الحدائق الناضرة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

وعن يعقوب بن يقطين في الصحيح (١) قال : «سألت العبد الصالح (عليه‌السلام) عن غسل الميت أفيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال : غسل الميت يبدأ بمرافقه فيغسل بالحرض ثم يغسل وجهه ورأسه بالسدر ثم يفاض عليه الماء ثلاث مرات ، ولا يغسل إلا في قميص يدخل رجل يده ويصب عليه من فوقه ، ويجعل في الماء شيئا من سدر وشيئا من كافور ، ولا يعصر بطنه إلا ان يخاف شيئا قريبا فيمسح مسحا رفيقا من غير ان يعصر ، ثم يغسل الذي غسله يده قبل ان يكفنه الى المنكبين ثلاث مرات ، ثم إذا كفنه اغتسل».

وعن عبد الله بن عبيد (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الميت؟ قال تطرح عليه خرقة ثم يغسل فرجه ويوضأ وضوء الصلاة ثم يغسل رأسه بالسدر والأشنان ثم بالماء والكافور ثم بالماء القراح يطرح فيه سبع ورقات صحاح في الماء».

وعن سليمان بن خالد في الصحيح (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الميت كيف يغسل؟ قال : بماء وسدر واغسل جسده كله واغسله اخرى بماء وكافور ثم اغسله اخرى بماء. قلت ثلاث مرات؟ قال نعم. قلت فما يكون عليه حين يغسله؟ قال ان استطعت ان يكون عليه قميص فيغسل من تحت القميص».

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح عن عبد الله بن مسكان عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن غسل الميت؟ فقال اغسله بماء وسدر ثم اغسله على اثر ذلك غسلة اخرى بماء وكافور وذريرة ان كانت واغسله الثالثة بماء قراح. قلت ثلاث غسلات لجسده كله؟ قال نعم قلت يكون عليه ثوب إذا غسل؟ قال ان استطعت ان يكون عليه قميص فغسله من تحته ، وقال أحب لمن غسل الميت ان يلف على يده الخرقة حين يغسله».

__________________

(١ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب غسل الميت.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٦ من أبواب غسل الميت.

٤٤١

وعن علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه أبي الحسن (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الميت هل يغسل في الفضاء؟ قال لا بأس وان ستر بستر فهو أحب الي».

وعن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (٢) وسئل عن الرجل يحترق بالنار فأمرهم أن يصبوا عليه الماء صبا وان يصلى عليه».

وما رواه الشيخ عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه‌السلام) (٣) قال : «ان قوما أتوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقالوا يا رسول الله مات صاحب لنا وهو مجدور فان غسلناه انسلخ؟ فقال يمموه».

وقال (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (٤) : «وغسل الميت مثل غسل الحي من الجنابة إلا ان غسل الحي مرة واحدة بتلك الصفات وغسل الميت ثلاث مرات على تلك الصفات : تبتدئ بغسل اليدين الى نصف المرفقين ثلاثا ثلاثا ثم الفرج ثلاثا ثم الرأس ثلاثا ثم الجانب الأيمن ثلاثا ثم الجانب الأيسر ثلاثا بالماء والسدر ثم تغسله مرة أخرى بالماء والكافور على هذه الصفة ثم بالماء القراح مرة ثالثة. فيكون الغسل ثلاث مرات كل مرة خمسة عشرة صبة ولا يقطع الماء إذا ابتدأت بالجانبين من الرأس إلى القدمين ، فان كان الإناء يكبر عن ذلك وكان الماء قليلا صببت في الأول مرة واحدة على اليدين ومرة على الفرج ومرة على الرأس ومرة على الجنب الأيمن ومرة على الجنب الأيسر بإفاضة لا تقطع الماء من أول الجانبين الى القدمين ، ثم عملت ذلك في سائر الغسل فيكون غسل كل عضو مرة واحدة على ما وصفناه ، ويكون الغاسل على يديه خرقة ويغسل الميت من وراء الثوب أو يستر عورته بخرقة». وقال (عليه‌السلام) في موضع آخر من الكتاب ايضا (٥) : «ثم ضعه على مغتسله من قبل ان تنزع قميصه أو تضع على فرجه خرقة ولين

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب غسل الميت.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ١٦ من أبواب غسل الميت.

(٤) ص ٢٠.

(٥) ص ١٧.

٤٤٢

مفاصله ثم تقعده فتغمز بطنه غمزا رفيقا ، وتقول وأنت تمسحه : «اللهم اني سلكت حب محمد في بطنه فاسلك به سبيل رحمتك ويكون مستقبل القبلة ، ويغسله اولى الناس به أو من يأمره الولي بذلك ، ويجعل باطن رجليه إلى القبلة وهو على المغتسل ، وتنزع قميصه من تحته أو تتركه عليه الى ان تفرغ من غسله لتستر به عورته وان لم يكن عليه قميص ألقيت على عورته شيئا مما تستر به عورته ، وتلين أصابعه ومفاصله ما قدرت بالرفق وان كان يصعب عليك فدعه ، وتبدأ بغسل كفيه ثم تطهر ما خرج من بطنه ، ويلف غاسله على يده خرقة ويصب غيره الماء من فوق يديه ثم تضجعه ويكون غسله من وراء ثوبه ان استطعت ذلك وتدخل يدك تحت الثوب ، وتغسل قبله ودبره بثلاث حميديات ولا تقطع الماء عنه ، ثم تغسل رأسه ولحيته برغوة السدر وتتبعه بثلاث حميديات ولا تقعده ان صعب عليك ، ثم أقبله الى جنبه الأيسر ليبدو لك الأيمن ومد يدك اليمنى الى جنبه الأيمن الى حيث تبلغ ثم اغسله بثلاث حميديات من قرنه الى قدمه فإذا بلغت وركه فأكثر من صب الماء وإياك ان تتركه ، ثم اقلبه الى جنبه الأيمن ليبدو لك الأيسر وضع بيدك اليسرى على جنبه الأيسر واغسله بثلاث حميديات من قرنه الى قدمه ولا تقطع الماء عنه ، ثم اقلبه على ظهره وامسح بطنه مسحا رفيقا ، واغسله مرة أخرى بماء وشي‌ء من الكافور واطرح فيه شيئا من الحنوط مثل الغسلة الأولى ، ثم خضخض الأواني التي فيها الماء واغسله الثالثة بماء قراح ولا تمسح بطنه في الثالثة ، وقل وأنت تغسله : «عفوك عفوك» فإنه من قالها عفا الله تعالى عنه ، وعليك بأداء الأمانة فإنه روى عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) «انه من غسل ميتا مؤمنا فأدى فيه الامانة غفر له. قيل كيف يؤدي الأمانة؟ قال لا يخبر بما يرى» فإذا فرغت من الغسلة الثالثة فاغسل يديك من المرفقين إلى أطراف أصابعك وألق عليه ثوبا تنشف به الماء عنه ، ولا يجوز ان يدخل الماء الذي ينصب عن الميت من غسله في كنيف ولكن يجوز ان يدخل في بلاليع لا يبال فيها أو في حفيرة ، ولا

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٨ من أبواب غسل الميت.

٤٤٣

يقلمن أظافيره ولا يقص شاربه ولا شيئا من شعره فان سقط منه شي‌ء من جلده فاجعله معه في أكفانه ، ولا تسخن له ماء إلا ان يكون ماء باردا جدا فتوقي الميت مما توقي منه نفسك ، ولا يكون الماء حارا شديدا وليكن فاترا» انتهى كلامه (عليه‌السلام).

أقول : فهذه جملة وافرة من الأخبار الجارية في هذا المضمار وبيان ما اشتملت عليه من الأحكام يقع في مسائل :

(الأولى) ـ ما اشتملت عليه هذه الاخبار ـ من التغسيل بالمياه الثلاثة على الترتيب المذكور فيها بماء السدر ثم بماء الكافور ثم بالماء القراح ـ مذهب الأصحاب (رضوان الله عليهم) لا اعلم فيه مخالفا إلا ما نقل عن سلار من الاكتفاء بغسل واحد وعن ظاهر ابن حمزة من عدم وجوب الترتيب بينها ، وهما ضعيفان مردودان بما عرفت من الأخبار. ونقل عن سلار الاحتجاج على ما نقل عنه بالأصل وبقوله (عليه‌السلام) في رواية علي عن أبي إبراهيم (١) قال : «سألته عن الميت يموت وهو جنب؟ قال غسل واحد». وهاتان الحجتان بمكان من الضعف لأن الأصل يجب الخروج عنه بالدليل وقد تقدم ، والغسل الواحد في الرواية المذكورة انما أريد به الاكتفاء بغسل الميت عن غسل الجنابة كما دل على ذلك جملة من الأخبار فمعنى كونه واحدا يعني لا يتعدد بتعدد السبب فهو من جملة أخبار تداخل الأغسال المستفيض في الأخبار وغسل الميت عندنا واحد وان اشتمل على ثلاث غسلات. ونقل على الترتيب في المعتبر اتفاق فقهاء أهل البيت (عليهم‌السلام).

(الثانية) ـ ما دل عليه خبر عبد الله بن عبيد (٢) من الأمر بوضوء الميت امام غسله مما يدل بظاهره على مذهب ابي الصلاح من القول بوجوبه ، والمفيد ذكر الوضوء في صفة غسل الميت إلا انه لم يصرح بوجوبه ، ونحوه ابن البراج ، وقال الشيخ في النهاية : «وقد رويت أحاديث انه ينبغي ان يوضأ الميت قبل غسله فمن عمل بها كان أحوط»

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب غسل الميت.

(٢) ص ٤٤١.

٤٤٤

وقال في الخلاف : «غسل الميت كغسل الحي ليس فيه وضوء وفي أصحابنا من قال يستحب فيه الوضوء قبله غير انه لا خلاف بينهم انه لا يجوز المضمضة والاستنشاق فيه» وقال في المبسوط : «قد روى انه يوضأ الميت قبل غسله فمن عمل به كان جائزا غير ان عمل الطائفة على ترك العمل بذلك لان غسل الميت كغسل الجنابة ولا وضوء في غسل الجنابة» وقال سلار : «وفي أصحابنا من يوضئ الميت وما كان شيخنا (رضي‌الله‌عنه) يرى ذلك» وقال ابن إدريس : «وقد روى انه يوضأ وضوء الصلاة وهو شاذ والصحيح خلافه ، قال : وإذا كان الشيخ قال في المبسوط ان عمل الطائفة على ترك العمل بذلك لم يجز العمل بالرواية لأن العامل بها يكون مخالفا للطائفة».

أقول : الظاهر ان المشهور بين المتأخرين هو الاستحباب كما صرح به المحقق في المعتبر والعلامة في المختلف والمنتهى والشهيد في الذكرى وغيرهم في غيرها.

والذي يدل على الأمر به من الأخبار زيادة على الخبر المذكور ما رواه الشيخ عن حريز في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «الميت يبدأ بفرجه ثم يوضأ وضوء الصلاة وذكر الحديث».

وعن أبي خيثمة عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «ان ابي أمرني أن اغسله إذا توفي وقال لي اكتب يا بني ثم قال إنهم يأمرونك بخلاف ما تصنع فقل لهم هذا كتاب ابى ولست أعدو قوله ، ثم قال تبدأ فتغسل يديه ثم توضئه وضوء الصلاة ثم تأخذ ماء وسدرا. الحديث».

وعن معاوية بن عمار (٣) قال : «أمرني أبو عبد الله (عليه‌السلام) ان أعصر بطنه ثم أوضيه ثم اغسله بالأشنان ثم اغسل رأسه بالسدر ولحيته ثم أفيض على جسده منه ثم ادلك به جسده ثم أفيض عليه ثلاثا ثم اغسله بالماء القراح ثم أفيض عليه الماء بالكافور

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٦ من أبواب غسل الميت.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب غسل الميت.

٤٤٥

وبالماء القراح واطرح فيه سبع ورقات سدر».

قال في الذكرى بعد ذكر هذا الخبر : «وفي هذا الخبر غرائب» أقول : لعل ذلك من حيث دلالته بظاهره على انه تولى تغسيل الامام (عليه‌السلام) مع ما علم من الاخبار انه لا يغسله إلا إمام مثله ، ومن حيث دلالته على عصر بطنه مع النهي عنه في الاخبار ، ومن حيث دلالته على عدم الترتيب بين المياه الثلاثة والاخبار والإجماع ـ كما عرفت ـ على خلافه.

الا انه يمكن الجواب عن الأول بأن الضمير في «بطنه» يعود الى الميت المفهوم من قرائن المقام أو المتقدم في سابق هذا الكلام ، إذ الظاهر ان هذا كلام مقتطع من حديث قبله.

ومن العجب ان الأصحاب انما استدلوا لأبي الصلاح أو نقلوا الاستدلال عنه برواية ابن ابي عمير عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «في كل غسل وضوء إلا غسل الجنابة».

مع ان هذه الأخبار التي ذكرناها واضحة الدلالة صريحة المقالة في مذهبه. وأعجب من ذلك ان المحقق في المعتبر أجاب عن هذه الرواية بعدم الصراحة في الوجوب وانها كما تحتمل الوجوب تحتمل الاستحباب ، وتبعه في هذا الجواب جملة من المتأخرين كالشهيدين وغيرهما ، مع انهم في غير موضع يستدلون بهذه الرواية على وجوب الوضوء مع الغسل كما تقدم البحث فيه في باب الجنابة.

واستدل على نفي الوضوء هنا بالأخبار الكثيرة الدالة على بيان الكيفية مع خلوها من التعرض لذكره والمقام مقام البيان. أقول : لقائل أن يقول ان غاية هذه الأخبار ان تكون مطلقة والقاعدة تقتضي تقييدها بالأخبار الدالة على وجوب الوضوء فلا منافاة. نعم صحيحة يعقوب بن يقطين المتقدمة (٢) ظاهرة في نفيه حيث ان أصل السؤال انما وقع عن الوضوء في غسل الميت يعني وجوبه فخرج الجواب ببيان الكيفية عاريا عن التعرض له بنفي أو إثبات ، ولا ريب أن إضراب الإمام (عليه‌السلام) عن ذلك انما يكون لعلة.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب غسل الجنابة.

(٢) ص ٤٤١.

٤٤٦

ولو لا اتفاق العامة على الوضوء في غسل الميت كما نقله في المنتهى (١) لكان العمل باخبار الوجوب في غاية القوة ، وظاهر إضراب الإمام (عليه‌السلام) عن الجواب في صحيحة يعقوب المذكورة مشعر بالتقية. واما القول بالاستحباب كما هو المشهور بين المتأخرين فلا وجه له لان تلك الاخبار ظاهرة في الوجوب لا معارض لها إلا إطلاق غيرها من الاخبار المتقدمة وقضية القاعدة المشهورة حمل مطلقها على مقيدها. (فان قيل) الحمل على التقية انما يكون عند وجود المعارض لها (قلنا) قد تكاثرت الاخبار بعرض الخبر على مذهب العامة والأخذ بخلافه وان كان لا معارض له ثمة حتى ورد انه إذا احتاج الى معرفة حكم من الأحكام وليس في البلد من يستفتيه من علماء الإمامية يسأل فقهاء العامة ويأخذ بخلافهم (٢) وقد ورد أيضا «إذا رأيت الناس مقبلين على شي‌ء فدعه» ويؤيد ذلك ما تقدم عن الشيخ من ان عمل الطائفة على ترك العمل بذلك وما يشعر به صحيح يعقوب بن يقطين. وبالجملة فالظاهر اما القول بالوجوب كما هو ظاهر الأخبار المذكورة أو طرحها وحملها على التقية كما ذكرنا والقول بالتحريم. ولعله الأقرب.

(الثالثة) ـ اختلف الأصحاب في انه هل الأفضل تغسيل الميت عريانا مستور العورة أو في قميص يدخل الغاسل يده تحته؟ قال في المختلف : «المشهور انه ينبغي ان ينزع القميص عن الميت ثم يترك على عورته ما يسترها واجبا ثم يغسله الغاسل. وقال ابن

__________________

(١) في المغني ج ٢ ص ٤٥٧ «إذا أنجاه وأزال عنه النجاسة بدأ بعد ذلك فوضأه وضوء الصلاة.» وفي عمدة القارئ شرح البخاري ج ٤ ص ٤١ «وضوء الميت سنة كما في الاغتسال حال الحياة غير انه لا يمضمض ولا يستنشق عندنا» وفي الأم للشافعي ج ١ ص ٢٣٤ في مقام بيان صفة الغسل «ثم يوضئه وضوء الصلاة» وفي بداية المجتهد لابن رشد ج ١ ص ٢١١ «قال أبو حنيفة لا يوضأ الميت وقال الشافعي يوضأ وقال مالك ان وضئ فحسن».

(٢) كما في حديث على بن أسباط عن الرضا (عليه‌السلام) المروي في الباب ٩ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

٤٤٧

ابي عقيل السنة في غسل الميت ان يغسل في قميص نظيف ، وقد تواترت الأخبار عنهم (عليهم‌السلام) ان عليا (عليه‌السلام) غسل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في قميصه ثلاث غسلات. وقال الشيخ في الخلاف : يستحب ان يغسل الميت عريانا مستور العورة اما بان يترك قميصه على عورته أو ينزع القميص ويترك على عورته خرقة ، الى ان قال دليلنا إجماع الفرقة وعملهم على انه مخير بين الأمرين. وقال أبو جعفر بن بابويه : وينزع القميص عنه من فوق الى سرته ويتركه الى ان يفرغ من غسله ليستر به عورته فان لم يكن عليه قميص القى على عورته ما يسترها. ويدل على ما اختاره ابن ابي عقيل ما رواه ابن مسكان في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت يكون عليه ثوب إذا غسل؟ قال : ان استطعت ان يكون عليه قميص فغسله من تحته». انتهى ما ذكره في المختلف. وقد ظهر من كلامه ان المشهور هو استحباب غسله مكشوف البدن ما عدا العورة ، وكلام ابن ابي عقيل ظاهر في استحباب التغسيل في قميص وهو ظاهر من الاخبار كصحيحة ابن مسكان المذكورة وصحيحة يعقوب بن يقطين المتقدمة (٢) وصحيحة سليمان ابن خالد المتقدمة (٣) أيضا بل ظاهر صحيحة يعقوب الوجوب ، ويعضدها أيضا الأخبار المتقدمة في تغسيل الزوجين المتكاثرة بكونه من وراء الثياب وبالجملة فقول ابن ابي عقيل هو الأظهر في المسألة ، وظاهر العلامة في كلامه المذكور الميل اليه حيث استدل لابن ابي عقيل بالصحيحة المذكورة ولم يستدل لغيره بشي‌ء.

وظاهر هذه الاخبار الدالة على أفضلية تغسيله في قميصه هو طهارة القميص بطهارة الميت من غير عصر إذا كان خاليا من نجاسة خبثية والا وجب إزالتها أولا قبل الشروع في الغسل كما تقدم الكلام فيه ، وكذا طهارة الخرقة التي يضعها على فرجه إذا جرده والخرقة التي يلفها على يده ، وبذلك صرح في الحبل المتين حيث قال : «والظاهر عدم احتياج طهارة القميص الى العصر كما في الخرقة التي يستر بها عورة الميت. أقول : وقد

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب غسل الميت.

(٢ و ٣) ص ٤٤١.

٤٤٨

تقدم في صدر المقام الأول في التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية (١) ذكر الخلاف بين أصحابنا في طهر القميص وعدمه بدون العصر.

ثم انه مع استحباب تغسيله عاريا كما هو المشهور فإنهم صرحوا بأنه يفتق جيبه وينزع ثوبه من تحته ، ذكر ذلك الشيخان في النهاية والمبسوط والمقنعة وبالغ في المقنعة فقال : «يفتق جيبه أو يخرقه ليتسع عليه» قال في المدارك : «ولا خفاء في ان ذلك مشروط بإذن الورثة فلو تعذر لصغر أو غيبة لم يجز» أقول : قد روى المحقق في المعتبر (٢) عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «ثم يخرق القميص إذا فرغ من غسله وينزع من رجليه». وهو ـ كما ترى ـ مطلق فلا يتقيد بما ذكره.

ثم ان ظاهر خبر يونس (٣) انه يجمع القميص على موضع العورة بأن يخرج يده من القميص ويجذبه منحدرا الى سرته ويجرد ساقيه الى فوق الركبة ، وظاهر عبارة كتاب الفقه (٤) انه يتخير بين نزع قميصه من تحته وبين ان يتركه عليه الى ان يفرغ من غسله

(الرابعة) ـ المشهور بين الأصحاب استحباب الاستقبال بالميت حال الغسل مثل حال الاحتضار ، وفي المختلف عن المبسوط القول بالوجوب حيث قال : «معرفة القبلة واجبة للتوجه إليها في الصلوات واستقبالها عند الذبيحة واحتضار الأموات وغسلهم» وقال في المدارك ـ بعد عد المصنف الاستقبال في حال الغسل من سنن الغسل ـ ما صورته «هذا قول الشيخ وأكثر الأصحاب بل قال في المعتبر انه اتفاق أهل العلم للأمر به في عدة روايات ، وانما حمل على الندب جمعا بينها وبين ما رواه يعقوب بن يقطين في الصحيح (٥) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن الميت كيف يوضع على المغتسل موجها وجهه نحو القبلة أو يوضع على يمينه ووجهه نحو القبلة؟ قال : يوضع كيف تيسر». ونقل عن ظاهر الشيخ في المبسوط وجوب الاستقبال ورجحه المحقق الشيخ علي

__________________

(١) ص ٣٩٠.

(٢) ص ٧٢.

(٣) ص ٤٣٩.

(٤) ص ٤٤٣.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ٥ من أبواب غسل الميت.

٤٤٩

محتجا بورود الأمر به ثم قال : ولا ينافيه ما سبق ـ يعني خبر يعقوب بن يقطين ـ لان ما تعسر لا يجب. وهو غير جيد لان مقتضى الرواية أجزاء أي جهة اتفقت فالمنافاة واضحة وحمل الأمر على الاستحباب متعين» انتهى كلامه. وبنحو ذلك صرح جده.

أقول : الظاهر عندي هو القول بالوجوب ، وهو ظاهر العلامة في المنتهى حيث انه ـ بعد ذكر صحيحة سليمان بن خالد وهي ما رواه في الصحيح (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إذا مات لأحدكم ميت فسجوه تجاه القبلة وكذلك إذا غسل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة فيكون مستقبل باطن قدميه ووجهه إلى القبلة». ـ قال : «وهذه أوامر تدل على الوجوب» انتهى. ومما يدل على ذلك ايضا خبر الكاهلي المتقدم (٢) وقوله فيه : «استقبل بباطن قدميه القبلة حتى يكون وجهه مستقبل القبلة». وخبر يونس (٣) وقوله فيه : «إذا أردت غسل الميت فضعه على المغتسل مستقبل القبلة». وقوله (عليه‌السلام) في كتاب الفقه (٤) : «ويكون مستقبل القبلة». واما ما توهموه ـ من منافاة صحيحة يعقوب بن يقطين المتقدمة لهذه الأخبار بناء على ما فهموه من ان المراد انه يوضع على اي كيفية كانت ـ ففيه ما ذكره شيخنا البهائي في الحبل المتين حيث قال ـ بعد الكلام في المسألة ونقله عن الشهيد الثاني انه استضعف كلام الشيخ علي ورده بما ذكره سبطه ـ ما صورته : «وأنت خبير بأن لقائل أن يقول ان الظاهر من قوله (عليه‌السلام) : «يوضع كيف تيسر» التخيير بين الوضعين اللذين ذكرهما السائل اعني توجيهه إلى القبلة على هيئة المحتضر أو على هيئة الملحود فأجابه (عليه‌السلام) باجزاء ما تيسر من الأمرين ، ففي الحديث دلالة على انه إذا تعسر توجيهه على هيئة المحتضر وتيسر التوجيه على هيئة الملحود فلا عدول عنه لأنه أحد توجيهي الميت فتأمل. والظاهر ان هذا مراد شيخنا الشيخ علي أعلى الله قدره. والأصح وجوب الاستقبال. والله سبحانه

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الاحتضار.

(٢) ص ٤٣٨.

(٣) ص ٤٣٩.

(٤) ص ٤٤٣.

٤٥٠

اعلم» انتهى كلامه. أقول : وبما ذكره يظهر ان الاخبار المتقدمة لا معارض لها فيجب العمل بها ، وما ذكره ان لم يكن أرجح ـ سيما مع ما عرفت غير مرة مما في الحمل على الاستحباب وان اشتهر العمل عليه بين الأصحاب ـ فلا أقل ان يكون مساويا لما ذكروه ، وبه يسقط الاستدلال بالخبر المذكور على ما ذكروه من جواز الوضع كيف اتفق ويحتمل ايضا حمل خبر يعقوب بن يقطين على عدم إمكان الاستقبال المذكور في الاخبار فيوضع كيف اتفق ، وبه يحصل الجمع ايضا بين الاخبار المذكورة. وقد نقل في الحبل المتين القول بالوجوب ايضا عن الشهيدين في المسالك والدروس ، وهو الأقوى كما عرفت.

(الخامسة) ـ ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من وجوب ستر عورته بقميصه أو بخرقة مما وقع عليه الإجماع ولما علم من الشرع من تحريم النظر إلى العورة ، نعم لو كان الغاسل ممن لا يبصر أو انه يثق من نفسه بكف البصر عن العورة بحيث يتيقن السلامة من الوقوع في ذلك المحذور فلا بأس ، لأن وجوب الستر انما هو لمنع الأبصار فإذا أمكن من دون الستر لم يجب ، إلا ان الأحوط ان لا يترك الستر استظهارا في المنع وقد استثني من ذلك الزوجان على تقدير جواز تغسيل كل منهما الآخر أو أحدهما الآخر مجردا. وقد تقدم تحقيق البحث في المسألة. وهل يجب ستر عورة الصبي الذي يجوز للنساء تغسيله مجردا أم لا؟ قرب في المعتبر عدم الوجوب بناء على جواز نظر المرأة إليه ، قال : «وهو يدل على جواز نظر الرجل» واعترضه في الذكرى قال : «فإن أراد إلى العورة أمكن توجه المنع إلا ان يعلل بعدم الشهوة فلا حاجة الى الحمل على النساء»

(السادسة) ـ ما دل عليه جملة من الاخبار المتقدمة ـ من وجوب الترتيب في غسله بأن يبدأ بالرأس أولا ثم بالجانب الأيمن ثانيا ثم الأيسر ـ مما وقع الاتفاق عليه وقد ذكر جمع من المتأخرين انه يسقط الترتيب بغمس الميت بالماء غمسة واحدة بأن يغمس في كل ماء من المياه الثلاثة غمسة واحدة استنادا إلى رواية محمد بن مسلم عن الباقر

٤٥١

(عليه‌السلام) (١) قال : «غسل الميت مثل غسل الجنب.». واستشكله جمع من متأخري المتأخرين لما فيه من الخروج عن صرائح تلك الروايات المتكاثرة بهذه الرواية المجملة ، إذ المماثلة لا تقتضي أن تكون من كل وجه فلعله باعتبار الترتيب أو عدم الوضوء أو نحو ذلك.

ثم انه هل الغاسل حقيقة هو الصاب أو المقلب؟ المشهور الأول ، قالوا وتظهر الفائدة في النية فأيهما ثبت انه الغاسل تعلقت به النية ، ومستندهم في ذلك هو ان الغسل شرعا جريان الماء على المحل والصاب هو الذي حصل بفعله الجريان. وربما علل الثاني بأن الصاب انما هو بمنزلة الآلة. أقول : لا يخفى ما في البناء على مثل هذه التعليلات العليلة ، والذي يظهر لي من الاخبار هو الثاني ، ومنها ـ موثقة سماعة (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل مات وليس عنده إلا نساء؟ قال تغسله امرأة ذات محرم وتصب النساء عليه الماء.». وموثقة عبد الرحمن ابن ابي عبد الله البصري عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) وفيها «تغسله امرأته أو ذات محرمة وتصب عليه النساء الماء صبا.». وحسنة الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) وفيها «تغسله امرأته أو ذو قرابته ان كانت له وتصب النساء عليه الماء صبا». وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة في ان الغسل انما هو للمباشر بيده لبدن الميت لا الصاب. وفي عبارة كتاب الفقه المتقدمة (٥) «ويلف غاسله على يده خرقة ويصب غيره الماء من فوق بدنه» ويدل على ذلك أيضا الأخبار المتقدمة الدالة على المماثلة وانه مع عدم المماثل لا بد من اشتراط المحرمية أو الزوجية بين الغاسل والميت ، فإنها إنما تنطبق على المباشر لبدن الميت لا الصاب عليه. فان الصب في هذه الاخبار ونحوها جائز من الأجانب الذين ليس بينهم وبين الميت محرمية ولا زوجية

ثم انهم بناء على ما قدمنا نقله عنهم اختلفوا في انه هل تجب النية في كل غسلة من

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣ من أبواب غسل الميت.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من أبواب غسل الميت.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٢٤ من أبواب غسل الميت.

(٥) ص ٤٤٣.

٤٥٢

الغسلات الثلاث أم تكفي الواحدة؟ ظاهر الذكرى الاكتفاء بالواحدة بناء على ان هذا غسل واحد وان تعده باعتبار كيفيته ، وقيل بتعدد النية بتعدد الغسلات لتعدد الأغسال اسما وصورة ومعنى ، وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في الروض ، وعن المحقق الشيخ علي في شرح القواعد التخيير بين نية واحدة ونية ثلاث عند أول كل غسل لأنه في المعنى عبادة واحدة وغسل واحد مركب من غسلات ثلاث وفي الصورة ثلاث فيجوز مراعاة الوجهين ، وتردد في المعتبر في وجوب النية في هذا الغسل مطلقا لانه تطهير للميت من نجاسة الموت فهو إزالة نجاسة كغسل الثوب ثم احتاط بوجوبها ، وفرع في الذكرى على الخلاف في النية وعدمها جواز الغسل في المكان المغصوب وبالماء المغصوب وعدمه. أقول : والوجه في ذلك انه على الأول يكون عبادة فلا يصح في المكان المغصوب ولا بالماء المغصوب كما صرحوا به في الوضوء والغسل من الجنابة ونحوهما ، وعلى الثاني يكون من قبيل ازالة النجاسات وهي غير مشترطة بشي‌ء من ذلك.

ثم ان الغاسل ان اتحد وجب عليه النية وان اشترك جماعة في غسله فان اجتمعوا في الصب اعتبرت النية من الجميع لاستناده الى الجميع فلا أولوية ، ولو كان بعضهم يصب والآخر يقلب وجبت على الصاب لانه الغاسل حقيقة واستحبت من المقلب. أقول : وهذا البحث بجميع ما ذكر فيه من الشقوق والأقسام مفروغ عنه عندنا لما أسلفنا لك تحقيقه في نية الوضوء ، وكلامهم هذا مبني على النية المشهورة بينهم التي هي عبارة عن التصوير الفكري والحديث النفسي الذي يترجمه قول القائل : افعل كذا لوجوبه أو ندبه قربة الى الله تعالى. وهذه ليست هي النية الحقيقية كما سلف تحقيقه.

(السابعة) ـ أكثر الروايات المتقدمة مطلقة في السدر الذي يضاف الى الماء ، وفي رواية عبد الله بن عبيد (١) سبع ورقات ، وكلام الأصحاب هنا مختلف ، فاعتبر فيه بعضهم مسماه والظاهر انه المشهور ، وبعض ما يصدق به الاسم بمعنى ما يصدق عليه انه

__________________

(١) ص ٤٤١.

٤٥٣

ماء سدر وماء كافور فلو كان السدر ورقا غير مطحون ولا ممروس لم يجز وكذا لو كان قليلا على وجه لا يصدق على ذلك الماء انه ماء سدر ، وعن المفيد تقديره برطل وابن البراج برطل ونصف ، واعتبر بعضهم سبع ورقات كما دل عليه الخبر المشار اليه. والظاهر من هذه الأقوال هو اعتبار ما يصدق به الاسم عملا بالأخبار الكثيرة المصرحة بماء السدر.

ثم انهم اختلفوا أيضا في انه لو خرج بذلك عن الإطلاق فهل يجوز التغسيل به أم لا؟ قولان اختار ثانيهما العلامة وغيره والظاهر انه هو المشهور ، والى الأول مال في المدارك قال : «وإطلاق الاخبار واتفاق الأصحاب على ترغية السدر كما نقله في الذكرى يقتضيان الجواز» وظاهره في الذكرى التوقف في المسألة حيث انه اقتصر على نقل الأقوال في المسألة ، فنقل عن الفاضل انه يشترط كون السدر والكافور لا يخرجان الماء إلى الإضافة لانه مطهر والمضاف غير مطهر. ثم نقل قولي المفيد وابن البراج ، وقال : اتفق الأصحاب على ترغيته وهما يوهمان الإضافة ويكون المطهر هو القراح والغرض بالأولين التنظيف وحفظ البدن من الهوام بالكافور لان رائحته تطردها. انتهى. ومن هذا الكلام الأخير يعلم الجواب عما احتجوا به على المنع من انه مطهر والمضاف غير مطهر. وبالجملة فالظاهر من الاخبار المتقدمة هو القول الأول ، واستند الشهيد الثاني ـ بعد اختياره للقول المشهور واستدلاله عليه بما تقدم في كلام العلامة ـ إلى قوله (عليه‌السلام) : في صحيحة سليمان بن خالد ومثلها في صحيحة عبد الله بن مسكان (١) : «بماء وسدر». فإنه ظاهر في اشتراط بقاء ماء السدر على الإطلاق. أقول : ومثل ذلك في عبارة كتاب الفقه الأولى (٢) إلا ان ظاهر كلامه في الثانية (٣) هو الغسل برغوة السدر ، وظاهر خبر يونس (٤) مما يؤيد القول الأول وكذا ظاهر رواية الكاهلي (٥). وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال لتصادم ظواهر الأدلة وتقابلها في ذلك. واما ما ذكره في المدارك

__________________

(١) ص ٤٤١.

(٢ و ٣) ص ٤٤٢.

(٤) ص ٤٣٩.

(٥) ص ٤٣٨.

٤٥٤

من الاحتجاج بإطلاق الاخبار على الجواز ففيه ان الاخبار مختلفة في تأدية هذا المعنى كما عرفت فان ما عبر به في بعضها من قوله : «ماء وسدر» ظاهر في الدلالة على القول بعدم الجواز كما استدل به جده (قدس‌سره) في الروض على ذلك ، وما عبر به من قوله : «ماء السدر» فهو محتمل للحمل على كل من القولين ، نعم ما ذكره من الاستناد الى الترغية جيد باعتبار دلالة رواية يونس وعبارة كتاب الفقه على انه يغسل بها الرأس ، وظاهرهما انه الغسل الواجب ولهذا ذكرا بعده غسل الجانب الأيمن من البدن. واما ما ذكره في الذكرى ـ من انه يكون المطهر هو القراح والغرض من الأولين التنظيف. إلخ ـ فهو غير صالح لتأسيس حكم شرعي لأنه مجرد ظن واستنباط لا دليل عليه ، ولم لا يجوز ان يكون لكل من الغسل بماء السدر وماء الكافور مدخل في التطهير؟ وكيف لا وقد اتفقوا على وجوب الترتيب بين الأعضاء الثلاثة فيهما كما في الأغسال الشرعية واتفقوا على طهارتهما من النجاسة لتحصيل التطهير بهما ونحو ذلك من شروط الأغسال الشرعية ، ولو كان الغرض منهما ما ذكره لم يتوقف ذلك على أمر آخر وراءه والحال بخلاف ذلك والمسألة لا تخلو من نوع توقف وان كان القول الأول لا يخلو من قرب. وظاهر جملة من الأصحاب التوقف في ذلك ايضا كشيخنا الشهيد في الذكرى والشيخ البهائي في الحبل المتين حيث اقتصروا على نقل كلام الأصحاب في المسألة. والله العالم.

(الثامنة) ـ ظاهر الأصحاب الاتفاق على وجوب التغسيل بالماء القراح فيما إذا عدم الخليطان وانما الخلاف في وجوب غسلة واحدة به أو ثلاث غسلات؟ قولان ، وبالأول جزم المحقق في المعتبر والسيد السند في المدارك وبالثاني ابن إدريس والعلامة في الإرشاد والشهيد الثاني في الروض ، وتوقف في المنتهى والمختلف وهو ظاهر الشهيد في الذكرى.

وعلل القول الأول ـ كما ذكره في المعتبر ـ بالأصل وبان المراد بالسدر الاستعانة على ازالة الدرن وبالكافور تطييب الميت وحفظه بخاصية الكافور من إسراع التغير

٤٥٥

وتعرض الهوام ومع عدمها فلا فائدة في تكرار الماء مع حصول النقاء. أقول : وفي التعليل الثاني ما عرفت آنفا من ان هذه العلة لا تخرج من ان تكون مستنبطة ، إذ لا دلالة في شي‌ء من الأخبار عليها ومع تسليم وجودها في الاخبار فاستلزامها لما ذكروه مردود بان علل الشرع انما هي من قبيل المعرفات لا انها علل حقيقية يدور المعلول مدارها وجودا وعدما ، ألا ترى انه قد ورد في تعليل وجوب العدة على النساء ان العلة في ذلك استبراء الرحم مع وجوبها على من لم يدخل بها زوجها في الوفاة وعلى من طلقها أو مات عنها في بلاد بعيدة بعد مدة مديدة ، ونحو ذلك ما ورد في علة غسل الجمعة من انه كانت الأنصار تعمل في نواضحها فإذا حضروا الجمعة تأذى الناس بروائحهم فأمر (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بغسل الجمعة لذلك (١) مع ثبوت استحبابه أو وجوبه على القول به مطلقا بل ورد تقديمه على يوم الجمعة وقضاؤه بعده ، وحينئذ فمع ورود هذه العلة التي ذكرها لا يجب اطرادها ودوران المعلول مدارها وجودا وعدما حتى انه مع فقد الخليطين يسقط الغسل عملا بالعلة المذكورة.

وعلل القول الثاني ـ كما ذكره في الذكرى ـ بإمكان الجزء فلا يسقط بفوات الآخر لأصالة عدم اشتراط أحدهما بصاحبه. وقال في المنتهى : «لو لم يوجد السدر والكافور وجب ان يغسل بالماء القراح ، وفي عدد غسله حينئذ إشكال ينشأ من سقوط الغسل بعدم ما يضاف إليه لأنه المأمور به ولم يوجد فيسقط الأمر ، ومن كون الواجب الغسل بماء الكافور أو السدر فهما واجبان في الحقيقة ولا يلزم من سقوط أحد الواجبين للعذر سقوط الآخر» وزاد في الروض الاستدلال على ما ذهب اليه من وجوب الثلاث بقوله (عليه‌السلام) (٢) : «الميسور لا يسقط بالمعسور». كما ورد في الخبر وقوله

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٢) رواه النراقي في العوائد ص ٨١ ومير فتاح في العناوين ص ١٤٦ عن عوالي اللئالي عن أمير المؤمنين «عليه‌السلام».

٤٥٦

(صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إذا أمرتكم بشي‌ء فاتوا منه ما استطعتم» (١).

وعلى هذا النحو كلماتهم في هذا المقام وهي مما لا تسمن ولا تغني من جوع كما لا يخفى على من له إلى الإنصاف ادنى رجوع ، والمسألة غير منصوصة ، وبناء الأحكام على هذه التعليلات العلية سيما مع تعارضها وتصادمها لا يخلو من المجازفة في أحكامه سبحانه ، إلا انه ربما لاح من بعض الأخبار سقوط الغسل بالكلية في هذه الصورة مثل موثقة عمار (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما تقول في قوم كانوا في سفر لهم يمشون على ساحل البحر فإذا هم برجل ميت عريان قد لفظه البحر وهم عراة ليس عليهم إلا إزار ، كيف يصلون عليه وهو عريان وليس معهم فضل ثوب يكفنونه به؟ فقال يحفر له ويوضع في لحده ويوضع اللبن على عورته لتستر عورته باللبن ثم يصلى عليه ويدفن.». ونحوه خبر محمد بن مسلم عن رجل من أهل الجزيرة (٣) قال : «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) قوم كسر بهم مركب في بحر فخرجوا يمشون على الشط فإذا هم برجل ميت عريان والقوم ليس عليهم إلا مناديل متزرين بها وليس عليهم فضل ثوب يوارون به الرجل كيف يصلون عليه وهو عريان؟ فقال : إذا لم يقدروا على ثوب يوارون به عورته فليحفروا له قبره ويضعوه في لحده يوارون عورته بلبن أو حجارة أو تراب ثم يصلون عليه ثم يوارونه في قبره. الحديث». والتقريب فيهما انه (عليه‌السلام) لم يتعرض لذكر الغسل في المقام بل أمر ان يحفر له ويوضع في حفرته ولم يتعرض لذكر غسله ، والظاهر انه لا وجه لسقوطه إلا فقد الخليطين فان ظاهر تلك الحال يشهد بتعذر وجوده وإلا فمجرد كونه عريانا لا يمنع من وجوب غسله وهم على ساحل البحر ، ويعضد ذلك ان التكليف الشرعي انما تعلق بهذه المياه الثلاثة على الترتيب المخصوص والكيفية المخصوصة في

__________________

(١) رواه مسلم في صحيحة ج ١ ص ٥١٣ والنسائي ج ٢ ص ١ وابن حزم في المحلى ج ١ ص ٦٤ رقم ١٠٠ بإسناد متصل الى ابى هريرة.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب صلاة الجنازة.

٤٥٧

الاخبار وإيجاب غيرها بأي نحو كان بعد تعذرها يتوقف على الدليل الشرعي والنص الواضح الجلي والركون الى هذه التعليلات العقلية ـ وان زعموها أدلة شرعية بل قدموها على الأدلة السمعية سيما مع تصادمها كما عرفت ـ لا يخلو من المجازفة في أحكامه التي قد دلت الآيات والروايات على النهي عن القول فيها بغير علم منه عزوجل أو من نوابه (عليهم‌السلام) وحملة كتابه (لا يقال) : ان الواجب مع تعذر الغسل التيمم وهذان الخبران خاليان من التعرض له أيضا (لأنا نقول) : غايتهما في ذلك ان يكونا مطلقين في هذا الحكم فيجب تقييدهما بما دل على الحكم المذكور من الأخبار كما سيأتي في المسألة بخلاف الغسل فإنه ليس هنا ما يوجب تقييد إطلاقها إذ لا رواية في المسألة كما عرفت ، وروايات الغسل المتكاثرة إنما وردت بالخليطين وهما غير موجودين كما هو المفروض في المسألة.

وبذلك يظهر لك الكلام فيما فرعوا على هذه المسألة من مس الميت بعد غسله كذلك وقد تقدم الكلام في ذلك في فصل غسل المس (١) وكذا فيما لو وجد الخليطان بعد الغسل كذلك فهل يجب اعادة الغسل أم لا؟ واستظهر في المدارك هنا عدم وجوب الإعادة ، قال : «لتحقق الامتثال المقتضي للإجزاء» أقول : لا يخفى ان هذه العبارة إنما يرمى بها في مقام وجود النص الشرعي ويكون المراد بالامتثال يعني امتثال أمر الشارع وهو الذي يقتضي الاجزاء لا في مثل هذا المقام المبني على هذه التخرصات والتخريجات العقلية. وأنت خبير بان للخصم ان يقول ان التكليف بالغسل بالخليطين ثابت بالنصوص التي لا ريب فيها ، سقط التكليف به فيما إذا تعذر حتى دفن الميت ، وما لم يدفن فالخطاب الى من تعلق به الخطاب أولا متوجه والتكليف باق وهذا الغسل الذي وقع لم يقم عليه نص ولا دليل يعتمد عليه حتى يمكن حصول الامتثال به ورفع تعلق الخطاب. وبالجملة فإن البناء إذا كان على غير أساس تطرق اليه الهدم والانطماس.

(التاسعة) ـ من المستحبات في هذا الغسل غسل اليدين الى نصف الذراع

__________________

(١) ص ٣٣٣.

٤٥٨

والفرجين في كل غسلة بمائها كما في رواية يونس (١) «ثم اغسل يديه ثلاث مرات كما يغتسل الإنسان من الجنابة الى نصف الذراع ثم اغسل فرجه ونقه». وفي رواية الكاهلي (٢) «ثم ابدأ بفرجه بماء السدر والحرض فاغسله ثلاث غسلات». ونحو ذلك في عبارة كتاب الفقه (٣).

وقد ذكر جمع من الأصحاب انه يستحب أمام الغسلة الاولى ان يغسل رأسه برغوة السدر ولم أقف له على مستند في الأخبار ، وغسل الرأس المذكور فيها برغوة السدر ـ كما تضمنه خبر يونس وعبارة كتاب الفقه أو بماء السدر كما في غيرهما ـ انما هو الغسل الواجب ولهذا ثنى (عليه‌السلام) في تلك الأخبار بعده بغسل الجانب الأيمن. ولم يتعرض في الذكرى لهذا الحكم ، وكذلك في المنتهى جعل غسل الرأس بالرغوة من اجزاء الغسل الواجب.

وظاهر حديث الكاهلي استحباب البدأة في غسل الرأس بالشق الأيمن ثم بالشق الأيسر وبه صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الشهيد في النفلية إلا انه جعل ذلك مما يستحب امام الغسل كما قدمنا ذكره وباقي الأخبار مطلقة في ذلك ، وحينئذ فيمكن حمل إطلاق الأخبار على هذه الرواية.

ومنها ـ استحباب التثليث في كل غسلة في غسل اليدين والفرجين كما سمعت من هذه الاخبار ، وكذا غسل الرأس والجانب الأيمن والجانب الأيسر كما صرح بذلك في عبارة كتاب الفقه الاولى ونحوها رواية الكاهلي وبذلك صرح الأصحاب أيضا ، قال في الذكرى : «يستحب تقديم غسل يديه وفرجيه مع كل غسلة كما في الخبر وفتوى الأصحاب ، وتثليث غسل أعضائه كلها من اليدين والفرجين والرأس والجنبين بالإجماع ، وحصرها الجعفي في كل غسلة خمس عشرة صبة لا تنقطع» أقول : ما نقله عن الجعفي من الخمس عشرة صبة قد صرح به (عليه‌السلام) في عبارة كتاب الفقه الاولى (٤) والوجه فيه

__________________

(١) ص ٤٣٩.

(٢) ص ٤٣٨.

(٣ و ٤) ص ٤٤٢.

٤٥٩

ان الأعضاء المغسولة وجوبا واستحبابا خمسة وبتثليث كل منها يصير المجموع خمسة عشرة صبة ، قال في الذكرى : «والصدوق ذكر ثلاث حميديات وكأنه إناء كبير ولهذا مثل ابن البراج الإناء الكبير بالإبريق الحميدي» انتهى أقول : ما ذكره الصدوق في هذا المقام مأخوذ من عبارة كتاب الفقه الثانية (١) وهو في العبارة الاولى من عبارتيه المتقدمتين عبر عن التثليث الذي يستحب في كل عضو من الأعضاء الخمسة بالغسل ثلاثا ثلاثا وفي العبارة الثانية عبر عنه بثلاث حميديات ، والظاهر من ذلك ان كل حميدية تقوم بغسلة من الغسلات الثلاث ، فيصير مرجع العبارتين إلى أمر واحد.

ومنها ـ ان لا يقطع الماء في كل غسلة من هذه الغسلات واجبة أو مستحبة حتى يتم غسل ذلك العضو ، وبذلك صرح الأصحاب أيضا كما تقدم في نقل الذكرى عن الجعفي ، ونقل فيها عن ابن الجنيد والشيخ انهما قالا بعدم الانقطاع ايضا حتى يستوفى العضو ، وقال في المنتهى : «يستحب لمن يصب الماء ان لا يقطعه بل يصب متواليا فإذا بلغ حقويه أكثر من الماء لان الاستظهار هناك أتم» وعلى هذا الحكم يدل كلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه كما تقدم في كل من العبارتين ولم أقف على هذا الحكم في الاخبار إلا في هذا الكتاب.

ومنها ـ اغتسال الغاسل قبل التغسيل ذكره بعض الأصحاب ، قال في البحار : «وقيل باستحباب الغسل لتغسيل الميت وتكفينه قبلهما وان لم يمسه» ولم أعثر على من تعرض لنقل هذا القول سواه وكفى به ، ويدل على هذا القول قوله (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (٢) «تتوضأ إذا أدخلت القبر الميت واغتسل إذا غسلته ولا تغتسل إذا حملته» وسيأتي ان شاء الله تعالى في باب الأغسال المستحبة ما يؤيد ذلك. ومنها ـ ان يجعل مع الكافور في الغسلة الثانية ذريرة كما تقدم في صحيحة عبد الله بن مسكان (٣) والذريرة ـ على ما ذكره الشيخ (رحمه‌الله) في التبيان ـ فتات

__________________

(١) ص ٤٤٢.

(٢) ص ٢٠.

(٣) ص ٤٤١.

٤٦٠