الحدائق الناضرة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

ومن تبعه على الثاني ، وأنت خبير بان ظاهر الخبرين المذكورين لا يأبى الانطباق على كلام الشيخ (رحمه‌الله) فان قوله في الخبر الأول ـ : «ان كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه» وتقييده الاجزاء في الثاني بالسيلان على جسده ـ لا يأبى ان يكون الاغتسال به ارتماسا مع كثرته وحصول الدفعة العرفية سيما على ما فسرنا به الدفعة آنفا ، وترتيبا ان لم يكن كذلك ، فيجوز للمغتسل قصد الارتماس به على الأول والترتيب على الثاني ، ولعل في ذكر الشيخ الغزارة في عبارة المبسوط إشارة الى ذلك. والى ما ذكرنا يشير كلام شيخنا البهائي وشيخنا المحقق في كتاب الحبل المتين ورياض المسائل. وما يوهمه كلام ذلك الفاضل ـ من عموم أدلة الترتيب الا ما خرج بالدليل ـ فيه ان الأدلة المشار إليها لا عموم فيها بل بالخصوص انسب ، لدلالة أكثرها على ان الغسل بالاغتراف من الأواني القليلة المياه ، وما يوهمه إطلاق بعضها في ذلك يمكن حمله على المقيد منها ، فلا دلالة حينئذ على حكم الاغتسال بغير ذلك الفرد. و (ثانيهما) ـ انه هل يلحق بالمطر على تقدير جواز الارتماس به ما ذكر من تلك الأشياء أم لا؟ إشكال ينشأ من فقد النص عليه بخصوصه ، لاختصاص الخبرين المذكورين بالمطر مع ما عرفت من المناقشة في الدلالة أيضا ، ومن العلة المشار إليها بالتعليق على الشرط في قوله في صحيحة علي : «ان كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه» وإطلاق قوله في صحيحة زرارة (١) : «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه». وما يقرب منه ويؤدي مؤداه ، فإنه علق الاجزاء على جريان الماء على الجسد مطلقا ، فإذا جرى دفعة بأي وجه وجب الحكم بالاجزاء وعدم الافتقار الى الترتيب. ولعله الأقرب.

(الثانية) ـ هل يجب في الغسل ارتماسا في الماء الكثير الخروج من الماء بالكلية ثم إلقاء نفسه فيه دفعة ، أم يجوز وان كان بعضه في الماء بحيث ينوي ويدفع نفسه الى موضع آخر تحت الماء على وجه تختلف عليه سطوح الماء؟ ظاهر كلام جملة من متأخري

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب الجنابة.

٨١

المتأخرين : منهم ـ الفاضل الخراساني في الكفاية وشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله ابن صالح البحراني (عطر الله مرقديهما) الأول ، والمفهوم من كلام الأصحاب ـ كما تقدم في مسألة الماء المستعمل في الحدث الأكبر من نقل شطر من عبائرهم الدالة على النية بعد الارتماس في الماء ـ هو الثاني ، وهو الذي سمعته من والدي (عطر الله مرقده) غير مرة ، وهو الظاهر عندي : (أما أولا) ـ فلإطلاق الأخبار الواردة بالارتماس (١) فإنها أعم من ان يكون المرتمس خارج الماء بكله أو بعضه. و (اما ثانيا) ـ فلان الغسل المأمور به شرعا ليس إلا عبارة عن غسل البشرة المقارن للنية ، والغسل ليس إلا عبارة عن جرى جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه أو بمعاون كما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولا يخفى حصول جميع ذلك في موضع البحث ، فان المغتسل متى كان بعضه في الماء بل كله وقصد الغسل ثم دفع نفسه الى موضع آخر بحيث اختلفت عليه سطوح الماء الذي به يتحقق الجريان ، فقد حصل الغسل المطلوب شرعا.

ولم أقف لأحد من الأصحاب (رضوان الله عليهم) على كلام في هذا المقام سوى الفاضل الشيخ علي سبط شيخنا الشهيد الثاني ، فإنه قال في كتاب الدر المنظوم والمنثور بعد نقل كلام في المقام : «وما أحدث في هذا الزمان ـ من كون الإنسان ينبغي ان يلقي نفسه في الماء بعد ان يكون جميع جسده خارجا عنه ـ ناشى‌ء عن الوسواس المأمور بالتحرز منه ، ومن توهم كون الارتماس في الماء يدل على ذلك. وهذا ليس بسديد ، لان الارتماس في الماء يصدق على من كان في الماء بحيث يبقى من بدنه جزء خارج وعلى من كان كله خارجا ، بل ربما يقال انه صادق على من كان جميع بدنه في الماء ونوى الغسل بذلك مع حركة ما بل بغير حركة ، ومثله ما لو كان الإنسان تحت المجرى أو المطر الغزير فإنه لا يحتاج الى ان يخرج أو يحصل له مكانا خاليا من نزول المطر أو الميزاب ثم يخرج اليه ، وينبغي على هذا ان لا يجوز غسل الترتيب في حال نزول المطر عليه ونحو ذلك.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

٨٢

نعم لو قال (عليه‌السلام) : «وقع في الماء دفعة واحدة» دل على ذلك ، على انه لم ينقل عن أحد من علمائنا المتقدمين والمتأخرين فعل ذلك ، وهو مما يتكرر فتتوفر الدواعي على نقله لغرابته فلو فعل لنقل ، مع منافاته للشريعة السهلة السمحة خصوصا في أمر الطهارة ، وإلقاء النفس الى ما يحتمل معه تعطل بعض الأعضاء لا ظهور له من الحديث ، وكأن الشيطان (لعنه الله) يريد ان يسر بكسر أحد أعضاء بعض المؤمنين فيوسوس لهم ذلك ويحسنه.» انتهى. وهو جيد. وبما ذكرنا يظهر انه لا مانع من الغسل ترتيبا في الماء على الوجه المذكور ، ويؤيده صحيحة علي بن جعفر ومرسلة محمد بن أبي حمزة السالفتان وصحيحة علي بن جعفر الواردة في الوضوء بالمطر حال تقاطره (١) وقد أشبعنا في هذه المسألة الكلام زيادة على ما في هذا المقام في أجوبة مسائل بعض الأعلام.

(الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف في عدم وجوب الموالاة في الغسل بشي‌ء من التفسيرين المتقدمين في الوضوء.

ويدل عليه ما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم الواردة في قضية أم إسماعيل (٢).

وحسنة إبراهيم بن عمر اليماني عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «ان عليا (عليه‌السلام) لم ير بأسا ان يغسل الرجل رأسه غدوة ويغسل سائر جسده عند الصلاة».

وفي صحيحة حريز المتقدمة في مسألة الموالاة في الوضوء (٤) «... وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك. قلت : وان كان بعض يوم؟ قال : نعم».

وما ورد في كتاب الفقه الرضوي (٥) حيث قال (عليه‌السلام): «ولا بأس بتبعيض الغسل : تغسل يديك وفرجك ورأسك وتؤخر غسل جسدك الى وقت الصلاة

__________________

(١) ج ٢ ص ٣٥٨.

(٢) ص ٧١.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٩ من أبواب الجنابة.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب الوضوء.

(٥) ص ٤.

٨٣

ثم تغسل إن أردت ذلك».

إلا ان الأصحاب صرحوا باستحبابها هنا ، ولم يفسروها بشي‌ء من المعنيين المتقدمين ، ولم يوردوا على ذلك ايضا دليلا في المقام ، وربما استدل على ذلك بمواظبة السلف والخلف من العلماء والفقهاء على مرور الأعصار بل الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم) الا انه لا يخلو من شوب الإشكال ، إذ ربما يقال ان ذلك لما كان من الأفعال العادية التي هي أسهل وأقل كلفة في غالب الأحوال حصل المواظبة عليها لذلك. نعم ربما يمكن ان يستدل على ذلك بعموم آيات المسارعة إلى المغفرة والاستباق الى الخير (١) والتحفظ من طريان المفسد. والمتابعة لفتوى جمع من الأصحاب بالاستحباب. ولا يخفى ما فيه ايضا.

وهل تجب متى خاف فجأة الحدث الأصغر كما في السلس والمبطلون؟ احتمال مبني على وجوب الإعادة بتخلل الحدث الأصغر كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. اما إذا خاف فجأة الحدث الأكبر فهل تجب محافظة على سلامة العمل من الابطال ، أم لا لعدم استناد الابطال اليه مع وجوب الاستئناف؟ احتمالان أظهرهما الثاني لما ذكر ، اما لو كان الحدث الأكبر مستمرا فالأقرب الأحوط اشتراطها في صحة الغسل ، لعدم العفو عما سوى القدر الضروري كما تقدم مثله في الوضوء.

(الرابعة) ـ قد عرفت ان الأظهر الأشهر وجوب الترتيب في الغسل الترتيبي بين الأعضاء الثلاثة ، وحينئذ فلو أغفل المغتسل ترتيبا لمعة من بدنه فقد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه ان كان في الجانب الأيسر غسلها وان كان في الأيمن فكذلك مع اعادة غسل الأيسر تحصيلا للترتيب.

والذي وقفت عليه من الاخبار مما يتعلق بذلك صحيحة أبي بصير عن ابي عبد الله

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٣٣ وسورة البقرة. الآية ١٤٨ وسورة المائدة. الآية ٤٨.

٨٤

(عليه‌السلام) (١) قال : «اغتسل ابي من الجنابة فقيل له قد بقيت لمعة من ظهرك لم يصبها الماء. فقال له : ما كان عليك لو سكت؟ ثم مسح تلك اللمعة بيده».

وقد يستشكل في هذه الرواية من حيث إباء العصمة ذلك. وأجيب بأنه لعل الترك لقصد التعليم. ولا يخفى بعده. والأقرب عندي حمل الخبر على عدم فراغه (عليه‌السلام) من الغسل وانصرافه عنه ، فمعنى قوله (عليه‌السلام) : «اغتسل أبي» اي اشتغل بالغسل فقيل له في حال الغسل ، والتجوز في مثل ذلك شائع في الكلام ، فلا منافاة فيه للعصمة. وما ربما يتراءى من دلالة قول المخبر : «قد بقيت لمعة» على ذلك ، فإن مرمى هذه العبارة انما يكون بالنسبة الى من فرغ من الغسل ، فإنه يمكن ان يقال انه (عليه‌السلام) في حال الاشتغال بالغسل وتعديه إلى أسافل البدن مع بقاء تلك اللمعة في أعاليه استعجل الرائي لها باخباره بها ، والا فهو كان يرجع إليها بإمرار يده عليها مرة أخرى. نعم قوله (عليه‌السلام) : «ما كان عليك لو سكت» فيه تعليم للمخبر بعدم وجوب الاخبار بمثل ذلك.

وروى مثل ذلك القطب الراوندي في نوادره بسنده فيه عن موسى بن إسماعيل عن أبيه عن جده موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام) (٢) قال : «قال علي (عليه‌السلام) اغتسل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من جنابة فإذا لمعة من جسده لم يصبها ماء فأخذ من بلل شعره فمسح ذلك الموضع ثم صلى بالناس».

وصحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٣) في حديث قال فيه : قال حماد وقال خريز قال زرارة : «قلت له : رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة فقال : إذا شك ثم كانت به بلة وهو في صلاته مسح بها عليه ، وان كان استيقن رجع وأعاد الماء عليه ما لم يصب بلة ، فإن دخله الشك وقد دخل في حال اخرى فليمض في

__________________

(١ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٤١ من أبواب الجنابة.

(٢) رواه في البحار ج ١٨ ص ١٥٦.

٨٥

صلاته ولا شي‌ء عليه ، وان استيقن رجع وأعاد عليه الماء ، وان رآه وبه بلة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان ، وان كان شاكا فليس عليه في شكه شي‌ء فليمض في صلاته».

وأنت خبير بأن غاية ما يفهم من هذه الاخبار هو غسل موضع الخلل خاصة أعم من ان يكون في طرف اليمين أو اليسار ، الا ان يقيد إطلاقها بما علم من الترتيب المتقدم وهو قريب في الخبرين الأولين باحتمال كون المغفل من الظهر في الأول والجسد في الثاني داخلا في الجانب الأيسر الا انه في الثالث بعيد ، أو يقال باستثناء موضع البحث ويؤيده ان إثبات وجوب الترتيب من الاخبار المتقدمة بحيث يشمل مثل هذه الصورة لا يخلو من الاشكال ، وظاهر الاخبار المذكورة أيضا الاكتفاء بمجرد مسحه بالبلة الباقية الا ان يحمل المسح على ما يحصل به الجريان ولو قليلا والظاهر بعده ، أو يقال بالاكتفاء بالمسح في مثل ذلك خاصة. وكيف كان فلا ريب ان الأحوط هو ما ذكروه (نور الله مراقدهم وأعلى مقاعدهم).

ولو كان إغفال اللمعة في الغسل الارتماسي فهل يعيد مطلقا ، أو يكتفي بغسل اللمعة مطلقا ، أو يغسلها وما بعدها كالمرتب ، أو يفصل بطول الزمان فالإعادة وعدمه فالاجتزاء بغسل اللمعة؟ احتمالات ، وبالأول صرح الشهيد في الدروس والبيان ، وقواه العلامة في المنتهى بعد ان نقله عن والده ، معللا له بأن المأخوذ عليه الارتماس دفعة واحدة بحيث يصل الماء إلى سائر الجسد في تلك الدفعة ، لقول ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) : «إذا ارتمس ارتماسة واحدة أجزأه». ومن المعلوم عدم الاجزاء مع عدم الوصول. وبالثاني صرح العلامة في القواعد ، واحتج عليه في المنتهى بعد ذكره احتمالا بان الترتيب سقط في حقه وقد غسل أكثر بدنه فأجزأه ، لقول ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) : «فما جرى عليه الماء فقد أجزأه». واما الثالث فذكره في القواعد احتمالا مقويا له على الأول ، وكأن وجهه البناء على ان الارتماس يترتب حكما أو نية وإلا فلا وجه له ، واما الرابع فاختاره المحقق

__________________

(١ و ٢) المروي في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

٨٦

الشيخ علي في شرح القواعد ولم يذكر الوجه فيه ، والظاهر ان وجهه انه مع عدم الفصل الكثير تصدق الوحدة العرفية فيكون غسل اللمعة فقط مجزئا ، ومع الفصل كذلك لا تصدق الوحدة المذكورة فتجب الإعادة.

وأنت خبير بان الحكم المذكور لخلوه من النص لا يخلو من الاشكال ، لتدافع ما ذكروه من الوجوه في هذا المجال ، بل ورود النقض فيها والاختلال : (اما الأول) فلاحتمال صدق الارتماسة الواحدة عرفا وان لم يصل الماء الى بعض يسير من جسده ولا سيما إذا كان ذلك لمانع. إذ الفرض ان جميع البدن تحت الماء ، واما الحيثية المذكورة فغير مفهومة من الارتماسة الواحدة. و (اما الثاني) فلان سقوط الترتيب في حقه لا مدخل له في عدم وجوب الإعادة ، وغسل أكثر البدن لا مدخل له في العلية بل هو محض مصادرة ، والخبر الذي ذكره مورده الترتيب. و (اما الثالث) فقد عرفت انه لا وجه له الا البناء على الترتيب الحكمي وقد تقدم ما فيه. و (اما الرابع) فإنه انما يتم لو لم يخرج المغتسل من الماء ، واما إذا خرج فإنه لا يخلو اما ان يقول بدلالة الخبر الذي هو مستند الغسل الارتماسي على غسل جميع الأعضاء في الارتماسة الواحدة أم لا ، فعلى الأول لا يخفى انه بعد الخروج وان لم يقع فصل كثير لا يصدق على غسل اللمعة خارجا انه وقع في الارتماسة الواحدة ، وعلى الثاني لا وجه للفرق بالاجزاء وعدمه بين طول الزمان وعدمه كما لا يخفى ، وحينئذ فالواجب الوقوف على ساحل الاحتياط بالإعادة من رأس.

(الخامسة) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب اجراء الماء في الغسل تحقيقا لمسمى الغسل الوارد في الآية والرواية ، ولورود جملة من الاخبار بذلك ، كقوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (١) : «... فما جرى عليه الماء فقد طهر». وقوله في صحيحة زرارة (٢) : «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

٨٧

فقد أجزأه». وغيرهما ، وحينئذ فما يدل بظاهره على خلاف ذلك ـ كرواية إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) «ان عليا (عليه‌السلام) قال : الغسل من الجنابة والوضوء يجزئ منه ما أجزأ من الدهن الذي يبل الجسد». ونحوها ـ محمول على أقل ما يحصل معه الجريان أو عوز الماء ، ويؤيد الثاني ما في كتاب الفقه الرضوي حيث قال (٢) «ويجزئ من الغسل عند عوز الماء الكثير ما يجزئ من الدهن». وقد تقدم في بحث الوضوء من التحقيق في المقام ما له مزيد نفع في إيضاح المرام.

(السادسة) ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) تصريحا في مواضع وتلويحا في اخرى انه لا يجب غسل شعر الجسد كائنا ما كان خفيفا كان أو كثيفا ، نعم يجب تخليله لا لإيصال الماء الى ما تحته ، وظاهر المعتبر والذكرى الإجماع على الحكم المذكور ، وربما ظهر من عبارة المقنعة الخلاف في ذلك ، حيث قال : «وإذا كان الشعر مشدودا حلته» الا ان الشيخ (رحمه‌الله) في التهذيب حملها على ما إذا لم يصل الماء إلى أصول الشعر الا بعد حله ، واما مع الوصول فلا يجب ذلك.

واستدل بعض الأصحاب على ذلك بأصالة العدم مما لم يرد الأمر بالتكليف به ، إذ قصارى ما تدل عليه الاخبار الأمر بغسل الجسد : والشعر لا يسمى جسدا ، وصحيحة الحلبي عن رجل عن ابي عبد الله عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (٣) قال : «لا تنقض المرأة شعرها إذا اغتسلت من الجنابة».

وللنظر في ذلك مجال : (أما أولا) ـ فلمنع خروجه من الجسد ولو مجازا ، كيف وهم قد حكموا بوجوب غسله في يدي الوضوء كما تقدم ، معللين ذلك تارة بدخوله في محل الفرض واخرى بأنه من توابع اليد ، وحينئذ فإذا كان داخلا في اليد بأحد الوجهين المذكورين واليد داخلة في الجسد كان داخلا في الجسد البتة ، ولو سلم خروجه عن الجسد

__________________

(١ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٥٢ من أبواب الوضوء.

(٢) ص ٣.

٨٨

فلا يخرج عن الدخول في الرأس والجانب الأيمن والأيسر المعبر بها في جملة من الاخبار

و (اما ثانيا) ـ فلانه لا يلزم من عدم النقض في صحيحة الحلبي عدم وجوب الغسل ، لإمكان الزيادة في الماء حتى يروى ، كما في حسنة الكاهلي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) في المرأة التي في رأسها مشطة حيث قال (عليه‌السلام): «... فإذا أصابها الغسل بقذر مرها ان تروي رأسها من الماء وتعصره حتى يروى فإذا روى فلا بأس عليها. الحديث».

و (اما ثالثا) ـ فلما روي في صحيحة حجر بن زائدة عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) انه قال : «من ترك شعرة من الجنابة متعمدا فهو في النار». والتأويل بالحمل على ان المراد بالشعرة ما هو قدرها من الجسد لكونه مجازا شائعا كما ذكروا وان احتمل الا انه خلاف الأصل فلا يصار اليه الا بدليل ، إذ وجوب غسل الجسد كملا في الغسل وعدم صحته الا بذلك مما تكفلت به الأخبار المستفيضة ، ويزيد ذلك بيانا وتأكيدا ما روي عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مرسلا من قوله : «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة» (٣). وما ورد في حسنة جميل (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عما تصنع النساء في الشعر والقرون. فقال : لم تكن هذه المشطة إنما كن يجمعنه ثم وصف أربعة امكنة ثم قال يبالغن في الغسل». وصحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٥) قال : «حدثتني سلمى خادمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قالت : كان اشعار نساء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قرون رؤوسهن مقدم رؤوسهن فكان يكفيهن من الماء شي‌ء قليل ، فاما النساء الآن فقد ينبغي لهن ان يبالغن في الماء». ومن ثم قوى بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين وجوب غسله ، قائلا

__________________

(١ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٣٨ من أبواب الجنابة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ١ من أبواب الجنابة.

(٣) كما في سنن ابن ماجة ج ١ ص ٢٠٧ والمغني ج ١ ص ٢٢٨ ، وفي الأول «فاغسلوا الشعر».

٨٩

بعد الطعن في أدلة المشهور : «انه ان ثبت إجماع فعليه المعتمد في الفتوى والا فوجوب غسل الشعر كما هو الموافق للاحتياط والتقوى هو الأقوى» والى ذلك ايضا يميل كلام شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في الحبل المتين.

والعجب من شيخنا الشهيد الثاني (رحمه‌الله) في شرح الألفية ، حيث قال ـ بعد ان صرح بعدم وجوب غسل الشعر الا ان يتوقف عليه غسل البشرة ـ ما لفظه : «والفرق بينه وبين شعر الوضوء النص» انتهى. فانا لم نقف على نص في هذا الباب ولا نقله ناقل من الأصحاب سوى ما ذكرنا هنا من الاخبار ، وهي ان لم تدل على غسل الشعر فلا أقل ان لا تدل على عدمه ، واما في الوضوء فغاية ما تمسكوا به بالنسبة إلى شعر الوجه دخوله فيما يواجه به وبالنسبة إلى اليد فبدعوى التبعية والتغليب لاسم اليد على جميع ما عليها كما عرفت. وبالجملة انه لا دليل لهم في الفرق إلا الإجماع ان تم.

(السابعة) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب تخليل ما يمنع وصول الماء الى الجسد من شعر وغيره ، ويدل عليه عموم ما علق فيه الحكم على الجسد من الاخبار. وخصوص صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحتهما أو لا ، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال : تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه. الحديث». وحينئذ فما أشعر بخلاف ذلك ـ كحسنة الحسين بن ابى العلاء (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الخاتم إذا اغتسلت قال : حوله من مكانه ، وقال في الوضوء تديره ، فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد الصلاة». حيث دلت على اغتفاره مع النسيان وان ذكره بعده ، وهو خلاف ما عليه الأصحاب ، وبمضمون هذه الرواية صرح في الفقيه (٣) فقال : «فإذا كان مع

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٤١ من أبواب الوضوء.

(٣) ج ١ ص ٣١ وفي الوسائل في الباب ٤١ من أبواب الوضوء.

٩٠

الرجل خاتم فليدره في الوضوء ويحوله عند الغسل. وقال الصادق (عليه‌السلام): ان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد». وصحيحة إبراهيم بن ابى محمود (١) قال : «قلت للرضا (عليه‌السلام) : الرجل يجنب فيصيب جسده ورأسه الخلوق والطيب والشي‌ء اللكد مثل علك الروم والطرار وما أشبهه ، فيغتسل فإذا فرغ وجد شيئا قد بقي في جسده من اثر الخلوق والطيب وغيره؟ قال : لا بأس». ـ يجب ارتكاب جادة التأويل فيه بحمل الخبر الأول على الخاتم الذي لا يمنع وصول الماء ويكون الأمر بالإدارة والتحويل محمولا على الاستحباب. والخبر الثاني بالحمل على الأثر الذي لا يمنع الوصول.

ويظهر من بعض فضلاء متأخري المتأخرين الميل الى العمل بظاهر الخبرين المذكورين من عدم الاعتداد ببقاء شي‌ء يسير لا يخل عرفا بغسل جميع البدن اما مطلقا أو مع النسيان لو لم يكن الإجماع على خلافه ، ثم قال : «لكن الاولى ان لا يجترأ عليه» انتهى. والأقرب ارتكاب التأويل فيهما بما ذكرناه. وأظهر منهما في قبول التأويل المذكور رواية إسماعيل بن ابى زياد عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) (٢) قال : «كن نساء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب على أجسادهن ، وذلك ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أمرهن أن يصببن الماء صبا على أجسادهن».

(الثامنة) ـ محل الغسل هو الظواهر من الجسد بلا خلاف ، قال في المنتهى : «ويجب عليه إيصال الماء الى جميع الظاهر من بدنه دون الباطن منه بلا خلاف».

أقول : ويدل على ذلك مرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الجنب يتمضمض ويستنشق؟ قال : لا انما يجنب الظاهر».

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب الجنابة.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٤ من أبواب الجنابة.

٩١

ورواية عبد الله بن سنان (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : لا يجنب الأنف والفم لأنهما سائلان».

وروى الصدوق في العلل عن أبي يحيى الواسطي عمن حدثه (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الجنب يتمضمض؟ فقال : لا انما يجنب الظاهر ولا يجنب الباطن ، والفم من الباطن».

قال : وروي في حديث آخر ان الصادق (عليه‌السلام) قال في غسل الجنابة : «ان شئت ان تتمضمض أو تستنشق فافعل وليس بواجب ، لان الغسل على ما ظهر لا على ما بطن».

أقول : وبهذه الاخبار يجمع بين ما دل على الأمر بالمضمضة والاستنشاق وما دل على نفيهما كما سيأتي ذكره ان شاء الله بحمل ما دل على النفي على نفي الوجوب وما دل على الأمر على الاستحباب ، وفي خبر زرارة أيضا (٣) : «... إنما عليك ان تغسل ما ظهر».

ومن البواطن الثقب الذي يكون في الاذن للحلقة إذا كان بحيث لا يرى باطنه للناظر ، وبه صرح في المدارك وجزم به شيخه المولى الأردبيلي ، ونقل عن المحقق الشيخ علي (ره) في حاشية الشرائع انه حكم بإيصال الماء الى باطنه مطلقا. ولا يخفى ما فيه. وينبغي ان يعلم ايضا ان الظاهر وجوب غسل باطن الأذنين وهو ما يرى للناظر من سطح باطنهما عند تعمد الرؤية لدخوله في الظاهر وان توقف على التخليل وجب ، قال في التذكرة في تعداد واجبات الغسل : «ويغسل أذنيه وباطنهما ولا يدخل الماء فيما بطن من صماخه» وعلى ذلك يحمل ايضا ما ذكره في المقنعة حيث قال : «ويدخل إصبعيه السبابتين في أذنيه فيغسل باطنهما ويلحق ذلك بغسل ظاهرهما».

(التاسعة) ـ قال شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة : «ولا ينبغي له ان يرتمس في الماء الراكد ، فإنه ان كان قليلا أفسده وان كان كثيرا خالف السنة بالاغتسال فيه».

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٤ من أبواب الجنابة.

(٣) المروي في الوسائل في الباب ٢٩ من أبواب الوضوء.

٩٢

واستدل له الشيخ (رحمه‌الله) في التهذيب بالنسبة إلى الحكم الأول بأن الجنب حكمه حكم النجس الى ان يغتسل فمتى لاقى الماء الذي يصح فيه قبول النجاسة فسد ، وبالنسبة الى الثاني بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (١) قال : «كتبت الى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء أو يستقى فيه من بئر فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب. ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب : لا تتوضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه». ثم قال (قدس‌سره) قوله : «لا تتوضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» يدل على كراهة النزول فيه ، لانه لو لم يكن مكروها لما قيد الوضوء والغسل منه بحال الضرورة. انتهى.

ولا يخفى عليك ما في أول استدلاليه ، فإنه مجرد دعوى لم يقم عليها دليل ، ولم يقل بها أحد قبله ولا بعده من الأصحاب جيلا بعد جيل ، وإطلاق أخبار الارتماس شامل لما لو كان الغسل بالماء القليل ، وقد ادعى المحقق في المعتبر الإجماع على طهارة غسالة الجنب الخالي بدنه من النجاسة العينية ، وعبارة المقنعة وان أشعرت بذلك ظاهرا الا انه يمكن حملها على تلوث بدن الجنب بالنجاسة كما هو الغالب الذي انصبت عليه أخبار كيفية الغسل حسبما تقدم بيانه ، مع ان رواية محمد بن ميسر عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد ان يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال : يضع يده ويتوضأ ثم يغتسل ، هذا مما قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...» (٣). ـ تدل بظاهر إطلاقها على جواز الغسل وان كان ارتماسا مع إمكانه استنادا الى نفي الحرج الدال على الامتنان المناسب للتعميم.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب الماء المطلق.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٨ من أبواب الماء المطلق.

(٣) سورة الحج الآية ٧٨.

٩٣

واما ما أجاب به (قدس‌سره) عن هذا الخبر ـ حيث قال بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه من الاستدلال الأول : «وليس ينقض هذا الحديث الذي رواه محمد بن يعقوب ثم ساق الخبر وقال : لان معنى هذا الخبر ان يأخذ الماء من المستنقع بيده ولا ينزله بنفسه ويغتسل بصبه على بدنه ، فاما إذا نزله فسد حسبما بيناه» انتهى ـ ففيه ان التخصيص بما ذكره يحتاج الى دليل ، وما ذكره من التعليل الأول قد عرفت ما فيه فلا يصلح للتخصيص

نعم ربما يقال ان مبنى كلام الشيخين (نور الله تعالى مرقديهما) هنا على ما ذهبا اليه من المنع من استعمال الماء المستعمل في الحدث الأكبر ، كما تقدم بيانه في محله ويشير اليه تعبيرهما بالإفساد ، وحاصل مرادهما انه بعد الارتماس فيه يفسد بمعنى يمتنع استعماله في طهارة أخرى ، حيث ان حكم الجنب في اغتساله من القليل وإفساده له حكم النجس في ملاقاته للقليل وتنجيسه له كما علله في التهذيب ، لا ان المراد بإفساد الماء تنجيسه كما ذكرنا أولا ، وهو الذي عقله عنهما جمع من فضلاء المتأخرين ، ليرد عليه ما ذكرنا آنفا ، بل المراد بإفساده سلب طهوريته كما هو مذهبهما (رضي‌الله‌عنهما) لكن لا بالنسبة إلى المغتسل بمعنى انه بالارتماس يصير الماء بأول ملاقاة الجنب له بقصد الاغتسال مستعملا مسلوب الطهورية ، ليرد عليه ما ذكره شيخنا المحقق صاحب رياض المسائل ، من انهم ان أرادوا بصيرورته مستعملا بالملاقاة المذكورة انه لا يجوز استعماله بالنسبة إلى المغتسل والى غيره فهو واضح الفساد ، والا لزم عدم طهارة المغتسل ولو مرتبا لانه لا ينفك عن جريان الماء من جزء بدنه الى جزء آخر ، وان أرادوا بها انه لا يجوز استعماله بالنسبة إلى غيره فلا ينفعهم. انتهى ملخصا ، فان فيه انه لم يصرح في المقنعة بما ينافي ذلك أو ينافره ، وانما غرضه التنبيه على حكم في البين وهو ان الارتماس في الماء القليل يوجب إفساده وعدم رفع الحدث به فلا ينبغي للجنب ذلك ، وهذا معنى صحيح لا غبار عليه ولا يتوجه القدح اليه ، وفي التعبير ب «لا ينبغي» إشعار بذلك.

واما ثاني استدلالية فقد مر ما يتضح الحال به صحة وإبطالا في الفائدة الحادية

٩٤

عشرة من مسألة الماء المستعمل في الطهارة الكبرى (١).

(العاشرة) ـ لا يخفى انه حيث لا مفصل محسوس بين الجانب الأيمن والأيسر في أعالي البدن فالواجب في الغسل الترتيبي ـ بناء على المشهور من وجوب الترتيب بينهما ـ غسل الحد المشترك مع كل من الجانبين من باب المقدمة ، واستظهر جمع من الأصحاب الاكتفاء بغسل العورة مع أحد الجانبين ، وحكم بعض بغسلها مع كل من الجانبين ، ويمكن توجيه الأول بأن العورة لما كانت عضوا مستقلا وليست داخلة في الحد المشترك بين الجانبين ليجب غسلها مرتين فالواجب غسلها مرة واحدة مع اي الطرفين كان ، والتكليف بالتعدد يحتاج الى دليل. ويمكن خدشه بان مقتضى ما دلت عليه الاخبار المشتملة على ذكر الجانبين غسل كل منهما ، وحينئذ فلو كانت العورة عضوا زائدا لكانت متروكة الذكر في تلك الاخبار ، وبذلك يظهر رجحان القول الثاني مضافا الى أوفقيته للاحتياط.

(الحادية عشرة) ـ الظاهر انه لا خلاف في وجوب المباشرة إلا ما ينقل عن ظاهر ابن الجنيد من جواز تولي الغير ، وظاهر الآية والاخبار يرده لظهورها في فعل المكلف نفسه ، حتى انه لو اضطر إلى التولية فلا بد من حصول القصد منه ، قال عزوجل : «... حَتَّى تَغْتَسِلُوا ...» (٢) وقال : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» (٣) وهو ظاهر في توجه الخطاب للمكلف نفسه فلا يجزيه فعل غيره به ذلك. ونحوها الاخبار. وقول ابن الجنيد هنا جار على ما تقدم نقله عنه في الوضوء ، وقد تقدم الكلام في المسألة مستوفى ، والمنقول عنه هنا على ما ذكره في الذكرى انه قال : «وان كان غيره يصب عليه الماء من إناء متصل الصب أو كان تحت أنبوب قطع ذلك ثلاث مرات يفصل بينهن بتخليل الشعر بكلتا يديه» وهو ظاهر في التولية ، وفيه ما عرفت.

__________________

(١) ج ١ ص ٤٥٧.

(٢) سورة النساء. الآية ٤٣.

(٣) سورة المائدة. الآية ٦.

٩٥

ويمكن الاستدلال على ذلك ايضا بقوله عزوجل : «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (١) بالتقريب الذي ذكره مولانا الرضا (عليه‌السلام) في رواية الوشاء (٢) حيث استدل على تحريم التولية بالآية المذكورة والرواية وان كان موردها الوضوء وصب الحسن الوشاء عليه الماء انما هو للوضوء الا ان قوله (عليه‌السلام) في الخبر المذكور بعد الاستدلال بالآية : «وها انا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد». يشعر بأن التولية في طهارة العبادة التي لا تستباح الا بها مطلقا نوع من أنواع الشرك ، وقد تقدم بيان معنى الخبر المذكور ودلالته على التحريم وان مورده التولية دون الاستعانة كما توهمه جملة من أصحابنا (رضي‌الله‌عنهم).

(الثانية عشرة) ـ قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بإزالة النجاسة عن البدن أولا ثم الغسل ثانيا ، الا انهم اختلفوا في ان ذلك هل هو على جهة لوجوب أو الاستحباب؟ قولان : ظاهر القواعد الأول ، ونقله بعض مشايخنا عن جملة من الأصحاب أيضا ، وصريح العلامة في النهاية الثاني ، وبه جزم ثاني المحققين في شرح القواعد ، وقبله أيضا أول الشهيدين على ما نقله شيخنا المتقدم ذكره ، بمعنى ان الواجب انما هو تطهير المحل النجس أولا قبل اجراء ماء الغسل عليه بحيث كلما طهر شيئا غسله تدريجا ، واما تقديم ذلك على أصل الغسل فهو الأفضل.

وربما أيد الأول ظواهر الأخبار الواردة في كيفية الغسل (٣) حيث اشتملت على عطف الغسل على الأمر بالإزالة ب «ثم» المرتبة ولعل «ثم» في هذا المقام منسلخة عن الترتيب ، إذ لا يعقل لوجوب التقديم على أصل الغسل وجه ، لان الغرض

__________________

(١) سورة الكهف الآية ١١٠.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٤٧ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

٩٦

انما هو اجراء الغسل على محل طاهر وهو يحصل بالتدريج. ويمكن ان يكون مخرج الأخبار ـ كما هو ظاهرها ـ انما هو بالنسبة إلى العورة التي هي محل النجاسة المعهودة أو نحوها من الأماكن اليسيرة كالإصبع ونحوها ، وفرض المسألة في نجاسة منتشرة أو متعددة بحيث يندرج فيها كما هو محل البحث بعيد عن سياق الاخبار المشار إليها كما لا يخفى على من راجعها.

وكيف كان فمرجع القولين الى وجوب إزالة النجاسة قبل اجراء ماء الغسل ، وانه لا يجزئ اجراء ماء الغسل المقصود به رفع الحدث لإزالة النجاسة الخبثية.

وهو المشهور في كلام المتأخرين خلافا للشيخ في المبسوط كما سيأتي نقل كلامه ، معللين ذلك (أولا) ـ بأنهما سببان متغايران فيجب تغاير مسببيهما ، والأصل عدم التداخل. و (ثانيا) ـ بان الماء القليل ينجس بالملاقاة فإذا ورد على المحل النجس تنجس به فلا يقوى على رفع الحدث فلا بد من طهارة المحل أولا. قال الشيخ علي في شرح القواعد بعد قول المصنف (رحمه‌الله) : «لا يجزئ غسل النجس من البدن عن غسله من الجنابة بل يجب إزالة النجاسة أولا ثم الاغتسال ثانيا» ما صورته : «انما وجب ذلك لأنهما سببان فوجب تعدد حكمهما ، لان التداخل خلاف الأصل ، ولأن ماء الغسل لا بد أن يقع على محل طاهر والا لأجزأ الغسل مع بقاء عين النجاسة ، ولانفعال القليل وماء الطهارة يشترط ان يكون طاهرا إجماعا» انتهى ، وعلى هذا المنوال جرى كلام غيره في هذا المجال.

وفيه ان ما ذكروه ـ من ان تعدد السبب يقتضي تعدد المسبب وان الأصل عدم التداخل ـ لم نقف له على دليل يعتد به بل ظواهر النصوص ترده كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في مسألة تداخل الأغسال ، على انه قد أورد عليه ايضا انا لا نسلم ان اختلاف السبب يقتضي تعدد المسبب ، لان مقتضى التكليف وجود المسبب عند حصول السبب ، اما كونه مغايرا للأمر المسبب عن سبب آخر فتكليف آخر يحتاج الى دليل

٩٧

والأصل عدمه ، فما ذكره من ان التداخل خلاف الأصل ضعيف. انتهى. وهو جيد واما ما ذكروه من ان ماء الغسل لا بد أن يقع على محل طاهر فهو على إطلاقه ممنوع ، وما استندوا اليه من انه لو لم يكن كذلك للزم اجزاء ماء الغسل مع بقاء عين النجاسة ، ان أريد به مع بقائها بحيث تمنع من وصول الماء الى البدن فبطلان الثاني مسلم لكن الملازمة ممنوعة ، لجواز وقوع الغسل على المحل النجس بشرط عدم المنع ، وان أريد مع عدم بقائها أو بقائها مع عدم المنع فبطلان الثاني ممنوع لعدم الدليل عليه. واما ما ذكروه من انفعال القليل واشتراط طهارة الماء إجماعا ، ان أريد به الإجماع على طهارته قبل الوصول فمسلم لكن لا ينفعهم ، وان أريد به الإجماع على الطهارة بعد الوصول فهو ممنوع إذ هو مصادرة على المطلوب حيث انه محل النزاع ، ونظيره غسل النجاسات ، فإنه لا يكون الا بماء طاهر قبل الورود. ونجاسته بعد الورود ـ بنجاسة المحل المغسول على تقدير القول بنجاسة القليل ـ لا تسلبه الطهورية ، على ان مذهب العلامة انه حال الورود ايضا طاهر لانه لا ينجس عنده الا بعد الانفصال.

ومما يؤيد ما ذكرنا في هذا المقام ان ازالة النجاسة في التحقيق ترجع الى التروك وتصير من قبيلها حيث ان المطلوب ترك النجاسة دون الأفعال ، فلا تقتضي فعلا يختص بها ، بل يكتفى فيها بتحققها بأي وجه اتفق مع صدق مسمى الغسل المعتبر على ذلك التقدير ، الا ترى انه لو وقع الثوب النجس في الماء اتفاقا أو اصابه المطر طهر البتة واصابة ماء الغسل من هذا القبيل.

نعم ربما يستدل لهم بظواهر الأخبار الواردة في بيان كيفية غسل الجنابة (١) المشتملة على تقديم الإزالة وعطف الغسل عليها ب «ثم» المرتبة. ويضعف باشتمالها على جملة من المستحبات وعد ذلك في قرنها كغسل اليدين والمضمضة والاستنشاق ونحوها. الا ان يجيبوا عن ذلك بأنه قد قام الدليل على الاستحباب في تلك الأشياء ، فحمل الأمر

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

٩٨

في الاخبار المذكورة عليه لا اشكال فيه ، واما ما لم يقم فيه دليل فيجب إبقاء الأمر فيه على حقيقته من الوجوب. إلا انك قد عرفت ان جملة من القائلين بوجوب تقديم الإزالة لا يقولون به قبل الغسل وانما يوجبونه تدريجا ، وعلى تقديره لا يمكن حمل الأوامر المذكورة في الأخبار على الوجوب ، مع انه من المحتمل قريبا ان الأمر بتقديم الإزالة في الأخبار المشار إليها وعدم الاكتفاء بماء الغسل انما هو من حيث خصوص نجاسة المني الذي هو مورد تلك الأخبار ولا سيما بعد يبسه ، فإنه يحتاج الى مزيد كلفة وذلك لثخانته ولزوجته ، فلذا وقع الأمر بالإزالة أولا ، واحتمال غيره من النجاسات بعيد عن سياق الأخبار المشار إليها.

وربما يستدل لهم أيضا بصحيحة حكم بن حكيم (١) حيث قال (عليه‌السلام) في آخرها بعد ذكر الغسل : «فان كنت في مكان نظيف فلا يضرك ان لا تغسل رجليك ، وان كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك». فإنه ظاهر في عدم الاكتفاء بماء الغسل لإزالة النجاسة الخبثية بل لا بد من ماء آخر لإزالتها. ويمكن تطرق القدح الى ذلك بأنه لا ظهور له في تقديم إزالة النجاسة بل غايته الدلالة على وجوب غسل آخر ، ومن المحتمل ان يكون ذلك بعد تمام الغسل ، لعدم زوال النجاسة بماء الغسل وان ارتفع به الحدث كما هو المفهوم من كلام الشيخ (رحمه‌الله) الآتي ذكره ، وإذا تطرق الاحتمال لم يتم الاستدلال بها.

وقال في المبسوط : «وان كان على بدنه نجاسة أزالها ثم اغتسل ، وان خالف واغتسل أولا ارتفع حدث الجنابة وعليه ان يزيل النجاسة ان كانت لم تزل ، وان زالت بالاغتسال فقد أجزأ عن غسلها» انتهى. وهو ـ كما ترى ـ يدل على أحكام ثلاثة : (أحدها) ـ ان طهارة المحل ليست شرطا في الغسل كما ادعاه المتأخرون. و (ثانيها) ـ ان الغسل الواحد يجزئ لرفع الحدث والخبث معا ، خلافا لما ذكروه أيضا

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب الجنابة.

٩٩

من وجوب تعدد المسبب بتعدد السبب. و (ثالثها) ـ انه لو لم تزل النجاسة الخبثية ارتفع حدثه ووجب عليه ازالة النجاسة الخبثية بعد الغسل ، الا انه يجب تقييد هذا الحكم بما إذا لم يكن للنجاسة عين مانعة من وصول الماء الى البدن ، والا فلا ريب في بطلان الغسل لوجوب إيصال الماء إلى البشرة.

وجملة من المتأخرين بعد نقل كلام الشيخ المذكور اعترضوه : منهم ـ العلامة في المختلف حيث قال بعد نقله : «والحق عندي ان الحدث لا يرتفع الا بعد إزالة النجاسة ، لأن النجاسة إذا كانت عينية ولم تزل عن البدن ولم يحصل إيصال الماء الى جميع البدن فلا يزول حدث الجنابة ، وان كانت حكمية زالت بنية غسل الجنابة» وقال في الذكرى بعد نقله ايضا : «ويشكل بان الماء ينجس فكيف يرفع الحدث ، والاجتزاء بغسلها عن الأمرين مشكل أيضا.

أقول : اما ما ذكره العلامة (رحمه‌الله) فقيه أن صحة الغسل مع بقاء النجاسة لا ينحصر في بقاء عينها على البدن على وجه يمنع وصول الماء إلى البشرة حتى انه يمنع ارتفاع النجاسة ، بل يمكن ذلك مع بقائها على وجه لا يمنع من وصول الماء وانتقالها من محل الى آخر ، ومن الظاهر البين ان الشيخ لم يرد الا ما ذكرناه كما قدمنا الإشارة إليه ، إذ لا يخفى على من هو دونه وجوب إيصال الماء إلى البشرة ، وحينئذ فيطهر عنده البدن من النجاسة الحدثية وان بقيت الخبثية. بقي الكلام في قوله (رحمه‌الله) : «وان كانت حكمية زالت بنية غسل الجنابة» والظاهر انه أراد بالحكمية ما لا عين له من النجاسات بقرينة وقوع التقسيم في النجاسة المفروضة في عبارة الشيخ ومحل البحث هو النجاسة الخبثية ، فهو حينئذ قسيم لقوله : «فان كانت عينية» ومعطوف عليه ، وحينئذ فمقتضاه موافقة الشيخ (رحمه‌الله) في الاكتفاء بماء الغسل في الطهارة عما لا عين له من النجاسات. واما ما ذكره شيخنا الشهيد (رحمه‌الله) فقد عرفت جوابه.

وبالجملة فحاصل كلام الشيخ (رحمه‌الله) انه مأمور بتقديم إزالة النجاسة قبل

١٠٠