يخرج العنبر الجيد المقدّم على أجناسه في الطّيب والصبر على النار ، وبها شجر المحلب المعدود في الأفاويه المقدّم في أنواع الأشنان كثير واسع ، وقد زعموا أنه لا يكون إلّا بالهند وبها فقط ، ولها خواصّ نباتية يكثر تعدادها. انتهى.

وقد ذكر غيره تفصيل بعض ذلك فقال : يوجد في ناحية دلاية من إقليم البشرّة (٤) عود الألنجوج (٥) ، لا يفوقه العود الهندي ذكاء وعطر رائحة ، وقد سيق منه إلى خيران الصقلبي صاحب المرية (٦) ، وأنّ أصل منبته كان بين أحجار هنالك. وبأكشونبة جبل كثيرا ما يتضوّع ، ريحه ريح العود الذكي إذا أرسلت فيه النار ، وببحر شذونة يوجد العنبر الطيب الغربي ، وفي

__________________

(١) في ب : وقال

(٢) في ب سقطت الجملة «التي تقدّم ذكرها».

(٣) القاعة : أراد السهل.

(٤) دلاية : من عمل المرية ، والبشرة منطقة جبال سير انفادا.

(٥) الألنجوج : عود يتبخر به.

(٦) خيران الصقلبي : من أوائل الفتيان الذين أعلنوا استقلالهم بعد انهيار الدولة الأموية بالأندلس على أثر فتنة البربر سنة ٣٩٩.

١٢٧

جبل منت ليون المحلب ، ويوجد بالأندلس القسط الطيب ، والسنبل الطيب ، والجنطيانة تحمل من الأندلس إلى جميع الآفاق ، وهو عقار رفيع ، والمرّ الطيب بقلعة أيوب ، وأطيب كهرباء الأرض بشذونة ، درهم منها يعدل دراهم من المجلوبة ، وأطيب القرمز قرمز الأندلس ، وأكثر ما يكون بنواحي إشبيلية ولبلة وشذونة وبلنسية ، ومن الأندلس يحمل إلى الآفاق. وبناحية لورقة من عمل تدمير يكون حجر اللازورد الجيد ، وقد يوجد في غيرها. وعلى مقربة من حضرة (١) لورقة من عمل قرطبة معدن البلور ، وقد يوجد بجبل شحيران وهو شرقي ببرة. وحجر النجادي (٢) يوجد بناحية مدينة الأشبونة في جبل هنالك يتلألأ فيه ليلا كالسراج. والياقوت الأحمر يوجد بناحية حصن منت ميور من كورة مالقة إلّا أنه دقيق جدّا لا يصلح للاستعمال لصغره. ويوجد حجر يشبه الياقوت الأحمر بناحية بجّانة في خندق يعرف بقرية ناشرة أشكالا مختلفة كأنه مصبوغ ، حسن اللون ، صبور على النار. وحجر المغناطيس الجاذب للحديد يوجد في كورة تدمير. وحجر الشادنة (٣) بجبال قرطبة كثير ، ويستعمل ذلك في التذاهيب. وحجر اليهودي في ناحية حصن البونت ، وهو أنفع شيء للحصاة. وحجر المرقيشينا (٤) الذهبية في جبال أبّدة (٥) لا نظير لها في الدنيا ، ومن الأندلس تحمل إلى جميع الآفاق لفضلها. والمغنيسيا بالأندلس كثير ، وكذلك حجر الطّلق. ويوجد حجر اللؤلؤ بمدينة برشلونة إلّا أنه جامد اللون. ويوجد المرجان بساحل بيرة من عمل المرية ، ما لقط منه في أقل (٦) من شهر نحو ثمانين ربعا. ومعدن الذهب بنهر لاردة يجمع منه كثير ، ويجمع أيضا في ساحل الأشبونة. ومعادن الفضة في الأندلس كثيرة في كورة تدمير وجبال حمّة (٧) ببجّانة. وبإقليم كرتش من عمل قرطبة معدن فضة جليل. وبأكشونية معدن القصدير الذي لا مثيل (٨) له يشبه الفضة ، وله معادن بناحية إفرنجة وليون. ومعدن الزئبق في جبل البرانس ، ومن هنالك يتجهّز به إلى الآفاق. ومعادن الكبريت الأحمر والأصفر بالأندلس كثيرة ، ومعدن التوتيا الطبية بساحل إلبيرة بقرية تسمى بطرنة ، وهي

__________________

(١) في ب : حصن.

(٢) في ب : والحجر البجادي.

(٣) في ب : الشاذنة.

(٤) في ب : المرقشيتا.

(٥) في ب : أبذة.

(٦) سقطت في ب : أقلّ من.

(٧) في ب : حمّة بجّانة.

(٨) لا نظير له.

١٢٨

أزكى توتيا وأقواها في صبغ النحاس ، وبجبال قرطبة توتيا ، وليست كالبطرنية. ومعدن الكحل المشبّه بالأصفهاني بناحية مدينة طرطوشة يحمل منها إلى جميع البلاد. ومعادن الشبوب والحديد والنحاس بالأندلس أكثر من أن تحصى. وما ذكرت هنا وإن تكرّر بعضه مع ما سبق أو يأتي فهو لجمع النظائر ، وما لم نذكره أكثر ، والله تعالى أعلم.

ومن خواص طليطلة أنّ حنطتها لا تتغيّر ولا تسوّس (١) على طول السنين ، يتوارثها الخلف عن السلف ، وزعفران طليطلة هو الذي يعمّ البلاد ويتجهّز به الرفاق إلى الآفاق ، وكذلك الصبغ السماوي ، انتهى.

وقال المسعودي في «مروج الذهب» بعد كلام ما نصّه : والعنبر كثير ببحر الأندلس ، يجهّز إلى مصر وغيرها ، ويحمل إلى قرطبة من ساحل لها يقال له شنترين وشذونة ، تبلغ الأوقية منه بالأندلس ثلاثة مثاقيل ذهبا ، والأوقية بالبغدادي ، وتباع بمصر أوقيته بعشرين دينارا (٢) ، وهو عنبر جيّد ، ويمكن أن يكون هذا العنبر الواقع إلى بحر الروم ضربته الأمواج من بحر الأندلس إلى هذا البحر لاتصال الماء. وبالأندلس معدن عظيم للفضة ، ومعدن للزئبق ليس بالجيد يجهّز إلى سائر بلاد الإسلام والكفر ، وكذلك يحمل من بلاد الأندلس الزعفران وعروق الزنجبيل. وأصول الطّيب خمسة أصناف : المسك ، والكافور ، والعود ، والعنبر ، والزعفران ، وكلها تحمل من أرض الهند وما اتصل بها إلّا الزعفران والعنبر. انتهى. وهو وإن تكرّر مع ما ذكرته عن غيره فلا يخلو من فائدة ، والله تعالى أعلم.

وذكر البعض أن في (٣) بلاد الأندلس جميع المعادن الكائنات عن النيرات السبعة وهي : الرصاص من زحل ، والقصدير الأبيض من المشتري ، والحديد من قسم المريخ ، والذهب من قسم الشمس ، والنحاس من الزهرة ، والزئبق من عطارد ، والفضّة من القمر.

وذكر الكاتب إبراهيم بن القاسم القروي المعروف بالرقيق بلد الأندلس ، فقال : أهله أصحاب جهاد متّصل يحاربون من أهل الشّرك المحيطين بهم أمّة يدعون الجلالقة ، يتاخمون حوزهم ما بين غرب إلى شرق ، قوم لهم شدّة ولهم جمال وحسن وجوه ، فأكثر رقيقهم الموصوفين بالجمال والفراهة منهم ليس بينهم وبينهم درب ، فالحرب متّصلة بينهم ، ما لم تقع هدنة ، ويحاربون بالأفق الشرقي أمّة يقال لهم الفرنجة هم أشدّ عليهم من جميع من يحاربونه

__________________

(١) في ب تتسوّس.

(٢) في ب : بعشرة دنانير.

(٣) في ب : في بعض بلاد الأندلس.

١٢٩

من عدوّهم ، إذ كانوا خلقا عظيما في بلاد كثيرة واسعة جليلة متّصلة العمارة آهلة تدعى الأرض الكبيرة ، هم أكثر عددا من الجليقيين وأشدّ بأسا وأحد شوكة وأعظم أمدادا. وهذه الأمة يحاربون أمّة الصقالبة المتّصلين بأرضهم لمخالفتهم إياهم في الديانة فيسبونهم ويبيعون رقيقهم بأرض الأندلس ، فلهم هنالك كثرة ، وتخصيهم للفرنجة يهود ذمّتهم الذين بأرضهم ، وفي ثغر المسلمين المتصل بهم ، فيحمل خصيانهم من هنالك إلى سائر البلاد ، وقد تعلم الخصاء قوم من المسلمين هناك ، فصاروا يخصون ويستحلّون المثلة.

قال ابن سعيد : ومخرج بحر الروم المتصاعد إلى الشام هو بساحل الأندلس الغربي بمكان يقال له الخضراء ما بين طنجة من أرض المغرب وبين الأندلس ، فيكون مقدار عرضه هناك كما زعموا ثمانية عشر ميلا ، وهذا عرض جزيرة طريف إلى قصر مصمودة بالقرب من سبتة ، وهناك كانت القنطرة التي يزعم الناس أن الإسكندر بناها ليعبر عليها من برّ الأندلس إلى برّ العدوة ، ويعرف هذا الموضع بالزقاق ، وهو صعب المجاز ؛ لأنه مجمع البحرين لا تزال الأمواج تتطاول فيه والماء يدور ، وطول هذا الزقاق الذي عرضه ثمانية عشر ميلا مضاعف ذلك إلى ميناء سبتة ، ومن هناك يأخذ البحر في الاتّساع إلى ثمانمائة ميل وأزيد ، ومنتهاه مدينة صور من الشام ، وفيه عدد عظيم من الجزائر.

قال بعضهم : إنها ثمان وعشرون جزيرة منها صقلية ومالطة وغيرهما ، انتهى ، وبعضه بالمعنى.

وقال بعضهم : عند وصفه ضيق بحر الزقاق قرب سبتة ، ما صورته : ثم يتّسع كلّما امتدّ حتى يسير إلى ما لا ذرع له ولا نهاية.

وقال بعضهم : وكان مبلغ خراج الأندلس الذي كان يؤدّى إلى ملوك بني أميّة قديما ثلاثمائة ألف دينار دراهم أندلسية كل سنة قوانين ، وعلى كل مدينة من مدائنهم مال معلوم ، فكانوا يعطون جندهم ورجالهم الثلث من ذلك مائة ألف دينار ، وينفقون في أمورهم ونوائبهم ومؤن أهليهم مائة ألف دينار ، ويدّخرون لحادث أيامهم مائة ألف دينار ، انتهى.

وذكر غيره أن الجباية كانت بالأندلس أيام عبد الرحمن الأوسط ألف ألف دينار في السنة ، وكانت قبل ذلك لا تزيد على ستمائة ألف ، حكاه ابن سعيد ، وقال : إن الأندلس مسيرة شهر مدن وعمائر.

وقال قاضي القضاة ابن خلدون الحضرمي في تاريخه الكبير ، ما صورته : كان هذا القطر الأندلسي من العدوة الشمالية من عدوتي البحر الرومي وبالجانب الغربي منها يسمّى عند العجم

١٣٠

الأندلوش ، وتسكنه أمم من إفرنجة المغرب أشدّهم وأكثرهم الجلالقة. وكان القوط قد تملّكوه وغلبوا على أهله لمئين من السنين قبل الإسلام ، بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة. ثم عقدوا معهم السلم على أن ينصرف القوط إلى الأندلس ، فصاروا إليها وملكوها. ولما أخذ الروم واللطينيون بملّة النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من أمم الفرنجة والقوط عليها فدانوا بها ، وكان ملوك القوط ينزلون طليطلة ، وكانت دار ملكهم. وربما تنقّلوا ما بينها وبين قرطبة وإشبيلية وماردة ، وأقاموا كذلك نحوا من أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح. وكان ملكهم لذلك العهد يسمّى لذريق ، وهو سمة لملوكهم ، كما أن جرجير سمة لملوك صقلية ، انتهى.

ومن أشهر بلاد الأندلس غرناطة ، وقيل : إن الصواب إغرناطة ـ بالهمز ـ ومعناه بلغتهم الرّمّانة ، وكفاها شرفا ولادة لسان الدين بها.

وقال الشقندي (١) : أما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس ، ومسرح الأبصار ، ومطمح الأنفس ، ولم تخل من أشراف أماثل ، وعلماء أكابر ، وشعراء أفاضل (٢) ، ولو لم يكن لها ما خصّها الله تعالى به من المرج الطويل العريض ونهر شنيل لكفاها.

وفي بعض كلام لسان الدين ما صورته : وما لمصر تفخر بنيلها وألف منه في شنيلها؟ يعني أن الشين عند أهل المغرب عددها ألف ، فقولنا شنيل إذا اعتبرنا عدد شينه كان ألف نيل. وفيها قيل : [مخلع البسيط]

غرناطة ما لها نظير

ما مصر؟ ما الشام؟ ما العراق؟

ما هي إلّا العروس تجلى

وتلك من جملة الصّداق

وتسمى كورة إلبيرة التي منها غرناطة دمشق لأنّ جند دمشق نزلوها عند الفتح ، وقيل : إنما سمّيت بذلك لشبهها بدمشق في غزارة الأنهار ، وكثرة الأشجار ، حكاه صاحب مناهج الفكر ، قال : ولما استولى الفرنج على معظم بلاد الأندلس انتقل أهلها إليها فصارت المصر المقصود ، والمعقل الذي تنضوي إليه العساكر والجنود. ويشقّها نهر عليه قناطر يجاز عليها ، وفي قبليها جبل شلير ، وهو جبل لا يفارقه الثلج صيفا ولا شتاء ، وفيه سائر النبات الهندي ، لكن ليس فيه خصائصه ، انتهى.

__________________

(١) هو أبو الوليد إسماعيل بن محمد المتوفى سنة ٦٢٩ ه‍ ، صاحب كتاب الطرف.

(٢) في ب : انتهى.

١٣١

ومن أعمال غرناطة قطر لوشة (١) ، وبها معدن للفضّة جيّد ، ومنها أعني لوشة ، أصل لسان الدين بن الخطيب. وهذا القطر ضخم ينضاف إليه من الحصون والقرى كثير ، وقاعدته لوشة ، بينها وبين غرناطة مرحلة ، وهي ذات أنهار وأشجار ، وهي على نهر غرناطة الشهير بشنيل.

ومن أعمال غرناطة الكبار عمل باغة (٢) ، والعامّة يقولون بيغه ، وإذا نسبوا إليه قالوا بيغي ، وقاعدته باغية طيبة الزرع ، كثيرة الثمار ، غزيرة المياه ، ويجود فيها الزعفران.

ومن أعمال غرناطة وادي آش ، ويقال : وادي الأشات. وهي مدينة جليلة قد أحدقت بها البساتين والأنهار ، وقد خصّ الله أهلها بالأدب وحبّ الشعر ، وفيها يقول أبو الحسن بن نزار : [الكامل]

وادي الأشات يهيج وجدي كلّما

أذكرت ما أفضت بك النعماء (٣)

لله ظلّك والهجير مسلّط

قد برّدت لفحاته الأنداء

والشمس ترغب أن تفوز بلحظة

منه فتطرف طرفها الأفياء

والنهر يبسم بالحباب كأنه

سلخ نضته حيّة رقشاء

فلذاك تحذره الغصون فميلها

أبدا على جنباته إيماء

ومن أعمال وادي آش حصن جليانة ، وهو كبير يضاهي المدن ، وبه التفاح الجلياني الذي خصّ الله به ذلك الموضع ، يجمع عظم الحجم وكرم الجوهر وحلاوة الطعم وذكاء الرائحة والنقاء ، وبين الحصن المذكور ووادي آش اثنا عشر ميلا.

ومن غرائب الأندلس أنّ به شجرتين من شجر القسطل ، وهما عظيمتان جدّا إحداهما بسند وادي آش والأخرى ببشرّة غرناطة ، في جوف كل واحدة منهما حائك ينسج الثياب ، وهذا أمر مشهور قاله أبو عبد الله بن جزيّ وغيره.

وكانت إلبيرة هي المدينة قبل غرناطة ، فلما بنى الصّنهاجي (٤) مدينة غرناطة وقصبتها وأسوارها انتقل الناس إليها ، ثم زاد في عمارتها ابنه باديس بعده.

__________________

(١) لوشة : على بعد خمسة وخمسين كيلو مترا غرب غرناطة.

(٢) في ب : باغه.

(٣) في ب : بدل أفضت : قضّت.

(٤) الصنهاجي : هو حبوس بن ماكسن الصنهاجي باني مدينة غرناطة.

١٣٢

وذكر غير واحد أن في كورة سرقسطة (١) الملح الأندراني الأبيض الصافي الأملس الخالص ، وليس في الأندلس موضع فيه مثل هذا الملح.

قال : وسرقسطة بناها قيصر ملك رومة الذي تؤرّخ من مدّته مدّة الصفر قبل مولد المسيح على نبيّنا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام ، وتفسير اسمها قصر السيد ، لأنه اختار ذلك المكان بالأندلس.

وقيل : إن موسى بن نصير شرب من ماء نهر جلّق بسرقسطة فاستعذبه ، وحكم أنه لم يشرب بالأندلس أعذب منه ، وسأل عن اسمه ، فقيل : جلّق ، ونظر إلى ما عليه من البساتين فشبّهها بغوطة جلّق الشام ، وقيل : إنها من بناء الإسكندر ، والله أعلم.

وبمدينة برجة (٢) ـ وهي من أعمال المرية ـ معدن الرصاص ، وهي على واد مبهج يعرف بوادي عذراء ، وهو محدق بالأزهار والأشجار. وتسمى برجة بهجة لبهجة منظرها ، وفيها يقول أبو الفضل بن شرف القيرواني رحمه الله تعالى : [المتقارب]

رياض تعشّقها سندس

توشّت معاطفها بالزّهر

مدامعها فوق خدّي ربا

لها نظرة فتنت من نظر

وكلّ مكان بها جنّة

وكلّ طريق إليها سقر

وفيها أيضا قوله : [المجتث]

حطّ الرحال ببرجه

وارتد لنفسك بهجه

في قلعة كسلاح

ودوحة مثل لجّه

فحصنها لك أمن

وروضها لك فرجه

كلّ البلاد سواها

كعمرة وهي حجّه

وبمالقة التين الذي يضرب المثل بحسنه ، ويجلب حتى الهند والصين ، وقيل : إنه ليس في الدنيا مثله ، وفيه يقول أبو الحجّاج يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي حسبما أنشده غير واحد ، منهم ابن سعيد : [السريع]

__________________

(١) سرقسطة : في شرق الأندلس ، وهي المدينة البيضاء ، وهي قاعدة من قواعد الأندلس وهي على ضفة نهر كبير ، ولها جسر عظيم وأسوار منيعة ، ومبان رفيعة (صفة جزيرة الأندلس ص ٩٦).

(٢) برجة : مدينة بالأندلس من أعمال إلبيرة تقع غربي المرية على مقربة من ساحل البحر.

١٣٣

مالقة ، حيّيت يا تينها

الفلك من أجلك يا تينها

نهى طبيبي عنه في علّتي

ما لطبيبي عن حياتي نهى

وذيّل عليه الإمام الخطيب أبو محمد عبد الوهاب المنشي بقوله : [السريع]

وحمص لا تنس لها تينها

واذكر مع التين زياتينها

وفي بعض النسخ : [السريع]

لا تنس لإشبيليّة تينها

واذكر مع التين زياتينها

وهو نحو الأول ؛ لأن حمص هي إشبيلية ، لنزول أهل حمص من المشرق بها ، حسبما سنذكره.

ونسب ابن جزي في ترتيبه لرحلة ابن بطّوطة البيتين الأولين للخطيب أبي محمد عبد الوهاب المالقي ، والتذييل لقاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد الملك ، فالله أعلم.

وقال ابن بطوطة : وبمالقة يصنع الفخّار المذهّب العجيب ، ويجلب منها إلى أقاصي البلاد ، ومسجدها كبير الساحة ، كثير البركة شهيرها (١) ، وصحنه لا نظير له في الحسن ، وفيه أشجار النارنج البديعة ، انتهى.

وقال قبله : إن مالقة (٢) إحدى قواعد الأندلس ، وبلادها الحسان ، جامعة بين مرافق البرّ والبحر ، كثيرة الخيرات والفواكه ، رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير ، ورمّانها المرسي الياقوتي لا نظير له في الدنيا ، وأمّا التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب ، انتهى.

وبكورة أشبونة المتصلة بشنترين معدن التّبر ، وفيها عسل يجعل في كيس كتّان فلا يكون له رطوبة كأنه سكر ، ويوجد في ريفها العنبر الذي لا يشبهه إلّا الشّحري.

ومن أشهر مدن الأندلس مدينة قرطبة ـ أعادها الله تعالى للإسلام! ـ وبها الجامع المشهور ، والقنطرة المعروفة بالجسر.

__________________

(١) في ب : شهير.

(٢) مالقة : بالأندلس : مدينة على شاطى البحر ، عليها سور صخر ، والبحر في قبلتها ، وهي حسنة عامرة ، آهلة ، كثيرة الديار ، وفيما استدار من جميع جماعتها شجر التين المنسوب إليها. ولها واد يجري في زمن الشتاء (صفة جزيرة الأندلس ص ١٧٨).

١٣٤

وقد ذكر ابن حيان أنه بني على أمر عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، ونصه : وقام فيها بأمره على النهر الأعظم بدار مملكتها قرطبة الجسر الأكبر الذي ما يعرف في الدنيا مثله ، انتهى.

وفيها يقول بعض علماء الأندلس : [البسيط]

بأربع فاقت الأمصار قرطبة

منهنّ قنطرة الوادي ، وجامعها

هاتان ثنتان ، والزهراء ثالثة ،

والعلم أعظم شيء ، وهو رابعها

وقال الحجاري في «المسهب» : كانت قرطبة في الدولة المروانية قبّة الإسلام ، ومجتمع أعلام الأنام ، بها استقرّ سرير الخلافة المروانية ، وفيها تمحّضت خلاصة القبائل المعدّية واليمانية ، وإليها كانت الرّحلة في الرواية إذ كانت مركز الكرماء ، ومعدن العلماء ، وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد ، ونهرها من أحسن الأنهار ، مكتنف بديباج المروج مطرّز بالأزهار ، تصدح في جنباته الأطيار ، وتنعر النواعير ويبسم النّوّار ، وقرطاها الزاهرة والزهراء ، حاضرتا الملك وأفقاه النعماء والسرّاء. وإن كان قد أخنى عليها الزمان ، وغيّر بهجة أوجهها الحسان ، فتلك عادته وسل الخورنق والسدير وغمدان ، وقد أعذر بإنذاره إذ لم يزل ينادي بصروفه لا أمان لا أمان ، وقد قال الشاعر : [المتقارب]

وما زلت أسمع أنّ الملو

ك تبني على قدر أخطارها

وقال السلطان يعقوب المنصور ابن السلطان يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن علي لأحد رؤساء أجنادها : ما تقول في قرطبة؟ فخاطبه على ما يقتضيه كلام عامّة الأندلس بقوله: جوفها شمام ، وغربيها قمام ، وقبلتها مدام ، والجنة هي والسلام.

يعني بالشّمام جبال الورد ، ويعني بالقمام ما يؤكل إشارة إلى محرث الكنبانيّة (١) ، ويعني بالمدام النهر.

ولما قال والده السلطان يوسف بن عبد المؤمن لأبي عمران موسى بن سعيد العنسي : ما عندك في قرطبة؟ قال له : ما كان لي أن أتكلّم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها ، فقال السلطان : إن ملوك بني أمية حين اتّخذوها حضرة مملكتهم لعلى بصيرة ، الديار المنفسحة

__________________

(١) الكنبانية : قال ياقوت : ناحية بالأندلس قرب قرطبة. وهذا تعريف قاصر إذ الكنبانية هي الأراضي الزراعية السهلة أينما كانت. وينسب إلى الكنبانية محمد بن قاسم بن محمد الأموي الجاحظي الكنباني.

١٣٥

الكبيرة (١) ، والشوارع المتّسعة ، والمباني الضخمة المشيدة ، والنهر الجاري ، والهواء المعتدل ، والخارج الناضر ، والمحرث العظيم ، والشّعراء الكافية ، والتوسّط بين شرق الأندلس وغربها ، قال : فقلت : ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول.

قال ابن سعيد : ولأهلها رياسة ووقار ، لا تزال سمة العلم والملك متوارثة فيهم ، إلّا أنّ عامّتها أكثر الناس فضولا ، وأشدّهم تشغيبا ، ويضرب بهم المثل ما بين أهل الأندلس في القيام على الملوك ، والتشنيع على الولاة ، وقلّة الرضا بأمورهم ، حتى إنّ السيد أبا يحيى أخا السلطان يعقوب المنصور قيل له لمّا انفصل عن ولايتها : كيف وجدت أهل قرطبة؟ فقال : مثل الجمل ، إن خفّفت عنه الحمل صاح ، وإن أثقلته صاح ، ما ندري أين رضاهم فنقصده ، ولا أين سخطهم فنجتنبه ، وما سلّط الله عليهم حجّاج الفتنة حتى كان عامّتها شرّا من عامّة العراق ، وإن العزل عنها لما قاسيته من أهلها عندي ولاية ، إني وإن كلّفت العود إليها لقائل : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، انتهى.

وقال أبو الفضل التيفاشي : جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب بين الفقيه أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر ، فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة : ما أدري ما تقول ، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها ، وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية ، قال : وقرطبة أكثر بلاد الله كتبا ، انتهى.

وحكى الإمام ابن بشكوال عن الشيخ أبي بكر بن سعادة أنه دخل مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الأستاذ أبي بكر المخزومي ، قال : فسألنا : من أين؟ فقلنا : من قرطبة ، فقال : متى عهدكما بها؟ فقلنا : الآن وصلنا منها ، فقال : اقربا إليّ أشمّ نسيم قرطبة ، فقربنا منه ، فشمّ رأسي وقبّله ، وقال لي : اكتب : [الطويل]

أقرطبة الغرّاء هل لي أوبة

إليك؟ وهل يدنو لنا ذلك العهد (٢)

سقى الجانب الغربيّ منك غمامة

وقعقع في ساحات دوحاتك الرّعد

لياليك أسحار ، وأرضك روضة ،

وتربك في استنشاقها عنبر ورد

وكتب الرئيس الكاتب أبو بكر بن القبطرنة للعالم أبي الحسين بن سراج بقوله : [الكامل]

__________________

(١) في ب : الكثيرة.

(٢) الأوبة : العودة.

١٣٦

يا سيّدي وأبي هوى وجلالة

ورسول ودّي إن طلبت رسولا

عرّج بقرطبة إذا بلّغتها

بأبي الحسين وناده تمويلا

وإذا سعدت بنظرة من وجهه

أهد السلام لكفّه تقبيلا

واذكر له شوقي وشكري مجملا

ولو استطعت شرحته تفصيلا

بتحية تهدى إليه كأنما

جرّت على زهر الرياض ذيولا

وفي باب اليهود بقرطبة يقول أبو عامر بن شهيد (١) : [المتقارب]

لقد أطلعوا عند باب اليهود

بدرا أبى الحسن أن يكسفا

تراه اليهود على بابها

أميرا فتحسبه يوسفا

واستقبحوا قولهم «باب اليهود» فقالوا «باب الهدى» وسنذكر قرطبة والزهراء والزاهرة ومسجدها في الباب المنفرد بها إن شاء الله تعالى ، وكذلك القنطرة.

ومن أعظم مدن الأندلس إشبيلية ـ قال الشقندي : من محاسنها اعتدال الهواء ، وحسن المباني ، ونهرها الأعظم الذي يصعد المدّ فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر ، وفيه يقول ابن سفر (٢) : [الكامل]

شقّ النسيم عليه جيب قميصه

فانساب من شطّيه يطلب ثاره

فتضاحكت ورق الحمام بدوحها

هزأ فضمّ من الحياء إزاره

وقيل لأحد من رأى مصر والشام : أيّهما رأيت أحسن؟ أهذان أم إشبيلية؟ فقال بعد تفضيل إشبيلية : شرفها غابة بلا أسد ، ونهرها نيل بلا تمساح ، انتهى.

ويقال : إن الذي بنى إشبيلية اسمه يوليس (٣) ، وإنه أول من سمّي قيصر ، وإنه لمّا دخل الأندلس أعجب بساحاتها وطيب أرضها وجبلها المعروف بالشّرف ، فردم على النهر الأعظم مكانا ، وأقام فيه المدينة ، وأحدق عليها بأسوار من صخر صلد ، وبنى في وسط المدينة قصبتين بديعتي الشأن تعرفان بالأخوين ، وجعلها أمّ قواعد الأندلس ، واشتقّ لها اسما من رومية ، ومن اسمه ، فسمّاها رومية يوليس ، انتهى.

__________________

(١) أبو عامر بن شهيد : هو أحمد بن عبد الملك ، ولد سنة (٣٨٢ ه‍) ه وتوفي سنة (٤٢٦ ه‍) من أكابر الشعراء بعد الفتنة القرطبية ، وصاحب التوابع والزوابع ، وله ديوان شعر.

(٢) ابن سفر : أبو عبد الله محمد بن سفر الأديب ، سكن إشبيلية (انظر : الوافي : ٣ : ١١٤).

(٣) في ب : يوليش.

١٣٧

وقد تقدّم شيء من هذا.

وكان الأوّلون من ملوك الأعاجم يتداولون بسكناهم أربعة بلاد (١) من بلاد الأندلس : إشبيلية ، وقرطبة ، وقرمونة ، وطليطلة ، ويقسمون أزمانهم على الكينونة بها.

وأما شرف (٢) إشبيلية ، فهو شريف البقعة ، كريم التربة ، دائم الخضرة ، فرسخ في فرسخ طولا وعرضا ، لا تكاد تشمس فيه بقعة لالتفاف زيتونه.

واعلم أن إشبيلية لها كور جليلة ، ومدن كثيرة ، وحصون شريفة ، وهي من الكور المجندة ، نزلها جند حمص ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق. وانتهت جباية إشبيلية أيام الحكم بن هشام إلى خمسة وثلاثين ألف دينار ومائة دينار.

وفي إقليم طالقة من أقاليم إشبيلية وجدت صورة جارية من مرمر معها صبي ، وكأن حيّة تريده ، لم يسمع في الأخبار ولا رئي في الآثار صورة أبدع منها ، جعلت في بعض الحمامات وتعشّقها جماعة من العوامّ.

وفي كورة ماردة حصن شنت أفرج في غاية الارتفاع ، لا يعلوه طائر البتّة لا نسر ولا غيره.

ومن عجائب الأندلس البلاط الأوسط من مسجد جامع أقليش ، فإن طول كل جائزة منه مائة شبر وأحد عشر شبرا ، وهي مربعة منحوتة مستوية الأطراف.

وقال بعض من وصف إشبيلية : إنها مدينة عامرة على ضفة النهر الكبير المعروف بنهر قرطبة ، وعليه جسر مربوط بالسفن ، وبها أسواق قائمة ، وتجارات رابحة ، وأهلها ذوو أموال عظيمة ، وأكثر متاجرهم الزيت ، وهو يشتمل على كثير من إقليم الشّرف ، وإقليم الشرف على تلّ عال من تراب أحمر مسافته أربعون ميلا في مثلها ، يمشي به (٣) السائر في ظلّ الزيتون والتين ، ولها ـ فيما ذكر بعض الناس ـ قرى كثيرة ، وكل قرية عامرة بالأسواق والديار الحسنة والحمامات وغيرها من المرافق.

__________________

(١) بلاد : سقطت في ب.

(٢) الشرف من غربي إشبيلية بالأندلس ، وهو جبل شريف البقعة ، كريم التربة ، دائم الخضرة لا تكاد تشمس منه بقعة لالتفاف زيتونه ، واشتباك غصونه. ويقال إن في الشرف ثمانية آلاف قرية عامرة. وبين الشرف وإشبيلية ثلاث أميال ، وسمي بذلك لأنه مشرف على ناحية إشبيلية ، ممتد من الجنوب إلى الشمال. (صفة جزيرة الأندلس ص ١٠١).

(٣) في ب : بها.

١٣٨

وقال صاحب مناهج (١) الفكر ، عند ذكر إشبيلية : وهذه المدينة من أحسن مدن الدنيا ، وبأهلها يضرب المثل في الخلاعة ، وانتهاز فرصة الزمان الساعة بعد الساعة ، ويعينهم على ذلك واديها الفرج ، وناديها البهج ، وهذا الوادي يأتيها من قرطبة ، ويجزر في كل يوم ، ولها جبل الشّرف ، وهو تراب أحمر طوله من الشمال إلى الجنوب أربعون ميلا ، وعرضه من المشرق إلى المغرب اثنا عشر ميلا ، يشتمل على مائتين وعشرين قرية ، قد التحفت بأشجار الزيتون واشتملت ، انتهى.

ولكورة باجة (٢) من الكور الغربية التي كانت من أعمال إشبيلية أيام بني عبّاد خاصّيّة في دباغة الأديم وصناعة الكتّان ، وفيها معدن فضّة ، وبها ولد المعتمد بن عبّاد ، وهي متصلة بكورة ماردة.

ولجبل طارق حوز قصب السّبق بنسبته إلى طارق مولى موسى بن نصير ، إذ كان أوّل ما حلّ به مع المسلمين من بلاد الأندلس عند الفتح ، ولذا شهر بجبل الفتح وهو مقابل الجزيرة الخضراء ، وقد تجوّن البحر هنالك مستديرا حتى صار مكان هذا الجبل كالناظر للجزيرة الخضراء ، وفيه يقول مطرّف (٣) شاعر غرناطة : [الطويل]

وأقود قد ألقى على البحر متنه

فأصبح عن قود الجبال بمعزل (٤)

يعرّض نحو الأفق وجها كأنما

تراقب عيناه كواكب منزل

وإذا أقبل عليه المسافرون من جهة سبتة في البحر بان كأنه سرج ، قال أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد : أقبلت عليه مرة مع والدي فنظرنا إليه على تلك الصفة ، فقال والدي : أجز : [المجتث]

انظر إلى جبل الفت

ح راكبا متن لجّ

فقلت : [المجتث]

وقد تفتّح مثل ال

أفنان في شكل سرج

__________________

(١) في أ: منهاج الفكر.

(٢) باجة : تقع على بعد ١٤٠ كم جنوب شرقي أشبونة وكانت تضم كورة واسعة.

(٣) هو أبو الحسن مطرف بن مطرف المتوفى سنة (٦٠٩ ه‍) من أهل غرناطة ، قتل في وقعة «العقاب» (انظر : المغرب ٢ : ١٢٠).

(٤) الأقود : أراد به الجبل الطويل ، وبمعزل : أي بمكان ناء بعيد.

١٣٩

وأما جزيرة طريف فليست بجزيرة ، وإنّما سمّيت بذلك الجزيرة التي أمامها في البحر مثل الجزيرة الخضراء ، وطريف المنسوبة إليه بربري من موالي موسى بن نصير ، ويقال : إن موسى بعثه قبل طارق في أربعمائة رجل ، فنزل بهذه الجزيرة في رمضان سنة إحدى وتسعين ، وبعده دخل طارق ، والله أعلم.

ومن أعظم كور الأندلس كورة طليطلة ، وهي من متوسط الأندلس ، وكانت دار مملكة بني ذي النّون من ملوك الطوائف ، وكان ابتداء ملكهم صدر المائة الخامسة ، وسمّاها قيصر بلسانه بزليطلة (١) ، وتأويل ذلك : أنت فارح ، فعرّبتها العرب وقالت : طليطلة ، وكانوا يسمّونها وجهاتها في دولة بني أميّة بالثغر الأدنى ، ويسمّون سرقسطة وجهاتها بالثغر الأعلى ، وتسمّى طليطلة مدينة الأملاك ؛ لأنها فيما يقال ملكها اثنان وسبعون إنسانا ، ودخلها سليمان بن داود ، عليهما السلام ، وعيسى ابن مريم ، وذو القرنين ، وفيها وجد طارق مائدة سليمان ، وكانت من ذخائر إشبان ملك الروم الذي بنى إشبيلية ، أخذها من بيت المقدس كما مرّ ، وقوّمت هذه المائدة عند الوليد بن عبد الملك بمائة ألف دينار ، وقيل : إنها كانت من زمرّد أخضر ، ويقال : إنها الآن برومة ، والله أعلم بذلك.

ووجد طارق بطليطلة ذخائر عظيمة ، منها مائة وسبعون تاجا من الدّرّ والياقوت والأحجار النفيسة ، وإيوان ممتلئ من أواني الذهب والفضّة ، وهو كبير ، حتى قيل : إن الخيل تلعب فيه فرسانها برماحهم لوسعه ، وقد قيل : إن أواني المائدة من الذهب وصحافها من اليشم والجزع (٢) ، وذكروا فيها غير هذا ممّا لا يكاد يصدّقه الناظر فيه.

وبطليطلة بساتين محدقة ، وأنهار مخترقة ، ورياض وجنان ، وفواكه حسان ، مختلفة الطعوم والألوان ، ولها من جميع جهاتها أقاليم رفيعة ، ورساتيق مريعة ، وضياع بديعة ، وقلاع منيعة ، وبالجملة فمحاسنها كثيرة ، ولعلنا نلمّ ببعض منتزهاتها (٣) فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وطليطلة قاعدة ملك القوطيين ، وهي مطلة على نهر تاجه (٤) ، وعليه كانت القنطرة التي

__________________

(١) في ب : بزليطة.

(٢) اليشم : حجر يشبه الزبرجد. والجزع : خرز يمان فيه بياض وسواد.

(٣) في ب : متنزهاتها.

(٤) نهر تاجه : نهر عظيم يشق طليطلة قصبة الأندلس في الزمن الأقدم ، يخرج من بلاد الجلالقة ويصب في البحر الرومي.

١٤٠