الحدائق الناضرة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

تكملة

تقييد وجوب الغسل بوجوب الغاية هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وقيل بوجوبه في نفسه ، اختاره القطب الراوندي ، وذهب إليه العلامة ونقله عن والده سديد الدين يوسف بن المطهر ، ومال اليه من متأخري المتأخرين الفاضل الخراساني في الذخيرة وقبله السيد السند في المدارك ، والبحث في المسألة وان كان قليل الجدوى عندنا لانحصار فائدة الخلاف في وجوب نية الوجوب قبل الوقت وعدمه ، مع انك قد عرفت مما قدمنا في مبحث نية الوضوء عدم الدليل على ذلك ، إلا أنا جريا على منوالهم (قدس الله أرواحهم وطيب مراحهم) قد قدمنا لك في البحث عن غاية الوضوء ما يفي بتحقيق الحال وازالة الإشكال ، من ذكر ما يدل على الوجوب الغيري والجواب عما يدل على الوجوب النفسي ، الا انه بقي مما يدل على الوجوب الغيري في خصوص هذه المسألة مما لم نتعرض له آنفا الآية الكريمة أعني قوله سبحانه : «... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» (١) وقد تقدم في أول هذا المقصد بيان دلالتها على ذلك. واما ما أجاب به الفاضل الخراساني في الذخيرة عن ذلك ـ من ان غاية ما يلزم منه وجوبه لأجل الصلاة وذلك لا ينافي وجوبه لنفسه ايضا ، فيجوز ان يجتمع فيه الوجوبان ، ولا يفهم منه التخصيص ولا يراد البتة ، لوجوبه لغير الصلاة كالطواف ومس كتابة القرآن وغيرها بالاتفاق ـ فمدخول بما قدمنا تحقيقه في مبحث غاية الوضوء.

واستدل جملة من متأخري المتأخرين على ذلك أيضا بأخبار الجنب إذا فاجأها الحيض قبل الغسل :

و (منها) ـ حسنة عبد الله بن يحيى الكاهلي عن الصادق (عليه‌السلام) (٢)

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٩.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب الحيض.

٦١

«في المرأة يجامعها الرجل فتحيض وهي في المغتسل؟ قال : قد جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل».

ورواية سعيد بن يسار عنه (عليه‌السلام) (١) «في المرأة ترى الدم وهي جنب أتغتسل من الجنابة أم غسل الجنابة والحيض واحد؟ فقال : قد أتاها ما هو أعظم من ذلك».

وموثقة حجاج الخشاب (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل وقع على امرأته فطمثت بعد ما فرغ ، أتجعله غسلا واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرتين؟ قال تجعله غسلا واحدا عند طهرها». ومثلها موثقات زرارة وابي بصير وعبد الله بن سنان (٣)

و (منها) ـ موثقة عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن المرأة بواقعها زوجها ثم تحيض قبل ان تغتسل؟ قال : ان شاءت ان تغتسل فعلت وان لم تفعل ليس عليها شي‌ء ، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة».

وجه الاستدلال بها انها قد اشتركت ما عدا الأخيرة في الدلالة على تأخير غسل الجنابة الى بعد الطهر من الحيض وجعل الغسلين غسلا واحدا ، وهو مؤذن لا أقل بمرجوحية المبادرة إلى الفعل حينئذ مع ان قضية الوجوب النفسي لا أقل رجحان المبادرة إلى الواجب وان كان موسعا ، سيما مع قوله (عليه‌السلام) في الرواية الأولى : «قد جاءها ما يفسد الصلاة» مفرعا عليه قوله : «فلا تغتسل» وقوله في الثانية : «قد أتاها ما هو أعظم من ذلك» المشعر بطريق الإيماء والتنبيه بأن العلة في وجوب غسل الجنابة رفع المفسد للصلاة الذي هو حدث الجنابة ، فإذا حصل ما يفسدها واتى ما هو أعظم من ذلك في الإفساد قبل الغسل انتفت العلة في وجوبه ، فإنه (عليه‌السلام) نفى الغسل معللا بفساد الصلاة ، فحاصل كلامه (عليه‌السلام) ان الغرض من الغسل الصلاة ولما جاء ما يفسدها فلا غسل حينئذ.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب الحيض.

(٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

٦٢

ورد باحتمال حمل الرواية على ان المراد مجي‌ء مفسد الصلاة مانع من الوجوب ، إذ شرط تأثير المؤثر ارتفاع المانع.

وأجيب بأن حمل الكلام على هذا المعنى مما يكاد يلحقه بالمعميات والألغاز ، بل الإغراء بالجهل والخطاب بما له ظاهر مع ارادة خلاف ظاهره من غير نصب قرينة عليه ، وقد ثبت استحالته على الحكيم في الأصول. فلا يليق نسبته الى سادات الأنام وأبواب الملك العلام (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

والتحقيق عندي هو ما افاده بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ، من ان الرواية المشار إليها لا دخل لها في البين ولا تعلق لها بشي‌ء من القولين ، وذلك فان الغرض اللازم من الغسل هو رفع الحدث أو الاستباحة ، والرواية قد دلت على سقوط الغسل بطرو الحدث الذي لا يمكن رفعه ولا استباحة الصلاة مع وجوده ، إذ التكليف به والحال كذلك تكليف بما لا يطاق ، وهو خارج عن حيز الوفاق ولا دخل للوجوب الذاتي أو الغيري فيه ، وحينئذ فكما ان الرواية المذكورة ترد القول بالوجوب النفسي باعتبار عدم صحة الغسل في تلك الحال مع ان قضية الوجوب النفسي ذلك ، كذلك ترد القول بالوجوب الغيري باعتبار ما اتفق عليه القائلون بذلك من صحة الغسل قبل وقت الغاية واجزائه عن الواجب بعده ، مع انه في تلك الحال غير صحيح ولا مجزئ عن الواجب ، وأيضا فإنه بعد زوال المانع المذكور يرجع السبب الى مقتضاه ويعود الخلاف بحذافيره ، ومن ذلك يعلم الكلام في باقي الأخبار. نعم ربما أوهم قوله في موثقة عمار : «ان شاءت ان تغتسل فعلت» صحة الإتيان بالغسل حينئذ وارتفاع حدث الجنابة. وفيه (أولا) ـ ان ما عدا هذه الرواية مما هو أكثر عددا وأصرح دلالة قد دل على تأخير الغسل وجعله مع الحيض غسلا واحدا. و (ثانيا) ـ ان الفريقين متفقون على عدم حصول الرفع والاستباحة بالغسل في تلك الحال ، فلا ثمرة حينئذ لهذه الصحة ولا اثر يترتب عليها في ذلك المجال ، مع ان قوله فيها : «فإذا طهرت

٦٣

اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة» دال على ان الغسل الأول لم يكن مجزئا عن غسل الجنابة ، فيتعين ان يكون المراد بالغسل المذكور مجرد رفع الأوساخ البدنية وازالة الأدناس الحسية ، ومن ثم احتمل بعض انه يستنبط من الخبر المشار إليه صحة الغسل لذلك على الإطلاق أو عند تعذر قصد رفع الحدث ، وأيده بشرعية غسل الاستحاضة ، وكون الأغسال الواجبة والمستحبة إذا علم من الشارع ان أصل مشروعيتها لذلك كغسل الجمعة والإحرام لا تتوقف على الطهارة من الحدث وان كانت بحيث لو خلت منه لأفادت رفعه ، كما قدمنا بيانه في بحث نية الوضوء وينبه على ذلك ما ورد من أمر الحائض بغسل الإحرام. واما ما ورد في موثقة سماعة عن ابي عبد الله وابي الحسن (عليهما‌السلام) (١) : «في الرجل يجامع المرأة فتحيض قبل ان تغتسل من الجنابة؟ قال : غسل الجنابة عليها واجب». فغاية ما يدل عليه ان غسل الجنابة لا يسقط عنها بعروض الحيض بل يجب عليها الغسل إذا طهرت من الحيض وأرادت عبادة وان اتحد الغسلان كما دلت عليه الأخبار المتقدمة. واما حملها على استحباب غسل الجنابة في تلك الحال ـ كما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار مستندا إلى موثقة عمار الآنفة ، فيستفاد منها حينئذ استحباب الغسل في نفسه وان كان واجبا لغيره كما ذكره بعضهم ـ فتكلف لا ضرورة تلجئ اليه بعد ما ذكرنا ، وكيف يتم الحمل على الاستحباب وقد صرح في الرواية بالوجوب ، وأي ثمرة لهذا الاستحباب مع وجوب إعادته كما عرفت من موثقة عمار. وبالجملة ان ما ذكرناه هو المتبادر من حاق اللفظ والمراد مع سلامته من الطعن والإيراد. نعم يبقى الكلام هنا في ان جملة من القائلين بالوجوب الغيري صرحوا باستحباب الغسل قبل اشتغال الذمة بالغاية الواجبة ، حتى أورد عليهم الغسل لأجل الصوم ، فأجاب بعضهم بأن الغاية انما هي توطين النفس على ادراك الفجر متطهرا كما عرفته آنفا من كلام شيخنا البهائي (عظم الله مرقده) وأجاب آخر بالتخصيص بما عدا الصوم

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

٦٤

وأنت قد عرفت آنفا ان قضية توقف الواجب عليه وكونه مما لا يتم الواجب إلا به هو وجوبه متى علم وجوب الغاية في وقتها كما عرفت ، ومن الظاهر ان الصلاة متوقفة على الغسل فيكون واجبا لأجلها ، وهو كما يحصل بعد دخول الوقت وتستباح به العبادة حينئذ يحصل ايضا قبل دخوله وتحصل به الاستباحة أيضا ، فكل من الأمرين فرد للواجب ، فيكون الغسل قبل الوقت واجبا وان قلنا بأنه واجب لغيره ، وحينئذ تضمحل فائدة الخلاف من البين بناء على وجوب نية الوجه والا فقد عرفت انه لا ثمرة ايضا للبحث في المقام ، وكذا لو قلنا بوجوبها وقلنا ان قصد الوجوب في المندوب غير ضائر كما اختاره الشهيد (رحمه‌الله تعالى).

المقصد الثالث

في الكيفية ، وهي ـ على ما وردت به نصوص أهل الخصوص (سلام الله عليهم) ـ على وجهين :

(أحدهما) ـ الترتيب ، وهو غسل الرأس أولا ، ومنه الرقبة من غير خلاف يعرف بين الأصحاب ولا اشكال يوصف في هذا الباب ، الى ان انتهت النوبة إلى جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ الفاضل الخراساني في الذخيرة وشيخنا المحقق صاحب رياض المسائل في الكتاب المذكور ، فاستشكلوا في الحكم لفقد صريح النص في الدخول وعدمه كما ذكره شيخنا المشار اليه ، ووقع مثل ذلك لشيخنا المعاصر المحدث الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (طيب الله تعالى مرقده) فاستشكل في المسألة وجعلها من المتشابهات ، وطول زمام الكلام في ان الرقبة غير داخلة في غسل الرأس ، وقال : ان المعروف من كتب اللغة والشرع ان الرقبة ليست من الرأس ، وانه لم يعرف في كلام أهل العصمة (سلام الله عليهم) نص يتضمن دخول الرقبة في الرأس وان هذه المسألة من المسائل الاجتهادية التي افتى بها المجتهدون من غير دليل ، وعين فيها الاحتياط بالجمع

٦٥

بين غسلها مع الرأس حينئذ كما قاله الأصحاب وغسلها مع البدن كما استظهره. وقد أجاب الوالد (نور الله ضريحه وطيب ريحه) عن ذلك بما يطول به زمام الكلام ، الا انه مع طوله لجودة محصوله مما يستحق ان يسطر في المقام ، قال (قدس‌سره) بعد نقل كلام المحدث المشار إليه : «أقول : المفهوم من كلام علمائنا (قدس الله أرواحهم) ـ تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى بحيث لم يعلم خلاف منهم بل هو كالإجماع فيما بينهم ـ ان الواجب هو غسل الرقبة مع الرأس من غير فرق بين كون الرقبة جزء من الرأس أو خارجة ، وكون إطلاق الرأس على ما يشمل الرقبة حقيقة على سبيل الاشتراك اللفظي أو مجازا على سبيل التبع ، بل المراد انهما من حيث تعلق حكم الغسل بهما أمر واحد وعضو واحد بحيث يغسلان معا بلا ترتيب بينهما ويجوز مقارنة النية لكل منهما ، ولذا ترى الأصحاب (رضوان الله عليهم) تارة يقولون يجب غسل الرأس مطلقا ، وتارة يقولون غسل الرأس والرقبة ، وتارة غسل الرأس ومنه الرقبة ، وتارة يصرحون بان الرأس والرقبة في الغسل عضو واحد ، الى غير ذلك من العبارات التي غرضهم منها وقصدهم مجرد كون الرقبة تغسل مع الرأس سواء كانت جزء من الرأس أو خارجة عنه ، فلا فائدة حينئذ في هذا الخلاف بعد تصريح الأصحاب بل اتفاقهم على غسلها مع الرأس. ولنعم ما قال شيخنا في بعض مؤلفاته : «ولا ثمرة في هذا الخلاف بعد الاتفاق على عدم الترتيب بينهما» انتهى وهو ـ كما ترى ـ صريح في الإجماع على غسلها مع الرأس ، ويؤيد ذلك ما صرح به بعض المحققين من علمائنا المتأخرين ، حيث قال : «ان الرأس عند الفقهاء (رضوان الله عليهم) يقال على معان : (الأول) ـ كرة الرأس التي هي منبت الشعر وهو رأس المحرم (الثاني) ـ انه عبارة عن ذلك مع الأذنين وهو رأس الصائم (الثالث) ـ انه ذلك مع الوجه وهو رأس الجناية في الشجاج (الرابع) ـ انه ذلك كله مع الرقبة وهو رأس المغتسل» انتهى كلامه زيدا كرامة ، وهو صريح في ان الرأس في الغسل عند الفقهاء عبارة عما يشمل الرقبة ، وكأنه حقيقة عرفية عندهم في ذلك. وظاهره الإجماع على ذلك

٦٦

كما يفهم من الجمع المحلى. وأنت خبير بان جميع تلك المعاني المذكورة للرأس مفهومة من الاخبار المروية عن العترة الاطهار ، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار ونظر بعين التأمل والاعتبار ، لا انه مجرد اجتهاد بحت وقول على الله بلا دليل ، كما زعمه ذلك الفاضل الجليل نسجا منه على منوال طائفة من المتأخرين قد سموا أنفسهم بالأخباريين. وادعوا انهم وفقوا لتحصيل الحق واليقين واطلعوا على اسرار الدين التي قد خفيت على المجتهدين ، كما يتبجح به مقدمهم في ذلك صاحب الفوائد محمد أمين ومما يمكن ان يستدل به من الاخبار على دخول الرقبة في حكم غسل الرأس حسنة زرارة المذكورة آنفا (١) حيث قال (عليه‌السلام): «... ثم صب على رأسه ثلاث أكف ثم صب على منكبه الأيمن مرتين وعلى منكبه الأيسر مرتين.». فان الخبر ـ كما ترى ـ ظاهر الدلالة بل صريح في دخول الرقبة في غسل الرأس ، إذ لا تدخل في المنكبين قطعا ، ولا تبقى متروكة بلا غسل قطعا ، ولا تغسل عضوا واحدا بانفرادها قطعا ، فتحتم دخولها في غسل الرأس وهو المطلوب ، سواء كان اسم الرأس شاملا لها حقيقة أم مجازا ، فلا يلتفت اذن الى ما ذكره المعاصر (سلمه الله) واستظهره من خروج الرقبة عن الرأس كما عرفته ، واستناده ـ فيما استظهره إلى انه المعروف في كتب اللغة والشرع ـ وهم ظاهر ، لأن غاية ما قاله أهل اللغة ان رأس الإنسان معروف ، وهو لا يفهم منه شي‌ء ، واما في كتب الشرع فإن أراد بها كتب الفقهاء فقد عرفت دلالتها على دخول الرقبة في حكم غسل الرأس تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى ، وان أراد بها كتب الاخبار فلا يخفى انه ليس في شي‌ء دلالة ظاهرة فضلا عن الصريحة على خروجها عن حكم غسل الرأس ، بل فيها ما هو صريح في دخولها كحسنة زرارة المذكورة آنفا ، اما ما في صحيحة يعقوب بن يقطين (٢) من عطف الوجه على الرأس لقوله (عليه‌السلام): «... ثم يصب الماء على

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الجنابة.

٦٧

رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كله.». فالظاهر ان المراد به التنصيص على غسل الوجه من قبيل عطف الجزء على الكل ، لا لكونه خارجا عن اسم الرأس وان غسل الرأس لا يشمله لو لم يذكر حتى تكون الرقبة خارجة عن غسل الرأس بالطريق الأولى ، إذ لو تم ذلك لزم الإخلال بذكر غسل الوجه في الاخبار الخالية عن التصريح بالوجه مع ورودها في معرض البيان وجواب السؤال عن كيفية الغسل ، فلا مندوحة عن التزام دخوله في الرأس البتة كالتزام دخول الرقبة فيه في حسنة زرارة بل في سائر الأخبار. هذا ، والعجب منه (سلمه الله) انه جعل المسألة من المتشابهات ، والظاهر انه عنى بها ـ كما فسره جماعة من الأخباريين ـ ما حصل فيه الاشتباه في نفس الحكم الشرعي بحيث لم يعلم وجهه ولذا عين فيها الاحتياط ، والحال انه استظهر خروج الرقبة عن حكم غسل الرأس كما هو صريح عبارته ، فان كان هذا الاستظهار علم مأخذه من الاخبار وظهر لديه صحته من الآثار ، فالواجب عليه العمل بمقتضاه وعدم الالتفات الى ما سواه ، فمن اين يجب إذ ذاك الاحتياط؟ ومن اين تكون المسألة من المتشابهات التي حصل فيها الاشتباه؟ إذ مع الاستظهار للخروج لا اشتباه في الحكم الشرعي عنده ، نعم الاحتياط أمر راجح للخروج عن عهدة التكليف على اليقين لكنه ليس بواجب على التعيين الا مع عدم ظهور الحكم الشرعي واشتباهه ، وان كان منشأ هذا الاستظهار مجرد التخمين والاعتبار من غير دليل واضح من الاخبار ، فهو خلاف ما يتفوه به (سلمه الله) من عدم تعدي الآثار والوقوف على مقتضى ما ورد عن الأئمة الأطهار ، وبالجملة فالمسألة ليست من الشبهات كما ادعاه (سلمه الله) اما عندنا فلحكمنا بل جزمنا بدخول الرقبة في حكم غسل الرأس كما حققناه فيما سلف ، واما عنده فلتصريحه باستظهار خروجها عن غسل الرأس والشبهة لا تجامع ظهور أحد الطرفين كما هو ظاهر» انتهى كلام الوالد عطر الله مرقده.

أقول : حيث كان شيخنا المحدث الصالح (قدس‌سره) شديد التصلب في مذهب الأخباريين اجترأ قلمه على المجتهدين ، وكان الوالد (نور الله تربته) شديد

٦٨

التعصب للمجتهدين جرى قلمه بالتعريض بالأخباريين ، وقد عرفت في المقدمة الثانية عشرة من مقدمات الكتاب ما هو الأليق بالعلماء الأنجاب ، من سد هذا الباب حذرا من طغيان الأقلام بمثل هذا الخطاب ، وانجراره للقدح في العلماء الأطياب ، وارتكاب مخالفة السنة في ذلك والكتاب ، وقد أخبرني بعض الثقات انه بعد وقوف المحدث الصالح على كلام الوالد (قدس‌سرهما) رجع عما هو عليه إلى موافقة الأصحاب ، وحينئذ فالظاهر ان ما ذهب اليه ناشى‌ء عن عدم التأمل في المسألة وملاحظة أدلتها. واما الفاضلان الآخران فظاهر كلاميهما يؤذن بالوقوف على الحسنة المتقدمة لكنهما يدعيان عدم صراحتها في الحكم المذكور. وفيه ما عرفت من كلام الولد (قدس‌سره)

أقول : ومما يستأنس به لدخول الرقبة في غسل الرأس ظاهر موثقة سماعة (١) حيث قال فيها : «... ثم ليصب على رأسه ثلاث مرات مل‌ء كفيه ثم يضرب بكف من ماء على صدره وكف بين كتفيه ثم يفيض الماء على جسده كله. الحديث».

ثم ان وجوب الترتيب بين غسل الرأس والبدن مما انعقد عليه إجماعنا واستفاضت به أخبارنا ، وربما نقل عن الصدوقين وابن الجنيد العدم ، الا ان كلام الفقيه في صدر الباب فيما نقله عن أبيه في رسالته اليه وان أشعر بذلك ، حيث انه في بيان الكيفية عطف البدن على الرأس بالواو ، الا انه في آخر الباب قال فيما نقله عن الرسالة أيضا : «فإن بدأت بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل على جسدك بعد غسل رأسك» وهذا الكلام وما قبله مما أسنده إلى رسالة أبيه عين عبارة كتاب الفقه الرضوي ، وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المدارك من توهم عدم اعتبار الصدوقين الترتيب هنا لعدم تعرضهما له في بيان الكيفية مع اشمال ما ذكراه على الواجب والمستحب ، ولهذا ان جملة من متأخري المتأخرين إنما نقلوا خلاف الصدوقين وابن الجنيد في نفس البدن.

ومما يدل على وجوب الترتيب هنا من الاخبار حسنة زرارة (٢) قال : «قلت كيف

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

٦٩

يغتسل الجنب؟ فقال : ان لم يكن أصاب كفه شي‌ء غمسها في الماء ثم بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف ثم صب على رأسه ثلاث أكف ثم صب على منكبه الأيمن مرتين وعلى منكبه الأيسر مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه». وقد رواه في المعتبر عن زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) وحينئذ فيخرج عن وصمة الإضمار الذي ربما طعن به في الاخبار ولعله (قدس‌سره) نقله عن بعض الأصول القديمة التي كانت عنده.

وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك ، ثم تصب على رأسك ثلاثا ثم تصب على سائر جسدك مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد طهر».

وموثقة سماعة المتقدمة آنفا (٢) وحسنة زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «من اغتسل من جنابة فلم يغسل رأسه ثم بدا له ان يغسل رأسه لم يجد بدا من اعادة الغسل».

ومقطوعة حريز (٤) قال فيها : «وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك. الحديث».

واما ما ورد بإزاء هذه الاخبار مما يدل بظاهره على عدم وجوب الترتيب مطلقا ـ

كصحيحة زرارة (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة فقال : تبدأ فتغسل كفيك ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك ومرافقك ثم تمضمض واستنشق ، ثم تغسل جسدك من لدن قرنك الى قدميك ، ليس بعده ولا قبله وضوء ، وكل شي‌ء أمسسته الماء فقد أنقيته. الحديث».

وصحيحة أحمد بن محمد (٦) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : تغسل يدك اليمنى ، الى ان قال : ثم أفض على رأسك وجسدك ، ولا وضوء فيه».

__________________

(١ و ٥ و ٦) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

(٢) ص ٦٩.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٨ من أبواب الجنابة.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب الوضوء.

٧٠

وصحيحة يعقوب بن يقطين عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (١) وفيها «ثم يصب الماء على رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كله ثم قد قضى الغسل ولا وضوء عليه». فان ظاهرها من حيث إطلاقها وإجمالها وورودها في مقام البيان وجواب السؤال عن الكيفية عدم وجوب الترتيب بين الرأس والجسد ـ فمقتضى الجمع بينه وبين ما تقدم تقييد إطلاق هذه الاخبار بالاخبار المتقدمة كما هو مقتضى القاعدة المسلمة.

واما ما ورد في صحيحة هشام بن سالم (٢) ـ قال : «كان أبو عبد الله (عليه‌السلام) فيما بين مكة والمدينة ومعه أم إسماعيل فأصاب من جارية له فأمرها فغسلت جسدها وتركت رأسها. الحديث». ـ ففيه ان هشام المذكور قد روى القصة المشار إليها في الصحيح عن محمد بن مسلم (٣) قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليه‌السلام) فسطاطه وهو يكلم امرأة فأبطأت عليه ، فقال : ادن هذه أم إسماعيل جاءت وانا أزعم ان هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجها عام أول ، كنت أردت الإحرام فقلت ضعوا لي الماء في الخباء ، فذهبت الجارية بالماء فوضعته فاستخففتها فأصبت منها ، فقلت اغسلي رأسك وامسحيه مسحا شديدا لا تعلم به مولاتك فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك ، فدخلت فسطاط مولاتها فذهبت تتناول شيئا فمست مولاتها رأسها فإذا لزوجة الماء فحلقت رأسها وضربتها ، فقلت لها هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجك». ومن ثم حمل الشيخ (رحمه‌الله) ومن تأخر عنه الخبر الأول على وهم الراوي في النقل وغلطه.

واحتمل شيخنا صاحب رياض المسائل ان يكون الغسل المأمور فيه بغسل الجسد أولا وترك الرأس ليس غسل الجنابة بل غسل الإحرام ، كما أشعرت به الرواية الثانية

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الجنابة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٨ من أبواب الجنابة.

(٣) رواها في الوسائل في الباب ٢٩ من أبواب الجنابة.

٧١

حيث قال فيها : «فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك» قال : «وهو لا يشترط فيه الترتيب عندنا لعدم الدليل عليه».

أقول : ولعله ـ وان كان بعيدا ـ أقرب من الحمل على السهو والغلط ، لإيجابه القدح في الراوي المذكور بعدم التثبت في النقل الذي ربما قدح في العدالة ، مع ان الرجل المذكور من أجلاء الرواة ومعتمديهم.

ويمكن أيضا ان يقال ـ ولعله الأقرب ـ ان المأمور به منه (عليه‌السلام) غير مذكور ، ولعل فعلها من غسل الجسد وترك الرأس كان خطأ منها وخلاف ما أمرت به ثم انه (عليه‌السلام) أمرها بغسل رأسها وقت الركوب وتأخير غسل البدن الى وقت آخر وان لم ينقله الراوي في تتمة الكلام ، إذ لعل همه انما تعلق بنقل ما وقع من أم إسماعيل وما أنكر به (عليه‌السلام) عليها.

واما الترتيب في الجسد بين يمينه ويساره بتقديم الأول على الثاني فهو المشهور بين أصحابنا بل ادعى عليه الإجماع الا ان كلام الصدوق وكذا ابن الجنيد على ما نقل عنه خال منه ، والمنقول ايضا عن ابن ابي عقيل عطف الأيسر على الأيمن بالواو كما في الاخبار

وقد اعترض ذلك المحقق في المعتبر ، حيث قال : «واعلم ان الروايات قد دلت على وجوب تقديم الرأس على الجسد ، واما اليمين على الشمال فغير صريحة بذلك ، ورواية زرارة دلت على تقديم الرأس على اليمين ، ولا تدل على تقديم اليمين على الشمال ، لان الواو لا تقتضي ترتيبا ، فإنك لو قلت : «قام زيد ثم عمرو وخالد» دل ذلك على تقديم قيام زيد على عمرو ، واما تقديم عمرو على خالد فلا ، ولكن فقهائنا اليوم بأجمعهم يفتون بتقديم اليمين على الشمال ويجعلونه شرطا في صحة الغسل ، وقد افتى بذلك الثلاثة واتباعهم» انتهى. وهو جيد وعلى حذوه جرى جملة من متأخري المتأخرين.

احتج شيخنا الشهيد الثاني في الروض على وجوب الترتيب هنا بان هذه الروايات وان دلت صريحا على تقديم الرأس على غيره لعطف اليمين عليه ب «ثم» الدالة على التعقيب

٧٢

لكن تقديم الأيمن على الأيسر استفيد من خارج ان لم نقل بإفادة الواو الترتيب كما ذهب اليه الفراء ، بل على الجمع المطلق أعم من الترتيب وعدمه كما هو رأى الجمهور ، إذ لا قائل بوجوب الترتيب في الرأس دون البدن والفرق احداث قول ثالث ، ولان الترتيب قد ثبت في الطهارة الصغرى على هذا الوجه وكل من قال بالترتيب فيها قال بالترتيب في غسل الجنابة ، فالفرق مخالف للإجماع المركب فيهما ، وما ورد من الاخبار أعم من ذلك يحمل مطلقها على مقيدها. انتهى. ولا ريب في ضعف هذا الكلام لدخوله في باب المجازفة في أحكام الملك العلام. واستدل ايضا بوجوه أخر لا فائدة في التطويل بذكرها.

ولا بأس ببسط جملة من الاخبار الواردة في هذا المضمار زيادة على ما قدمناه ليظهر للناظر حقيقة الحال وجلية المقال :

فمن ذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك ثم تصب على رأسك ثلاثا ثم تصب على سائر جسدك مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد طهر».

وموثقة أبي بصير أو صحيحته (٢) على الخلاف فيه وان كان الأرجح الثاني قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : تصب على يديك الماء فتغسل كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك ثم تتمضمض وتستنشق وتصب الماء على رأسك ثلاث مرات وتغسل وجهك ، وتفيض على جسدك الماء».

وصحيحة حكم بن حكيم (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : أفض على كفك اليمنى من الماء فاغسلها ، ثم اغسل ما أصاب جسدك من أذى ثم اغسل فرجك ، وأفض على رأسك وجسدك فاغتسل ، فان كنت في مكان

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

٧٣

نظيف فلا يضرك ان لا تغسل رجليك ، وان كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك. الحديث».

الى غير ذلك من الاخبار الواردة على هذا المنوال ، وكلها ـ كما ترى ـ جارية على خلاف ما ذكروه.

الا ان للوالد (نور الله تعالى تربته وأعلى رتبته) هنا تحقيقا حسنا لم أعثر عليه لا حد قبله في المقام ، به يندفع الإيراد عما هو المشهور بين علمائنا الأعلام. قال ـ (طيب الله مرقده) بعد نقل جملة من الاخبار وشطر من كلام علمائنا الأبرار ـ ما صورته : «هذا وقد يستدل على وجوب الترتيب ـ كما هو المشهور ـ بالأخبار الواردة في غسل الميت الصريحة في الترتيب مضافا الى الاخبار الواردة بأن غسل الميت كغسل الجنابة ، وحينئذ فيستفاد من مجموع الاخبار ان غسل الجنابة مرتب ، اما الروايات بالترتيب في غسل الميت فكثيرة ، كرواية يونس ورواية عبد الله الكاهلي ورواية عمار بن موسى وغيرها (١) واما الروايات المتضمنة ان غسل الميت كغسل الجنابة فكثيرة أيضا ، كرواية محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «غسل الميت كغسل الجنابة.». ورواية محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه عن ابي عبد الله (٣) قال في حديث : «ان رجلا سأل أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ قال : إذا خرجت الروح من البدن خرجت النطفة التي خلق منها بعينها منه كائنا ما كان صغيرا كان أو كبيرا ذكرا أو أنثى ، فلذلك يغسل غسل الجنابة.». وفي حديث عن الكاظم (عليه‌السلام) (٤) وقد سئل عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ فذكر حديثا يقول فيه : «إذا مات الميت سالت منه تلك النطفة بعينها ـ يعني التي خلق منها ـ فمن ثم صار يغسل غسل الجنابة». وروى الصدوق (٥) قال : «سئل الصادق (عليه‌السلام) لأي علة يغسل الميت؟ قال :

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢ من أبواب غسل الميت.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٣ من أبواب غسل الميت.

٧٤

تخرج منه النطفة التي خلق منها ، تخرج من عينيه أو من فيه. الحديث». وفي كتاب العلل (١) قال : «سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما‌السلام) عن غسل الميت لأي علة يغسل ولأي علة يغتسل الغاسل؟ قال : يغسل الميت لانه جنب. الحديث». الى غير ذلك من الاخبار الصريحة في ان الكيفية والترتيب الثابتين في غسل الأموات هما بعينهما الثابتان في غسل الجنابة ، معللا ذلك بان الميت جنب لخروج النطفة التي خلق منها منه فأوجب ذلك تغسيله غسل الجنابة ، وذلك صريح في الدلالة على ان غسل الجنابة مرتب كما لا يخفى على ذي الذوق السليم والذهن المستقيم ، ويمكن ان يجعل ذلك من قبيل الاستدلال بالشكل الثالث ، هكذا : غسل الميت غسل الجنابة ، وغسل الميت مرتب ، ينتج غسل الجنابة مرتب وهو المطلوب. (فان قلت) : ان المعلوم الثابت من الحديث ـ خصوصا الأول ـ ان غسل الأموات كغسل الجنابة ، والمشابهة لا تقتضي المساواة من كل وجه بل تحقق المشاركة في الجملة كاف (قلت) : ان ذا الذوق السليم إذا تأمل مضمون هذه الاخبار وما اشتملت عليه من التعليل لا يشك في ان الكيفية الترتيبية الثابتة في غسل الأموات مطابقة للكيفية الثابتة في غسل الجنابة ، كما هو قضية الحكم بكونه غسل جنابة وقضية التعليل بخروج النطفة منه وقت خروج روحه ، ولذا ورد في الخبر المذكور في العلل ان الميت جنب ، ومع تمام هذا الاستدلال يؤيد بالإجماع المنقول عن الشيخ (رحمه‌الله) فلا يبعد تقييد إطلاق تلك الاخبار بذلك ، فتأمل المقام فإنه حرى بالتأمل التام» انتهى كلامه رفعت في أوج العلاء أعلامه.

أقول : ومن الاخبار الدالة على ما ذكره الوالد زيادة على ما نقله (قدس‌سره) ما رواه في كتاب العلل وعيون الاخبار عن الرضا (عليه‌السلام) (٢) في العلل التي رواها عنه محمد بن سنان في حديث قال فيه : «وعلة اخرى انه يخرج منه الأذى الذي

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣ من أبواب غسل الميت.

٧٥

منه خلق فيجنب فيكون غسله له. الحديث».

وما رواه أيضا في كتاب العلل بسنده عن عباد بن صهيب عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) انه «سئل ما بال الميت يغسل؟ قال النطفة التي خلق منها يرمى بها».

وما رواه فيه ايضا بسنده الى عبد الرحمن بن حماد (٢) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ قال : ان الله تبارك وتعالى ، وساق الحديث الى ان قال : فإذا مات سالت منه تلك النطفة بعينها لا غيرها فمن ثم صار الميت يغسل غسل الجنابة».

وأنت خبير بان مقتضى هذه الاخبار المستفيضة ـ من حيث التعليل بكون الميت جنبا في بعض وبخروج النطفة في بعض ـ ان غسل الميت في الحقيقة غسل جنابة ، ولا ينافيه التشبيه الواقع في صحيحة محمد بن مسلم لإشعاره بالمغايرة ، إذ الظاهر ان المراد منه الإيماء الى ما ذكر من العلة والا لم يكن لتخصيص التشبيه به نكتة ، ولكن حيث كان اندراج غسل الميت في غسل الجنابة خفيا لخفاء علته ، صح التشبيه للمغايرة بين طرفي التشبيه ، إذ المعنى ان غسل الميت كغسل الجنابة المتعارف يومئذ لكونهما فردين من افراد غسل الجنابة الواقعي ، والمغايرة بين افراد الماهية واضحة ، وحينئذ فالظاهر ان خروج بعض الاخبار ـ الواردة في بيان الكيفية بالواو في عطف الأيسر على الأيمن ، أو مشتملة على ذكر الجسد بعد الرأس من غير تعرض للجانبين ـ اعتماد على معلومية الحكم في زمانهم (صلوات الله عليهم) كما تقدم مثله في الترتيب بين الرأس والجسد ، فليحمل مطلقها على مقيدها في الموضعين. والى القول بالترتيب كما هو المشهور يميل كلام المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (قدس‌سره) في كتاب الوسائل.

و (ثانيهما) ـ الارتماس ، وهو عند الأصحاب (رضوان الله عليهم) عبارة عن الدخول تحت الماء دفعة واحدة عرفية ، قالوا : ولا ينافي الدفعة الاحتياج الى التخليل

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣ من أبواب غسل الميت. ولا يخفى ان حديث عبد الرحمن هو عين ما ذكره والده (قدس‌سرهما) عن الكاظم (ع).

٧٦

لو كان كثيف الشعر أو كان لجلده مكاسر أو نحو ذلك ، لعدم إمكان التخلص عن مثل هذه الأشياء عادة ، ولا خلاف بينهم في قيامه مقام الترتيب المتقدم ذكره.

والأصل في ذلك الأخبار الواردة عن أهل الذكر (سلام الله عليهم) :

ومنها ـ صحيحة زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال في حديثه المتقدم : «... ولو ان رجلا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وان لم يدلك جسده».

وحسنة الحلبي (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله».

ورواية السكوني عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «قلت له : الرجل يجنب فيرتمس في الماء ارتماسة واحدة ويخرج يجزئه ذلك عن غسله؟ قال : نعم».

وصحيحة الحلبي (٤) قال : «حدثني من سمعه ـ يعني أبا عبد الله (عليه‌السلام) ـ يقول : إذا اغتمس الجنب في الماء اغتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله».

وظاهر هذه الاخبار ان الارتماس رخصة وتخفيف والأصل هو الترتيب ، كما يومي اليه لفظ الاجزاء من غسله اي بدل غسله المعهود ، ف «من» فيه مثلها في قوله سبحانه «... أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ...» (٥) اي بدلا من الآخرة ، ولهذا جعل بعض محدثي متأخري المتأخرين الترتيب أفضل.

وظاهر اشتراط الدفعة الواحدة العرفية ـ كما عرفت من كلام الأصحاب ـ انه لو حصل نوع تأن ينافي ذلك بطل الغسل ، ولعلهم استندوا في اعتبار الدفعة المذكورة إلى قولهم (عليهم‌السلام) في الاخبار المذكورة : «ارتماسة واحدة» والذي يظهر عند التأمل في الاخبار المشار إليها ان الظاهر ان المراد بالارتماسة الواحدة انما هو المقابلة بالارتماسات المتعددة ، وبيان ذلك انه حيث كان الغسل الأصلي الذي استفاضت به

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

(٥) سورة المائدة الآية ٣٨.

٧٧

الاخبار وفعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة (عليهم‌السلام) من بعده انما هو الترتيبي الذي هو عبارة عن التعدد في الغسل مرتين أو ثلاثا ، والغسل الارتماسي انما وقع رخصة كما عرفت ، نبه (عليه‌السلام) على انه لا يحتاج في الغسل الارتماسي الى رمس كل عضو على حدة أو الى ارتماسات متعددة لأجل كل عضو ، بل تكفي ارتماسة واحدة ، فالوحدة هنا احتراز عن التعدد المعتبر في الغسل الأصلي لا بمعنى الدفعة ، وحينئذ فلو حصل فيها تأن ينافي الدفعة العرفية لم يضر بصحة الغسل ، الا ان ما ذكروه (رضوان الله عليهم) أحوط.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الظاهر انه لا ترتيب حكميا في الغسل الارتماسي كما هو اختيار الشيخ في المبسوط ، ونقل فيه عن بعض الأصحاب انه يترتب حال الارتماس حكما ، قال شيخنا الشهيد في الذكرى بعد نقله ذلك عنه : «وما نقله الشيخ يحتمل أمرين : (أحدهما) ـ وهو الذي عقله عنه الفاضل انه يعتقد الترتيب حال الارتماس ، ويظهر ذلك من المعتبر حيث قال : وقال بعض الأصحاب يرتب حكما. فذكره بصيغة الفعل المتعدي وفيه ضمير يعود الى المغتسل ، ثم احتج بأن إطلاق الأمر لا يستلزم الترتيب والأصل عدم وجوبه ، فيثبت في موضع الدلالة ، فالحجة تناسب ما ذكره الفاضل. (الأمر الثاني) ـ ان الغسل بالارتماس في حكم الغسل المرتب بغير الارتماس ، وتظهر الفائدة لو وجد لمعة مغفلة فإنه يأتي بها وبما بعدها ، ولو قيل بسقوط الترتيب بالمرة أعاد الغسل من رأس لعدم الوحدة المذكورة في الحديث ، وفيما لو نذر الاغتسال مرتبا فإنه يبرأ بالارتماس. لا على معنى الاعتقاد المذكور لانه ذكره بصورة اللازم المسند الى الغسل اي يترتب الغسل في نفسه حكما وان لم يكن فعلا ، وقد صرح في الاستبصار بذلك لما أورد وجوب الترتيب في الغسل وأورد إجزاء الارتماس ، فقال : لا ينافي ما قدمناه من وجوب الترتيب لان المرتمس يترتب حكما وان لم يترتب فعلا ، لأنه إذا خرج من الماء حكم له أولا بطهارة رأسه ثم جانبه الأيمن ثم جانبه الأيسر ، فيكون على هذا التقدير مرتبا ،

٧٨

قال : ويجوز ان يكون عند الارتماس يسقط مراعاة الترتيب كما يسقط عند غسل الجنابة فرض الوضوء. قلت : هذا محافظة على وجوب الترتيب المنصوص عليه بحيث إذا ورد ما يخالفه ظاهرا أول بما لا يخرج عن الترتيب ، ولو قال الشيخ إذا ارتمس حكم له أولا بطهارة رأسه ثم الأيمن ثم الأيسر ويكون مرتبا ، كان أظهر في المراد ، لأنه إذا خرج من الماء لا يسمى مغتسلا ، وكأنه نظر الى انه ما دام في الماء ليس الحكم بتقدم بعض على الآخر اولى من عكسه ، لكن هذا يرد في الجانبين عند خروجه إذ لا يخرج جانب قبل آخر» انتهى كلام الذكرى.

أقول : والظاهر ان أصل القول المذكور وما وجه به من الاحتمالين وفرع عليه من الفائدتين تكلف محض في البين : (أما أولا) ـ فلان صريح الأخبار الواردة في المسألة الدلالة على اجزاء الارتماس دفعة واحدة وفراغ الذمة به من الغسل الواجب ، وهو بيان لأحد نوعي الغسل ، فإنه كما يقع ترتيبا ـ كما تقدم ـ يقع ارتماسا ، فلا حاجة الى الجمع بين اخبار الطرفين كما ذكره الشيخ (قدس‌سره) ووجهه في الذكرى بأنه محافظة على وجوب الترتيب المنصوص ، إذ لا دلالة في اخبار الترتيب على الاختصاص والحصر فيه ليحتاج الى حمل هذه الاخبار على الترتيب الحكمي كما ذكروه. و (اما ثانيا) ـ فلانه لا معنى لهذا الترتيب الحكمي بكلا معنييه ، اما ما ذكره الشيخ في الاستبصار فيما أورده عليه في الذكرى ، واما ما ذكره الفاضلان فلان قصد الترتيب واعتقاده فيما لا ترتيب فيه خارجا غير معقول ، ومن ذلك يعلم حال التفريع على القولين.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان مورد اخبار الارتماس غسل الجنابة خاصة ، وظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) تعدية الحكم الى ما عداه من الأغسال ، والظاهر انه من باب العمل بتنقيح المناط القطعي لعدم معلومية الخصوصية للجنابة في المقام ، قال شيخنا الشهيد (قدس‌سره) في الذكرى ـ بعد إيراد روايتي زرارة والحلبي المتقدمتين ـ ما لفظه : «والخبران وان وردا في غسل الجنابة ولكن لم يفرق أحد بينه وبين غيره

٧٩

من الأغسال» انتهى. وأيده بعضهم برواية الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «غسل الجنابة والحيض واحد». أقول : ويؤيده أيضا الأخبار المتظافرة بأن غسل الميت كغسل الجنابة كما تقدم بيانه.

وتنقيح البحث في هذا المقصد يتم برسم مسائل (الأولى) ـ اجرى الشيخ في المبسوط الوقوف تحت المجرى والمطر الغزير مجرى الارتماس في سقوط الترتيب ، ونقل ذلك عن العلامة في جملة من كتبه ، وطرد الحكم في التذكرة في الميزاب وشبهه ، ونقل عن بعض الأصحاب انه أجرى الصب من الإناء الشامل للبدن مجرى ذلك ايضا ، قال في الذكرى : «وهو لازم للشيخ ايضا» ومنع ابن إدريس من ذلك وخص الحكم بالارتماس بالدخول تحت الماء دون هذه المذكورات ، واليه يشير كلام المحقق في المعتبر كما سيأتي

والأصل في هذه المسألة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الرجل يجنب هل يجزيه من غسل الجنابة ان يقوم في المطر حتى يغسل رأسه وجسده وهو يقدر على ما سوى ذلك؟ فقال : ان كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلك».

ومرسلة محمد بن أبي حمزة عن رجل عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) : «في رجل أصابته جنابة فقام في المطر حتى سال على جسده أيجزيه ذلك من الغسل؟ قال نعم».

قال في المعتبر بعد نقل صحيحة علي : «وهذا الخبر مطلق وينبغي ان يقيد بالترتيب في الغسل» وجعله في الذكرى أحوط ، وقربه بعض فضلاء متأخري المتأخرين بناء على اعتبار ما دل على وجوب الترتيب في غسل الجنابة ، لعموم دلالته الا ما خرج بالأخبار المختصة بالارتماس من كونه بالدخول تحت الماء فيكون غيره داخلا تحت العموم.

أقول : وقد تلخص من ذلك ان هنا شيئين : (أحدهما) ـ ان الغسل بالمطر هل يقع ترتيبا وارتماسا أو يخص بالترتيب؟ فالشيخ ومن تبعه على الأول وابن إدريس

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب الحيض.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

٨٠