نفح الطّيب - ج ١

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤

فرحت عبدا ذا وفاء له

معترفا بالرقّ لا أمتري (١)

فيا أبا العباس يا من غدا

أعظم في نفسي من معشري

ومن إذا ما غاب عن ناظري

كان سمير القلب للمحضر

هات أفدني سيدي عن علا ال

مولى لسان الدين ذاك السّري

ذاك الوحيد الفذّ في عصره

بل أوحد الأدهر والأعصر

ذاك الذي أخبرني سيدي

عنه مزايا بعد لم تحصر

ذاك الذي العيّوق لا يعتلي

إلى معاليه ولا يجتري (٢)

ما قد وعدت العبد في جمعه

من خبر عن فضله مسفر

بخطّك الوضّاح وهو الذي

مخبره يربي على المنظر

والشيء لا يرجى إذا ما غدا

منظره يربي على المخبر

نقش على طرس بياض كما

لاحت عيون الرشإ الأحور (٣)

وأسطر قد سلسلت مثل ما

لاح عذار الشادن الأخفر (٤)

ونزهة الأنفس معنى غدا

ما بينها ينساب كالكوثر

عذب رقيق مثل ظبي غدا

يلوح طاوي الكشح أو جؤذر (٥)

آثار أقلامك وهي التي

أغنت عن الأبيض والأسمر

يراعك الجامع راو ، غدا

يروي اللّغى عن لفظك الجوهري

ينثر مسكا تارة ناظما

وينظم الجوهر بالعنبر

هذا ابن شاهين الفتى أحمد

عن ذكرك المأنوس لم يفتر

فاجعل له ذكرا كريما به

يزدان مغبوطا إلى المحشر

واذكر بيوتاتي (٦) وكلّ الذي

كتبته نحوك في دفتري

أنت جدير بمديحي فكن

ذاكر عبد بالوفا أجدر

__________________

(١) لا أمتري : لا أشكّ.

(٢) العيوق : نجم ، ولا يجتري : أصله لا يجترئ فسهل الهمزة بقلبها ياء لانكساء ما قبلها.

(٣) الطرس : الصحيفة. والرشأ : ولد الغزالة الذي قوي ومشى مع أمه.

(٤) في ب : المقمر.

(٥) الجؤذر : ولد البقرة الوحشية.

(٦) في ب : بويتاتي.

١٠١

وهاكها سيّارة أعنقت

على جواد كان للبحتري

طرف كريم سابق صافن

مطهّم ذي أدب أوفر (١)

ورثته منه ولكنما

من شاعر وافى إلى أشعر

ما للفتى الطائيّ شوط امرئ

يصطاد نسر الجوّ بالمنسر

واسلم لعبد لا يرى سيّدا

سوى الذي في ثوبك الأطهر

في كرم العنصر فردا غدا

طبعك فاشكر كرم العنصر

ما حنّ مشتاق أخو صبوة

إلى خليل في الهوى مفكر

انتهت.

فلما وصلني هذا الخطاب ، الذي ملأ من الفصاحة الوطاب (٢) ، وحلي (٣) في عيني وقلبي وطاب ، تحرّكت دواعي الوجد ، لذلك المجد ، الذي ولعت به ولوع ابن الدّمينة بصبا نجد ، وأثار من الهيام والأوار ، ما يزيد على ما حصل للفرزدق لمّا فارق النوّار ، وتضاعف الشوق إلى تلك الأنجاد والأغوار ، منشدا قول الأول «لعلّ أبي المغوار» وتذكرت والذكرى شجون وأطوار ، تلك الأضواء والأنوار ، المشرقة بقطر أزهر بالمحاسن ، وجرى نهره غير آسن ، فلم يذم فيه الجوار : [الطويل]

وإنّ اصطباري عن معاهد جلّق

غريب فما أجفى الفراق وأجفاني

سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها

كحلت بها من شدة الشوق أجفاني

وحصل التصميم ، على التكميل للتأليف والتتميم ، رعيا لهذا الوليّ الحميم ، أفاض الله تعالى عليه غيث البرّ العميم ، وأبقى ظلّ عزه ممدودا ، وحليّ (٤) سؤدده مودودا ، وأناله من الخيرات ما ليس محصورا ولا معدودا ، وجمعني وإياه ، وأطلع لي بشر محيّاه ، وأنشقني عرف اجتماعه وريّاه ، وكيف لا أستديم أمد بقياه ، وأعتقد البشائر في لقياه ، وأسقي غروس الودّ

__________________

(١) الطّرف ـ بكسر الطاء ـ الكريم من الخيل ، ويقال «فرس صافن» إذا قام على ثلاث قوائم وحافر الرابعة.

والجواد المطهم : المتناهي الحسن.

(٢) الوطاب : أصله وعاء اللبن ، وهنا الوعاء.

(٣) في ب : وحلا.

(٤) في ب : وخلّى.

١٠٢

بسقياه ، وهو الصدر الذي أصفى لي الوداد ، والركن الذي لي بثبوته اعتماد (١) واعتداد : [الكامل]

فعليه من مصفى هواه تحيّة

كالمسك لمّا فضّ عنه ختام

تترى بساحته السنيّة ما دعت

فوق الغصون هديلهنّ حمام

ودامت فضائله ظاهرة كالشمس ، محروسة بالسبع المثاني معوّذة بالخمس : [الطويل]

ولا انفكّ ما يرجوه أقرب من غد

ولا زال ما يخشاه أبعد من أمس

وبقي من العناية في حرم أمين ، آمين.

ولما حصل لي كمال الاغتباط ، بما دلّ على صحة حال الارتباط ، نشر (٢) بساط الانبساط ، وحدثت لي قوة النشاط ، وانقشعت عني سحائب الكسل وانجابت ، وناديت فكرتي فلبّت مع ضعفها وأجابت ، فاقتدحت من القريحة زندا كان شحاحا ، وجمعت من مقيّداتي حسانا وصحاحا ، وكنت كتبت شطره ، وملأت بما تيسّر هامشه وسطره ، ورقمت من أنباء لسان الدين بن الخطيب حللا لا تخلق (٣) جدّتها الأعصر ، وسلكت من التعريف به ، رحمه الله ، مهامة تكلّ فيها واسعات الخطا وتقصر ، فحدث لي بعد ذلك عزم على زيادة ذكر الأندلس جملة ومن كان يعضّد به الإسلام وينصر ، وبعض مفاخرها الباسقة ، ومآثر أهلها المتناسقة ؛ لأنّ كل ذلك لا يستوفيه القلم ولا يحصر ، وجئت من النظم والنثر بنبذة توضح للطالب سبله ، وتظهر علمه ونبله ، وتترع كأس (٤) محاسنه من راح المذاكرة وإناؤه ، حتى يرى حسن التأليف أبناء هذا التصنيف وأدباؤه (٥) ، وكنت في المغرب وظلال الشباب ضافية ، وسماء الأفكار من قزع الأكدار صافية ، معتنيا بالفحص عن أنباء أبناء الأندلس (٦) ، وأخبار أهلها التي تنشرح لها الصدور والأنفس ، وما لهم من السبق في ميدان العلوم ، والتقدّم في جهاد العدوّ الظّلوم ، ومحاسن بلادهم ، ومواطن جدالهم وجلادهم ، حتى اقتنيت منها ذخائر يرغب فيها الأفاضل الأخاير ، وانتقيت جواهر فرائدها للعقول بواهر ، واقتطفت أزاهر أنجمها في أفق المحاضرة

__________________

(١) في ب : سقطت اعتماد والواو العاطفة بعدها.

(٢) في ب : نشرت.

(٣) رقمت : خططت. ولا تخلق : لا تبلي.

(٤) في ب : سقطت.

(٥) في ب : حتى يرى إيثار هذا المصنّف وإدناءه.

(٦) في ب : أنباء الأندلس.

١٠٣

زواهر ، وحصّلت فوائد بواطن وظواهر ، طالما كانت أعين الألبّاء لنيلها سواهر ، وجمعت من ذلك كلما عالية ، لو خاطب بها الداعي صمّ الجلامد (١) لانبجس حجرها ، وحكما غالية ، لو عامل بها الأيام ربح متجرها ، وأسجاعا تهتزّ لها الأعطاف ، ومواعظ يعمل بمقتضاها من حفّت به الألطاف ، وقوافي موقورة القوادم والخوافي ، يثني عليها من سلم من الغباوة والصّمم ، ويعترف ببراعتها من لا يعتريه اللّمم ، وطالما أعرض الجاهل الغمر بوجهه عن مثلها وأشاح ، وأنصت لها الحبر إنصات السّوار لجرس الحلي ونغم الوشاح ، وفرح إن ظفر بشيء منها فرح الصائد بالقنيص ، والساري العاري ذي البطن الخميص ، بالزاد والقميص وتركت الجميع بالمغرب ، ولم أستصحب معي منه ما يبيّن عن المقصود ويعرب ، إلّا نزرا يسيرا علق بحفظي ، وحلّيت (٢) بجواهره جيد لفظي ، وبعض أوراق سعد في جواب السؤال بها حظي ، ولو حضرني الآن ما خلّفته ، ممّا جمعت في ذلك الغرض وألّفته ، لقرّت به عيون وسرّت ألباب ، إذ هو ، والله ، الغاية في هذا الباب ، ولكن المرء ابن وقته وساعته ، وكلّ ينفق على قدر وسعه واستطاعته ، وعذر مثلي باد ، للمنصفين من العباد ، إن قصّرت فيما تبصّرت ، أو تخلّفت في الذي تكلّفت ، أو أضعت تحرير ما وضعت ، والتقمت ثدي التقصير ورضعت ، أو أطعت داعي التّواني فتأخّرت عمّن سبق وانقطعت ، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨] ، ومن كانت بضاعته مزجاة ، فهو من الإنصاف بمنحاة ، إذا أتى بالمقدور ، وتبرّأ من الدّعوى في الورود والصدور ، وعين الرّضا عن كل عيب كليلة ، والسلامة من الملامة متعذّرة أو قليلة ، وقد قال إمامنا مالك (٣) صاحب المناقب الجليلة : «كلّ كلام يؤخذ منه ويردّ إلّا كلام صاحب هذا القبر» صلّى الله عليه وسلّم أزكى صلاة وأتمّ سلام وشفى بجاهه من الآلام قلوبنا العليلة ، وجعلنا ممّن كان اتّباع سنّته رائده ودليله! آمين.

والحمد لله الذي يسّر لي هذا القدر ، مع ضيق الصدر ، وقلّة بضاعتي ، وكثرة إضاعتي ، فإنّ حمده جلّ جلاله تتضوّع به المطالب طيبا ، وتقضى ببركته المآرب فيرقى صاحبها على منبر القبول خطيبا ، وتعذب به المشارب فتنبت في أرض القرطاس ، من زاكي الغراس ، ما يروق منظرا نضيرا ويورق غصنا رطيبا ، وقد أتيت من المقال ، بما يقرّ إن شاء الله تعالى عين وامق ويرغم أنف قال ، وإن كنت ممّن هو في ثوب العيّ رافل ، وعن نسبته للقصور غير غافل ، وممّن جعل النفس هدفا ، وصيّر مكان الدّرّ صدفا ، إذ لسان الدين بن الخطيب إمام هذه الفنون ، المحقّق لذوي الآمال الظنون ، المستخرج من بحار البلاغة درّها المكنون ، وله اليد

__________________

(١) صمّ الجلامد : الصخور القاسية. وابجس حجرها : نبع منه الماء.

(٢) في ب : وحليت.

(٣) مالك : هو مالك بن أنس رضي الله عنه.

١٠٤

الطولى في العلوم على اختلاف أجناسها ، والألفاظ الرائقة التي تزيح وحشة الأنفس بإيناسها : الكامل]

ناهيك من فرد أغرّ ممدّح

رحب الذّرا حرّ الكام محسّد (١)

بهر الأنام رياسة وسياسة

وجلالة في المنتمى والمحتد (٢)

وأتى بكلّ بديعة في نوعها

لم تخترع وغريبة لم تعهد

ما شئت من شعر أرقّ من الصّبا

وكتابة أزهى من الزّهر النّدي

وبديع قرطاس توشّح متنه

بمنمنم من رقمه ومنجّد

بهج كأنّ الحسن حلّ أديمه

فكساه ريعان الشباب الأغيد

وكأنما سال العذار عليه أو

خطّته أيدي الغانيات بإثمد

يختال بين موصّل ومفصّل

ومطرّز ومنظّم ومنضّد

كالبرد في توشيعه ، والسّلك في

ترصيعه ، والوشي نمّق باليد (٣)

قد قيّد الأبصار والأفكار من

ألفاظه بمثقّف ومقيّد

ما فيه مغرز إصبع إلّا وفي

ه نتيجة لمفرّع ومولّد

ولكلّ جزء حكمة أو ملحة

أو بدعة لمرسّل ومقصّد

أو ليس مثلي قاصرا عن وصفه

والحقّ نور واضح للمهتدي

وكما قلت وقد عجزت عن أداء الواجب وحاولت المسنون ، وفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده ليس بممنوع ولا ممنون : [الخفيف]

ليت شعري أيّ العبارات توفي

واجب ابن الخطيب ممّا أروم

وأنا عاجز عن البعض منها

لقصوري وما العييّ ملوم

وهو يدعى لسان دين وناهي

ك افتخارا به تتمّ الرّسوم

فبأيّ الحلى أحلّي علا من

نال فضلا روته عرب وروم

وعلى الفرض ما الّذي أنتحي من

ه لدى الوصف أن يخصّ العموم (٤)

__________________

(١) الذّرا ـ بفتح الذّال ـ فناء الدار ونواحيها ، وقولهم : فلان رحب الذرا : أي مضياف.

(٢) في ب : والقعدد. والمحتد : الأصل

(٣) توشيع الثوب : اعلامه وتطريزه. ونمّق : نقش وزيّن.

(٤) انتحي : أقصد.

١٠٥

ألحفظ قد ارتوى من معين

لصواب عليه كلّ يحوم

أم لفهم يستخرج الدّرّ غوصا

من بحار يخشى بها من يعوم

أم لفكر مؤلّف في فنون

عن دهاء (١) به تداوى الكلوم(٢) ٢

أم لنظم كأنه جوهر السّل

ك غلا قدره على من يسوم

تتباهى به الصّدور حليّا

وتروق العيون منه نجوم

أم لنثر وافى بسحر بيان

فهو كالرّوح والمعاني جسوم

وأظلّته للبديع سماء

تتلالا في جانبيها العلوم

فاستزادت منه النفوس رشادا

واستزانت منه النّهى والحلوم

أم لحظّ منمنم فاق حسنا

مثل وشي تلوح منه الرّقوم

أو كزهر في بهجة ورواء

وأريج به تزاح الغموم

والغصون الأقلام ، والطّرس روض

ناضر ، والمداد غيث سجوم

تلك ستّ أعجزن وصفي فإني

بسواها مما يجلّ أقوم

ولم يكن جمعي. علم الله. هذا التأليف لرفد أستهديه ، أو عرض نائل أستجديه ، بل لحقّ ودّ أؤدّيه ، ودين وعد أقدّمه وأبديه ، ووقوف عند حدّ لا يجوز تعدّيه ، وتلبية داع أحيّيه وأفديه : [الرمل]

إنّ من يرجو نوالا وندى

من بني الدنيا لذو حظّ غبين (٣)

فلقد كان على غير الهدى

من يسوّيهم بربّ العالمين

ويرجّي منهم الرزق فهل

خالق الكلّ فقير أو ضنين (٤)

أنخلّي قصد ربّ مالك

ونرى للخلق جهلا قاصدين

ما لنا من مخلص نأتي به

غير جاه المصطفى الهادي الأمين

سيّد الخلق العماد المرتجى

للملمّات شفيع المذنبين (٥)

فعليه صلوات تنتحي

حضرة حلّ بها في كل حين

__________________

(١) في ب : عدّة ما.

(٢) الكلوم : جمع كلم : وهو الجرح.

(٣) الندى : الجود. والحظ الغبين : الناقص.

(٤) الضنين : البخيل.

(٥) الملمات : جمع ملمة وهي المصيبة والنازلة.

١٠٦

والرضا من بعد عن أربعة

هم بحقّ أمراء المؤمنين

فيمينا إنّ من يهواهم

ليكوننّ من اصحاب اليمين

وسط جنّات تحيّيه بها

آنسات قاصرات الطّرف عين (١)

بقوارير لجين شربه

وأباريق وكأس من معين (٢)

والذي شرّفهم يمنحنا

حبّهم والكون معهم أجمعين

فدونك أيها الناظر في هذا الكتاب ، المتجافي عن مذهب النقد والعتاب ، كلمات سوانح ، اختلست مع اشتعال الجوانح ، وتضاد الأمور الموانع والموانح ، وألفاظا بوارح ، اقتنصت بين أشغال الجوارح ، وطرفا أسمت الطّرف في مرعاها وكانت هملا (٣) غير سوارح ، وتحفا يحصل بها لناظره الإمتاع ، ولا يعدّها من سقط المتاع المبتاع ، ويلهج بها المرتاح ، ويستأنس المستوحش المرتاع (٤).

وبعد أن خمّنت تمام هذا التصنيف ، وأمعنت النظر فيما يحصل به التّقريط لسامعه والتشنيف (٥) ، قسّمته قسمين ، وكلّ منهما مستقلّ بالمطلوب فيصحّ أن يسمّيا باسمين :

القسم الأول : فيما يتعلّق بالأندلس من الأخبار المترعة الأكواب والأنباء المنتحية صوب الصواب ، الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب ، وفيه بحسب القصد والاقتصار ، وتحرّي التوسّط في بعض المواضع دون الاختصار ، ثمانية من الأبواب :

الباب الأول : في وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها ، واعتدال مزاجها ووفور خيرها وكمالها واستوائها ، واشتمالها على كثير من المنافع والمحاسن واحتوائها ، وكرم نباتها الذي سقته سماء البركات من جنباتها بنافع أنوائها ، وذكر بعض مآثرها المجلوّة الصّور ، وتعداد كثير مما لها من البلدان والكور ، المستمدّة من أضوائها.

الباب الثاني : في إلقاء بلد الأندلس للمسلمين بالقياد ، وفتحها على يد موسى بن

__________________

(١) الآنسات : جمع آنسة وهي الطيبة النفس ، وأصلها من الأنس ، وهو ضد الوحشة ، والطرف : العين. والعين : جمع عيناء وهي الواسعة العين.

(٢) أخذ هذا من عدة آيات منها قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ).

(٣) هملا : متروكة بغير راع.

(٤) المرتاع : الخائف.

(٥) أصل التقريط : إلباس القرط ، والتشنيف : إلباس الشنف ، وهما حليان للأذن.

١٠٧

نصير ومولاه طارق بن زياد ، وصيرورتها ميدانا لسبق الجياد ، ومحطّ رحال الارتياء والارتياد (١) ، وما يتبع ذلك من خبر حصل بازديانه زياد (٢) ، ونبإ وصل إليه اعتيام (٣) وتقرر بمثله اعتياد.

الباب الثالث : في سرد بعض ما كان للدّين بالأندلس من العزّ السامي العماد ، والقهر للعدوّ في الرواح والغدوّ والتحرّك للهدوّ البالغ غاية الآماد ، وإعمال أهلها للجهاد ، بالجدّ والاجتهاد ، في الجبال والوهاد ، بالأسنّة المشرعة والسيوف المستلّة من الأغماد.

الباب الرابع : في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة ، وجامعها الأمويّ ذي البدائع الباهية الباهرة ، والإلماع بحضرتي الملك ؛ الزهراء الناصرية والعامرية الزاهرة ، ووصف جملة من متنزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة ، وما يجرّ إليه شجون الحديث من أمور تقضي بحسن إيرادها القرائح الوقّادة والأفكار الماهرة.

الباب الخامس : في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق الذاكية العرار والبشام ، ومدح جماعة من أولئك الأعلام ، ذوي الألباب الراجحة والأحلام ، لشامة وجنة (٤) الأرض دمشق الشام ، وما اقتضته المناسبة من كلام أعيانها وأرباب بيانها ذوي السؤدد والاحتشام ، ومخاطباتهم للمؤلّف الفقير حين حلّها عام سبعة وثلاثين وألف وشاهد برق فضلها المبين وشام (٥).

الباب السادس : في ذكر بعض الوافدين على الأندلس من أهل المشرق ، المهتدين في قصدهم إليها بنور الهداية المضيء المشرق ، والأكابر الذين حلّوا منها بحلولهم فيها الجيد والمفرق ، وافتخروا برؤية قطرها المونق على المشئم والمعرق (٦).

الباب السابع : في نبذة مما منّ الله تعالى به على أهل الأندلس من توقّد الأذهان ، وبذلهم في اكتساب المعارف والمعالي ما عزّ أو هان ، وحوزهم في ميدان البراعة من قصب السّبق خصل الرهان ، وجملة من أجوبتهم الدالّة على لوذعيتهم ، وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم ، وغير ذلك من أحوالهم التي لها على فضلهم أوضح برهان.

الباب الثامن : في ذكر تغلّب العدوّ الكافر على الجزيرة بعد صرفه وجوه الكيد إليها ، وتضريبه بين ملوكها ورؤسائها بمكره واستعماله في أمرها حيل فكره حتى استولى ـ دمّره الله ـ

__________________

(١) الارتياء : التفكر والتأمل. والارتياد : القصد والطلب.

(٢) في ب : ازدياد.

(٣) الاعتيام : الاختيار.

(٤) في أ: وجنّة.

(٥) شام السحاب أو البرق : نظر إليه ليرى أين يمطر.

(٦) المشئم : الذي دخل الشام. والمعرق : الذي دخل العراق.

١٠٨

عليها ، ومحا منها التوحيد واسمه ، وكتب على مشاهدها ومعاهدها وسمه ، وقرّر مذهب التثليث والرأي الخبيث لديها ، واستغاثة من بها بالنظم والنثر ، أهل ذلك العصر ، من سائر الأقطار ، حين تعذّرت بحصارها ، مع قلّة حماتها وأنصارها ، المآرب والأوطار ، وجاءها الأعداء من خلفها ومن بين يديها ، أعاد الله تعالى إليها كلمة الإسلام ، وأقام فيها شريعة سيّد الأنام ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، ورفع يد الكفر عنها وعمّا حواليها ، آمين.

ولم أخل بابا في هذا القسم من كلام (١) للسان الدين بن الخطيب وإن قلّ ، مع أن القسم الثاني بذلك كما ستقف عليه قد استقلّ ، وهذا آخر ما تعلّق بالقسم الأول ، وعلى الله سبحانه المتّكل والمعوّل.

القسم الثاني : في التعريف بلسان الدين بن الخطيب ، وذكر أنبائه التي يروق سماعها ، ويتأرّج نفحها ويطيب ، وما يناسبها من أحوال العلماء الأفراد ، والأعلام الذين اقتضى ذكرهم شجون الكلام والاستطراد ، وفيه أيضا من الأبواب ثمانية ، موصلة إلى جنّات أدب قطوفها دانية ، وكلّ غصن منها رطيب :

الباب الأول : في ذكر (٢) أولية لسان الدين وذكر أسلافه ، الذين ورث عنهم المجد وارتضع درّ أخلافه (٣) ، وما يناسب ذلك مما لا يذهب المنصف إلى خلافه.

الباب الثاني : في نشأته وترقّيه ووزارته وسعادته ، ومساعدة الدهر له ثم قلبه له ظهر المجنّ (٤) على عادته ، في مصافاته ، ومنافاته ، وارتباكه ، في شباكه ، وما لقي من إحن (٥) الحاسد ، ذي المذهب الفاسد ، ومحن الكائد (٦) المستأسد وآفاته ، وذكر قصوره وأمواله ، وغير ذلك من أحواله ، في تقلّباته عندما قابله الزمان بأهواله ، في بدئه وإعادته إلى وفاته.

الباب الثالث : في ذكر مشايخه الجلّة ، هداة الناس ونجوم الملّة ، وما يتّصل بذلك من الأخبار الشافية للعلّة ، والمواعظ المنجية من الأهواء المضلّة ، والمناسبات الواضحة البراهين والأدلّة.

__________________

(١) في ب : من كلام لسان الدين.

(٢) في ب : سقطت (ذكر).

(٣) الدّر ـ بفتح الدال ـ اللّبن : والأخلاف : الضروع.

(٤) قلب له ظهر المجن : أي أظهر له العداوة والبغضاء.

(٥) الإحن : جمع إحنة : الحقد والغضب.

(٦) في ب : الكايد.

١٠٩

الباب الرابع : في مخاطبات الملوك والأكابر الموجّهة إلى حضرته العليّة ، وثناء غير واحد من أهل عصره عليه ، وصرف القاصدين وجوه التأميل إليه ، واجتلائهم أنوار رياسته الجليّة.

الباب الخامس : في إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته ، ونظمه الذي تألّق نور البراعة من لمحاته وصفحاته ، وما يتّصل بذلك (١) من بعض أزجاله وموشّحاته ، ومناسبات رائقة من فنون الأدب ومصطلحاته.

الباب السادس : في مصنّفاته في الفنون ، ومؤلّفاته المحقّقة للواقف عليها الآمال والظنون ، وما كمل منها أو اخترمته دون إتمامه المنون (٢).

الباب السابع : في ذكر بعض تلامذته الآخذين عنه ، المستدلّين به على المنهاج ، المتلقّين أنواع العلوم منه ، والمقتبسين أنوار الفهوم من سراجه الوهّاج.

الباب الثامن : في ذكر أولاده الرافلين في حلل الجلالة ، المقتفين أوصافه الحميدة وخلاله ، الوارثين العلم والحلم والرياسة والمجد عن غير كلالة (٣) ، ووصيّته لهم الجامعة لآداب الدين والدنيا ، المشتملة على النصائح الكافية ، والحكم الشافية ، من كل مرض بلا ثنيا ، المنقذة من أنواع الضلالة ، وما يتبع ذلك من المناسبات القوية ، والأمداح النبويّة ، التي لها على حسن الختام أظهر دلالة.

وقد كنت أولا سمّيته ب «عرف الطّيب ، في التعريف بالوزير ابن الخطيب» ثم وسمته حين ألحقت أخبار الأندلس به ب «نفح الطّيب ، من غصن الأندلس الرطيب ، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب».

وله بالشام تعلّق من وجوه عديدة ، هادية لمتأمّله (٤) إلى الطرق السديدة :

أوّلها : أنّ الداعي لتأليفه أهل الشام. أبقى الله مآثرهم وجعلها على مرّ الزمان مديدة.

ثانيها : أنّ الفاتحين للأندلس هم أهل الشام ذوو النّجدة (٥) والشّوكة الحديدة.

ثالثها : أن غالب أهل الأندلس من عرب الشام الذين اتّخذوا بالأندلس وطنا مستأنفا وحضرة جديدة.

__________________

(١) في ب : به.

(٢) اخترمته المنون : سبق إليه الموت

(٣) الكلالة : قرابة الإنسان غير أصوله فروعه. وورث المجد عن غير كلالة ، أي ورثه وهو حقيق أن يرثه.

(٤) في ب : هادية متأملها.

(٥) في ب : ذوو الشوكة الحديدة.

١١٠

ورابعها : أن غرناطة نزل بها أهل دمشق ، وسمّوها باسمها لشبهها بها في القصر والنهر ، والدّوح والزّهر ، والغوطة الفيحاء ، وهذه مناسبة قوية العرا شديدة.

هذا ، وإني أسأل ممّن وقف عليه ، أن ينظر بعين الإغضاء إليه ، كما أطلب ممّن كان السبب في تصنيفه ، والداعي إلى تأليفه وترصيفه ، استنادا لركن الثقة ، واعتمادا على الودّ والمقة (١) ، أن يصفح عمّا فيه من قصور ويسمح ، ويلاحظه بعين الرضا الكليلة ويلمح ، إذ ركّبت شكل منطقه والأشجان غالبة ، وقضية الغربة ، موجبة للكربة ، ولبعض الآمال سالبة ، وهو. وإن لم يوف بكل الغرض. فلا يخلو من فائدة ، وقد يستدلّ على الجوهر بالعرض ، فإن أدّيت المفترض ، وذاك المرام الذي أرتضيه ، ويوجب الودّ ويقتضيه : [الطويل]

وإلّا فحسبي أن بذلت به جهدي

وأنفقت من وجدي على قدر ما عندي (٢)

وقد توهّمت أني لم أسبق إلى مثله في بابه ، إذ لم أقف له على نظير أتعلّق بأسبابه ، ورجوت أن يكون هديّة مستملحة مستعذبة ، وطرفة (٣) مقبولة مستغربة : [السريع]

هديّتي تقصر عن همّتي

وهمّتي أكثر من مالي

وخالص الودّ ومحض الإخا

أكثر ما يهديه أمثالي

وأوردت فيه من نظم وإنشاء ، ما يكفي المقتصر عليه إن شاء ، ومن أخبار ملوك ورؤساء ، وطبقات من أحسن أو أساء ، ما فيه اعتبار للمتأمّل ، وادّكار للراحل المتحمّل ، وزينة للذاكر المتجمّل ، وتنكيت على أهل البطر ، وتبكيت لمن خرج من دنياه ولم يقض من الطاعة الوطر : [الوافر]

أرى أولاد آدم أبطرتهم

حظوظهم من الدنيا الدّنيّة

فلم بطروا وأوّلهم منيّ

إذا نسبوا وآخرهم منيّه

وفيه إيقاظ لمثلي من سنة (٤) الغفلة ، وحثّ على عدم الاغترار بالمهلة ، وتنبيه للابس برد الشباب القشيب ، أنّه لا بدّ من حادث الموت قبل أو بعد المشيب : [السريع]

لله درّ الشّيب من واعظ

وناصح منهاجه واضح

كلّ امرئ يعجبه شأنه

وحادث الدهر له فاضح

__________________

(١) المقة : الحب والودّ. وومقه كورثه ومقا ومقة : أحبه أشد الحب.

(٢) الوجد : بضم الواو وسكون الجيم : الغنى والسعة

(٣) الطّرفة : كل مستحسن معجب.

(٤) السّنة ـ بكسر الشين ـ النوم ، أو أوله.

١١١

فكم باك على عصر الشباب ، وشاك لفراق عهد الصّبا والأحباب ، أنساه طارق الزمان سليمى والرّباب : [الوافر]

مضى عصر الشباب كلمح برق

وعصر الشّيب بالأكدار شيبا

وما أعددت قبل الموت زادا

ليوم يجعل الولدان شيبا (١)

وما أحسن قول بعض الأعلام : [الطويل]

مضى ما مضى من حلو عيش ومرّه

كأن لم يكن إلّا كأضغاث أحلام

وقول من أرشد سفيها : [الخفيف]

إنما هذه الحياة متاع

فالجهول الجهول من يصطفيها

ما مضى فات والمؤمّل غيب

ولك الساعة التي أنت فيها

وفي معناه لغيره : [المجتث]

دنياك شيئان فانظر

ما ذانك الشّيئان

ما فات منها فحلم

وما بقي فأماني

وما أحكم قول ابن حطّان ، مع وقوعه من البدعة في أشطان (٢) : [الرمل]

يأسف المرء على ما فاته

من لبانات إذا لم يقضها (٣)

وتراه ضاحكا مستبشرا

بالتي أمضى كأن لم يمضها

إنها عندي كأحلام الكرى

لقريب بعضها من بعضها

ولغيره : [البسيط]

والله لو كانت الدنيا بأجمعها

تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا

ما كان من حقّ حرّ أن يذلّ لها

فكيف وهي متاع يضمحلّ غدا

ولآخر : [السريع]

لا حظّ في الدنيا لمستبصر

يلمحها بالفكرة الباصره

__________________

(١) أخذ معنى هذا البيت من قوله تعالى (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً).

(٢) الأشطان : جمع شطن : الحبل.

(٣) لبانات : جمع لبانة ، وهي الحاجة.

١١٢

إن كدّرت مشربه ملّها

وإن صفت كدّرت الآخره

ويعجبني قول الوزير ابن المغربي (١) : [مجزوء الكامل]

إني أبثّك من حدي

ثي والحديث له شجون

فارقت موضع مرقدي

ليلا ففارقني السكون

قل لي فأوّل ليلة

للقبر كيف ترى أكون

وقول ماميه (٢) : [الوافر]

تأمّل في الوجود بعين فكر

تر الدنيا الدّنيّة كالخيال

ومن فيها جميعا سوف يفنى

ويبقى وجه ربك ذو الجلال

وقول بعض العارفين : [الخفيف]

استعدّي يا نفس للموت واسعي

لنجاة فالحازم المستعدّ

قد تبيّنت أنه ليس للحيّ

خلود وما من الموت بدّ

إنما أنت مستعيرة ما سو

ف تردّين والعواري تردّ

أنت تسهين والحوادث لا تس

هو وتلهين والمنايا تجدّ

أيّ ملك في الأرض أو أيّ حظّ

لامرىء حظّه من الأرض لحد (٣)

لا ترجّي البقاء في معدن المو

ت ودار حتوفها لك ورد

كيف يرجو امرؤ لذاذة أيا

م عليه الأنفاس فيها تعدّ

وأسأل من مبلغ السائلين ما يرجون : أن يصفح عن زلاتي ويسامحني فيما أوردت في هذا الكتاب من الهزل والمجون ، الذي جرّت المناسبة إليه والحديث شجون ، وما القصد منه إلّا ترويح قلوب الذين يسوقون عيس الأسمار ويزجون (٤) ، وفيما أوردت من المواعظ والنصائح ،

__________________

(١) هو أبو القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن علي المعروف بالوزير المغربي : له شعر رائق وتآليف عدة ، وكان من أدهى البشر وأذكاهم توفي سنة (٤١٨ ه‍) (انظر : وفيات الأعيان ٢ : ١٧٢ وشذرات الذهب ٣ : ٢١٠ ، ولسان الميزان ٢ : ٣٠١ ، وتاريخ ابن الأثير في صفحات متفرقة من الجزء التاسع).

(٢) هو المعروف بماميه الرومي واسمه محمد بن أحمد بن عبد الله المتوفى سنة ٩٨٨ ه‍ (انظر : شذرات الذهب ٨ : ٤١٣).

(٣) اللحد : القبر.

(٤) يزجون : يسوقون.

١١٣

وحكايات الأولياء الذين طيب زهر مناقبهم فائح ، والتوسّل بمحاسن الأمداح النبوية أن يستر بفضله سبحانه القبائح ، ويرينا وجه القبول بلا اكتتام ، ويمنحنا الزّلفى وحسن الختام : [الطويل]

ومن يتوسّل بالنبيّ محمّد

شفيع البرايا السّيّد السّند الأسنى

فذاك جدير أن يكفّر ذنبه

ويمنح نيل القصد والختم بالحسنى

وهذا أوان الشروع ، في الأصول من هذا الكتاب والفروع ، وعلى الله سبحانه أعتمد ، ومن معونته أستمدّ.

١١٤

القسم الأول

فيما يتعلق بالأندلس من الأخبار المترعة الأكواب ،

والأنباء المنتحية صوب الصواب ،

الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب ،

وفيه بحسب القصد والاختصار ، وتحرّي التوسّط في بعض

المواضع دون الاختصار ،

ثمانية من الأبواب هي :

الباب الأول : في وصف جزيرة الأندلس.

الباب الثاني : في فتح الأندلس.

الباب الثالث : في سرد ما كان للدين الإسلامي بالأندلس من العزّة والمكانة.

الباب الرابع : في ذكر قرطبة وجامعها الأمويّ ووصف الزهراء.

الباب الخامس : في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى المشرق.

الباب السادس : في ذكر الوافدين من المشرق إلى الأندلس.

الباب السابع : فيما امتاز به الأندلسيون من توقّد الأذهان.

الباب الثامن : في تغلّب العدوّ على الأندلس ، واستغاثة الأندلسيين بالنظم والشعر.

١١٥
١١٦

الباب الأوّل

وصف الأندلس

في وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها ، واعتدال مزاجها ووفور خيراتها واستوائها ، واشتمالها على كثير من المحاسن واحتوائها ، وكرم بقعتها التي سقتها سماء البركات بنافع أنوائها (١) ، وذكر بعض مآثرها المجلوّة الصّور ، وتعداد كثير مما لها من البلدان والكور (٢) ، المستمدّة من أضوائها ، فأقول :

محاسن الأندلس لا تستوفى بعبارة ، ومجاري فضلها لا يشقّ غباره ، وأنّى تجارى وهي الحائزة قصب السّبق ، في أقطار الغرب والشرق؟.

قال ابن سعيد : إنما سمّيت بالأندلس بن طوبال بن يافث بن نوح ؛ لأنه نزلها ، كما أن أخاه سبت بن يافث نزل العدوة المقابلة لها ، وإليه تنسب سبتة (٣).

قال : وأهل الأندلس يحافظون على قوام اللسان العربي ؛ لأنهم إمّا عرب أو متعرّبون ، انتهى.

وقال ابن غالب : إنه أندلس بن يافث ، والله تعالى أعلم.

وقال الوزير لسان الدين بن الخطيب ـ رحمه الله! ـ في بعض كلام له أجرى فيه ذكر البلاد الأندلسية ، أعادها الله تعالى للإسلام! ببركة المصطفى عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام ، ما نصّه : خصّ الله تعالى بلاد الأندلس من الرّيع وغدق السّقيا ، ولذاذة الأقوات ، وفراهة الحيوان ، ودرور الفواكه ، وكثرة المياه ، وتبحّر العمران ، وجودة اللباس ، وشرف الآنية ، وكثرة السلاح ، وصحة الهواء ، وابيضاض ألوان الإنسان ، ونبل الأذهان ، وفنون (٤)

__________________

(١) الأنواء : جمع نوء : المطر.

(٢) الكور : جمع كورة ، وهي المدينة أو البقعة التي تجتمع فيها المساكن والقرى.

(٣) سبتة ـ بفتح السين وسكون الباء ـ بلدة مشهورة على برّ البربر تقابل الأندلس.

(٤) في ب : وقبول.

١١٧

الصنائع ، وشهامة الطباع ، ونفوذ الإدراك ، وإحكام التمدّن والاعتمار ، بما حرمه الكثير من الأقطار ممّا سواها ، انتهى.

قال أبو عامر السالمي (١) ، في كتابه المسمّى ب «درر القلائد وغرر الفوائد» : الأندلس من الإقليم الشامي ، وهو خير الأقاليم ، وأعدلها هواء وترابا ، وأعذبها ماء ، وأطيبها هواء وحيوانا ونباتا ، وهو أوسط الأقاليم ، وخير الأمور أوساطها (٢) ، انتهى.

قال أبو عبيد البكري : الأندلس شامية في طيبها وهوائها ، يمانيّة في اعتدالها واستوائها ، هنديّة في عطرها وذكائها ، أهوازية في عظم جبايتها ، صينية في جواهر معادنها ، عدنيّة في منافع سواحلها ، فيها آثار عظيمة لليونانيين أهل الحكمة وحاملي الفلسفة ، وكان من ملوكهم الذين أثّروا الآثار بالأندلس هرقلس ، وله الأثر في الصنم بجزيرة قادس وصنم جلّيقيّة ، والأثر في مدينة طرّكونة (٣) ، الذي لا نظير له.

قال المسعودي (٤) : بلاد الأندلس تكون مسيرة عمائرها ومدنها نحو شهرين ، ولهم من المدن الموصوفة نحو من أربعين مدينة ، انتهى باختصار.

ونحوه لابن اليسع ، إذ قال : طولها من أربونة إلى أشبونة (٥) وهو قطع ستين يوما للفارس المجدّ ، وانتقد بأمرين : أحدهما أنه يقتضي أنّ أربونة داخلة في جزيرة الأندلس ، والصحيح أنها خارجة عنها ، والثاني أن قوله : «ستّين يوما للفارس المجدّ» إعياء وإفراط ، وقد قال جماعة : إنها شهر ونصف.

قال ابن سعيد : وهذا يقرب إذا لم يكن للفارس المجدّ ، والصحيح ما نصّ عليه الشريف (٦) من أنها مسيرة شهر ، وكذا قال الحجاري ، وقد سألت المسافرين المحقّقين عن ذلك فعملوا حسابا بالمراحل الجيدة أفضى إلى نحو شهر بنيّف قليل.

__________________

(١) هو أبو عامر محمد بن أحمد بن عامر السالمي ، له مؤلفات في الآداب والحديث والتاريخ ، ومن كتبه «درر القلائد وغرر الفوائد» (انظر : التكملة ص ٤٩٥).

(٢) في ب : أوسطها.

(٣) مدينة متصلة بأعمال طرطوشة ، تقع على شاطىء البحر على بعد خمسين ميلا من لاردة.

(٤) (انظر مروج الذهب ١ : ١٦٢).

(٥) أربونة : آخر ما استولى عليه العرب من جهة المشرق ، وأشبونة هي لشبونة عاصمة البرتغال.

(٦) يعني الشريف الإدريسي مؤلف كتاب «نزهة المشتاق».

١١٨

قال الحجاري في موضع من كتابه : إن طول الأندلس من الحاجز إلى أشبونة ألف ميل ونيف. انتهى.

وبالجملة ، فالمراد التقريب من غير مشاححة ، كما قاله ابن سعيد ، وأطال في ذلك ، ثم قال بعد كلام : ومسافة الحاجز الذي بين بحر الزّقاق والبحر المحيط أربعون ميلا ، وهذا عرض الأندلس عند رأسها من جهة الشرق ، ولقلّته سمّيت جزيرة ، وإلّا فليست بجزيرة على الحقيقة لاتصال هذا القدر بالأرض الكبيرة ، وعرض جزيرة الأندلس في موسّطها (١) عند طليطلة ستة عشر يوما. واتفقوا على أن جزيرة الأندلس مثلثة الشكل ، واختلفوا في الركن الذي في الشرق والجنوب في حيز أربونة ، فممّن قال إنه في أربونة وإن هذه المدينة تقابلها مدينة برذيل التي في الركن الشرقي الشمالي أحمد بن محمد الرازي وابن حيّان ، وفي كلام غيرهما أنه في جهة أربونة ، وحقّق الأمر الشريف ، وهو أعرف بتلك الجهة لتردّده في الأسفار برّا وبحرا إليها وتفرّغه لهذا الفن.

قال ابن سعيد : وسألت جماعة من علماء هذا الشأن فأخبروني أنّ الصحيح ما ذهب إليه الشريف ، وأنّ أربونة وبرشلونة غير داخلتين في أرض الأندلس ، وأن الركن الموفي على بحر الزقاق بالمشرق بين برشلونة وطرّكونة في موضع يعرف بوادي زنلقطو (٢) ، وهنالك الحاجز الذي يفصل بين الأندلس والأرض الكبيرة ذات الألسن الكثيرة ، وفي هذا المكان جبل ألبرت الفاصل في الحاجز المذكور وفيه الأبواب التي فتحها ملك اليونانيين بالحديد والنار والخل ، ولم يكن للأندلس من الأرض الكبيرة قبل ذلك طريق في البرّ. وذكر الشريف أن هذه الأبواب يقع في مقابلتها في بحر الزقاق البحر الذي بين جزيرتي ميورقة ومنورقة (٣) ، وقد أخبر بذلك جمهور المسافرين لتلك الناحية ، ومسافة هذا الجبل الحاجز بين الركن الجنوبي والركن الشمالي أربعون ميلا.

قال : وشمال الركن المذكور عند مدينة برديل (٤) ، وهي من مدن الإفرنجة ، مطلّة على

__________________

(١) في ب : موسطتها.

(٢) في ب : زنلقاطو.

(٣) ميورقة : هي جزيرة في البحر الزقاقي تسامتها من القبلة بجاية من بر العدوة بينهما ثلاثة مجار ، ومن الجوف برشلونة من بلاد أرغون ، وبينهما مجرى واحد. وطول ميورقة من الغرب إلى الشرق سبعون ميلا وعرضها من القبلة إلى الجوف خمسون ميلا. فتحها المسلمون سنة (٢٩٠ ه‍) (صفة جزيرة الأندلس ص ١٨٨).

ومنورقة قريبة من ميورقة ، وكانت الجزيرتان في عصر ملوك الطوائف تحت حكم مجاهد العامري.

(٤) في ب برذيل.

١١٩

البحر المحيط في شمال (١) الأندلس ، قال : ويتقهقر البرّ بعد تميز هذا الركن إلى الشمال في بلاد الفرنجة ، ولهم به جزائر كثيرة. ودوكرا (٢) الركن الشمالي عند شنت ياقوه من ساحل الجلالقة في شمال الأندلس ، حيث تبتدىء جزيرة برطانية الكبيرة فيتصوّر هنالك بحر داخل بين أرضين ، من الناس من يجعله بحرا منفردا خارجا من البحر المحيط لطوله إلى الركن المتقدّم الذكر عند مدينة برديل

وذكر الشريف أن عند شنت ياقوه في هذا الركن المذكور على جبل بمجمع البحرين صنما مطلّا مشبها بصنم قادس.

والركن الثالث بمقربة من جبل الأغن (٣) حيث صنم قادس ، والجبل المذكور يدخل من غربه مع جنوبه بحر الزّقاق من البحر المحيط مارّا مع ساحل الأندلس الجنوبي إلى جبل ألبرت المذكور ، انتهى ، والكلام في مثل هذا طويل الذيل.

قال الشيخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي : بلد الأندلس هو آخر الإقليم الرابع إلى المغرب ، وهو عند الحكماء بلد كريم البقعة ، طيب التربة ، خصب الجناب ، منبجس الأنهار (٤) الغزار والعيون العذاب ، قليل الهوامّ ذوات السموم ، معتدل الهواء والجوّ والنسيم ، ربيعه وخريفه ومشتاه ومصيفه على قدر من الاعتدال ، وسطة من الحال ، لا يتولّد في أحدها فصل (٥) يتولّد منه فيما يتلوه انتقاص ، تتّصل فواكهه أكثر الأزمنة وتدوم متلاحقة غير مفقودة ، أمّا الساحل منه ونواحيه ، فيبادر بباكوره ، وأما الثغر وجهاته والجبال المخصوصة ببرد الهواء ، فيتأخّر بالكثير من ثمره ، فمادة الخيرات بالبلد متمادية في كل الأحيان ، وفواكهه على الجملة غير معدومة في كل أوان. وله خواصّ في كرم النبات توافق في بعضها أرض الهند المخصوصة بكرم النبات وجواهره (٦) : منها أن المحلب ـ وهو المقدّم في الأفاويه والمفضّل في أنواع الأشنان ـ لا ينبت بشيء من الأرض إلّا بالهند والأندلس.

وللأندلس المدن الحصينة ، والمعاقل المنيعة ، والقلاع الحريزة ، والمصانع الجليلة ،

__________________

(١) في ب : شماليّ.

(٢) في ب : وذكر أن

(٣) في ب : الأغر.

(٤) في ب : بالأنهار.

(٥) في ب : فضل.

(٦) في ب : يوافق في بعضها أرض الهند المخصوصة بجواهر الإنبات.

١٢٠