الحدائق الناضرة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

هذه الاخبار الأخيرة على الاستحباب كما هي قاعدتهم المطردة في جميع الأبواب. وأنت خبير بما هي عليه من الاختلاف والاضطراب ومنافاة بعضها بعضا ، ففي بعض التغسيل من وراء الثياب وفي آخر يغسل منها موضع الوضوء وفي ثالث يغسل كفيها وفي رابع الأمر بالتيمم وفي خامس يغسل منها ما أوجب الله تعالى عليه التيمم وفي سادس المنع من التغسيل من وراء الثوب الذي دل عليه بعضها والأمر بغسل الكفين خاصة وفي سابع يؤزرنه إلى الركبتين ويصببن عليه الماء صبا ، ومن الظاهر البين ان العمل بهذه الاخبار يتوقف أولا على الجمع بينها على وجه يندفع به التنافي ، وانى به سيما مع ما تدل عليه من جواز النظر والمباشرة الذين لا ريب في تحريمهما خصوصا الرواية الأخيرة الدالة على جواز مس النساء للرجل ما كان يحل لهن النظر اليه منه في حال حياته. وبالجملة فالإعراض عنها وردها إلى قائلها هو الأظهر والعمل على هذه المسألة على ما هو الأشهر. واما خبر أبي حمزة وخبر عبد الله بن سنان المذكور بعده فالظاهر حملهما على المحارم فلا يكونان من اخبار هذه المسألة ، ويدل على ذلك قوله في الثاني منهما : «ويستحب ان يلف على يديه خرقة» المشعر بجواز المس. والله العالم.

(المسألة السادسة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه مع تعذر المسلم والمحرم يجوز ان يغسل الكافر المسلم وهكذا المرأة المسلمة تغسلها الكافرة إذا لم تكن مسلمة ولا محرم ويكون ذلك بعد اغتسال الكافر والكافرة ، واستدلوا على ذلك بما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الموثق عن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (١) في حديث قد تقدم صدره وفيه قال : «قلت فان مات رجل مسلم وليس معه رجل مسلم ولا امرأة مسلمة من ذوي قرابته ومعه رجال نصارى ونساء مسلمات ليس بينه وبينهن قرابة؟ قال يغتسل النصارى ثم يغسلونه فقد اضطر. وعن المرأة المسلمة تموت وليس معها امرأة مسلمة ولا رجل مسلم من ذوي قرابتها ومعها نصرانية ورجال مسلمون ليس بينها وبينهم

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٩ من أبواب غسل الميت وقد تقدم صدره ص ٣٩٤.

٤٠١

قرابة؟ قال تغتسل النصرانية ثم تغسلها. الحديث». ورواية عمرو بن خالد عن زيد ابن علي المتقدمة في سابق هذه المسألة (١) أقول : ويدل عليه ايضا ما ذكر في الفقه الرضوي حيث قال (عليه‌السلام) (٢) : «وان مات ميت بين رجال نصارى ونسوة مسلمات غسله الرجال النصارى بعد ما يغتسلون ، وان كان الميت امرأة مسلمة بين رجال مسلمين ونسوة نصرانية اغتسلت نصرانية وغسلتها».

قال المحقق في المعتبر بعد نقل الخبرين الأولين : «وعندي في هذا توقف والأقرب دفنها من غير غسل لان غسل الميت يفتقر إلى النية والكافر لا تصح منه نية القربة ثم طعن في الحديث الأول بأن السند كله فطحية وهو مناف للأصل والحديث الثاني بأن رجاله زيدية وحديثهم مطرح بين الأصحاب. وفيه ما عرفت فيما تقدم في غير موضع من منافاة هذا الكلام لما قرره في صدر كتابه مما ملخصه ان ضعف الخبر لا يوجب الطعن مع عمل الأصحاب به واتفاقهم على القول بمضمونه ، والأمر هنا كذلك فإنه لم يظهر لهذا الحكم مخالف قبله وان تبعه فيه بعده من تبعه ، ومتى ثبت قبول الخبرين فلا وجه لما ذكره من الكلام في أمر النية فإنه متى دل الدليل على الجواز دل على صحة نية الكافر وصار الطعن بما ذكره اجتهادا في مقابلة النص.

قال شيخنا الشهيد (رحمه‌الله) في الذكرى بعد ذكر الحكم المذكور : «ولا اعلم مخالفا لهذا من الأصحاب سوى المحقق في المعتبر محتجا بتعذر النية من الكافر مع ضعف السند. وجوابه منع النية هنا أو الاكتفاء بنية الكافر كالعتق والضعف منجبر بالعمل ، فان الشيخين نصا عليه وابنا بابويه وابن الجنيد وسلار والصهر شتى وابن حمزة والمحقق في غير المعتبر وابن عمه نجيب الدين يحيى بن سعيد. نعم لم يذكره ابن ابي عقيل ولا الجعفي ولا ابن البراج في كتابيه ولا ابن زهرة ولا ابن إدريس ولا الشيخ

__________________

(١) ص ٣٩٩.

(٢) ص ١٨.

٤٠٢

في الخلاف ، وللتوقف فيه مجال لنجاسة الكافر في المشهور فكيف يفيد غيره الطهارة؟» انتهى وهو جيد.

أقول : لا يخفى ان الاخبار مختلفة في طهارة أهل الكتاب ونجاستهم وهذه الاخبار من جملة ما يدل على الطهارة ، فمن ترجح عنده القول بالطهارة فلا اشكال عنده في هذه المسألة من هذه الجهة ، ومن ترجح عنده القول بالنجاسة ـ كما هو الأظهر ـ فللتوقف في هذا الحكم عنده مجال وان كان ظاهر الكل ممن قال بالطهارة أو النجاسة قد حكموا بصحة هذا الحكم هنا ، وهو مشكل كما ذكره شيخنا المشار اليه.

فرع

قال في الذكرى : «لو وجد بعد الغسل الاضطراري فاعل الاختياري فلا اعادة في غير من غسله كافر للامتثال ، والأقرب الإعادة في الكافر لعدم الطهارة الحقيقية» انتهى أقول : هذه الأقربية انما تتم على القول بنجاسة أهل الكتاب كما أشرنا إليه آنفا واما على القول بطهارتهم فيصير الحكم فيه كسائر الافراد الاضطرارية من عدم وجوب الإعادة بل لا يبعد القول بتعين الإعادة على القول بالنجاسة ، وبالجملة فإن من حكم بالأخبار المذكورة وأوجب الغسل في الصورة المشار إليها من غير توقف عنده ولا اشكال فلا وجه للقول بالإعادة عنده ، لأن المأمور به في تلك الحال هو الغسل على هذه الكيفية وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء ، واما من توقف في العمل بالاخبار وحصل له الاشكال بما ذكرناه في هذا المجال فلا ريب في تحتم الإعادة عنده لعدم حصول يقين البراءة عنده بذلك الغسل ، وبه يظهر ما في كلام صاحب الذخيرة في هذا المقام حيث انه بعد ان ذكر المسألة وما ورد فيها من الخبرين المتقدمين ونقل عن المحقق استضعاف الخبرين وان الكافر لا تصح منه القربة اعترضه فقال : «وفيه منع ، ثم قال : والظاهر عدم العدول عن الخبرين لما أشرنا إليه آنفا من ان الظاهر جواز العمل بالأخبار الموثقة خصوصا مع

٤٠٣

اعتضادها بغيرها وبالشهرة بين الأصحاب وسلامتها من المعارض وتأيدها بالعمومات ، ثم قال : وهل تجب اعادة الغسل لو وجد من يجوز له تغسيله من المسلمين؟ فيه قولان أقربهما نعم لأن المأمور به لم يوجد للتعذر فإذا ارتفع العذر لم يكن هنا معدل عن وجوبه» وفيه ان مقتضى الكلام الأول صحة العمل بالخبرين المذكورين وقبولهما من غير اشكال لما ذكره من المؤيدات ومقتضى ذلك عدم وجوب الإعادة ، وقوله في الكلام الثاني : «لأن المأمور به لم يوجد» ان أراد المأمور به من ان يغسله مسلم فهو غير مسلم لأن المأمور به في الحال المذكورة انما هو غسل الكافر لتعذر المسلم فالمسلم غير مأمور به لتعذره وإلا للزم تكليف ما لا يطاق إذ الفرض تعذره فكيف يؤمر به والحال كذلك؟ ومتى ثبت ان المأمور به في تلك الحال انما هو الكافر للخبرين المذكورين المؤيدين عنده بما ذكر من وجوه التأييدات ثبت عدم الإعادة لأن امتثال الأمر يقتضي الاجزاء والإعادة تحتاج الى دليل وليس فليس ، وهذا بحمد الله سبحانه واضح لا شبهة فيه. والله العالم.

وفي المقام فوائد (الأولى) ـ هل يصح الغسل من المميز أم لا؟ قولان ، وتفصيل الكلام في المقام ان يقال ان غسل الميت ان كان انما هو لتطهيره من نجاسة الموت من غير ان تعتبر فيه النية ـ كما هو أحد القولين في المسألة ـ فلا كلام في وقوعه من المميز فإنه كغسل الثوب من النجاسة ، وان اعتبرنا فيه النية بناء على انه عبادة ـ كما هو المشهور والمؤيد المنصور ـ فاحتمالان : أحدهما صحة ذلك لان المميز يصح منه نية القربة ولأنه مأمور بالعبادة وهو يستلزم صحة نية القربة منه وإلا لامتنع الأمر له بذلك واختار ذلك العلامة في بعض كتبه والمحقق في المعتبر ، والثاني العدم لعدم وقوع النية منه على الوجه المعتبر شرعا لانه تمرين ، وبه قال الشهيد في الدروس ، وقال في الذكرى : «المميز صالح لتغسيل الميت لصحة طهارته وامره بالعبادة ، ويمكن المنع لان فعله تمرين والنية معتبرة» انتهى. وهو مؤذن بنوع توقف في ذلك. والظاهر عندي هو الأول للأخبار الكثيرة الواردة في جواز عتق ابن عشر سنين ووصيته وصدقته ونحو ذلك ،

٤٠٤

وسيأتي في المباحث الآتية ان شاء الله تعالى ما فيه مزيد تحقيق للمقام.

(الثانية) ـ منع صاحب الفاخر من تغسيل الجنب والحائض الميت ، فإن أراد التحريم فهو مردود برواية يونس بن يعقوب المتقدمة عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «لا تحضر الحائض الميت ولا الجنب عند التلقين ولا بأس ان يليا غسله». وبه صرح ابن بابويه ، وقد تقدم نقل ذلك ايضا عن الفقه الرضوي (٢).

(الثالثة) ـ إذا فقد الزوج والنساء في المرأة ووجد الأب والجد فالمشهور ان الأب أولى لكونه هو الاولى بالميراث ، ونقل عن ابن الجنيد ان الجد اولى لصلاحيته لولاية الأب ولتقديمه في النكاح. ورد بأنه معارض بالقرب وتقدمه في الحضانة. والله العالم

(المقام الثاني) ـ في المغسول وهو المسلم الغير الشهيد ويلحق به صدره منضما أو منفردا إجماعا نصا وفتوى ، وتفصيل هذه الجملة يقع في مسائل :

(الأولى) ـ المشهور بين المتأخرين ان كل مظهر للشهادتين وان لم يكن معتقدا للحق يجوز تغسيله عدا الخوارج والغلاة فيغسله غسل المخالفين ، ولو تعذر معرفته غسله غسل الإمامية. وقال المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة : «ولا يجوز لأحد من أهل الايمان ان يغسل مخالفا للحق في الولاية ولا يصلي عليه إلا ان تدعو ضرورة الى ذلك من جهة التقية» واستدل له الشيخ في التهذيب بان المخالف لأهل الحق كافر فيجب ان يكون حكمه حكم الكفار إلا ما خرج بدليل وإذا كان غسل الكافر لا يجوز فيجب ان يكون غسل المخالفين ايضا غير جائز ، ثم قال : والذي يدل على ان غسل الكافر لا يجوز إجماع الإمامية لأنه لا خلاف بينهم في ان ذلك محظور في الشريعة. أقول : وهذا القول عندي هو الحق الحقيق بالاتباع لاستفاضة الأخبار بكفر المخالفين وشركهم ونصبهم ونجاستهم كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب. وممن اختار هذا القول ابن البراج ايضا على ما نقل عنه ،

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٤٣ من أبواب الاحتضار.

(٢) الفقه ص ١٧.

٤٠٥

وهو لازم للمرتضى وابن إدريس لقولهما بكفر المخالف الا اني لم أقف على نقل مذهبهما في هذه المسألة ، لكن ابن إدريس صرح بذلك في السرائر في مسألة الصلاة بعد ان اختار مذهب المفيد في عدم جواز الصلاة على المخالف ، فقال ما هذا لفظه : «وهو أظهر ويعضده القرآن وهو قوله تعالى : «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ..(١) يعني الكفار ، والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا» وبذلك صرح جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ الفاضل المولى محمد صالح المازندراني في شرح أصول الكافي ، حيث قال : «ومن أنكرها يعني الولاية فهو كافر حيث أنكر أعظم ما جاء به الرسول وأصلا من أصوله» ومنهم ـ الفاضل المحقق المولى أبو الحسن الشريف المجاور بالمشهد الغروي على مشرفه أفضل الصلاة والسلام على ما وجدته في شرحه على الكفاية وهو من أفضل تلامذة شيخنا المجلسي ، حيث ان صاحب الكتاب المذكور ممن يحكم بإسلام المخالفين تبعا للمشهور بين المتأخرين حيث قال في مطاوي كلام له : «وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله ورسوله ومن كفر بالأئمة؟ مع ان كل ذلك من أصول الدين الى ان قال : ولعل أصل الشبهة عندهم زعمهم كون المخالف مسلما حقيقة ، وهو توهم فاسد مخالف للاخبار المتواترة ، والحق ما قاله علم الهدى من كونهم كفارا مخلدين في النار ، ثم نقل بعض الاخبار الدالة على ذلك ثم قال : ان الاخبار أكثر من ان تحصى وليس هذا موضع ذكرها وقد تعدت عن حد التواتر ، وعندي ان كفر هؤلاء من أوضح الواضحات في مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام)» انتهى كلامه. واما ما استدل به في الذكرى ـ ان محل الغسل المسلم من قول الصادق (عليه‌السلام): «اغسل كل الموتى إلا من قتل بين الصفين» (٢). ـ ففيه انه على عمومه غير معمول عليه لتصريحهم باستثناء بعض الموتى كما قدمنا نقله عنهم في صدر المسألة فكما استثنى من ذكروه بالأدلة الدالة على الكفر فكذا ما ندعيه للأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على كفر هؤلاء المذكورين ، وليس هذا موضع ذكرها ومن أحب الوقوف

__________________

(١) سورة التوبة. الآية ٨٥.

(٢) الوسائل الباب ١٤ من غسل الميت.

٤٠٦

عليها فليرجع الى كتابنا المذكور آنفا. وقال صاحب المدارك هنا بعد ان نقل كلام الشيخين المذكورين ما لفظه : «والمسألة قوية الاشكال وان كان الأظهر عدم وجوب تغسيل غير المؤمن» واقتفاه في الذخيرة أيضا فقال : «ولم اطلع على دليل يدل على وجوب الغسل لكل مسلم ولا إجماع ههنا والأصل يقتضي عدم وجوب تغسيل غير المؤمن» انتهى. ولا يخفى ما فيه بعد الإحاطة بما أسلفناه ، فإنه مع ثبوت الحكم بالإسلام فالواجب اجراء جميع أحكامه ولو بالأدلة العامة ان لم توجد الخاصة بذلك الجزئي ، والعمومات الدالة على غسل الميت موجودة ومع الحكم بإسلام المخالف فلا وجه للعدول عنها. وبالجملة فإن الأصحاب في هذه المسألة بين قائلين اما بالإسلام فيجب الغسل البتة أو بالكفر فلا يجب بل لا يجوز ، واحداث هذا القول في البين مما لا وجه له.

تنبيهات : (الأول) ـ لا خلاف نصا وفتوى في ان المتولد من المسلم في حكم المسلم طفلا كان أو مجنونا أو سقطا لأربعة أشهر فصاعدا ، وقد تقدم في المسألة الرابعة من المقام المتقدم (١) جملة من اخبار غسل الصبي والصبية. واما ما يدل على حكم السقط فجملة من من الاخبار ايضا ، ومنها ـ ما رواه في الكافي عن زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «السقط إذا تم له أربعة أشهر غسل». وعن سماعة في الموثق عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن السقط إذا استوت خلقته يجب عليه الغسل واللحد والكفن؟ فقال كل ذلك يجب عليه». ورواه الشيخ في الموثق ايضا مثله بأدنى تفاوت (٤) وما رواه الشيخ عن احمد بن محمد عمن ذكره (٥) قال : «إذا تم للسقط أربعة أشهر غسل. الحديث». وفي الفقه الرضوي (٦) «وإذا أسقطت المرأة وكان السقط تاما غسل وحنط وكفن ودفن ، وان لم يكن تاما فلا يغسل ويدفن بدمه ، وحد تمامه إذا اتى عليه أربعة أشهر». وبهذه العبارة عبر الصدوق في الفقيه ، وقال في المدارك بعد ذكر

__________________

(١) ص ٣٩٦.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ١٢ من غسل الميت.

(٦) ص ١٩.

٤٠٧

مرفوعة محمد بن احمد ثم موثقة سماعة ما لفظه : «ثم لا يخفى ان الحكم في الرواية الثانية وقع معلقا على استواء الخلقة لا على بلوغ الأربعة اللهم الا ان يدعى التلازم بين الأمرين وإثباته مشكل» انتهى. أقول : لا اشكال بحمد الملك المتعال بعد ورود ذلك في اخبار الآل (عليهم صلوات ذي الجلال) ، ومنها ـ ما رواه في الكافي (١) في الموثق عن الحسن ابن الجهم قال : «سمعت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) يقول : قال أبو جعفر (عليه‌السلام) ان النطفة تكون في الرحم أربعين يوما ثم تصير علقة أربعين يوما ثم تصير مضغة أربعين يوما فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله تعالى ملكين خلاقين فيقولان يا رب ما نخلق ذكرا أو أنثى؟ فيؤمران. الحديث». وعن محمد بن إسماعيل أو غيره (٢) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) جعلت فداك ندعو للحبلى ان يجعل الله تعالى ما في بطنها ذكرا سويا؟ قال تدعوا ما بينه وبين أربعة أشهر فإنه أربعين ليلة نطفة وأربعين ليلة علقة وأربعين ليلة مضغة فذلك تمام أربعة أشهر ثم يبعث الله تعالى ملكين خلاقين. الحديث». ونحو ذلك أيضا صحيحة زرارة (٣).

وهذه الاخبار ـ كما ترى ـ صريحة في انه بتمام الأربعة تمت خلقته ، وبذلك صرح (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي كما سمعت واماما رواه الشيخ عن محمد بن الفضيل (٤) قال : «كتبت الى ابي جعفر (عليه‌السلام) اسأله عن السقط كيف يصنع به؟ قال السقط يدفن بدمه في موضعه». فحملها الشيخ ومن تبعه على من نقص عن الأربعة ، وهو جيد بقي الكلام في انه بعد غسله هل يجب تكفينه أو يلف بخرقة ويدفن؟ قولان وبالأول صرح الشهيد في الذكرى وجمع من الأصحاب وبالثاني المحقق ، والظاهر الأول لما عرفت من دلالة موثقة سماعة على ذلك وكذا عبارة كتاب الفقه ، والظاهر ان المراد منه التكفين بالقطع الثلاث لانه المتبادر من اللفظ.

__________________

(١) ج ٢ ص ٨٥.

(٢) ج ٢ ص ٨٥.

(٣) ج ٢ ص ٨٥.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ١٢ من أبواب غسل الميت.

٤٠٨

ولو نقص السقط عن الأربعة سقط غسله ، وذكر الأصحاب انه يجب لفه في خرقة ولم أقف على مستنده. والمفهوم من عبارة كتاب الفقه هو انه يدفن بدمه من غير تعرض للفه ، وكذا رواية محمد بن الفضيل المتقدمة المحمولة على ما قبل الأربعة.

(الثاني) ـ قيل ويلحق بالمسلم أيضا في الحكم المذكور مسبيه ولقيط دار الإسلام أو دار الكفر وفيها مسلم صالح للاستيلاد بحيث يمكن الحاقه به والطفل المتخلق من الزنا ، واستشكل الشهيد الثاني في كون الطفل المسبي إذا كان السابي مسلما والطفل المتخلق من ماء الزاني بحكم المسلم فيجب تغسيلهما ، نظرا الى الشك في تبعية المسبي في جميع الأحكام وانما المعلوم تبعيته في الطهارة وعدم لحوق الثاني بالزاني شرعا ، والى إطلاق الحكم بالتبعية وكون الثاني ولدا لغة فيتبعه في الإسلام كما يحرم نكاحه. انتهى. وهو جيد

واما ابن الزنا البالغ المظهر للإسلام فلا خلاف في وجوب تغسيله كما ادعاه في المنتهى إلا من قتادة كما ذكره.

(الثالث) ـ المفهوم من عبائر كثير من الأصحاب في غسل المخالف هو الجواز على كراهية حيث انهم صرحوا بأنه يجوز غسله وصرحوا في المكروهات بأنه يكره ، والظاهر ان المراد من الجواز هنا هو معناه الأعم فيدخل فيه الواجب ، قال شيخنا صاحب رياض المسائل : «وفي وجوب تغسيل المخالف غير المحكوم بكفره كالناصب ونحوه خلاف والأكثر على الوجوب ، وما يظهر من عبارات كثير من الأصحاب من الحكم بالجواز فالمراد به الجواز بالمعنى الأعم الشامل للواجب ، وما في بعضها من الحكم بجوازه على كراهية ربما ظهر منه عدم الوجوب في بادي الرأي وليس كذلك بل الكراهة في متعلقة اي التعرض لتغسيله مع وجود الغير من المخالفين أو بمعنى نقص الثواب اي ان تغسيله ليس كتغسيله المؤمن في الأجر» انتهى. وقال في المدارك ـ بعد قول المصنف في تعداد المكروهات : وان يغسل مخالفا فان اضطر غسله غسل أهل الخلاف ـ ما لفظه : «المراد بالكراهة هنا معناها المتعارف في العبادات ان ثبت وجوب تغسيل

٤٠٩

المخالف وإلا كان تغسيله مكروها بالمعنى المصطلح أو محرما وقد تقدم الكلام فيه ، واما تغسيله غسل أهل الخلاف فربما كان مستنده ما اشتهر من قولهم (عليهم‌السلام) (١) : «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم». ولا بأس به انتهى.

أقول : لا يخفى ما في هذه الكلمات كملا من الاختلال والاضطراب والخروج عن جادة الحق والصواب ، وذلك انه متى ثبت بالأدلة المروية وجوب تغسيل المسلمين وان الخطاب متوجه إلى كافة المكلفين وان الغسل الشرعي الذي أمر به الشارع هو ان يكون على هذه الكيفية المشهورة بين الإمامية فالواجب على من توجه اليه الخطاب من المسلمين الموجودين ان يغسل هذا الميت المسلم بهذه الكيفية المنصوصة مخالفا كان أو مؤالفا فما ذكروه من هذه الكراهة ومن التعبير بالجواز ومن التخصيص بحال الاضطرار فكله مما لا يعرف له وجه وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ، فإنهم كما أوجبوا إجراء أحكام الإسلام على المخالف في حال الحياة من الحكم بطهارته ومناكحته وحقن ماله ودمه وموارثته ونحو ذلك فكذا بعد الموت ، واي دليل دل على الفرق بين الحالين حتى يتم ما ذكروه من هذه التخريجات؟ فان الجميع مرتب على الإسلام ، والقائلون بمنع تغسيله انما صاروا اليه من حيث حكمهم بالكفر وهو ظاهر ، واما مع الحكم بالإسلام فكما انه لا فرق بينه وبين المؤمن في حال الحياة في تلك الأحكام فكذلك بعد الممات إلا ان يدل دليل على الفرق وليس فليس ، وأيضا فإن الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل واي دليل على كراهة غسل المخالف مع الحكم بإسلامه؟ فإن كان لمجرد كونه مخالفا فلأي شي‌ء لم يثبتوا هذه الكراهة في الأحكام المترتبة على الحياة بل جعلوه مثل المؤمن مطلقا؟ على ان الكراهة في العبادات انما هو باعتبار وقوع العبادة على أنواع بعضها أكثر ثوابا وبعضها أقل ثوابا بالنسبة إلى أصل العبادة الخالية مما يوجب الراجحية أو المرجوحية كما تقدم تحقيقه ، وهذا

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ٢٩ من مقدمات الطلاق وشرائطه والباب ٤ من ميراث الاخوة والأجداد.

٤١٠

مما لا مجال له في هذا المقام ، لان غسل المسلمين كملا واجب وهذا أحدهم ولم يرد هنا ما يدل على أفضلية غسل نوع من أنواع المسلمين وأكثرية ثوابه واقلية آخر ، ولو أريد باعتبار نقصان قدر المخالف وانحطاط درجته وان كان مسلما جرى ذلك في الجاهل من المسلمين والمستضعفين بالنسبة إلى العالم الفاضل الورع مع انهم لم يصرحوا هنا بالكراهة ، وأيضا فإنه على تقدير عدم الوجوب كما ذهب إليه في المدارك فإنه لا معنى لهذه الكراهة التي ذكرها بالمعنى المصطلح لان محلها الأمور الراجحة الترك الجائزة والغسل عندهم من العبادات الشرعية كما صرحوا به ، وحينئذ فإن تم الدليل على وجوبه كان واجبا وان لم يثبت كان محرما ولا وجه للقول بالجواز فيه حتى يمكن إجراء الكراهة بالمعنى المصطلح فيه. واما كون غسل المخالفين مخالفا لغسل الإمامية فهو ايضا لا يسوغ لهم العدول عن الغسل الشرعي عندهم المأمورين به إذ الخطاب المتعلق بهم والوجوب الذي لزمهم باعترافهم انما هو بهذا الغسل المعمول عليه عندهم فالإتيان بغيره غير مبرئ للذمة ، واما ما ذكره المحقق من الضرورة فإنه لا معنى له على القول بالإسلام ووجوب تغسيلهم كما هو مذهبه ، بل الضرورة إنما تتجه على مذهب من قال بتحريم غسلهم كما تقدم في عبارة المفيد القائل بتحريم غسلهم لكفرهم ، فإنه قد تلجئه التقية من المخالفين الى مداخلتهم ومساعدتهم في مثل هذا وغيره فيغسله غسلهم ، واما من يوجب غسله كغيره من المؤمنين فإنه لا يجد بدا من القيام به لوجوبه عليه كفاية أو عينا ان انحصر الأمر فيه ولا يتوقف تغسيله له على الضرورة ، نعم ربما تكون الضرورة بالتقية ملجئة إلى الانتقال من غسله غسل أهل الحق إلى تغسيله غسل المخالفين ، فالضرورة ليست متعلقة بأصل الغسل وانما هي بالانتقال من أحد الفردين الى الآخر ، وبذلك يظهر ما في استدلاله في المدارك بالخبر المذكور على ذلك فإنه لا معنى له وانما المستند التقية. وبالجملة فإني لا اعرف لهذه الكلمات الملفقة في هذا المقام وجها يبتنى عليه الكلام وينتسق به النظام بل هو أظهر في البطلان من ان يحتاج بعد ما ذكرناه الى مزيد بيان والله العالم.

٤١١

(الرابع) ـ الظاهر انه لا خلاف في انه لا يجوز للمسلم تغسيل الكافر وان كان ذميا ولا تكفينه ولا دفنه ولو كان من قرابته أبا أو اما أو نحوهما ، ونقل في الذكرى الإجماع عليه واستدل بالآية وهي قوله سبحانه : ... وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ...» (١) قال وأولادهم يتبعونهم. أقول : ويدل على ذلك من الأخبار ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار ابن موسى عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) : «انه سئل عن النصراني يكون في السفر وهو مع المسلمين فيموت؟ قال لا يغسله مسلم ولا كرامة ولا يدفنه ولا يقوم على قبره وان كان أباه». ورواه الصدوق بإسناده عن عمار مثله ، ورواه الكليني مثله الى قوله : «ولا يقوم على قبره» (٣). ونقل المحقق في المعتبر عن شرح الرسالة للمرتضى انه روى فيه عن يحيى بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) النهي عن تغسيل المسلم قرابته الذمي والمشرك وان يكفنه ويصلي عليه ويلوذ به (٤). وروى احمد بن ابي طالب الطبرسي في الاحتجاج عن صالح بن كيسان (٥) : «ان معاوية قال للحسين (عليه‌السلام) هل بلغك ما صنعنا بحجر بن عدي وأصحابه شيعة أبيك؟ فقال (عليه‌السلام) وما صنعت بهم؟ قال قتلناهم وكفناهم وصلينا عليهم. فضحك الحسين (عليه‌السلام) فقال خصمك القوم يا معاوية لكنا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا غسلناهم ولا صلينا عليهم ولا دفناهم». وعن المرتضى في شرح الرسالة انه قال : «فان لم يك له من يواريه جاز مواراته لئلا ينتفخ» قال في الذكرى ـ بعد نقل ذلك عن المرتضى والاحتجاج بقوله تعالى : «... وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ...» (٦) وبتغسيل علي (عليه‌السلام) أباه وبجواز تغسيله حيا ـ يرد بأن ما بعد الموت من الآخرة لا من الدنيا ، ونمنع كون ذلك معروفا لانه لم يعلم التجهيز إلا من الشرع فيقف على دلالة الشرع ، وأبو علي (عليه‌السلام) قد قامت الأدلة القطعية على انه مات

__________________

(١) سورة المائدة. الآية ٥١.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ١٨ من أبواب غسل الميت.

(٦) سورة لقمان. الآية ١٤.

٤١٢

مسلما وهذا من جملتها ، والغسل حيا للتنظيف لا للتطهير بخلاف غسل الميت. انتهى. وهو جيد. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان الشهيد وهو الذي قتل بين يدي الإمام (عليه‌السلام) ومات في معركة الحرب ـ لا يغسل ولا يكفن وانما يصلى عليه ويدفن ، قال في المعتبر : انه إجماع أهل العلم خلا سعيد بن المسيب والحسن فإنهما أوجبا غسله لان الميت لا يموت حتى يجنب ، قال : ولا عبرة بكلامهما. وبنحو ذلك صرح العلامة في المنتهى.

والأصل في هذه المسألة عدة من الأخبار : منها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن ابان بن تغلب (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الذي يقتل في سبيل الله تعالى أيغسل ويكفن ويحنط؟ قال يدفن كما هو في ثيابه إلا ان يكون به رمق ثم مات فإنه يغسل ويكفن ويحنط ويصلى عليه ، ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى على حمزة وكفنه لانه كان قد جرد». ورواه في الفقيه بطريقه الى ابان مثله.

وعن زرارة وإسماعيل بن جابر في الصحيح عن الباقر (٢) قال : «قلت له كيف رأيت الشهيد يدفن بدمائه؟ قال نعم في ثيابه بدمائه ولا يحنط ولا يغسل ويدفن كما هو ، ثم قال دفن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عمه حمزة في ثيابه بدمائه التي أصيب فيها ورداه النبي بردائه فقصر عن رجليه فدعا له بإذخر فطرحه عليه وصلى عليه سبعين صلاة وكبر عليه سبعين تكبيرة».

وعن ابي مريم (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : الشهيد إذا كان به رمق غسل وكفن وحنط وصلي عليه وان لم يكن به رمق دفن في أثوابه». ورواه في الفقيه بسنده الى ابي مريم مثله. وعن ابان بن تغلب في الصحيح أو الحسن (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب غسل الميت.

٤١٣

السلام) يقول : الذي يقتل في سبيل الله تعالى يدفن في ثيابه ولا يغسل الا ان يدركه المسلمون وبه رمق ثم يموت بعد فإنه يغسل ويكفن ويحنط ، ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كفن حمزة في ثيابه ولم يغسله ولكنه صلى عليه».

وعن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه (عليهم‌السلام) (١) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ينزع عن الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراويل إلا ان يكون اصابه دم فإن أصابه دم ترك ولا يترك عليه شي‌ء معقود إلا حل».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابي خالد (٢) قال : «اغسل كل شي‌ء من الموتى الغريق وأكيل السبع وكل شي‌ء إلا ما قتل بين الصفين فان كان به رمق غسل وإلا فلا».

وعن عمرو بن خالد عن زيد عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) عن علي (عليه‌السلام) (٣) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إذا مات الشهيد من يومه أو من الغد فواروه في ثيابه وان بقي أياما حتى تتغير جراحته غسل».

وما رواه الشيخ في الموثق عن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) «ان عليا (عليه‌السلام) لم يغسل عمار بن ياسر ولا هاشم بن عتبة المرقال ودفنهما في ثيابهما ولم يصل عليهما». ورواه الصدوق مرسلا (٥) ثم قال : «هكذا روي لكن الأصل ان لا يترك أحد من الأمة إذا مات بغير صلاة».

وقال في الفقه الرضوي (٦) : «وان كان الميت قتيل المعركة في طاعة الله لم يغسل ودفن في ثيابه التي قتل فيها بدمائه ولا ينزع منه من ثيابه شي‌ء إلا انه لا يترك عليه شي‌ء معقود مثل الخف وتحل تكته ومثل المنطقة والفروة ، وان اصابه شي‌ء من دمه لم ينزع عنه شي‌ء إلا انه يحل المعقود ، ولم يغسل إلا ان يكون به رمق ثم يموت بعد ذلك فان

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب غسل الميت.

(٦) ص ١٨.

٤١٤

مات بعد ذلك غسل كما يغسل الميت وكفن كما يكفن الميت ولا يترك عليه شي‌ء من ثيابه ، وان كان قتل في معصية الله تعالى غسل كما يغسل الميت وضم رأسه الى عنقه ويغسل مع البدن كما وصفناه في باب الغسل فإذا فرغ من غسله جعل على عنقه قطنا وضم إليه الرأس وشده مع العنق شدا شديدا». انتهى.

أقول : والكلام في هذه الأخبار العلية المنار يقع في مواضع (الأول) ـ المفهوم من جملة من اخبار المسألة ان من قتل في معركة الجهاد السائغ ولو مع غيبة الإمام (عليه‌السلام) كما إذا دهم المسلمين عدو يخاف منه على بيضة الإسلام فهو شهيد يجب ان يعمل به ما تضمنته هذه الاخبار ، ونقل عن الشيخين (نور الله مرقديهما) تقييد ذلك بما إذا كان مع الإمام أو نائبه وتبعهما على ذلك أكثر الأصحاب. وأنت خبير بأن جملة هذه الأخبار خالية من هذا التقييد وانما المذكور فيها قتله في سبيل الله كما في صحيحتي ابان أو بين الصفين كما في رواية أبي خالد أو في المعركة كما في الفقه الرضوي ، وبما ذكرناه صرح المحقق في المعتبر حيث قال بعد اختياره ما اخترناه ونقل قول الشيخين وإيراد بعض أخبار المسألة ـ ما لفظه : «فاشتراط ما ذكره الشيخان زيادة لم تعلم من النص» وهو حسن وبنحو ذلك صرح الشهيدان ايضا ، ولا خلاف في انه لا يشمل غير هؤلاء ممن أطلقت الشهادة عليه.

(الثاني) ـ انه قد ذكر جملة من الأصحاب بأنه قد أطلقت الشهادة في الأخبار على المقتول دون اهله وماله وعلى المبطون والغريق وغيرهم والمراد به هنا ما هو أخص من ذلك. أقول : الظاهر ان هذا التنبيه هنا مما لا حاجة إليه لأن مورد هذه الأخبار القتيل في سبيل الله والقتيل بين الصفين وفي المعركة ونحو ذلك مما يختص بالفردين المتقدمين اعني ما ذكره الشيخان ومن تبعهما من المقتول في معركة الإمام أو نائبه وما ذكره في المعتبر من المجاهدين لمن دهم بلاد الإسلام ، والتعبير بالشهيد وان وقع في بعض الأخبار إلا ان قرينة سياق باقي الخبر ظاهرة في كونه في الحرب كالأمر بنزع تلك الأشياء عنه إلا ان يصيبها

٤١٥

الدم ونحو ذلك. نعم هذا التنبيه يصلح بالنسبة إلى عبائر الأصحاب حيث انهم انما يعبرون في هذه المسألة بالشهيد.

(الثالث) ـ المفهوم من كلام الأصحاب إناطة الفرق في الشهيد بين وجوب تغسيله وعدمه بالموت في المعركة وعدمه فان مات في المعركة فلا غسل وان مات خارج المعركة غسل كغيره ، والمفهوم من الروايات المذكورة اناطة الفرق بإدراكه وبه رمق وعدمه فإن أدرك وبه رمق غسل وإلا فلا وهو أعم من ان يكون في معركة الحرب أم خارجها ، وعلى هذا فلو أدرك في المعركة وبه رمق ثم مات بعد ذلك فمقتضى الاخبار انه يغسل لصدق إدراكه وبه رمق وعلى كلام الأصحاب لا يغسل لصدق موته في المعركة والجمع بين الأخبار وكلامهم (رضوان الله عليهم) لا يخلو من اشكال.

(الرابع) ـ اختلف الأصحاب فيما يدفن مع الشهيد المذكور من لباسه ، فقال الشيخ يدفن معه جميع ما عليه الا الخفين ، وقد روى انه إذا أصابهما الدم دفنا معه وقال في الخلاف يدفن بثيابه ولا ينزع منه إلا الجلود. وقال الشيخ المفيد يدفن بثيابه التي قتل فيها وينزع عنه من جملتها السراويل إلا ان يكون اصابه دم فلا ينزع عنه ويدفن معه وكذلك ينزع عنه الفرو والقلنسوة وان أصابهما دم دفنا معه وينزع عنه الخف على كل حال. وقال ابن بابويه في رسالته لا ينزع عنه شي‌ء من ثيابه إلا الخف والفرو والمنطقة والقلنسوة والعمامة والسراويل وان أصاب شيئا من ثيابه دم لم ينزع عنه شي‌ء. وقال ابن الجنيد ينزع عنه الجلود والحديد والفرو والمنسوج مع غيره ويخلع عنه السراويل إلا ان يكون فيه دم. وقال سلار لا ينزع عنه إلا سراويله وخفه وقلنسوته ما لم يصب شيئا منها دم فإن أصابها دم دفنت معه ولم تنزع. وقال ابن إدريس يدفن معه ما يطلق عليه اسم الثياب سواء أصابها دم أو لم يصبها ، فاما غير الثياب فان كان سلاحا لم يدفن وان اصابه الدم وان كان غيره وهو الفرو والقلنسوة والخف فإن أصاب شيئا من ذلك دمه فقد اختلف قول أصحابنا فيه فبعض ينزعه وان كان قد اصابه دمه وبعض لا ينزعه إلا ان

٤١٦

يكون ما اصابه دمه فاما ان كان اصابه دمه فلا ينزعه. قال وهذا الذي يقوى عندي. والمشهور بين المتأخرين هو دفنه بثيابه مطلقا أصابها الدم أو لم يصبها. واما الجلود ونحوها من السلاح فإنها تنزع أصابها الدم أو لم يصبها لعدم صدق الثياب عليها فلا تدخل في النصوص الدالة على انه يدفن بثيابه ويكون دفنها معه تضييعا. ودعوى إطلاق الثوب على الجلود ممنوعة بأن المعهود عرفا هو المنسوج فينصرف إليه الإطلاق. أقول : لا يخفى ان صحيحتي أبان (١) قد دلتا على انه يدفن بثيابه ونحوهما صحيحة زرارة وإسماعيل بن جابر (٢) ورواية أبي مريم (٣) وموثقة عمار (٤) وعبارة الفقه الرضوي (٥) وهي مطلقة في اصابة الدم وعدمه وشاملة للسراويل وغيرها ، واستثناء السراويل منها إلا إذا اصابه الدم ـ كما ذكره شيخنا المفيد والشيخ علي بن بابويه وسلار ـ لا اعرف عليه دليلا إلا رواية عمرو بن خالد الاولى (٦) وقد اشتملت ايضا على الجلود وانها تنزع إلا ان يكون أصابها الدم ، والمتأخرون حيث قصروا الحكم على الثياب ردوا هذه الرواية بضعف السند ولم يعملوا بها ، ومثلها في ذلك كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي ، والظاهر انه هو مستند الشيخ علي بن بابويه إلا ان عبارة كتاب الفقه خالية من استثناء السراويل ولعله سقط من نسخة الكتاب الذي عندي فإنها كثيرة الغلط لما عرفت وستعرف من ان رسالة الشيخ علي بن بابويه إنما أخذ جلها من الكتاب المذكور ، وبالجملة فالقول بمضمون الخبرين المذكورين في الجلود غير بعيد حيث لا معارض لهما ، واما بالنسبة إلى السراويل كما دلت عليه رواية عمرو بن خالد فالظاهر العمل في ذلك بالأخبار الكثيرة الدالة على الدفن بثيابه أصابها الدم أو لم يصبها الشامل ذلك للسراويل وغيرها ، بل ظاهر كلامه في كتاب الفقه الدفن في السراويل لقوله (عليه‌السلام) بعد ان صرح أولا انه لا يترك عليه شي‌ء معقود : «وتحل تكته» والتكة انما هي في السراويل فهو ظاهر في الدفن فيها بعد حل التكة.

(الخامس) ـ المشهور بين الأصحاب انه لا فرق في سقوط الغسل عن الشهيد

__________________

(١ و ٢ و ٣) ص ٤١٣.

(٤ و ٥ و ٦) ص ٤١٤.

٤١٧

بين كونه جنبا أو غيره لإطلاق الأخبار المتقدمة أو عمومها ، وعن ابن الجنيد انه يغسل ونسب هذا القول الى السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في شرح الرسالة محتجا بإخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بغسل الملائكة حنظلة بن الراهب لمكان خروجه جنبا. وأجيب عنه بان تكليف الملائكة بذلك لا يدل على تكليفنا. وربما استدل له ايضا بخبر العيص عن الصادق (عليه‌السلام) (١) : «في الجنب يموت يغسل من الجنابة ثم يغسل بعد غسل الميت». وأجيب عنه بأنه لا دلالة فيه على محل النزاع فلا يعارض به إطلاق الأخبار المتقدمة أو عمومها مع انه معارض بجملة من الأخبار الدالة على التداخل في الأغسال كما سيأتي ان شاء الله تعالى في محلها ، ومنها ـ صحيحة زرارة (٢) قال : «قلت له ميت مات وهو جنب كيف يغسل وما يجزيه من الماء؟ قال يغسل غسلا واحدا يجزي ذلك عنه لجنابته ولغسل الميت لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة». وسيأتي بيان القول في خبر العيص ان شاء الله تعالى في الموضع المشار اليه.

(السادس) ـ إطلاق الاخبار المتقدمة يقتضي عدم الفرق في الشهيد الذي لا يغسل ولا يكفن بين الصغير والكبير ولا الرجل والمرأة ولا الحر والعبد ولا المقتول بالحديد أو الخشب أو الصدم أو اللطم ولا بين من عاد سلاحه عليه فقتله وغيره ، كل ذلك عملا بالإطلاق المذكور ، قيل انه كان في قتلي بدر وأحد أطفال كحارثة بن النعمان وعمرو بن ابي وقاص وقتل في الطف مع الحسين (عليه‌السلام) ولده المرضع ولم ينقل في ذلك كله غسل ، وروى (٣) : «ان رجلا أصاب نفسه بالسيف فلفه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بثيابه ودمائه وصلى عليه فقالوا يا رسول الله أشهيد هو؟ قال نعم وانا له شهيد». وبالجملة كل موجود في المعركة ميتا وفيه اثر القتل ، وانما وقع الخلاف في من وجد كذلك خاليا من اثر القتل فحكم العلامة وجماعة ـ وقبلهم الشيخ وجمع ممن تبعه

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب غسل الميت.

(٣) رواه أبو داود في سننه ج ٣ ص ٢١ رقم ٢٥٣٩.

٤١٨

بل الظاهر انه هو المشهور ـ بكونه شهيدا ايضا عملا بالظاهر ولان القتل لا يستلزم ظهور الأثر ، وقيل ليس بشهيد للشك في الشرط وأصالة وجوب الغسل ، ونسب الى ابن الجنيد وظاهر الشهيدين في الذكرى والروض التوقف حيث اقتصرا على نقل الخلاف ، وهو جيد لعدم النص في المسألة إلا ان مذهب ابن الجنيد هو الأوفق بالقواعد الشرعية.

(السابع) ـ صرح جملة من الأصحاب بان عدم تكفين الشهيد كما ورد مشروط ببقاء ثيابه عليه كما تدل عليه الاخبار من قولهم : «يدفن بثيابه» وإلا فلو جرد وجب تكفينه واستدل على ذلك بصحيحة أبان بن تغلب الأولى (١) الدالة على ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كفن عمه حمزة لأنه كان قد جرد. وما ذكروه جيد إلا ان الرواية المذكورة لا تخلو من الإشكال لدلالة ما عداها من اخبار حمزة على انه دفن بثيابه كما في صحيحة زرارة وإسماعيل بن جابر (٢) وان تضمنت ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رداه بردائه ونحوها رواية أبي مريم ، ولعل وجه الجمع بين الجميع حمل صحيحة أبان على انه جرد من بعض أثوابه فجعل (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الرداء الذي تضمنه الحديث الآخر قائما مقام ما جرد منه وتممه بالإذخر كما في الخبر.

(الثامن) ـ ما تضمنه حديث عمار (٣) ـ من ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لم يصل على عمار ولا على هاشم المرقال ـ قد رده الأصحاب لمخالفته للإجماع من وجوب الصلاة على الشهيد والاخبار الدالة على ذلك وقد تقدم كلام الصدوق في ذلك ، وحمله الشيخ (رحمه‌الله) على وهم الراوي أولا ثم قال : ويجوز ان يكون الوجه فيه ان العامة تروي ذلك عن علي (عليه‌السلام) فخرج هذا موافقا لهم وجزم في موضع آخر بحمله على التقية (٤) وهو جيد.

وقد روى في قرب الاسناد عن أبي البختري وهب بن وهب

__________________

(١ و ٢) ص ٤١٣.

(٣) ص ٤١٤.

(٤) في المبسوط للسرخسى ج ٢ ص ٤٩ «إذا قتل الشهيد في المعركة لا يغسل ولا يصلى عليه عند الشافعي» وفي المغني ج ٢ ص ٥٢٨ «إذا مات في المعترك لا يغسل رواية

٤١٩

عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) «ان عليا (عليه‌السلام) لم يغسل عمار بن ياسر ولا عتبة يوم صفين ودفنهما في ثيابهما وصلى عليهما».

(التاسع) ـ ما تضمنه خبر عمرو بن خالد الثاني (٢) ـ من انه إذا مات الشهيد من يومه أو من الغد فواروه في ثيابه. إلخ ـ ظاهر المخالفة لجملة أخبار المسألة ولاتفاق الأصحاب من ان الدفن بثيابه من غير غسل انما هو لمن لم يدرك وبه رمق وإلا فلو أدرك وبه رمق وجب تغسيله كغيره وحمله الأصحاب على التقية لموافقته للعامة (٣) وهو جيد.

(العاشر) ـ ما تضمنه خبر عمرو بن خالد الأول (٤) وكذا كلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه (٥) ـ من الأمر بحل ما كان معقودا عليه من اللباس الذي عليه كالسراويل والخف على تقدير القول بدفنه فيه ونحوهما ـ مما لم يتعرض له الأصحاب في هذا المقام فيما اعلم ، ويجب العمل بذلك لدلالة الخبرين المذكورين من غير معارض في البين.

(الحادي عشر) ـ ما تضمنه كلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه من

__________________

واحدة وهو قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه خلافا إلا عن الحسن وسعيد بن المسيب واما الصلاة عليه فالصحيح لا يصلى عليه وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وعن أحمد رواية انه يصلى عليه اختارها الخلال وهو قول الثوري وابى حنيفة وفي هذه الرواية إشارة إلى أن الصلاة مستحبة لا واجبة».

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب غسل الميت.

(٢ و ٤ و ٥) ص ٤١٤.

(٣) في المغني ج ٢ ص ٥٣٢ «ان حمل وبه رمق اى حياة مستقرة فيغسل ويصلى عليه وان كان شهيدا فان سعد بن معاذ غسل وصلى عليه ، وقال مالك ان أكل أو شرب أو بقي يومين أو ثلاثة غسل وصلى عليه ، وقال احمد ان تكلم أو أكل أو شرب صلى عليه ، وقال إذا بقي المجروح في المعركة يوما الى الليل ومات يصلى عليه ، وقال أصحاب الشافعي ان مات حال الحرب لم يغسل ولم يصل عليه والا فلا» وفي المبسوط للسرخسى ج ٢ ص ٥١ «فان حمل من المعركة حيا ثم مات في بيته أو على أيدي الرجال غسل لانه صار مرتثا وقد ورد الأثر بغسل المرتث».

٤٢٠