تراثنا ـ العددان [ 32 و 33 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 32 و 33 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٢

ما أخرج له فمتابعة (٨٤).

وفيه أيضا : حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري الفقيه الكوفي.

قال أبو نعيم عن عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت : سمعت أبي يقول : كان حماد يقول : قال إبراهيم : فقلت : والله إنك لتكذب على إبراهيم ، أو إن إبراهيم ليخطيء.

وقال أبو بكر بن عياش عن الأعمش : حدثنا حماد عن إبراهيم بحديث ، وكان غير ثقة.

قال أبو أحمد الحاكم في الكنى : وكان الأعمش سيىء الرأي فيه.

وقال أبو حاتم : لا يحتج بحديثه.

وقال ابن سعد : كان ضعيفا في الحديث ، واختلط في آخر أمره وكان مرجئا.

وقال الذهلي : كثير الخطأ والوهم.

وقال مالك بن أنس : كان الناس عندنا هم أهل العراق ، حتى وثب إنسان يقال له : حماد ، فاعترض هذا الدين فقال فيه برأيه ـ كما في تهذيب التهذيب ـ (٨٥).

وأما حديث عاصم بن بهدلة فقد أخرجه ابن ماجة في سننه (٨٦) ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، ثنا أبو داود ، ثنا أبو داود ، ثنا شعبة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي وائل ، عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما.

قلت : عاصم بن بهدلة ـ وهو ابن أبي النجود الكوفي ، أحد القراء السبعة ـ قد تكلموا فيه.

__________________

(٨٤) كما في هدي الساري : ٤١٩ ، وتهذيب التهذيب ٢ / ١٢.

(٨٥) تهذيب التهذيب ٢ / ١٣ ـ ١٤.

(٨٦) سنن ابن ماجة ١ / ١١١.

٢٤١

قال العجلي : كان يختلف عليه في زر وأبي وائل ، يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما ـ كما وقع له في هذا الحديث ـ ، وروى من الحديث أقل من مائتي حديث وأكثر روايته عن زر بن حبيش ، قاله العجلي ، فبان لك حال أحاديثه.

وقال العجلي أيضا : كان عثمانيا ، وذكر ابن سعد أنه كان كثير الخطأ في حديثه.

وقال أبو حاتم : ليس محله أن يقال : هو ثقة ، ولم يكن بالحافظ.

وقال يعقوب بن سفيان : في حديثه اضطراب. واختلف فيه قول النسائي.

وقال ابن خراش : في حديثه نكرة.

وقال الدارقطني : في حفظه شئ ...

وقد تكلم فيه ابن علية فقال : كل من كان اسمه (عاصم) سيئ الحفظ ، ونحوه كلام يحيى بن القطان.

وقال الحافظ ابن حجر في (التقريب) : له أوهام ، وقال في «فتح الباري» (٨٧) : في حفظهما ـ يعني عاصما وحماد بن سلمة ـ مقال.

وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» (٨٨) : خرج له الشيخان مقرونا بغيره لا أصلا وانفرادا. انتهى.

وفي تهذيب التهذيب (٨٩) : قال حماد بن سلمة : خلط عاصم في آخر عمره.

ثم إنهم رووا ـ من وجوه أخر ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بال قائما ، من دون ذكر السباطة.

__________________

(٨٧) فتح الباري ١ / ٣٩٣.

(٨٨) ميزان الاعتدال ٤ / ٣٥٧ رقم ٤٠٦٨ ، تهذيب التهذيب ٣ / ٣٠.

(٨٨٩) تهذيب التهذيب ٣ / ٣٠.

٢٤٢

فقد أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين (٩٠) والبيهقي بسند فيه ـ حماد بن غسان الجعفي ـ عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بال قائما من جرح كان بمأبضه.

قال الحاكم : تفرد به حماد بن غسان.

وقال الذهبي في «تلخيص المستدرك» : حماد ضعفه الدارقطني. انتهى.

قلت : لو صح هذا للزم أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بال قائما مدة ابتلائه بذلك الجرح ، لأن برءه يستدعي زمانا ويطول أياما ، ولا فرق في تلك الحال بين البيت وخارجه ، ومثل ذلك لا يغيب عن أم المؤمنين عائشة ، لأنها أعلم من غيرها بهذا الأمر ونحوه ، ولأخبرت به ، ولما نفت وقوعه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ أنزل عليه القرآن ، حتى اضطروا إلى حمل نفيها على خارج البيت ـ مع ما فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.

هذا ، مع ضعف أصل الرواية ـ كما حكاه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» عن الدارقطني والبيهقي ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ـ.

وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (٩١) عن مجاهد ، قال : ما بال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائما إلا مرة في كثيب أعجبه.

قلت : هذا مدفوع بحديث السباطة المشهور بين القوم ، لأن في جملة من الأحاديث الواردة ـ في بوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ التصريح بأن ذلك كان على سباطة قوم ـ وهو الأكثر ـ وفي بعضها إهمال البيان بالنسبة إلى ذلك ، وفي هذا الأثر أنه عليه وآله الصلاة والسلام بال في كثيب أعجبه! اللهم إلا أن يقال : إن المراد بالكثيب السباطة ، لكن لا يخفى بعده ،

__________________

(٩٠) المستدرك على الصحيحين ١ / ١٨٢.

(٩١) المصنف ١ / ١٢٣.

٢٤٣

ويعكر عليه أن السباطة هي المزبلة ، و" الكثيب قطعة من الرمل مستطيلة تشبه الربوة من التراب ، وبينهما فرق بين.

هذا ، مع أن صريح هذا الأثر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بال في ذلك الكثيب لاستحسانه إياه وإعجابه به ، وهذا مما لا يتعلق به غرض صحيح ولا حكمة تعقل ، ولذا حمل بعضهم بوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على السباطة قائما ـ على الضرورة والحاجة الملجئة إلى ذلك.

وأيضا فإن صريح هذا الأثر يدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بال قائما إلا مرة ، وسائر أحاديث الباب ترده ، لأنها ظاهرة في تكرر وقوع ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنه خلاف هديه عليه وآله الصلاة والسلام.

ويشهد لذلك ما تقدم من حديث السباطة عن حذيفة بن اليمان ومغيرة ابن شعبة (٩٢) ، وغيره مما فيه التصريح ببوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائما ، كحديث سهل بن سعد الساعدي ـ عند الطبراني في الأوسط (٩٣) ـ أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبول قائما.

والتحقيق : أنه لا يخلو إما أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بال قائما ومعه حذيفة حسب ـ كما هو ظاهر حديث الصحيحين وغيرهما ـ أولا ، كما يظهر من حديث عصمة بن مالك ـ الذي رواه الطبراني (٩٤) ـ قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض سكك المدينة فانتهى إلى سباطة قوم فقال : يا حذيفة استرني ... (الحديث).

فإن كان الأول ، فإنه يلزم منه تكذيب حديث مغيرة بن شعبة وغيره ممن

__________________

(٩٢) أخرج الطبراني في الأوسط ٢ / ٧٣ بإسناده عن شقيق بن سلمة ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سباطة قوم فبال قائما ، فجئته بماء فصببته عليه فتوضأ ومسح برأسه ومسح على خفيه ، ثم قام فصلى.

(٩٣) كما في حاشية النسائي للحافظ السيوطي ١ / ٢٧.

(٩٤) كما في فتح الباري ١ / ٣٩٣.

٢٤٤

روى بوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائما ـ ولو من دون ذكر السباطة ـ ، والظاهر أن المغيرة وسهل بن سعد وأبا هريرة وعصمة بن مالك رأوه يبول قائما كما رآه حذيفة.

فإن قيل : لعل ذلك إخبار منهم بما سمعوه من حذيفة رضي‌الله‌عنه.

قلنا : فيكون إخبارهم على الوجه المذكور في أحاديثهم تدليسا ظاهرا وتلبيسا بلا ريب ، مع أن صريح حديث كل من روى بوله عليه الصلاة والسلام من قيام ـ ممن ذكرناهم من الصحابة ـ ينفي وقوع الأخبار منهم على ذلك الوجه ، بل كان ذلك بمشهد منهم وبمرأى.

وإن كان الثاني ، وادعي أن ذلك وقع بمحضر ثلة من الصحابة ، منهم سهل والمغيرة وأبو هريرة وعصمة بن مالك ، فهذا مما يتحاشاه كثير من السفلة والجهلة فضلا عن نبي مع أصحابه.

فإن قالوا : لعل تعدد المخبرين ببوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائما لتعدد تلك الوقائع وتكررها.

قلنا : اتسع الخرق على الراقع ، وفسد عليهم تأويلهم حديث عائشة : «من حدثكم أنه كان يبول قائما فلا تصدقوه» بأن ما وقع منه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم من ذلك كان نادرا ، إما للضرورة ، وإما لبيان الجواز ، وإما لغير ذلك مما ستأتي حكايته عنهم إن شاء الله تعالى ، حتى أن النسائي ترجم الباب في سننه ب (الرخصة في البول في الصحراء قائما) مشيرا إلى أن ما وقع منه عليه وآله الصلاة والسلام من البول قائما كان في الصحراء.

وقد أول السندي في حاشيته على النسائي الصحراء بخارج البيت ، وهو كما ترى! لأنه إن أراد بخارج البيت نفس طيبة الطيبة ، فإن تأويله يكون فاسدا لا محالة ، إذ يلزم منه أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتشم من نسائه وأهل بيته ويستحيي منهم فلا يبول قائما بمحضرهم ، ومع ذلك لا يبالي بأصحابه ـ مهاجريهم وأنصارهم ـ! مع أن دأب ذوي الألباب والأخلاق

٢٤٥

الفاضلة ، بل ديدن العقلاء طرا التحفظ عند الناس أكثر منه عند أزواجهم وذرياتهم ، وعائشة أم المؤمنين قد أخبرت بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبل قائما.

وإن أراد بخارج البيت الصحراء من أطراف المدينة أو غيرها ، فقد عبث بتأويله ، مع أن ابن عبد البر قد أخرج في (التمهيد) بسند صحيح أن ذلك كان بالمدينة ، وتقدم أيضا في حديث عصمة بن مالك ، وجزم به الشهابان العسقلاني والقسطلاني في شرحيهما على صحيح البخاري (٩٥) ، والله ولي التوفيق.

__________________

(٩٥) فتح الباري ١ / ٣٩٢ ، إرشاد الساري ١ / ٢٩٤.

٢٤٦

الفصل الرابع

فيما تمحلوه من المحامل والتأويلات

لما نسب إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

من البول قائما والجواب عنها

ولما كان ذلك خلاف هديه وسنته المعروفة وسيرته المألوفة صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه الأمور ، اضطر القوم إلى حمل فعله عليه الصلاة والسلام على محامل لا تسمن ولا تغني من جوع ، وقد ذهب إلى كل منها طائفة منهم ، مع أنها واهية أوهن من بيت العنكبوت ، فلا ينبغي أن يصغى إليها فضلا عن الاحتفال بشئ منها ، وإنما نوردها ههنا لتستيقن صحة ما ادعيناه ، ويسفر لك الحق عن محضه إن شاء الله.

١ ـ منها : أن علة بوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائما الاستشفاء لوجع الصلب ، فلعله كان به ، وهذا محكي عن أحمد والشافعي والبيهقي والخطابي (٩٦).

وفيه : أنه رجم بالغيب ، وتخرص لا يستند إلى مثبت ، ولو فرض ثبوت ذلك لاستمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على البول قائما في البيت وخارجه حتى زوال تلك العلة ، لأنه بعيد غاية البعد أن يكون ذلك الوجع قد عرض له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المكان ، وأنه استشفى منه بالبول قائما مرة واحدة على السباطة.

٢ ـ ومنها : أن علة ذلك الأمن من خروج الحدث من السبيل الآخر ـ كما

__________________

(٩٦) شرح صحيح مسلم للنووي ٢ / ٢٨٦ ، فتح الباري ١ / ٣٩٤.

٢٤٧

حكي عن المازري والقاضي عياض ـ (٩٧).

وفيه : أنه لا يلزم من البول قاعدا خروج الحدث من السبيل الآخر غالبا ، ولو كان ما ذاكره صوابا لكل البول من قيام هو الراجح شرعا لمن خشي خروج الحدث من السبيل الآخر تأسيا به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو كما ترى ، فإنهم أطلقوا القول بالكراهة ، مع أنه تخمين محض لا دليل عليه.

٣ ـ ومنها : أن البول قائما حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت ، ففعل ذلك لكونه قريبا من الديار.

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (٩٨) : ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر ، قال : البول قائما أحصن للدبر.

وفيه : أن ذلك لا يلازم خروج الريح في الغالب ، مضافا إلى إمكان إمساكه في غالب الأحوال بالنسبة للقادر عليه.

وقول عمر ، يعارضه ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة والترمذي (٩٩) عن ابن عمر ، عنه ، قال : ما بلت قائما منذ أسلمت.

على أن قول عمر ـ لو صح عنه ـ ليس بشئ في مقابل النهي المستفيض الوارد في المقام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة والتابعين ـ كما مر عليك طرف من ذلك في صدر الرسالة ـ.

٤ ـ ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشغولا بأمور المسلمين والنظر في مصالحهم وطال عليه المجلس حتى لم يمكنه التباعد خشية الضرر (١٠٠).

وفيه : أن ذلك منفي بظاهر حديث حذيفة ـ المتفق عليه ـ أنه رضي الله

__________________

(٩٧) شرح صحيح مسلم ٢ / ٢٨٦

(٩٨) فتح الباري ١ / ٣٩٤.

(٩٩) سنن الترمذي ١ / ١٨ ذيل الحديث ١٢.

(١٠٠) فتح الباري ١ / ٣٩٣.

٢٤٨

تعالى عنه كان يتماشى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث دل على أن ذلك لم يكن لضرورة ولا لحاجة المسلمين ، إذ لو كان كذلك للزم ذكره ، ولما غفل عنه الرواة والنقلة ، لاشتماله على بيان وجه مخالفته صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم ، لما عرف من عادته وعهد منه في الإبعاد عند قضاء الحاجة عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظارة ، والمقام يقتضي ذكر مثل ذلك كما لا يخفى على أهل العلم والتحصيل.

بل في حديث عصمة بن مالك ما يعكر على هذا التأويل ، حيث قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض سكك المدينة ، فانتهى إلى سباطة قوم فقال : يا حذيفة استرني.

هذا ، مع أن التأخير اليسير ليس فيه ضرر ، ولو سلم ثبوته فإن البول من قيام أشد قبحا لا سيما من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان اللائق مراعاة جانبه ، لحكم ضرورة العقل بدفع أشد المفسدتين بأخفهما ، واستقرار سيرة العقلاء واستمرارها على ذلك ، والله أعلم.

٥ ـ ومنها : أن ذلك كان لجرح في مأبضه ـ أي باطن ركبته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ، رواه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة ـ كما تقدم ـ.

قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر في شرح البخاري (١٠١) : ولو صح هذا لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم ، لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي. انتهى.

قلت : في كلامه هذا إشعار بتكلف تلك الوجوه وضعفها ، ولذا صرح بأن الأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز ، مع أنه كان أكثر أحواله صلى الله عليه وآله وسلم البول عن قعود.

وقد اختار أكثرهم هذا التأويل إذ لم يجدوا محملا أقل منه كلفة وإيرادا ،

__________________

(١٠١) فتح الباري ١ / ٣٩٤.

٢٤٩

لكنه تأويل فاسد لا تركن النفس إليه ولا تطاوعه.

فإنا نعلم أمورا مباحة في الشرع المنيف ، كتقبيل الزوجة وملاعبتها ووطئها ، وغير ذلك من المباحات المقطوع بها ، لكن هل يستجيز ذو لب ودين أن يفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا من ذلك بإحدى أمهات المؤمنين بمنظر من الناس وبمجمع منهم ، وهو أشد حياءا من العذراء في خدرها صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعلى آله معتذرا ببيان الجواز والرخصة؟!

كلا ورب الكعبة ، مع أن ذلك من المباحات بأصل الشرع ، فكيف إذا كان من المكروهات؟! وما ذلك إلا لأنه من موجبات تنفر النفوس وأسباب الخسة ودناءة النفس ، وقد تقرر في محله وجوب تنزه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عما يوجب النقص في المروءة والشرف والدين.

وديدن العقلاء في مثل هذه المقامات وأشباه تلك الأمور الاقتصار في بيان الجواز والرخصة على القول دون الفعل ، فهلا آثر صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم البيان قولا على ارتكاب البول من قيام بمحضر بعض أصحابه؟!

وليت شعري كيف يرتكب ذلك من أرسله الله تعالى إلى الناس كافة ليهديهم إلى سنن الهدى والرشاد ، ويردعهم عن الخسائس والمنفرات؟! أم كيف يتبع في أفعاله ويصغى إلى أقواله بعد ما تنفر منه القلوب ـ والعياذ بالله تعالى ـ؟!

ولا ريب أن البول بمجمع من الناس ليس بأقل من سلس البول والريح وغيرهما ـ مما أوجبوا تنزه الأنبياء صلى الله عليهم وسلم عنه وخلوهم منه ـ إن لم يكن أعظم منهما ، مع أنهما أمران ليسا اختياريين بخلاف البول في الطرقات.

وعلى تقدير تسليم هذا التأويل فإنه لا وجه لتخصيص بيان الجواز ببعض الصحابة ـ كما لا يخفى ـ.

٦ ـ ومنها : ما اختاره ابن حبان وابن القيم في (الهدي) في سبب قيامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أنه في تلك الحالة لم يصل إلى بدنه شئ من

٢٥٠

البول ، وإنما فعل ذلك تنزها وبعدا من إصابته ، وذلك أن السباطة تكون مرتفعة ، فلو بال فيها قاعدا لارتد عليه البول. انتهى.

ولا يخفى ما في هذا التأويل من التكلف ـ كما قال الشوكاني في نيل الأوطار (١٠٢) ـ.

وبالجملة : فليس للقوم في تأويل ما نسب إليه عليه وآله الصلاة والسلام من البول قائما وجه مقبول أو حجة مسموعة ، وإنما هي تخرصات مدفوعة.

وإن تعجب فلا عجب ممن روى في حق أنبياء الله ورسله ، ونسب إليهم من الفظائع والعظائم ما يصك أسماع ذوي المروءات ، وتقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ، أن يروي حديث السباطة ونظائره من الترهات.

ولعمرو الحق إنه لا يتجرأ على تقول تلك الأقاويل ، ولا يقدم على تلفيق هاتيك الأباطيل ، إلا من خذله الله وأضله ، وختم على قلبه فكان من الغاوين.

نسأل الله السلامة من الخذلان ، إنه ولي ذلك وهو المستعان.

وقد نبه الإمام شرف الملة والدين العاملي رحمه‌الله تعالى في جملة في نفائس تحقيقاته ، ولطائف تدقيقاته على طرف من ذلك ، وذب عن حمى الدين والشرع المطهر بما أوتي من حول وقوة ، وحمى بصادق همته وقوي عزيمته جانب التوحيد والنبوة ، وكشف عن فضاح تلك العصابة بما لم يسبقه إليه سابق.

فجزاه الله خير جزاء الذابين عن شريعة سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ألا قبح الله أقواما يدينون ربهم ويتعبدونه بتلك البواطيل ، ويودعونها كتبا يزعمون أنها أصح الكتب بعد كتاب الله العظيم وفرقانه الحكيم ، وهم لا يتدبرونها ليقفوا على ما فيها من مخالفة النواميس الطبيعية ، ومضادة الأحكام

__________________

(١٠٢) نيل الأوطار ١ / ١٠٧.

٢٥١

الشرعية ، ولقد منيت الأمة بهؤلاء الحشوية يروون ما يسمعون ، ويصححون ما لا يعون ، نعوذ بالله من الغرور والجهل ، ونستجير به من سبات العقل ، وهو المستعان على ما يصفون.

ولو أني بليت بهاشمي

خؤولته بنو عبد المدان

لهان علي ما ألقى ولكن

تعالوا وانظروا بمن ابتلاني

فالحزم ، أن لا يهولن المنصف السني كثرة المخرجين لهذا الحديث من أرباب السنن وأصحاب المعاجم والمسانيد ، فإنه إذا ما غربل ـ بطرقه وألفاظه ـ بغربال العلم والإنصاف ، سيحجمون عن الأخذ به وبنظائره من الأحاديث التي لا أصل لها.

بل ولا يغرنه وجوده في الصحيحين ، فإنهما أيضا قد اشتملا على الموضوعات ـ كما أقر بذلك ابن تيمية (١٠٣) ـ (والحق ينطق منصفا وعنيدا).

والحمد لله تعالى وحده ، وصلى الله على سيد رسله وأفضل خلقه محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.

__________________

(١٠٣) المصعد الأحمد ، وراجع فتح الملك العلي : ١٢٣ و ١٢٤ ، وفي كتاب «أبو هريرة» ورسالة «إلى المجمع العلمي العربي بدمشق» للإمام شرف الدين العاملي ـ رحمه الله ـ بيان لطرف من ذلك فراجعهما لتقف على الحقيقة.

٢٥٢

المصادر

١ ـ إتمام الدراية لقراء النقاية ، لجلال الدين السيوطي ، المطبوع بهامش مفتاح العلوم للسكاكي ـ ط. مطبعة التقدم العلمية بمصر ، سنة ١٣٤٨ ه.

٢ ـ إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ، لشهاب الدين القسطلاني ـ ط المطبعة الأميرية بمصر سنة ١٣٠٥ ه.

٣ ـ تاريخ بغداد ، للخطيب البغدادي ـ ط مطبعة السعادة ـ مصر.

٤ ـ تدريب الراوي شرح تقريب النواوي ، للحافظ جلال الدين السيوطي ـ تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف ـ الطبعة الأولى سنة ١٣٧٩ ه ـ القاهرة.

٥ ـ تذكرة الحفاظ ، للحافظ شمس الدين الذهبي ـ ط حيدر آباد سنة ١٣٧٧ ه.

٦ ـ الترغيب والترهيب من الحديث الشريف ، للحافظ زكي الدين المنذري ، ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي ١٣٨٨ ه.

٧ ـ تهذيب التهذيب ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ، ط دار إحياء التراث العربي سنة ١٤١٢ ه.

٨ ـ حاشية السندي على النسائي ـ بهامش سنن النسائي.

٩ ـ حاشية السيوطي على النسائي ـ بهامش سنن النسائي.

١٠ ـ سنن ابن ماجة ـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

١١ ـ سنن أبي داود السجستاني ـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ـ دار إحياء السنة النبوية ـ القاهرة.

١٢ ـ سنن الترمذي (الجامع الصحيح) لمحمد بن عيسى بن سورة الترمذي ، ط مصر ، بتحقيق محمد أحمد شاكر.

١٣ ـ سنن النسائي ـ ط دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

١٤ ـ شرح صحيح مسلم للنوي ، المطبوع بهامش إرشاد الساري ـ ط المطبعة الأميرية بمصر سنة ١٣٠٥ ه.

١٥ ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد المعتزلي ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط سنة ١٣٨٥ ه.

٢٥٣

١٦ ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ـ ط دار الريان للتراث ـ مصر سنة ١٤٠٧ ه.

١٧ ـ فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ، للحافظ أحمد بن الصديق الغماري المغربي ـ ط النجف بتحقيق الأميني.

١٨ ـ لسان الميزان ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ـ ط حيدر آباد سنة ١٣٣١ ه.

١٩ ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ، للحافظ نور الدين الهيثمي ـ ط مطبعة القدسي سنة ١٣٥٢ ه.

٢٠ ـ مرقاة المفاتيح لمشكاة المصابيح ، لعلي بن سلطان محمد الهروي القاري ـ ط الميمنية سنة ١٣٠٩ ه.

٢٠ ـ مرقاة المفاتيح لمشكاة المصابيح ، لعلي بن سلطان محمد الهروي القاري ـ ط الميمنية سنة ١٣٠٩ ه.

٢١ ـ المستدرك على الصحيحين ، للحاكم النيسابوري ـ ط حيدر آباد سنة ١٣٤٤ ه.

٢٢ ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل ـ ط الميمنية سنة ١٣١٣ ه.

٢٣ ـ مصابيح السنة ، للبغوي ـ ط محمد علي صبيح ـ مصر.

٢٤ ـ المصعد الأحمد في ختم مسند أحمد ، للحافظ شمس الدين ابن الجزري.

٢٥ ـ المصنف ، لأبي بكر بن أبي شيبة ـ ط المطبعة العزيزية ـ حيدر آباد سنة ١٣٨٦ ه.

٢٦ ـ ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، للحافظ شمس الدين الذهبي ـ تحقيق محمد علي البجاوي ـ ط مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه سند ١٣٨٢ ه.

٢٧ ـ نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، لمحمد بن علي الشوكاني ـ ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي سنة ١٣٩١ ه.

٢٨ ـ هدي الساري ، مقدمة فتح الباري ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ـ ط دار الريان للتراث ـ مصر سنة ١٤٠٧ ه.

٢٩ ـ وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، للإمام المحدث محمد بن الحسن الحر العاملي ـ تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام ـ قم ، ط سنة ١٤٠٩ ه.

٢٥٤

الإعراب في اصطلاح النحاة

السيد علي حسن مطر

* الإعراب لغة.

ذكر اللغويون والنحاة (١) للإعراب معاني كثيرة ، نورد منها ما يلي :

١ ـ الإبانة والإفصاح. يقال : أعرب الرجل عن نفسه ، إذا بين وأوضح ، ومنه الحديث : الثيب تعرب عن نفسها ، أي : تفصح.

٢ ـ التغيير. يقال : فعلت كذا فما عرب علي أحد ، أي : فما غير علي أحد (٢).

٣ ـ التحبب. ومنه العروب : المرأة المتحببة إلى زوجها ، وبه فسر قوله

__________________

(١) أ ـ لسان العرب ، ابن منظور محمد بن مكرم ، مادة (عرب).

ب ـ تاج العروس ، الزبيدي ، مادة (عرب).

ج ـ حاشية الصبان على شرح الأشموني ١ / ٤٧.

د ـ همع الهوامع ، جلال الدين السيوطي ، تحقيق عبد السلام هارون ، عبد العال سالم مكرم ، ١ / ٤٠.

(٢) هكذا أورده في لسان العرب ، وفي تاج العروس : ما عير علي أحد ، وهو اشتباه ، إذ الفعل عير يتعدى لمفعوله الأول بنفسه لا بعلى ، قال في مختار الصحاح : وعيره كذا ، من التعيير ، أي التوبيخ ، والعامة تقول : عيره بكذا.

٢٥٥

تعالى : (عربا أترابا) (٣).

٤ ـ الإجالة. يقال : عربت الدابة ، أي : جالت في مرعاها. وأعربها صاحبها : أجالها.

٥ ـ إزالة الفساد. يقال : أعربت الشئ إذا أزلت عربه ، أي فساده.

«فكان كقولك : أعجمت الكتاب ، إذا أزلت عجمته» (٤).

٦ ويأتي مصدرا للفعل اللازم (أعرب) بمعنى تكلم بالعربية ، أو صارت له خيل عراب ، أو ولد له ولد عربي اللون ، أو تكلم بالفحش ، أو أعطى العربون.

* الإعراب اصطلاحا.

استعمل النحاة كلمة (الإعراب) في ثلاثة معان اصطلاحية ، وهي :

١ ـ ما يرادف النحو.

٢ ـ تحليل الكلام نحويا.

٣ ـ ما يقابل البناء.

وسوف نتكلم على كل من هذه المصطلحات تباعا.

__________________

(٣) سورة الواقعة ـ الآية ٣٧.

(٤) جمل الإعراب في شرح ملحة الإعراب ، ق ١٤ ، نقلا عن المصطلح النحوي لعوض حمد القوزي ، ص ١٥.

٢٥٦

أولا ـ الإعراب بالمعنى المرادف للنحو.

يبدو أن كلمة (الإعراب) كان مستعملة بمعنى النحو اصطلاحا في القرن الثالث للهجرة (٥) ، لما وصلنا من قول الزجاج (ت ٣٣٧ ه) : «ويسمى النحو إعرابا ، والإعراب نحوا سماعا ، لأن الغرض طلب علم واحد» (٦). وهو ظاهر في أن استعمالها بهذا المعنى متقدم على زمن الزجاج.

وقد استدل بعض الباحثين (٧) بما روي من قول عمر بن الخطاب : : «وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب» (٨) ، لإثبات تقدم استعمال (الإعراب) بهذا المعنى الاصطلاحي على (النحو).

ولو صحت هذه الرواية ، فلا بد من حمل كلمة (الإعراب) فيها على معناها اللغوي ، للقطع بتأخر ظهور علم النحو عن زمن عمر بن الخطاب.

ومن المصادر القديمة التي وردت فيها كلمة (الإعراب) بمعنى (النحو) كتاب «ملحة الإعراب» للحريري صاحب المقامات (ت ٥٧٦ ه) ، واستعملها ابن معطي (ت ٦٢٨ ه) في كتابه «الفصول الخمسون» ، إذ قال : «إن غرض المبتدئ الراغب في علم الإعراب حصرته في خمسين فصلا» (٩).

__________________

(٥) وقد ذكرت ـ اشتباها ـ في بحث «النحو في اللغة والاصطلاح النحوي» المنشور في العدد السابق على هذا العدد ، أن أقدم مصدر وردت فيه كلمة (الإعراب) بمعنى النحو هو كتاب «سر صناعة الإعراب» لابن جني (٣٩٢ ه). هذا مع الإشارة إلى أن هذا الكتاب يبحث في علم الصرف ولا يتعرض للمباحث النحوية إلا قليلا.

(٦) الايضاح في علل النحو ، أبو القاسم الزجاجي ، تحقيق الدكتور مازن المبارك ، ص ٩١.

(٧) أ ـ المصطلح النحوي نشأته وتطوره حتى أواخر القرن الثالث الهجري ، عوض حمد القوزي ، ص ١٤.

ب ـ أبو الأسود الدؤلي ونشأة النحو العربي ، الدكتور فتحي عبد الفتاح الدجني ، ص ١٤.

(٨) إنباه الرواة على أنباه النحاة ، القفطي ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ١ / ١٥.

(٩) الفصول الخمسون ، يحيى بن معطي ، تحقيق محمود محمد الطناحي ، ص ١٤٩.

٢٥٧

ولم يعتن النحاة بصياغة تعريف للإعراب بهذا المعني ، ولعل ذلك اكتفاء منهم بتعريف مرادفه (النحو).

ثانيا ـ الإعراب بمعنى تحليل الكلام نحويا.

أقدم من استعمل كلمة (الإعراب) بهذا المعنى ـ في حدود اطلاعي ـ هو الفراء (ت ٢٠٧ ه) الذي استهل تفسيره للقرن الكريم بقوله : «تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه» (١٠).

وتلاه النحاس (ت ٢٣٨ ه) في كتابه «إعراب القرآن» ، ثم ابن خالويه (ت ٣٧٠ ه) في كتابه «إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم» ، ومكي بن أبي طالب القيسي (ت ٤٣٧ ه) في كتابه «مشكل إعراب القرآن».

وثمة تفاوت بين القدماء والمتأخرين في عملية التحليل النحوي ، فقد كان اهتمام المتقدمين منصبا على الناحيتين الصرفية والنحوية معا ، كما نجده لدى ابن خالويه في إعرابه الاستعاذة ، إذ يقول : «أعوذ : فعل مضارع ، علامة مضارعته الهمزة ، وعلامة رفعه ضم آخره ، وهو فعل معتل ، لأن عين الفعل واو ، والأصل (أعوذ) على مثال (أفعل) فاستثقلوا الضمة على الواو ، فنقلت إلى العين ، فصارت أعوذ ... إلى آخره» (١١).

أما المتأخرون فإنهم اقتصروا في عملية التحليل على بيان المعاني النحوية ، وما يعرض للمفردات والتراكيب من أحوال البناء والإعراب (بمعنى تعيير أواخر الكلم) والتقديم والتأخير إلى آخره.

__________________

(١٠) معاني القرآن ، يحيى بن زياد الفراء ، تحقيق أحمد يوسف نجاتي ومحمد علي النجار ١ / ١.

(١١) إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم ، الحسين بن أحمد بن خالويه ، ص ٣.

٢٥٨

ولم يهتم المتقدمون بتعريف الإعراب بهذا المعنى رغم ممارستهم لعملية التحليل النحوي ، ولعل الدماميني (ت ٨٣٧ ه) أول من عرفه بأنه «إجراء الألفاظ المركبة على ما تقتضيه صناعة العربية ، كما يقال : أعرب القصيدة ، إذا تتبع ألفاظها ، وبين كيفية جريها على علم النحو» (١٢). وتبعه على ذلك الشمني (ت ٨٧٢ ه) فقال : الإعراب «تطبيق المركب على القواعد النحوية» (١٣). وقال الخضري : «ويطلق [الإعراب] على تطبيق الكلام على قواعد العربية ... ومنه قولهم : أعرب (جاء زيد) ، وهذا الاطلاق اصطلاحي أيضا ، لأن العرب لم تكن تعرف تلك القواعد ، ولا تطبيق الكلام عليها ، وإنما تنطق به مطابقا لها سجية» (١٤).

ثالثا ـ الإعراب بالمعنى المقابل للبناء.

للنحاة اتجاهان في تعريف الإعراب بهذا المعنى ، فبعضهم يذهب إلى أن الإعراب أمر (معنوي) والعلامات دالة عليه ، والبعض الآخر يرى أنه أمر (لفظي) يتمثل في العلامات المتعاقبة على أواخر الكلم (١٥).

__________________

(١٢) تحفة الغريب بشرح مغني اللبيب ، محمد بن أبي بكر الدماميني ، مطبوع على هامش المنصف من الكلام على مغني ابن هشام ١ / ٩.

(١٣) المنصف من الكلام على مغني ابن هشام ، أحمد بن محمد الشمني ١ / ٩.

(١٤) حاشية محمد الخضري على شرح ابن عقيل ١ / ٣٦.

وانظر أيضا حاشية محمد الأمير الأزهري على المغني ١ / ٣ ، وحاشية مصطفى الدسوقي على المغني ١ / ٥.

(١٥) أ ـ شرح اللمحة البدرية في علم العربية ، ابن هشام ، تحقيق الدكتور هادي نهر ١ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

ب ـ حاشية الصبان على شرح الأشموني ، ١ / ٤٧ ـ ٤٩.

٢٥٩

وسوف نعرف لكل من هذين الاتجاهين لنتعرف بداياته ، والمراحل التي قطعها حتى انتهى إلى صياغته الأخيرة.

* تعريف الإعراب على الاتجاه الأول.

تمتد جذور هذا التعريف إلى سيبويه (ت ١٨٠ ه) ، فإنه عبر عن علامات الإعراب والبناء ب (مجاري أواخر الكلم) وقال : إنها ثمانية " يجمعهن في اللفظ أربعة أضرب : فالنصب والفتح في اللفظ ضرب واحد ، والجر والكسر فيه ضرب واحد ، وكذلك الرفع والضم ، والجزم والوقف.

وإنما ذكرت لك ثمانية مجار ، لا فرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة لما يحدث فيه العامل ـ وليس شئ منها إلا وهو يزول عنه ـ وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه ، لغير شئ أحدث ذلك فيه من العوامل التي لكل عامل منها ضرب من اللفظ في الحرف ، وذلك الحرف حرف الإعراب» (١٦).

والذي نستفيده من هذا الكلام.

أولا ـ أن القول بنظرية (العامل) في تفسير ظاهرة الإعراب ، كان موجودا لدي سيبويه والنحاة قبله ، ذلك لأن كتابه كان حصيلة الدراسات التي قام بها أساتذته أمثال الخليل بن أحمد الفراهيدي يونس بن حبيب البصري ، وغيرهما.

ثانيا ـ أنه يستعمل كلمة (الإعراب) بوصفها عنوانا اصطلاحيا مقابلا للبناء ، لقوله : (وذلك الحرف حرف الإعراب) ، أي أنه يطلق لفظ الإعراب على

__________________

ج ـ شرح كافية ابن الحاجب ، الرضي الأسترآبادي ، ١ / ١٨.

د ـ شرح التصريح على التوضيح ، خالد الأزهري ، ١ / ٥٩ ـ ٦٠.

(١٦) الكتاب ، سيبويه ، تحقيق عبد السلام هارون وعبد العال سالم مكرم ، ، ١ / ١٣.

٢٦٠